بشير بين السلطان والعزيز، الجزء الأول (الجامعة اللبنانية، الطبعة الثانية)/الفصل الأول: لبنان
لفظ الجزار أنفاسه في ربيع السنة ١٨٠٤ فتنفًّس أهل «بر الشام» الصعداء حامدين المولى على انتهاء دوره وتبارى شعراؤهم في تأريخ هذا الفرج بعد الشدة، فقال شاعر القصر في لبنان آنندٍ:
حدوده: كان لبنان لا يزال ينعم بنظام داخلي خاص منذ الفتح العثماني، وقد قضى هذا النظام بتوحيد جميع الأراضي اللبنانية في شخص أمير لبناني ينتمي إلى أسرة لبنانية معينة دون سواها: المعنيين أولاً ثم الشهابيين. وشملت الأراضي اللبنانية أجزاء معينة من إیالات صيدا وطرابلس ودمشق دعيت معاملات. فمعاملة صيدا اللبنانية بدأت عند مصب نهر الأولي بالقرب من صيدا وانتهت عند جسر روماني قديم شمالي جونية دعي جسر المعاملتين لأنه كان الحد الفاصل بين معاملة صيدا وبين معاملة طرابلس. وشملت هذه المعاملة الثانية جميع ما وقع بين جسر المعاملتين وبين نهر البارد شمالي طرابلس. ودخل في لبنان أيضاً أكثر سهل البقاع وبعلبك وجميع المنحدرات الغربية من جبل الشيخ بما فيها حاصبيا وراشيا حتى أصبح الحد الفاصل بين لبنان وبين حكومة دمشق مقلب المياه في أعلى جبل الشيخ2.
حكومته: وكان الأمير الحاكم يجبي الضرائب ويوردها في حينها ويؤمن العبـاد ويقضي بينهم. وكان لأعيان البلاد انتقاء الأسرة الحاكمة كما جرى عند انقراض المعنيين سنة ١٦٩٧3 وحق التشاور معها فيما يعود لمصلحة الكل. ومثال ذلك ما جرى في السنة ١٧٨٨ بين الأمير الحاكم الأمير يوسف الشهابي وبين أعيان البلاد. قال الشيخ طنوس الشدياق: «وفيها ركدت همة الأمير وأظهر له الأكابر الجفاء وكان بنو جنبلاط ينفرون الناس منه ويشيعون عنه أخبار الوهن. فاستصوب التنازل عن الولاية وجمع أكابر البلاد وذكر لهم عجزه عن القيام بحق الولاية وما بينه وبين الجرار من المشاحنة وأطلق لهم أن يختاروا لهم والياً آخر غيره من الأمراء الشهابيين اللبنانيين فاختاروا الأمير بشيراً ابن الأمير قاسم عمر. وكان الجزار يميل إليه ويرغب أن يجعله والياً وله معه الدسايس والرسائل. وكان بين الأمير بشير والفئة الجنبلاطية مخالفة وعهود. فأحضره الأمير يوسف وأشار إليه بأن يتوجه إلى الجزار ويتوشح بخلعة الولاية على البلاد».4
وكان بشير هذا أشقر اللون معتدل القامة طويل اللحية نحيفاً أقنى الأنف طويل أشهـل العينين. وكان بشهادة خصم له عاقلاً عادلاً حليماً شجاعاً فاضلاً كريماً شهماً يقظاً فطناً صادقاً رزيناً خزوماً جباراً فاتكاً صبوراً غيوراً5. وقد حكم لبنان من دير القمر أولاً ثم بنى لنفسه قصراً على هضبة تطل عليها في بتدين. وكانت داره هذه كثيرة النفقات. حيث ينفق كل يوم على ألف وخمسماية رأس خيل شعيراً وعلى بيته غرارة ونصفاً حنطة وثلاث قفات أرزاً وقنطاراً لحماً. وعنده بين خدم وخاصة نحو ألفي رجل6. وكان عند الملمات أقوى حكام بر الشام قاطبة ينزل إلى ساحة الوغى ما لا يقل عن عشرة آلاف رجل كما صرح بذلك هو نفسه إلى العزيز في مصر7. وكان هؤلاء الفرسان أشجع فرسان بر الشام وأقدرهم رماية بالرصاص وضرباً بالسيف. وكانت أسلحتهم النارية متنوعة منها الفرد والجفت وهو ذو طلقين والغدارة وهي صغيرة تعلق على الجنب ومثلها الطبنجة والفرد. أما القربينة فإنها كانت بندقية متينة واسعة الفوهة تحشى بالرصاص، ومنها الزربطانات والشرخانات وبنادق الخزنة وهي أشبه بالمدافع الصغيرة توضع على مرفع عند إطلاقها. وكان لدى الأمير نفسه بندقية خاصة أهداها إليه عبدالله باشا بعد حصار دمشق اعترافاً بفضله. وهذا ورثها عن سلفه سلميان باشا وقـد أرسلها إليه هدية نابوليون الأول سنة ١٨٠٥ «طاقها ذهب وحديدها أنعم من القطيفة وطوله ذراعان ونصف الذراع »8. وأشهر سيوف اللبنانيين آنئذٍ سيف الصاعقة للأمير بشير نفسه. وكان مرصعاً بالجواهر وغمده من الذهب الأبريز مرصع بالجواهر أيضاً وقد اهدته قرينته بعد وفاته للمغفور له إسماعيل باشا الخديوي. وسيوف رجاله قصيرة عريضة قليلة الانحناء تساندها الخناجر والسكاكين والشاكريات والفؤوس والبلطات والكلنكات9.
