انتقل إلى المحتوى

بدائع الفوائد/المجلد الثالث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل: ما اشتمل عليه قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية من آداب

قوله عز وجل: { ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين }. 1 هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة ودعاء المسألة. فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان، فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقًا، والمعبود لا بد وأن يكون مالكًا لنفع والضر.

ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرًا ولا نفعًا وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم }، 2 وقوله تعالى: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك }، 3 وقوله تعالى: { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًا ولا نفعًا والله هو السميع العليم }، 4 وقوله تعالى: { أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله }، 5 وقوله تعالى: { واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون }، 6 وقوله تعالى: { واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا }، 7 وقال تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرًا }. 8 فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر القاصر والمتعدي فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم.

وهذا في القرآن كثير بين أن المعبود لا بد أن يكون مالكًا للنفع والضر، فهو يدعي للنفع والضر دعاء المسألة ويدعي خوفًا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة وعلى هذا فقوله تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }، 9 يتناول نوعي الدعاء وبكل منهما فسرت الآية قيل أعطيه إذا سألني وقيل أثيبه إذا عبدني والقولان متلازمان وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه بل هذا استعمال له في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعًا فتأمله فإنه موضع عظيم النفع قل من يفطن له.

وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعدًا هي من هذا القبيل، ومثال ذلك قوله: { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل }، 10 فسر الدلوك بالزوال وفسر بالغروب وحكيا قولين في كتب التفسير وليسا بقولين بل اللفظ يتناولهما معًا، فإن الدلوك هو الميل ودلوك الشمس ميلها، ولهذا الميل مبدأ ومنتهى فمبدأه الزوال ومنتهاه الغروب. فاللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار لا يتناول المشترك لمعنييه ولا اللفظ لحقيقته ومجازه.

ومثاله أيضا ما تقدم من تفسير الغاسق بالليل والقمر وإن ذلك ليس باختلاف بل يتناولهما لتلازمهما فإن القمر آية الليل ونظائره كثيرة.

ومن ذلك قوله عز وجل: { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم }، 11 قيل: لولا دعاؤكم إياه وقيل دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافًا إلى المفعول وعلى الأول مضافًا إلى الفاعل وهو الأرجح من القولين وعلى هذا فالمراد به نوعا الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر أي ما يعبأ بكم ربي لولا أنكم تعبدونه وعبادته تستلزم مسألته فالنوعان داخلان فيه.

ومن ذلك قوله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } 12 فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر ولهذا عقبه بقوله: { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }. فسر الدعاء في الآية بهذا وهذا وقد روى سفيان عن منصور عن ذر عن نسيع الكندي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله يقول على المنبر: «إن الدعاء هو العبادة»، ثم قرأ: { ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }. رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

وأما قوله تعالى: { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له }، 13 وقوله: { إن يدعون من دونه إلا إناثًا }، 14 وقوله: { وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل }، 15 وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأصنامهم وآلهتهم. فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة فهو في دعاء العبادة أظهر لوجوه ثلاثة:

أحدها: أنهم قالوا: { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }، 16 فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم هو عبادتهم لهم.

الثاني: أن الله تعالى فسر هذا الدعاء في مواضع أخر بأنه العبادة كقوله: { وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون }، 17 وقوله: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم }، 18 وقوله: { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون }، وهو كثير في القرآن، فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم لها.

الثالث: أنهم إنما كانوا يعبدونها ويتقربون بها إلى الله، فإذا جاءتهم الحاجات والكربات والشدائد دعوا الله وحده وتركوها.

ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوإئجهم ويطلبون منها وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة.

وقوله تعالى: { فادعوا الله مخلصين له الدين }، 19 هو دعاء العبادة والمعنى اعبدوه وحده واخلصوا عبادته لا تعبدوا معه غيره.

وأما قول إبراهيم الخليل : { إن ربي لسميع الدعاء }، 20 فالمراد بالسمع هنا السمع الخاص وهو سمع الإجابة والقبول لا السمع العام، لأنه سميع لكل مسموع، وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء، ودعاء الطلب، وسمع الرب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء وإجابته للطلب فهو سميع لهذا وهذا.

وأما قول زكريا: { ولم أكن بدعائك رب شقيًا }، 21 فقد قيل: إنه دعاء المسألة والمعنى إنك عودتني اجابتك واسعافك ولم تشقني بالرد والحرمان فهو توسل إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه. كما حكي أن رجلًا سأل رجلًا وقال: أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا وكذا فقال: مرحبًا بمن توسل إلينا بنا، وقضى حاجته، وهذا ظاهر ههنا. ويدل عليه أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد وجعله وسيلة إلى ربه. فطلب منه أن يجاريه على عادته التي عوده من قضاء حوائجه، وإجابته إلى ما سأله.

وأما قوله تعالى: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى }، 22 فهذا الدعاء المشهور وإنه دعاء المسألة وهو سبب النزول، قالوا: كان النبي يدعو ربه فيقول مرة: يا الله ومرة يا رحمن، فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعو إلهين فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال ابن عباس: سمع المشركون النبي يدعو في سجوده يا رحمن يا رحيم، فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحدًا وهو يدعو مثنى مثنى فأنزل الله هذه الآية: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن }.

وقيل: إن الدعاء ههنا بمعنى التسمية. كقولهم: دعوت ولدي سعيدًا أو ادعه بعبد الله ونحوه والمعنى سموا الله أو سموا الرحمن، فالدعاء ههنا بمعنى التسمية. وهذا قول الزمخشري. والذي حمله على هذا قوله أيًا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى، فإن المراد بتعدده معنى أي وعمومها ههنا تعدد الأسماء ليس إلا، والمعنى أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى إما الله وإما الرحمن، فله الأسماء الحسنى، أي فللمسمى سبحانه الأسماء الحسنى، والضمير في له يعود إلى المسمى. فهذا الذي أوجب له أن يحمل الدعاء في هذه الآية على التسمية. وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المراد بالدعاء في الآية، وليس هو عين المراد. بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء ولكنه متضمن معنى التسمية فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب، بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب. فعلى هذا المعنى يصح أن يكون في تدعوا معنى تسموا فتأمله. والمعنى أيًا ما تُسَمّوا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم والله أعلم.

وأما قوله تعالى: { إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم }. 23

فهذا دعاء العبادة المتضمن للسؤال، رغبة ورهبة والمعنى إنا كنا من قبل نخلص له العبادة، وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره، فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض. والفوز والنجاة، إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب.

وكذلك قول الفتية أصحاب الكهف: { ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها }، 24 أي لن نعبد غيره، وكذلك قوله تعالى: { أتدعون بعلًا وتذرون أحسن الخالقين }. 25

وأما قوله تعالى: { وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون }، 26 فهذا من دعاء المسألة يبكتهم الله عز وجل، ويخزيهم يوم القيامة بآراءتهم أن شركاءهم لا يستجيبون لدعوتهم، وليس المراد اعبدوهم، وهو نظير قوله تعالى: { ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم }. 27

وهذا التقرير نافع في مسألة الصلاة وأنها هل نقلت عن مسماها في اللغة فصارت حقيقة شرعية منقولة، أو استعملت في هذه العبادة مجازًا للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي، أو هي باقية على الوضع اللغوي وضم إليها أركان وشرائط؛ وعلى ما قررناه لا حاجة إلى شيء من ذلك. فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء، إما دعاء عبادة وثناء أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داع؛ فما خرجت الصلاة عن حقيقة الدعاء. فتأمله.

إذا عرف هذا فقوله تعالى: { ادعوا ربكم تضرعًا وخفية }، 28 بتناول نوعي الدعاء، لكنه ظاهر في دعاء المسألة. متضمن دعاء العبادة ولهذا أمر بإخفائه واسراره قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك إن الله تعالى يقول: { ادعوا ربكم تضرعًا وخفية }، وإن الله ذكر عبدًا صالحًا ورضي بفعله فقال: { إذ نادى ربه نداء خفيًا }، 29 وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة.

أحدها: إنه أعظم إيمانًا، لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع دعاءه الخفي وليس كالذي قال: إن الله يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا.

وثانيها: إنه أعظم في الأدب والتعظيم، ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات، وإنما تخفض عندهم الأصوات ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه، ومن رفع صوته لديهم مقتوه ولله المثل الأعلى فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.

وثالثها: إنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده. فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه وذلت جوارحه وخشع صوته حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته وسكنته وكسره وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق فقلبه سائل طالب مبتهل، ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلًا.

ورابعها: إنه أبلغ في الإخلاص.

وخامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء. فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته، فكلما خفض صوته كان أبلغ في صمده وتجريد همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى.

وسادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدًا أنه دال على قرب صاحبه من الله وإنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه. فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.

ولهذا أثنى سبحانه على عبده زكريا بقوله: { إذ نادى ربه نداء خفيًا }، 30 فكلما استحضر القلب. قرب الله تعالى منه، وإنه أقرب إليه من كل قريب. وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به، بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليسًا له يسمع خفي كلامه، فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه ولله المثل الأعلى سبحانه، وقد أشار النبي إلى هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال: «أربعوا على أنفسكم إنكم تدعون سمعيًا قريبًا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»، وقال تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }. 31 وقد جاء أن سبب نزولها أن الصحابة قالوا: يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه، فأنزل الله عز وجل: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }. وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن هذا سألوا، فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء. وإنما يسأل مسألة القريب المناجي لا مسألة البعيد المنادي. وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص ليس قربًا عامًا من كل أحد فهو قريب من داعيه، وقريب من عابده، وأقرب ما يكون العبد من ربه. وهو ساجد وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه، بل هو قرب خاص من الداعي والعابد كما قال النبي راويًا عن ربه تبارك وتعالى: «من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا»، فهذا قربه من عابده.

وأما قربه من داعيه وسائله فكما قال تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } وقوله: { ادعوا ربكم تضرعًا وخفية } فيه الإشارة والإعلام بهذا القرب.

وأما قربه تبارك وتعالى من محبه فنوع آخر وبناء آخر وشأن آخر كما قد ذكرناه في كتاب التحفة المكية على أن العبارة تنبو عنه ولا تحصل في القلب حقيقة معناه أبدًا لكن بحسب قوة المحبة وضعفها يكون تصديق العبد بهذا القرب وإياك، ثم إياك أن تعبر عنه بغير العبارة النبوية، أو يقع في قلبك غير معناها ومرادها فتزل قدم بعد ثبوتها. وقد ضعف تمييز خلائق في هذا المقام وساء تعبيرهم فوقعوا في أنواع من الطامات والشطح، وقابلهم من غلظ حجابه فأنكر محبة العبد لربه جملة وقربه منه، وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوف فهو عنده المحبوب القريب ليس إلا. وقد ذكرنا من طرق الرد على هؤلاء، وهؤلاء في كتاب التحفة أكثر من مائة طريق والمقصود ههنا الكلام على هذه الآية.

وسابعها: أنه ادعى إلى دوام الطلب، والسؤال فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته، فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه. وهذا نظير من يقرأ ويكرر رافعًا صوته، فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته.

وثامنها: إن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات، فإن الداعي إذا أخفى دعاءه، لم يدر به أحد فلا يحصل هناك تشويش ولا غيره. وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية والخبيثة من الجن والإنس. فشوشت عليه ولا بد ومانعته وعارضته، ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفرق عليه همته، فيضعف أثر الدعاء لكفى، ومن له تجربة يعرف هذا. فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة.

وتاسعها: إن أعظم النعم، الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه والتبتل إليه، ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت ولا نعمة أعظم من هذه النعمة. فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها، وليس للمحسود إخفاء نعمته عن الحاسد، وأن لا يقصد إظهارها له.

وقد قال يعقوب ليوسف: { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين }، 32 وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها، فسلبه إياها الأغيار فأصبح يقلب كفيه ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه أحدًا ويتكتمون به غاية التكتم، كما أنشد بعضهم في ذلك:

من سارروه فأبدى السر مجتهدًا ** لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا

وأبعدوه فلم يظفر بقربهم ** وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا

لا يأمنون مذيعًا بعض سرهم ** حاشا ودادهم من ذلكم حاشا

والقوم أعظم شيء كتمانًا لأحوالهم مع الله وما وهب الله لهم من محبته والأنس به وجمعية القلب عليه ولا سيما للمبتدي والسالك فإذا تمكن أحدهم وقوي وثبتت أصول تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه بحيث لا يخشى عليه من العواصف، فإنه إذا أبدى حاله وشأنه مع الله، ليقتدي به ويؤتم به لم يبال. وهذا باب عظيم النفع وإنما يعرفه أهله.

وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه. يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله، فهو من أعظم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء والستر عن أعين الحاسدين. وهذه فائدة شريفة نافعة.

وعاشرها: إن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه، متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب كما قال النبي : «أفضل الدعاء الحمد لله»، فسمي الحمد لله دعاء وهو ثناء محض، لأن الحمد يتضمن الحب والثناء، والحب أعلا أنواع الطلب للمحبوب، فالحامد طالب لمحبوبه، فهو أحق أن يسمى داعيًا من السائل الطالب من ربه حاجة ما. فتأمل هذا الموضع ولا تحتاج إلى ما قيل إن الذاكر متعرض للنوال وإن لم لكن مصرحًا بالسؤال، فهو داع بما تضمنه ثناؤه من التعرض. كما قال أمية بن أبي الصلت:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حياؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يومًا ** كفاه من تعرضه الثناء

وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها، فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب، وهو طلب المحب فهو دعاء حقيقة. بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب، الذي هو دونه والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه وقد قال تعالى: { واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول }، 33 فأمر تعالى نبيه أن يذكره في نفسه.

قال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت أو الصياح. وقد تقدم حديث أبي موسى كنا مع النبي في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال: «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنما تدعون سميعًا قريبًا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»، وتأمل كيف قال في آية الذكر: { واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة }، وفي آية الدعاء: { ادعوا ربكم تضرعًا وخفية } فذكر التضرع فيهما معًا، وهو التذلل والتمسكن والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء.

وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها. وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها، ولا بد فمن أكثر من ذكر الله أثمر له ذلك محبته، والمحبة مالم تقرن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره لأنها توجب الادلال والانبساط، وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له، فإذا حصل المقصود، فالاشتغال بالوسيلة باطل.

ولقد حدثني رجل أنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة. فقال له الشيخ: أليس الفقهاء يقولون: إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه، فقال له: بلى، فقال له: فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم، أو كما قال، وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه فقال له: هذا غرور بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله. فالشيخ المربي العارف يأمر المريد بأن يخرج إلى الأمر ويراعي حفظ قلبه، أو كما قال.

فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة. فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام، كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه من خاصة الخاصة. وسبب هذا عدم اقتران الخوف من الله بحبه وإرادته. ولهذا قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجىء، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن. وقد جمع تعالى هذه المقامات الثلاث بقوله: { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه }، 34 فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه، ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف، فهذه طريقة عباده وأوليائه، وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد إلى استحلال المحرمات. ويقول المحب: لا يضره ذنب.

وصنف بعضهم في ذلك مصنفًا وذكر فيه أثرًا مكذوبًا: إذا أحب الله العبد لم تضره الذنوب، وهذا كذب قطعًا مناف للإسلام، فالذنوب تضر بالذات لكل أحد كضرر السم للبدن. ولو قدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ - وأما عن رسول الله فمعاذ الله من ذلك - فله محمل وهو أنه إذا أحبه لم يدعه حبه إياه إلى أن يصر على ذنب، لأن الإصرار على الذنب مناف لكونه محبًا لله، وإذا لم يصر على الذنب، بل بادر إلى التوبة النصوح منه، فإنه يمحا أثره ولا يضره الذنب، وكلما أذنب وتاب وإلى الله زال عنه أثر الذنب وضرره. فهذا المعنى صحيح.

والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب، فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما شرد، فكأن الخوف سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن الدرب، والرجاء حاد يحدوها يطيب لها السير والحب قائدها وزمامها الذي يسوقها، فإذا لم يعن للمطية سوط ولا عصى يردها إذا حادت عن الطريق وتركت تركب التعاسيف خرجت عن الطريق وضلت عنها فما حفظت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب عن هذه الثلالة فسد فسادًا لا برجى صلاحه أبدًا ومتى ضعف فيه شيء من هذه، ضعف إيمانه بحسبه.

فتأمل أسرار القرآن وحكمته في اقتران الخيفة بالذكر والخفية بالدعاء مع دلالته على اقتران الخيفة بالدعاء، والخفية بالذكر أيضا، فإنه قال: { اذكر ربك في نفسك } فلم يحتج بعدها أن يقول خفية. وقال في الدعاء: { وادعوه خوفًا وطمعًا } فلم يحتج أن يقول في الأول: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } فانتظمت كل واحدة من الآيتين للخيفة والخفية والتضرع أحسن النظام. ودلت على ذلك أكمل دلالة.

وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء، لأن الدعاء مبني عليه، فإن الداعي ما لم يطمع في سؤله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبه إذ طلب ما لا طمع فيه ممتنع وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه. كما تقدم فذكر في كل آية ما هو اللائق بها، والأولى بها من الخوف والطمع فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.

فصل: قوله تعالى إنه لا يحب المعتدين والمراد من المعتدين في الدعاء

وقوله تعالى: { إنه لا يحب المعتدين } قيل: المراد أنه لا يحب المعتدين في الدعاء، كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك. وقد روى أبو داود في سننه من حديث حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل، سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله يقول: «إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء»، وعلى هذا، فالاعتداء في الدعاء تارة، بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات، وتارة بأن يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يسأله تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو يسأله أن يطلعه على غيبه أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يسأله أن يهب له ولدًا من غير زوجة ولا أمة، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء فكل سؤال يناقض حكمة الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به، فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله. وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضا في الدعاء. قال ابن جريج من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء والنداء في الدعاء والصياح.

