بداية المجتهد - كتاب الإيلاء
كتاب الإيلاء. @-(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما). والأصل في هذا الباب قوله تعالى {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} والإيلاء: هو أن يحلف الرجل أن لا يطأ زوجته إما مدة هي أكثر من أربعة أشهر أو أربعة أشهر أو بإطلاق على الاختلاف المذكور في ذلك فيما بعد. واختلف فقهاء الأمصار في الإيلاء في مواضع: فمنها هل تطلق المرأة بانقضاء الأربعة الأشهر المضروبة بالنص للمولى، أم إنما تطلق بأن يوقف بعد الأربعة الأشهر؟ فإما فاء وإما طلق. ومنها هل الإيلاء يكون بكل يمين أم بالأيمان المباحة في الشرع فقط؟. ومنها إن أمسك عن الوطء بغير يمين هل يكون موليا أم لا؟. ومنها هل المولي هو الذي قيد يمينه بمده من أربعة أشهر فقط أو أكثر من ذلك؟ أو المولي هو الذي لم يقيد يمينه بمده أصلا؟. ومنها هل طلاق الإيلاء بائن أو رجعي؟. ومنها إن أبى الطلاق والفيء هل يطلق القاضي عليه أم لا؟. ومنها هل يتكرر الإيلاء إذا طلقها ثم راجعها من غير إيلاء حادث في الزواج الثاني؟. ومنها هل من شروط رجعة المولي أن يطأها في العدة أم لا؟. ومنها هل إيلاء العبد حكمه أن يكون مثل إيلاء الحر أم لا؟. ومنها هل إذا طلقها بعد إنقضاء مدة الإيلاء تلزمها عدة أم لا؟. فهذه هي مسائل الخلاف المشهورة في الإيلاء بين فقهاء الأمصار التي تتنزل من هذا الباب منزلة الأصول، ونحن نذكر خلافهم في مسألة مسألة منها، وعيون أدلتهم وأسباب خلافهم على ما قصدنا. @-(المسألة الأولى) أما اختلافهم هل تطلق بانقضاء الأربعة الأشهر نفسها أم لا تطلق وإنما الحكم أن يوقف فإما فاء وإما طلق؟ فإن مالكا والشافعي وأحمد وأبا ثور وداود والليث ذهبوا إلى أنه يوقف بعد انقضاء الأربعة الأشهر، فإما فاء وإما طلق، وهو قول علي وابن عمر، وإن كان قد روي عنهما غير ذلك، لكن الصحيح هو هذا؛ وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وبالجملة الكوفيون إلى أن الطلاق يقع بانقضاء الأربعة الأشهر إلا أن يفيء فيها، وهو قول ابن مسعود وجماعة من التابعين. وسبب الخلاف هل قوله تعالى {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} أي فإن فاءوا قبل انقضاء الأربعة الأشهر أو بعدها؟ فمن فهم منه قبل انقضائها قال: يقع الطلاق، ومعنى العزم عنده في قوله تعالى {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} أن لا يفيء حتى تنقضي المدة فمن فهم من اشتراط الفيئة اشتراطها بعد انقضاء المدة قال: معنى قوله {وإن عزموا الطلاق} أي باللفظ {فإن الله سميع عليم} . وللمالكية في الآية أربعة أدلة: أحدها أنه جعل مدة التربص حقا للزوج دون الزوجة، فأشبهت مدة الأجل في الديون المؤجلة. الدليل الثاني أن الله تعالى أضاف الطلاق إلى فعله. وعندهم ليس يقع من فعله إلا تجوزا: أعني ليس ينسب إليه على مذهب الحنفية إلا تجوزا، وليس يصار إلى المجاز عن الظاهر إلا بدليل. الدليل الثالث قوله تعالى {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} قالوا: فهذا يقتضي وقوع الطلاق على وجه يسمع، وهو وقوعه باللفظ لا بانقضاء المدة. الرابع أن الفاء في قوله تعالى {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} ظاهرة في معنى التعقيب، فدل ذلك على أن الفيئة بعد المدة، وربما شبهوا هذه المدة بمدة العتق. وأما أبو حنيفة فإنه اعتمد في ذلك تشبيه هذه المدة بالعدة الرجعية إذ كانت العدة إنما شرعت لئلا يقع منه ندم، وبالجملة فشبهوا الإيلاء بالطلاق الرجعي، وشبهوا المدة بالعدة وهو شبه قوي، وقد روي ذلك عن ابن عباس. @-(المسألة الثانية) وأما اختلافهم في اليمين التي يكون بها الإيلاء، فإن مالكا قال: يقع الإيلاء بكل يمين، وقال الشافعي: لا يقع إلا بالأيمان المباحة في الشرع وهي اليمين بالله أو بصفة من صفاته. فمالك اعتمد العموم: أعني عموم قوله تعالى {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} والشافعي يشبه الإيلاء بيمين الكفارة، وذلك أن كلا اليمينين يترتب عليهما حكم شرعي، فوجب أن تكون اليمين التي ترتب عليها حكم الإيلاء هي اليمين التي يترتب عليها الحكم الذي هو الكفارة. @-(المسألة الثالثة) وأما لحوق حكم الإيلاء للزوج إذا ترك الوطء بغير يمين، فإن الجمهور على أنه لا يلزمه حكم الإيلاء بغير يمين، ومالك يلزمه وذلك إذا قصد الإضرار بترك الوطء، وإن لم يحلف على ذلك؛ فالجمهور اعتمدوا الظاهر، ومالك اعتمد المعنى، لأن الحكم إنما لزمه باعتقاده ترك الوطء، وسواء شد ذلك الاعتقاد بيمين أو بغير يمين، لأن الضرر يوجد في الحالتين جميعا. @-(المسألة الرابعة) وأما اختلافهم في مدة الإيلاء، فإن مالكا ومن قال بقوله يرى أن مدة الإيلاء يجب أن تكون أكثر من أربعة أشهر إذ كان الفيء عندهم إنما هو بعد الأربعة الأشهر؛ وأما أبو حنيفة فإن مدة الإيلاء عنده هي الأربعة الأشهر فقط إذ كان الفيء عنده إنما هو فيها؛ وذهب الحسن وابن أبي ليلى إلى أنه إذا حلف وقتا ما وإن كان أقل من أربعة أشهر كان موليا يضرب له الأجل إلى انقضاء الأربعة الأشهر من وقت اليمين. وروي عن ابن عباس أن المولي هو من حلف أن لا يصيب امرأته على التأبيد. والسبب في اختلافهم في المدة إطلاق الآية، فاختلافهم في وقت الفيء، وفي صفة اليمين ومدته هو كون الآية عامة في هذه المعاني أو مجملة، وكذلك اختلافهم في صفة المولي والمولي منها ونوع الطلاق على ما سيأتي بعد. وأما ما سوى ذلك فسبب اختلافهم فيه هو سبب السكوت عنها، وهذه هي أركان الإيلاء: أعني معرفة نوع اليمين ووقت الفيء والمدة وصفة المولي والمولي منها ونوع الطلاق الواقع فيه. @-(المسألة الخامسة) فأما الطلاق التي يقع بالإيلاء فعند مالك والشافعي أنه رجعي، لأن الأصل أن كل طلاق وقع بالشرع أنه يحمل على أنه رجعي إلى أن يدل الدليل على أنه بائن؛ وقال أبو حنيفة وأبو ثور: هو بائن، وذلك أنه إن كان رجعيا لم يزل الضرر عنها بذلك لأنه يجبرها على الرجعة. فسبب الاختلاف معارضة المصلحة المقصودة بالإيلاء للأصل المعروف في الطلاق، فمن غلب الأصل قال: رجعي، ومن غلب المصلحة قال: بائن. @-(المسألة السادسة) وأما هل يطلق القاضي إذا أبى الفيء أو الطلاق أو يحبس حتى يطلق، فإن مالكا قال: يطلق القاضي عليه؛ وقال أهل الظاهر: يحبس حتى يطلقها بنفسه. وسبب الخلاف معارضة الأصل المعروف في الطلاق للمصلحة؛ فمن راعى الأصل المعروف في الطلاق قال: لا يقع الطلاق إلا من الزوج؛ ومن راعى الضرر الداخل من ذلك على النساء قال: يطلق السلطان وهو نظر إلى المصلحة العامة، وهذا هو الذي يعرف بالقياس المرسل والمنقول عن مالك العمل به، وكثير من الفقهاء يأبى ذلك. @-(المسألة السابعة) وأما هل يتكرر الإيلاء إذا طلقها ثم راجعها؟ فإن مالكا يقول: إذا راجعها فلم يطأها تكرر الإيلاء عليه، وهذا عنده في الطلاق الرجعي والبائن. وقال أبو حنيفة: الطلاق البائن يسقط الإيلاء وهو أحد قولي الشافعي، وهذا القول هو الذي اختاره المزني وجماعة العلماء على أن الإيلاء لا يتكرر؛ بعد الطلاق إلا بإعادة اليمين. والسبب في اختلافهم معارضة المصلحة لظاهر شرط الإيلاء، وذلك أنه لا إيلاء في الشرع إلا حيث يكون يمين في ذلك النكاح بنفسه لا في نكاح آخر، ولكن إذا راعينا هذا وجد الضرر المقصود إزالته بحكم الإيلاء، ولذلك رأى مالك أنه لا يحكم بحكم الإيلاء بغير يمين إذا وجد معنى الإيلاء. @-(المسألة الثامنة) وأما هل تلزم الزوجة المولي منها عدة أو ليس تلزمها؟ فإن الجمهور على أن العدة تلزمها؛ وقال جابر بن زيد: لا تلزمها عدة إذا كانت قد حاضت في مدة الأربعة الأشهر ثلاث حيض، وقال بقوله طائفة: وهو مروي عن ابن عباس. وحجته أن العدة إنما وضعت لبراءة الرحم، وهذه قد حصلت لها البراءة. وحجة الجمهور أنها مطلقة فوجب أن تعتد كسائر المطلقات. وسبب الخلاف أن العدة جمعت عبادة ومصلحة؛ فمن لحظ جانب المصلحة لم ير عليها عدة، ومن لحظ جانب العبادة أوجب عليها العدة. @-(المسألة التاسعة) وأما إيلاء العبد، فإن مالكا قال: إيلاء العبد شهران على النصف من إيلاء الحر، قياسا على حدوده وطلاقه؛ وقال الشافعي وأهل الظاهر: إيلاؤه مثل إيلاء الحر أربعة أشهر تمسكا بالعموم، والظاهر أن تعلق الأيمان بالحر والعبد سواء، والإيلاء يمين، وقياسا أيضا على مدة العنين؛ وقال أبو حنيفة: النقص الداخل على الإيلاء معتبر بالنساء لا بالرجال كالعدة، فإن كانت المرأة حرة كان الإيلاء إيلاء الحر وإن كان الزوج عبدا، وإن كانت أمة فعلى النصف؛ وقياس الإيلاء على الحد غير جيد، وذلك أن العبد إنما كان حده أقل من حد الحر، لأن الفاحشة منه أقل قبحا، ومن الحر أعظم قبحا، ومدة الإيلاء إنما ضربت جمعا بين التوسعة على الزوج وبين إزالة الضرر عن الزوجة، فإذا فرضنا مدة أقصر من هذه كان أضيق على الزوج وأنفى للضرر عن الزوجة، والحر أحق بالتوسعة ونفي الضرر عنه، فلذلك كان يجب على هذا القياس أن لا ينقص من الإيلاء إلا إذا كان الزوج عبدا والزوجة حرة فقط، وهذا لم يقل به أحد، فالواجب التسوية. والذين قالوا بتأثير الرق في مدة الإيلاء اختلفوا في زوال الرق بعد الإيلاء، هل ينتقل إلى إيلاء الأحرار أم لا؟ فقال مالك: لا ينتقل من إيلاء العبيد إلى إيلاء الأحرار؛ وقال أبو حنيفة: ينتقل؛ فعنده أن الأمة إذا عتقت وقد آلى زوجها منها انتقلت إلى إيلاء الأحرار؛ وقال ابن القاسم: الصغيرة التي لا يجامع مثلها لا إيلاء عليها، فإن وقع وتمادى حسبت الأربعة الأشهر من يوم بلغت، وإنما قال ذلك لأنه لا ضرر عليها في ترك الجماع؛ وقال أيضا: لا إيلاء على خصي ولا على من لا يقدر على الجماع. @-(المسألة العاشرة) وأما هل من شرط رجعة المولي أن يطأ في العدة أم لا؟ فإن الجمهور ذهبوا إلى أن ذلك ليس من شرطها؛ وأما مالك فإنه قال: إذا لم يطأ فيها من غير عذر مرض أو ما أشبه ذلك فلا رجعة عنده له عليها وتبقى على عدتها، ولا سبيل له إليها إذا انقضت العدة. وحجة الجمهور أنه لا يخلو أن يكون الإيلاء يعود برجعته إياها في العدة أو لا يعود، فإن عاد لم يعتبر واستؤنف الإيلاء من وقت الرجعة؛ أعني تحسب مدة الإيلاء من وقت الرجعة، وإن لم يعد إيلاء لم يعتبر أصلا إلا على مذهب من يرى أن الإيلاء يكون بغير يمين، وكيفما كان فلا بد من اعتبار الأربعة الأشهر من وقت الرجعة؛ وأما مالك فإنه قال: كل رجعة من طلاق كان لرفع ضرر، فإن صحة الرجعة معتبرة فيه بزوال ذلك الضرر، وأصله المعسر بالنفقة إذا طلق عليه ثم ارتجع، فإن رجعته تعتبر صحتها بيساره. فسبب الخلاف قياس الشبه، وذلك أن من شبه الرجعة بابتداء النكاح أوجب فيها تجدد الإيلاء، ومن شبه هذه الرجعة برجعة المطلق لضرر لم يرتفع منه ذلك الضرر قال: يبقى على الأصل.
- 2*كتاب الظهار.
@-والأصل في الظهار الكتاب والسنة. فأما الكتاب فقوله تعالى {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة} الآية. وأما السنة فحديث خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت "ظاهر مني زوجي أويس ابن الصامت، فجئت إلى رسول الله ﷺ أشكو إليه، ورسول الله يجادلني فيه ويقول: اتقي الله فإنه ابن عمك، فما خرجت حتى أنزل الله {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما} الآيات، فقال: ليعتق رقبة، قالت: لا يجد، قال: فيصوم شهرين متتابعين، قالت: يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: فليطعم ستين مسكينا، قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، قال: فإني سأعينه بعرق من تمر، قالت: وأنا أعينه بعرق آخر، قال: لقد أحسنت اذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينا" خرجه أبو داود. وحديث سلمة بن صخر البياضي عن النبي ﷺ. والكلام في أصول الظهار ينحصر في سبعة فصول: منها في ألفاظ الظهار. ومنها في شروط وجوب الكفارة فيه. ومنها فيمن يصح فيه الظهار. ومنها فيما يحرم على المظاهر. ومنها هل يتكرر الظهار بتكرر النكاح؟. ومنها هل يدخل الإيلاء عليه؟. ومنها القول في أحكام كفارة الظهار.
- 3*الفصل الأول في ألفاظ الظهار.
@-واتفق العلماء على أن الرجل إذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي أنه ظهار، واختلفوا إذا ذكر عضوا غير الظهر، أو ذكر ظهر من تحرم عليه من المحرمات النكاح على التأبيد غير الأم، فقال مالك: هو ظهار؛ وقال جماعة من العلماء: لا يكون ظهارا إلا بلفظ الظهر والأم. وقال أبو حنيفة: يكون بكل عضو يحرم النظر إليه. وسبب اختلافهم معارضة المعنى للظاهر، وذلك أن معنى التحريم تستوي فيه الأم وغيرها من المحرمات والظهر وغيره من الأعضاء، وأما الظاهر من الشرع، فإنه يقتضي أن لا يسمى ظهارا إلا ما ذكر فيه لفظ الظهر والأم. وأما إذا قال: هي علي كأمي ولم يذكر الظهر، فقال أبو حنيفة والشافعي: ينوي في ذلك لأنه قد يريد بذلك الإجلال لها وعظم منزلتها عنده؛ وقال مالك: هو ظهار. وأما من شبه زوجته بأجنبية لا تحرم عليه على التأبيد، فإنه ظهار عند مالك، وعند ابن الماجشون ليس بظهار، وسبب الخلاف هل تشبيه الزوجة بمحرمة غير مؤبدة التحريم كتشبيهها بمؤبدة التحريم؟.
- 3*الفصل الثاني في شروط وجوب الكفارة فيه.
