بداية المجتهد - كتاب الجنايات
كتاب الجنايات. @-والجنايات التي لها حدود مشروعة أربع جنايات على الأبدان والنفوس والأعضاء وهو المسمى قتلا وجرحا، وجنايات على الفروج وهو المسمى زنى وسفاحا، وجنايات على الأموال، وهذه ما كان منها مأخوذا بحرب سمى حرابة إذا كان بغير تأويل، وإن كان بتأويل سمى بغيا مأخوذا على وجه المغافصة [قال في القاموس: غافَصَهُ: فاجأَهُ، وأخَذَهُ على غِرَّة. وقال (في باب "هزؤ"): ... غافص الرجل مغافصة وغفاصا: أخذه على غرة بمساءة. دار الحديث] من حرز يسمى سرقة، وما كان منها بعلو مرتبة وقوة سلطان سمى غصبا؛ وجنايات على الأعراض، وهو المسمى قذفا؛ وجنايات بالتعدي على استباحة ما حرمه الشرع من المأكول والمشروب، وهذه إنما يوجد فيها حد في هذه الشريعة في الخمر فقط، وهو حد متفق عليه بعد صاحب الشرع صلوات الله عليه، فلنبتدئ منها بالحدود التي في الدماء فنقول: إن الواجب في إتلاف النفوس والجوارح هو إما قصاص وإما مال، وهو الذي يسمى الدية، فإذا النظر أولا في هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: النظر في القصاص، والنظر في الدية. والنظر في القصاص ينقسم إلى القصاص في النفوس، وإلى القصاص في الجوارح. والنظر أيضا في الديات ينقسم إلى النظر في ديات النفوس، وإلى النظر في ديات قطع الجوارح والجراح. فينقسم أولا هذا الكتاب إلى كتابين: أولهما يرسم عليه كتاب القصاص. والثاني يرسم عليه كتاب الديات.
- 2*كتاب القصاص
@-وهذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: الأول: النظر في القصاص في النفوس. والثاني: النظر في القصاص في الجوارح، فلنبدأ من القصاص في النفوس.
- 3*كتاب القصاص في النفوس.
@-والنظر أولا في هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: إلى النظر في الموجب، أعني الموجب للقصاص. وإلى النظر في الواجب، أعني القصاص وفي إبداله إن كان له بدل. فلنبدأ أولا بالنظر في الموجب، والنظر في الموجب يرجع إلى النظر في صفة القتل والقاتل التي يجب بمجموعها والمقتول القصاص، فإنه ليس أي قاتل اتفق يقتص منه، ولا بأي قتل اتفق، ولا من أي مقتول اتفق، بل من قاتل محدود بقتل محدود ومقتول محدود، فإذ كان المطلوب في هذا الباب إنما هو العدل. فلنبدأ من النظر في القاتل، ثم في القتل، ثم في المقتول.
- 4*القول في شروط القاتل.
@-فنقول: إنهم اتفقوا على أن القاتل الذي يقاد منه يشترط فيه باتفاق أن يكون عاقلا بالغا مختارا للقتل مباشرا غير مشارك له فيه غيره واختلفوا في المكرَه والمكرِه، وبالجملة الآمر والمباشر، فقال مالك والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وجماعة: القتل على المباشر دون الآمر، ويعاقب الآمر؛ وقالت طائفة: يقتلان جميعا، وهذا إذا لم يكن هنالك إكراه ولا سلطان للآمر على المأمور. وأما إذا كان للآمر سلطان على المأمور، أعني المباشر، فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: فقال قوم: يقتل الآمر دون المأمور، ويعاقب المأمور، وبه قال داود وأبو حنيفة، وهو أحد قولي الشافعي. وقال قوم: يقتل المأمور دون الآمر وهو أحد قولي الشافعي وقال قوم: يقتلان جميعا، وبه قال مالك. فمن لم يوجب حدا على المأمور اعتبر تأثير الإكراه في إسقاط كثير من الواجبات في الشرع، لكون المكره يشبه من لا اختيار له. ومن رأى عليه القتل غلب عليه حكم الاختيار، وذلك أن المكره يشبه من جهة المختار، ويشبه من جهة المضطر المغلوب، مثل الذي يسقط من علو، والذي تحمله الريح من موضع إلى موضع. ومن رأى قتلهم جميعا لم يعذر المأمور بالإكراه ولا الآمر بعدم المباشرة. ومن رأى قتل الآمر فقط شبه المأمور بالآلة التي لا تنطق. ومن رأى الحد على غير المباشر اعتمد أنه ليس ينطلق عليه اسم قاتل إلا بالاستعارة. وقد اعتمدت المالكية في قتل المكره على القتل بالقتل بإجماعهم على أنه لو أشرف على الهلاك من مخمصة لم يكن له أن يقتل إنسانا فيأكله. وأما المشارك للقاتل عمدا في القتل، فقد يكون القتل عمدا وخطأ، وقد يكون القاتل مكلفا وغير مكلف، وسنذكر العمد عند قتل الجماعة بالواحد. وأما إذا اشترك في القتل عامد ومخطئ أو مكلف وغير مكلف، مثل عامد وصبي أو مجنون، أو حر وعبد في قتل عبد عند من لا يقيد من الحر بالعبد، فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فقال مالك والشافعي: على العامد القصاص، وعلى المخطئ والصبي نصف الدية؛ إلا أن مالكا يجعله على العاقلة؛ والشافعي في ماله على ما يأتي، وكذلك قالا في الحر والعبد يقتلان العبد عمدا أن العبد يقتل، وعلى الحر نصف القيمة، وكذلك الحال في المسلم والذمي يقتلان جميعا. وقال أبو حنيفة إذا اشترك من يجب القصاص عليه مع من لا يجب عليه القصاص، فلا قصاص على واحد منهما وعليهما الدية، وعمدة الحنفية أن هذه شبهة، فإن القتل لا يتبعض وممكن أن تكون إفاتة نفسه من فعل الذي لا قصاص عليه كإمكان ذلك ممن عليه القصاص، وقد قال عليه الصلاة والسلام "ادرءوا الحدود بالشبهات" وإذا لم يكن الدم وجب بدله، وهو الدية. وعمدة الفريق الثاني النظر إلى المصلحة التي تقتضي التغليظ لحوطة الدماء، فكأن كل واحد منهما انفرد بالقتل فله حكم نفسه، وفيه ضعف في القياس. وأما صفة الذي يجب به القصاص، فاتفقوا على أنه العمد، وذلك أنهم أجمعوا على أن القتل صنفان: عمد، وخطأ. واختلفوا في هل بينهما وسط أم لا؟ وهو الذي يسمونه شبه العمد، فقال به جمهور فقهاء الأمصار. والمشهور عن مالك نفيه إلا في الابن مع أبيه؛ وقد قيل أنه يتخرج عنه في ذلك رواية أخرى، وبإثباته قال عمر ابن الخطاب وعلي وعثمان وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري والمغيرة، ولا مخالف لهم من الصحابة؛ والذين قالوا به فرقوا فيما هو شبه العمد مما ليس بعمد، وذلك راجع في الأغلب إلى الآلات التي يقع بها القتل، وإلى الأحوال التي كان من أجلها الضرب؛ فقال أبو حنيفة: كل ما عدا الحديد من القضب أو النار وما يشبه ذلك فهو شبه العمد؛ وقال أبو يوسف ومحمد: شبه العمد ما لا يقتل مثله؛ وقال الشافعي: شبه العمد ما كان عمدا في الضرب خطأ في القتل: أي ما كان ضربا لم يقصد به القتل فتولد عنه القتل. والخطأ ما كان خطأ فيهما جميعا. والعمد ما كان عمدا فيهما جميعا، وهو حسن. فعمدة من نفى شبه العمد أنه لا واسطة بين الخطأ والعمد، أعني بين أن يقصد القتل أو لا يقصده. وعمدة من أثبت الوسط أن النيات لا يطلع عليها إلا الله تبارك وتعالى وإنما الحكم بما ظهر. فمن قصد ضرب آخر بآلة لا تقتل غالبا كان حكمه كحكم الغالب، أعني حكم من قصد القتل فقتل بلا خلاف. ومن قصد ضرب رجل بعينه بآلة لا تقتل غالبا كان حكمه مترددا بين العمد والخطأ هذا في حقنا لا في حق الآمر نفسه عند الله تعالى. أما شبهة العمد فمن جهة ما قصد ضربه. وأما شبهه للخطأ فمن جهة أنه ضرب بما لا يقصد به القتل. وقد روي حديث مرفوع إلى النبي ﷺ أنه قال "ألا إن قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا والحجر ديته مغلظة مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" إلا أنه حديث مضطرب عند أهل الحديث لا يثبت من جهة الإسناد فيما ذكره أبو عمر بن عبد البر، وإن كان أبو داود وغيره قد خرجه، فهذا النحو من القتل عند من لا يثبته يجب به القصاص، وعند من أثبته تجب به الدية، ولا خلاف في مذهب مالك أن الضرب يكون على وجه الغضب والنائرة يجب به القصاص. واختلف في الذي يكون عمدا على جهة اللعب، أو على جهة الأدب لمن أبيح له الأدب. وأما الشرط الذي يجب به القصاص في المقتول، فهو أن يكون مكافئا لدم القاتل. والذي به تختلف النفوس هو الإسلام والكفر والحرية والعبودية والذكورية والأنوثية والواحد والكثير. واتفقوا على أن المقتول إذا كان مكافئا للقاتل في هذه الأربعة أنه يجب القصاص. واختلفوا في هذه الأربعة إذا لم تجتمع. أما الحر إذا قتل العبد عمدا، فإن العلماء اختلفوا فيه، فقال مالك والشافعي والليث وأحمد وأبو ثور: لا يقتل الحر بالعبد؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقتل الحر بالعبد إلا عبد نفسه؛ وقال قوم: يقتل الحر بالعبد سواء كان عبد القاتل أو عبد غير القاتل، وبه قال النخعي؛ فمن قال لا يقتل الحر بالعبد احتج بدليل الخطاب المفهوم من قوله تعالى {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد} ومن قال يقتل الحر بالعبد احتج بقوله عليه الصلاة والسلام "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" فسبب الخلاف معارضة العموم لدليل الخطاب، ومن فرق فضعيف. ولا خلاف بينهم أن العبد يقتل بالحر، وكذلك الأنقص بالأعلى. ومن الحجة أيضا لمن قال: يقتل الحر بالعبد ما رواه عن سمرة أن النبي ﷺ قال "من قتل عبده قتلناه به" ومن طريق المعنى قالوا: ولما كان قتله محرما كقتل الحر، وجب أن يكون القصاص فيه كالقصاص في الحر، وأما قتل المؤمن بالكافر الذمي، فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: فقال قوم: لا يقتل مؤمن بكافر، وممن قال به الشافعي والثوري وأحمد وداود وجماعة. وقال قوم: يقتل به، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى. وقال مالك والليث: لا يقتل به إلا أن يقتله غيلة، وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه وبخاصة على ماله. فعمدة الفريق الأول ما روي من حديث علي أنه سأله قيس بن عبادة والأشتر هل عهد إليه رسول الله ﷺ عهدا لم يعهده إلى الناس قال: لا، إلا ما في كتابي هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه فإذا فيه "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" خرجه أبو داود. وروي أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال "لا يقتل مؤمن بكافر" واحتجوا في ذلك بإجماعهم على أنه لا يقتل مسلم بالحربي الذي أمن. وأما أصحاب أبي حنيفة فاعتمدوا في ذلك آثارا منها حديث يرويه ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن السلماني قال "قتل رسول الله ﷺ رجلا من أهل القبلة برجل من أهل الذمة وقال: أنا أحق من وفى بعهده" ورووا ذلك عن عمر، قالوا: وهذا مخصص لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "لا يقتل مؤمن بكافر" أي أنه أريد به الكافر الحربي دون الكافر المعاهد، وضعف أهل الحديث حديث عبد الرحمن السلماني وما رووا من ذلك عن عمر. وأما من طريق القياس فإنهم اعتمدوا على إجماع المسلمين في أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال الذمي، قالوا: فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم فحرمة دمه كحرمة دمه، فسبب الخلاف تعارض الآثار والقياس. وأما قتل الجماعة بالواحد، فإن جمهور فقهاء الأمصار قالوا تقتل الجماعة بالواحد، منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وغيرهم، سواء كثرت الجماعة أو قلت، وبه قال عمر حتى روي أنه قال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا. وقال داود وأهل الظاهر لا تقتل الجماعة بالواحد، وهو قول ابن الزبير، وبه قال الزهري، وروي عن جابر. وكذلك عند هذه الطائفة لا تقطع أيد بيد، أعني إذا اشترك اثنان فما فوق ذلك في قطع يد؛ وقال مالك والشافعي: تقطع الأيدي باليد؛ وفرقت الحنفية بين الأنفس والأطراف فقالوا: تقتل الأنفس بالنفس، ولا يقطع بالطرف إلا طرف واحد، وسيأتي هذا في باب القصاص من الأعضاء. فعمدة من قتل بالواحد الجماعة النظر إلى المصلحة، فإنه مفهوم أن القتل إنما شرع لنفي القتل كما نبه عليه الكتاب في قوله تعالى {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} وإذا كان ذلك كذلك فلو لم تقتل الجماعة بالواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة، لكن للمعترض أن يقول: إن هذا إنما كان يلزم لو لم يقتل من الجماعة أحد، فأما إن قتل منهم واحد وهو الذي من قتله يظن إتلاف النفس غالبا على الظن، فليس يلزم أن يبطل الحد حتى يكون سببا للتسليط على إذهاب النفوس. وعمدة من قتل الواحد بالواحد قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين} وأما قتل الذكر بالأنثى، فإن ابن المنذر وغيره ممن ذكر الخلاف حكى أنه إجماع، إلا ما حكي عن علي من الصحابة، وعن عثمان البتي أنه إذا قتل الرجل بالمرأة كان على أولياء المرأة نصف الدية. وحكى القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى عن الحسن البصري، أنه لا يقتل الذكر بالأنثى، وحكاه الخطابي في معالم السنن، وهو شاذ، ولكن دليله قوي لقوله تعالى {والأنثى بالأنثى} وإن كان يعارض دليل الخطاب ههنا للعموم الذي في قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} لكن يدخله أن هذا الخطاب وارد في غير شريعتنا، وهي مسألة مختلف فيها، أعني هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ والاعتماد في قتل الرجل بالمرأة هو النظر إلى المصلحة العامة. واختلفوا من هذا الباب في الأب والابن، فقال مالك: لا يقاد الأب بالابن إلا أن يضجعه فيذبحه، فأما إن حذفه بسيف أو عصا فقتله لم يقتل، وكذلك الجد عنده مع حفيده. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري: لا يقاد الوالد بولده ولا الجد بحفيده إذا قتله بأي وجه كان من أوجه العمد، وبه قال جمهور العلماء. وعمدتهم حديث ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "لا تقام الحدود في المساجد ولا يقاد بالولد الوالد". وعمدة مالك عموم القصاص بين المسلمين. وسبب اختلافهم ما رووه عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن رجلا من بني مدلج يقال له قتادة حذف ابنا له بالسيف فأصاب ساقه، فنزى جرحه فمات، فقدم سراقة بن جعشم على عمر ابن الخطاب فذكر ذلك له، فقال له عمر: اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك، فلما قدم عليه عمر أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة، ثم قال: أين أخو المقتول، فقال: ها أنا ذا، قال: خذها، فإن رسول الله ﷺ قال "ليس لقاتل شيء" فإن مالكا حمل هذا الحديث على أنه لم يكن عمدا محضا، وأثبت منه شبه العمد فيما بين الابن والأب. وأما الجمهور فحملوه على ظاهره من أنه عمد لإجماعهم أن من حذف آخر بسيف فقتله فهو عمد. وأما مالك فرأى ما للأب من التسلط على تأديب ابنه ومن المحبة له أن حمل القتل الذي يكون في أمثال هذه الأحوال على أنه ليس بعمد، ولم يتهمه إذ كان ليس بقتل غيلة، فإنما يحمل فاعله على أنه قصد القتل من جهة غلبة الظن وقوة التهمة، إذ كانت النيات لا يطلع عليها إلا الله تعالى، فمالك لم يتهم الأب حيث اتهم الأجنبي، لقوة المحبة التي بين الأب والابن. والجمهور إنما عللوا درء الحد عن الأب لمكان حقه على الابن، والذي يجيء على أصول أهل الظاهر أن يقاد، فهذا هو القول في الموجب.
- 4*وأما القول في الموجب.