وبعد، فالآية أعم من ذلك كله، وإن كان الاعتداء في الدعاء مرادًا بها فهو من جملة المراد. والله لا يحب المعتدين في كل شيء دعاء كان أو غيره، كما قال: { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين }، 35 وعلى هذا فيكون قد أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان وهم الذين يدعون معه غيره، فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانًا، فإن أعظم العدوان الشرك وهو وضع العبادة في غير موضعها. فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلًا في قوله: { إنه لا يحب المعتدين }.

ومن العدوان أن يدعوه غير متضرع بل دعاء مدل كالمستغني بما عنده المدل على ربه به، وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته، فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد.

ومن الاعتداء أن تعبده بما لم يشرعه وتثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه، فإن هذا اعتداء في دعاء الثناء والعبادة وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين:

أحدهما: محبوب للرب تبارك وتعالى مرضي له، وهو الدعاء تضرعًا وخفية.

والثاني: مكروه له مبغوض مسخوط وهو الاعتداء، فأمر بما يحبه الله وندب إليه وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو أبلغ طرق الزجر والتحذير، وهو أنه لا يحب فاعله، ومن لم يحبه الله فأي يناله وفي قوله: { إنه لا يحب المعتدين } عقب قوله: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } دليل على أن من لم يدعه تضرعًا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم، فقسمت الآية الناس إلى قسمين داع لله تضرعًا وخفية. ومعتد بترك ذلك.

فصل: قوله تعالى ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها أي بالمعاصي والدعاء لغير الله

وقوله تعالى: { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها }، 36 قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله، بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله؛ فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره. قال تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس }، 37 وقال عطية في الأية: ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم، وقال غير واحد من السلف، إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم وتقول: اللهم العنهم فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر.

وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والإتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة. فإن الله أصلح الأرض برسوله ودينه وبالأمر بتوحيده ونهى عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله.

ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله.

ومن تدبر هذا حق التدبر وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي حق غيره عمومًا وخصوصًا. ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فصل: قوله تعالى وادعوه خوفا وطمعا وبيان حكمة تكرار الأمر بالدعاء

وقوله تعالى: { وادعوه خوفًا وطمعًا } إنما كرر الأمر بالدعاء لما ذكره معه من الخوف والطمع. فأمر أولا بدعائه تضرعًا وخفية، ثم أمر بأن يكون الدعاء أيضا خوفًا وطمعًا، وفصل بين الجملتين بجملتين:

إحداهما خبرية ومتضمنة للنهي، وهي قوله: إنه لا يحب المعتدين.

والثانية طلبية وهي قوله: { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } والجملتان مقررتان مقويتان للجملة الأولى مؤكدتان لمضمونها.

ثم لما تم تقريرها وبيان ما يضادها ويناقضها أمر بدعائه خوفًا وطمعًا، ثم قرر ذلك وأكد مضمونه بجملة خبرية وهي قوله: { إن رحمة الله قريب من المحسنين }، فتعلق هذه الجملة بقوله وادعوه خوفًا وطمعًا كتعلق قوله إنه لا يحب المعتدين بقوله: { ادعوا ربكم تضرعًا وخفية }.

ولما كان قوله تعالى: { وادعوه خوفًا وطمعًا } مشتملًا على جميع مقامات الإيمان والإحسان وهي الحب والخوف والرجاء عقبها بقوله: { إن رحمة الله قريب من المحسنين } أي إنما ينال من دعاه خوفًا وطمعًا فهو المحسن، والرحمة قريب منه لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة.

ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابله الاعتداء بعدم التضرع والخفية. عقب ذلك بقوله: إنه لا يحب المعتدين.

وانتصابُ قوله تضرعًا وخفية، وخوفًا وطمعًا، قيل هو على الحال أي ادعوه متضرعين مخفين خائفين طامعين، وهذا هو الذي رجحه السهيلي وغيره وقيل: هو نصب على المفعول له وهذا قول كثير من النحاة. وقيل: هو نصب على المصدر وفيه على هذا تقديران أحدهما أنه منصوب بفعل مقدر من لفظ المصدر والمعنى تضرعوا إليه تضرعًا وأخفوا خفية الثاني أنه منصوب بالفعل المذكور نفسه، لأنه في معنى المصدر فإن الداعي متضرع طامع في حصول مطلوبه خائف من فواته، فكأنه قال تضرعوا تضرعًا.

والصحيح في هذا أنه منصوب على الحال والمعنى عليه فإن المعنى ادعوا ربكم متضرعين إليه خائفين طامعين ويكون وقوع المصدر موقع الاسم على حله قوله: { ولكن البر من آمن بالله }، 38 وقولهم: رجل عدل ورجل صوم قال الشاعر: * فإنما هي إقبالٌ وأدبارُ * وهو أحسن من أن يقال ادعوه متضرعين خائفين، وأبلغ والذي حسنه أن المأمور به هنا شيئان: الدعاء الموصوف المقيد بصفة معينة وهي صفة التضرع والخوف والطمع، فالمقصود تقييد المأمور به بتلك الصفة وتقييد الموصوف الذي هو صاحبها بها. فأتى بالحال على لفظ المصدر لصلاحيته، لأن يكون صفة للفاعل وصفة للفعل المأمور به.

فتأمل هذه النكتة فإنك إذا قلت: اذكر ربك تضرعًا فإنك تريد اذكره متضرعًا إليه، واذكره ذكر تضرع فأنت مريد للأمرين معًا، ولذلك إذا قلت: ادعه طمعًا أي ادعه دعاء طمع وادعه طامعًا في فضله، وكذلك إذا قلت: ادعه رغبة ورهبة كقوله تعالى: { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا }، 39 كان المراد ادعه راغبًا وراهبًا وادعه دعاء رغبة ورهبة.

فتأمل هذا الباب تجده كذلك، فأتى فيه بالمصدر الدال على وصف المأمور به بتلك الصفة، وعلى تقييد الفاعل بها تقييد صاحب الحال بالحال، ومما يدل على هذا. إنك تجد مثل هذا صالحًا وقوعه جوابًا لكيف فإذا قيل: كيف أدعوه؟ قيل: تضرعًا وخفية وتجد اقتضاء كيف لهذا أشد من اقتضاء لم ولو كان مفعولًا له لكان جوابًا للم ولا تحسن هنا. ألا ترى أن المعنى ليس عليه فإنه لا يصح أن يقال: لم أدعوه فيقول تضرعًا وخفية، وهذا واضح. ولا هو انتصاب على المصدر المبين للنوع الذي لا يتقيد به الفاعل لما ذكرناه من صلاحيته جوابًا لكيف.

وبالجملة فالمصدرية في هذا الباب لا تنافي الحال. بل الإتيان بالحال ههنا بلفظ المصدر يفيد ما يفيده المصدر مع زيادة فائدة الحال فهو أتم معنى ولا تنافي بينهما والله أعلم.

فصل: قوله تعالى إن رحمة الله قريب من المحسنين وأن مطلوب العبد الرحمة والمطلوب منه الإحسان

وقوله تعالى: { إن رحمة الله قريب من المحسنين } فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور به هو الإحسان المطلوب منكم، ومطلوبكم أنتم من الله هو رحمته، ورحمته قريب من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه خوفًا وطمعًا، فقرب مطلوبكم منكم وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه منكم وهو الإحسان الذي هو في الحقيقة إحسان إلى أنفسكم؛ فإن الله هو الغني الحميد وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم.

وقوله: { إن رحمة الله قريب من المحسنين } له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله ودلالة بمفهومه، فدلالته بمنطوقة على قرب الرحمة من أهل الإحسان، ودلالته بتعليله وإيمائه على أن هذا القرب مستحق بالإحسان، فهو السبب في قرب الرحمة منهم، ودلالته بمفهومه عنى بعد الرحمة منهم، ودلالته بمفهومه على بعد الرحمة من غير المحسنين، فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة.

وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة منهم، لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين، وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته.

وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة بعدًا ببعد وقربًا بقرب فمن تقرب بالإحسان تقرب الله إليه برحمته، ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته، والله سبحانه يحب المحسنين ويبغض من ليس من المحسنين. ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه، ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه.

والإحسان ههنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانًا إلى الناس أو إلى نفسه. فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتوكل عليه. وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالًا ومهابة وحياء ومحبة وخشية، فهذا هو مقام الإحسان كما قال النبي : وقد سأله جبريل عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه»، وإذا كان هذا هو الإحسان فرحمة الله قريب من صاحبه، فإن الله إنما يرحم أهل توحيده المؤمنين به.

وإنما كتب رحمته للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون والذين يتبعون رسوله فهؤلاء هم أهل الرحمة، كما أنهم هم المحسنون.

وكما أحسنوا جوزوا بالإحسان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه.

قال ابن عباس: هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة.

وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } ثم قال: «هل تدرون ما قال ربكم»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة».

فصل: الإخبار عن الرحمة وهي مؤنثة بالتاء بقوله قريب وهو مذكر

وأما الأخبار عن الرحمة وهي مؤنثة بالتاء بقوله قريب، وهو مذكر ففيه اثنا عشر مسلكًا نذكرها ونبين ما فيها من صحيح وسقيم ومقارب.

المسلك الأول

أن فعيلًا على ضربين:

أحلاهما يأتي بمعنى فاعل كقدير وسميع وعليم.

والثاني يأتي بمعنى مفعول كقتيل وجريح وكف خضيب وطرف كحيل وشعر دهين كله بمعنى مفعول.

فإذا أتى بمعنى فاعل، فقياسه أن يجري مجراه في إلحاق التاء به مع المؤنث دون المذكر كجميل وجميلة وشريف وشريفة وصبيح وصبيحة وصبي وصبية ومليح ومليحة وطويل وطويلة ونحوه.

وإذا أتى بمعنى مفعول فلا يخلو أما أن يكون يصحب الموصوف كرجل قتيل وامرأة قتيل، أو يفرد عنه، فإن صحب الموصوف استوى فيه المذكر والمؤنث كرجل قتيل وامرأة قتيل، وإن لم يصحب الموصوف فإنه يؤنث إذا جرى على المؤنث نحو قتيلة بني فلان. ومنه قوله تعالى: { حرمت عليكم الميتة } إلى قوله: { والنطيحة }، 40 هذا حكم فعيل. وفعول قريب منه لفظًا ومعنى فإنهما مشتبهان في الوزن والدلالة على المبالغة وورودها بمعنى فاعل ومفعول.

ولما كان فعيل أخف استغني به عن فاعل في المضاعف كجليل وعزيز وذليل كراهية منهم لثقل التضيف إذا قالوا: جالل وعازز وذالل فأتوا بفعيل مفصولًا فيه بين المثلين بالياء الساكنة، ولم يأتوا في هذا بفعول لأن فعيلًا أخف منه ولخفته أيضا اطرد بناؤه من فعل كشريف وظريف وجميل ونبيل. وليس لفعول بناء يطرد منه ولخفته أيضا كان في أسماء الله تعالى أكثر من فعول فإن الرحيم والقدير والحسيب والجليل والرقيب ونظائره أكثر من ألفاظ الرؤوف والغفور والشكور والصبور والودود والعفو، ولا يعرف إلا هذه الألفاظ الستة.

وإذا ثبت التشابه بين فعيل وفعول فيما ذكرنا وكانوا قد خصوا فعولًا الذي بمعنى فاعل بتجريده من التاء الفارقة بين المذكر والمؤنث وشركوا بينهما في لفظ المذكر فقالوا: رجل صبور وشكور وامرأة صبور وشكور، ونظائرهما وأما عدو وعدوة فشاذ.

فإن قصد بالتاء المبالغة لحقت المذكر والمؤنث كرجل ملولة وفروقة وامرأة كذلك، وإن كان فعول في معنى مفعول لحقته التاء في المؤنث كحلوبة وركوبة.

فإذا تقرر ذلك فقريب في الآية هو فعيل بمعنى فاعل وليس المراد أنه بمعنى قارب، بل بمعنى اسم الفاعل العام، فكان حقه أن يكون بالتاء، ولكنهم أجروه مجرى فعيل بمعنى مفعول فلم يلحقوه التاء كما جرى فعيل بمعنى مفعول مجرى فعيل بمعنى فاعل في إلحاقه التاء كما قالوا: خصلة حميدة وفعلة ذميمة بمعنى محمودة ومذمومة، فحملا على جميلة وشريفة في لحاق التاء. فحملوا قريبًا عى امرأة قتيل وكف خضيب وعين كحيل في عدم إلحاق التاء حملًا لكل من البابين على الآخر.

ونظيره قوله تعالى: { قال من يحيي العظام وهي رميم }، 41 فحمل رميمًا وهي بمعنى فاعل على امرأة قتيل وبابه فهذا المسلك هو من أقوى مسالك النحاة، وعليه يعتمدون وقد اعترض عليه بثلاث اعتراضات:

أحدها: أن ذلك يستلزم التسوية بين اللازم والمتعدي، فإن فعيلًا بمعنى مفعول بابه الفعل المتعدي وفعيلًا بمعنى فاعل بابه الفعل اللازم، لأنه غالب ما يأتي من فعل المضموم العين فلو جرى على أحدهما حكم الآخر لكان ذلك تسوية بين اللازم والمتعدي وهو ممتنع.

الاعتراض الثاني: أن هذا إن ادعى على وجه العموم فباطل. وإن ادعى على سبيل الخصوص فما الضابط وما الفرق بين ما يسوغ فيه هذا الاستعمال وما لا يسوغ.

الاعتراض الثالث: أن العرب قد نطقت في فعيل بالتاء وهو بمعنى مفعول وجردته من التاء وهو بمعنى فاعل قال جرير يرثي خالته:

نعم القرين وكنت علق مضنة ** وأرى بنعق بلية الأحجار

فجرد القرين من التاء وهو بمعنى فاعل وقال:

فسقاك حيث حللت غير فقيدة ** هزج الرواح وديمة لا تقلع

فقرن فقيدة بالتاء وهو فعيل بمعنى مفعول أي غير مفقودة. وقال الفرزدق:

فداويته عامين وهي قريبة ** أراها وتدنو لي مرارًا وأرشف

ويقولون: امرأة فتين وسريح وهريت فجردوه عن التاء وهو بمعنى فاعل، وقالوا: امرأة فروك وهلوك ورشوف وأنوف ورضوف، فجردوه وهو بمعنى فاعل كصبور، وقالوا: امرأة عروب فجردوه أيضا، ثم قالوا: امرأة ملولة وفروقة فقرنوه بالتاء وهو بمعنى فاعل أيضا. ودعوى أن التاء ههنا للمبالغة لا دليل عليها فقد رأيت اشتراك فعول وفعيل في الاقتران بالتاء والتجرد منها، فدعوى أصالة المجرد منهما وشذوذ المقرون مقابلة بمثلها ومع مقابلها قياس اللغة في اقتران المؤنث وتجريد المذكر.

وأما ما استشهدتم به من قوله تعالى: { من يحيي العظام وهي رميم } فهو على وفق قياس العربية، فإن العظام جمع عظم وهو مذكر ولكن جمعه جمع تكسير، وجمع التكسير يجوز أن يراعى فيه تأنيث الجماعة. وباعتباره قال وهي ولم يقل وهو ويراعي فيه معنى الواحد، وباعتباره قال رميم كما يقال عظم رميم مع أن رميمًا يطلق على جمع المذكر مفردًا وجمعًا قال جرير:

إلى المهلب جذ الله دابرهم ** أمسوا رميمًا فلا أصل ولا طرف

فهذا الاعتراض على هذا المسلك.

المسلك الثاني

أن "قريبًا" في الآية من باب تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى، كقول الشاعر:

أرى رجلًا منهم أسيفًا كأنما ** يضم إلى كشحيه كفًا مخضبًا

فكف مؤنت، ولكن تأويله بمعنى عضو وطرف فذكر صفته فكذلك تتأول الرحمة وهي مؤنثة بالإحسان، فيذكر خبرها قالوا: وتأويل الرحمة بالإحسان أولى من تأويل الكف بعضو لوجهين:

أحدهما: أن الرحمة معنى قائم بالراحم والإحسان هو بر المرحوم ومعنى القرب في البر من المحسنين أظهر منه في الرحمة.

الثاني: أن ملاحظة الإحسان بالرحمة الموصوفة بالقرب من المحسنين هو مقابلة للإحسان الذي صدر منهم، وباعتبار المقابلة ازداد المعنى قوة واللفظ جزالة، حتى كأنه قال: إن إحسان الله قريب من أهل الإحسان كما قال تعالى: { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان }، 42 فذكر قريبًا ليفهم منه أنه صفة لمذكر وهو الإحسان فيفهم المقابلة المطلوبة. قالوا: ومن تأويل المؤنث بمذكر ما أنشده الفراء:

وقائع في مضر تسعة ** وفي وائل كانت العاشرة

فتأول الوقائع وهو مؤنثة بأيام الحرب المذكرة فأنث العدد الجاري عليها فقال تسعة ولولا هذا التأويل لقال تسع لأن الوقائع مؤنثة قالوا: وإذا جاز تأويل المذكر بمؤنث في قول من قال جاءته كتابي أي صحيفتي وفي قول الشاعر:

يا أيها الراكب المزجي مطيته ** سائل بني أسد ما هذه الصوت

أي ما هذه الصيحة، مع أنه حمل أصل على فرع فلأن يجوز تأويل مؤنث بمذكر لكونه حمل فرع على أصل أولى وأحرى، وهذا وجه جيد وقد اعترض عليه باعتراضين فاسدين غير لازمين:

أحدهما: أنه لو جاز تأويل المؤنث بمذكر يوافقه وعكسه لجاز أن يقال كلمتني زيد وأكرمتني عمرو وكلمني هند وأكرمني زينب، تأويلًا لزيد وعمرو بالنفس والجثة، وتأويلًا لهند وزينب بالشخص والشبح، وهذا باطل.