@-وأما شروط وجوب الكفارة، فإن الجمهور على أنها لا تجب دون العود، وشذ مجاهد وطاوس فقالا: لا تجب دون العود، ودليل الجمهور قوله تعالى {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة} وهو نص في معنى وجوب تعلق الكفارة بالعود، وأيضا فمن طريق القياس، فإن الظهار يشبه الكفارة في اليمين، فكما أن الكفارة إنما تلزم بالمخالفة أو بإرادة المخالفة، كذلك الأمر في الظهار. وحجة مجاهد وطاوس أنه معنى يوجب الكفارة العليا فوجب أن يوجبها بنفسه لا بمعنى زائد تشبيها بكفارة القتل والفطر؛ وأيضا قالوا: إنه كان طلاق الجاهلية فنسخ تحريمه بالكفارة، وهو معنى قوله تعالى {ثم يعودون لما قالوا} والعود عندهم هو العود في الإسلام. فأما القائلون باشتراط العود في إيجاب الكفارة، فإنهم اختلفوا فيه ما هو؟ فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: إحداهن أن العود هو أن يعزم على إمساكها والوطء معا. والثانية أن يعزم على وطئها فقط، وهي الرواية الصحيحة المشهورة عن أصحابه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد. والرواية الثالثة أن العود هو نفس الوطء، وهي أضعف الروايات عند أصحابه. وقال الشافعي: العود هو الإمساك نفسه، قال: ومن مضى له زمان يمكنه أن يطلق فيه ولم يطلق ثبت أنه عائد ولزمته الكفارة، لأن إقامته زمانا يمكن أن يطلق فيه من غير أن يطلق يقوم مقام إرادة الإمساك منه، أو هو دليل ذلك. وقال داود وأهل الظاهر: العود هو أن يكرر لفظ الظهار ثانية، ومتى لم يفعل ذلك فليس بعائد ولا كفارة عليه، فدليل الرواية المشهورة لمالك ينبني على أصلين: أحدهما أن المفهوم من الظهار هو أن الوجوب الكفارة فيه إنما يكون بإرادته العود إلى ما حرم على نفسه بالظهار وهو الوطء، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن تكون العودة هي إما الوطء نفسه، وإما العزم عليه وإرادته. والأصل الثاني ليس يمكن أن يكون العود نفسه هو وطء لقوله تعالى في الآية {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} ولذلك كان الوطء محرما حتى يُكَفَر. قالوا: ولو كان العود نفسه هو الإمساك لكان الظهار نفسه يحرم الإمساك فكان الظهار يكون طلاقا. وبالجملة فالمعول عليه عندهم في هذه المسألة هو الطريق الذي يعرفه الفقهاء بطريق السبر والتقسيم، وذلك أن معنى العود لا يخلو أن يكون تكرار اللفظ على ما يراه داود أو الوطء نفسه أو الإمساك نفسه أو إرادة الوطء، ولا يكون تكرار اللفظ، لأن ذلك تأكيد والتأكيد لا يوجب الكفارة ولا يكون إرادة الإمساك للوطء، فإن الإمساك موجود بعد، فقد بقي أن يكون إرادة الوطء، وإن كان إرادة الإمساك للوطء فقد أراد الوطء، فثبت أن العود هو الوطء. ومعتمد الشافعية في إجرائهم إرادة الإمساك، أو الإمساك مجرى إرادة الوطء أن الإمساك يلزم عنه الوطء فجعلوا لازم الشيء مشبها بالشيء، وجعلوا حكمهما واحدا، وهو قريب من الرواية الثانية؛ وربما استدلت الشافعية على أن إرادة الإمساك هو السبب في وجوب الكفارة أن الكفارة ترتفع بارتفاع الإمساك، وذلك إذا طلق أثر الظهار، ولهذا احتاط مالك في الرواية الثانية، فجعل العود هو إرادة الأمرين جميعا: أعني الوطء والإمساك؛ وإما أن يكون العود الوطء فضعيف مخالف للنص، والمعتمد فيها تشبيه الظهار باليمين: أي كما أن كفارة اليمين إنما تجب بالحنث كذلك الأمر ههنا، وهو قياس شبه عارضه النص. وأما داود فإنه تعلق بظاهر اللفظ في قوله تعالى {ثم يعودون لما قالوا} وذلك يقتضي الرجوع إلى القول نفسه. وعند أبي حنيفة أنه العود في الإسلام إلى ما تقدم من ظهارهم في الجاهلية: وعند مالك والشافعي أن المعنى في الآية: ثم يعودون فيما قالوا. وسبب الخلاف بالجملة إنما هو مخالفة الظاهر للمفهوم؛ فمن اعتمد المفهوم جعل العودة إرادة الوطء أو الإمساك، وتأول معنى اللام في قوله تعالى {ثم يعودون لما قالوا} بمعنى الفاء؛ وأما من اعتمد الظاهر فإنه جعل العودة تكرير اللفظ، وأن العودة الثانية إنما هي ثانية للأولى التي كانت منهم في الجاهلية. ومن تأول أحد هذين، فالأشبه له أن يعتقد أن بنفس الظهار تجب الكفارة كما اعتقد ذلك مجاهد، إلا أن يقدر في الآية محذوفا وهو إرادة الإمساك، فهنا إذا ثلاثة مذاهب: إما أن تكون العودة هي تكرار اللفظ، وإما أن تكون إرادة الإمساك، وإما أن تكون العودة التي هي في الإسلام، وهذان ينقسمان قسمين: أعني الأول والثالث. أحدهما أن يقدر في الآية محذوفا، وهو إرادة الإمساك فيشترط هذه الإرادة في وجوب الكفارة، وإما ألا يقدر فيها محذوفا فتجب الكفارة بنفس الظهار. واختلفوا من هذا الباب في فروع وهو: هل إذا طلق قبل إرادة الإمساك أو ماتت عنه زوجته هل تكون عليه كفارة أم لا؟ فجمهور العلماء على أن لا كفارة عليه إلا أن يطلق بعد إرادة العودة أو بعد الإمساك بزمان طويل على ما يراه الشافعي. وحكي عن عثمان البتي أن عليه الكفارة بعد الطلاق، وأنها إذا ماتت قبل إرادة العودة لم يكن له سبيل إلى ميراثها إلا بعد الكفارة، وهذا شذوذ مخالف للنص، والله أعلم.
- 3*الفصل الثالث فيمن يصح فيه الظهار.
@-واتفقوا على لزوم الظهار من الزوجة التي في العصمة، واختلفوا في الظهار من الأمة ومن التي في غير العصمة، وكذلك اختلفوا في ظهار المرأة من الرجل، فأما الظهار من الأمة فقال مالك والثوري وجماعة: الظهار منها لازم كالظهار من الزوجة الحرة، وكذلك المدبرة وأم الولد؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: لا ظهار من أمة؛ وقال الأوزاعي: إن كان يطأ أمته فهو منها مظاهر، وإن لم يطأها فهي يمين وفيها كفارة يمين؛ وقال عطاء: هو مظاهر لكن عليه نصف كفارة. فدليل من أوقع ظهار الأمة عموم قوله تعالى {والذين يظاهرون من نسائهم} والإماء من النساء. وحجة من لم يجعله ظهارا أنهم قد أجمعوا أن النساء في قوله تعالى {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} هن ذوات الأزواج، فكذلك اسم النساء في آية الظهار، فسبب الخلاف معارضة قياس الشبه للعموم: أعني تشبيه الظهار بالإيلاء وعموم لفظ النساء، أعني أن عموم اللفظ يقتضي دخول الإماء في الظهار وتشبيهه بالإيلاء يقتضي خروجهن من الظهار. وأما هل من شرط الظهار كون المظاهر منها في العصمة أم لا؟ فمذهب مالك أن ذلك ليس من شرطه، وأن من عين امرأة ما بعينها وظاهر منها بشرط التزويج كان مظاهرا منها، وكذلك إن لم يعين وقال كل امرأة أتزوجها فهي مني كظهر أمي، وذلك بخلاف الطلاق وبقول مالك في الظهار قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي؛ وقال قائلون: لا يلزم الظهار إلا فيما يملك الرجل، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو ثور وداود؛ وفرق قوم فقالوا: إن أطلق لم يلزمه ظهار وهو أن يقول: كل امرأة أتزوجها فهي مني كظهر أمي، فإن قيد لزمه وهو أن يقول: إن تزوجت فلانة أو سمى قرية أو قبيلة، وقائل هذا القول هو ابن أبي ليلى والحسن بن حيي. ودليل الفريق الأول قوله تعالى {أوفوا بالعقود} ولأنه عقد على شرط الملك فأشبه إذا ملك، والمؤمنون عند شروطهم وهو قول عمر. وأما حجة الشافعي فحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال "لا طلاق إلا فيما يملك ولا عتق إلا فيما يملك، ولا بيع إلا فيما يملك، ولا وفاء بنذر إلا فيما يملك" خرجه أبو داود والترمذي والظهار شبيه بالطلاق، وهو قول ابن عباس. وأما الذين فرقوا بين التعميم والتعيين، فإنهم رأوا أن التعميم في الظهار من باب الحرج، وقد قال الله تعالى {وما جعل عليكم في الدين من حرج} . واختلفوا أيضا من هذا الباب في هل تظاهر المرأة من الرجل؟ فعن العلماء في ثلاثة أقوال: أشهرها أنه لا يكون منها ظهار، وهو قول مالك والشافعي. والثاني أن عليها كفارة يمين. والثالث أن عليها كفارة الظهار. ومعتمد الجمهور تشبيه الظهار بالطلاق، ومن ألزم المرأة الظهار فتشبيهها للظهار باليمين؛ ومن فرق فلأنه رأى أن أقل اللازم لها في ذلك المعنى هو كفارة يمين وهو ضعيف. وسبب الخلاف تعارض الأشباه في هذا المعنى.