وكان لبنان لا يزال منظماً تنظيماً إقطاعياً. للأمير الحاكم أن يولي من من الإقطاع ويعزل من شاء ولكنه لا يخرج في ذلك عن أفراد الأسرة المولجة بالإقطاع. ورجال الإقطاع هؤلاء أمراء ومقدمون وشيوخ. أما الأمراء فهم الشهابيون والأرسلانيون واللمعيون الدروز10 والحرافشة وهم من الشيعة. والمقدمون هم من آل مزهر وهم دروز أيضاً. والشيوخ دروز ونصارى وشيعيون منهم بنو جنبلاط وبنو تلحوق وبنو الخازن وبنو حبيش وبنو عازار وبنو حمادة، وكان لرجال الإقطاع امتيازات تجب مراعاتها فلا يقتل أحدهم ولا يجبس ولا يضرب، وإذا أذنب يكون قصاصه غالباً بمصادرة أملاكه أو بنفيه من البلاد وإذا دخل المذنب منهم على الحاكم يقابله على عادته في التحية والسلام ولا يهينه وإذا كتب إليه كتاب الغضب لم يغير شيئاً من ألقابه وكراماته ولكنه يترك عبارات الولاء ويثبت ختمه في أعلى الصحيفة وعلى وجهها. أما كتاب الرضى فيكون ختمه على ظهر الصحيفة11. وكان الإقطاعيون يتصرفون في مقاطعاتهم بتنفيذ أوامرهم ويحبون الأموال المفروضة على الأعناق والأرزاق فيرسلون منها إلى الحاكم ما فرضه عليهم أو ما تعاهدوا عليه والباقي يكون لهم لنفقاتهم الإدارية والحربية. وإذا رفع أحد الرعايا دعوى فإلى الإقطاعي وإذا لم ينصف ترفع الدعوى إلى الحاكم الأعلى فيفاوض الإقطاعيَّ لفصلها بما يريد. فإذا لم تقض يسوغ أن ترفع إليه الشكوى أكثر من مرة فيرسل مباشراً من قبله يفصلها بالتي هي أحسن ولا يكون للإقطاعي عتب عليه. وإذا حدث خصام بين الإقطاعيين وبين الأهلين يفاوضهم الحاكم كتابة ثم يرسل من خاصته من يصلح ذات الحال تكون نفقاته ونفقات جواده على المدعى عليه ولا ينصرف إلا بأمر مولاه. والإقطاعيون يسمح لهم أن يحكموا بالسجن والضرب ولكن العقاب على الكبائر لا يؤذن به إلا للحاكم الأعلى. وجميع أنسباء الحاكم يكونون تحت حكمه وإدارته مباشرة. ويقع تحت حكمه المباشر أيضاً سكان دير القمر وعماطور وعين دارة ونيحا وبتلون12.
وقضى الخضوع للسلطان بتقبل أحكام نواب الشرع في طرابلس وبيروت وصيـدا. ولكن سلطة هؤلاء الفعلية قلما تناولت أبناء لبنان. فالأمير كان ينفذ قرارات شيخي العقل في بتدين وعماطور في الأحوال الشخصية الدرزية13 وفيما يعرض عليها من الدعاوى الحقوقية. وكان لبطاركة النصارى ما لهذين من الصلاحيات القضائية. وكان الأمير أيضاً يجري أحكام قاضٍ درزي آخر يعينه هو ويجلس للقضاء في الدعاوي الحقوقية في دير القمر14 وينفـذ أحكام قاضٍ خاص ينظر في الدعاوي العقارية هو الشيخ أحمد تقي الدين يعاونه اختصاصي في فن البناء «مدير الأشغال» لدى الأمير المعلم رستم مجاعص الشويري15. أما الدعاوى الجزائية فإنها كانت من اختصاص الأمير الحاكم ورجال الإقطاع كما مر بنا. وكان الموارنة منذ القدم يعتبرون بطاركتهم وأساقفتهم قضاة زمنيين يرجعون إليهم في أكثر دعاويهم الحقوقية والجزائية علاوة عن الأحوال الشخصية. وكان لدى هؤلاء الرؤساء الروحيين قوانين مدنية بحتة مقتبسة من الشرائع الرومانية والشريعة الإسلامية يقضون بموجبها. من ذلك كتاب الهدى للمطران داود وكتاب الناموس وغيرهما16. ولذا فإننا نرى الأمير بشيراً يكلف المطران جبرائيل الناصري الماروني أن يعني بساع دعاوى الموارنة وأن يفصل فيها بالعـدل والإنصاف. ويظهر من ملفات القضاء في المحفوظات اللبنانية - المتحف الوطني اللبناني - أن هذا المطران كان قاضياً دواراً يقصد قرى الموارنة تباعاً فيسمع الدعاوى التي ترفع إليه ويحكم بها.
وأحب الأمير الكبير أن يعدَّ قضاة أكفاء يعتز القضاء بهم فانتقى بعد التداول مع البطريرك يوسف حبيش شابين لبنانيين من خيرة شباب ذلك العصر هما الشيخ بشارة أنطون الخوري والخوري يوحنا الحبيب وأرسلهما إلى بيروت لدرس الشرع على الشيخ أحمد الأغر والشيخ يونس البزري سنة ١٨٣٧. وفي السنة التالية دفع بهما إلى طرابلس للغاية نفسها. ولدى عودتها منها في أواخر السنة ١٨٣٩ أبقى الشيخ بشارة قاضياً لديه في بتدين وأقام الخوري يوحنا الحبيب قاضياً في جونية.
أحزابه السياسية: ولم يقم اللبنانيون للطائفية وزناً في تحزباتهم السياسية. قال الشيخ طنوس الشدياق صاحب کتاب أخبار الأعيان: «وسنة ١٧٨٨ توفي الشيخ عبد السلام العماد وكان عاقلاً فصيحاً جداً حتى ضرب المثل بفصاحته وصارت مناظرة بينه وبين الشيخ علي جنبلاط أدت إلى المشاحنة فانقسمت طائفة الدروز إلى قسمين جنبلاطي ويزبكي. غير أن المشايخ النكديين لم يدخلوا في هذا الانقسام. وعم هذا الانقسام الأمراء الشهابيين واللمعيين والنصارى اللبنانيين. وصار اسم يزبكي علماً جنسياً لبني عمـاد وبني تلحوق وبني عبد الملك ومن والاهم. وكان زعيم اليزبكية بنو عماد وزعيم الجنبلاطية بنو جنبلاط»17. نقول لقد عم هذا الانقسام الحربي جميع اللبنانيين في عهد بشير الثاني على باختلاف طوائفهم وشمل السنة في هضاب صيدا والشيعة في كسروان وبلاد جبيل. ولم يخرج عنه سوى بني نكد الذين آثروا أن يلعبوا دور «بيضة القبان» بلغة ذلك العصر، ولم يزل ذلك في عهدنا بين الدروز. وما زال بين النصارى حتى أوائل القرن العشرين. وحدث مثل من قبل بين الشقراويين وبين الصمديين في قرية عماطور وما جاورها من الشوف. كما جرى بعده في عهد القائمقاميتين في المتن بين الأمير بشير عساف وبين الأمير بشير أحمد الأمين وعمّ النصارى والدروز أيضاً ولكنه مات بموتها18. ولطالما دعت الحال في ذلك العهـد وبعده إلى انقلاب بعضهم من حزب إلى آخر لأغراض في النفس تشفياً من خصوم معينين أو إلى انشقاق أسرة بين الحزبين كما فعل الأرسلانيون والتلاحقة وغيرهما من الأسر القوية. ولم يهدف المتحزبون إلى برنامج معين يطالبون به ويحاولون تحقيقه. ولكنهم قصدوا التضامن في السراء والضراء وتوخوا من جراء انضمامهم مساعدات مادية ومعنوية ضمن الحكومة وخارجها وفي جميع أوقات الضيق. وجرى مثل هذا بين أسر معينة وبقطع النظر عن الطائفة التي انتموا إليها. فأسرة البستاني المارونية في دير القمر تآخت مع أسرة حمادة الدرزية في بعقلين وأسرة عبد الصمد الدرزية في عماطور وكذلك بنو نعمه النصارى وبنو أبي شقرا الدروز. وكثيراً ما قطع هذا التآخي حدود المقاطعات فضم أسرتين في مقاطعتين مختلفتين كما جرى بين أسرة بني حسن الدرزية في بعذران الشوف وبين أسرة بني مجاعص النصرانية في الشوير في المتن. ومما يروى من هذا القبيل أنه عندما غرم الأمير بشير الثاني الشقراويين الدروز في عماطور بمبلغ كبير من المال وتعذر عليهم جمعه بكامله هب «أبناء عمهم» بنو نعمه النصارى في دير القمر لدفع الباقي.