وهذا الاعتراض غير لازم، فإنهم لم يدعوا إطراد ذلك، وإنما ادعوا أنه مما يسوغ أن يستعمل وفرق بين ما يسوغ في بعض الأحيان وبين ما يطرد كرفع الفاعل ونصب المفعول، وهم لم يدعوا أنه من القسم الثاني.

ثم إن هذا الاعتراض مردود بكل ما يسوغ استعماله بمسوغ، وهو غير مطرد وهو أكثر من أن يذكر ههنا. ولا ينكره نحوي أصلًا وهل هذا إلا اعتراض على قواعد العربية بالتشكيكات والمناقضات، وأهل العربية لا يلتفتون إلى شيء من ذلك، فلو أنهم قالوا: يجوز تأويل كل مؤنث بمذكر يوافقه، وبالعكس لصح النقض، وإنما قالوا يسوغ أحيانًا تأويل أحدهما بالآخر لفائدة يتضمنها التأويل كالفائدة التي ذكرناها من تأويل الرحمة بالإحسان.

الاعتراض الثاني: أن حمل الرحمة على الإحسان إما أن يكون حملًا على حقيقته أو مجازه، وهما ممتنعان فإن الرحمة والإحسان متغايران لا يلزم من أحدهما وجود الآخر، لأن الرحمة قد توجد وافرة في حق من لا يتمكن من الإحسان كالوالدة العاجزة ونحوها، وقد يوجد الإحسان ممن لا رحمة في طباعه. كالملك القاسي فإنه قد يحسن إلى بعض أعدائه وغيرهم لمصلحة ملكه، مع أنه لا رحمة عنده. وإذا تبين انفكاك أحدهما عن الآخر لم يجز إطلاقه عليه لا حقيقة ولا مجازًا.

أما الحقيقة فظاهر وأما المجاز فإن شرطه خطور المعنى المجازى بالبال ليصح انتقال الذهن إليه، فإذا كان منفكًا عن الحقيقة لم يخطر بالذهن، وهذا الاعتراض أفسد من الذي قبله وهو من باب التعنت والمناكدة.

وأين هذا من قول أكثر المتكلمين - ولعل هذا المعترض منهم - إنه لا معنى للرحمة غائبًا إلا الإحسان المحض، وأما الرقة والحنة التي في الشاهد فلا يوصف الله بها، وإنما رحمته مجرد إحسانه ومع أنا لا نرتضي هذا القول، بل نثبت لله تعالى الرحمة حقيقة كما أثبتها لنفسه منزهة مبرأة عن خواص صفات المخلوقين كما نقوله قي سائر صفاته من إرادته وسمعه وبصره وعلمه وحياته وسائر صفات كماله. فلم نذكره إلا لنبين فساد اعتراض هذا المعترض على قول أئمته، ومن قال بقوله من المتكلمين.

ثم نقول: الرحمة لا تنفك عن إرادة الإحسان فهي مستلزمة للإحسان أو إرادته استلزام الخاص للعام، فكما يستحيل وجود الخاص بدون العام، فكذلك الرحمة بدون الإحسان أو إرادته يستحيل وجودها.

وأما قضية الأم العاجزة فإنها وإن لم تكن تقدر على الإحسان بالفعل فهي محسنة بالإرادة فرحمتها لا تنفك عن إرادتها التامة للإحسان التي يقترن بها مقدورها إما بدعاء وإما بإيثار بما تقدر عليه، ونحو ذلك فتخلف بعض الإحسان الذي لا تقدر عليه عن رحمتها. لا يخرج رحمتها عن استلزامها للإحسان المقدور وهذا واضح.

وأما الملك القاسي إذا أحسن فإن إحسانه لا يكون رحمة، فهذا لأن الإحسان أعم من الرحمة والأعم لا يستلزم الأخص وهم لم يدعوا ذلك فلا يلزمهم وأيضا فإن الإحسان قد يقال إنه يستلزم الرحمة وما فعله الملك المذكور، فليس بإحسان في الحقيقة وإن كانت صورته صورة الإحسان وبالجملة فالعنت والمناكدة على هذا الاعتراض أبين من أن يتكلف معه رده لم إبطاله.

المسلك الثالث

أن "قريبًا" في الآية من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف، فكأنه قال: إن مكان الرحمة قريب من المحسنين، ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره. ومن ذلك قول الشاعر حسان:

يسقون من ورد البريص عليهم ** بَرَدَى يُصفق بالرحيق السلسل

فقال: يصفق بالياء وبردى هي مؤنث لأنه أراد ماء بردى. ومنه قول النبي وقد أخذ بيديه ذهبًا وحريرًا فقال: «هذان حرام على ذكور أمتي». فقال حرام بالإفراد والمخبر عنه مثنى، كأنه قال: استعمال هذين حرام. وهذا المسلك ضعيف جدًا، لأن حذف الحضاف وإقامة المضاف إليه مقامه لا يسوغ ادعاؤه مطلقًا وإلا لالتبس الخطاب وفسد التفاهم وتعطلت الأدلة، إذ ما من لفظ أمر أو نهي أو خبر متضمن مأمورًا به ومنهيًا عنه ومخبرًا إلا ويمكن على هذا أن يقدر له لفظ مضاف يخرجه عن تعلق الأمر والنهي والخبرية.

فيقول الملحد في قوله: { ولله على الناس حج البيت }، 43 أي معرفة حج البيت، { كتب عليكم الصيام }، 44 أي معارفة الصيام، وإذا فتح هذا الباب فسد التخاطب وتعطلت الأدلة، وإنما يضمر المضاف حيث يتعين ولا يصح الكلام إلا بتقديره للضرورة. كما إذا قيل: أكلت الشاة فإن المفهوم من ذلك أكلت لحمها، فحذف المضاف لا يلبس، وكذلك إذا قلت: أكل فلان كبد فلان إذا أكل ماله فإن المفهوم أكثر ثمرة كبده فحذف المضاف هنا لا يلبس ونظائره كثيرة.

وليس منه: { واسأل القرية }، 45 وإن كان أكثر الأصوليين يمثلون به. فإن القرية اسم للسكان في مسكن مجتمع، فإنما تطلق القرية باعتبار الأمرين كالكأس لما فيه من الشراب والذنوب للدلو الملآن ماء والنهر والخوان للمائدة إذا كان عليها طعام ونظائره.

ثم إنهم لكثرة استعمالهم لهذه اللفظة ودورانها في كلامهم أطلقوها على السكان تارة، وعلى المسكن تارة، بحسب سياق الكلام وبساطه وإنما يفعلون هذا حيث لا لبس فيه فلا إضمار في ذلك ولا حذف، فتأمل هذا الموضع الذي خفي على القوم مع وضوحه.

وإذا عرفت هذا فقوله: { إن رحمة الله قريب من المحسنين }، 46 ليس في اللفظ ما يدل على إرادة موضع ولا مكان أصلًا فلا يجوز دعوى إضماره بل دعوى إضماره خطأ قطعًا، لأنه يتضمن الإخبار بأن المتكلم أراد المحذوف ولم ينصب على إرادته دليلًا لا صريحًا ولا لزومًا، فدعوى المدعي أنه أراده دعوى باطلة.

وأما قوله: بردى يصفق فليس أيضا من باب حذف المضاف بل أراد ببردى النهر، وهو مذكر فوصفه بصفة المذكر فقال: يصفق فلم يذكر بناء على حذف المضاف، وإنما ذكر بناء على أن بردى المراد به النهر.

فإن قلت: فلا بد من حذف مضاف لأنهم إنما يسقون ماء بردى لا نفس النهر.

قلت: هذا وان كان مراد الشاعر فلم يلزم منه صحة ما ادعاه من أنه ذكر يصفق باعتبار الماء المحذوف فإن تذكيره إنما يكون باعتبار إرادة النهر وهو مذكر فلا يدل على ما ادعوه.

وأما قوله : «هذان حرام»، ففي إفراد الخبر سر بديع جدًا، وهو التنبيه والإشارة على أن كل واحد منهما بمفرده موصوف بأنه حرام، فلو ثنى الخبر لم يكن فيه تنبيه على هذا المعنى، فلهذا أفرد الخبر فكأنه قال وكل واحد من هذين حرام فدل إفراد الخبر على إرادة الاخبار عن كل واحد واحد بمفرده فتأمله، فإنه من بديع اللغة وقد تقدم بيانه في هذا التعليق في مسألة كلا وكلتا. وان قولهم كلاهما قائم بالإفراد لا يدل على أن كلًا مفرد كما ذهب إليه البصريون، بل هو مثنى حقيقة، وإنما أفردوا الخبر للدلالة على أن الأخبار عن كل واحد منهما بالقيام، وقد قررنا ذلك هناك بما فيه كفاية.

المسلك الرابع

أنه من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه كأنه قال إن رحمة الله شيء قريب من المحسنين، أو لطف قريب، أو بر قريب، ونحو ذلك. وحذف الموصوف كثير فمنه قول الشاعر:

قامت تًبكّيه على قبره ** من لي من بعدك يا عامرُ

تركتني في الدار ذا غُربة ** قد ذل من ليس له ناصر

المعنى: تركتني شخصًا أو إنسانًا ذا غربة ولولا ذلك لقالت تركتني ذات غربة. ومنه قول الآخر:

فلو أنكِ في يوم الرخاء سألتني ** فراقك لم أبخل وأنتِ صديقُ

أراد وأنت شخص أو إنسان صديق. وعلى هذا المسلك حمل سيبويه قولهم للمرأة حائض وطامث وطالق، فقال كأنهم قالوا: شيء حائض وشيء طامث. وهذا المسلك أيضا ضعيف لثلاثة أوجه:

أحدها: أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه إنما يحسن بشرطين: أن تكون الصفة خاصة يعلم ثبوتها لذلك الموصوف بعينه لا لغيره؛ الثاني: أن تكون الصفة قد غلب استعمالها مفردة على الموصوف كالبر والفاجر والعالم والجاهل والمتقي والرسول والنبي ونحو ذلك، مما غلب استعمال الصفة، فيه مجردة عن الموصوف، فلا يكاد يجيء ذكر الموصوف معها كقوله تعالى: { إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم }، 47 وقوله: { إن المتقين في جنات وعيون }، 48 وقوله: { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات }، 49 وقوله: { والكافرون هم الظالمون }، 50 وهو كثير جدًا في القرآن وكلام العرب وبدون ذلك لا يحسن الاقتصار على الصفة. فلا يحسن أن تقول جاءني طويل ورأيت جميلًا أو قبيحًا، وأنت تريد جاءني رجل طويل ورأيت رجلًا جميلًا أو قبيحًا، ولا تقول: سكنت في قريب تريد في مكان قريب مع دلالة السكنى على المكان.

الثاني: إن الشيء أعلم المعلومات فإنه يشمل الواجب والممكن، فليس في تقديره ولا في اللفظ به زيادة فائدة يكون الكلام بها فصيحًا بليغًا فضلا عن أن يكون بها في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة. فأي فصاحة وبلاغة في قول القائل في حائض وطامث وطالق، شيء حائض وشيء طامث وشيء طالق، وهو لو صرح بهذا لاستهجنه السامع فكيف يقدر في الكلام مع أنه لا يتضمن فائدة أصلًا إذ كونه شيئًا أمر معلوم عام لا يدل عل مدح ولا ذم ولا كمال ولا نقصان.

وينبغي أن يتفطن ههنا لأمر لا بد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل، ويفسر بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة، ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق، وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره، وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر، وكلام آخر فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن.

مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ: { والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا }، 51 بالجر أنه قسم.

ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: { وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام }، 52 أن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في "به".

ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: { لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة }، 53 إن المقيمين مجرور بواو القسم.

ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهى بكثير، بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفه، والمعهود من معانيه، فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها، ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين، فكذلك معانيه أجل المعاني وأعظمها وأفخمها. فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به، بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم. فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها، وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانًا وبسطًا في الكلام على أصول التفسير. فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله.

الوجه الثالث: إن طالقًا وحائضًا وطامثًا إنما حذفت تاؤه لعدم الحاجة إليها، فإن التاء إنما دخلت للفرق بين المذكر والمؤنث في محل اللبس فإذا كانت الصفة خاصة بالمؤنث فلا لبس فلا حاجة إلى التاء. هذا هو الصواب في ذلك وهو المذهب الكوفي.

فإن قلت: هذا خلاف مذهب سيبويه.

قلت: فكان ماذا؟ وهل يرتضي محصل برد موجب الدليل الصحيح لكونه خلاف قول عالم معين؟ هذه طريقة الخفافيش. فأما أهل البصائر فإنهم لا يردون الدليل وموجبه بقول معين أبدًا، وقليل ما هم.

ولا ريب أن أبا بشر رحمه الله ضرب في هذا العلم بالقدح المعلى وأحرز من قصبات سبقه واستولى من أمده على ما لم يستول عليه غيره، فهو المصلي في هذا المضمار، ولكن لا يوجب ذلك أن يعتقد أنه أحاط بجميع كلام العرب وأنه لا حق إلا ما قاله. وكم لسيبويه من نص قد خالفه جمهور أصحابه فيه والمبرزون منهم، ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال الكلام به. ولا تنس قوله قي باب الصفة المشبهة مررت برجل حسن وجهه، بإضافة حسن إلى الوجه والوجه إلى الضمير ومخالفة جميع البصريين والكوفيين في ذلك. فسيبويه رحمه الله ممن يؤخذ من قوله ويترك،. وإما أن نعتقد صحة قوله في كل شيء، فكلا. وسنفرد إن شاء الله كتابًا للحكومة بين البصريين والكوفيين فيما اختلفوا فيه وبيان الراجح من ذلك، وبالله التوفيق والتأييد.

فإن قلت: يكفي في رد ما اخترتموه في طامث وحائض وطالق من المذهب الكوفي قوله تعالى: { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت }، 54 فهذا وصف يختص به الإناث وقد جاء بالتاء.

قلت: ليس في هذا ولله الحمد رد لهذا المذهب ولا إبطال له، فإن دخول التاء ههنا يتضمن فائدة لا تحصل بدونها، فتعين الإتيان بها وهي أن المراد بالمرضعة فاعلة الرضاع فالمراد الفعل لا مجرد الوصف، ولو أريد الوصف المجرد بكونها من أهل الإرضاع لقيل مرضع كحائض وطامث ألا ترى إلى قوله : «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» فإن المراد به الموصوفة بكونها من أهل الحيض، لا من يجري دمها، فالحائض والمرضع وصف عام يقال على من لها ذلك وصفًا، وإن لم يكن قائمًا بها ويقال على من قام بها بالفعل فأدخلت التاء ههنا إيذانًا بأن المراد من تفعل الرضاع فإنها تذهل عما ترضعه لشدة هول زنزلة الساعة. وأكد هذا المعنى بقوله: { عما أرضعت }، فعلم أن المراد المرضعة التي ترضع، بالفعل لا بالقوة والتهيؤ، وترجيح هذا المذهب له موضع غير هذا.

المسلك الخامس

أن هذا من باب اكتساب المضاف، حكم المضاف إليه، إذا كان صالحًا للحذف والاستغناء عنه بالثاني كقول الشاعر:

لما أتى خبر الزبير تواضعت ** سور المدينة والجبال الخشع

وقال الآخر:

مشين كما اهتزت رماح تسفهت ** أعاليها من الرياح النواسم

وقال الآخر:

بغي االنفوس معيدة نعماءها ** نقمًا وإن عمهت وطال غرورها

فأنث الأول السور المضاف إلى المدينة، والثاني المر المضاف إلى الرياح، والثالث البغي المضاف إلى النفوس، لتأنيث المضاف إليه، مع أن التذكير أصل والتأنيث فرع، فحمل الأصل على الفرع. فلأن يجوز تذكير المؤنث لإضافته إلى غير مؤنث أولى لأنه حمل للفرع على الأصل.

ومن الأول أيضا قول الشاعر:

وتشرق بالأمر الذي قد أذعته ** كما شرقت صدر القناة من الدم

فأنث الصدر لإضافته إلى القناة وأنشدني بعض أصحابنا لأبي محمد بن حزم في هذا المعنى بإسناد لا يحضرني:

تجنب صديقًا مثل ما واحذر الذي ** تواه كعمرو بين عُرب وأعجم

فإن صديق السوء يُردي وشاهدي ** كما شرقت صدر القناة من الدم

ومنه قول النابغة:

حتى استغثن بأهل الملح ضاحية يركضن قد قلقت عقد الأطانيب

ومنه قول لبيد:

فمضى وقدمها وكانت عادة ** منه إذا هي عردت أقدامها

وهذا المسلك وإن كان قد ارتضاه غير واحد من الفضلاء فليس بقوي، لأنه إنما يعرف مجيئه في الشعر، ولا يعرف في الكلام الفصيح منه إلا النادر كقولهم: ذهبت بعض أصابعه، والذي قواه ههنا شدة اتصال المضاف بالمضاف إليه وكونه جزأه حقيقة فكأنه قال: ذهبت أصبع وأصبعان من أصابعه، وحمل القرآن على المكثور الذي خلافه أفصح منه ليس بسهل.

المسلك السادس

أن هذا من باب الاستغاء بأحد المذكورين عن الأخ لكونه تبعًا له، ومعنى من معانيه، فإذا ذكر أغنى عن ذكره، لأنه يفهم منه.

ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين }، 55 فاستغني عن خبر الإعناق بالخبر عن أصحابها. ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى: { والله ورسوله أحق أن يرضوه }، 56 المعنى والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله إذ، أرضاؤه هو إرضاء رسوله، فلم يحتج إن يقول يرضوهما فعلى هذا يكون الأصل في الآية إن الله قريب من المحسين، وإن رحمة الله قريبة من المحسنين. فاستغني بخبر المحذوف عن خبر الموجود، وسوغ ذلك ظهور المعنى وهذا المسلك مسلك حسن إذا كسي تعبيرًا أحسن من هذا، وهو مسلك لطيف المنزع دقيق على الأفهام، وهر من أسرار القرآن.