- 3*الفصل الرابع فيما يحرم على المظاهر.
@-واتفقوا على أن المظاهر يحرم عليه الوطء، واختلفوا فيما دونه من ملامسة ووطء في غير الفرج ونظر اللذة، فذهب مالك إلى أنه يحرم الجماع وجميع أنواع الاستمتاع مما دون الجماع من الوطء فيما دون الفرج واللمس والتقبيل والنظر للذة ما عدا وجهها وكفيها ويديها من سائر بدنها ومحاسنها، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه إنما كره النظر للفرج فقط؛ وقال الشافعي: إنما يحرم الظهار الوطء في الفرج فقط المجمع عليه لا ما عدا ذلك، وبه قال الثوري وأحمد وجماعة. ودليل مالك قوله تعالى {من قبل أن يتماسا} وظاهر لفظ التماس يقتضي المباشرة فيما فوقها، ولأنه أيضا لفظ حرمت به عليه فأشبه لفظ الطلاق، ودليل قول الشافعي أن المباشرة كناية عن الجماع بدليل إجماعهم على أن الوطء محرم عليه، وإذا دلت على الجماع لم تدل على ما فوق الجماع، لأنها إما أن تدل على ما فوق الجماع، وإما أن تدل على الجماع، وهي الدلالة المجازية، لكن قد اتفقوا على أنها دالة على الجماع فانتفت الدلالة المجازية، إذ لا يدل لفظ واحد دلالتين حقيقة ومجازا. قلت: الذين يرون أن اللفظ المشترك له عموم لا يبعد أن يكون اللفظ الواحد عندهم يتضمن المعنيين جميعا: أعني الحقيقة والمجاز، وإن كان لم تجر به عادة للعرب، ولذلك القول به في غاية من الضعف، ولو علم أن للشرع فيه تصرفا لجاز، وأيضا فإن الظهار مشبه عندهم بالإيلاء، فوجب أن يختص عندهم بالفرج.
- 3*الفصل الخامس هل يتكرر الظهار بتكرر النكاح.
@-وأما تكرر الظهار بعد الطلاق: أعني إذا طلقها بعد الظهار قبل أن يُكَفر ثم راجعها هل يتكرر عليها الظهار فلا يحل له المسيس حتى يكفر فيه خلاف. قال مالك: إن طلقها دون الثلاث ثم راجعها في العدة أو بعدها فعليه الكفارة، وقال الشافعي: إن راجعها في العدة فعليه الكفارة، وإن راجعها في غير العدة فلا كفارة عليه؛ وعنه قول آخر مثل قول مالك. وقال محمد بن الحسن: الظهار راجع عليها نكحها بعد الثلاث أو بعد واحدة، وهذه المسألة شبيهة بمن يحلف بالطلاق ثم يطلق ثم يراجع هل تبقى تلك اليمين عليه أم لا؟. وسبب الخلاف هل الطلاق يرفع جميع أحكام الزوجية ويهدمها، أو لا يهدمها؟ فمنهم من رأى أن البائن الذي هو الثلاث يهدم، وأن ما دون الثلاث لا يهدم؛ ومنهم من رأى أن الطلاق كله غير هادم، وأحسب أن من الظاهرية من يرى أنه كله هادم.
- 3*الفصل السادس في دخول الإيلاء عليه.
@-وأما هل يدخل الإيلاء على الظهار إذا كان مضارا، وذلك بأن لا يُكَفِر مع قدرته على الكفارة؟ فإن فيه أيضا اختلافا، فأبو حنيفة والشافعي يقولان: لا يتداخل الحكمان لأن حكم الظهار خلاف حكم الإيلاء، وسواء كان عندهم مضارا أو لم يكن، وبه قال الأوزاعي وأحمد وجماعة. وقال مالك: يدخل الإيلاء على الظهار بشرط أن يكون مضارا. وقال الثوري: يدخل الإيلاء على الظهار، وتبين منه بانقضاء الأربعة الأشهر من غير اعتبار المضارة، ففيه ثلاثة أقوال: قول إنه يدخل بإطلاق، وقول إنه لا يدخل بإطلاق، وقول إنه يدخل مع المضارة ولا يدخل مع عدمها. وسبب الخلاف مراعاة المعنى واعتبار الظاهر؛ فمن اعتبر الظاهر قال: لا يتداخلان؛ ومن اعتبر المعنى قال: يتداخلان إذا كان القصد الضرر.
- 3*الفصل السابع في أحكام كفارة الظهار.
@-والنظر في كفارة الظهار في أشياء منها في عدد أنواع الكفارة وترتيبها، وشروط نوع منها: أعني الشروط المصححة، ومتى تجب كفارة واحدة؟ ومتى تجب أكثر من واحدة. فأما أنواعها فإنهم أجمعوا على أنها ثلاثة أنواع: إعتاق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينا، وأنها على الترتيب. فالإعتاق أولا، فإن لم يكن فالصيام، فإن لم يكن فالإطعام، هذا في الحر. واختلفوا في العبد يكفر بالعتق أو بالإطعام بعد اتفاقهم أن الذي يبدأ به الصيام أعني إذا عجز عن الصيام، فأجاز للعبد العتق إن أذن له سيده أبو ثور وداود وأبى ذلك سائر العلماء. وأما الإطعام فأجازه له مالك إن أطعم بإذن سيده، ولم يجز ذلك أبو حنيفة والشافعي، ومبنى الخلاف في هذه المسألة هل يملك العبد أو لا يملك؟. وأما اختلافهم في الشروط المصححة: فمنها اختلافهم إذا وطئ في صيام الشهرين هل عليه استئناف الصيام أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: يستأنف الصيام، إلا أن أبا حنيفة شرط في ذلك العمد، ولم يفرق مالك بين العمد في ذلك والنسيان؛ وقال الشافعي: لا يستأنف على حال، وسبب الخلاف تشبيه كفارة الظهار بكفارة اليمين والشرط الذي ورد في كفارة الظهار: أعني أن تكون قبل المسيس؛ فمن اعتبر هذا الشرط قال: يستأنف الصوم؛ ومن شبهه بكفارة اليمين قال: لا يستأنف، لأن الكفارة في اليمين ترفع الحنث بعد وقوعه باتفاق. ومنها هل من شرط الرقبة أن تكون مؤمنة أم لا؟ فذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك شرط في الإجزاء؛ وقال أبو حنيفة: يجزي في ذلك رقبة الكافر، ولا يجزي عندهم إعتاق الوثنية والمرتدة. دليل الفريق الأول أنه إعتاق على وجه القربة فوجب أن تكون مسلمة أصله الإعتاق في كفارة القتل؛ وربما قالوا إن هذا ليس من باب القياس، وإنما هو من باب حمل المطلق على المقيد، وذلك أنه قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل وأطلقها في كفارة الظهار فيجب صرف المطلق إلى المقيد، وهذا النوع من حمل المطلق على المقيد فيه خلاف، والحنفية لا يجيزونه، وذلك أن الأسباب في القضيتين مختلفة. وأما حجة أبي حنيفة فهو ظاهر العموم، ولا معارضة عنده بين المطلق والمقيد، فوجب عنده أن يحمل كل على لفظه. ومنها اختلافهم هل من شرط الرقبة أن تكون سالمة من العيوب أم لا؟ ثم إن كانت سليمة فمن أي العيوب تشترط سلامتها؟ فالذي عليه الجمهور أن للعيوب تأثيرا في منع إجزاء العتق؛ وذهب قوم إلى أنه ليس لها تأثير في ذلك. وحجة الجمهور تشبيهها بالأضاحي والهدايا لكون القربة تجمعها. وحجة الفريق الثاني إطلاق اللفظ في الآية. فسبب الخلاف معارضة الظاهر لقياس الشبه. والذين قالوا إن للعيوب تأثيرا في منع الإجزاء اختلفوا في عيب عيب مما يعتبر في الإجزاء أو عدمه. أما العمى وقطع اليدين أو الرجلين فلا خلاف عندهم في أنه مانع للإجزاء، واختلفوا فيما دون ذلك؛ فمنها هل يجوز قطع اليد الواحدة؟ أجازه أبو حنيفة، ومنعه مالك والشافعي. وأما الأعور فقال مالك: لا يجزي، وقال عبد الملك: يجزي. وأما قطع الأذنين فقال مالك: لا يجزي، وقال أصحاب الشافعي: يجزي. وأما الأصم فاختلف فيه في مذهب مالك، فقيل يجزي، وقيل لا يجزي. وأما الأخرس فلا يجزي عند مالك، وعن الشافعي في ذلك قولان. أما المجنون فلا يجزي، أما الخصي فقال ابن القاسم: لا يعجبني الخصي، وقال غيره: لا يجزي، وقال الشافعي: يجزي. وإعتاق الصغير جائز في قول عامة فقهاء الأمصار، وحكى عن بعض المتقدمين منعه، والعرج الخفيف في المذهب يجزي، أما العرج البين فلا. والسبب في اختلافهم: اختلافهم في قدر النقص المؤثر في القربة، وليس له أصل في الشرع إلا الضحايا. وكذلك لا يجزي في المذهب ما فيه شركة أو طرف حرية كالكتابة والتدبير لقوله تعالى {فتحرير رقبة} والتحرير هو إبداء الإعتاق، وإذا كان فيه عقد من عقود الحرية كالكتابة كان تنجيزا لا إعتاق، وكذلك الشركة لأن بعض الرقبة ليس برقبة. وقال أبو حنيفة: إن كان المكاتب أدى شيئا من مال الكتابة لم يجز، وإن كان لم يؤد جاز. واختلفوا هل يجزيه عتق مدبره؟ فقال مالك: لا يجزيه تشبيها بالكتابة لأنه عقد ليس له حله؛ وقال الشافعي: يجزيه؛ ولا يجزي عند مالك إعتاق أم ولده ولا المعتق إلى أجل مسمى. أما عتق أم الولد فلأن عقدها آكد من عقد الكتابة والتدبير، بدليل أنهما قد يطرأ عليهما الفسخ. أما في الكتابة فمن العجز عن أداء النجوم. وأما في التدبير فإذا ضاق عنه الثلث. وأما العتق إلى أجل فإنه عقد عتق لا سبيل إلى حله. واختلف مالك والشافعي مع أبي حنيفة في إجزاء عتق من يعتق عليه بالنسب، فقال مالك والشافعي: لا يجزي عنه وقال أبو حنيفة: إذا نوى به عتقه عن ظهار أجزأ. فأبو حنيفة شبهه بالرقبة التي لا يجب عتقها، وذلك أن كل واحدة من الرقبتين غير واجب عليه شراؤها وبذل القيمة فيها على وجه العتق، فإذا نوى بذلك التكفير جاز؛ والمالكية والشافعية رأت أنه إذا اشترى من يعتق عليه عتق عليه من غير قصد إلى إعتاقه فلا يجزيه، فأبو حنيفة أقام القصد للشراء مقام العتق، وهؤلاء قالوا: لابد أن يكون قاصدا للعتق نفسه، فكلاهما يسمى معتقا باختياره، ولكن أحدهما معتق بالاختيار الأول، والآخر معتق بلازم الاختيار، فكأنه معتق على القصد الثاني ومشتر على القصد الأول، والآخر بالعكس. واختلف مالك والشافعي فيمن أعتق نصفي عبدين، فقال مالك: لا يجوز ذلك، وقال الشافعي: يجوز لأنه في معنى الواحد، ومالك تمسك بظاهر دلالة اللفظ، فهذا ما اختلفوا فيه من شروط الرقبة المعتقة. وأما شروط الإطعام فإنهم اختلفوا من ذلك في القدر الذي يجزي لمسكين مسكين من الستين مسكينا الذين وقع عليهم النص، فعن مالك في ذلك روايتان أشهرهما أن ذلك مد بمد هشام لكل واحد، وذلك مدان بمد النبي ﷺ، وقد قيل هو أقل، وقد قيل هو مد وثلث. وأما الرواية الثانية فمد مد لكل مسكين بمد النبي ﷺ، وبه قال الشافعي. فوجه الرواية الأولى اعتبار الشبع غالبا: أعني الغذاء والعشاء، ووجه هذه الرواية الثانية اعتبار هذه الكفارة بكفارة اليمين، فهذا هو اختلافهم في شروط الصحة في الواجبات في هذه الكفارة. وأما اختلافهم في مواضع تعددها ومواضع اتحادها، فمنها إذا ظاهر بكلمة واحدة من نسوة أكثر من واحدة هل يجزي ذلك في كفارة واحدة، أم يكون عدد الكفارات على عدد النسوة؟ فعند مالك أنه يجزي في ذلك كفارة واحدة، وعند الشافعي وأبي حنيفة أن فيها من الكفارات بعدد المظاهر منهن إن إثنتين فاثنتين، وإن ثلاثا فثلاثا، وإن أكثر فأكثر، فمن شبهه بالطلاق أوجب في كل واحدة كفارة؛ ومن شبهه بالإيلاء أوجب فيه كفارة واحدة، وهو بالإيلاء أشبه. ومنها إذا ظاهر من امرأته في مجالس شتى هل عليه كفارة واحدة، أو على عدد المواضع التي ظاهر فيها؟ فقال مالك: ليس عليه إلا كفارة واحدة، إلا أن يظاهر ثم يكفر ثم يظاهر فعليه كفارة ثانية، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لكل ظهار كفارة. وأما إذا كان ذلك في مجلس واحد فلا خلاف عند مالك أن في ذلك كفارة واحدة وعند أبي حنيفة أن ذلك راجع إلى نيته، فإن قصد التأكيد كانت الكفارة واحدة، وإن أراد استئناف الظهار كان ما أراد ولزمه من الكفارات على عدد الظهار. وقال يحيى بن سعيد: تلزم الكفارة على عدد الظهار سواء كان في مجلس واحد أو في مجالس شتى. والسبب في هذا الاختلاف أن الظهار الواحد بالحقيقة هو الذي يكون بلفظ واحد من امرأة واحدة في وقت واحد، والمتعدد بلا خلاف هو الذي يكون بلفظتين من امرأتين في وقتين، فإن كرر اللفظ من امرأة واحدة، فهل يوجب تعدد اللفظ تعدد الظهار، أم لا يوجب ذلك فيه تعددا؟ وكذلك إن كان اللفظ واحد والمظاهر منها أكثر من واحدة؟ وذلك أن هذه بمنزلة المتوسطات بين ذينك الطرفين؛ فمن غلب عليه شبه الطرف الواحد أوجب له حكمه؛ ومن غلب عليه شبه الطرف الثاني أوجب له حكمه. ومنها إذا ظاهر من امرأته ثم مسها قبل أن يكفر هل عليه كفارة واحدة أم لا؟ فأكثر فقهاء الأمصار ومالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري وأبو عبيد أن في ذلك كفارة واحدة، والحجة لهم حديث سلمة بن صخر البياضي "أنه ظاهر من امرأته في زمان رسول الله ﷺ ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر، فأتى رسول الله ﷺ فذكر له ذلك فأمره أن يكفر تكفيرا واحدا" وقال قوم: عليه كفارتان: كفارة العزم على الوطء، وكفارة الوطء، لأنه وطئ وطأ محرما، وهو مروي عن عمرو ابن العاص وقبيصة بن ذؤيب وسعيد بن جبير وابن شهاب؛ وقد قيل: إنه لا يلزمه شيء لا عن العود ولا عن الوطء، لأن الله تعالى اشترط صحة الكفارة قبل المسيس، فإذا مس فقد خرج وقتها فلا تجب إلا بأمر مجدد، وذلك معلوم في مسئلتنا وفيه شذوذ. وقال أبو محمد بن حزم: من كان فرضه الإطعام فليس يحرم عليه المسيس قبل الإطعام، وإنما يحرم المسيس على من كان فرضه العتق أو الصيام.