@-فاتفقوا على أن لولي الدم أحد شيئين: القصاص، أو العفو إما على الدية وإما على غير الدية. واختلفوا هل الانتقال من القصاص إلى العفو على أخذ الدية هو حق واجب لولي الدم دون أن يكون في ذلك خيار للمقتص منه، أم لا تثبت الدية إلا بتراضي الفريقين، أعني الولي والقاتل، وأنه إذا لم يرد المقتص منه أن يؤدي الدية لم يكن لولي الدم إلا القصاص مطلقا أو العفو، فقال مالك: لا يجب للولي إلا أن يقتص أو يعفو عن غير دية إلا أن يرضى بإعطاء الدية للقاتل، وهي رواية ابن القاسم عنه، وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وجماعة؛ وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وأكثر فقهاء المدينة من أصحاب مالك وغيره: ولي الدم بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية، رضي القاتل أو لم يرض، وروى ذلك أشهب عن مالك، إلا أن المشهور عنه هي الرواية الأولى. فعمدة مالك في الرواية المشهورة حديث أنس ابن مالك في قصة سن الربيع أن رسول الله ﷺ قال "كتاب الله القصاص" فعلم بدليل الخطاب أنه ليس له إلا القصاص. وعمدة الفريق الثاني حديث أبي هريرة الثابت "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يأخذ الدية وبين أن يعفو" هما حديثان متفق على صحتهما، لكن الأول ضعيف الدلالة في أنه ليس له إلا القصاص. والثاني نص في أن له الخيار والجمع بينهما يمكن إذا رفع دليل الخطاب من ذلك، فإن كان الجمع واجبا وممكنا فالمصير إلى الحديث الثاني واجب؛ والجمهور على أن الجمع واجب إذا أمكن وأنه أولى من الترجيح، وأيضا فإن الله عز وجل يقول {ولا تقتلوا أنفسكم} وإذا عرض على المكلف فداء نفسه بمال فواجب عليه أن يفديها، أصله إذا وجد الطعام في مخمصة بقيمة مثله وعنده ما يشتريه، أعني أنه يقضى عليه بشرائه فكيف بشراء نفسه؟ ويلزم على هذه الرواية إذا كان للمقتول أولياء صغار وكبار أن يؤخر القتل إلى أن يكبر الصغار فيكون لهم الخيار، ولا سيما إذا كان الصغار يحجبون الكبار مثل البنين مع الإخوة. وقال القاضي: وقد كانت وقعت هذه المسألة بقرطبة حياة جدي رحمه الله، فأفتى أهل زمانه بالرواية المشهورة، وهو أن لا ينتظر الصغير، فأفتى هو رحمه الله بانتظاره على القياس، فشنع أهل زمانه ذلك عليه لما كانوا عليه من شدة التقليد حتى اضطر أن يضع في ذلك قولا ينتصر فيه لهذا المذهب وهو موجود بأيدي الناس، والنظر في هذا الباب هو في قسمين: في العفو والقصاص. والنظر في العفو في شيئين: أحدهما فيمن له العفو ممن ليس له، وترتيب أهل الدم في ذلك، وهل يكون له العفو على الدية أم لا؟ وقد تكلمنا في: هل له العفو على الدية. وأما من لهم العفو بالجملة فهم الذين لهم القيام بالدم، والذين لهم القيام بالدم هم العصبة عند مالك وعند غيره: كل من يرث، وذلك أنهم أجمعوا على أن المقتول عمدا إذا كان له بنون بالغون فعفا أحدهم أن القصاص قد بطل ووجبت الدية. واختلفوا في اختلاف البنات مع البنين في العفو أو في القصاص. وكذلك الزوجة أو الزوج والأخوات، فقال مالك: ليس للبنات ولا الأخوات قول مع البنين والإخوة في القصاص أو ضده، ولا يعتبر قولهن مع الرجال، وكذلك الأمر في الزوجة والزوج؛ وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد والشافعي كل وارث يعتبر قوله في إسقاط القصاص وفي إسقاط حظه من الدية، وفي الأخذ به قال الشافعي الغائب منهم والحاضر والصغير والكبير سواء. وعمدة هؤلاء اعتبارهم الدم بالدية. وعمدة الفريق الأول أن الولاية إنما هي للذكران دون الإناث. واختلف العلماء في المقتول عمدا إذا عفا عن دمه قبل أن يموت هل ذلك جائز على الأولياء؟ وكذلك في المقتول خطأ إذا عفا عن الدية، فقال قوم: إذا عفا المقتول عن دمه في العمد مضى ذلك، وممن قال بذلك مالك وأبو حنيفة والأوزاعي، وهذا أحد قولي الشافعي؛ وقالت طائفة أخرى: لا يلزم عفوه، وللأولياء القصاص أو العفو، وممن قال به أبو ثور وداود، وهو قول الشافعي بالعراق. وعمدة هذه الطائفة أن الله خير الولي في ثلاث: إما العفو، وإما القصاص، وإما الدية. وذلك عام في كل مقتول سواء عفا عن دمه قبل الموت أو لم يعف. وعمدة الجمهور أن الشيء الذي جعل للولي إنما هو حق المقتول، فناب فيه منابه وأقيم مقامه، فكان المقتول أحق بالخيار من الذي أقيم مقامه بعد موته. وقد أجمع العلماء على أن قوله تعالى {فمن تصدق به فهو كفارة له} أن المراد بالمتصدق ههنا هو المقتول يتصدق بدمه. وإنما اختلفوا على من يعود الضمير في قوله {فهو كفارة له} فقيل على القاتل لمن رأى له توبة، وقيل على المقتول من ذنوبه وخطاياه. وأما اختلافهم في عفو المقتول خطأ عن الدية فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور فقهاء الأمصار: إن عفوه من ذلك في ثلثه إلا أن يجيزه الورثة؛ وقال قوم: يجوز في جميع ماله، وممن قال به طاوس والحسن. وعمدة الجمهور أنه واهب مالا له بعد موته فلم يجز إلا في الثلث، أصله الوصية. وعمدة الفرقة الثانية أنه إذا كان له أن يعفو عن الدم فهو أحرى أن يعفو عن المال، وهذه المسألة هي أخص بكتاب الديات. واختلف العلماء إذا عفا المجروح عن الجراحات، فمات منها هل للأولياء أن يطالبوا بدمه أم لا؟ فقال مالك: لهم ذلك إلا أن يقول عفوت عن الجراحات وعما تئول إليه؛ وقال أبو يوسف ومحمد إذا عفا عن الجراحة ومات فلا حق لهم، والعفو عن الجراحات عفو عن الدم؛ وقال قوم: بل تلزمهم الدية إذا عفا عن الجراحات مطلقا، وهؤلاء اختلفوا، فمنهم من قال: تلزم الجارح الدية كلها، واختاره المزني من أقوال الشافعي؛ ومنهم من قال: يلزم من الدية ما بقي منها بعد إسقاط دية الجرح الذي عفا عنه، وهو قول الثوري. وأما من يرى أنه لا يعفو عن الدم فليس يتصور معه خلاف في أنه لا يسقط ذلك طلب الولي الدية، لأنه إذا كان عفوه عن الدم لا يسقط حق الولي، فأحرى أن لا يسقط عفوه عن الجرح. واختلفوا في القاتل عمدا يعفى عنه، هل يبقى للسلطان فيه حق أم لا؟ فقال مالك والليث: إنه يجلد مائة ويسجن سنة، وبه قال أهل المدينة، وروي ذلك عن عمر؛ وقالت طائفة: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا يجب عليه ذلك؛ وقال أبو ثور: إلا أن يكون يعرف بالشر فيؤدبه الإمام على قدر ما يرى. ولا عمدة للطائفة الأولى إلا أثر ضعيف. وعمدة الطائفة الثانية ظاهر الشرع وأن التحديد في ذلك لا يكون إلا بتوقيف، ولا توقيف ثابت في ذلك.
- 4*القول في القصاص.
@-والنظر في القصاص هو في صفة القصاص، وممن يكون؟ ومتى يكون؟ فأما صفة القصاص في النفس، فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: يقتص من القاتل على الصفة التي قتل، فمن قتل تغريقا قتل تغريقا، ومن قتل بضرب بحجر قتل بمثل ذلك، وبه قال مالك والشافعي، قالوا: إلا أن يطول تعذيبه بذلك فيكون السيف له أروح. واختلف أصحاب مالك فيمن حرق آخر، هل يحرق مع موافقتهم لمالك في احتذاء صورة القتل؟ وكذلك فيمن قتل بالسهم؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: بأي وجه قتله لم يقتل إلا بالسيف. وعمدتهم ما روى الحسن عن النبي ﷺ أنه قال "لاقود إلا بحديدة". وعمدة الفريق الأول حديث أنس "أن يهوديا رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ النبي ﷺ رأسه بحجر، أو قال: بين حجرين" وقوله {كتب عليكم القصاص في القتلى} والقصاص يقتضي المماثلة وأما ممن يكون القصاص فالظاهر أنه من ولي الدم، وقد قيل إنه لا يمكن منه لمكان العداوة مخافة أن يجور فيه. وأما متى يكون القصاص فبعد ثبوت موجباته، والإعذار إلى القاتل في ذلك إن لم يكن مقرا. واختلفوا هل من شرط القصاص أن لا يكون الموضع الحرم. وأجمعوا على أن الحامل إذا قَتَلت عمدا أنه لا يقاد منها حتى تضع حملها. واختلفوا في القاتل بالسيف والجمهور على وجوب القصاص؛ وقال بعض أهل الظاهر: لا يقتص منه من أجل أنه عليه الصلاة والسلام سم هو وأصحابه، فلم يتعرض لمن سمه. كمل كتاب القصاص في النفس. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 3*كتاب الجراح.
@-والجراح صنفان: منها ما فيه القصاص أو الدية أو العفو. ومنها ما فيه الدية أو العفو. ولنبدأ بما فيه القصاص، والنظر أيضا ها هنا في شروط الجارح والجرح الذي به يحق القصاص والمجروح، وفي الحكم الواجب الذي هو القصاص، وفي بدله إن كان له بدل.
- 4*القول في الجارح.
@-ويشترط في الجارح أن يكون مكلفا كما يشترط ذلك في القاتل، وهو أن يكون بالغا عاقلا، والبلوغ يكون بالاحتلام والسن بلا خلاف، وإن كان الخلاف في مقداره، فأقصاه ثمانية عشر سنة، وأقله خمسة عشر سنة، وبه قال الشافعي، ولا خلاف أن الواحد إذا قطع عضو إنسان واحد اقتص منه إذا كان مما فيه القصاص. واختلفوا إذا قطعت جماعة عضوا واحدا، فقال أهل الظاهر: لا تقطع يدان في يد؛ وقال مالك والشافعي: تقطع الأيدي باليد الواحدة، كما تقتل عندهم الأنفس بالنفس الواحدة؛ وفرقت الحنفية بين النفس والأطراف، فقالوا: لا تقطع أعضاء بعضو، وتقتل أنفس بنفس، وعندهم أن الأطراف تتبعض، وإزهاق النفس لا يتبعض. واختلف في الإنبات، فقال الشافعي: هو بلوغ بإطلاق. واختلف المذهب فيه في الحدود، هل هو بلوغ فيها أم لا؟ والأصل في هذا كله حديث بني قريظة "أنه ﷺ قتل منهم من أنبت وجرت عليه المواسي" كما أن الأصل في السن حديث ابن عمر أنه عرضه يوم الخندق وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يقبله وقبله يوم أحد وهو ابن خمس عشرة سنة.
- 4*القول في المجروح.
@-وأما المجروح فإنه يشترط فيه أن يكون دمه مكافئا لدم الجارح والذي يؤثر في التكافؤ العبودية والكفر. أما العبد والحر فإنهم اختلفوا في وقوع القصاص بينهما في الجرح كاختلافهم في النفس؛ فمنهم من رأى أنه لا يقتص من الحر للعبد، ويقتص للحر من العبد كالحال في النفس؛ ومنهم من رأى أنه يقتص لكل واحد منهما من كل واحد، ولم يفرق بين الجرح والنفس؛ ومنهم من فرق فقال: يقتص من الأعلى للأدنى في النفس والجرح؛ ومنهم من قال: يقتص من النفس دون الجرح، وعن مالك الروايتان. والصواب كما يقتص من النفس أن يقتص من الجرح، فهذه هي حال العبيد مع الأحرار. وأما حال العبيد بعضهم مع بعض، فإن للعلماء فيهم ثلاثة أقوال: أحدها أن القصاص بينهم في النفس وما دونها، وهو قول الشافعي وجماعة، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وهو قول مالك. والقول الثاني أنه لا قصاص بينهم لا في النفس ولا في الجرح وأنهم كالبهائم، وهو قول الحسن وابن شبرمة وجماعة. والثالث أن القصاص بينهم في النفس دون ما دونها، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وروي ذلك عن ابن مسعود. وعمدة الفريق الأول قوله تعالى {والعبد بالعبد} . وعمدة الحنفية ما روي عن عمران بن الحصين "أن عبدا لقوم فقراء قطع أذن عبد لقوم أغنياء، فأتوا رسول الله ﷺ فلم يقتص منه" فهذا هو حكم النفس.
- 4*القول في الجرح.
@-وأما الجرح فإنه يشترط فيه أن يكون على وجه العمد، أعني الجرح الذي يجب فيه القصاص، والجرح لا يخلو أن يكون يتلف جارحة من جوارح المجروح أو لا يتلف، فإن كان مما يتلف جارحة فالعمد فيه هو أن يقصد ضربه على وجه الغضب بما يجرح غالبا. وأما إن جرحه على وجه اللعب أو اللعب بما لا يجرح به غالبا أو على وجه الأدب، فيشبه أن يكون فيه الخلاف الذي يقع في القتل الذي يتولد عن الضرب في اللعب والأدب بما لا يقتل غالبا، فإن أبا حنيفة يعتبر الآلة حتى يقول إن القاتل بالمثقل لا يقتل وهو شذوذ منه، أعني بالخلاف هل فيه القصاص أو الدية إن كان الجرح مما فيه الدية. وأما إن كان الجرح قد أتلف جارحة من جوارح المجروح، فمن شرط القصاص فيه العمد أيضا بلا خلاف، وفي تمييز العمد منه من غير العمد خلاف. أما إذا ضربه على العضو نفسه فقطعه وضربه بآلة تقطع العضو غالبا، أو ضربه على وجه النائرة فلا خلاف أن فيه القصاص. وأما إن ضربه بلطمة أو سوط أو ما أشبه ذلك مما الظاهر منه أنه لم يقصد إتلاف العضو مثل أن يلطمه فيفقأ عينه، فالذي عليه الجمهور أنه شبه العمد ولا قصاص فيه، وفيه الدية مغلظة في ماله وهي رواية العراقيين عن مالك، والمشهور في المذهب أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا في الأب مع ابنه؛ وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أن شبه العمد إنما هو في النفس لا في الجرح. وأما إن جرحه فأتلف عضوا على وجه اللعب ففيه قولان: أحدهما وجوب القصاص، والثاني نفيه. وما يجب على هذين القولين ففيه القولان قبل الدية مغلظة، وقيل دية الخطأ، أعني فيما فيه دية، وكذلك إذا كان على وجه الأدب ففيه الخلاف. وأما ما يجب في جراح العمد إذا وقعت على الشروط التي ذكرناها فهو القصاص لقوله تعالى {والجروح قصاص} وذلك فيما أمكن القصاص فيه منها، وفيما وجد منه محل القصاص ولم يخش منه تلف النفس، وإنما صاروا لهذا لما روي "أن رسول الله ﷺ رفع القود في المأمومة والمنقلة والجائفة" فرأى مالك ومن قال بقوله أن هذا حكم ما كان في معنى هذه من الجراح التي هي متالف، مثل كسر عظم الرقبة والصلب والصدر والفخذ وما أشبه ذلك. وقد اختلف قول مالك في المنقلة، فمرة قال بالقصاص، ومرة قال بالدية؛ وكذلك الأمر عند مالك فيما لا يمكن فيه التساوي في القصاص مثل الاقتصاص من ذهاب بعض النظر أو بعض السمع، ويمنع القصاص أيضا عند مالك عدم المثل مثل أن يفقأ أعمى عين بصير. واختلفوا من هذا في الأعور يفقأ عين الصحيح عمدا، فقال الجمهور: إن أحب الصحيح أن يستقيد منه فله القود، واختلفوا إذا عفا عن القود، فقال قوم: إن أحب فله الدية كاملة ألف دينار، وهو مذهب مالك، وقيل ليس له إلا نصف الدية، وبه قال الشافعي، وهو أيضا منقول عن مالك، ويقول الشافعي قال ابن القاسم، وبالقول الآخر قال المغيرة من أصحابه وابن دينار. وقال الكوفيون: ليس للصحيح الذي فقئت عينه إلا القود أو ما اصطلحا عليه؛ وقد قيل لا يستقيد من الأعور وعليه الدية كاملة، روي هذا عن ابن المسيب وعن عثمان. وعمدة صاحب هذا القول أن عين الأعور بمنزلة عينين، فمن فقأها في واحدة فكأنه اقتص من اثنين في واحدة، وإلى نحو هذا ذهب من رأى أنه إذا ترك القود أنه له دية كاملة، ويلزم حامل هذا القول أن لا يستقيد ضرورة؛ ومن قال بالقود وجعل الدية نصف الدية فهو أحرز لأصله، فتأمله فإنه بين بنفسه والله أعلم. وأما هل المجروح مخير بين القصاص وأخذ الدية، أم ليس له إلا القصاص فقط إلا أن يصطلحا على أخذ الدية ففيه القولان عن مالك مثل القولين في القتل، وكذلك أحد قولي مالك في الأعور يفقأ عين الصحيح: أن الصحيح يخير بين أن يفقأ عين الأعور أو يأخذ الدية ألف دينار أو خمسمائة على الاختلاف في ذلك. وأما متى يستقاد من الجرح؟ فعند مالك أنه لا يستقاد من جرح إلا بعد اندماله، وعند الشافعي على الفور؛ فالشافعي تمسك بالظاهر، ومالك رأى أن يعتبر ما يئول إليه أمر الجرح مخافة أن يفضي إلى إتلاف النفس. واختلف العلماء في المقتص من الجرح يموت المقتص من ذلك الجرح، فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد لا شيء على المقتص، وروي عن علي وعمر مثل ذلك، وبه قال أحمد وأبو ثور وداود؛ وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة: إذا مات وجب على عاقلة المقتص الدية؛ وقال بعضهم: هي في ماله. وقال عثمان البتي: يسقط عنه من الدية قدر الجراحة التي اقتص منها، وهو قول ابن مسعود. فعمدة الفريق الأول إجماعهم على أن السارق إذا مات من قطع يده أنه لا شيء على الذي قطع يده. وعمدة أبي حنيفة أنه قتل خطأ وجبت فيه الدية؛ ولا يقاد عند مالك في الحر الشديد ولا البرد الشديد، ويؤخر ذلك مخافة أن يموت المقاد منه؛ وقد قيل إن المكان شرط في جواز القصاص وهو غير الحرم، فهذا هو حكم العمد في الجنايات على النفس وفي الجنايات على أعضاء البدن، وينبغي أن نصير إلى حكم الخطأ في ذلك، ونبتدئ بحكم الخطأ في النفس.
- 2*كتاب الديات في النفوس.