والذي ينبغي أن يعبر عنه به أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى، والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه لأن الصفة لا تفارق موصوفهًا، فإذا كانت قريبة من المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب فه، بل قرب رحمته تبع، لقربه هو تبارك وتعالى من المحسنين.

وقد تقدم في أول الآية إن الله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته ومن أهل لم سؤاله بإجابته. وذكرنا شواهد ذلك وإن الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده، كما أن العبد قرب من ربه بالإحسان، وإن من تقرب منه شبرًا تقرب الله منه ذراعًا، ومن تقرب منه ذراعًا تقرب منه باعًا، فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين ورحمته قريبة منهم وقربه يستلزم قرب رحمته. ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة. إن الله تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين قربه وقرب رحمته، ولو قال إن رحمة الله قريبة من المحسنين لم يدل على قربه تعالى منهم، لأن قربه تعالى أخص من قرب رحمته، والأعم لا يستلزم الأخص بخلاف قربه، فإنه لما كان أخص استلزم الأعم، وهو قرب رحمته. فلا تستهن بهذا المسلك فإن له شأنًا وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب، وما أظن صاحب هذا المسلك قصد هذا المعنى، ولا ألم به، وإنما أراد أن الإخبار عن قرب الله تعالى من المحسنين لم كاف عن الإخبار عن قرب رحمته منهم.

فهو مسلك سابع في الآية وهو المختار، وهو من أليق ما قيل فيها، وإن شئت قلت: قربه تبارك وتعالى من المحسنين، وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا كانت رحمته قريبة منهم فهو أيضا قريب منهم، وإذا كان المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما، فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ لها وأشرفه وأجله على الإطلاق، وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد وهو قربه تبارك وتعالى من عبده الذي هو غاية الأماني ونهاية الآمال وقرة العيون وحياة القلوب وسعادة العبد كلها، فكان في العدول عن قريبة إلى قريب، من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يختلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته ولا قوة إلا بالله.

المسلك الثامن

أن الرحمة مصدر، والمصادر كما لا تثنى ولا تجمع، فحقها أن لا تؤنث وهذا المسلك ضعيف جدًا فإن الله سبحانه حيث ذكر الرحمة أجرى عليها التأنيث كقوله: { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون }، 57 وقوله فيما حكى عنه رسوله : «إن رحمتي غلبت أو سبقت غضبي» ولو كان حذف التاء من الرحمة لكونها مصدر أو المصادر.

لاحظ للتأنيث فيها لم يعد عليها الضمير إلا مذكرًا وكذلك ما كان من المصادر بالتاء كالقدرة والإرادة والحكمة والهمة ونظائرها وفي بطلان ذلك، دليل على بطلان هذا المسلك.

المسلك التاسع

أن القريب يراد به شيئان:

أحدهما: النسب والقرابة، فهذا بالتاء تقول فلانة قريبة لي.

والثاني: قرب المكان وهذا بلا تاء تقول: جلست فلانة قريبًا مني، ولا تقول قريبة مني، وهذا مسلك الفراء رحمه الله وجماعة، وهو أيضا ضعيف، فإن هذا إنما هو إذا كان لفظ القريب ظرفًا، فإنه يذكر كما قال تقول جلست المرأة مني قريبًا فأما إذا كان اسمًا محضًا فلا.

المسلك العاشر

أن تأنيث الرحمة لما كان غير حقيقي ساغ فيه حذف التاء، كما تقول: طلع الشمس وطلعت، وهذا المسلك أيضا فاسد، فإن هذا إنما يكون إذا أسند الفعل إلى ظاهر المؤنث فأما إذا أسند إلى ضميره فلا بد من التاء، كقولك الشمس طلعت وتقول الشمس طالعة ولا تقول: طالع لأن في الصفة ضميرها فهي بمعنى الفعل في ذلك سواء.

المسلك الحادي عشر

أن قريبًا مصدر لا وصف، وهو بمنزلة النقيض فجرد من التاء لأنك إذا أخبرت عن المؤنث بالمصدر لم تلحقه التاء، ولهذا تقول امرأة عدل ولا تقول: عدلة وامرأة صوم وصلاة وصدق وبر، ونظائره وهذا المسلك من أفسد ما قيل عن القريب فإنه لا يعرف استعماله مصدرًا أبدًا، وإنما هو وصف والمصدر هو القرب لا القريب.

المسلك الثاني عشر

أن فعيلًا وفعولًا مطلقًا يستوي فيهما المذكر والمؤنث حقيقيًا كان أو غير حقيقي كما قال امرؤ القيس:

يرهرهة رودة رخصة ** كخرعوبة البانة المنفطر

قطيع القيام فتور الكلام ** تفتر عن ذب عزوب خصر

وقال أيضا:

له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ** قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا

وقال جرير:

أتنفعك الحياة وأم عمرو ** قريب لا تزور ولا تزار

وقال جرير أيضا:

كأن لم نحارب يابثين لو أنها ** تكشف غماها وأنت صديق

وقال أيضا:

دعون الهوى ثم ارتهن قلوبنا ** بأسهم أعداء وهن صديق

قالوا: وشواهد ذلك كثيرة. وفي هذا المسلك غنية عن تلك التعسفات والتأويلات.

وهذا المسلك ضعيف أيضا، ومما رده أبو عبد الله بن مالك فقال: هذا القول ضعيف، لأن قائله إما أن يريد أن فعيلًا في هذا الموضع وغيره يستحق ما يستحقه فعول من الجري على المذكر والمؤنث بلفظ واحد، وإما أن يريد أن فعيلًا في هذا الموضع خاصة محمول على فعول.

فالأول مردود لإجماع أهل العربية على التزام التاء في ظريفة وشريفة وأشباههما وزنًا ودلالة، ولذلك احتاج علماؤهم أن يقولوا في قوله تعالى: { وما كانت أمك بغيًا }، 58 وقوله: { ولم أك بغيًا }، 59 أن الأصل هو بغوي على فعول، فلذلك لم تلحقه التاء ثم أعل بإبدال الواو ياء والضمة كسرة فصار لفظه كلفظ فعيل. ولو كان فعيلًا أصلًا للحقته التاء فقيل ألم أك بغية.

والثاني أيضا مردود لأن لفعيل على فعول من المزايا ما لا يليق به أن يكون تبعًا له، بل العكس أولى أن يكون فعولًا تبعًا لفعيل، ولأنه يتضمن حمل فعيل على فعول وهما مختلفان لفظًا ومعنى، أما اللفظ فظاهر وأما المعنى فلان قريبًا لا مبالغة في لأنه يوصف به كل ذي قرب وإن قل وفعول لا بد فيه من المبالغة.

وأيضا فإن الدال على المبالغة لا بد أن يكون له بنيته لا مبالغة فيها، ثم يقصد به المبالغة فتغير بنيته كضارب وضروب، وعالم وعليم وقريب، ليس كذلك فلا مبالغة فيه.

وأما بيت امرؤ القيس فلا حجة فيه لوجوه:

أحدها: إنه نادر، فلا حكم له فلا كثرت صوره ولا جاء على الأصل كاستجوذ واستوثق البعير وأغيمت السماء وأغور وأحول وما كان كذلك فلا حكم له.

الثاني: أن يكون أراد قطيعة القيام ثم حذف التاء للإضافة، فإنها تجوز بحذفها عند الفراء وغيره وعليه حمل قوله تعالى: { وأقام الصلاة }، 60 أي إقامتها لأن المعروف في ذلك، إنما هو لفظ الإقامة، ولا يقال إقام دون إضافة كما لا يقال أراد في إرادة ولا أقال في إقالة، لأنهم جعلوا هذه التاء عوضًا عن ألف إفعال أو عينه، لأن أصل إقامة أقوام فنقلت حركة العين إلى الفاء فانقلبت ألفاء فالتقت ألفان فحذفت إحداهما فجاؤوا بالتاء عوضًا، فلزمت إلا مع الإضافة فإن حدفها جائز عند قوم قياسًا وعند آخرين سماعًا ومثلها في اللزوم تاء عدة وزنة وأصلهما وعد ووزن فحذفت الواو وجعلت التاء عوضًا منها فلزمت. وقد تحذف للإضافة كقول الشاعر:

إن الخليط أجدوا البين وانجردوا ** وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا

أي أخلفوك عدة الأمر، فحذف التاء. وعلى هذه اللغة قرأ بعض القراء: { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عُدَّهُ }. 61 بالهاء أي عدته فحذف التاء.

الثالث: أن يكون فعيل في قوله قطيع القيام بمعنى مفعول لأن صاحب المحكم حكى أنه يقال قطعه وأقطعه إذا بكته وقطع هو فهو قطيع القول، فقطيع على هذا بمعنى مقطوع أي مبكت فحذف التاء على هذا التوجيه ليس مخالفًا للقياس وإن جعل قطيعًا مبنيًا على قطع كسريع من سرع، فحقه على ذلك أن يلحقه التاء عند جريه على المؤنث إلا أنه شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول فأجرى مجراه.

فهذا تمام اثني عشر مسلكًا في هذه الآية أصحها المسلك المركب من السادس والسابع، وباقيها ضعيف وواه ومحتمل.

والمبتدئ والمقلد لا يدرك هذه الدقائق والفاضل المنصف لا يخفى عليه قويها من ضيفها وليكن هذا آخر الكلام على الآية والله أعلم.

فائدة: تقسيم الخبر إلى مفرد وجملة وبيان حكم كل منهما

خبر المبتدإ إما مفرد، وإما جملة، فإن كان جملة فأما أن يكون نفس المبتدأ أو غيره، فإن كان نفس المبتدأ لم يحتج إلى رابط يربطها به، إذ لا رابط أقوى من اتحادهما نحو قولي الحمد لله.

وإن كانت غير المبتدإ فلا بد فيها من رابط يربطها بالمبتدإ لئلا يتوهم استقلالها وانقطاعها عن المبتدإ، لأن الجملة كلام قائم تام بنفسه، وذلك الرابط لا يتعين أن يكون ضميرًا بل يجوز أن يكون ضميرًا وهو الأكثر، واسم إشارة كقوله تعالى: { ولباس التقوى ذلك خير }، 62 وقوله: { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم }، 63 ونظائره كثيرة.

أو اسمًا ظاهرًا قائمًا مقام الضمير كقوله تعالى: { والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين }. 64

وقد يستغنى عن الضمير إذا علم الرابط وعدم الاستقلال بالسياق، وباب هذا التفصيل بعد الجملة، ففيه يقع الاستغناء عن الضمير كثيرًا، كقولك المال لهؤلاء لزيد درهم ولعمرو درهمان ولخالد ثلاثة ومثله الناس واحد في الجنة وواحد في النار. ولا حاجة إلى تقدير ضمير رابط محذوف تقديره لزيد منه درهم وواحد منهم في الجنة فإن تفصيل المبتدأ بالجملة بعده رابط أغنى عن الضمير، فتأمله ومثله السمن منوان بدرهم وهذا بخلاف قولك زيد عمرو مسافر فإنه لا رابط بينهما بوجه، فلذلك يحتاج أن يقول في حاجته، ونحو ذلك ليفيد الإخبار، هذا حكم الجملة.

وأما المفرد فقد اشتهر على ألسنة النحاة أنه إن كان مشتقًا فلا بد من ضمير يربطه بالمبتدإ، وإن كان جامدًا لم يحتج إلى ضمير وبعضهم يتكلف تأويله بالمشتق.

وهذا موضع لا بد من تحريره، فنقول الخبر المفرد لما كان نفس المبتدأ كان اتحادهما أعظم رابط يمكن فلا وجه لاشتراط الرابط بعد هذا أصلًا فإن المخاطب يعرف أن الخبر مسند إلى المبدأ وإنه هلو نفسه، ومن هنا يعلم غلط المنطقيين في قولهم: إنه لا بد من الرابط إما مضمرًا وإما مظهرًا.

وهذا كلام من هو بعيد من تصور المعاني وارتباطها بالألفاظ، ولا تستنكر هذه العبارة في حق المنطقيين فإنهم من أفسد الناس تصورًا ولا يصدق بهذا إلا من عرف قوانين القوم وعرف ما فيها من التخبيط والفساد.

وأما إن كان الخبر اسمًا مشتقًا مفردًا فلا بد فيه من ضميرًا ولكن ليس الجالب لذلك الضمير ربطه بالمبتدإ بل الجالب له أن المشتق كالفعل في المعنى فلا بد له من فاعل ظاهر أو مضمر.

فإن قيل: وما الذي يدل على أن في الفعل ضميرًا حتى يكون في ثانيه ضمير، فإذا قلت: زيد قام فإن هذا اللفظ لا ضمير فيه يستمع، فدعوى تحمله للضمير دعوى محضة.

قيل: الذي يدل على أن فيه الضمير تأكيدهم له وعطفهم عليه وإبدالهم منه، كقولك في التأكيد: إن زيدًا سيقوم نفسه برفع نفس وفي العطف كقوله تعالى: { سيصلى نارا ذات لهب * وامرأته }، 65 فامرأته رفع عطفًا على الضمير في سيصلى وفي الإبدال، قولك إن زيدًا يعجبني علمه على أن يكون علمه بدل اشتمال لا فاعل، فإذا كان المشتق مفردًا كان الضمير الذي فيه اسمًا فعلا كان أو اسمًا، نحو زيد يذهب وزيد ذاهب.

وأما في التثنية والجمع فلا يكون ضميرًا إلا في الأفعال، نحو يذهبان ويذهبون، وأما في الأسماء، فإنه لا يكون فيها إذا ظهر إلا علامة لا ضميرًا، نحو ذاهبان وذاهبون فهما في الاسم حرفان، وفي الفعل اسمان، برهان ذلك، انقلابهما في الاسم ياء في التثنية والجمع كما ينقلبان فيما لا يتحمل ضميرًا كالزيدين والزيدين ولو كان ضميرًا كهما في الفعل لبقيا على لفظ واحد كما تقول في الفعل، هؤلاء رجال يذهبون، ومررت برجال يذهبون، ورأيت رجالًا يذهبون، وكذلك في التثنية سواء فلا يتغير لفظ الواو لأنها فاعل وليست علامة إعراب الفعل فثبت بهذا صحة دعوى النحاة على العرب. إن الضمير المستتر في الاسم المشتق لا يظهر في تثنية ولا جمع وإن الضمير المستتر في الفعل يظهر في التثنية والجمع.

ولولا الدليل الذي ذكرناه لما عرف هذا أبدًا، لأن العرب لم تشافهنا بهذا مشافهة ولا أفصحت عن هذا القدر في هذا ونحوه إلا باستقراء كلامها والتتبع لأنحائها ومقاصدها الموصل إلى غرائب هذه اللغة وأسرارها وحكمها.

فإن قيل: فقد عرفنا صحة ذلك فما هي الحكمة التي من أجلها فرقوا بين الموطنين فجعلوها ضمائر في الأفعال وحروفًا في الأسماء؟

قيل: في ذلك حكمة بديعة وهي أن الأسماء لما كان أصلها الإعراب كانت أحوج إلى علامة إعراب منها إلى علامة إضمار، والأفعال أصلها البناء ولم يكن لها بد من الفاعل ضرورة، فكانت أحوج إلى علامة إضمار الفاعلين منها إلى علامة إعراب، مع أن هذه العلامة في الأسماء علامة تثنية وجمع وحروف إعراب أيضا، والأفعال لا تثنى ولا تجمع إذ هي مشتقة من المصدر وهو لا يثنى ولا يجمع، لأنه يدل على القليل والكثير بلفظ واحد، هذه علة النحاة.

وفيه علة أخرى هي أصح من هذه، وألطف وأدق قد تقدمت في أول هذا التعليق.

وإذا ثبت أن الأفعال لا تثنى ولا تجمع وعلامة التثنية والجمع حروف إعراب، فلا يكون الواو والألف إلا علامة إضمار ولا يكون في الأسماء وإن احتملت الضمائر إلا علامة تثنية وجمع وحروف إعراب، على قول سيبويه أي محل الإعراب أو هي الإعراب نفسها وعلى قول قطرب وغيره، بمنزلة الحركات في المفرد أو دليل إعراب على قول الأخفش والمبرد.

فصل: حكم الخبر إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا

هذا حكم الخبر إذا كان مفردًا أو جملة. فأما إذا كان واقعًا موقع الخبر وليس هو نفسه خبرًا كالظرف والمجرور، فإنه واقع موقع مشتق متحمل للضمير، وهو: إما مفرد وإما جملة.

وأكثر النحاة يقدرونه بمفرد مشتق نظرًا إلى أن الأصل في الخبر أن يكون مفردًا، فتقديره كذلك موافق للأصل، وأيضا فإنما قدر لضرورة صحة الكلام فإن الظرف والمجرور ليس هو نفس المبتدأ وما قدر للضرورة لا يتعدى به ما تقتضيه الضرورة وهي تزول بالمفرد، فتقدير الجملة مستغنى عنه مع أنه خلاف الأصل.

وأيضا فإنه قدر للتعلق. وهذا التعلق يكفي فيه المفرد، وأيضا فإنه يقع في موضع لا يصح فيه تقدير الجملة، كقولك: أما عندك فزيد وأما في الدار فعمرو، فإن أما لا يليها إلا اسم مفرد، فإذا تعين المفرد ههنا يرجح في الباقي ليجري الباب على سنن واحد ولا ينتقض هذا بوقوعه في صلة إلموصول، كقولك: جاءني الذي في الدار إذ يتعين تقدير الجملة، لأن كلامنا في التقدير في باب الخبر لا في التقدير في سائر الأبواب، كالصلة والصفة والحال ولا يلزم من تعين الجملة في التقدير في الصلة تعينها ولا ترجيحها في باب المبتدإ.

وسأل أبو الفتح ابن جني أبا علي عن هذه المسألة فلم يراجعه بجواب شاف، أكثر من أن قال له تقدير الاسم ههنا، أولى لأن خبر المبتدأ في أغلب أحواله اسم.

وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال الجار هنا لا يتصور تعليقه بفعل محض إذ الفعل المحض ما دل على حدث وزمان، ودلالته على الزمان ببنيته، فإذا لم يكن له وجود في اللفظ لم يكن له بنية تدل على الزمان، مع أن الجار لا تعلق له بالزمان ولا يدل عليه، إنما هو في أصل وضعه لتقييد الحدث وجرده إلى الاسم على وجه ما من الإضافة فلا تعلق له إلا بالحدث. والحدث الذي هو المصدر لا يمكن تقديره ههنا لأنه خبر المبتدأ. والمبتدأ ليس هو الحدث فبطل أن يكون التقدير زيد استقرار في الدار، وبطل أيضا بما تقدم أن يكون التقدير زيد استقر في الدار، ألا ترى أنه يقبح أن يقال زيد في الدار أمس أو أول من أمس.

وإذا بطل القسمان أعني إضمار المصدر والفعل لم يبق إلا القسم الثالث وهو إضمار اسم الفاعل فتتضح الفائدتان:

إحداهما أن يكون خبرًا عن المبتدإ ويضمر فيه ما يعود عليه إذ لا يمكن ذلك في المصدر.

والثانية أن يصح تعلق الجار به، إذ مطلوبه الحدث، واسم الفاعل متضمن للحدث لا للزمان.

إذا عرف هذا فلا يصح ارتفاع الاسم بعد الظرف والمجرور بالاستقرار على أنه فاعل، وإن كان في هوضع خبر أو نعت، وإنما يرتفع بالابتداء كما يرتفع في قولك قائم زيد بالابتداء، لا بقائم خلافًا للأخفش، فإذا قلت في الدار زيد فارتفاع زيد بالابتداء لا بالاستقرار.

فإن قلت: أليس إذا قلت زيد قائم أبوه ورأيت رجلًا قائمًا أبوه ومررت برجل قائم أبوه فترفع الاسم بقائم إذا كان معتمدًا على مبتدأ أو منعوت أو ذي حال، وكذلك إذا كان قبله استفهام أو نفي نحو أقائم زيد وما قائم زيد.

قيل: اسم الفاعل مشتق وفيه لفظ الفعل ومعناه فإذا اقترن به ألف الاستفهام أو قرينة من القرائن التي ذكرت التي يقوي بها معنى الفعل عمل عمل الفعل بخلاف قائم زيد، فإنه لا قرينة معه تقتضي أن يعمل عمل الفعل، فحمل على أصله من الابتداء والخبر.

فإن قيل: فهلا قلت إن الظرف والمجرور إذا اعتمد كما يعتمد اسم الفاعل أنه يرفع الاسم كما هو معزى إلى سيبويه فإذا قلت: زيد في الدار أبوه. كان أبوه مرفوعًا بالظرف كما إذا قلت زيد قائم أبوه.

قلت: قد توهم قوم إن هذا مذهب سيبويه وإنك إذا قلت: مررت برجل معه صقر. إن صقرًا مرفوع بالظرف لاعتماده على الموصوف، وكنا نظن ذلك زمانًا حتى تبين أن هذا ليس بمذهبه وأنه غلط عليه، وقد بين أبو سعيد السيرافي مراد سيبويه من كلامه، وشرح وجه الغلط عليه بما فيه كفاية فراجعه في كتابه.

والفرق بين الظرف وبين اسم الفاعل ما تقدم. أن اسم الفاعل مشتق وفيه لفظ الفعل ومعناه، فإذا اعتمد أو اقترنت به قرينة قوي جانب الفعلية فيه، فعمل عمل الفعل. وأما الظرف فلا لفظ للفعل فيه إنما هو معنى يتعلق به الفعل ويدل عليه ولم يكن في قوة القرينة التي يعتمد عليها أن تجعله كالفعل، كما لم يكن في قوته إذا كان ملفوظًا به دون قرينة أن يكون كالفعل، فإذا اجتمع الاعتماد المقوي لمعنى الفعل مع اللفظ المشتق من الغعل عمل الاسم حينئذ عمل الفعل.

ووجه آخر من الفرق بين المسألتين أنك إذا قلت: مررت برجل قائم أبوه، فالقيام لا محالة مسند إلى الأب في المعنى. وهو في اللفظ جار على رجل والكلام له لفظ ومعنى، فقائم في اللفظ جار على ما قبله. وفي المعنى مسند إلى ما بعده.

وأما الظرف والمجرور فليس كذلك إنما هو معنى يتعلق به الجار وذلك المعنى مسند إلى الاسم المرفوع وخبر عنه فصح أنه مبتدأ، والمجرور خبر عنه، والجملة في موضع نعت أو خبر.

فإن قيل: فيلزمكم إذا قدمتم الظرف في موضع الخبر وقدرتم فيه ضميرًا يعود على المبتدأ، أن تجيزوا في الدار نفسه زيد وفيها أجمعون إخوتك وهذا لا يجوزه أحد. وفي هذا حجة للأخفش ولمن قال بقوله في إن رفع الاسم بالظرف.

قيل: إنما قبح توكيد المضمر إذا كان الظرف خبرًا مقدمًا لأن الظرف في الحقيقة ليس هو الحامل للضمير، إنما هو متعلق بالاسم الحامل للضمير، وذلك الاسم غير موجود في اللفظ حتى يقال إنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى، وإذا لم يكن ملفوظًا به فهو في المعنى والرتبة بعد المبتدأ، والمجرور المقدم قبل المبتدأ دال عليه والدال على الشيء غير الشيء. فلذلك قبح فيها أجمعون الزيدون لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد ولذلك صح تقديم خبر إن على اسمها، إذا كان ظرفًا، لأن الظرف ليس هو الخبر في الحقيقة، إنما هو متعلق بالخبر. والخبر منوي في موضعه مقدر في مكانه، ولذلك لم ينكسر أصل الخليل في منعه تقديم خبر المبتدأ مع كثرة هذا النحو في الكلام أعني في الدار زيد، ولذلك عدل سيبويه في قولهم فيها قائمًا رجل ولمية موحشًا، طلل إلى أن جعل الحال من النكرة، ولم يجعلها حالًا من الضمير الذي في الخبر لأن الخبر مؤخر في النية، وهو العامل في الحال وهو منوي، والحال لا يتقدم على العامل المنوي فهذا كله مما يبين أن الظرف والمجرور ليس هو الخبر في الحقيقة ولا الحامل للضمير ولا العامل في شيء من الأشياء لا في حال ولا في ظرف ولا في فاعل. ومن جهة المفعول أن الدار إذا انفردت بلفظها لم يصح أن تكون خبرًا عن زيد ولا عاملة ولا حاملة للضمير، وكذلك في ومن وسائر حروف الجر لو انفردت لم يكن فيها شيء من ذلك فقد وضح أن الخبر غيرها وإنها واقعة موقعه والله أعلم.

فإن قيل: فما تقول فيما حكاه الزجاج عن بعض النحاة أنك إذا قلت: قائم زيد أن قائمًا مبتدأ وزيد فاعل به سد مسد الخبر؟

قيل: هذا وإن كان قد جوزه بعض النحاة، فهو فاسد في القياس لأن اسم الفاعل اسم محض، واشتقاقه من الفعل لا يوجب له عمل الفعل كمسجد ومرقد ومروحة ومغرفة، ولكن إنما يعمل إذا تقدم ما يطلب الفعل، أو كان في موضع لا تدخل عليه العوامل اللفظية نحو النعت والخبر والحال فيقوى حينئذ معنى الفعل فيه ويعضد هذا من السماع أنهم لم يحكوا قالم الزيدان وذاهب إخوتك عن العرب إلا على الشرط الذي ذكرنا ولو وجد الأخفش ومن قال يقوله سماعًا لاحتجوا به على الخليل وسيبويه، فإذا لم يكن مسموعًا وكان بالقياس مدفوعًا فأحر به أن يكون باطلًا ممنوعًا.

فإن قلت: فما تصنع في قول الشاعر:

خبير بني لهب فلا تك ملغيًا ** مقالة لهبي إذا الطير موت

فهذا صريح في أن خبير مبتدأ وبنو لهب فاعل به. وفي قول الآخر:

فخير نحن عند الناس منكم ** إذا الداعي المثهوب قال يالا

قلت: أما البيت الأول فعلى شذوذه وندرته لا يعرفه قائله ولم يعرف أن تقدمي النحاة وأئمتهم استشهدوا به وما كان كذلك فإنه لا يحتج به باتفاق على أنه لو صح أن قائله حجة عند العرب لاحتمل أن يكون المبتدأ محذوفًا مضافًا إلى بني، لهب وأصله كل بني لهب خبير وكل يخبر عنها بالمفرد كما تقدم في أول التعليق، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فاستحق إعرابه.

ويدل على إرادة العموم عجز البيت، وهو قوله:.. فلا تك ملغيًا ** مقالة لهبي.. أفلا ترى كيف يعطى هذا الكلام أن كل واحد من بني لهب خبير فلا تلغ مقالة لهبي.

وكذلك البيت الثاني فلا متعلق فيه أصلًا، لأن أفعل التفضيل إذا وقع خبرًا عن غيره وكان مقترنًا بمن، كان مفردًا على كل حال نحو الزيدون خير من العمرين.

فصل: وجوه اسم الفاعل

إذا ثبت هذا فيجوز في اسم الفاعل إذا اعتمد على ما قبله أو كان معه قرينة مقتضية للفعل وبعده اسم مرفوع وجهان:

أحدهما أن يكون خبرًا مقدمًا والاسم بعده مبتدأ وأن يكون مبتدأ والمرفوع بعده فاعل نحو أقائم زيد؟ وما قائم عمرو ونحوه إلا أن يمنع مانع من ذلك. وذلك في ثلاث مسائل:

أحدها: قولك زيد قائم أخواه فإن هذا يتعين فيه أن يكون أخواه فاعلًا بقائم ولا يجوز أن يكون أخواه مبتدأ وقائم الخبر لعدم المطابقة.

الثانية: قولك زيد قائمان أخواه فإن هذا يتعين فيه على الأفصح أن يكون مبتدأ وخبرًا ولو كان من باب الفعل والفاعل لقلت قائم أخواه، كما تقول قام أخواه.

الثالثة: قولك زيد قائم أنت إليه وزيد قائم. هو إذا كان الفاعل ضميرًا منفصلًا فإن هذا لا يكون إلا مبتدأ وخبرًا، لأن الضمير المنفصل لا يكون فاعلًا مع اتصاله بعامله، إنما يكون فاعلًا إذا لم يمكن اتصاله نحو ما قائم إلا أنت، ونحو الضاربة هو.

فإذا عرفت ذلك فقوله في حديث المبعث: «أومخرجي هم» فمخرجي يتعين أن يكون خبرًا مقدمًا وهم مبتدأ، لأن الرواية اتفقت على تشديد مخرجي وكان أصله مخرجون لي فحذف اللام وأضيفت مخرجون إلى الياء فسقط نون الجمع لأنها تسقط للإضافة فصار مخرجوي، فاجتمع الواو والياء والسابق منهما ساكن فقلبت الواو ياء، فصار مثلان فأدغم أحدهما في الآخر فجاء مخرجي. ومثله ضاربي ومكرمي ولو أن الصفة ههنا رافعة للضمير لكانت مفردة وكان يقال: أومخرجي هم بالتخفيف كما تقول أضاربي إخوتك ولو جعلته مبتدأ وخبرًا لقلت أضاربي بالتشديد والله أعلم.

فإن قلت: ما هم بمخرجي تعين التشديد ليس إلا لأن الفاعل لا يتقدم، فلو خففت لكانت المسألة من باب الفعل والفاعل. والفاعل لا يتقدم عامله وإن أخرت الضمير جاز لك الوجهان كما تقدم.

فصل: ظروف الزمان والإخبار عن الجثة

قولهم: ظروف الزمان لا تكون إخبارًا عن الجثث، ليس على إطلاقه بل فيه تفصيل يعرف من العلة في منع ذلك، والعلة أن الزمان لما كان عبارة عن أوقات الحوادث وكانوا محتاجين إلى تقييد حوادثهم وتاريخها بأزمنة تقارنها معلومة عند المتكلم والمخاطب كما يقدرونها بالأماكن التي تقع فيها جعل الله سبحانه وتعالى حركات الشمس والقمر وما يحدث بسببها من الليل والنهار والشهور والأعوام معيارًا يعلم به العباد مقادير حوادث أفعالهم وتاريخها ومعيارها لشدة حاجتهم إلى ذلك في الأجال، كالعدد والإجارات والسلم والديون المؤجلة ومعرفة مواقيت الحج والصيام وغيرها، فصارت حركة الشمس والقمر تاريخًا وتقييدًا ومعيارًا للأفعال والحياة والموت والمولد وغير ذلك.

فالزمان إذًا عبارة عن مقارنة حادث لحادث مقارنة الحادث من الحركة العلوية للحادث من حركات العباد ومعيارًا له، ولهذا سماه النحاة ظرفًا لأنه مكيال ومعيار يعلم به مقدار الحركة والفعل وتقدمه وتأخره، وقربه وبعده، وطوله وقصره، وانقطاعه ودوامه.

فإذا أخبرت أن فعلك قارن ذلك الحادث المعلوم من حركة الشمس والقمر يوقت له ويقيد به، فسمي وقتًا وهو في الأصل مصدر وقت الشيء أوقته إذا حددته وقدرته حتى لو أمكن أن يقيد ويؤرخ بما يقارن الفعل من الحوادث غير الزمان استغني عن الزمان، نحو قمت عند خروج الأمير وعند قدوم الحج وعند موت فلان؛ لكن ذلك لا يشترك في علمه ومعرفته كالاشتراك في معرفة يوم الجمعة وشهر رمضان ونحوه ولا يطرد مع أنه أيضا توقيت وتاريخ بالزمان في الحقيقة، فإن قولك عند خروج الأمير وقدوم الحاج، إنما تريد به هذه الأوقات والأزمنة ولكن المعلوم عند جميج المخاطبين، إنما هي أجزاء الزمان كالشهر والسنة واليوم وأبعاض ذلك.

وإذا عرف ذلك فلا معنى لقولك زيد اليوم وعمرو غدًا، لأن الجثث ليس بأحداث فتحتاج إلى تقييدها بما يقارنها وإلى تاريخها بحدث معها فما ليس بحدث لا معنى لتقييده بالحدث الذي هو الزمان.

وعلى هذا فإذا أردت حدوث الجثة ووجودها فهو أيضا حادث فيجوز أن يخبر عنه بالزمان إذا كان الزمان يسع مدتها تقول: نحن هذا المائة الثامنة، وكان الأوزاعي في المائة الثانية، والإمام أحمد في المائة الثالثة، ونحو هذا.

وعلى هذا إذا قلت الليلة الهلال صح ولا حاجة بك إلى تكلف إضمار الليلة طلوع الهلال، فإن المراد حدوث هلال ذلك الشهر فجرى مجرى الأحداث، وكذلك تقول: الورد في أيار وتقول الرطب في شهر كذا وكذا ومنه قول الشاعر:

أكل عام نعم يحوونه ** يلقحه قوم وتنتجونه

ومثله قولك البدر ليلة أربع عشرة، ولا حاجة إلى تكلف طلوع البدر، بل لا يصح هذا التقدير لأن السائل إذ سألك أي وقت البدر فإنه لم يسألك عن الطلوع إذ هو لا يجهله، وإنما يسألك عن ذات البدر ونفسه. فقولك: هو ليلة أربع عشرة تريد به أن ليلة أربع عشرة هي ليلة كونه بدرًا لا ليلة طلوعه فتأمله.

وعلى هذا فلا يسوغ هذا الاستعمال حتى يكون الزمان يسع ما قيدته به من الحدث والجثة التي في معناه فلو كان الزمان أضيق من ذلك، لم يجز التقييد به، لأن الوقت لا يكون أقل من المؤقت فلا تقول نحن في يوم السبت، وإن صح أن تقول نحن في المائة الثامنة، ولا تقول الحجاج في يوم الخميس وتقول الحجاج في زمن بني أمية والله أعلم.

فصل: إشكالات إعرابية

قوله عز وجل: { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون }، 66 وقوله تعالى: { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم }، 67 وقوله تعالى: { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون }، 68 مما أشكل إعرابه على فحول العربية واختلفت أقوالهم في ذلك.

فقال صاحب الكشاف: سواء اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى: { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم }، 69 وقوله تعالى: { في أربعة أيام سواء للسائلين }، 70 بمعنى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لأن وأنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع رفع على الفاعلية. كأنه قيل: إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه، كما تقول إن زيدًا مختصم أخوه وابن عمه، أو يكون أنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء وسواء خبرًا مقدمًا بمعنى سواء عليهم إنذارك وعدمه والجملة خبر لأن.

قال: فإن قلت الفعل أبدًا خبر لا مخبر عنه فكيف صح الإخبار عنه في هذا الكلام؟ قلت: هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلًا بينًا. من ذلك قولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن. معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل والهمزة وأم مجردتان بمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما مغى الاستفهام رأسًا.

قال سيبويه جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولهم اللهم اغفر لنا أيتها العصابة يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام. ولا استفهام كما أن ذاك جرى على صورة النداء، ولا نداء ومعنى الاستواء استواؤهما في علم المستفهم عنهما لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن، إما الإنذار وإما عدمه ولكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين.

قلت: هذا قوله وقول طائفة من النحاة. وقد اعترض على ما ذكراه بأنه يلزم القائل به أن يجيز سواء أقمت أم قعدت دون أن تقول علي أو عليك، وأنه يجيز سيان أذهب زيد أم جلس ويتفقان أقام زيد أم قعد وما كان نحو هذا مما لا يجوز في الكلام ولا روي عن أحد لأن التقدير الذي قدروه منطبق على هذا.