- 2*كتاب اللعان
@-والقول فيه يشتمل على خمسة فصول بعد القول بوجوبه: الفصل الأول: في أنواع الدعاوي الموجبة له وشروطها. الفصل الثاني: في صفات المتلاعنين. الثالث: في صفة اللعان. الرابع: في حكم نكول أحدهما أو رجوعه. الخامس: في الأحكام اللازمة لتمام اللعان. @-فأما الأصل في وجوب اللعان، أما من الكتاب فقوله تعالى {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} الآية. وأما من السنة فما رواه مالك وغيره من مخرجي الصحيح من حديث عويمر العجلاني "إذ جاء إلى عاصم بن عدي العجلاني رجل من قومه فقال له: يا عاصم أرايت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلوه؟ أم كيف يفعل؟ سل يا عاصم عن ذلك رسول الله ﷺ، فسأل عاصم عن ذلك رسول الله ﷺ، فلما رجع عاصم؟ إلى أهله جاء عويمر فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله ﷺ؟ فقال لم تأتني بخير، قد كره رسول الله ﷺ المسألة التي سألت عنها، فقال: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله ﷺ وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلوه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله ﷺ: قد نزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فأت بها، وقال مهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله ﷺ، فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره بذلك رسول الله ﷺ "قال مالك: قال ابن شهاب: فلم تزل تلك سنة المتلاعنين. وأيضا من جهة المعنى لما كان الفراش موجبا للحوق النسب كان بالناس ضرورة إلى طريق ينفونه به إذا تحققوا فساده وتلك الطريق هي اللعان، فاللعان حكم ثابت بالكتاب والسنة والقياس والإجماع، إذ لا خلاف في ذلك أعلمه، فهذا هو القول في إثبات حكمه.
- 3*الفصل الأول في أنواع الدعاوي الموجبة له وشروطها.
@-وأما صور الدعاوي التي يجب بها اللعان فهي أولا صورتان: إحداهما دعوى الزنى، والثانية نفي الحمل. ودعوى الزنى لا يخلو أن تكون مشاهدة: أعني أن يدعي أنه شاهدها تزني كما يشهد الشاهد على الزنى، وأن تكون دعوى مطلقة. وإذا نفي الحمل فلا يخلو أن ينفيه أيضا نفيا مطلقا، أو يزعم أنه لم يقربها بعد استبرائها، فهذه أربعة أحوال بسائط، وسائر الدعاوي تتركب عن هذه، مثل أن يرميها بالزنى وينفي الحمل، أو يثبت الحمل ويرميها بالزنى. فأما وجوب اللعان بالقذف بالزنا إذا ادعى الرؤية فلا خلاف فيه، قالت المالكية: إذا زعم أنه لم يطأها بعد؛ وأما وجوب اللعان بمجرد القذف، فالجمهور على جوازه الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وداود وغيرهم. وأما المشهور عن مالك، فإنه لا يجوز اللعان عنده بمجرد القذف، وقد قال ابن القاسم أيضا إنه يجوز، وهي أيضا رواية عن مالك. وحجة الجمهور عموم قوله تعالى {والذين يرمون أزواجهم} الآية. ولم يخص في الزنى صفة دون صفة، كما قال في إيجاب حد القذف. وحجة مالك ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك. منها قوله في حديث سعد "أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا" وحديث ابن عباس، وفيه "فجاء رسول الله ﷺ فقال: والله يا رسول الله لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله ﷺ ما جاء به واشتد عليه، فنزلت {والذين يرمون أزواجهم} الآية" وأيضا فإن الدعوى يجب أن تكون ببينة كالشهادة. وفي هذا الباب فرع اختلف فيه قول مالك، وهو إذا ظهر بها حمل بعد اللعان، فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما سقوط الحمل عنه، والأخرى لحوقه به. واتفقوا فيما أحسب أن من شرط الدعوى الموجبة اللعان برؤية الزنى أن تكون في العصمة. واختلفوا فيمن قذف زوجته بدعوى الزنى ثم طلقها ثلاثا هل يكون بينهما لعان أم لا؟ فقال مالك والشافعي والأوزاعي وجماعة: بينهما لعان؛ وقال أبو حنيفة: لا لعان بينهما إلا أن ينفي ولدا ولا حد؛ وقال مكحول والحكم وقتادة يحد ولا يلاعن. وأما إن نفي الحمل فإنه كما قلنا على وجهين: أحدهما أن يدعي أنه استبرأها ولم يطأها بعد الاستبراء، وهذا ما لا خلاف فيه. واختلف قول مالك في الاستبراء، فقال مرة: ثلاث حيض، وقال مرة: حيضة. وأما نفيه مطلقا، فالمشهور عن مالك أنه لا يجب بذلك لعان. وخالفه في هذا الشافعي وأحمد وداود، وقالوا: لا معنى لهذا لأن المرأة قد تحمل مع رؤية الدم؛ وحكى عبد الوهاب عن أصحاب الشافعي أنه لا يجوز نفي الحمل مطلقا من غير قذف. واختلفوا من هذا الباب في فرع، وهو وقت نفي الحمل فقال الجمهور: ينفيه وهي حامل، وشرط مالك أنه متى لم ينفه وهو حمل لم يجز له أن ينفيه بعد الولادة بلعان؛ وقال الشافعي: إذا علم الزوج بالحمل فأمكنه الحاكم من اللعان فلم يلاعن لم يكن له أن ينفيه بعد الولادة؛ وقال أبو حنيفة: لا ينفي الولد حتى تضع وحجة مالك ومن قال بقوله الآثار المتواترة من حديث ابن عباس وابن مسعود وأنس وسهل بن سعد "أن النبي عليه الصلاة والسلام حين حكم باللعان بين المتلاعنين قال: إن جاءت به على صفة كذا فما أراه إلا قد صدق عليها" قالوا: وهذا يدل على أنها كانت حاملا في وقت اللعان. وحجة أبي حنيفة أن الحمل قد ينفش ويضمحل، فلا وجه للعان إلا على يقين. ومن حجة الجمهور أن الشرع قد علق بظهور الحمل أحكاما كثيرة: كالنفقة والعدة ومنع الوطء، فوجب أن يكون قياس اللعان كذلك، وعند أبي حنيفة أنه يلاعن وإن لم ينف الحمل إلا وقت الولادة، وكذلك ما قرب من الولادة ولم يوقت في ذلك وقتا، ووقتا صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: له أن ينفيه ما بين أربعين ليلة من وقت الولادة؛ والذين أوجبوا اللعان في وقت الحمل اتفقوا على أنه له نفيه في وقت العصمة، واختلفوا في نفيه بعد الطلاق، فذهب مالك إلى أنه له ذلك في جميع المدة التي يلحق الولد فيها بالفراش، وذلك هو أقصى زمان الحمل عنده وذلك نحو من أربع سنين عنده أو خمس سنين، وكذلك عنده حكم نفي الولد بعد الطلاق إذا لم يزل منكرا له، وبقريب من هذا المعنى قال الشافعي وقال قوم: ليس له أن ينفي الحمل إلا في العدة فقط، وإن نفاه في غير العدة حده وألحق به الولد، فالحكم يجب به عند الجمهور إلى انقضاء أطول مدة الحمل على اختلافهم في ذلك، فإن الظاهرية ترى أن أقصر مدة الحمل التي يجب بها الحكم هو المعتاد من ذلك، وهي التسعة أشهر وما قاربها، ولا اختلاف بينهم أنه يجب الحكم به في مدة العصمة، فما زاد على أقصر مدة الحمل وهي الستة أشهر: أعني أن يولد المولود لستة أشهر من وقت الدخول أو بإمكانه، لامن وقت العقد، وشذ أبو حنيفة فقال من وقت العقد وإن علم أن الدخول غير ممكن حتى أنه إن تزوج عنده رجل بالمغرب الأقصى امرأة بالمشرق الأقصى فجاءت بولد لرأس ستة أشهر من وقت العقد أنه يلحق به إلا أن ينفيه بلعان، وهو في هذه المسألة ظاهري محض، لأنه إنما اعتمد في ذلك عموم قوله عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش" وهذه المرأة قد صارت فراشا له بالعقد، فكأنه رأى أن هذه عبادة غير معللة، وهذا شيء ضعيف. واختلف قول مالك من هذا الباب في فرع، وهو أنه إذا ادعى أنها زنت واعترف بالحمل فعنه في ذلك ثلاث روايات: إحداها أنه يحد ويلحق به الولد ولا يلاعن. والثانية أنه يلاعن وينفي الولد. والثالثة أنه يلحق به الولد ويلاعن ليدرأ الحد عن نفسه. وسبب الخلاف هل يلتفت إلى إثباته مع موجب نفيه وهو دعواه الزنى؟ واختلفوا أيضا من هذا الباب في فرع، وهو إذا أقام الشهود على الزنى هل له يلاعن أم لا؟ فقال أبو حنيفة وداود: لا يلاعن، لأن اللعان إنما جعل عوض الشهود لقوله تعالى {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} الآية. وقال مالك والشافعي: يلاعن، لأن الشهود لا تأثير لهم في دفع الفراش.