@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} والديات تختلف في الشريعة بحسب اختلاف الدماء. وبحسب اختلاف الذين تلزمهم الدية، وأيضا تختلف بحسب العمد إذا رضي بها إما الفريقان، وإما من له القود على ما تقدم من الاختلاف. والنظر في الدية هو في موجبها، أعني في أي قتل تجب، ثم في نوعها وفي قدرها، وفي الوقت الذي تجب فيه، وعلى من تجب. فأما في أي قتل تجب، فإنهم اتفقوا على أنها تجب في قتل الخطأ وفي العمد الذي يكون من غير مكلف مثل المجنون والصبي، وفي العمد الذي تكون حرمة المقتول فيه ناقصة عن حرمة القاتل، مثل الحر والعبد ومن قتل الخطأ ما اتفقوا على أنه خطأ. ومنه ما اختلفوا فيه، وقد تقدم صدر من ذلك، وسيأتي بعد ذلك اختلافهم في تضمين الراكب والسائق والقائد. وأما قدرها ونوعها، فإنهم اتفقوا على أن دية الحر المسلم على أهل الإبل مائة من الإبل، وهي في مذهب مالك ثلاث ديات: دية الخطأ، ودية العمد إذا قبلت، ودية شبه العمد. وهي عند مالك في الأشهر عنه مثل فعل المدلجي بابنه. وأما الشافعي فالدية عنده اثنان فقط: مخففة ومغلظة. فالمخففة دية الخطأ، والمغلظة دية العمد ودية شبه العمد. وأما أبو حنيفة فالديات عنده اثنان أيضا: دية الخطأ، ودية شبه العمد، وليس عنده دية في العمد، وإنما الواجب عنده في العمد ما اصطلحا عليه وهو حال عليه غير مؤجل، وهو معنى قول مالك المشهور، لأنه إذا لم تلزمه الدية عنده إلا باصطلاح فلا معنى لتسميتها دية إلا ما روي عنه أنها تكون مؤجلة كدية الخطأ فههنا يخرج حكمها عن حكم المال المصطلح عليه، ودية العمد عنده أرباع: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وهو قول ابن شهاب وربيعة، والدية المغلظة عنده أثلاثا: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة وهي الحوامل، ولا تكون المغلظة عنده في المشهور إلا في مثل فعل المدلجي بابنه؛ وعند الشافعي أنها تكون في شبه العمد أثلاثا أيضا، وروى ذلك أيضا عن عمر وزيد بن ثابت؛ وقال أبو ثور: الدية في العمد إذا عفا ولي الدم أخماسا كدية الخطأ. واختلفوا في أسنان الإبل في دية الخطأ، فقال مالك والشافعي: هي أخماس: عشرون ابنة مخاض، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابن لبون ذكرا، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وهو مروي عن ابن شهاب وربيعة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، أعني التخميس، إلا أنهم جعلوا مكان ابن لبون ذكر ابن مخاض ذكرا، وروي عن ابن مسعود الوجهان جميعا؛ وروي عن سيدنا علي أنه جعلها أرباعا، أسقط منها الخمس والعشرين بني لبون. وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز، ولا حديث في ذلك مسند، فدل على الإباحة - والله أعلم - كما قال أبو عمر بن عبد البر. وخرج البخاري والترمذي عن ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال "في دية الخطأ عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض ذكور وعشرون بنات لبون وعشرون جذعة وعشرون حقة" واعتل لهذا الحديث أبو عمر بأنه روى عن حنيف ابن مالك عن ابن مسعود وهو مجهول قال: وأحب إلي في ذلك الرواية عن علي، لأنه لم يختلف في ذلك عليه كما اختلف على ابن مسعود. وخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله ﷺ قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكر" قال أبو سليمان الخطابي هذا الحديث لا أعرف أحدا من الفقهاء المشهورين قال به وإنما قال أكثر العلماء إن دية الخطأ أخماس، وإن كانوا اختلفوا في الأصناف؛ وقد روي أن دية الخطأ مربعة عن بعض العلماء وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري، وهؤلاء جعلوها: خمسا وعشرين جذعة، وخمسا وعشرين حقة، وخمسا وعشرين بنات لبون، وخمسا وعشرين بنات مخاض، كما روي عن علي وخرجه أبو داود، وإنما صار الجمهور إلى تخميس دية الخطأ: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكر، وإن كان لم يتفقوا على بني المخاض لأنها لم تذكر في أسنان فيها، وقياس من أخذ بحديث التخميس في الخطأ وحديث التربيع في شبه العمد إن ثبت هذا. النوع الثالث أن يقول في دية العمد بالتثليث كما قد روي ذلك الشافعي، ومن لم يقل بالتثليث شبه العمد بما دونه. فهذا هو مشهور أقاويلهم في الدية التي تكون من الإبل على أهل الإبل. وأما أهل الذهب والورق فإنهم اختلفوا أيضا فيما يجب من ذلك عليهم؛ فقال مالك: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم؛ وقال أهل العراق: على أهل الورق عشرة آلاف درهم؛ وقال الشافعي بمصر: لا يؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت، وقوله بالعراق مثل قول مالك. وعمدة مالك تقويم عمر بن الخطاب المائة من الإبل على أهل الذهب بألف دينار، وعلى أهل الورق باثني عشر ألف درهم. وعمدة الحنفية ما رووا أيضا عن عمر أنه قوم الدينار بعشرة دراهم، وإجماعهم على تقويم المثقال بها في الزكاة. وأما الشافعي فيقول: إن الأصل في الدية إنما هو مائة بعير، وعمر إنما جعل فيها ألف دينار على أهل الذهب، واثني عشر ألف درهم على أهل الورق، لأن ذلك كان قيمة الإبل من الذهب والورق في زمانه، والحجة له ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال كانت الديات على عهد رسول الله ﷺ ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين. قال: فكان ذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر على أهل الورق اثني ألف درهم، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وترك دية أهل الذمة لم يرفع فيها شيئا. واحتج بعض الناس لمالك لأنه لو لو كان تقويم عمر بدلا لكان دينا بدين، لإجماعهم أن الدية في الخطأ مؤجلة لثلاث سنين؛ ومالك وأبو حنيفة وجماعة متفقون على أن الدية لا تؤخذ إلا من الإبل أو الذهب أو الورق. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والفقهاء السبعة المدنيون: يوضع على أهل الشاة ألفا شاة، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل البرود مائتا حلة، وعمدتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم، وما أسنده أبو بكر بن أبي شبية عن عطاء "أن رسول الله ﷺ وضع الدية على الناس في أموالهم ما كانت على أهل الإبل مائة بعير، وعلى أهل الشاة ألفا شاة، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل البرود مائتا حلة" وما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الأجناد أن الدية كانت على عهد رسول الله ﷺ مائة بعير. قال: فإن كان الذي أصابه من الأعراب فديته من الإبل لا يكلف الأعرابي الذهب ولا الورق، فإن لم يجد الأعرابي مائة من الإبل فعد لها من الشاة ألف شاة. ولأن أهل العراق أيضا رووا عن عمر مثل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نصا. وعمدة الفريق الأول أنه لو جاز أن تقوم بالشاة والبقر لجاز أن تقوم بالطعام على أهل الطعام، وبالخيل على أهل الخيل، وهذا لا يقول به أحد. والنظر في الدية كما قلت هو في نوعها، وفي مقدارها، وعلى من تجب، وفيما تجب، ومتى تجب؟. أما نوعها ومقدارها فقد تكلمنا فيه في الذكور الأحرار المسلمين. وأما على من تجب؟ فلا خلاف بينهم أن دية الخطأ تجب على العاقلة وأنه حكم مخصوص من عموم قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ومن قوله عليه الصلاة والسلام لأبي زمنة لولده "لا يجني عليك ولا تجني عليه". وأما دية العمد فجمهورهم على أنها ليست على العاقلة لما روي عن ابن عباس ولا مخالف له من الصحابة أنه قال: لا تحمل العاقلة عمدا ولا إعترافا ولا صلحا في عمد، وجمهورهم على أنها لا تحمل من أصاب نفسه خطأ؛ وشذ الأوزاعي فقال: من ذهب يضرب العدو فقتل نفسه فعلى عاقلته الدية، وكذلك عندهم في قطع الأعضاء. وروي عن عمر أن رجلا فقأ عين نفسه خطأ، فقضى له عمر بديتها على عاقلته. واختلفوا في دية شبه العمد، وفي الدية المغلظة على قولين: واختلفوا في دية ما جناه المجنون والصبي على من تجب؟ فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة إنه كله يحمل على العاقلة؛ وقال الشافعي عمد الصبي في ماله. وسبب اختلافهم تردد فعل الصبي بين العامد والمخطئ؛ فمن غلب عليه شبه العمد أوجب الدية في ماله؛ ومن غلب عليه شبه الخطأ أوجبها على العاقلة، وكذلك اختلفوا إذا اشترك في القتل عامد وصبي، والذين أوجبوا على العامد القصاص وعلى الصبي الدية اختلفوا على من تكون؟ فقال الشافعي: على أصله في مال الصبي؛ وقال مالك: على العاقلة؛ وأما أبو حنيفة فيرى أن لا قصاص بينهما. وأما متى تجب؟ فإنهم اتفقوا على أن دية الخطأ مؤجلة في ثلاث سنين، وأما دية العمد فحالة إلا أن يصطلحا على التأجيل. وأما من هم العاقلة، فإن جمهور العلماء من أهل الحجاز اتفقوا على أن العاقلة هي بالقرابة من قبل الأب، وهم العصبة دون أهل الديوان، وتحمل الموالي العقل عند جمهورهم إذا عجزت عنه العصبة، إلا داود فإنه لم ير الموالي عصبة، وليس فيما يجب على واحد واحد منهم حد عند مالك؛ وقال الشافعي: على الغني دينار وعلى الفقير نصف دينار، وهي عند الشافعي مرتبة على القرابة بحسب قربهم، فالأقرب من بني أبيه، ثم من بني جده، ثم من بني أبية؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: العاقلة هم أهل ديوانه إن كان من أهل ديوان. وعمدة أهل الحجاز أنه تعاقل الناس في زمان رسول الله ﷺ وفي زمان أبي بكر ولم يكن هناك ديوان؛ وإنما كان الديوان في زمن عمر بن الخطاب. واعتمد الكوفيون حديث جبير بن مطعم عن النبي ﷺ أنه قال "لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا قوة". وبالجملة فتمسكوا في ذلك بنحو تمسكهم في وجوب الولاء للحلفاء. واختلفوا في جناية من لا عصبة له ولا موالي وهم السائبة إذا جنوا خطأ هل يكون عليه عقل أم لا؟، وإن كان فعلى من يكون؟ فقال من لم يجعل لهم موالي: ليس على السائبة عقل، وكذلك من لم يجعل العقل على الموالي، وهو داود وأصحابه. وقال: من جعل ولاءه لمن أعتقه عليه عقله، وقال: من جعل ولاءه للمسلمين عقله في بيت المال، ومن قال إن للسائبة أن يوالي من شاء جعل عقله لمن ولاه، وكل هذه الأقاويل قد حكيت عن السلف. والديات تختلف بحسب اختلاف المودى فيه، والمؤثر في نقصان الدية هي الأنوثة والكفر والعبودية. أما دية المرأة فإنهم اتفقوا على أنها على النصف من دية الرجل في النفس فقط. واختلفوا فيما دون النفس من الشجاج والأعضاء على ما سيأتي القول فيه في ديات الجروح والأعضاء. وأما دية أهل الذمة إذا قتلوا خطأ، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها ديتهم على النصف من دية المسلم ذكرانهم على النصف من ذكران المسلمين، ونساؤهم على النصف من نسائهم، وبه قال مالك وعمر بن عبد العزيز، وعلى هذا تكون دية جراحهم على النصف من دية المسلمين. والقول الثاني أن ديتهم ثلث دية المسلم، وبه قال الشافعي، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان، وقال به جماعة من التابعين. والقول الثالث: أن ديتهم مثل دية المسلمين، وبه قال أبو حنيفة والثوري وجماعة، وهو مروي عن ابن مسعود، وقد روي عن عمر وعثمان، وقال به جماعة من التابعين. فعمدة الفريق الأول ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ أنه قال "دية الكافر على النصف من دية المسلم" وعمدة الحنفية عموم قوله تعالى {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} .ومن السنة ما رواه معمر عن الزهري قال: دية اليهودي والنصراني وكل ذمي مثل دية المسلم. قال: وكانت على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي حتى كان معاوية، فجعل في بيت المال نصفها، وأعطى أهل المقتول نصفها، ثم قضى عمر بن عبد العزيز بنصف الدية ألغى الذي جعله معاوية في بيت المال، قال الزهري: فلم يقض لي أن أذكر بذلك عمر بن عبد العزيز فأخبره أن الدية كانت تامة لأهل الذمة. (يتبع...) @(تابع... 1): -والأصل في هذا الباب قوله تعالى {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة... ... وأما إذا قتل العبد خطأ أو عمدا على من لا يرى القصاص فيه، فقال قوم: عليه قيمته بالغة ما بلغت وإن زادت على دية الحر، وبه قال مالك والشافعي وأبو يوسف، وهو قول سعيد ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يتجاوز بقيمة العبد الدية؛ وقالت طائفة من فقهاء الكوفة: فيه الدية، ولكن لا يبلغ به دية الحر ينقص منها شيئا. وعمدة الحنفية أن الرق حال نقص، فوجب أن لا تزيد قيمته على دية الحر. وعمدة من أوجب فيه الدية ولكن ناقصة عن دية الحر أنه مكلف ناقص، فوجب أن يكون الحكم ناقصا عن الحر لكن واحدا بالنوع أصله الحد في الزنى والقذف والخمر والطلاق، ولو قيل فيه إنها تكون على النصف من دية الحر لكان قولا له وجه: أعني في دية الخطأ، لكن لم يقل به أحد. وعمدة مالك أنه مال قد أتلف فوجب فيه القيمة، أصله سائر الأموال. واختلف في الواجب في العبد على من يجب؟ فقال أبو حنيفة: هو على عاقلة القاتل، وهو الأشهر عن الشافعي؛ وقال مالك: هو على القاتل نفسه. وعمدة مالك تشبيه العبد بالعروض. وعمدة الشافعي قياسه على الحر. ومما يدخل في هذا الباب من أنواع الخطأ دية الجنين، وذلك لأن سقوط الجنين عن الضرب ليس هو عمدا محضا، وإنما هو عمد في أمه خطأ فيه. والنظر في هذا الباب هو أيضا في الواجب في ضروب الأجنة وفي صفة الجنين الذي يجب فيه الواجب، وعلى من تجب، ولمن يجب، وفي شروط الوجوب. فأما الأجنة فإنهم اتفقوا على أن الواجب في جنين الحرة وجنين الأمة من سيدها هو غرة لما ثبت عنه ﷺ من حديث أبي هريرة وغيره "أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها" فقضى فيه رسول الله ﷺ بغرة عبد أو وليدة" واتفقوا على أن قيمة الغرة الواجبة في ذلك عند من رأى أن الغرة في ذلك محدودة بالقيمة وهو مذهب الجمهور هي نصف عشر دية أمه؛ إلا أن من رأى أن الدية الكاملة على أهل الدراهم هي عشرة آلاف درهم قال: دية الجنين خمسمائة درهم؛ ومن رأى أنها اثنا عشر ألف درهم قال: ستمائة درهم؛ والذين لم يحدوا في ذلك حدا أو لم يحدوها من جهة القيمة وأجازوا إخراج قيمتها عنها قالوا: الواجب في ذلك قيمة الغرة بالغة ما بلغت؛ وقال داود وأهل الظاهر: كل ما وقع عليه اسم غرة أجزأ، ولا يجزئ عنده القيمة في ذلك فيما أحسب. واختلفوا في الواجب في جنين الأمة وفي جنين الكتابية؛ فذهب مالك والشافعي إلى أن جنين الأمة عشر قيمة أمه ذكرا كان أو أنثى يوم يجنى عليه؛ وفرق قوم بين الذكر والأنثى، فقال قوم: إن كان أنثى فيه عشر قيمة أمه، وإن كان ذكرا فعشر قيمته لو كان حيا، وبه قال أبو حنيفة، ولا خلاف عندهم أن جنين الأمة إذا سقط حيا أن فيه قيمته؛ وقال أبو يوسف: في جنين الأمة إذا سقط ميتا منها ما نقص من قيمة أمه. وأما جنين الذمية، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: فيه عشر دية أمه، لكن أبو حنيفة على أصله في أن دية الذمي دية المسلم، والشافعي على أصله في أن دية الذمي ثلث دية المسلم، ومالك على أصله في أن دية الذمي نصف دية المسلم. وأما صفة الجنين الذي تجب فيه فإنهم اتفقوا على أن من شروطه أن يخرج الجنين ميتا ولا تموت أمه من الضرب. واختلفوا إذا ماتت أمه من الضرب ثم سقط الجنين ميتا، فقال مالك والشافعي: لا شيء فيه؛ وقال أشهب: فيه الغرة، وبه قال الليث وربيعة والزهري. واختلفوا من هذا الباب في فروع، وهي العلامة التي تدل على سقوطه حيا أو ميتا. فذهب مالك وأصحابه إلى أن علامة الحياة الاستهلال بالصياح أو البكاء؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأكثر الفقهاء: كل ما علمت به الحياة في العادة من حركة أو عطاس أو تنفس فأحكامه أحكام الحي، وهو الأظهر. واختلفوا من هذا الباب في الخلقة التي توجب الغرة، فقال مالك: كل ما طرحته من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الغرة، وقال الشافعي: لا شيء فيه حتى تستبين الخلقة. والأجود أن يعتبر نفخ الروح فيه، أعني أن يكون تجب فيه الغرة إذا علم أن الحياة قد كانت وجدت فيه. وأما على من تجب؟ فإنهم اختلفوا في ذلك؛ فقالت طائفة منهم مالك والحسن بن حي والحسن البصري: هي في مال الجاني؛ وقال آخرون: هي على العاقلة، وممن قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة. وعمدتهم أنها جناية خطأ فوجبت على العاقلة. وما روي أيضا عن جابر بن عبد الله "أن النبي ﷺ جعل في الجنين غرة على العاقلة الضارب وبدأ بزوجها وولدها". وأما مالك فشبهها بدية العمد إذا كان الضرب عمدا. وأما لمن تجب؟ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: هي لورثة الجنين، وحكمها حكم الدية في أنها موروثة؛ وقال ربيعة والليث: هي للأم خاصة، وذلك أنهم شبهوا جنينها بعضو من أعضائها، ومن الواجب الذي اختلفوا فيه في الجنين مع وجوب الغرة وجوب الكفارة، فذهب الشافعي إلى أن فيه الكفارة واجبة؛ وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس فيه كفارة واستحسنها مالك ولم يوجبها. فأما الشافعي فإنه أوجبها لأن الكفارة عنده واجبة في العمد والخطأ. وأما أبو حنيفة فإنه غلب عليه حكم العمد، والكفارة لا تجب عنده في العمد. وأما مالك فلما كانت الكفارة لا تجب عنده في العمد وتجب في الخطأ، وكان هذا مترددا عنده بين العمد والخطأ استحسن فيه الكفارة ولم يوجبها. ومن أنواع الخطأ المختلف فيه، اختلافهم في تضمين الراكب والسائق والقائد؛ فقال الجمهور: هم ضامنون لما أصابت الدابة، واحتجوا في ذلك بقضاء عمر على الذي أجرى فرسه فوطئ آخر بالعقل. وقال أهل الظاهر: لا ضمان على أحد في جرح العجماء، واعتمدوا الأثر الثابت فيه عنه ﷺ من حديث أبي هريرة أنه قال عليه الصلاة والسلام "جرح العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس" فحمل الجمهور الحديث على أنه لم يكن بالدابة راكب ولا سائق ولا قائد، لأنهم رأوا أنه إذا أصابت الدابة أحدا وعليها راكب أو لها قائد أو سائق، فإن الراكب لها أو السائق أو القائد هو المصيب ولكن خطأ. واختلف الجمهور فيما أصابت الدابة برجلها، فقال مالك: لا شيء فيه إن لم يفعل صاحب الدابة بالدابة شيئا يبعثها به على أن ترمح برجلها؛ وقال الشافعي: يضمن الراكب ما أصابت بيدها أو برجلها، وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى، وسويا بين الضمان برجلها أو بغير رجلها، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه استثنى الرمحة بالرجل أو بالذنب، وربما احتج من لم يضمن رجل الدابة بما روي عنه ﷺ "الرجل جبار" ولم يصح هذا الحديث عند الشافعي ورده. وأقاويل العلماء فيمن حفر بئرا فوقع فيه إنسان متقاربة؛ قال مالك: إن حفر في موضع جرت العادة الحفر في مثله لم يضمن وإن تعدى في الحفر ضمن؛ وقال الليث: إن حفر في أرض يملكها لم يضمن وإن حفر فيما لا يملك ضمن، فمن ضمن عنده فهو من نوع الخطأ. وكذلك اختلفوا في الدابة الموقوفة، فقال بعضهم: إن أوقفها بحيث يجب له أن يوقفها لم يضمن، وإن لم يفعل ضمن، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: يضمن على كل حال، وليس يبرئه أن يربطها بموضع يجوز له أن يربطها فيه، كما لا يبرئه ركوبها من ضمان ما أصابته وإن كان الركوب مباحا. واختلفوا في الفارسين يصطدمان فيموت كل واحد منهما؛ فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة: على كل واحد منهما دية الآخر وذلك على العاقلة؛ وقال الشافعي وعثمان البتي: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه، لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه. وأجمعوا على أن الطبيب إذا أخطأ لزمته الدية، مثل أن يقطع الحشفة في الختان، وما أشبه ذلك، لأنه في معنى الجاني خطأ؛ وعن مالك رواية: أنه ليس عليه شيء، وذلك عنده إذا كان من أهل الطب، ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن لأنه متعد، وقد ورد في ذلك مع الإجماع حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال "من تطبب ولم يعلم منه قبل ذلك الطب فهو ضامن" والدية فيما أخطأه الطبيب عند الجمهور على العاقلة، ومن أهل العلم من جعله في مال الطبيب، ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنها في ماله على ظاهر حديث عمرو بن شعيب. ولا خلاف بينهم أن الكفارة التي نص الله عليها في قتل الحر خطأ واجبة. واختلفوا في قتل العمد هل فيه كفارة؟ وفي قتل العبد خطأ، فأوجبها مالك في قتل الحر فقط في الخطأ دون العمد وأوجبها الشافعي في العمد من طريق الأولى والأحرى؛ وعند مالك أن العمد في هذا حكمه حكم الخطأ. واختلفوا في تغليظ الدية في الشهر الحرام وفي البلد الحرام؛ فقال مالك وأبو حنيفة وابن أبي ليلى: لا تغلظ الدية فيهما؛ وقال الشافعي: تغلظ فيهما في النفس وفي الجراح. وروي عن القاسم بن محمد وابن شهاب وغيرهم أنه يزاد فيها مثل ثلثها، وروي ذلك عن عمر، وكذلك عن الشافعي من قتل ذا رحم محرم. وعمدة مالك وأبي حنيفة عموم الظاهر في توقيت الديات، فمن ادعى في ذلك تخصيصا فعليه الدليل مع أنهم قد أجمعوا على أنه لا تغلظ الكفارة فيمن قتل فيهما. وعمدة الشافعي أن ذلك مروي عن عمر وعثمان وابن عباس، وإذا روي عن الصحابة شيء مخالف للقياس وجب حمله على التوقيف، ووجه مخالفته للقياس أن التغليظ فيما وقع خطأ بعيد عن أصوال الشرع، وللفريق الثاني أن يقول إنه قد ينقدح في ذلك قياس لما ثبت في الشرع من تعظيم الحرم واختصاصه بضمان الصيود فيه.