وقالت طائفة أخرى سواء ههنا مبتدأ والجملة الاستفهامية في موضع الخبر، وإنما قالوا هذا وإن كان سواء نكرة، لأن الجملة لا تكون في موضع المبتدأ أبدًا ولا في موضع الفاعل. وأورد عليهم أن الجملة. إذا وقعت خبرًا فلا بد فيها من ضمير يعود على المبتدأ فأين الضمير العائد على سواء ههنا؟ فأجابوا عن هذا. بأن سواء وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو في المعنى خبر لأن المعنى سواء عليهم الإنذار وعدمه قالوا: ولا يلزم أن يعود من المبتدإ ضمير على الخبر فلما كان سواء خبرًا في المعنى دون اللفظ روعي المعنى.

ونظير هذا قولهم: ضربي زيدًا قائمًا فإنه لم يعد على ضربي ضمير من الحال التي سدت مسد الخبر، لأن معناه أضرب زيدًا أو ضربت زيدًا، والفعل لا يعود عليه ضمير فكذلك ما هو في معناه وقوته.

ونظيره أيضا: أقائم أخوك، لأن "أخوك" وإن سد مسد الخبر فإنه فاعل في المعنى وقائم معناه معنى الفعل الرافع للفاعل. فروعيت هذه المعاني في هذه المواضع وهجر فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى وبقي حكم الابتداء مقتضيًا للرفع لفظًا، والمبتدأ متضمن لمعنى يخالف معنى الابتداء، فحكم لذلك المعنى فلم يعد على اللفظ ضمير وحكم للفظ المبتدأ بحكم الابتداء فارتفع.

فهذا قول هذه الطائفة الأخرى واعترض عليه بعد الاعتراف بحسنه وقوته بأن العرب لم تنطق بمثل هذا في سواء حتى قرنته بالضمير المجرور بعلى، نحو سواء عليكم وسواء عليهم وسواء علي فإن طردوا ما أصلوه في سواء، سواء قرن بعلى أم لم يقرن فليس كذلك، وإن خصوه بالمقرون بعلى فلم يبينوا سر اختصاصه بذلك.

وقالت طائفة ثالثة منهم السهيلي، وهذا لفظه، لما كانت العرب لا تقول سيان أقمت أم قعدت ولا مثلان، ولا شبهان، ولا يقولون ذلك إلا في سواء مع المجرور بعلى، وجب البحث عن السر في ذلك وعن مقصد القوم في هذا الكلام، وعن المساواة بين أي شيء، هي وفي أي الصفات هي من الاسمين الموصوفين بالتساوي فوجدنا معنى الكلام ومقصوده، إنما هو تساوي. عدم المبالاة بقيام أو قعود أو إنذار أو ترك إنذار ولو أرادوا المساواة في صفة موجودة في الذات لقالوا سواء الإقامة والشخوص، كما يقولون: سواء زيد وعمرو وسيان. وضلان يعني استواءهما في صفة ذاتيهما فإذا أردت أن تسوي بين أمرين في عدم المبالاة وترك الالتفات لهما وإنهما قد هانا عليك وخفا عليك، قلت سواء علي أفعل، أم لم يفعل كما تقول: لا أبالي أفعل أم لم يفعل، لأن المبالاة فعل من أفعال القلب، وأفعال القلب تلغى إذا وقعت بعدها الجمل المستفهم عنها أو المؤكدة باللام. تقول: لا أدري أقام زيد أم قعد؟ وقد علمت ليقومن زيد ولكن لا تلغى هذه الأفعال القلبية، حتى يذكر فاعلها في اللفظ أو في المعنى، فتكون حينئذ في موضع المفعول بالعلم.

ثم قال:

فصل: إعراب سواء عليهم أأنذرتهم

فإذا ثبث هذا فـ"سواء" مبتدأ في اللفظ، وعلي وعليكم أو عليهم مجرور في اللفظ وهو فاعل في المعنى المضمون من مقصود الكلام، إذ قواك سواء على في معنى لا أبالي وفي أبالي فاعل، وذلك الضمير الفاعل هو المجرور بعلى في المعنى، لأن الأمرين إنما استويا عليك في عدم المبالاة، فإن لم تبال بهما لم تلتفت بقلبك إليهما، وإذا لم تلتفت فكأنك قلت لا أدري أقمت أم قعدت.

فلما صارت الجملة الاستفهامية في معنى المفعول لفعل من أفعال القلب، لم يلزم أن يكون فيها ضمير يعود على ما قبلها إذ ليس قبلها في الحقيقة إلا معنى فعل يعمل فيها وكيف يعود من المفعول ضمير على عامله ولولا قولك علي وعليكم ما قوي ذلك المعنى، ولا عمل في الجملة، ولكن لما تعلق الجار به صار في حكم المنطوق به وصار المجرور هو الفاعل في المعنى، كالفاعل في علمت ودريت وباليت.

ألا ترى كيف صار المجرور في قولهم: "له صوتٌ صوتَ غرابٍ" بمنزلة الفاعل في يصوت، حتى كأنك نطقت بيصوت فنصبت صوت غراب لذلك.

وإذ قلت: عليه نوحٌ نوحُ الحمام، رفعت نوح الحمام، لأن الضمير المخفوض بعلى ليس هو الفاعل الذي ينوح كما كان في قولك "له صوت صوت غراب"، وكذلك المجرور في سواء عليهم هو الفاعل الذي في قولك لا يبالون ولا يلتفتون إذ المساواة، إنما هي في عدم المبالاة والالتفات والمتكلم لا يريله غير هذا بوجه فصار الفاعل مذكورًا والمبالاة مفعولة مقصودة، فوقعت الجملة الاستفهامية مفعولًا لها.

قال: ونظير هذه المسألة حذو القذة بالقذة قوله تعالى: { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين }، 71 فبدا فعل ماض فلا بد له من فاعل، والجملة المؤكدة باللام لا تكون في موضع فاعل أبدًا، وإنما تكون في موضع المفعول بعلمت وإن لم يكن في اللفظ علموا، ففي اللفظ ما هو في معناه لأن قولهم بدا ظهر للقلب لا للعين.

وإذا ظهر الشيء للقلب فقد علم والمجرور من قوله: لهم هو الفاعل، فلما حصل معنى العلم وفاعله مقدمًا على الجملة المؤكدة باللام صارت الجملة مفعولًا لذلك العلم كما تقول: علمت ليقومن زيد، ولام الابتداء وألف الاستفهام يكون قبلها أفعال القلب ملغاة فكذلك سواء عليهم أأنذرتهم، رفعت الجملة الاستفهامية في المعنى بعد فعل من أفعال القلب وبعد فاعله كما تقدم بيان ذلك حين قدرناه بقولك: لا يبالون، فالواو في يبالون هو الفاعل والضمير في عليهم هو الفاعل في المعنى.

ألا ترى كيف اختص بعلى من بين حروف الجر، لأن المعنى إذا كان يرجع إلى عدم المبالاة فقد هان عليك الأمران وصارا أخف شيء على من لا يباليهما ويلتفت إليهما، فتأمله تجد المعاني صحيحة والفوائد كثيرة مزدحمة تحت هذا اللفظ الوجيز.

فلذلك نبت عنه كثير من الأفهام حتى تناقضت عليهم الأصول التي أصلوها واضطربوا في الجواب عن الاعتراضات التى التزموها، مع ما غاب عنهم من فوائد هذه الآيات وإعجازها وسمانة هذه الكلمات على إيجازها.

ثم قال:

فصل: الاستفهام مع أم يعطي معنى التسوية وبيان ذلك

فإن قيل: ما بال الاستفهام في هذه الجملة والكلام خبر محض؟

قلنا الاستفهام مع أم يعطي معنى التسوية، فإذا قلت أقام زيد أم قعد فقد سويت بينهما في علمك فهذا جواب فيه مقنع.

وأما التحقيق في الجواب فإن تقول ألف الاستفهام. لم يخلع منها ما وضعت له ولا عزلت عنه، وإنما معناه علمت أقام زيد أم قعد؟ أي علمت ما كنت أقول فيه هذا القول واستفهم عنه بهذا اللفظ، فحكيت الكلام كما كان ليعلم المخاطب، إن ما كان مستفهمًا عنه معلوم، كما تقول: قام زيد فترفعه، لأنه فاعل ثم تقول: ما قام زيد فيبقى الكلام كما كان وتبقى الجملة محكية على لفظها لتدل على أنه ما كان خبرًا متوهمًا عند المخاطب. فهو الذي نفى بحرف النفي ولهذا نظائر يطول ذكرها، فكذلك قوله: { سواء عليهم أأنذرتهم }، 72 لما لم يبالوا بالإنذار ولا نفعهم ولا دخل في قلوبهم منه شيء، صار في حكم المستفهم عنه أكان أم لم يكن فلا تسمى الألف ألف التسوية، كما فعل بعضهم، ولكن ألف الاستفهام بالمعنى الذي وضعت له ولم يزل عنه.

ثم قال: فإن قيل: فلم جاء بلفظ الماضي أعني أنذرتهم، وضعت وكذلك أدعوتموهم أم أنتم صامتون. وأقام زيد أم قعد؟ ولم يجيء بلفظ الحال ولا المستقبل فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن في الكلام معنى الشرط، والشرط يقع بعد المستقبل بلفظ الماضي. تقول إن قام زيد غدًا قمت وههنا يتعذر ذلك المعنى، كأنك قلت إن قام زيد أو قعد لم أباله ولا ينتفع القوم إن أنذرتهم أم لم تنذرهم، فلذلك جاء بلفظ الماضي.

وقد قال الفارسي قولًا غير هذا، ولكنه قريب منه في اللفظ، قال: إن ألف ألم الاستفهام تضارع إن التي للجزاء لأن الاستفهام غير واجب، كما أن الشرط ليس بحاصل إذا عدم المشروط فهذه العبارة فاسدة من وجوه يطول ذكرها ولو رأى المعنى الذي قدمناه لكان أشبه.

على أنه عندي مدخولًا أيضا، لأن معنى الشرط يطلب الاستقبال خاصة دون الحال والماضي وقوله: { سواء عليكم أدعوتموهم }، 73 { وسواء عليهم أأنذرتهم } لم تختص بالاستقبال بل المساواة في عدم المبالاة موجودة في كل حال، بل هي أظهر في فعل الحال، ولا يقع بعد حرف الشرط فعل حال بوجه.

والتحقيق هي الجواب أن نقول: قد أصلنا في نتائج الفكر أصلًا، وهو أن الفعل لم يشتق من المصدر مضافًا إلا ليدل على كون الاسم مخبرًا عنه أعني الفاعل الذي كان المصدر مضافًا إليه، ولم تختلف أبنيته بعدما اشتق من المصدر إلا لاختلاف أحوال الحدث من مضي أو استقبال، فإن كان قصد المتكلم أن لا يقيد الحدث بزمان دون زمان، ولا بحال استقبال دون حال مضى، بل يجعله مطلقًا جاء بلفظ الماضي الذي لا زوائد فيه ليكون أخف على اللسان وأقرب إلى لفظ الحدث المشتق منه. ألا ترى أنهم يقولون: لا أفعله ما لاح برق وما طار طائر بلفظ الماضي، خاصة لما أرادوا مدة مطلقة غير مقيدة، وإنه لا يفعل هذا الشيء في مدة لوح البرق وطيران الطائر ونحو ذلك، فلم يجاوزوا لفظ الماضي لأنهم لا يريدون استقبالًا ولا حالًا على الخصوص.

فإن قلت: ولا يريدون أيضا ماضيًا فكيف جاء بلفظ الماضي؟

قلنا: قد قرن معه لا أكلمه ولا أفعله فدل على أن قوله ما لاح برق لا يريد به لوحًا فد انقضى وانقطع، إنما يريد مقارنة الفعل المنفي للفعل الآخر في المدة على الإطلاق والدوام، فليس في قوله: ما لاح برق إلا معنى اللوح خاصة غير انه ترك لفظ المصدر ليكون البرق مخبرًا عنه كما تقدم فمتى أردت هذا ولم ترد تقييدًا بزمان فلفظ الماضي أحق وأولى. وكذلك قوله تعالى: { سواء عليهم أأنذرتهم }، 74 أضاف الإنذار إلى المخاطب المخبر عنه فاشتق من الإنذار لفعل ليدل على أن المخاطب فاعل الإنذار وترك الفعل بلفظ الماضي لأنه مطلق في الزمان كله وإن القوم لم يبالوا بهذا ولا هم في حال مبالاة فلم يكن لإدخال الزوائد الأربع معنى، إذ ليس المراد تقييد الفعل بوقت ولا تخصيصه بحال.

فإن قلت: لفظ الماضي يخصصه بالانقطاع.

قلنا: حدث حديثين امرأة. وفيما قدمناه ما يغني عن الجواب مع ما في قوله: { سواء عليهم أأنذرتهم } من ثبوت هذه الصفة فيهم وحصولها في الحال وفي المآل فلا تقول سواء ثوباك أو غلاماك إذا كان الاستواء فيما مضى وهما الآن مختلفان، فهذه القرينة تنفي الانقطاع الذي يتوهم في لفظ المضي، كما كان لفظ الحال في قولك لا أكلمه ما دامت السموات والأرض بنفي الانقطاع المتوهم في دام. وإذا انتفى الانقطاع وانتفت الزوائد الأربع بقي الحدث مطلقًا غير مقيد في المسألتين فتأمل هذا تجده صحيحًا.

فصل: الكلام على واو الثمانية

قولهم إن الواو تأتي للثمانية ليس عليه دليل مستقيم الكلام على واو الثمانية قولهم: إن الواو تأتي للثمانية، ليس عليه دليل مستقيم وقد ذكروا ذلك في مواضع، فلنتكلم عليها واحدًا واحدًا:

الموضع الأول: قوله تعالى: { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر }، 75 فقيل الواو في والناهون واو الثمانية لمجيئها بعد استيفاء الأوصاف السبعة، وذكروا في الآية وجوهًا أخر:

منها: أن هذا من التفنن في الكلام أن يعطف بعضه ويترك عطف بعض.

ومنها أن الصفات التي قبل هاتين الصفتين صفات لازمة متعلقة بالعامل، وهاتان الصفتان متعديتان متعلقتان بالغير فقطعتا عما قبلهما بالعطف.

ومنها أن المراد التنبيه على أن الموصوفين بالصفات المتقدمة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.

وكل هذه الأجوبة في غير سديدة، وأحسن ما يقال فيها أن الصفات إذا ذكرت في مقام التعداد، فتارة يتوسط بينها حرف العطف لتغايرها في نفسها وللإيذان بأن المراد ذكر كل صفة بمفردها، وتارة لا يتوسطها العاطف لاتحاد موصوفها وتلازمها في نفسها وللإيذان بأنها في تلازمها كالصفة الواحدة، وتارة يتوسط العاطف بين بعضها ويحذف مع بعض بحسب هذين المقامين.

فإذا كان المقام مقام تعداد الصفات من في غير نظر إلى جمع أو انفراد حسن اسقاط حرف العطف، وإن أريد الجمع بين الصفات أو التنبيه على تغايرها، حسن إدخال حرف العطف.

فمثال الأول: { التائبون العابدون الحامدون }، وقوله: { مسلمات مؤمنات قانتات تائبات }. 76

ومثال الثاني قوله تعالى: { هو الأول والآخر والظاهر والباطن } 77 وتأمل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى: { حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول }، 78 فأتى بالواو في الوصفين الأولين وحذفها في الوصفين الأخيرين، لأن غفران الذنب وقبول التوب قد يظن أنهما يجريان مجرى الوصف الواحد لتلازمهما، فمن غفر الذنب قبل التوب فكان في عطف أحدهما على الآخر ما يدل على أنهما صفتان وفعلان متغايران ومفهومان مختلفان لكل منهما حكمه:

أحدهما: يتعلق بالإساءة والإعراض وهو المغفرة.

والثاني يتعلق بالإحسان والإقبال على الله والرجوع إليه وهو التوبة، فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة.

وحسّن العطف ههنا هذا التغاير الظاهر، وكلما كان التغاير أبين كان العطف أحسن، ولهذا جاء العطف في قوله: { هو الأول والآخر والظاهر والباطن }، 79 وترك في قوله: { الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن }، 80 وقوله: { الخالق البارئ المصور }، 81 وأما { شديد العقاب ذي الطول } فترك العطف بينهما لنكتة بديعة وهي الدلالة على اجتماع هذين الأمرين في ذاته سبحانه وإنه حال كونه شديد العقاب. فهو ذو الطول وطوله لا ينافي شدة عقابه، بل هما مجتمعان له بخلاف الأول والآخر فإن الأولية لا تجامع الآخرية، ولهذا فسرها النبي في بقوله: «أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء»، فأوليته أزليته وآخريته أبديته.

فإن قلت: فما تصنع بقوله: والظاهر والباطن، فإن ظهوره تعالى ثابت مع بطونه فيجتمع في حقه الظهور والبطون والنبي فسر الظاهر بأنه الذي ليس فوقه شيء. والباطن بأنه الذي ليس دونه شيء. وهذا العلو والفوقية مجامع لهذا القرب والدنو والإحاطة.

قلت: هذا سؤال حسن. والذي حسن دخول الواو ههنا إن هذه الصفات متقابلة متضادة وقد عطف الثاني منهما على الأول للمقابلة التي بينهما، والصفتان الأخريان كالأوليين في المقابلة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخر إلى الأول، فكما حسن العطف بين الأوليين حسن بين الاخريين.

فإذا عرف هذا فالآية التي نحن فيها يتضح بما ذكرناه معنى العطف وتركه فيها، لأن كل صفة لم تعطف على ما قبلها فيها كان فيه تنبيه على أنها في اجتماعها كالوصف الواحد لموصوف واحد، فلم يحتج إلى عطف فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما متلازمان مستمدان من مادة واحدة. حسن العطف ليتبين أن كل وصف منهما قائم على حدته مطلوب في تعيينه، لا يكتفي فيه بحصول الوصف الآخر، بل لا بد أن يظهر أمره بالمعروف بصريحه ونهيه عن المنكر بصريحه، وأيضا فحسن العطف ههنا ما تقدم من التضاد فلما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضدين؛ أحدهما: طلب الإيجاد والآخر طلب الإعدام كانا كالنوعين المتغايرين المتضادين، فحسن لذلك العطف.