- 3*الفصل الثاني في صفات المتلاعنين.
@-وأما صفة المتلاعنين، فإن قوما قالوا: يجوز اللعان بين كل زوجين حرين كانا أو عبدين، أو أحدهما حر والآخر عبد محدودين كانا أو عدلين أو أحدهما، مسلمين كانا أو كان الزوج مسلما والزوجة كتابية، ولا لعان بين كافرين إلا أن يترافعا إلينا، وممن قال بهذا القول مالك والشافعي؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا لعان إلا بين مسلمين حرين عدلين. وبالجملة فاللعان عندهم إنما يجوز لمن كان من أهل الشهادة. وحجة أصحاب القول الأول عموم قوله تعالى {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} ولم يشترط في ذلك شرطا. ومعتمد الحنفية أن اللعان شهادة، فيشترط فيها ما يشترط في الشهادة، إذ قد سماهم الله شهداء لقوله {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} ويقولون إنه لا يكون لعان إلا بين من يجب عليه الحد في القذف الواقع بينهما. وقد اتفقوا على أن العبد لا يحد بقذفه، وكذلك الكافر، فشبهوا من يجب عليه اللعان بمن يجب في قذفه الحد، إذ كان اللعان إنما وضع لدرء الحد مع نفي النسب، وربما احتجوا بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال "لا لعان بين أربعة: العبدين، والكافرين" والجمهور يرون أنه يمين وإن كان يسمى شهادة، فإن أحدا لا يشهد لنفسه، وأما أن الشهادة قد يعبر عنها باليمين فذلك بين في قوله تعالى {إذا جاءك المنافقون قالوا} الآية، ثم قال {اتخذوا أيمانهم جنة} وأجمعوا على جواز لعان الأعمى، واختلفوا في الأخرس، فقال مالك والشافعي يلاعن الأخرس إذا فهم عنه، وقال أبو حنيفة: لا يلاعن لأنه ليس من أهل الشهادة، وأجمعوا على أن من شرطه العقل والبلوغ.
- 3*الفصل الثالث في صفة اللعان.
@-فأما صفة اللعان فمتقاربة عند جمهور العلماء، وليس بينهم في ذلك كبير خلاف، وذلك على ظاهر ما تقتضيه ألفاظ الآية، فيحلف الزوج أربع شهادات بالله لقد رأيتها تزني وأن ذلك الحمل ليس مني، ويقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهد هي أربع شهادات بنقيض ما شهد هو به ثم تخمس بالغضب، هذا كله متفق عليه. واختلف الناس هل يجوز أن يبدل مكان اللعنة الغضب، ومكان الغضب اللعنة، ومكان أشهد أقسم، ومكان قوله بالله غيره من أسمائه؟ والجمهور على أنه لا يجوز من ذلك إلا ما نص عليه من هذه الألفاظ أصله عدد الشهادات، وأجمعوا على أن من شرط صحته أن يكون بحكم حاكم.
- 3*الفصل الرابع في حكم نكول أحدهما أو رجوعه.
@-فأما إذا نكل الزوج فقال الجمهور: إنه يحد، وقال أبو حنيفة: إنه لا يحد ويحبس. وحجة الجمهور عموم قوله تعالى {والذين يرمون المحصنات} الآية، وهذا عام في الأجنبي والزوج، وقد جعل الالتعان للزوج مقام الشهود، فوجب إذا نكل أن يكون بمنزلة من قذف ولم يكن له شهود: أعني أنه يحد، وما جاء أيضا من حديث ابن عمرو وغيره في قصة العجلاني من قوله عليه الصلاة والسلام "إن قتلت قتلت، وإن نطقت جلدت، وإن سكت سكت على غيظ". واحتج الفريق الثاني بأن آية اللعان لم تتضمن إيجاب الحد عليه عند النكول والتعريض لأيجابه زيادة في النص، والزيادة عندهم نسخ، والنسخ لا يجوز بالقياس ولا بأخبار الآحاد، قالوا: وأيضا لو وجب الحد لم ينفعه الالتعان ولا كان له تأثير في إسقاطه، لأن الالتعان يمين فلم يسقط به الحد عن الأجنبي، فكذلك الزوج، والحق أن الالتعان يمين مخصوصة، فوجب أن يكون لها حكم مخصوص، وقد نص على المرأة أن اليمين يدرأ عنها العذاب، فالكلام فيما هو العذاب الذي يندرئ عنها باليمين، وللاشتراك الذي في اسم العذاب اختلفوا أيضا في الواجب عليها إذا نكلت، فقال الشافعي ومالك وأحمد والجمهور: إنها تحد وحدها الرجم إن كان دخل بها ووجدت فيها شروط الإحصان، وإن لم يكن دخل بها فالجلد. وقال أبو حنيفة إذا نكلت وجب عليها الحبس حتى تلاعن، وحجته قوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس" وأيضا فإن سفك الدم بالنكول حكم ترده الأصول، فإنه إذا كان كثير من الفقهاء لا يوجبون غرم المال بالنكول فكان بالحري أن لا يجب بذلك سفك الدماء. وبالجملة فقاعدة الدماء مبناها في الشرع على أنها لا تراق إلا بالبينة العادلة أو بالاعتراف، ومن الواجب ألا تخصص هذه القاعدة بالاسم المشترك فأبو حنيفة في هذه المسألة أولى بالصواب إن شاء الله. وقد اعترف أبو المعالي في كتابه البرهان بقوة أبي حنيفة في هذه المسألة وهو شافعي. واتفقوا على أنه إذا أكذب نفسه حد وألحق به الولد إن كان نفى ولدا. واختلفوا هل له أن يراجعها بعد اتفاق جمهورهم على أن الفرقة تجب باللعان، إما بنفسه وإما بحكم حاكم على ما نقوله بعد؛ فقال مالك والشافعي والثوري وداود وأحمد وجمهور فقهاء الأمصار إنهما لا يجتمعان أبدا وإن أكذب نفسه؛ وقال أبو حنيفة وجماعة: إذا أكذب نفسه جلد الحد وكان خاطبا من الخطاب؛ وقد قال قوم: ترد إليه امرأته. وحجة الفريق الأول قول رسول الله ﷺ "لا سبيل لك عليها" ولم يستثن فأطلق التحريم. وحجة الفريق الثاني أنه إذا أكذب نفسه فقد بطل حكم اللعان، فكما يلحق به الولد كذلك ترد المرأة عليه، وذلك أن السبب الموجب للتحريم إنما هو الجهل بتعيين صدق أحدهما مع القطع بأن أحدهما كاذب، فإذا انكشف ارتفع التحريم.
- 3*الفصل الخامس في الأحكام اللازمة لتمام اللعان.