- 2*كتاب الديات فيما دون النفس.
@-والأشياء التي تجب فيها الدية فيما دون النفس هي شجاج وأعضاء، فلنبدأ بالقول في الشجاج، والنظر في هذا الباب في محل الوجوب وشرطه وقدره الواجب، وعلى من تجب؟ ومتى تجب؟ ولمن تجب؟ فأما محل الوجوب فهي الشجاج أو قطع الأعضاء، والشجاج عشرة في اللغة والفقه: أولها الدامية وهي التي تدمي الجلد، ثم الخارصة وهي التي تشق الجلد، ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم: أي تشقه، ثم المتلاحمة وهي التي أخذت في اللحم، ثم السمحاق وهي التي تبلغ السمحاق وهو الغشاء الرقيق بين اللحم والعظم ويقال لها: الملطاء بالمد والقصر، ثم الموضحة وهي التي توضح العظم: أي تكشفه، ثم الهاشمة وهي التي تهشم العظم، ثم المنقلة وهي التي يطير العظم منها، ثم المأمومة وهي التي تصل أم الدماغ، ثم الجائفة وهي التي تصل إلى الجوف، وأسماء هذه الشجاج مختصة بما وقع بالوجه منها والرأس دون سائر البدن، واسم الجرح يختص بما وقع في البدن، فهذه أسماء هذه الشجاج. فأما أحكامها أعني الواجب فيها، فاتفق العلماء على أن العقل واقع في عمد الموضحة وما دون الموضحة خطأ. واتفقوا على أنه ليس فيما دون الموضحة خطأ عقل، وإنما فيها حكومة، قال بعضهم: أجرة الطبيب، إلا ما روي عن عمر وعثمان أنهما قضيا في السمحاق بنصف دية الموضحة، وروي عن علي أنه قضى فيها بأربع من الإبل، وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة، والجمهور من فقهاء الأمصار على ما ذكرنا؛ وذلك أن الأصل في الجراح الحكومة إلا ما وقتت فيه السنة حدا؛ ومالك يعتبر في إلزام الحكومة فيما دون الموضحة أن تبرأ على شين، والغير من فقهاء الأمصار يلزم فيها الحكومة برئت على شين أو لم تبرأ فهذه هي أحكام ما دون الموضحة. فأما الموضحة فجميع الفقهاء على أن فيها إذا كانت خطأ خمسا من الإبل، وثبت ذلك عن رسول الله ﷺ في كتابه لعمرو بن حزم، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال "في الموضحة خمس" يعني من الإبل. واختلف العلماء في موضع الموضحة من الجسد بعد اتفاقهم على ما قلنا، أعني على وجوب القصاص في العمد ووجوب الدية في الخطأ منها، فقال مالك: لا تكون الموضحة إلا في جهة الرأس والجبهة والخدين واللحى الأعلى، ولا تكون في اللحى الأسفل لأنه في حكم العنق ولا في الأنف؛ وأما الشافعي وأبو حنيفة فالموضحة عندهما في جميع الوجه والرأس؛ والجمهور على أنها لا تكون في الجسد وقال الليث وطائفة: تكون في الجنب؛ وقال الأوزاعي: إذا كانت في الجسد كانت من دينها في الوجه والرأس. وروي عن عمر أنه قال: في موضحة الجسد نصف عشر دية ذلك العضو. وغلظ بعض العلماء في موضحة الوجه تبرأ على شين، فرأى فيها مثل نصف عقلها زائدا على عقلها، وروى ذلك مالك عن سليمان بن يسار، واضطرب قول مالك في ذلك، فمرة قال بقول سليمان بن يسار، ومرة قال: لا يزاد فيها على عقلها شيء، وبه قال الجمهور؛ وقد قيل عن مالك إنه قال: إذا شانت الوجه كان فيها حكومة من غير توقيف، ومعنى الحكومة عند مالك ما نقص من قيمته أن لو كان عمدا. وأما الهاشمة ففيها عند الجمهور عشر الدية، وروي ذلك عن زيد بن ثابت، ولا مخالف له من الصحابة ؛وقال بعض العلماء: الهاشمة هي المنقلة وشذ. وأما المنقلة فلا خلاف أن فيها عشر الدية ونصف العشر إذا كانت خطأ، فأما إذا كانت عمدا، فجمهور العلماء على أن ليس فيها قود لمكان الخوف. وحكي عن ابن الزبير أنه أقاد منها ومن المأمومة. وأما الهاشمة في العمد. فروى ابن القاسم عن مالك أنه ليس فيها قود. ومن أجاز القود من المنقلة كان أحرى أن يجيز ذلك من الهاشمة. وأما المأمومة فلا خلاف أنه لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية إلا ما حكي عن ابن الزبير. وأما الجائفة فاتفقوا على أنها من جراح الجسد لا من جراح الرأس وأنها لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية وأنها جائفة متى وقعت في الظهر والبطن. واختلفوا إذا وقعت في غير ذلك من الأعضاء فنفذت إلى تجويفه، فحكى مالك عن سعيد بن المسيب أن في كل جراحة نافذة إلى تجويف عضو من الأعضاء - أي عضو كان - ثلث دية ذلك العضو. وحكى ابن شهاب أنه كان لا يرى ذلك وهو الذي اختاره مالك لأن القياس عنده في هذا لا يسوغ؛ وإنما سنده في ذلك الاجتهاد من غير توقيف وأما سعيد فإنه قاس ذلك على الجائفة على نحو ما روي عن عمر في موضحة الجسد. وأما الجراحات التي تقع في سائر الجسد فليس في الخطأ منها إلا الحكومة.
- 3*القول في ديات الأعضاء.
@-والأصل فيما فيه من الأعضاء إذا قطع خطأ مال محدود، وهو الذي يسمى دية، وكذلك من الجراحات والنفوس حديث عمرو بن حزم عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ لعمرو بن حزم في العقول "إن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا استوعب جدعا مائة من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثلها وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي كل أصبع مما هناك عشر من الإبل، وفي السن والموضحة خمس" وكل هذا مجمع عليه إلا السن والإبهام، فإنهم اختلفوا فيها على ما سنذكره، ومنها ما اتفقوا عليه مما لم يذكر ههنا قياسا على ما نذكر فنقول: إن العلماء أجمعوا على أن في الشفتين الدية كاملة، والجمهور على أن في كل واحدة منهما نصف الدية؛ وروي عن قوم من التابعين أن في السفلى ثلثي الدية لأنها تحبس الطعام والشراب، وبالجملة فإن حركتها والمنفعة بها أعظم من حركة الشفة العليا، وهو مذهب زيد بن ثابت. وبالجملة فجماعة العلماء وأئمة الفتوي متفقون على أن في كل زوج من الإنسان الدية ما خلا الحاجبين وثديي الرجل. واختلفوا في الأذنين متى تكون فيهما الدية؟ فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والليث: إذا اصطلمتا كان فيهما الدية، ولم يشترطوا إذهاب السمع، بل جعلوا في ذهاب السمع الدية مفردة. وأما مالك فالمشهور عنده أنه لا تجب في الأذنين الدية إلا إذا ذهب سمعهما، فإن لم يذهب ففيه حكومة. وروي عن أبي بكر أنه قضى في الأذنين بخمس عشرة من الإبل وقال: إنهما لا يضران السمع ويسترهما الشعر أو العمامة. وروي عن عمر وعلي وزيد أنهم قضوا في الأذن إذا اصطلمت نصف الدية. وأما الجمهور من العلماء فلا خلاف عندهم أن في ذهاب السمع الدية. وأما الحاجبان ففيهما عند مالك والشافعي حكومة؛ وقال أبو حنيفة: فيهما الدية، وكذلك في أشفار العين؛ وليس عند مالك في ذلك إلا حكومة. وعمدة الحنفية ما روي عن ابن مسعود أنه قال: في كل اثنين من الإنسان الدية وتشبيههما بما أجمعوا عليه من الأعضاء المثناة. وعمدة مالك أنه لا مجال فيه للقياس وإنما طريقه التوقيف، فما لم يثبت من قبل السماع فيه دية فالأصل أن فيه حكومة، وأيضا فإن الحواجب ليست أعضاء لها منفعة ولا فعل بين، أعني ضروريا في الخلقة. وأما الأجفان فقيل في كل جفن منها ربع الدية، وبه قال الشافعي والكوفي، لأنه لا بقاء للعين دون الأجفان، وفي الجفنين الأسفلين عند غيرهما الثلث وفي الأعليين الثلثان. وأجمعوا على أن من أصيب من أطرافه أكثر من ديته أن له ذلك، مثل أن تصاب عيناه وأنفه فله ديتان. وأما الأنثيان فأجمعوا أيضا على أن فيهما الدية، وقال جميعهم: إن في كل واحدة منهما نصف الدية، إلا ما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: في البيضة اليسرى ثلثا الدية لأن الولد يكون منها وفي اليمنى ثلث الدية، فهذه مسائل الأعضاء المزدوجة. وأما المفردة فإن جمهورهم على أن في اللسان خطأ الدية، وذلك مروي عن النبي ﷺ، وذلك إذا قطع كله أو قطع منه ما يمنع الكلام، فإن لم يقطع منه ما منع الكلام ففيه حكومة. واختلفوا في القصاص فيه عمدا؛ فمنهم من لم ير فيه قصاصا وأوجب الدية، وهم مالك والشافعي والكوفي، لكن الشافعي يرى الدية في مال الجاني، والكوفي ومالك على العاقلة؛ وقال الليث وغيره: في اللسان عمدا القصاص. وأما الأنف فأجمعوا على أنه إذا أوعب جدعا على أن فيه الدية على ما في الحديث وسواء عند مالك ذهب الشم أو لم يذهب، وعنده أنه إذا ذهب أحدهما ففيه الدية، وفي ذهاب أحدهما بعد الآخر الدية الكاملة. وأجمعوا على أن في الذكر الصحيح الذي يكون به الوطء الدية كاملة. واختلفوا في ذكر العنين والخصي، كما اختلفوا في لسان الأخرس وفي اليد الشلاء؛ فمنهم من جعل فيها الدية؛ ومنهم من جعل فيها حكومة؛ ومنهم من قال: في ذكر الخصي والعنين ثلث الدية؛ والذي عليه الجمهور أن فيه حكومة. وأقل ما تجب فيه الدية عند مالك قطع الحشفة؛ ثم في باقي الذكر حكومة وأما عين الأعور فللعلماء فيه قولان أحدهما أن فيه الدية كاملة، وإليه ذهب مالك وجماعة من أهل المدينة، وبه قال الليث، وقضى به عمر بن عبد العزيز وهو قول ابن عمر؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: فيها نصف الدية كما في عين الصحيح وهو مروي عن جماعة من التابعين. وعمدة الفريق الأول أن العين الواحدة للأعور بمنزلة العينين جميعا لغير الأعور. وعمدة الفريق الثاني حديث عمرو ابن حزم: أعني عموم قوله "وفي العين نصف الدية، وقياسا أيضا على إجماعهم أنه ليس على من قطع يد من له يد واحدة إلا نصف الدية. فسبب اختلافهم في هذا معارضة العموم للقياس، ومعارضة القياس للقياس ومن أحسن ما قيل فيمن ضرب عين رجل فأذهب بعض بصرها ما روي من ذلك عن علي رضي الله عنه أنه أمر بالذي أصيب بصره بأن عصبت عينه الصحيحة، وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى لم يبصرها، فخط عند أول ذلك خطا في الأرض ثم أمر بعينه المصابة فعصبت وفتحت الصحيحة، وأعطى رجلا البيضة بعينها فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى خفيت عنه، فخط أيضا عند أول ما خفيت عنه في الأرض خطا، ثم علم ما بين الخطين من المسافة، وعلم مقدار ذلك من منتهى رؤية العين الصحيحة، فأعطاه قدر ذلك من الدية. ويختبر صدقه في مسافة إدراك العين العليلة والصحيحة بأن يختبر ذلك منه مرارا شتى في مواضع مختلفة، فإن خرجت مسافة تلك المواضع التي ذكر واحدة علمنا أنه صادق. واختلف العلماء في الجناية على العين القائمة الشكل التي ذهب بصرها؛ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: فيها حكومة؛ وقال زيد بن ثابت: فيها عشر الدية مائة دينار؛ وحمل ذلك الشافعي على أنه كان ذلك من زيد تقويما لا تقويتا. وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس أنهما قضيا في العين القائمة الشكل واليد الشلاء والسن السوداء في كل واحدة منهما ثلث الدية. وقال مالك: تتم دية السن باسودادها ثم في قلعها بعد اسودادها دية. واختلف العلماء في الأعور يفقأ عين الصحيح عمدا؛ فقال الجمهور: فله القود، وإن عفا فله الدية، وقال قوم: كاملة؛ وقال قوم: نصفها، وبه قال الشافعي وابن القاسم، وبكلا القولين قال مالك، وبالدية كاملة قال المغيرة من أصحابه وابن دينار. وقال الكوفيون: ليس للصحيح الذي فقئت عينه إلا القود أو ما اصطلحوا عليه. وعمدة من رأى جميع الدية عليه إذا عفا عن القود أنه يجب عليه دية ما ترك له وهي العين العوراء، وهي دية كاملة عند كثير من أهل العلم. ومذهب عمر وعثمان وابن عمر أن عين الأعور إذا فقئت وجب فيها ألف دينار، لأنها في حقه في معنى العينين كليتهما إلا العين الواحدة، فإذا تركها له وجبت عليه ديتها. وعمدة أولئك البقاء على الأصل؛ أعني أن في العين الواحدة نصف الدية. وعمدة أبي حنيفة أن العمد ليس فيه دية محدودة، وهذه المسألة قد ذكرت في باب القود في الجراح. وقال جمهور العلماء وأئمة الفتوى: مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وغيرهم: إن في كل أصبع عشرا من الإبل وإن الأصابع في ذلك سواء وإن في كل أنملة ثلث العشر إلا ماله من الأصابع أنملتان كالإبهام؛ ففي أنملته خمس من الإبل، وعمدتهم في ذلك ما جاء في حديث عمرو بن حزم أن رسول الله ﷺ: "قال وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل" وخرج عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله ﷺ قضى في الأصابع بعشر العشر" وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وهي عندهم على أهل الورق بحسب ما يرى واحد واحد منهم في الدية من الورق، فهي عند من يرى أنها اثنا عشر ألف درهم عشرها، وعند من يرى أنها عشرة آلاف عشرها. وروي عن السلف المتقدم اختلاف في عقل الأصابع، فروي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في الإبهام والتي تليها بعقل نصف الدية، وفي الوسطى بعشر فرائض، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بست. وروي عن مجاهد أنه قال في الإبهام خمسة عشر من الإبل، وفي التي تليها عشر، وفي الوسطى عشر، وفي التي تليها ثمان، وفي الخنصر سبع وأما الترقوة والضلع، ففيهما عند جمهور فقهاء الأمصار حكومة، وروي عن بعض السلف فيها توقيت. وروي عن مالك أن عمر بن الخطاب قضى في الضرس بجمل، والضلع بجمل، وفي الترقوة بجمل. وقال سعيد بن جبير في الترقوة بعيران. وقال قتادة: أربعة أبعرة. وعمدة فقهاء الأمصار أن ما لم يثبت فيه عن النبي ﷺ توقيت فليس فيه إلا حكومة. وجمهور فقهاء الأمصار على أن في كل سن من أسنان الفم خمسا من الإبل، وبه قال ابن عباس. وروى مالك عن عمر أنه قضى في الضرس بجمل وذلك فيما لم يكن منها في مقدم الفم. وأما التي في مقدم الفم فلا خلاف أن فيها خمسا من الإبل. وقال سعيد بن المسيب: في الأضراس بعيران. وروي عن عبد الملك بن مروان أن مروان بن الحكم اعترض في ذلك على ابن عباس فقال: أتجعل مقدم الأسنان مثل الأضراس؟ فقال ابن عباس: لو لم يعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء، وعمدة الجمهور في مثل ذلك ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "في السن خمس" وذلك من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، واسم السن ينطلق على التي في مقدم الفم ومؤخره، وتشبيهها أيضا بالأصابع التي استوت ديتها وإن اختلفت منافعها. وعمدة من خالف بينهما أن الشرع يوجد فيه تفاضل الديات لتفاضل الأعضاء مع أنه يشبه أن يكون من صار إلى ذلك من الصدر الأول إنما صار إليه عن توقيف، وجميع هذه الأعضاء التي تثبت الدية فيها خطأ فيها القود في قطع ما قطع وقلع ما قلع. واختلفوا في كسر ما كسر منها مثل الساق والذراع هل فيه قود أم لا؟ فذهب مالك وأصحابه إلى أن القود في كسر جميع العظام إلا الفخذ والصلب، وقال الشافعي والليث: لا قصاص في عظم من العظام يكسر، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه استثنى السن. وروي عن ابن عباس أنه لا قصاص في عظم، وكذلك عن عمر. قال أبو عمر بن عبد البر: ثبت أن النبي ﷺ أقاد في السن المكسورة من حديث أنس قال: وقد روي من حديث آخر أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقدر من العظم المقطوع في غير المفصل إلا أنه ليس بالقوي. وروي عن مالك أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أقاد من كسر الفخذ. واتفقوا على أن دية المرأة نصف دية الرجل في النفس. واختلفوا في ديات الشجاج وأعضائها؛ فقال جمهور فقهاء المدينة: تساوي المرأة الرجل في عقلها من الشجاج والأعضاء إلى أن تبلغ ثلث الدية، فإذا بلغت ثلث الدية عادت ديتها إلى النصف من دية الرجل، أعني دية أعضائها من أعضائه، مثال ذلك أن في كل أصبع من أصابعها عشرا من الإبل، وفي اثنين منها عشرون، وفي ثلاثة ثلاثون، وفي أربعة عشرون، وبه قال مالك وأصحابه والليث بن سعد، ورواه مالك عن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير، وهو قول زيد بن ثابت ومذهب عمر بن عبد العزيز؛ وقالت طائفة: بل دية جراحة المرأة مثل دية جراحة الرجل إلى الموضحة، ثم تكون ديتها على النصف من دية الرجل وهو الأشهر من قولي ابن مسعود، وهو مروي عن عثمان، وبه قال شريح وجماعة؛ وقال قوم: بل دية المرأة في جراحها وأطرافها على النصف من دية الرجل في قليل ذلك وكثيره، وهو قول علي رضي الله عنه، وروي ذلك عن ابن مسعود، إلا أن الأشهر عنه ما ذكرناه أولا، وبهذا القول قال أبو حنيفة والشافعي والثوري. وعمدة قائل هذا القول أن الأصل هو أن دية المرأة نصف دية الرجل فواجب التمسك بهذا الأصل حتى يأتي دليل من السماع الثابت، إذ القياس في الديات لا يجوز وبخاصة لكون القول بالفرق بين القليل والكثير مخالفا للقياس ولذلك قال ربيعة لسعيد ما يأتي ذكره عنه، ولا اعتماد للطائفة الأولى إلا مراسيل، وما روي عن سعيد بن المسيب حين سأله ربيعة بن أبي عبد الرحمن كم في أربع من أصابعها؟ قال عشرون، قلت حين عظم جرحها واشتدت بليتها نقص عقلها، قال: أعراقي أنت؟ قلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم، قال: هي السنة. وروي أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام من مرسل عمرو ابن شعيب عن أبيه وعكرمة. وقد رأى قوم أن قول الصحابي إذا خالف القياس وجب العمل به، لأنه يعلم أنه لم يترك القول به إلا عن توقيف، لكن في هذا ضعف إذ كان يمكن أن يترك القول به إما لأنه لا يرى القياس، وإما لأنه عارضه في ذلك قياس ثان أو قلد في ذلك غيره. فهذه حال ديات جراح الأحرار والجنايات على أعضائها الذكور منها والإناث. وأما جراح العبيد وقطع أعضائهم، فإن العلماء اختلفوا فيها على قولين: فمنهم من رأى أن في جراحهم وقطع أعضائهم ما نقص من ثمن العبد؛ ومنهم من رأى أن الواجب في ذلك من قيمته قدر ما في ذلك الجراح من ديته، فيكون في موضحته نصف عشر قيمته، وفي عينه نصف قيمته، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وهو قول عمر وعلي؛ وقال مالك: يعتبر في ذلك كله ما نقص من ثمنه إلا موضحته ومنقلته ومأمومته، ففيها من ثمنه قدر ما فيها في الحر من ديته. وعمدة الفريق الأول تشبيهه بالعروض. وعمدة الفريق الثاني تشبيهه بالحر إذ هو مسلم ومكلف ولا خلاف بينهم أن دية الخطأ من هذه إذا جاوزت الثلث على العاقلة. واختلف فيما دون ذلك، فقال مالك وفقهاء المدينة السبعة وجماعة: إن العاقلة لا تحمل من ذلك إلا الثلث فما زاد؛ وقال أبو حنيفة: تحمل من ذلك العشر فما فوقه من الدية الكاملة؛ وقال الثوري وابن شبرمة: الموضحة فما زاد على العاقلة وقال الشافعي وعثمان البتي: تحمل العاقلة القليل والكثير من دية الخطأ. وعمدة الشافعي هي أن الأصل هو أن العاقلة هي التي تحمل دية الخطأ فمن خصص من ذلك شيئا فعليه الدليل، ولا عمدة للفريق المتقدم إلا أن ذلك معمول به ومشهور، وهنا انقضى هذا الكتاب والحمد لله حق حمده. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب القسامة.
@-اختلف العلماء في القسامة في أربعة مواضع تجري مجرى الأصول لفروع هذا الباب: المسألة الأولى: هل يجب الحكم بالقسامة أم لا؟. الثانية؛ إذا قلنا بوجوبها هل يجب بها الدم أو الفدية أو دفع مجرد الدعوى. المسألة الثالثة: هل يبدأ بالأيمان فيها المدعون أو المدعى عليهم، وكم عدد الحالفين من الأولياء؟ المسألة الرابعة: فيما يعد لوثا يجب به أن يبدأ المدعون بالأيمان. @-(المسألة الأولى) أما وجوب الحكم بها على الجملة فقال به جمهور فقهاء الأمصار: مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وسفيان وداود وأصحابهم وغير ذلك من فقهاء الأمصار؛ وقالت طائفة من العلماء سالم بن عبد الله وأبو قلابة وعمر بن عبد العزيز وابن علية: لا يجوز الحكم بها. عمدة الجمهور ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث حويصة ومحيصة وهو حديث متفق على صحته من أهل الحديث، إلا أنهم مختلفون في ألفاظه على ما سيأتي بعد. وعمدة الفريق النافي لوجوب الحكم بها أن القسامة مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها: فمنها أن الأصل في الشرع أن لا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا أو شاهد حسا، وإذا كان ذلك كذلك، فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل بل قد يكونون في بلد والقتل في بلد آخر، ولذلك روى البخاري عن أبي قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه فقال: ما تقولون في القسامة؟ فأضب القوم وقالوا: نقول أن القسامة القود بها حق قد أقاد بها الخلفاء، وقال ما تقول يا أبا قلابة ونصبني للناس، فقلت: يا أمير المؤمنين عندك أشراف العرب ورؤساء الأجناد، أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه زنى بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا عندك على رجل أنه سرق بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟ قال: لا. وفي بعض الروايات: قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أقدت بشهادتهم؟ قال: فكتب عمر بن عبد العزيز في القسامة: إنهم إن أقاموا شاهدي عدل أن فلانا قتله فأقده، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا. قالوا: ومنها أن من الأصول أن الأيمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء. ومنها أن من الأصول "أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" ومن حجتهم أنهم لم يروا في تلك الأحاديث أن رسول الله ﷺ حكم بالقسامة وإنما كانت حكما جاهليا فتلطف لهم رسول الله ﷺ ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام، ولذلك قال لهم: أتحلفون خمسين يمينا: أعني لولاة الدم وهم الأنصار؟ قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد؟ قال: فيحلف لكم اليهود، قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشهدوا لقال لهم رسول الله ﷺ هي السنة. قال: وإذا كانت هذه الآثار غير نص في القضاء بالقسامة والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى. وأما القائلون بها وبخاصة مالك فرأى أن سنة القسامة سنة منفردة بنفسها مخصصة للأصول كسائر السنن المخصصة، وزعم أن العلة في ذلك حوطة الدماء، وذلك أن القتل لما كان يكثر وكان يقل قيام الشهادة عليه لكون القاتل إنما يتحرى بالقتل مواضع الخلوات جعلت هذه السنة حفظا للدماء، لكن هذه العلة تدخل عليه في قطاع الطريق والسراق، ذلك أن السارق تعسر الشهادة عليه، وكذلك قاطع الطريق، فلهذا أجاز مالك شهادة المسلوبين على السالبين مع مخالفة ذلك للأصول، وذلك أن المسلوبين مدعون على سلبهم والله أعلم. @-(المسألة الثانية) اختلف العلماء القائلون بالقسامة فيما يجب بها، فقال مالك وأحمد يستحق بها الدم في العمد والدية في الخطأ؛ وقال الشافعي والثوري وجماعة: تستحق بها الدية فقط؛ وقال بعض الكوفيين: لا يستحق بها إلا دفع الدعوى على الأصل في أن اليمين إنما تجب على المدعى عليه؛ وقال بعضهم: بل يحلف المدعى عليه ويغرم الدية، فعلى هذا إنما يستحق منها دفع القود فقط، فيكون فيها يستحق المقسمون أربعة أقوال. فعمدة مالك ومن قال بقوله ما رواه من حديث ابن أبي ليلى عن سهل بن أبي حثمة وفيه فقال لهم رسول الله ﷺ "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم" وكذلك ما رواه من مرسل بشير بن بشار وفيه: فقال رسول الله ﷺ "أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم". وأما عمدة من أوجب بها الدية فقط، فهو أن الأيمان يوجد لها تأثير في استحقاق الأموال أعني في الشرع مثل ما ثبت من الحكم في الأموال باليمين والشاهد، ومثل ما يجب المال بنكول المدعى عليه أو بالنكول وقلبها على المدعي عند من يقول بقلب اليمين مع النكول مع أن حديث مالك عن ابن أبي ليلى ضعيف لأنه رجل مجهول لم يروا عنه غير مالك. وقيل فيه أيضا أنه لم يسمع من سهل. وحديث بشير ابن بشار قد اختلف في إسناده، فأرسله مالك وأسنده غيره. قال القاضي: يشبه أن تكون هذه العلة هي السبب في أن لم يخرج البخاري هذيين الحديثين، واعتضد عندهم القياس في ذلك بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا قود بالقسامة، ولكن يستحق بها الدية. وأما الذين قالوا إنما يستحق بها دفع الدعوى فقط، فعمدتهم أن الأصل هو أن الأيمان على المدعى عليه، والأحاديث التي نذكرها فيما بعد إن شاء الله. @-(المسألة الثالثة) واختلف القائلون بالقسامة، أعني الذين قالوا إنها يستوجب بها مال أو دم فيمن يبدأ بالأيمان الخمسين على ما ورد في الآثار؛ فقال الشافعي وأحمد وداود بن علي وغيرهم: يبدأ المدعون؛ وقال فقهاء الكوفة والبصرة وكثير من أهل المدينة: بل يبدأ المدعى عليهم بالأيمان وعمدة من بدأ بالمدعين حديث مالك عن ابن أبي ليلى عن سهل بن أبي حثمة ومرسله عن بشير بن يسار. وعمدة من رأى التبدئة بالمدعى عليهم ما خرجه البخاري عن سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن حثمة وفيه "فقال رسول الله ﷺ: تأتون بالبينة على من قتله" قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون لكم، قالوا: ما نرضى بأيمان يهود، وكره رسول الله ﷺ أن يبطل دمه، فواداه بمائة بعير من إبل الصدقة" قال القاضي: وهذا نص في أنه لا يستوجب بالأيمان الخمسين إلا دفع الدعوى فقط. واحتجوا أيضا بما خرجه أبو داود أيضا عن أبي سلمة بن أبي عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجال من كبراء الأنصار "أن رسول الله ﷺ قال ليهود وبدأ بهم: أيحلف منكم خمسون رجلا خمسين يمينا؟ فأبوا، فقال للأنصار: احلفوا، فقالوا: أنحلف على الغيب يا رسول الله؟ فجعلها رسول الله ﷺ دية على يهود" لأنه وجد بين أظهرهم، وبهذا تمسك من جعل اليمين في حق المدعى عليه وألزمهم الغرم مع ذلك، وهو حديث صحيح الإسناد، لأنه رواه الثقات عن الزهري عن أبي سلمة، وروى الكوفيون ذلك عن عمر، أعني أنه قضى على المدعى عليهم باليمين والدية. وخرج مثله أيضا من تبدئة اليهود بالأيمان عن رافع بن خديج، واحتج هؤلاء القوم على مالك بما روي عن ابن شهاب الزهري عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للجهني الذي ادعى دم وليه على رجل من بني سعد وكان أجرى فرسه فوطئ على أصبع الجهني فترى فيها فمات، فقال عمر للذي ادعى عليهم: أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها؟ فأبوا أن يحلفوا وتحرجوا، فقال للمدعين: احلفوا، فأبوا فقضى عليهم بشطر الدية. قالوا: وأحاديثنا هذه أولى من التي روي فيها تبدئة المدعين بالأيمان، لأن الأصل شاهد لأحاديثنا من أن اليمين على المدعى عليه. قال أبو عمر: والأحاديث المتعارضة في ذلك مشهورة. @-(المسألة الرابعة) وهي موجب القسامة عند القائلين بها، أجمع جمهور العلماء القائلون بها أنها لا تجب إلا بشبهة. واختلفوا في الشبهة ما هي؟ فقال الشافعي: إذا كانت الشبهة في معنى الشبهة التي قضى بها رسول الله ﷺ بالقسامة وهو أن يوجد قتيل في محلة قوم لا يخالطهم غيرهم، وبين أولئك القوم، وبين قوم المقتول عداوة كما كانت العداوة بين الأنصار واليهود، وكانت خيبر دار اليهود مختصة بهم، ووجد فيها القتيل من الأنصار، قال: وكذلك لو وجد في ناحية قتيل وإلى جانبه رجل مختضب بالدم، وكذلك لو دخل على نفر في بيت فوجد بينهم قتيلا وما أشبه هذه الشبه مما يغلب على ظن الحكام أن المدعي محق لقيام تلك الشبهة؛ وقال مالك بنحو من هذا، أعني إن القسامة لا تجب إلا بلوث والشاهد الواحد عنده إذا كان عدلا لوث باتفاق عند أصحابه، واختلفوا إذا لم يكن عدلا. وكذلك وافق الشافعي في قرينة الحال المخيلة مثل أن يوجد قتيل متشحطا بدمه وبقربه إنسان بيده حديدة مدماة، إلا أن مالكا يرى أن وجود القتيل في المحلة ليس لوثا، وإن كانت هنالك عداوة بين القوم الذين منهم القتيل وبين أهل المحلة، وإذا كان ذلك كذلك لم يبق ههنا شيء يجب أن يكون أصلا لاشتراط اللوث في وجوبها، ولذلك لم يقل بها قوم؛ وقال أبو حنيفة وصاحباه: إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر وجبت القسامة على أهل المحلة؛ ومن أهل العلم من أوجب القسامة بنفس وجود القتيل في المحلة دون سائر الشرائط التي اشترط الشافعي، ودون وجود الأثر بالقتيل الذي اشترطه أبو حنيفة، وهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود، وقال به الزهري وجماعة من التابعين وهو مذهب ابن حزم قال: القسامة تجب متى وجد قتيل لا يعرف من قتله أينما وجد، فادعى ولاة الدم على رجل وحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن هم حلفوا على العمد فالقود وإن حلفوا على الخطأ فالدية، وليس يحلف عنده أقل من خمسين رجلا، وعند مالك رجلان فصاعدا من أولئك. وقال داود: لا أقضي بالقسامة إلا في مثل السبب الذي قضى به رسول الله ﷺ. وانفرد مالك والليث من بين فقهاء الأمصار القائلين بالقسامة، فجعلا قول المقتول فلان قتلني لوثا يوجب القسامة، وكل قال بما غلب على ظنه أنه شبهة يوجب القسامة ولمكان الشبهة رأى تبدئة المدعين بالأيمان من رأى ذلك منهم، فإن الشبه عند مالك تنقل اليمين من المدعى عليه إلى المدعي، إذ سبب تعليق الشرع عنده اليمين بالمدعى عليه، إنما هو لقوة شبهته فيما ينفيه عن نفسه، وكأنه شبه ذلك اليمين مع الشاهد في الأموال. وأما القول بأن نفس الدعوى شبهة فضعيف ومفارق للأصول والنص لقوله عليه الصلاة والسلام "لو يعطى الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" وهو حديث ثابت من حديث ابن عباس، وخرجه مسلم في صحيحه، وما احتجت به المالكية من قصة بقرة بني إسرائيل فضعيف، لأن التصديق هنالك أسند إلى الفعل الخارق للعادة. واختلف الذين أوجبوا القود بالقسامة هل يقتل بها أكثر من واحد؟ فقال مالك: لا تكون القسامة إلا على واحد، وبه قال أحمد بن حنبل؛ وقال أشهب: يقسم على الجماعة ويقتل منها واحد يعينه الأولياء، وهو ضعيف؛ وقال المغيرة المخزومي: كل من أقسم عليه قتل؛ وقال مالك والليث: إذا شهد اثنان عدلان أن إنسانا ضرب آخر وبقي المضروب أياما بعد الضرب ثم مات أقسم أولياء المضروب إنه مات من ذلك الضرب وقيد به، وهذا كله ضعيف. واختلفوا في القسامة في العبد، فبعض أثبتها، وبه قال أبو حنيفة تشبيها بالحر، وبعض نفاها تشبيها بالبهيمة، وبها قال مالك، والدية عندهم فيها في مال القاتل، ولا يحلف فيها أقل من خمسين رجلا خمسين يمينا عند مالك، ولا يحلف عنده أقل من اثنين في الدم ويحلف الواحد في الخطأ، وإن نكل عنده أحد من ولاة الدم بطل القود وصحت الدية في حق من لم ينكل، أعني حظه منها. وقال الزهري: إن نكل منهم أحد بطلت الدية في حق الجميع، وفروع هذا الباب كثيرة. قال القاضي: والقول في القسامة هو داخل فيما ثبتت به الدماء، وهو في الحقيقة جزء من كتاب الأقضية، ولكن ذكرناه هنا على عادتهم، وذلك أنه إذا ورد قضاء خاص بجنس من أجناس الأمور الشرعية رأوا أن الأولى أن يذكر في ذلك الجنس. وأما القضاء الذي يعم أكثر من واحد من أجناس الأشياء التي يقع فيها القضاء فيذكر في كتاب الأقضية، وقد تجدهم يفعلون الأمرين جميعا كما فعل مالك في الموطأ، فإنه ساق فيه الأقضية من كل كتاب. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب في أحكام الزنى
@-والنظر في أصول هذا الكتاب في حد الزنا، وفي أصناف الزناة، وفي العقوبات لكل صنف صنف منهم، وفيما تثبت به هذه الفاحشة.