الموضع الثاني: قوله تعالى: { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات }، 82 إلى قوله ثيبات وأبكارًا فقيل هذه واو الثمانية لمجيئها بعد الوصف السابع وليس كذلك، ودخول الواو ههنا متعين لأن الأوصاف التي قبلها المراد اجتماعها في النساء، وأما وصفًا البكارة والثيوبة فلا يمكن اجتماعهما، فتعين العطف لأن المقصود أنه يزوجه بالنوعين الثيبات والأبكار.

الموضع الثالث قوله تعالى: { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجمًا بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم }. 83 قيل: المراد إدخال الواو ههنا لأجل الثمانية وهذا يحتمل أمرين أحدهما هذا والثاني أن يكون دخول الواو ههنا إيذانًا بتمام كلامهم عند قولهم سبعة ثم ابتدا قوله وثامنهم كلبهم وذلك يتضمن تقرير قولهم سبعة، كما إذا قال لك زيد فقيه فقلت ونحوي. وهذا اختيار السهيلي. وقد تقدم الكلام عليه، وأن هذا إنما يتم إذا كان قوله وثامنهم كلبهم ليس داخلًا في المحكى بالقول والظاهر خلافه. والله أعلم.

الموضع الرابع قوله تعالى: { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها }، 84 فأتى بالواو لما كانت أبواب الجنة ثمانية، وقال في النار: { حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها }، 85 لما كانت سبعة وهذا في غاية البعد ولا دلالة في اللفظ على الثمانية حتى تدخل الواو لأجلها، بل هذا من باب حذف الجواب لنكتة بديعة، وهي أن تفتيح أبواب النار كان حال موافاة أهلها ففتحت في وجوههم لأنه أبلغ في مفاجأة المكروه.

وأما الجنة فلما كانت ذات الكرامة وهي مأدبة الله. وكان الكريم إذا دعا أضيافه إلى داره، شرع لهم أبوابها، ثم استدعاهم إليها مفتحة الأبواب، أتى بالواو العاطفة ههنا الدالة على أنها جاؤوها بعدما فتحت أبوابها. وحذف الجواب تفخيمًا لشأنه وتعظيمًا لقدره كعادتهم في حذف الأجوبة. وقد أشبعنا الكلام على هذا فيما تقدم والله أعلم.

فصل: بيان مذاهب النحاة في لولا إذا اتصل به ضمير متصل

مذهب سيبويه أن "لولا" إذا اتصل بها الضمير المتصل نحو، لولاه ولولاك. كان مجرورًا وخالفه الأخفش. وقال الأخفش والكوفيون هذه الضمائر مما وقع المضمر المتصل موقع المنفصل كما وقع المنفصل موقع المتصل، في قولهم: ما أنا كأنت ولا أنت كأنا. وقد وقع المتصل موقع المنفصل في قوله:

وما نبالي إذا ما كنت جارتنا ** أن لا يجاورنا إلاكِ ديار

وقال المبرد: بقول الكوفيين: فأما حجة سيبويه فهي الاستعمال، قال الشاعر:

وكم موطن لولاي طحت كما هوى ** بإجرامه من قلة النيق منهوى

وقال الآخر: * لولاكِ هذا العام لم أحجُجِ *

وقال آخر: * ولولاكَ لم يعرض لأحسابنا حسن *

واحتج سيبويه على أن الضمير هنا مجرور بأن هذه الضمائر التي هي: الهاء والكاف والياء إما أن تكون ضمائر نصب أو ضمائر جر، ومحال أن تكون ضمائر رفع ولا يجوز أن تكون ضمائر نصب، لأن الحروف إذا اتصل بها ياء المتكلم وكانت في موضع نصب اتصل بها نون الوقاية نحو أني وأنني وكأني وكأنني، فإن أدى ذلك إلى اجتماع مثلين جاز حذف نون الوقاية، فيقال: إني وكأني ولكني فلو كانت الياء ضمير نصب لقالوا: لولاني كما قالوا ليتني ولم يأت ذلك فتعين أن تكون ضمير جر، فإذا ثيت هذا في الياء، فكذلك في الكاف والهاء.

وأما الكوفيون فاحتجوا بأن الظاهر لا يقع بعد هذه الحروف إلا مرفوعًا فكذلك المضمر وقد وجد ذلك في المنفصل، فيكون المتصل كذلك، ولكن هذه الضمائر المتصلة وقعت موقع الضمائر المنفصلة، كما يقع المنفصل موقع المتصل فهما يتعاقبان ويتعاوضان. فقالوا: ما أنا كأنت فأوقعوا ضميرًا لرفع موقع ضمير الجر، فلذلك قالوا: لولاك فاوقعوا ضمير الجر موقع ضمير الرفع. فالتغيير وقع في الصيغة لا في الإعراب. قالوا: وقد ثبت أن لولا لا تعمل في الظاهر، فكيف تعمل في المضمر.

وأجاب البصريون عن هذا بأن الأصل أن الضمائر لا يقع بعضها موقع بعض إلا للضرورة في الشعر، وبأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجهين:

أحدهما إيقاع المتصل موقع المنفصل.

والثاني إيقاع المجرور موقع المرفوع وهذا تغيير مرتين فالتغيير في لولا بكونها حرف جر في هذا الموضع أسهل. قالوا: وأما عملها في المضمر خاصة فليس بمستنكر عمل العامل في بعض الأسماء دون بعض. فهذه لدن لا تعمل إلا في غدوة وحدها، فإذا كان العامل يعمل في بعض الظاهرات دون بعض وهي جنس واحد، فلأن يعمل في المضمر دون الظاهر وهما جنسان: أولى وقد رد بعض النحاة هذا الاستعمال جملة وقال: هو لحن. واختلف على المبرد فقيل إن هذا مذهبه وقيل إن مذهبه قول الكوفيين. والله أعلم.

فصل: مذاهب النحاة في المستثنى

اختلف في المستثنى من أي شيء هو مخرَج.

فذهب الكسائي إلى أنه مخرج من المستثنى منه، وهو المحكوم عليه فقط. فإذا قلت: جاء القوم إلا زيدًا فزيد مخرج من القوم فكأنك أخبرت عن القوم الذين ليس فيهم زيد بالمجيء، وأما هو فلم تخبر عنه بشيء، بل سلبت الإخبار عنه لا أنك أخبرت عنه بسلب المجيء والفرق بين الأمرين واضح، وعلى قوله: فالإسناد وقع بعد الإخراج.

وذهب الفراء إلى أنه مخرج من الحكم نفسه.

وذهب الأكثرون إلى أنه مخرج منهما معًا. فله اعتباران أحدهما كونه مستثنى وبهذا الاعتبار هو مخرج من الاسم المستثنى منه. والثاني كونه محكومًا عليه بضد حكم المستثنى منه، وبهذا الاعتبار هو مخرج من حكمه.

والتحقيق في ذلك، أنه مخرج من الاسم المقيد بالحكم فهو مخرج من اسم مقيد لا مطلق.

ونذكر ما احتج به لهذه المذاهب وما تعقب به على الاحتجاج.

فاحتج الكسائي بقوله تعالى: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى }. 86 ووجه الاستدلال أن الاستثناء لو كان مخرجًا من الحكم لكان قوله أبى تكرارًا لأنه قد علم بالاستثناء. وأجيب عن هذا بأنه تأكيد واعترض على هذا الجواب بأن المعاني المستفادة من الحروف لا تؤكد، فلا يقال ما قام زيد نفيًا وهل قام عمرو استفهامًا، ولكن قام زيد استدراكًا ونحوه، لأن الحرف وضع على الاختصار ولهذا عدل عن الفعل إليه فتأكيده بالفعل ينافي المقصود بوضعه.

والتحقيق في الجواب أن أبى أفاد معنى زائدًا وهو: أن عدم سجوده استند إلى إبائه وهو أمر وجودي اتصف به نشأ عنه الذنب، فلم يكن ترك سجوده لعجز ولا لسهو ولا لغفلة، بل كان إباء واستكبارًا. ومعلوم أن هذا لا يفهم من مجرد الاستثناء عليه، وإنما المفهوم منه عدم سجوده، وأما الحامل على عدم السجود فلا يدل الاستثناء عليه فصرح بذكره.

ونظير هذا الاحتجاج والاعتراض والتقدير سواء قوله تعالى: { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين }، 87 فإن نفى كونه من الساجدين أخص من نفي السجود عنه لأن نفي الكون يقتضي نفي الأهلية والاستعداد فهو أبلغ في الذم من أن يقال لم يسجد.

ثم الذي يدل على بطلان هذا المذهب وجوه:

منها أنه لو كان ما بعد إلا مسكوتًا عن حكمه لم يكن قولنا: لا إله إلا الله توحيدًا واللازم باطل، فالملزوم مثله والمقدمتان ظاهرتان.

ومنها أن الاستثناء المنقطع لا يتصور الإخراج فيه من الاسم لعدم دخوله فيه، فكذلك المتصل.

ومنها أنه لو كان الإخراج من الاسم وحده لما صح الاستثناء من مضمون الجملة، كقولك زيد أخوك إلا أنه نائي عنك وعمرو صديقك إلا أنه يواد عدوك ونحو هذا.

ومنها أنه لا يوجد في كلام العرب قام القوم إلا زيدًا، فإنه قام ولو كان الإخراج من الاسم وحده والمستثنى مسكوت عنه، لجاز إثبات القيام له كما جاز نفيه عنه. فإن السكوت عن حكمه لا يفيد نفي القيام عنه ولا إثباته فلا يكون واحد منهما مناقضًا للاستثناء.

واحتج الفراء بأن المنقطع مخرج من الحكم لا من الاسم، وكذلك الباب كله، وأجيب عن ذلك، بأن المستثنى داخل مع الاسم المحكوم عليه تقديرًا إذ يقدر الأول شاملًا بوجه ليصح الاستثناء، ولمن نصر قول الكسائي أيضا أن يجيب بهذا الجواب.

وإذا تبين بطلان المذهبين صح مذهب الجمهور أن الإخراج من الاسم والحكم معًا فالاسم المستثنى، مخرج من المستثنى منه، وحكمه مخرج من حكمه، وأن الممتنع إخراج الاسم المستثنى من المستثنى منه مع دخوله تحته في الحكم فإنه لا يعقل الإخراج حينئذ البتة. فإنه لو شاركه في حكمه لدخل معه في الحكم والاسم جميعًا فكان استثناؤه غير معقول، ولا يقال إن معنى الاستثناء أن المتكلم تارك للإخبار عنه بنفي أو إثبات مع احتمال كل واحد منهما، لأنا نقول هذا باطل من وجوه عديدة:

منها: أنك إذا قلت ما قام إلا زيد، وما ضربت إلا عمرًا، وما مررت إلا بزيد، ونحوه: من الاستثناءات المفرغات، لم يشك أحد في أنك أثبت هذه الأحكام لما بعد، إلا كمأ أنك سلبتها عن غيره، بل إثباتها للمستثنى أقوى من سلبها عن غيره. ويلزم من قال إن حكم المستثنى مسكوت عنه أن لا يفهم من هذا إثبات القيام والضرب والمرور لزيد وهو باطل قطعًا.

ومنها: أنه لو كان مسكوتًا عنه لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله: لا إله إلا الله، لأنه على هذا التقدير الباطل لم يثبت الإلهية لله وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع. نفي الإلهية عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص، فدلالتها على إثبات الإلهية أعظم من دلالة قولنا الله إله، ولا يستريب أحد في هذا البتة.

ومنها أنه لو ادعى عليه بمائة درهم فقال له عندي مائة إلا ثلاثة دراهم، فإنه ناف لثبوت المستثنى في ذمته ولو كان ساكتًا عنه لكان قد أقر بالبعض ونكل عن الجواب عن البعض، وهذا لم يقله عاقل ولو كان حكم المستثنى السكوت لكان هذا ناكلًا.

ومنها أن المفهوم من هذا عند أهل التخاطب نفي الحكم عن المستثنى وإثباته للمستثنى منه، ولا فرق عندهم بين فهم هذا النفي، وذلك الإثبات البتة، وذلك جار عندهم مجرى. فهم الأمر والنهي والنفي والاستفهام وسائر معاني الكلام فلا يفهم سامع من قول الله عز وجل: { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا }، 88 أنه أخبر عن لبثه تسعمائة عام وخمسين عامًا وسكت عن خمسين فلم يخبر عنها بشيء ولا يفهم أحد قط إلا أن الخمسين لم يلبثها فيهم. وكذلك قوله تعالى: { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين }، 89 لا يفهم منها إلا أن المخلصين لا يتمكن من إغوائهم وكذلك سائر الاستثناءات.

ومنها أن القائل إذا قال قام القوم إلا زيدًا لم يكن كلامه صدقًا إلا بقيامهم وعدم قيام زيد، ولهذا من أراد تكذيبه قال له: كذبت بل قام زيد، ولو كان زيد مسكوتًا عنه لم يكن هذا تكذيبًا له، والعقلاء قاطبة يعدونه تكذيبا ويعدون خبره كاذبًا حيث يعدون الإخبار بخلاف ما الشيء عليه كذبًا.

إذا عرف هذا فبه ينحل الإشكال الذي أورده بعض المتأخرين على الاستثناء، وقال الاستثناء مشكل التعقل، قال: لأنك إذا قلت جاء القوم إلا زيدًا. فأما أن يكون زيد داخلًا في القوم أم لا، فإن كان غير داخل لم يستقم الاستثناء، لأنه إخراج وإخراج ما لم يدخل غير معقول وإن كان داخلًا فيهم لم يستقم إخراجه للتناقص، لأنك تحكم عليه بحكمين متناقضين.

ولهذه الشبهة قال القاضي وموافقوه: إن عشرة إلا ثلاثة مرادف لسبعة، فهما اسمان ركبا مع الحرف وجعلا بإزاء هذا العدد، فإن أراد القاضي أن المفهوم منهما واحد فصحيح، وإن أراد التركيب النحوي فباطل.

والجواب عن هذا الإشكال أنه لايحكم بالنسب إلا بعد كمال ذكر المفرادات، فالإسناد إنما وقع بعد الإخراج، فالقائل إذا قال قام القوم إلا زيدًا، فههنا خمسة أمور:

أحدها القيام بمفرده.

الثاني القوم بمفرده.

الثالث زيد بمفرده.

الرابع النسبة بين المفردين.

الخامس الأداة الدالة على سلب النسبة عن زيد، فزيد دخل في القوم على تقدير عدم الإسناد. وخرج منهم على تقدير الإسناد، ثم أسند بعد إخراجه، فدخوله وخروجه باعتبارين غير متنافيين فإنه دخل باعتبار الإفراد وخرج باعتبار الإفراد وخرج باعتبار النسبة. فهو من القوم غير المحكوم عليهم وليس من القوم المقيدين بالحكم عليهم، وهذا إيضاح هذا الإشكال وحله. والله الموفق.

فصل: جعل المستثنى تابعا لما قبله

المستثنى إذا جعل تابعًا لما قبله، فمذهب البصرين أنه بدل. وقد نص عليه سيبويه ومذهب الكوفيين أنه عطف. فأما القول بالبدل فعليه إشكالان:

أحدهما: أنه لو كان بدلًا لكان بدل بعض إذ يمتنع أن يكون بدل كل من كل وبدل البعض لا بد فيه من ضمير يعود على المبدل منه، نحو قبضت المال نصفه.

الثاني: أن حكم البدل حكم المبدل منه لأنه تابع يشارك متبوعه في حكمه، وحكم المستثنى ههنا مخالف لحكم المستثنى منه، فكيف يكون بدلًا.

وأجيب عن الأول بأن إلا وما بعدها من تمام الكلام الأول، وإلا قرينة مفهمة أن الثاني قد كان تناوله الأول، فمعلوم أنه بعض الأول فلا يحتاج فيه إلى رابط بخلاف قبضت المال نصفه.

وأجيب عنه أيضا بأن البدل في الاستثناء قسم على حدته ليس من تلك الإبدال التي تبينت في غير الاستثناء.

وأجيب عنه أيضا بأن البدل في الاستثناء، إنما المراعي فيه وقوعه مكان المبدل منه، فإذا قلت: ما قام أحد إلا زيد، قالا زيد هو البدل وهو الذي يقع موقع أحد فليس زيد وحده بدلًا من أحد قالا: زيد هو الأحد الذي نفيت عنه القيام، فقولك إلا زيد هو بيان الأحد الذي عنيت. وعلى هذا فالبدل في الاستثناء أشبه ببدل الشيء من الشيء من بدل البعض من الكل.

وأما الإشكال الثاني فقال السيرافي مجيبًا عنه هو بدل منه في عمل العامل فيه وتخالفهما بالنفي والإيجاب لا يمنع البدلية، لأن مذهب البدلية أن يجعل الأول كأنه لم يذكر، والثاني في موضعه.

وقد تتخالف الصفة والموصوف نفيًا وإثباتًا، نحو مررت برجل لا كريم ولا لبيب.

ومعنى هذا الجواب أنه إنما يشترط في البدل أن يحل محل الأول في العامل خاصة وأما أن يكون حكمهما واحدًا فلا.

وأما القول الكوفي أنه عطف، فإنهم جعلوا إلا من حروف العطف في هذا الباب خاصة والحامل لهم على ذلك وجود المخالفة المذكورة.

قال ثعلب: كيف يكون بدلًا وهو موجب ومتبوعه منفي والعطف توجد فيه المخالفة في المعنى، كالمعطوف ببل ولكن، وهذا ممكن خال من التكلف ولا يقال إنه يستلزم الاشتراك في الحروف، وهو مذهب ضعيف لأنا نقول: ليس هذا من الاشتراك في الحروف، فإن إلا للإخراج على بابها، وإنما سموا هذا النوع من الإخراج عطفًا، على نحو تسميتهم الإخراج ببل، ولكن عطفًا والاشتراك المردود قول من يقول إن ألا تكون بمعنى الواو، لكن قد رد قولهم بالعطف بأن إلا، لو كانت عاطفة لم تباشر العامل في نحو ما قام إلا زيد، لأن حروف العطف لا تلي العوامل، ويجاب عن هذا بأن إلا التي باشرت العامل، ليست هي العاطفة فليس ههنا عطف ولا بدل البتة، وإنما الكلام فيما إذا كان ما بعد إلا تابعًا لما قبلها.