@-فأما موجبات اللعان، فإن العلماء اختلفوا من ذلك في مسائل: منها هل تجب الفرقة أم لا؟ وإن وجبت فمتى تجب؟ وهل تجب بنفس اللعان أم بحكم حاكم؟ وإذا وقعت فهل هي طلاق أو فسخ؟ فذهب الجمهور إلى أن الفرقة تقع باللعان لما اشتهر من ذلك في أحاديث اللعان "من أن رسول الله ﷺ فرق بينهما" وقال ابن شهاب فيما رواه مالك عنه: فكانت تلك سنة المتلاعنين، ولقوله ﷺ "لا سبيل لك عليها" وقال عثمان البتي وطائفة من أهل البصرة: لا يعقب اللعان فرقة، واحتجوا بأن ذلك حكم لم تتضمنه آية اللعان، ولا هو صريح في الأحاديث، لأن في الحديث المشهور أنه طلقها بحضرة النبي ﷺ فلم ينكر ذلك عليه. وأيضا فإن اللعان إنما شرع لدرء حد القذف، فلم يوجب تحريما تشبيها بالبينة. وحجة الجمهور أنه قد وقع بينهما من التقاطع والتباغض والتهاتر وإبطال حدود الله ما أوجب أن لا يجتمعا بعدها أبدا، وذلك أن الزوجية مبناها على المودة والرحمة وهؤلاء قد عدموا ذلك كل العدم، ولا أقل من أن تكون عقوبتهما الفرقة. وبالجملة فالقبح الذي بينهما غاية القبح. وأما متى تقع الفرقة فقال مالك والليث وجماعة: إنها تقع إذا فرغا جميعا من اللعان. وقال الشافعي: إذا أكمل الزوج لعانه وقعت الفرقة. وقال أبو حنيفة: لا تقع إلا بحكم حاكم، وبه قال الثوري وأحمد. وحجة مالك على الشافعي حديث ابن عمر قال "فرق رسول الله ﷺ بين المتلاعنين وقال: حسابكما على الله، أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها" وما روي أنه لم يفرق بينهما إلا بعد تمام اللعان. وحجة الشافعي أن لعانها إنما تدرء به الحد عن نفسها فقط، ولعان الرجل هو المؤثر في نفي النسب، فوجب إن كان للعان تأثير في الفرقة أن يكون لعان الرجل تشبيها بالطلاق. وحجتهما جميعا على أبي حنيفة أن النبي ﷺ أخبرهما بوقوع الفرقة عند وقوع اللعان منهما، فدل ذلك على أن اللعان هو سبب الفرقة. وأما أبو حنيفة فيرى أن الفراق إنما نفذ بينهما بحكمه وأمره ﷺ بذلك حين قال "لا سبيل لك عليها" فرأى أن حكمه شرط في وقوع الفرقة كما أن حكمه شرط في صحة اللعان. فسبب الخلاف بين من رأى أنه تقع به الفرقة، وبين من لم ير ذلك أن تفريق النبي ﷺ بينهما ليس هو بينا في الحديث المشهور، لأنه بادر بنفسه فطلق قبل أن يخبره بوجوب الفرقة، والأصل أن لا فرقة إلا بطلاق، وأنه ليس في الشرع تحريم يتأبد: أعني متفقا عليه، فمن غلب هذا الأصل على المفهوم لاحتماله نفي وجوب الفرقة (هكذا الأصول، ولعل فيه سقطا هكذا: ومن قال بالمفهوم قال بإيجابها، تأمل ا هـ مصححه). قال بإيجابها. وأما سبب اختلاف من اشترط حكم الحاكم أو لم يشترطه فتردد هذا الحكم بين أن يغلب عليه شبه الأحكام التي يشترط في صحتها حكم الحاكم أو التي لا يشترط ذلك فيها. وأما المسألة الرابعة، وهي إذا قلنا إن الفرقة تقع فهل ذلك فسخ أو طلاق، فإن القائلين بالفرقة اختلفوا في ذلك، فقال مالك والشافعي: هو فسخ، وقال أبو حنيفة: هو طلاق بائن. وحجة مالك تأبيد التحريم به فأشبه ذات المحرم. وأما أبو حنيفة فشبهها بالطلاق قياسا على فرقة العنين إذ كانت عنده بحكم حاكم.
- 2*كتاب الإحداد.
@-أجمع المسلمون على أن الإحداد واجب على النساء الحرائر المسلمات في عدة الوفاة إلا الحسن وحده. واختلفوا فيما سوى ذلك من الزوجات وفيما سوى عدة الوفاة، وفيما تمتنع الحادة منه مما لا تمتنع، فقال مالك: الإحداد على المسلمة والكتابية والصغيرة والكبيرة. وأما الأمة يموت عنها سيدها سواء كانت أم ولد أم لم تكن فلا إحداد عليها عنده، وبه قال فقهاء الأمصار، وخالف قول مالك المشهور في الكتابية ابن نافع وأشهب، وروياه عن مالك، وبه قال الشافعي: أعني أنه لا إحداد على الكتابية؛ وقال أبو حنيفة: ليس على الصغيرة ولا على الكتابية إحداد؛ وقال قوم: ليس على الأمة المزوجة إحداد، وقد حكي ذلك عن أبي حنيفة، فهذا هو اختلافهم المشهور فيمن عليه إحداد من أصناف الزوجات ممن ليس عليه إحداد. وأما اختلافهم من قبل العدد فإن مالكا قال: لا إحداد إلا في عدة الوفاة. وقال أبو حنيفة والثوري: الإحداد في العدة من الطلاق البائن واجب؛ وأما الشافعي فاستحسنه للمطلقة ولم يوجبه. وأما الفصل الثالث وهو ما تمتنع الحادة منه مما لا تمتنع عنه، فإنها تمتنع عند الفقهاء بالجملة من الزينة الداعية للرجال إلى النساء، وذلك كالحلي والكحل إلا ما لم تكن فيه زينة ولباس الثياب المصبوغة إلا السواد، فإنه لم يكره مالك لها لبس السواد، ورخص كلهم في الكحل عند الضرورة، فبعضهم اشترط فيه ما لم يكن فيه زينة، وبعضهم لم يشترطه، وبعضهم اشترط جعله بالليل دون النهار. وبالجملة فأقاويل الفقهاء فيما تجتنب الحادة متقاربة، وذلك ما يحرك الرجال بالجملة إليهن. وإنما صار الجمهور لإيجاب الإحداد في الجملة لثبوت السنة بذلك عن رسول الله ﷺ، فمنها حديث أم سلمة زوج النبي عليه الصلاة والسلام "أن امرأة جاءت إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينيها أفتكتحلهما؟ فقال رسول الله ﷺ: لا، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول لها لا، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول" وقال أبو محمد: فعلى هذا الحديث يجب التعويل على القول بإيجاب الإحداد. وأما حديث أم حبيبة حين دعت بالطيب فمسحت به عارضيها، ثم قالت: والله مالي به من حاجة غير أني سمعت رسول الله ﷺ يقول "لا يحل لامرأة مؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" فليس فيه حجة، لأنه استثناء من حظر فهو يقتضي الإباحة دون الإيجاب. وكذلك حديث زينب بنت جحش. قال القاضي: وفي الأمر إذا ورد بعد الحظر خلاف بين المتكلمين: أعني هل يقتضي الوجوب أو الإباحة. وسبب الخلاف بين من أوجبه على المسلمة دون الكافرة أن من رأى أن الإحداد عبادة لم يلزمه الكافرة؛ ومن رأى أنه معنى معقول، وهو تشوف الرجال إليها وهي إلى الرجال، سوى بين الكافرة والمسلمة؛ ومن راعى تشوف الرجال دون تشوف النساء فرق بين الصغيرة والكبيرة إذا كانت الصغيرة لا يتشوف الرجال إليها. ومن حجة من أوجبه على المسلمات دون الكافرات قوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد إلا على زوج" قال: وشرطه الإيمان في الإحداد يقتضي أنه عبادة. وأما من فرق بين الأمة والحرة وكذلك الكتابية، فلأنه زعم أن عدة الوفاة أوجبت شيئين باتفاق: أحدهما الإحداد، والثاني ترك الخروج، فلما سقط ترك الخروج عن الأمة بتبذلها والحاجة إلى استخدامها سقط عنها منع الزينة. وأما اختلافهم في المكاتبة فمن قبل ترددها بين الحرة والأمة. وأما الأمة بملك اليمين وأم الولد، فإنما صار الجمهور إلى إسقاط الإحداد عنها لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد إلا على زوج" فعلم بدليل الخطاب أن من عدا ذات الزوج لا يجب عليها إحداد ومن أوجبه على المتوفي عنها زوجها دون المطلقة فتعلق بالظاهر المنطوق به، ومن ألحق المطلقات بهن فمن طريق المعنى، وذلك أنه يظهر من معنى الإحداد أن المقصود به أن لا تتشوف إليها الرجال في العدة ولا تتشوف هي إليهم، وذلك سدا للذريعة لمكان حفظ الأنساب، والله أعلم. كمل كتاب الطلاق والحمد لله على آلائه، والشكر على نعمه؛ ويتلوه كتاب البيوع إن شاء الله تعالى.