- 3*الباب الأول في حد الزنى.
@-فأما الزنى فهو كل وطء وقع على غير نكاح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين، وهذا متفق عليه بالجملة من علماء الإسلام، وإن كانوا اختلفوا فيما هو شبهة تدرأ الحدود مما ليس بشبهة دارئة، وفي ذلك مسائل نذكر منها أشهرها، فمنها الأمة يقع عليها الرجل وله فيها شرك، فقال مالك: يدرأ عنه الحد وإن ولدت ألحق الولد به وقومت عليه، وبه قال أبو حنيفة وقال بعضهم يعزر؛ وقال أبو ثور: عليه الحد كاملا إذا علم الحرمة. وحجة الجماعة قوله عليه الصلاة والسلام "ادرءوا الحدود بالشبهات" والذين درءوا الحدود اختلفوا هل يلزمه من صداق المثل بقدر نصيبه أم لا يلزم. وسبب الخلاف: هل ذلك الذي يغلب منها حكمه على الجزء الذي لا يملك أم حكم الذي لا يملك يغلب على حكم الذي يملك؟ فإن حكم ما ملك الحلية، وحكم ما لم يملك الحرمية. ومنها اختلافهم في الرجل المجاهد يطأ جارية من المغنم، فقال قوم: عليه الحد؛ ودرأ قوم عنه الحد وهو أشبه. والسبب في هذه وفي التي قبلها واحد، والله أعلم. ومنها أن يحل رجل لرجل وطء خادمه، فقال مالك: يدرأ عنه الحد؛ وقال غيره: يعزر؛ وقال بعض الناس: بل هي هبة مقبوضة والرقبة تابعة للفرج. ومنها الرجل يقع على جارية ابنه أو ابنته، فقال الجمهور: لا حد عليه لقوله عليه الصلاة والسلام لرجل خاطبه: "أنت ومالك لأبيك" ولقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقاد الوالد بالولد" ولإجماعهم على أنه لا يقطع فيما سرق من مال ولده، ولذلك قالوا: تقوم عليه حملت أم لم تحمل لأنها قد حرمت على ابنه فكأنه استهلكها. ومن الحجة لهم أيضا إجماعهم على أن الأب لو قتل ابن ابنه لم يكن للابن أن يقتص من أبيه، وكذلك كل من كان الابن له وليا. ومنها الرجل يطأ جارية زوجته، اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال، فقال مالك والجمهور: عليه الحد كاملا؛ وقالت طائفة ليس عليه الحد وتقوم عليه فيغرمها لزوجته إن كانت طاوعته، وإن كانت استكرهها قومت عليه وهي حرة، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو قول ابن مسعود، والأول قول عمر، ورواه مالك في الموطأ عنه. وقال قوم: عليه مائة جلدة فقط سواء كان محصنا أم ثيبا: وقال قوم: عليه التعزير. فعمدة من أوجب عليه الحد أنه وطئ دون ملك تام ولا شركة ملك ولا نكاح فوجب الحد. وعمدة من درأ الحد ما ثبت أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قضى في رجل وطئ جارية امرأته أنه إن كان استكرهها فهي حرة وعليه مثلها لسيدتها، وإن كانت طاوعته فهي له، وعليه لسيدتها مثلها، وأيضا فإن له شبهة في مالها بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: تنكح المرأة لثلاث، فذكر مالها" ويقوى هذا المعنى على أصل من يرى أن المرأة محجور عليها من زوجها فيما فوق الثلث، أو في الثلث فما فوقه، وهو مذهب مالك. ومنها ما يراه أبو حنيفة من درء الحد عن واطئ المستأجرة، والجمهور على خلاف ذلك، وقوله في ذلك ضعيف ومرغوب عنه، وكأنه رأى أن هذه المنفعة أشبهت سائر المنافع التي استأجرها عليها، فدخلت الشبهة وأشبه نكاح المتعة. ومنها درء الحد عمن امتنع اختلف فيه أيضا. وبالجملة فالأنكحة الفاسدة داخلة في هذا الباب، وأكثرها عند مالك تدرأ بالحد إلا ما انعقد منها على شخص مؤبد التحريم بالقرابة مثل الأم وما أشبه ذلك، مما لا يعذر فيه بالجهل.
- 3*الباب الثاني في أصناف الزناة وعقوباتهم.
@-والزناة الذين تختلف العقوبة باختلافهم أربعة أصناف: محصنون ثيب وأبكار وأحرار وعبيد وذكور وإناث. والحدود الإسلامية ثلاثة: رجم، وجلد، وتغريب. فأما الثيب الأحرار المحصنون، فإن المسلمين أجمعوا على أن حدهم الرجم إلا فرقة من أهل الأهواء فإنهم رأوا أن حد كل زان الجلد، وإنما صار الجمهور للرجم لثبوت أحاديث الرجم، فخصصوا الكتاب بالسنة أعني قوله تعالى {الزانية والزاني} الآية. واختلفوا في موضعين: أحدهما هل يجلدون مع الرجم أم لا؟ والموضع الثاني في شروط الإحصان. @-(أما المسألة الأولى) فإن العلماء اختلفوا هل يجلد من وجب عليه الرجم قبل الرجم أم لا؟ فقال الجمهور: لا جلد على من وجب عليه الرجم؛ وقال الحسن البصري وإسحاق وأحمد وداود: الزاني المحصن يجلد ثم يرجم. عمدة الجمهور "أن رسول الله ﷺ رجم ماعزا، ورجم امرأة من جهينة، ورجم يهوديين وامرأة من عامر من الأزد، كل ذلك مخرج في الصحاح ولم يروا أنه جلد واحدا منهم. ومن جهة المعنى أن الحد الأصغر ينطوي في الحد الأكبر، وذلك أن الحد إنما وضع للزجر فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم. وعمدة الفريق الثاني عموم قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} فلم يخص محصن من غير محصن. واحتجوا أيضا بحديث علي رضي الله عنه، خرجه مسلم وغيره أن عليا رضي الله عنه جلد شراحة الهمذاني يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسوله. وحديث عبادة بن الصامت، وفيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة" وأما الإحصان فإنهم اتفقوا على أنه من شرط الرجم. واختلفوا في شروطه فقال مالك: البلوغ والإسلام والحرية والوطء في عقد صحيح، وحالة جائز فيها الوطء، والوطء المحظور عنده هو الوطء في الحيض أو في الصيام، فإذا زنى بعد الوطء الذي بهذه الصفة وهو بهذه الصفات فحده عنده الرجم، ووافق أبو حنيفة مالكا في هذه الشروط إلا في الوطء المحظور؛ واشترط في الحرية أن تكون من الطرفين، أعني أن يكون الزاني والزانية حرين، ولم يشترط الإسلام الشافعي. وعمدة الشافعي ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر، وهو حديث متفق عليه "أن النبي ﷺ رجم اليهودية واليهودي اللذين زنيا" إذ رفع إليه أمرهما اليهود، والله تعالى يقول {وإن حكمت فاحكم بينهما بالقسط} . وعمدة مالك من طريق المعنى أن الإحصان عنده فضيلة ولا فضيلة مع عدم الإسلام، وهذا مبناه على أن الوطء في نكاح صحيح هو مندوب إليه، فهذا هو حكم الثيب. وأما الأبكار فإن المسلمين أجمعوا على أن حد البكر في الزنى الجلد مائة لقوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} واختلفوا في التغريب مع الجلد؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تغريب أصلا؛ وقال الشافعي: لا بد من التغريب مع الجلد لكل زان ذكرا كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا؛ وقال مالك: يغرب الرجل ولا تغرب المرأة، وبه قال الأوزاعي؛ ولا تغريب عند مالك على العبيد. فعمدة من أوجب التغريب على الإطلاق حديث عبادة بن الصامت المتقدم وفيه "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" وكذلك ما خرج أهل الصحاح عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا "إن رجلا من الأعراب أتى النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم وهو أفقه منه: نعم اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم، فقال له النبي ﷺ: قل، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديته بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها أنيس فاعترفت، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بها فرجمت". ومن خصص المرأة من هذا العموم فإنما خصصه بالقياس، لأنه رأى أن المرأة تعرض بالغربة لأكثر من الزنى، وهذا من القياس المرسل، أعني المصلحي الذي كثيرا ما يقول به مالك. وأما عمدة الحنفية فظاهر الكتاب، وهو مبني على رأيهم أن الزيادة على النص نسخ وأنه ليس ينسخ الكتاب بأخبار الآحاد. ورووا عن عمر وغيره أنه حد ولم يغرب. وروى الكوفيون عن أبي بكر وعمر أنهم غربوا. وأما حكم العبيد في هذه الفاحشة، فإن العبيد صنفان: ذكور، وإناث أما الإناث فإن العلماء أجمعوا على أن الأمة إذا تزوجت وزنت أن حدها خمسون جلدة لقوله تعالى {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} واختلفوا إذا لم تتزوج، فقال جمهور فقهاء الأمصار: حدها خمسون جلدة؛ وقالت طائفة: لا حد عليها، وإنما عليها تعزير فقط، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب؛ وقال قوم: لاحد على الأمة أصلا، والسبب في اختلافهم الاشتراك الذي في اسم الإحصان في قوله تعالى {فإذا أحصن} فمن فهم من الإحصان التزوج وقال بدليل الخطاب قال: لا تجلد غير المتزوجة؛ ومن فهم من الإحصان الإسلام جعله عاما في المتزوجة وغيرها. واحتج من لم ير على غير المتزوجة حدا بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: "إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير". وأما الذكر من العبيد، ففقهاء الأمصار على أن حد العبد نصف حد الحر قياسا على الأمة؛ وقال أهل الظاهر: بل حده مائة جلدة مصيرا إلى عموم قوله تعالى {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} ولم يخصص حرا من عبد. ومن الناس من درأ عنه قياسا على الأمة وهو شاذ. وروي عن ابن عباس. فهذا هو القول في أصناف الحدود وأصناف المحدودين والشرائط الموجبة للحد في واحد واحد منهم، ويتعلق بهذا القول في كيفية الحدود، وفي وقتها. فأما كيفيتها فمن مشهور المسائل الواقعة في هذا الجنس اختلافهم في الحفر للمرجوم، فقالت طائفة: يحفر له، وروي ذلك عن علي في شراحة الهمدانية حين أمر برجمها، وبه قال أبو ثور، وفيه "فلما كان يوم الجمعة أخرجها فحفر لها حفيرة فأدخلت فيها وأحدق الناس بها يرمونها، فقال: ليس هكذا الرجم إني أخاف أن يصيب بعضكم بعضا، ولكن صفوا كما تصفون في الصلاة، ثم قال: الرجم رجمان: رجم سر ورجم علانية، فما كان منه إقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس؛ وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الإمام ثم الناس. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يحفر للمرجوم، وخير في ذلك الشافعي؛ وقيل عنه: يحفر للمرأة فقط. وعمدتهم ما خرج البخاري ومسلم من حديث جابر، قال جابر: فرجمناه بالمصلى، فلما أذْلَقَتْهُ الحجارة فر، فأدركناه بالحرة فرضخناه. وقد روى مسلم أنه حفر له في اليوم الرابع حفر. وبالجملة فالأحاديث في ذلك مختلفة. قال أحمد: أكثر الأحاديث على أن لا حفر؛ وقال مالك: يضرب في الحدود الظهر وما يقاربه؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: يضرب سائر الأعضاء ويتقى الفرج والوجه؛ وزاد أبو حنيفة الرأس؛ ويجرد الرجل عند مالك في ضرب الحدود كلها، وعند الشافعي وأبي حنيفة ما عدا القذف على ما سيأتي بعد؛ ويضرب عند الجمهور قاعدا ولا يقام قائما لمن قال: إنه يقام لظاهر الآية، ويستحب عند الجميع أن يحضر الإمام عند إقامة الحدود طائفة من الناس لقوله تعالى {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} . واختلفوا فيما يدل عليه اسم الطائفة، فقال مالك: أربعة، وقيل ثلاثة، وقيل اثنان، وقيل سبعة، وقيل ما فوقها. أما الوقت، فإن الجمهور على أنه لا يقام في الحر الشديد ولا في البرد، ولا يقام على المريض؛ وقال قوم: يقام، وبه قال أحمد وإسحاق، واحتجا بحديث عمر أنه أقام الحد على قدامة وهو مريض. وسبب الخلاف معارضة أهل الظواهر للمفهوم من الحد، وهو أن يقام حيث لا يغلب على ظن المقيم له فوات نفس المحدود؛ فمن نظر إلى الأمر بإقامة الحدود مطلقا من غير استثناء قال: يحد المريض؛ ومن نظر إلى المفهوم من الحد قال: لا يحد المريض حتى يبرأ، وكذلك الأمر في شدة الحر والبرد.
- 3*الباب الثالث وهو معرفة ما تثبت به هذه الفاحشة.
@-وأجمع العلماء على أن الزنى يثبت بالإقرار وبالشهادة. واختلفوا في ثبوته بظهور الحمل في النساء الغير المتزوجات إذا ادعين الاستكراه. وكذلك اختلفوا في شروط الإقرار وشروط الشهادة. فأما الإقرار فإنهم اختلفوا فيه في موضعين: أحدهما عدد مرات الإقرار الذي يلزم به الحد. والموضع الثاني هل من شرطه أن لا يرجع عن الإقرار حتى يقام عليه الحد؟ أما عدد الإقرار الذي يجب به الحد، فإن مالكا والشافعي يقولان: يكفي في وجوب الحد عليه اعترافه به مرة واحدة، وبه قال أبو داود وأبو ثور والطبري وجماعة؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى: لا يجب الحد إلا بأقارير أربعة مرة بعد مرة، وبه قال أحمد وإسحاق، وزاد أبو حنيفة وأصحابه: في مجالس متفرقة. وعمدة مالك والشافعي ما جاء في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد من قوله عليه الصلاة والسلام "اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها" ولم يذكر عددا. وعمدة الكوفيين ما ورد من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه رد ماعزا حتى أقر أربع مرات ثم أمر برجمه" وفي غيره من الأحاديث قالوا: وما ورد في بعض الروايات أنه أقر مرة ومرتين وثلاثا تقصير، ومن قصر فليس بحجة على من حفظ. @-(وأما المسلة الثانية) وهي من اعترف بالزنى ثم رجع، فقال جمهور العلماء يقبل رجوعه، إلا ابن أبي ليلى وعثمان البتي؛ وفصل مالك فقال: إن رجع إلى شبهة قبل رجوعه. وأما إن رجع إلى غير شبهة فعنه في ذلك روايتان: إحداهما يقبل وهي الرواية المشهورة. والثانية لا يقبل رجوعه، وإنما صار الجمهور إلى تأثير الرجوع في الإقرار لما ثبت من تقريره ﷺ ماعزا وغيره مرة بعد مرة لعله يرجع، ولذلك لا يجب على من أوجب سقوط الحد بالرجوع أن يكون التمادي على الإقرار شرطا من شروط الحد. وقد روي من طريق "أن ماعزا لما رجم ومسته الحجارة هرب فاتبعوه، فقال لهم: ردوني إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقتلوه رجما وذكروا ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه" ومن هنا تعلق الشافعي بأن التوبة تسقط الحدود، والجمهور على خلافه، وعلى هذا يكون عدم التوبة شرطا ثالثا في وجوب الحد. وأما ثبوت الزنى بالشهود فإن العلماء اتفقوا على أنه يثبت الزنى بالشهود، وأن العدد المشترط في الشهود أربعة بخلاف سائر الحقوق لقوله تعالى {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} وأن من صفتهم أن يكونوا عدولا، وأن من شرط هذه الشهادة أن تكون بمعاينة فرجه في فرجها، وأنها تكون بالتصريح لا بالكناية، وجمهورهم على أن من شرط هذه الشهادة أن لا تختلف لا في زمان ولا في مكان إلا ما حكي عن أبي حنيفة من مسألة الزوايا المشهورة، وهو أن يشهد كل واحد من الأربعة أنه رآها في ركن من البيت يطؤها غير الركن الذي رآه فيه الآخر. وسبب الخلاف هل تلفق الشهادة المختلفة بالمكان أم لا تلفق كالشهادة المختلفة بالزمان؟ فإنهم أجمعوا على أنها لا تلفق، والمكان أشبه شيء بالزمان. والظاهر من الشرع قصده إلى التوثق في ثبوت هذا الحد أكثر منه في سائر الحدود. وأما اختلافهم في إقامة الحدود بظهور الحمل مع دعوى الاستكراه، فإن طائفة أوجبت فيه الحد على ما ذكره مالك في الموطأ من حديث عمر، وبه قال مالك، إلا أن تكون جاءت بأمارة على استكراهها، مثل أن تكون بكرا فتأتي وهي تدمى، أو تفضح نفسها بأثر الاستكراه، وكذلك عنده الأمر إذا ادعت الزوجية إلا أن تقيم البينة على ذلك، ما عدا الطارئة، فإن ابن القاسم قال: إذا ادعت الزوجية وكانت طارئة قبل قولها؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقام عليها الحد بظهور الحمل مع دعوى الاستكراه وكذلك مع دعوى الزوجية، وإن لم تأت في دعوى الاستكراه بأمارة، ولا في دعوى الزوجية ببينة لأنها بمنزلة من أقر ثم ادعى الاستكراه. ومن الحجة لهم ما جاء في حديث شراحة أن عليا رضي الله عنه قال لها: استكرهت؟ قالت: لا. قال: فلعل رجلا أتاك في نومك. قالوا: وروى الأثبات عن عمر أنه قبل قول امرأة دعت أنها ثقيلة النوم وإن رجلا طرقها فمضى عنها ولم تدر من هو بعد. ولا خلاف بين أهل الإسلام أن المستكرهة لا حد عليها، وإنما اختلفوا في وجوب الصداق لها. وسبب الخلاف هل الصداق عوض عن البضع أو هو نحلة؟ فمن قال عوض عن البضع أوجبه في البضع في الحلية والحرمية؛ ومن قال إنه نحلة خص الله به الأزواج لم يوجبه. وهذا الأصل كاف في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب القذف.