سياسته الداخلية: وكان الزعماء اللبنانيون على ما بهم من حذق ومقدرة وإخلاص للوطن لا يفترون منشقين بعضهم على بعض. فالشهابيون منهم كانوا يطمعون بالحكم كل بدوره فيدسون الدسائس على من هو في الحكم منهم ويؤلبون رجال الإقطاع عليه فيقابلهم هو بالمثل وتعم الفتنة البلاد بأسرها. وإن هم أخلدوا للسكينة أثارهم أحد الولاة من حولهم وابتز منهم المال المستعجل والوعد بغيره. ولم ينج بشير الثاني من شيء من هذا. فإنه ما كاد يستلم أزمة الحكم في البلاد حتى اضطر أن يقاتل الأمير يوسف فترة من الزمن ثم الأميرين حيدراً وقعدان الشهابيين ثم أبناء الأمير يوسف فالأمراء سلمان وسید أحمد وفارس فعباس الشهابيين. وطال أمد هذه المزاحمة ولم تنته قبل السنة الخامسة والثلاثين من حكم بشير! وأدت إلى تنازله عن الحكم أحياناً ودخوله سجن عكة مرة واحدة وفراره إلى حوران مرة أخرى والتجائه إلى مصر.
وأدرك الأمير أن الأمراء والأشياخ يشتغلون كل لمصلحته ولو أدى تحقيقها إلى خراب عام وأن مصلحته ومصلحة لبنان تقضيان بتحطيم الرؤوس الكبيرة وبتوطيد السلطة المركزية وبالتالي بربط الشعب اللبناني بشخص حاكمه مباشرة. وكان سلفه ونسيبه الأمير يوسف قد شعر بشيء من هذا وبدأ بتحطيم النكديين فرأى بشير أن يبدأ أيضاً. فاتفق مع الجنبلاطيين والعماديين على ذلك واستدعى إليه أولاد الشيخ كليب النكدي إلى دير القمر سنة ١٧٩٧. ولما دخلوا مجلسه خرج من القاعة وأغلق الباب فأسرع الشيخ بشير جنبلاط والمشايخ العمادية ودخلوا القاعة وجعلوا يخرجونهم واحداً واحداً ويقتلونهم ضرباً بالسيف وكانوا خمسة. ثم أرسل الأمير أعواناً إلى عبيه يقبضون على أولاد الشيخ بشير النكدي ففروا واختبأوا فأرسل أعواناً أحضروهم إليه ووضعهم في السجن وبعد قليل دخل إليهم المشايخ العادية وقتلوهم وكانوا أربعة. وأما الصغار من النكديين فهربوا مع الشيخ سلمان إلى دمشق فضبط الأمير أملاك الجميع وأبقى له جزءاً وأعطى الباقي للقاتلين. ولما علم الجزار بذلك استدعى الصغار إليه وكانوا ستة عشر ذكراً وعين لهم نفقة وأبقاهم عنده19. ومنذ السنة ۱۷۹۹ بدأ الأمير بمناوأة العماديين متكلاً في ذلك على معونة الجنبلاطيين وما فتئ حتى أفقرهم وأبعدهم عن البلاد إلى وادي التيم وحوران وعكة ومصر. قال الشدياق: «وسنة ١٨٠٨ سار الشيخ فارس العماد إلى مصر لضيق معاشه وتبعه الشيخ علي وتقربا إلى والي مصر» وقال أيضاً: «وسنة ١٨١٩ غضب الأمير بشير الشهابي على اليزبكية فأرسل لهم أعواناً يثقلون عليهم بالعلايف والعلايق ففروا من البلاد وتبعهم النكدية وأخيراً قدم إليهم الشيخ علي من مصر»20.