@-والنظر في هذا الكتاب: في القذف، والقاذف، والمقذوف، وفي العقوبة الواجبة فيه، وبماذا تثبت. والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} الآية. فأما القاذف فإنهم اتفقوا على أن من شرطه وصفين: وهما البلوغ والعقل، وسواء كان ذكرا أو أنثى، حرا أو عبدا، مسلما أو غير مسلم. وأما المقذوف فاتفقوا على أن من شرطه أن يجتمع فيه خمسة أوصاف وهي البلوغ والحرية والعفاف والإسلام، وأن يكون معه آلة الزنى، فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف لم يجب الحد، والجمهور بالجملة على اشتراط الحرية في المقذوف، ويحتمل أن يدخل في ذلك خلاف، ومالك يعتبر في سن المرأة أن تطيق الوطء. وأما القذف الذي يجب به الحد، فاتفقوا على وجهين: أحدهما أن يرمي القاذف المقذوف بالزنى، والثاني أن ينفيه عن نسبه إذا كانت أمه حرة مسلمة. واختلفوا إن كانت كافرة أو أمة، فقال مالك: سواء كانت حرة أو أمة أو مسلمة أو كافرة يجب الحد. وقال إبراهيم النخعي: لا حد عليه إذا كانت أم المقذوف أمة أو كتابية، وهو قياس قول الشافعي وأبي حنيفة. واتفقوا أن القذف إذا كان بهذين المعنيين أنه إذا كان بلفظ صريح وجب الحد، واختلفوا إن كان بتعريض، فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى: لا حد في التعريض، إلا أن أبا حنيفة والشافعي يريان فيه التعزير، وممن قال بقولهم من الصحابة ابن مسعود؛ وقال مالك وأصحابه: في التعريض الحد، وهي مسألة وقعت في زمان عمر، فشاور عمر فيها الصحابة، فاختلفوا فيها عليه، فرأى عمر فيها الحد. وعمدة مالك أن الكناية قد تقوم بعرف العادة، والاستعمال مقام النص الصريح، وإن كان اللفظ فيها مستعملا في غير موضعه أعني مقولا بالاستعارة. وعمدة الجمهور أن الاحتمال الذي في الاسم المستعار شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، والحق أن الكناية قد تقوم في مواضع مقام النص، وقد تضعف في مواضع، وذلك أنه إذا لم يكثر الاستعمال لها والذي يندرئ به الحد عن القاذف أن يثبت زنى المقذوف بأربعة شهود باجماع، والشهود عند مالك إذا كانوا أقل من أربعة قذفة وعند غيره ليسوا بقذفة، وإنما اختلف المذهب في الشهود الذين يشهدون على شهود الأصل. والسبب في اختلافهم هل يشترط في نقل شهادة كل واحد منهم عدد شهود الأصل أم يكفي في ذلك اثنان على الأصل المعتبر فيما سوى القذف إذ كانوا ممن لا يستقل بهم نقل الشهادة من قبل العدد. وأما الحد فالنظر فيه في جنسه وتوقيته ومسقطه أما جنسه، فإنهم اتفقوا على أنه ثمانون جلدة للقاذف الحر لقوله تعالى {ثمانين جلدة} . واختلفوا في العبد يقذف الحر: كم حده؟ فقال الجمهور من فقهاء الأمصار حده نصف حد الحر، وذلك أربعون جلدة، وروي ذلك عن الخلفاء الأربعة، وعن ابن عباس: وقالت طائفة: حده حد الحر، وبه قال ابن مسعود من الصحابة وعمر بن عبد العزيز وجماعة من فقهاء الأمصار: أبو ثور والأوزاعي وداود وأصحابه من أهل الظاهر. فعمدة الجمهور قياس حده في القذف على حده في الزنى. وأما أهل الظاهر فتمسكوا في ذلك بالعموم ولما أجمعوا أيضا أن حد الكتابي ثمانون، فكان العبد أحرى بذلك. وأما التوقيت فإنهم اتفقوا على أنه إذا قذف شخصا واحدا مرار كثيرة، فعليه حد واحد إذا لم يحد بواحد منها، وأنه إذ قذف فحد ثم قذفه ثانية حد حدا ثانيا واختلفوا إذا قذف جماعة، فقالت طائفة: ليس عليه إلا حد واحد جمعهم في القذف أو فرقهم، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد وجماعة وقال قوم: بل عليه لكل واحد حد، وبه قال الشافعي والليث وجماعة حتى روي عن الحسن بن حيى أنه قال: إن قال إنسان: من دخل هذه الدار فهو زان جلد الحد لكل من دخلها؛ وقالت طائفة إن جمعهم في كلمة واحدة مثل أن يقول لهم يا زناة فحد واحد، وإن قال لكل واحد منهم يا زاني فعليه لكل إنسان منهم حد. فعمدة من لم يوجب على قاذف الجماعة إلا حدا واحدا حديث أنس وغيره أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فرفع ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلاعن بينهما ولم يحده لشريك، وذلك إجماع من أهل العلم فيمن قذف زوجته برجل. وعمدة من رأى أن الحد لكل واحد منهم أنه حق للآدميين، وأنه لو عفا بعضهم ولم يعف الكل لم يسقط الحد. وأما من فرق بين قذفهم في كلمة واحدة أو كلمات أو في مجلس واحد أو في مجالس، فلأنه رأى أنه واجب أن يتعدد الحد بتعدد القذف، لأنه إذا اجتمع تعدد المقذوف وتعدد القذف كان أوجب أن يتعدد الحد، وأما سقوطه فإنهم اختلفوا في سقوطه بعفو القاذف، فقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: لا يصح العفو: أي لا يسقط الحد؛ وقال الشافعي: يصح العفو أي يسقط الحد بلغ الإمام أو لم يبلغ؛ وقال قوم: إن بلغ الإمام لم يجز العفو، وإن لم يبلغه جاز العفو. واختلف قول مالك في ذلك، فمرة قال بقول الشافعي، ومرة قال: يجوز إذا لم يبلغ الإمام، وإن بلغ لم يجز إلا أن يريد بذلك المقذوف الستر على نفسه، وهو المشهور عنه. والسبب في اختلافهم هل هو حق لله؟ أو حق للآدميين، أو حق لكليهما؟ فمن قال حق لله لم يجز العفو كالزنى؛ ومن قال حق للآدميين أجاز العفو؛ ومن قال لكليهما وغلب حق الإمام إذا وصل إليه قال بالفرق بين أن يصل الإمام أو لا يصل، وقياسا على الأثر الوارد في السرقة. وعمدة من رأى أنه حق للآدميين وهو الأظهر أن المقذوف إذا صدقه فيما قذفه به سقط عنه الحد. وأما من يقيم الحد فلا خلاف أن الإمام يقيمه في القذف. واتفقوا على أنه يجب على القاذف مع الحد سقوط شهادته ما لم يتب. واختلفوا إذا تاب؛ فقال مالك: تجوز شهادته، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: لا تجوز شهادته أبدا. والسبب في اختلافهم هل الاستثناء يعود إلى الجملة المتقدمة أو يعود إلى أقرب مذكور، وذلك في قوله تعالى {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا} فمن قال يعود إلى أقرب مذكور قال: التوبة ترفع الفسق ولا تقبل شهادته؛ ومن رأى أن الاستثناء يتناول الأمرين جميعا قال: التوبة ترفع الفسق ورد الشهادة. وكون ارتفاع الفسق مع رد الشهادة أمر غير مناسب في الشرع: أي خارج عن الأصول، لأن الفسق متى ارتفع قبلت الشهادة. واتفقوا على أن التوبة لا ترفع الحد. وأما بماذا يثبت؟ فإنهم اتفقوا على أنه يثبت بشاهدين عدلين حرين ذكرين. واختلف في مذهب مالك: هل يثبت بشاهد ويمين وبشهادة النساء؟ وهل تلزم في الدعوى فيه يمين؟ وإن نكل فهل يحد بالنكول ويمين المدعي؟ فهذه هي أصول هذا الباب التي تنبني عليه فروعه. قال القاضي: وإن أنسأ الله في العمر فسنضع كتابا في الفروع على مذهب مالك بن أنس مرتبا ترتيبا صناعيا، إذ كان المذهب المعمول به في هذه الجزيرة، التي هي جزيرة الأندلس حتى يكون به القارئ مجتهدا في مذهب مالك، لأن إحصاء جميع الروايات عندي شيء ينقطع العمر دونه.
- 3*باب في شرب الخمر.
@-والكلام في هذه الجناية: في الموجب، والواجب، وبماذا تثبت هذه الجناية؟ فأما الموجب، فاتفقوا على أنه شرب الخمر دون إكراه قليلها وكثيرها واختلفوا في المسكرات من غيرها؛ فقال أهل الحجاز: حكمها حكم الخمر في تحريمها وإيجاب الحد على من شربها قليلا كان أو كثيرا أو لم يسكر؛ وقال أهل العراق: المحرم منها هو السكر، وهو الذي يوجب الحد. وقد ذكرنا عمدة أدلة الفريقين في كتاب الأطعمة والأشربة. وأما الواجب فهو الحد والتفسيق إلا أن تكون التوبة، والتفسيق في شارب الخمر باتفاق وإن لم يبلغ حد السكر، وفيمن بلغ حد السكر فيما سوى الخمر. واختلف الذين رأوا تحريم قليل الأنبذة في وجوب الحد، وأكثر هؤلاء على وجوبه، إلا أنهم اختلفوا في مقدار الحد الواجب؛ فقال الجمهور: الحد في ذلك ثمانون؛ وقال الشافعي وأبو ثور وداود: الحد في ذلك أربعون، هذا في حد الحر. وأما حد العبد فاختلفوا فيه؛ فقال الجمهور: هو على النصف من حد الحر؛ وقال أهل الظاهر: حد الحر والعبد سواء، وهو أربعون؛ وعند الشافعي عشرون؛ وعند من قال ثمانون أربعون. فعمدة الجمهور تشاور عمر والصحابة لما كثر في زمانه شرب الخمر، وإشارة علي عليه بأن يجعل الحد ثمانين قياسا على حد الفرية، فإنه كما قيل عنه رضي الله عنه "إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى" وعمدة الفريق الثاني أن النبي ﷺ لم يحد في ذلك حدا، وإنما كان يضرب فيها بين يديه بالنعال ضربا غير محدود، وأن أبا بكر رضي الله عنه شاور أصحاب رسول الله ﷺ: كم بلغ ضرب رسول الله ﷺ لشُراب الخمر؟ فقدروه بأربعين. وروي عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله ﷺ ضرب في الخمر بنعلين أربعين" فجعل عمر مكان كل نعل سوطا. وروي من طريق آخر عن أبي سعيد الخدري ما هو أثبت من هذا، وهو "أن رسول الله ﷺ ضرب في الخمر أربعين" وروي هذا عن علي عن النبي عليه الصلاة والسلام من طريق أثبت، وبه قال الشافعي وأما من يقيم هذا الحد فاتفقوا على أن الإمام يقيمه، وكذلك الأمر في سائر الحدود واختلفوا في إقامة السادات الحدود على عبيدهم، فقال مالك: يقيم السيد على عبده حد الزنى وحد القذف إذا شهد عنده الشهود، ولا يفعل ذلك بعلم نفسه، ولا يقطع في السرقة إلا الإمام، وبه قال الليث، وقال أبو حنيفة: لا يقيم الحدود على العبيد إلا الإمام؛ وقال الشافعي: يقيم السيد على عبده جميع الحدود، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور. فعمدة مالك الحديث المشهور "أن رسول الله ﷺ سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير" وقوله عليه الصلاة والسلام "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها". وأما الشافعي فاعتمد مع هذه الأحاديث ما روي عنه ﷺ من حديث عنه أنه قال "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" ولأنه أيضا مروي عن جماعة من الصحابة ولا مخالف لهم، منهم ابن عمر وابن مسعود وأنس. وعمدة أبي حنيفة الإجماع على أن الأصل في إقامة الحدود هو السلطان. وروي عن الحسن وعمر بن عبد العزيز وغيرهم أنهم قالوا: الجمعة والزكاة والفئ والحكم إلى السلطان. @-(فصل) وأما بماذا يثبت هذا الحد، فاتفق العلماء على أنه يثبت بالإقرار وبشهادة عدلين. واختلفوا في ثبوته بالرائحة، فقال مالك وأصحابه وجمهور أهل الحجاز: يجب الحد بالرائحة إذا شهد بها عند الحاكم شاهدان عدلان؛ وخالفه في ذلك الشافعي وأبو حنيفة وجمهور أهل العراق وطائفة من أهل الحجاز وجمهور علماء البصرة فقالوا: لا يثبت الحد بالرائحة. فعمدة من أجاز الشهادة على الرائحة تشبيهها بالشهادة على الصوت والخط. وعمدة من لم يثبتها اشتباه الروائح، والحد يدرأ بالشبهة. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب السرقة.