وبعد أن أضعف الأمير العماديين عاد إلى الجنبلاطيين فاتهم كبيرهم الشيخ بشير جنبلاط بإنه أشار على الأمير حسن الشهابي أن يقتل عمه الأمير حيدراً ويتظاهر بالإسلامية فيتولى عوض الأمير بشير الشهابي نفسه. ولما اعتقل الأمير حسن وأرسل إلى عكة فالأستانة سنة ۱۸۱۸ خشي الشيخ بشير العاقبة وشرع يحتاط للأمر فتظاهر بالإسلام وبنى جامعاً له في المختارة حتى إذا قضت الظروف بوفوده على الأمير قدم إليه برجال كثيرين. فبدأ الأمير بإضعافه مالياً وطلب منه سنة ١٨٢٢ سبع مئة وخمسين ألف غرش إسعافاً. فاعتذر الشيخ بشير. ولما لم يقبل الأمير اعتذاره أدّاها وجلاً. ثم رحل الشيخ من المختارة إلى جباع متظاهراً بأنه يريد الصيد وأرسل رسلاً إلى الأمير يستعطفه برجوعه كما كان. فأجابه الأمير إلى سؤله وطلب منه ألف ألف غرش، فارتضى الشيخ بدفع نصفها. وبعد دفعه هذا النصف طلب الأمير الباقي. فالتمس الشيخ تركه فلم يجب إلى ذلك. فقام الشيخ إلى جباع ثانية وأقام فيها ثلاثة أشهر ولما يئس قام إلى البقاع فراشيا واجتمع إليه فيها بعض عناصر المعارضة من الوجوه اللمعيين والأرسلانيين والشهابيين وقر قرارهم أن يطلبوا تولية الأمير عباس أسعد الشهابي. فتوسل الشيخ بذلك إلى عبدالله باشا والي صيدا ولكنه لم يفلح. وعندئذ توسل إليه أن يأمر برجوعه ومن معه إلى بلادهم آمنين. فأجابه الباشا إلى ذلك. ولدى عودة الشيخ إلى مقره في المختارة سنة ١٨٢٣ أرسل إلى الأمير في بتدين يستأذنه بالحضور ويطلب منه صفاء الخاطر عليه. فأجابه إلى ذلك. فحضر الشيخ بنحو ألفي رجل أبقاهم خارج بتدين ودخل إلى القصر بشرذمة منهم. فأمر الأمير أعوانه ومماليكه وعبيده أن يصطفوا له في صحن الدار. فمرّ الشيخ بينهم وجلاً خايفاً من الغدر به. ثم دخل على الأمير مسترحماً طالباً العفو. فطيب الأمير قلبه وخلع عليه. ثم استأذن الشيخ وعاد إلى المختاره فبلغه أن الأمير تكدّر من كثرة الرجال الذين اصحبهم معه إلى بتدين. فحضر مرة ثانية بنفر قليل. فطيب الأمير قلبه ووعده بالعود كما كان. ثم كتب إعلاماً برجوع أصحاب الشيخ إلى أوطانهم وإلا فيقعون تحت الغضب. فانفضوا عنه. ولما فارقته أحلافه خاف ونهض إلى البقاع ليلاً بمايتي نفر ومعه الأمراء الأرسلانيون ثم انطلق إلى حوران ونزل عند العرب الفحلية والمسلوط. فضبط الأمير أرزاقه. وبعد ذلك بقليل عاد الشيخ بشير إلى إقليم البلان فبعلبك وعكار. وأرسل يسترضي العماديين فارتضوا واتفقوا مع الجنبلاطيين على إرجاع الشيخ إلى المختارة. وحزَّبوا معهم جماعة من الأمراء الشهابيين واللمعيين، وكتبوا إلى الشيخ بشير يستدعونه فنهض من عكار إلى كسروان فالمتن فالشوف ومعه عدد كبير من الرجال من الحزبين الجنبلاطي واليزبكي. ووصل إلى المختارة في أوائل السنة ١٨٢٤. ثم هجم برجاله على بعقلين فبتدين واقتتل مع عسكر الأمير ثلاثاً أهمها موقعة السمقانية21. ولما لم يفز بطايل انهزم بمن معه إلى اقليم البلان. ولدى وصوله إلى قرية مجدل شمس افترق الشهابيون عنه إلى حمص أما هو وأعوانه الجنبلاطيون واليزبكيون فإنهم ذهبوا إلى حوران. فأدركهم عسكر دمشق وأخذ قائده يخادعهم بأن يسلموا لوالي دمشق فانخدعوا. ولدى وصولهم إلى دمشق أمر واليها بتقطيع الشيخ علي العماد بالسيوف وطرح الباقين في السجن. وعندئذ طلبهم والي صيدا عبدالله باشا من والي دمشق فأرسلهم هذا إلى عكة وأمر وزيرها بحبسهم، ثم رأى أن يهدد بشيراً فأخرج الشيخ بشيراً من الحبس وأرسل له حـلة وطيب قلبه. فبلغ الأمير بشيراً ذاك. فكتب إلى العزيز يخبره بواقع الأمر، فكتب العزيز إلى عبدالله باشا أن يقتل الشيخ بشيراً ففعل ثم قتل الشيخ أمين العماد أيضاً. وتوفي ولدا الشيخ بشير قاسم وسليم في الحبس في عكة. وهكذا تشتت الجنبلاطيون وضبط الأمير جميع محاصيلهم22.
ورأى الأمير الشهابي الكبير أن يوجد من يمثل السلطة المركزية في بعض الجهات النائية من البلاد ليشعر الأهلون بها ولكي يراقب هو عن كثب سلوك رجال الإقطاع ويحد من سلطتهم. فجعل من ابن أخيه الأمير عبدالله حسن نائباً عنه في كسروان. فكان هذا ينقل أوامر الأمير إلى رجال الإقطاع ويسهر على تنفيذها ويساعد في حل المشاكل ويسهل جباية الضرائب. ولا يزال الكثير من أوامره إلى رجال الإقطاع في كسروان وبلاد جبيل محفوظاً في المتحف الوطني اللبناني في بيروت. وفعل الأمير بشير مثل هذا في بلاد جبيل فعين ابنه قاسم أميراً عليها وجعل ابنه خليلاً أميراً على البقاع. فهبّ شاعر القصر يهنئهما بقصيـدة متوسطة سنة ١٨١٠. ومما قاله فيها عن الأمير الأب وولديه ما يلي:
أما الأمير أمين فإنه بقي إلى جانب والده يعاونه في الحكم ويحل محله عند الاقتضاء ويقوم ببعض المهمات الخارجية.
وكان السفر شاقاً والطرق غير أمينة. وكانت الخفارة تفرض في بعض المواقف في خان الحصين والمديرج في الطرق الجبلية وفي خان الناعمة وجونية وجبيل في الطرق الساحلية. فأبطلها الأمير الكبير سنة ١٨١٢ وأذن أن تسير القوافل والتمار على جميع الطرق بالأمان والسلامة دون أن يغرموا بشيء. فكان ذلك رحمة عظيمة للناس24. وكثيراً ما كان الذهاب إلى دمشق من الأمور الشديدة الخطر حتى شاعت بين اللبنانيين أغنية كانت تردد في الأعراس مطلعها:
ولم يكن السفر في البحر شائعاً بين اللبنانيين أنئذٍ فكانوا يخشون هوله ويقولون عمن سافر إلى مصر أنه سيكابد أثقال السير في برين وأهوال السفر في بحرين.
فاهتم الأمير لهذا الأمر وعزم على تأمين البلاد فضرب بيد من حديد كل من أخـل بالأمن. وكان عظيم الهيبة وقوراً شديد البأس لا يستطيع الناظر إليه أن يتفرس فيه طويلاً. فاستتب الأمن في البلاد وروى الناس ولا يزالون أحاديث غريبة بهذا المعنى منها أن امراة كانت سائرة في وادي القرن والليل حالك فالتقى بها أحدهم وسألها عن مسيرها في ذلك الظلام الدامس فقالت «إن أبا سعدى سائر معي». وهو أحد ألقاب الأمير، ومنها ما تغنى به شاعر القصر آنئذٍ:
وأصبح لبنان في حد قول هذا الشاعر «حمى يوقي كل ملتجٍ» في طول بر الشام وعرضه ففي السنة ١٨٠٤ التجا إلى لبنان زعماء الإنكشارية في حلب لخلاف وقع بينهم وبين واليها إبراهيم باشا قطر آغاسي26. فأكرمهم الأمير وسعى للتوفيق بينهم وبين الوالي. وفي السنة ١٨١٢ وفد على الأمير الشيخ حسين أفندي المرادي مفتي دمشق. وكان قد وقع بينه وبين زميل له ابن المحاسنه نفور وبغضاء. وكان عدوه هذا له «قول عنـد سليمان باشا» فخشي حسين أفندي غدره وخرج من دمشق والتجأ إلى الأمير في بتدين، فأكرمه الشهابي الكبير وأبقاء عنده مدة من الزمن ثمّ وفق بينه وبين خصمه وأعاده إلى دمشق27. وفعل مثل هذا مراراً مصطفى آغا بربر متسلم طرابلس. ففي السنة ١٨٢٤ عندما أمر الباب العالي بإعدامه وضبط موجوداته وأرزاقه التجأ إلى الشهابي الكبير فأسكنه الشويفات ثم أرسله إلى مصر وأصحبه بالتوصيات اللازمة فأكرمه العزيز وأقامه في دمياط. وفي السنة ١٨٣٣ غضب عليه إبراهيم باشا فجاء إلى بتدين ملتمساً من الأمير أن يستعطف خاطر الباشا عليه ففعل فأعطاه الباشا الأمان وأعاده إلى طرابلس28. وقل الأمر نفسه عن علي بك الأسعد العكاري والأمير جواد الحرفوش البعلبكي وغيرهما مما لا مجال لذكره هنا.
وأرضى الأمير رجال الدين على اختلاف مللهم ونحلهم فعاونوه في بسط نفوذه وسلطانه فجبى لشيخي المقل الدرزيين مالاً خاصاً قدمه لها وجمعه من جميع رعاياه الدروز والنصارى على السواء29. وجعل كلمة البطريرك الماروني نافذة في غالب الأحيان وعاون رهبـان هذه الطائفة في تحويل بعض الأديرة إلى مدارس فبذل بسخاء في هذا السبيل واستحق شكرهم وولاءهم30. ومن ذاك مار يوحنا مارون في كفرحي (١٨١٢) ومار أنطونيوس بعبـدا (۱۸۱٥) ومار جرجس الرومية (۱۸۱۸) ومار يوحنا مارون صربا (۱۸۲۸) ومار عبدا هرهريا (۱۸۳۱) ومار سركيس ريفون (۱۸۳۲)31. ومـا كاد يسمع في السنة ١٨١٣ باغتيال البطريرك أغابيوس صروف حتى بث العيون والأرصاد فقبضوا على الجناة وأتوا إلى دير القمر. وإذ قدموهم لدى الشهابي الكبير أمر بشنقهم عن ذنبهم فشنقوا حالاً32. ولدى وفود البطريرك مكسيموس مظلوم عليه بعد انتخابه سنة ١٨٣٣ أجلّ الأمير وفادته وقال له «كثيراً ما سرني ارتقاء غبطتكم إلى المقام البطريركي. ويحق لطائفتكم ما يحق لي أن افتخر ببلادي لأنها حائزة على رجل جليل الصفات عالم علامة عالي الهمة غيور نظير غبطتكم». ثم أصدر الأمير أمراً بإعفاء قرية عبرة ملك مدرسة عين تراز من أداء ما يترتب عليها من الأموال للحكومة33. وأدى هذا كله بطبيعة الحال إلى امتنان رومة فكتب له البابا بيوس السابع في العاشر من شهر شباط سنة ١٨١٧ يشكر له عطفه على الموارنة وسماحه لهم «بالاعتراف بحقايق الإيمان الكاثوليكي» دون أي مانع. وبعد ذلك بثمانية عشر عاماً كتب له البابا غريغوريوس السادس عشر يشكر له حمايته التقليدية للإيمان الكاثوليكي ويمدح تقبله لهذا الإيمان لأول مرة فيما يظهر ويهدي إليه صليباً وأيقونة34. ولقد بر رجال الدين الكاثوليكي الأمير فأحسنوا الطاعة إليه ورفقوا به في أيام محنته وتحروا محابه كما سنرى في حينه.
وأحب الأمير العمران فرمم الجسور وأنشأ بعضها وجلب مياه نبع الصفا إلى بتدين وعطف على العلم والأدب، فتقبل مبدأ التلقيح للوقاية من الجدري وشجع الناس عليه وأرسل بضة من الشبان اللبنانيين إلى مصر ليدرسوا الطب الحديث في مدرسة القصر العيني منهم إبراهيم النجار ويوسف الجلخ وأوفد الشيخ بشارة الخوري والخوري حنا حبيب إلى طرابلس ليتفقها على أشياخها. وجمع الشعراء والأدباء في ديوانه وعقد لهم المجلس ونظم أبياتاً واقترح عليهم تخميسها أو تشطيرها أو إجازتها، من ذلك صدر مطلع له:
في سفح بيت الدين قد دفق الصفا35.
وقال المعلم نقولا الترك: «وكان سعادته في كل ليلة من ليالي الشتاء يجمع ندماه ويساهرهم في لعب الورق الذي هو بين غالب ومغلوب من دون وضع دراهم يؤول مالها إلى الربح والخسران بل هو إقهار الغالب للمغلوب. وكان سعادته في حين تغلبه على مغلوبه يقترح على المؤلف نظم بعض أبيات وكان له عبداً يفعل»36. ومما قاله الترك في هذه المقامة الكانونية: «قال الحازم فهزني الغرام وهيجني الهيام إن ألج مولج الغلمان حيث انتظام الديوان. فلبثت هنيهة ريثما أمرت بالعبور بعد التماس الدستور، فعندما ولجت ذلك المحضر المنور رأيت صدراً تصدر بطاعة تحميل البدر إذا أبدر قد أشرقت أنواره في ذلك المقام على الخاص والعام وهو رابض كلأسد الضرغام، ورأيت الخدم وقوفاً والندما صفوفاً ولديهم وريقات يلقبونها فتغلب بعضاً وتخوّل مغلوبها انتعاشاً وقبضاً والأمض على المغلوب وأنكى إذا قهقة الغالب ضحكاً»37. ومن هنا في الأرجح رغبة الأمير أمين في الشعر وتعلمه نظم القوافي.