@-والنظر في هذا الكتاب في حد السرقة، وفي شروط المسروق الذي يجب به الحد، وفي صفات السارق الذي يجب عليه الحد، وفي العقوبة، وفيما تثبت به هذه الجناية. فأما السرقة، فهي أخذ مال الغير مستترا من غير أن يؤتمن عليه، وإنما قلنا هذا لأنهم أجمعوا أنه ليس في الخيانة ولا في الاختلاس قطع إلا إياس بن معاوية، فإنه أوجب في الخلسة القطع، وذلك مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام. وأوجب أيضا قوم القطع على من استعار حليا أو متاعا ثم جحده لمكان حديث المرأة المخزومية المشهور "أنها كانت تستعير الحلى، وأن رسول الله ﷺ قطعها لموضع جحودها" وبه قال أحمد وإسحاق والحديث حديث عائشة قالت "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بقطع يدها، فأتى أسامة أهلها فكلموه، فكلم أسامة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أسامة لا أراك تتكلم في حد من حدود الله، ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام خطيبا فقال: "وإنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها" ورد الجمهور هذا الحديث لأنه مخالف للأصول، وذلك أن المعار مأمون وأنه لم يأخذ بغير إذن فضلا أن يأخذ من حرز، قالوا: وفي الحديث حذف، وهو أنها سرقت مع أنها جحدت، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه" قالوا: وروى هذا الحديث الليث بن سعد عن الزهري بإسناده، فقال فيه: إن المخزومية سرقت، قالوا: وهذا يدل على أنها فعلت الأمرين جميعا الجحد والسرقة. وكذلك أجمعوا على أنه ليس على الغاصب ولا على المكابر المغالب قطع إلا أن يكون قاطع طريق شاهرا للسلاح على المسلمين مخيفا للسبيل، فحكمه حكم المحارب على ما سيأتي في حد المحارب. وأما السارق الذي يجب عليه حد السرقة، فإنهم اتفقوا على أن من شرطه أن يكون مكلفا، وسواء كان حرا أو عبدا، ذكرا أو أنثى، أو مسلما، أو ذميا، إلا ما روي في الصدر الأول من الخلاف في قطع يد العبد الآبق إذا سرق، وروي ذلك عن ابن عباس وعثمان ومروان وعمر ابن عبد العزيز، ولم يختلف فيه بعد العصر المتقدم؛ فمن رأى أن الإجماع ينعقد بعد وجود الخلاف في العصر المتقدم كانت المسألة عنده قطعية، ومن لم ير ذلك تمسك بعموم الأمر بالقطع، ولا عبرة لمن لم ير القطع على العبد الآبق إلا تشبيهه سقوط الحد عنه بسقوط شطره، أعني الحدود التي تتشطر في حق العبيد، وهو تشبيه ضعيف. وأما المسروق فإن له شرائط مختلفا فيها؛ فمن أشهرها اشتراط النصاب، وذلك أن الجمهور على اشتراطه، إلا ما روي عن الحسن البصري أنه قال: القطع في قليل المسروق وكثيره، لعموم قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيدهما} الآية. وربما احتجوا بحديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" وبه قالت الخوارج وطائفة من المتكلمين. والذين قالوا باشتراط النصاب في وجوب القطع وهم الجمهور اختلفوا في قدره اختلافا كثيرا، إلا أن الاختلاف المشهور من ذلك الذي يستند إلى أدلة ثابتة، وهو قولان: أحدهما قول فقهاء الحجاز مالك والشافعي وغيرهم. والثاني قول فقهاء العراق. وأما فقهاء الحجاز فأوجبوا القطع في ثلاثة دراهم من الفضة، وربع دينار من الذهب. واختلفوا فيما تقوم به سائر الأشياء المسروقة مما عدا الذهب والفضة، فقال مالك في المشهور: تقوم بالدراهم لا بالربع دينار، أعني إذا اختلفت الثلاثة دراهم مع الربع دينار لاختلاف الصرف، مثل أن يكون الربع دينار في وقت درهمين ونصفا؛ وقال الشافعي: الأصل في تقويم الأشياء هو الربع دينار، وهو الأصل أيضا للدراهم فلا يقطع عنده في الثلاثة دراهم إلا أن تساوي ربع دينار. وأما مالك فالدنانير والدراهم عند كل واحد منهما معتبر بنفسه وقد روى بعض البغداديين عنه أنه ينظر في تقويم العروض إلى الغالب في نقود أهل ذلك البلد، فإن كان الغالب الدراهم قومت بالدراهم، وإن كان الغالب الدنانير قومت بالربع دينار، وأظن أن في المذهب من يقول إن الربع دينار يقوم بالثلاثة دراهم، وبقول الشافعي في التقويم قال أبو ثور والأوزاعي وداود، وبقول مالك المشهور قال أحمد: أعني بالتقويم بالدراهم. وأما فقهاء العراق فالنصاب الذي يجب القطع فيه هو عندهم عشرة دراهم لا يجب في أقل منه. وقد قال جماعة منهم ابن أبي ليلى وابن شبرمة: لا تقطع اليد في أقل من خمسة دراهم، وقد قيل في أربعة دراهم، وقال عثمان البتي: في درهمين. فعمدة فقهاء الحجاز ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم "وحديث عائشة أوقفه مالك وأسنده البخاري ومسلم إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا" وأما عمدة فقهاء العراق فحديث ابن عمر المذكور، قالوا: ولكن قيمة المجن هو عشرة دراهم وروي ذلك في أحاديث. وقد خالف ابن عمر في قيمة المجن من الصحابة كثير ممن رأى القطع في المجن كابن عباس وغيره. وقد روى محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله ﷺ عشرة دراهم. قالوا: وإذا وجد الخلاف في ثمن المجن وجب أن لا تقطع اليد إلا بيقين، وهذا الذي قالوه هو كلام حسن لولا حديث عائشة، وهو الذي اعتمده الشافعي في هذه المسألة وجعل الأصل هو الربع دينار. وأما مالك فاعتضد عنده حديث ابن عمر بحديث عثمان الذي رواه، وهو أنه قطع في أترجة قومت بثلاثة دراهم، والشافعي يعتذر عن حديث عثمان من قبل أن الصرف كان عندهم في ذلك الوقت اثنا عشرة درهما (هكذا هذه العبارة بجميع الأصول، ولينظر ما معناها ا هـ مصححه) والقطع في ثلاثة دراهم أحفظ للأموال، والقطع في عشرة دراهم أدخل في باب التجاوز والصفح عن يسير المال وشرف العضو، والجمع بين حديث ابن عمر وحديث عائشة وفعل عثمان ممكن على مذهب الشافعي وغير ممكن على مذهب غيره، فإن كان الجمع أولى من الترجيح فمذهب الشافعي أولى المذاهب، فهذا هو أحد الشروط المشترطة بالقطع. واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور وهو إذا سرقت الجماعة ما يجب فيه القطع، أعني نصابا دون أن يكون حظ كل واحد منهم نصابا، وذلك أن يخرجوا النصاب من الحرز معا، مثل أن يكون عدلا أو صندوقا يساوي النصاب؛ فقال مالك: يقطعون جميعا، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور؛ وقال أبو حنيفة: لا قطع عليهم حتى يكون ما أخذه كل واحد منهم نصابا؛ فمن قطع الجميع رأى العقوبة إنما تتعلق بقدر مال المسروق: أي أن هذا القدر من المال المسروق هو الذي يوجب القطع لحفظ المال؛ ومن رأى أن القطع إنما علق بهذا القدر لا بما دونه لمكان حرمة اليد قال: لا تقطع أيد كثيرة فيما أوجب فيه الشرع قطع يد واحدة. واختلفوا متى يقدر المسروق؛ فقال مالك: يوم السرقة؛ وقال أبو حنيفة: يوم الحكم عليه بالقطع. وأما الشرط الثاني في وجوب هذا الحد فهو الحرز، وذلك أن جميع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وأصحابهم متفقون على اشتراط الحرز في وجوب القطع، وإن كان قد اختلفوا فيما هو حرز مما ليس بحرز. والأشبه أن يقال في حد الحرز إنه ما شأنه أن تحفظ به الأموال كي يعسر أخذها مثل الإغلاق والحظائر وما أشبه ذلك، وفي الفعل الذي إذا فعله السارق اتصف بالإخراج من الحرز على ما سنذكره بعد؛ وممن ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأصحابهم؛ وقال أهل الظاهر وطائفة من أهل الحديث: القطع على من سرق النصاب وإن سرقه من غير حرز. فعمدة الجمهور حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل، فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" ومرسل مالك أيضا عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي بمعنى حديث عمرو بن شعيب. وعمدة أهل الظاهر عموم قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} الآية. قالوا: فوجب أن تحمل الآية على عمومها، إلا ما خصصته السنة الثابتة من ذلك، وقد خصصت السنة الثابتة المقدار الذي يقطع فيه من الذي لا يقطع فيه. وردوا حديث عمرو بن شعيب لموضع الاختلاف الواقع في أحاديث عمرو بن شعيب، وقال أبو عمر بن عبد البر: أحاديث عمرو بن شعيب العمل بها واجب إذا رواها الثقات. وأما الحرز عند الذين أوجبوه فإنهم اتفقوا منه على أشياء واختلفوا في أشياء، مثل اتفاقهم على أن باب البيت وغلقه حرز، واختلافهم في الأوعية. ومثل اتفاقهم على أن من سرق من دار غير مشتركة السكنى أنه لا يقطع حتى يخرج من الدار، واختلافهم في الدار المشتركة، فقال مالك وكثير ممن اشترط الحرز: تقطع يده إذا أخرج من البيت؛ وقال أبو يوسف ومحمد: لا قطع عليه إلا إذا أخرج من الدار. ومنها اختلافهم في القبر هل هو حرز حتى يجب القطع على النباش، أو ليس بحرز؟ فقال مالك والشافعي وأحمد وجماعة: هو حرز، وعلى النباش القطع، وبه قال عمر بن عبد العزيز؛ وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه، وكذلك قال سفيان الثوري، وروي ذلك عن زيد بن ثابت. والحرز عند مالك بالجملة هو كل شيء جرت العادة بحفظ ذلك الشيء المسروق فيه، فمرابط الدواب عنده أحراز، وكذلك الأوعية، وما على الإنسان من اللباس، فالإنسان حرز لكل ما عليه أو هو عنده. وإذا توسد النائم شيئا فهو حرز له على ما جاء في حديث صفوان بن أمية وسيأتي بعد، وما أخذه من المنتبه فهو اختلاس. ولا يقطع عند مالك سارق ما كان على الصبي من الحلي أو غيره إلا أن يكون معه حافظ يحفظه؛ ومن سرق من الكعبة شيئا لم يقطع عنده، وكذلك من المساجد؛ وقد قيل في المذهب إنه أن سرق منها ليلا قطع. وفروع هذا الباب كثيرة فيما هو حرز وما ليس بحرز. واتفق القائلون بالحرز على أن كل من سمي مخرجا للشيء من حرزه وجب عليه القطع، وسواء كان داخل الحرز أو خارجه. وإذا ترددت التسمية وقع الخلاف، مثل اختلاف المذهب إذا كان سارقان: أحدهما داخل البيت، والآخر خارجه، فقرب أحدهما المتاع المسروق إلى ثقب في البيت فتناوله الآخر، فقيل القطع على الخارج المتناول له؛ وقيل: لا قطع على واحد منهما؛ وقيل القطع على المقرب للمتاع من الثقب. والخلاف في هذا كله آيل إلى انطلاق اسم المخرج من الحرز عليه أو لانطلاقه. فهذا هو القول في الحرز واشتراطه في وجوب القطع، ومن رمى بالمسروق من الحرز ثم أخذه خارج الحرز قطع، وقد توقف مالك فيه إذا أخذ بعد رميه وقبل أن يخرج؛ وقال ابن القاسم: يقطع. @-(فصل) وأما جنس المسروق، فإن العلماء اتفقوا على أن كل متملك غير ناطق يجوز بيعه وأخذ العوض منه، فإنه يجب في سرقته القطع ما عدا الأشياء الرطبة المأكولة، والأشياء التي أصلها مباحة فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى أن القطع في كل متموَّل يجوز بيعه وأخذ العوض فيه؛ وقال أبو حنيفة: لا قطع في الطعام ولا فيما أصله مباح كالصيد والحطب والحشيش. فعمدة الجمهور عموم الآية الموجبة للقطع وعموم الآثار الواردة في اشتراط النصاب. وعمدة أبي حنيفة في منعه القطع في الطعام الرطب قوله عليه الصلاة والسلام "لا قطع في ثمر ولا كُثْر" وذلك أن هذا الحديث روي هكذا مطلقا من غير زيادة. وعمدته أيضا في منع القطع فيما أصله مباح الشبهة التي فيه لكل مالك، وذلك أنهم اتفقوا على أن من شرط المسروق الذي يجب فيه القطع أن لا يكون للسارق فيه شبهة ملك. واختلفوا فيما هو شبهة تدرأ الحد مما ليس بشبهة، وهذا هو أيضا أحد الشروط المشترطة في المسروق هو في ثلاثة مواضع: في جنسه، وقدره، وشروطه، وستأتي هذه المسألة فيما بعد. واختلفوا من هذا الباب أعني من النظر في جنس المسروق في المصحف فقال مالك والشافعي: يقطع سارقه؛ وقال أبو حنيفة: لا يقطع، ولعل هذا من أبي حنيفة بناء على أنه لا يجوز بيعه، أو أن لكل أحد فيه حقا إذ ليس بمال. واختلفوا من هذا الباب فيمن سرق صغيرا مملوكا أعجميا ممن لا يفقه ولا يعقل الكلام، فقال الجمهور: يقطع. وأما إن كان كبيرا يفقه فقال مالك: يقطع، وقال أبو حنيفة: لا يقطع. واختلفوا في الحر الصغير، فعند مالك أن سارقه يقطع؛ ولا يقطع عند أبي حنيفة، وهو قول ابن الماجشون من أصحاب مالك. واتفقوا كما قلنا أن شبهة الملك القوية تدرأ هذا الحد. واختلفوا فيما هو شبهة يدرأ من ذلك مما لا يدرأ منها، فمنها العبد يسرق مال سيده؛ فإن الجمهور من العلماء على أنه لا يقطع؛ وقال أبو ثور: يقطع ولم يشترط شرطا؛ وقال أهل الظاهر: يقطع إلا أن يأتمنه سيده. واشترط مالك في الخادم الذي يجب أن يدرأ عنه الحد أن يكون يلي الخدمة لسيده بنفسه؛ والشافعي مرة اشترط هذا ومرة لم يشترطه. وبدرء الحد قال عمر رضي الله عنه وابن مسعود ولا مخالف لهما من الصحابة. ومنها أحد الزوجين يسرق من مال الآخر، فقال مالك: إذا كان كل واحد ينفرد ببيت فيه متاعه فالقطع على من سرق من مال صاحبه؛ وقال الشافعي: الاحتياط أن لا قطع على أحد الزوجين لشبهة الاختلاط وشبهة المال، وقد روي عنه مثل قول مالك، واختاره المزني. ومنها القرابات، فمذهب مالك فيها أن لا يقطع الأب فيما سرق من مال الابن فقط لقوله عليه الصلاة والسلام "أنت ومالك لأبيك" ويقطع كل ما سواهم من القرابات؛ وقال الشافعي: لا يقطع عمود النسب الأعلى والأسفل: يعني الأب والأجداد والأبناء وأبناء الأبناء؛ وقال أبو حنيفة: لا يقطع ذو الرحم المحرمة، وقال أبو ثور: تقطع يد كل من سرق إلا ما خصصه الإجماع. ومنها اختلافهم فيمن سرق من الغنم أو من بيت المال؛ فقال مالك: يقطع؛ وقال عبد الملك من أصحابه: لا يقطع. فهذا هو القول في الأشياء التي يجب بها ما يجب في هذا الجناية.
- 3*القول في الواجب.
@-وأما الواجب في هذه الجناية إذا وجدت بالصفات التي ذكرنا، أعني الموجودة في السارق وفي الشيء المسروق وفي صفة السرقة، فإنهم اتفقوا على أن الواجب فيه القطع من حيث هي جناية، والغرم إذا لم يجب القطع. واختلفوا هل يجمع الغرم مع القطع؟ فقال قوم: عليه الغرم مع القطع، وبه قال الشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة؛ وقال قوم: ليس عليه غرم إذا لم يجد المسروق منه متاعه بعينه، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة؛ وفرق مالك وأصحابه فقال: إن كان موسرا أتبع السارق بقيمة المسروق، وإن كان معسرا لم يتبع به إذا أثرى، واشترط مالك دوام اليسر إلى يوم القطع فيما حكى عنه ابن القاسم. فعمدة من جمع بين الأمرين أنه اجتمع في السرقة حقان: حق لله، وحق للآدمي، فاقتضى كل حق موجبه، وأيضا فإنهم لما أجمعوا على أخذه منه إذا وجد بعينه لزم إذا لم يوجد بعينه عنده أن يكون في ضمانه قياسا على سائر الأموال الواجبة. وعمدة الكوفيين حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ قال "لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد" وهذا الحديث مضعف عند أهل الحديث. قال أبو عمر: لأنه عندهم مقطوع، قال: وقد وصله بعضهم وخرجه النسائي. والكوفيون يقولون: إن اجتماع حقين في حق واحد مخالف للأصول، ويقولون إن القطع هو بدل من الغرم، ومن هنا يرون أنه إذا سرق شيئا ما فقطع فيه ثم سرقه ثانيا أنه لا يقطع فيه. وأما تفرقة مالك فاستحسان على غير قياس. وأما القطع فالنظر في محله وفيمن سرق وقد عدم المحل. أما محل القطع فهو اليد اليمنى باتفاق من الكوع، وهو الذي عليه الجمهور؛ وقال قوم: الأصابع فقط. فأما إذا سرق من قد قطعت يده اليمنى في السرقة، فإنهم اختلفوا في ذلك فقال أهل الحجاز والعراق: تقطع رجله اليسرى بعد اليد اليمنى؛ وقال بعض أهل الظاهر وبعض التابعين: تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى، ولا يقطع منه غير ذلك. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة بعد اتفاقهم على قطع الرجل اليسرى بعد اليد اليمنى، هل يقف القطع إن سرق ثالثة أم لا؟ فقال سفيان وأبو حنيفة: يقف القطع في الرجل، وإنما عليه في الثالثة الغرم فقط؛ وقال مالك والشافعي: إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى، وكلا القولين مروي عن عمر وأبي بكر، أعني قول مالك وأبي حنيفة. فعمدة من لم ير إلا قطع اليد قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ولم يذكر الأرجل إلا في المحاربين فقط. وعمدة من قطع الرجل بعد اليد ما روي "أن النبي ﷺ أتى بعبد سرق فقطع يده اليمنى، ثم الثانية فقطع رجله، ثم أتى به في الثالثة فقطع يده اليسرى، ثم أتى به في الرابعة فقطع رجله" وروي هذا من حديث جابر بن عبد الله، وفيه "ثم أخذه الخامسة فقتله" إلا أنه منكر عند أهل الحديث، ويرده قوله عليه الصلاة والسلام "هن فواحش وفيهن عقوبة" ولم يذكر قتلا. وحديث ابن عباس "أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع الرجل بعد اليد" وعند مالك أنه يؤدب في الخامسة، فإذا ذهب محل القطع من غير سرقة بأن كانت اليد شلاء، فقيل في المذهب ينتقل القطع إلى اليد اليسرى، وقيل إلى الرجل. واختلف في موضع القطع من القدم، فقيل يقطع من المفصل الذي في أصل الساق، وقيل يدخل الكعبان في القطع، وقيل لا يدخلان، وقيل إنها تقطع من المفصل الذي في وسط القدم. واتفقوا على أن لصاحب السرقة أن يعفو عن السارق ما لم يرفع ذلك إلى الإمام لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال "تعافوا الحدود بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" وقوله عليه الصلاة والسلام "لو كانت فاطمة بنت محمد لأقمت عليها الحد" وقوله لصفوان "هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟". واختلفوا في السارق يسرق ما يجب فيه القطع فيرفع إلى الإمام وقد وهبه صاحب السرقة ما سرقه، أو يهبه له بعد الرفع وقبل القطع؛ فقال مالك والشافعي: عليه الحد، لأنه قد رفع إلى الإمام وقال أبو حنيفة وطائفة: لا حد عليه. فعمدة الجمهور حديث مالك عن ابن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية أنه قيل له "إن من لم يهاجر هلك، فقدم صفوان بن أمية إلى المدينة، فنام في المسجد وتوسد رداءه فجاء سارق فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله ﷺ، فأمر به رسول الله ﷺ أن تقطع يده، فقال صفوان: لم أرد هذا يا رسول الله هو عليه صدقة، فقال رسول الله ﷺ: فهلا قبل أن تأتيني به".
- 3*القول فيما تثبت به السرقة.
@-واتفقوا على أن السرقة تثبت بشاهدين عدلين، وعلى أنها تثبت بإقرار الحر. واختلفوا في إقرار العبد؛ فقال جمهور فقهاء الأمصار: إقراره على نفسه موجب لحده، وليس يوجب عليه غرما؛ وقال زفر: لا يجب إقرار العبد على نفسه بما يوجب قتله ولا قطع يده لكونه مالا لمولاه، وبه قال شريح والشافعي وقتادة وجماعة، وإن رجع عن الإقرار إلى شبهة قبل رجوعه. وإن رجع إلى غير شبهة فعن مالك في ذلك روايتان، هكذا حكى البغداديون عن المذهب، وللمتأخرين في ذلك تفصيل ليس يليق بهذا الغرض، وإنما هو لائق بتفريع المذهب.