سياسته الخارجية: وحّد اللبنانيون كلمتهم آنئذٍ بوجوب الاحتفاظ بنظامهم الخاص والمحافظة على حياتهم فهب أميرهم يسعى لتحقيق رغباتهم. وانتهز فرصة وجود الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا في بر الشام سنة ١٧٩٩ ففاوضه في ربط لبنان بالآستانة مباشرة ومنع تدخل حكام الإيالات في شؤونه. وكان الصدر بحاجة لرضى العناصر المحلية ولا سيما لبنان ليدفع الضرر الذي لحق بالسلطنة من جراء الحملة الفرنسية على مصر «فالتقاه بكل إكرام وحبه حباً عظيماً لأجل صورته وجسارته وأوعده بكل ما طلبه»38 ووجه إليه فرماناً بذلك فقال: «وبمنه تعالى بعد توريدكم إلى الخزينة العامرة المطلوب منكم تصل إليكم الفرمانات العلية والأوامر السنية المفصحة والمعلنة في تفويض البلاد إليكم وتقرير الأقلام والأماكن المرقومة عليكم حسب ما صدر الوعد منا بذلك ورفع ساير التكليف الشاقة عنكم من وزرا عظام وغيرهم ما عدا دفع قلم الميري المربوط في المقاطعات المذكورة والقلمية من قديم الزمان فمتى أديت أموال الميرة والقلمية وبدل الالتزامات كل شيء إلى محله والأماكن المذكورة تكون تحت يدك ونظارتك. فبناء على ذلك قد صدرنا إليكم مرسومنا هذا الشريف المنح»39. تسلم الشهابي الكبير هذا الفرمان وبات ينتظر تنفيذه ولكن دون جدوی.
وكان في الوقت نفسه يتجنب الاصطدام بحكام الإيالات المجاورة ويبتعد عنهم ما أمكنه. وقد أدى به هذا إلى الملاينة والمصانعة والمداهنة في بعض الأحيان. مثال ذلك موقفه من التطاحن الذي وقع بين والي حلب وبين رؤساء عساكر الجزار بعد وفاته. فالشهابي أرسل المتقادم لمرشح رؤساء العساكر إسماعيل باشا وتقبل خلعة الولاية منه وكتب في الوقت نفسه إلى متسلم دمشق أنه سيطيع من توليه الدولة ولكنه لن يخضع لإسماعيل لأنه خرج على الدولة. واستقبل مرشح الدولة إبراهيم باشا والي حلب وتقبل خلعة الولاية منه وأرسل معه من يمثله في حصار عكة على رأس مئة فارس. ولكنه على الرغم من هذا عرف كيف يحافظ على هيبته وعند أي حد يقف. فإنه عندما علم بقدوم والي حلب عن طريق حاصبيا فصيدا نزل من دير القمر إلى صيدا على رأس ستة آلاف مقاتل وقابل الباشا واعتذر عن مواكبته قائلاً أنه بعد ما جرى بينه وبين الجزار أقسم أنه لن يواجه وزراء وأنه سيسئل في الحرب القائمة بمئة فارس. ثم عاد إلى دير القمر40. ولم يعتور الشهابي في مواقفه هذه شيء من الجبن أو التخاذل، فإنه عندما كانت الضرورة تقضي بتدخله تدخلاً فعلياً كان يدفع برجاله إلى ساحات الوغى فيرجح الكفة وينال ما يطلب كما سنرى عند الكلام عن سانور والمزة. وكان نديمه وشاعره المعلم نقولا الترك على صلة وثيقة بمصر. فإنه زارهـا سنة ١٧٩٩ ومكث فيها مدة ثم عاد إلى لبنان. وما أن دخلها نابوليون بعساكره حتى عهد الشهابي إلى نديمه أن يعود إليها للمراقبة ففعل وجعل مقره في القاهرة أولاً ثم في دمياط. وكان يدون كل ما يتصل به من أخبار الجيوش وحركاتها وعددها وعُددها ويرسل خلاصة ذلك إلى الأمير41. وقبل أن يعود «المعلم» إلى لبنان ثانية أسس في مصر علاقات طيبة في أوساط «الشوام» وأكثرهم تجار وكتاب دواوين فبقي على معرفة في شؤون القطر الشقيق وعلى بصيرة في قدر إمكانياته الحربية والاقتصادية والسياسية. وكان يميل إلى محمد علي الكبير ويقدره حق قدره42. ومن هنا في الأرجح ميل الأمير الشهابي للعزيز واستعداده للجوء إليه والاعتماد عليه. وبعد أن وطد العزيز حكمه وأظهر بأسه ورجولته وأصلح ما أصلح أصبح التفاهم بين الرجلين محتماً. ولعل بعض الفضل في هذا يعود إلى فرنسة صديقة الاثنين معاً وإلى الفاتيكان الذي رأى من الاثنين في معاملة النصارى في الشرق ما لم يره من غيرهما من قبل.
والغريب المستغرب ألا يكونا قد اتصلا ببعضها قبل السنـة ١٨٢٢ فليس بين أوراقها المختلفة أي أثر لاتصال مباشر أو غير مباشر قبل هذا التاريخ. وليس في ما نشر من تقارير قناصل الدول ما يدل على ذلك. وقل الأمر نفسه عن النصوص التاريخية التي تعود إلى ذلك العهد. وفي السنة ١٨٢١ وقعت الواقعة بين درويش باشا والي دمشق وبين عبدالله باشا والي صيدا لأسباب نعود إليها فيما بعد. ووقف الشهابي الكبير إلى جانب عبد الله باشا فأيد أخصامه في لبنان درويش باشا. واشتد الخصام فاضطر الشهابي الكبير أن يلتجئ إلى والي مصر محمد علي الكبير وكتب له بذلك، ولدى ورود الجواب بالقبول في صيف السنة ١٨٢٢ أحضر الأمير مركباً إفرنسياً كان راسياً في ميناء بيروت إلى الدامور ونزل إليه مع أتباعه وولديه خليل وأمين، وبعد خمسة أيام وصل الأمير وحاشيته إلى دمياط فبولاق وأقام فيها. واستقبله في بولاق المعلم حنا بحري باسم كتخدا بك. وعند الغروب عاد إليه وسار أمامه إلى قصر الخزندار في الروضة حيث اجتمع بكتخدا بك ثلاث ساعات وشرح له ما وقع في بر الشام فطمأنه وطيب قلبه. وفي اليوم التالي زار الأمير إبراهيم باشا ابن العزيز فأكرمه وجبر خاطره. ثم جاء المعلم حنا وأفهمه أن العزيز أمر بقيامه إلى بني سويف فذهب إليها وأقام في الفشن. وبقي فيها سبعين يوماً. ثم عاد إلى بني سويف نفسها فخصه إبراهيم باشا بزيارة دامت ساعتين. وبعد ذلك كتب إليه كتخدا بك يخبره بقرب مجيء العزيز إلى القاهرة ويطلب إليه أن يعود إليها لمقابلته. ففعل وقابل العزيز في قصره في شبرا واختلى به ساعتين. وقص عليه ما جرى له مما أدى به إلى الالتجاء إليه. ومما قاله أنه كسر درویش باشا وأنه لو أراد لملك دمشق بيوم واحد وأنه كان بإمكانه أن يقاتل عساكر الوزيرين مصطفى باشا ودرويش باشا معاً وأن ينتصر عليها ولكنه أبى ذلك امتثالاً لأوامر الدولة. فسُرَّ العزيز به وقال له: هكذا تكون أصحاب المروة. ثم أضاف: إني ما طلبت من الحق طلبة إلا واستجاب دعائي وقد طلبت أن أراك فسبحانه تعالى ما حرمني ذلك ثم قال: إن مصلحتي تمت وإن شاء الله قريباً تتم مصلحتك وأصر عليه أن يراه كل يوم. ثم قبّل الأمير الأتك وعاد إلى مقره في أثر النبي. وفي اليوم التالي زاره العزيز في أثر النبي وتناول الطعام عنده. ويوم الجمعة دخل الأمير على العزيز في ديوانه في القلعة وحوله أعيان مصر. فأكرمه العزيز وقال لقاضي القاهرة: هل عرفت هذا الرجل؟ فطلب العفو وألقى السلام. فقال العزيز: هذا كبير عشائر جبل لبنان وهو يحكم على مئة ألف مقاتل. وكان بإمكانه أن يحارب الوزيرين اللذين يحاصران عكة ولكنه أبى أن يخالف أوامر الدولة، وبقي الأمير يتردد على العزيز طوال إقامته في القاهرة كل يوم مرة، وما زال في القاهرة حتى عفا الباب العالي عن عبدالله باشا وأبقاه في منصبه كما كان. ولدى وصول العفو استدعى العزيز الأمير وقال له: لقد صرت عندي بمعزة إبني إبراهيم وإني لم أقم بهذه المراجعات إلا لأجلك أنت فقط ثم أمره أن يكون على أهبة السفر وأن ينقل السفر إلى عكة بنفسه وأن يتعاون وعبدالله باشا لإرضاء الباب العالي بدفع المال المتوجب على هذا الأخير ففعل كما سنرى43.
ومنذ ذلك الحين بقي الشهابي الكبير على صلة وثيقة مع العزيز يتفهم سياسته ويسعى ما أمكنه لمعاونته. ففي أواخر تشرين الأول من السنة ١٨٢٣ نرى الأمير منهمكاً في استخراج الفحم الحجري من قرنايل لبنان وفي إنزاله إلى ميناء جونية لتصديره إلى مصر سداً لحاجات العزيز44. وفي أواسط آذار من السنة التالية ١٨٢٤ نرى العزيز يخبر عبدالله باشا بأنه كان قد وجه سؤالاً إلى الأمير بشير قبل خروجه من مصر وعودته إلى بر الشام يستوضع فيه عدد الجنود الذين يتمكن الأمير من جمعهم وإرسالهم إذا اقتضى الأمر وإن الأمير أجابه بأنه عند اقتضاء الحال يقدم عشرة آلاف رجل بقيادة ابنه الأكبر - يقول هذا ثم يطلب إلى الباشا أن يتصل بالأمير ويطلب إليه أن يبر بوعوده بمناسبة ظهور قضية المورة. وكتب العزيز بمثل هذا إلى الأمير نفسه45. وفي أواخر السنة نفسها وأوائل ما بعدها ١٨٢٤ - ۱۸۲٥ نرى العزيز يعنى بمصلحة الشهابي الكبير في بر الشام فيطلع على تقارير مخبريه ويستمع لأقوال الأمير أمين ابن الأمير بشير ثم يكتب إلى عبدالله باشا برجوب مساعدة الأمير الكبير للقضاء على الخصامه في لبنان ولا سيما الشيخ بشير جنبلاط إلى أن يقول في أواخر كانون الثاني من السنة ١٨٢٠ بإنه أمر بتجهيز ستة آلاف من الفرسان والمشاة بإمرة طوسون يكن بك لمساعدة الأمير الشهابي الكبير على خصمه46. وفي السادس عشر من آب من السنة نفسها كتب الأمير إلى العزيز يشكر له عطفه على الأمير أمين ويقول «وقرر لنا عبدكم ولدنا ما صدر به أمر سعادتكم ولقد تلقيناه بالإطاعة والامتثال. وكلما تصدر به أوامر دولتكم فهذا العبد واقف لها على قدم الانقياد لأنني عاهدت نفسي على دوام امتثال أوامر عطوفتكم الكريمة، وقيدت ذاتي بالإطاعة والانقياد لما به إرادة عنايتكم الوسيمة»47. وهكذا فيكون الكبيران في مصر وفي لبنان قد تفاهما تفاهماً سياسياً عسكرياً منذ السنة ١٨٢٣ وهو ما أحس به إلى حد ما المسيو هودر الفرنسي الذي أم القاهرة ليعقد تفاهماً بين وزارة بولنياك وبين العزيز للسيطرة على الجزائر. ولكنه رأى أن هذا الحلف لم يربط لبنان بقدر ما ربطته فرنسة وذلك للفارق الديني الذي كان يفرق بين الدروز وأميرهم والنصارى من جهة وبين محمد علي من جهة أخرى، هذا على الرغم من أن الأمير الدرزي بشيراً كان في نظره لا يزال نصف مسيحي48.
- ↑ نسب الأمير أحمد الشهابي المؤرخ (لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، طبعة رستم والبستاني بيروت ١٩٣٦، ج ٢ ص ٤١٠) هذه الأبيات إلى المعلم نقولا الترك، شاعر الأمير بشير الكبير. على أنها وردت في إحدى نسخ ديوان الترك منسوبة للشاعر إلياس إدّه. (راجع ديوان المعلّم نقولا الترك، طبعة فؤاد افرام البستاني، بيروت، ۱۹۷۹، ص ۱۷۲).
- ↑ أخبار الأعيان للشيخ طنوس الشدياق ص ۱۹ – ۳۳، والمحفوظات اللبنانية في المتحف اللبناني.
- ↑ لبنان في عهد الأمراء الشهابيين ج ۱ ص ۳-٥.
- ↑ أخبار الأعيان للشدياق ص ٤١٩ -٤٢٠.
- ↑ أخبار الأعيان أيضاً ص ٦٤.
- ↑ مذكرات رستم باز (طبعة فؤاد افرام البستاني، في منشورات الجامعة اللبنانية، ١٩٥٥).
- ↑ محمد علي باشا إلى عبدالله باشا (۱۸۳٤): المحفوظات الملكية المصرية ج ۱ ص ٥۹.
- ↑ تاريخ سليمان باشا لإبراهيم العوره ص ٦٩-٧٠.
- ↑ دواني القطوف لعيسى المعلوف ص ۲٥۹-۲٦۰
- ↑ راجع، في شأن تنصر بعض هؤلاء الأمراء، مجلة «المشرق» ۱۸؛ ٥٤٣؛ ٢٨؛ ٤٣١؛ ٤٩٦
- ↑ دواني القطوف لعيسى المعلوف ص ٢٤٨
- ↑ في المحفوظات اللبنانية في المتحف الوطني ما يؤيد كل هذا، راجع أيضاً دواني القطوف لعيسى المعلوف ص ٢٤٨.
- ↑ الشيخ حسن تقي الدين في بعقلين والشيخ حسين عبد الصمد في عماطور.
- ↑ الشيخ شرف الدين القاضي والشيخ محمد القاضي.
- ↑ راجع سجل الشيخ أحمد لدى حفيده الشيخ عادل تقي الدين وأوراق المؤلف عن جده رستم.
- ↑ الطائفة المارونية للمطران يوسف دريان ص ۳۰۲ - ۳۰٥. وللأستاذ الدكتور إبراهيم عواد کتاب خاص في هذا الموضوع Le Droit privé des Maronites، طبع في باريز سنة ١٩٣٣. وراجع أيضاً كلام قنصل فرنسة في بيروت آنئذٍ: HERRI GUYS, Un séjour de plusieurs années à Beyrouth et au Liban, II, 138-140.
- ↑ أخبار الأعيان ص ١٣٦-۱٣۷.
- ↑ لبنان ويوسف بك كرم للخوري أسطفان البشعلاني ص ٢٢٢ - ٢٢٤.
- ↑ أخبار الأعيان للشيخ طنوس الشدياق ص ١٤٩-۱٥۰.
- ↑ المؤلف نفسه ص ١٤٠-١٤٢.
- ↑ اطلب تفاصيلها في الجواب على اقتراح الأحباب لمخائيل مشاقه.
- ↑ أخبار الأعيان لعنوس الشدياق ص ۱۲۸-۱۳۱
راجع أيضاً كتابنا: المحفوظات الملكية المصرية ج ١ ص ٦٤-٦٧ - ↑ منشورات مديرية الآثار: ديوان المعلم تقولا الترك لفؤاد افرام البستاني ص ٢٣٠-٢٣٦
- ↑ لبنان في عهد الأمراء الشهابيين ج ۲ ص ٥۸۰، اطلب أيضاً دواني القطوف لعيسى المعلوف ص ۲٥۷
- ↑ المعلم نقولا الترك. راجع ديوانه المشار اليه آنفاً ص ٢٦٢-٢٦٣ - واطلب في ما كان يروى عن الأمير الكبير من حوادث اختلط فيها التاريخ بالأساطير، کتاب فؤاد افرام البستاني: على عهد الأمير، بيروت، ١٩٤١
- ↑ لبنان في عهد الأمراء الشهابيين ج ٢ ص ٤١٦
- ↑ لبنان في عهد الأمراء الشهابيين ج ۲ ص ٥۸۰ – راجع أيضاً ديوان نقولا الترك ص ١٠٥.
- ↑ راجع مجلة المباحث لجرجي بني ج ۱۷ ص ۸۸ وتاريخ سورية له أيضاً ص ٤١٨-٤٢١. راجع أيضاً كتابنا المحفوظات الملكية المصرية ج ١ ص ٦٢-٦٣
- ↑ المحفوظات اللبنانية
- ↑ راجع ما ورد في ذيل كتاب هنري غيز المشار إليه آنفاً ج ۲ ص ۳۰۷ وهو مقال في الأمير بشير للمسيو أوجين بوزه.
- ↑ راجع محاضرة الأستاذ فؤاد افرام البستاني في التعليم في لبنان في مجلة الندوة اللبنانية ٢٠ كانون الأول سنه ۱۹۰۰ ص ۱۷۳
- ↑ ديوان المعلم نقولا الترك ص ۱۰۰-۱۰۱
- ↑ مختصر تاريخ طائفة الروم الملكيين لمجهول طبع بيروت سنة ۱۸۸۹ ص ۸۸-۸۹
- ↑ نجد نسخة عن الرسالة الأولى في المحفوظات اللبنانية والأصل نفسه للرسالة الثانية في هذه المحفوظات أيضاً في ملف رجال الدين.
- ↑ ديوان المعلم بطرس كرامة ص ۲١٦ و۲٥۳
- ↑ ديوانه المشار إليه آنفاً ص ۳٥۱
- ↑ الديوان نفسه ص ۳٥۲ - ٣٥٣
- ↑ لبنان في عهد الأمراء الشهابيين ج ۲ ص ۲۰۲
- ↑ من الأصل: المحفوظات اللبنانية ملف السياسة الخارجية.
- ↑ لبنان في عهد الأمراء الشهابيين ج ۲ ص ٤١٤-٤١٨ و٤٢١
- ↑ المعلم نقولا الترك لفؤاد افرام البستاني: الديوان المشار إليه آنفاً ص ب - ج
- ↑ لبنان في عهد الأمراء الشهابیین ج ۲ ص ٣٥٠ - ٣٨٥
- ↑ لبنان في عهد الأمراء الشهايين ج ۳ ص ۷۲۳-٧٤٦
- ↑ المحفوظات الملكية المصرية لأسد رستم ج ۱ ص ٥۸
- ↑ المحفوظات نفسها ج ۱ ص ٥٩ - ٦٠
- ↑ المحفوظات نفسها ج ١ ص ٦٢-٦٦
- ↑ المحفوظات نفسها ج ١ ص ٦٧
- ↑ DOUIN, G., l'Expédition d'Alger, pp. 216-217