قال ابن مالك: ولمقوى العطف أن يقول تخالف الصفة والموصوف كلا تخالف، لأن نفي الصفتين إثبات لضديهما، فإذا قلت: مررت برجل لا كريم ولا شجاع فكأنك قلت بخيل جبان، وليس كذلك تخالف المستثنى والمستثنى منه. فإن جعل زيد بدلًا من أحد، إذا قيل ما فيها أحد إلا زيد، يلزم منه عدم النظير إذ لا بدل في غير محل النزاع إلا وتعلق العامل به مساو لتعلقه بالمبدل فه، والأمر فيما قام أحد إلا زيد بخلاف ذلك، فيضعف كونه بدلًا، إذ ليس في الإبدال ما يشبهه وإن جعل معطوفًا، لم يلزم من ذلك مخالفة المعطوفات، بل يكون نظير المعطوف بلا وبل ولكن، فكان جعله معطوفًا أولى من جعله بدلًا.

قلت: ويقوى العطف أيضا إنك تقول لا أحد في الدار إلا عبد الله، فعبد الله لا يصح أن يكون بدلًا من أحد فإنه لا يحل محله.

فإن قيل: هذا جائز على توهم ما فيها أحد إلا عبد الله، إذ المعنى واحد فأمكن أن يحل أحدهما محل الآخر. قيل: هذا كاسمه وهم والحقائق لا تبنى على الأوهام.

وأجاب ابن عصفور عن هذا: بأن قال لا يلزم أن يحل عبد الله محل أحد، الواقع بعد لا لأن المبدل، إنما يلزم أن يكون على نية تكرار العامل، وقد حصل ذلك كله في هذه المسألة وأمثالها، ألا ترى أن عبد الله بدل من موضع لا أحد، فيلزم أن لكون العامل فيه الابتداء، كما أن العامل في موضع لا أحد الابتداء، وبلا شك أنك إذا بدلته منه كان مبتدأ في التقدير وخبره محذوف، وكذلك حرف النفي لدلالة ما قبله عليه. والتقدير لا أحد فيها لا فيها إلا عبد الله، ثم حذف واختص.

وهذا الجواب غير قوي إذ لو كان الأمر كما زعم، لصح البدل مع الإيجاب نحو قام القوم إلا زيد، لصحة تقدير العامل في الثاني وهم قد منعوا ذلك وعللوه بعدم صحة حلول الثاني محل الأول فدل على أنه مشترط.

فصل: الاستثناء في قوله تعالى قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله

قوله تعالى: { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله }، 90 قال الزمخشري: هو استثناء منقطع جاء على لغة تميم، لأن الله تعالى، وإن صح الإخبار عنه بأنه في السموات والأرض، فإنما ذلك على المجاز، لأنه مقدس على الكون في المكان بخلاف غيره، فإن الإخبار عنه بأنه في السماء أو في الأرض ليس بمجاز، وإنما هو حقيقة. ولا يصح حمل اللفظ في حال واحد على الحقيقة والمجاز.

قلت: وقوله على لغة تميم يريدان من لغتهم أن الاستثناء المنقطع يجوز اتباعه كالمتصل إن صح الاستثناء به عن المستثنى منه. وقد صح ههنا، إذ يصح أن يقال لا يعلم الغيب إلا الله.

قال ابن مالك والصحيح عندي أن الاستثناء في الآية متصل، وفي متعلقة بفعل غير استقر من الأفعال المنسوبة حقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين، كذكر ويذكر ونحوه كأنه قيل لا يعلم من يذكر في السموات والأرض الغيب إلا الله. قال: ويجوز تعليق في باستقر مستند إلى مضاف حذف، وأقيم المضاف إليه مقامه والأصل، لا يعلم من استقر ذكره في السموات والأرض الغيب إلا الله، ثم حذف الفعل والمضاف واستتر المضمر لكونه مرفوعًا، وهذا على تسليم امتناع إرادة الحقيقة، والمجاز في حال واحد. وليس عندي ممتنعًا لقولهم القلم أحد اللسانين، والخال أحد الأبوين وقوله تعالى: { إن الله وملائكته يصلون على النبي }، 91 وقول النبي : «الأيدي ثلاثة يد الله ويد المعطي ويد السائل». تم كلامه.

فهذا كلام هذين الفاضلين في هذه الآية، وأنت ترى ما فيه من التكلف الظاهر الذي لا حاجة بالآية إليه، بل الأمر فيها أوضح من ذلك.

والصواب أن الاستثناء متصل. وليس في الآية استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، لأن من في السموات والأرض ههنا أبلغ صيغ العموم، وليس المراد بها معينًا فهي في قوة أحد المنفي. بقولك لا يعلم أحد الغيب إلا الله. وأتى في هذا بذكر السموات والأرض تحقيقًا لإرادة العموم والإحاطة. فالكلام مؤد معنى لا يعلم أحد الغيب إلا الله، وإنما نشأ الوهم في ظنهم أن الظرف ههنا للتخصيص والتقييد وليس كذلك، بل لتحقيق الاستغراق والإحاطة، فهو نظير الصفة في قوله تعالى: { ولا طائر يطير بجناحيه }، 92 فإنها ليست للتخصيص والتقييد، بل لتحقيق الطيران المدلول عليه بطائر، فكذلك قوله من في السموات والأرض لتحقيق الاستغراق المقصود بالنفي.

ومن تأمل الآية علم أنه لم يقصد بها إلا ذلك، وقد قيل: إنه لا يمتنع يطلق عليه تعالى أنه في السموات، كما أطلقه على نفسه وأطلق عليه رسوله. قالوا: ولا يلزم أن يكون هذا الإطلاق مجازًا، بل له منه الحقيقة التي تليق بجلاله ولا يشابهه فيها شيء من مخلوقاته. وهذا كها يطلق عليه أنه سميع بصير عليم قدير حي مريد، حقيقة، ويطلق ذلك على خلقه حقيقة، والحقيقة المختصة به لا تماثل الحقيقة التي لخلقه، فتناول الإطلاق بطريق الحقيقة لهما لا يستلزم تماثلهما حتى يفر منه إلى المجاز.

وأما قوله: إن الظرف متعلق بفعل غير استقر من الأفعال المنسوبة إلى الله وإلى المخلوقين حقيقة. كذكر ويذكر، إلى آخره.

فيقال: حذف عامل الظرف لا يجوز إلا إذا كان كونًا عامًا، أو استقرارًا عامًا، فإذا كان استقرارًا أو كونا خاصًا مقيدًا لم يجز حذفه، وعلى هذا جاء مصرحًا به في قوله تعالى: { فلما رآه مستقرًا عنده } 93 لأن المراد به الاستقرار الذي هو الثبات واللزوم، لا مطلق الحصول عنده، فكيف يسوغ حذف عامل الظرف في موضع ليس بمعهود حذفه فيه، وأبعد من هذا التقدير ما ذكره في التقدير الثاني أن عامل الظرف استقرار مضاف إلى ذكر محذوف استغنى به عن المضاف إليه، والتقدير استقر ذكره، فإن هذا لا نظير له، وهو حذف لا دليل عليه، والمضاف يجوز أن يستغنى به عن المضاف إليه بشرطين: أن يكون مذكورًا، وأن يكون معلوم الوضع مدلولًا عليه لئلأ يلزم اللبس.

وأما ادعاء إضافة شيء محذوف إلى شيء محذوف، ثم يضاف المضاف إليه إلى شيء آخر محذوف من غير دلالة في اللفظ عليه، فهذا مما يصان عنه الكلام الفصيح فضلًا عن كلام رب العالمين. وأما قوله: على أنه لا يمتنع إرادة الحقيقة والمجاز معًا، واستدلاله على ذلك بقولهم: القلم أحد اللسانين، فلا حجة فيه لأن اللسانين اسم مثنى، فهو قائم مقام النطق باسمين أريد بأحدهما الحقيقة وبالآخر المجاز، وكذلك الخال أحد الأبوين، وكذلك الأيدي ثلاثة.

وأما قوله تعالى: { إن الله وملائكته يصلون على النبي }، 94 فالاستدلال به أبعد من هذا كله، فإن الصلاة على النبي من الله وملائكته حقيقة بلا ريب والحقيقة المضافة إلى الله من ذلك لا تماثل الحقيقة المضافة إلى الملائكة، كما إذا قيل الله ورسوله والمؤمنون يعلمون أن القرآن كلام الله لم يجز أن يقال إن هذا استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وإن كان العلم المضاف إلى الله غير مماثل للعلم المضاف إلى الرسول والمؤمنين. فتأمل هذه النكت البديعة ولله والحمد والمنة.

فصل: الاستثناء المنقطع

المعروف عند النحاة، أن الاستثناء المنقطع هو أن لا يكون المستثنى داخلًا في المستثنى منه. عبروا عنه بأن لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، وهذا يحتمل شيئين:

أحدهما: أن لا يكون المستثنى فردًا من أفراد المستثنى منه.

والثاني: أن لا يكون داخلًا في ماهيته ومسماه، فنحو جاء القوم إلا فرسًا منقطع اتفاقًا وجائوا إلا زيدًا متصل، ورأيت زيدًا إلا وجهه منقطع، على الاعتبار الأول لأن الوجه ليس فردًا من أفراد المستثنى منه، ولكن لا أعلم أحدًا من النحاة يقول ذلك، ويلزم من ذلك أن يكون استثناء كل جزء من كل منقطعًا، ونحو قوله تعالى: { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى }، 95 منقطع على التفسير الأول لعدم دخول الموتة الاولى في المستثنى منه، ومتصل على التفسير الثاني لأنها من جنس الموت في الجملة.

وفي الاستثناء المنقطع عبارة أخرى، وهي أن يكون منقطعًا مما قبله، إما في العمل، وإما في تناوله له، فالمنقطع تناولًا جاء القوم إلا حمارًا، والمنقطع عملًا نحو قوله تعالى: { لست عليهم بمصيطر * إلا من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر }، 96 فهذا استثناء منقطع بجملة كذا قاله ابن خروف وغيره، وجعلوا من مبتدأ، ويعذبه خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدإ معنى الشرط.

وجعل الفراء من هذا قوله تعالى: { فشربوا منه إلا قليلًا منهم }، 97 على قراءة الرفع وقدره إلا قليل منهم لم يشربوا. وقواه ابن خروف واستحسنه.

ومن هذا قولهم ما للشياطين من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء إلا المتزوجون، أولئك المطهرون المبرؤون من الخناء.

وقيل: إن من هذا قوله تعالى: { فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم }، 98 في قراءة الرفع ويكون امرأتك مبتدأ وخبره ما بعده.

وهذا التوجيه أولى من أن يجعل الاستثناء في قراءة من نصب من قوله: { فأسر بأهلك }، في قراءة من رفع من قوله: { ولا يلتفت منكم أحد } ويكون الاستثاء على هذا من فأسر بأهلك رفعًا ونصبًا، وإنما قلنا إنه أولى، لأن المعنى عليه، فإن الله تعالى أمره أن يسري بأهله إلا امرأته.

ولو كان الاستثناء من الالتفات، لكان قد نهى المسرى بهم عن الالتفات، وإذن فيه لامرأته وهذا ممتنع لوجهين:

أحدهما: إنه لم يأمره أن يسري بامرأته ولا دخلت في أهله الذين وعد بنجاتهم.

والثاني: إنه لم يكلفهم بعدم الالتفات ويأذن فيه للمرأة.

إذا عرف هذا فاختلف النحاة هل من شرط الاستثناء المنقطع تقدير دخوله في المستثنى منه بوجه أو ليس ذلك بشرط.

فكثير من النحاة لم يشترطوا فيه ذلك، وشرطه آخرون، قال ابن السراج، إذا كان الاستثناء منقطعًا فلا بد من أن يكون الكلام الذي قبل إلا قد دل على ما يستثنى، فعلى الأول لا يحتاج إلى تقدير، وعلى الثاني فلا بد من تقدير الرد. ولنذكر لذلك أمثلة:

المثال الأول قوله تعالى: { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن }، 99 فمن لم يشترط التقدير أجراه مجرى المفرغ، والمعنى ما عندهم أو ما لهم إلا اتباع الظن. وليس اتباع الظن متعلقًا بالعلم أصلًا. ومن اشترط التقدير قال المعني ما لهم من شعور إلا اتباع الظن. والظن وأن لم يدخل في العلم تحقيقًا فهو داخل فيه تقديرًا، إذ هو مستحضر بذكره وقائم مقامه في كثير من المواضع، فكان في اللفظ إشعار به صح به دخوله وإخراجه. وهذا بعد تقريره فيه ما فيه، فإن المستثنى هو اتباع الظن لا الظن نفسه، فهو غير داخل في المستثنى منه تحقيقًا ولا تقديرًا، فالأحسن فيه عندي أن يكون التقدير ما لهم به من علم، فيتبعونه ويلقون به أن يتبعون إلا الظن فليس اتباع الظن مستثنى من العلم، وإنما هو مستثنى من المقصود بالعلم. والمراد به هو اتباعه، فتأمله.

هذا على تقدير اشتراط التناول لفظًا أو تقديرًا. وأما إذا لم يشترط وهو الأظهر، فتكون فائدة الاستثناء ههنا كفائدة الاستدراك. ويكون الكلام قد تضمن نفي العلم عنهم وإثبات ضده لهم، وهو الظن الذي لا يغني من العلم شيئًا.

ومثله قوله تعالى: { وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون }، 100 ليس المراد به نفي الحكم الجازم وإثبات الحكم الراجح، بل المراد نفي العلم وإثبات ضده وهو الشك الذي لا يغني عن صاحبه شيئًا، والمذكور من الأمثلة يزيد هذا وضوحًا.

المثال الثاني قوله تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين }، 101 فهذا استثناء منقطع، لأن اتباعه الغاوين لم يدخلوا في عباده المضافين إليه، وإن دخلوا في مطلق العباد فإن الإضافة فيها معنى التخصيص والتشريف، كما لم تدخل الخانات والحمامات في بيوت الله. قال تعالى: { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا }، 102 إلى آخر الآيات. وقال: { عينا يشرب بها عباد الله }، 103 فعباده المضافون إليه هم { الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون }، قال تعالى: { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } 104 وقال تعالى: { يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون * الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين }. 105

ومن هذا قوله تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا }، 106 فعباده ههنا الذين يغفر ذنوبهم جميعًا، هم المؤمنون التائبون والانقطاع في هذا قول ابن خروف وهو الصواب.

وقال الزمخشري: هو متصل وجعل لفظ العباد عامًا، وقد عرفت غلطه وعلى تقدير الانقطاع فإن لم يقدر دخوله في الأول فظاهر وإن قدرنا دخوله فقالوا تقديره إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ولا على غيرهم، إلا من اتبعك من الغاوين ولا يخفى التكلف الظاهر عليه بل الأحسن أن يقال لما ذكر العباد وأضافهم إليه والإضافة يحتمل أن تكون إلى ربوبيته العامة فتكون إضافة ملك وأن تكون إلى آلهيته فتكون إضافة اختصاص ومحبة. والغاوون داخلون في العباد عند التعميم والإطلاق لقوله تعالى: { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا }، 107 فالأول متناول له بوجه فصح إخراجه.

المثال الثالث قوله تعالى: { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم }، 108 على أصح الوجوه في الآية فإنه تعالى لما ذكر العاصم استدعى معصومًا مفهومًا من السياق، فكأنه قيل لا معصوم اليوم من أمره إلا من رحمه. فإنه لما قال: { لا عاصم اليوم من أمر الله } بقي الذهن طالبًا للمعصوم فكأنه قيل فمن الذي يعصم فأجيب بأنه لا يعصم إلا من رحمه الله، ودل هذا اللفظ باختصاره وجلالته وفصاحته على نفي كل عاصم سواه، وعلى نفي كل معصوم سوى من رحمه الله، فدل الاستثناء على أمرين على المعصوم من هو وعلى العاصم، وهو ذو الرحمة وهذا من أبلغ الكلام وأفصحه وأوجزه ولا يلتفت إلى ما قيل في الآية بعد ذلك، وقد قالوا فيها ثلاثة أقوال أخر:

أحدها: إن عاصمًا بمعنى معصوم، كماء دافق وعيشة راضية، والمعنى لا معصوم إلا من رحمه الله وهذا فاسد، لأن كل واحد من اسم الفاعل واسم المفعول موضوع لمعناه الخاص به، فلا يشاركه فيه الآخر، وليس الماء الدافق بمعنى المدفوق، بل هو فاعل على بابه، كما يقال ماء جار فدافق كجار، فما الموجب للتكلف البارد، وأما عيشة راضية فهي عند سيبويه على النسب كتامر ولابن أي ذات رضى وعند غيره كنهار صائم وليل قائم على المبالغة.

والقول الثاني: إن من رحم فاعل لا مفعول والمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم، فهو استثناء فاعل من فاعل وهذا وإن كان أقل تكلفًا فهو أيضا ضعيف جدًا. وجزالة الكلام وبلاغته تأباه بأول نظر.

والقول الثالث: إن في الكلام مضافًا محذوفًا قام المضاف إليه مقامه، والتقدير لا معصوم عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله وهذا من أنكر الأقوال وأشدها منافاة للفصاحة والبلاغة ولو صرح به لكان مستغثًا.

المثال الرابع: قوله تعالى: { لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف }، 109 فهذا من الاستثناء السابق، زمان المستثنى فيه زمان المستثنى منه، فهو غير داخل في فمن لم يشترط الدخول فلا يقدر شيئًا. ومن قال: لا بد من دخوله قدر دخوله في مضمون الجملة الطلبية بالنهي، لأن مضمون قوله تعالى: { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } الإثم والمؤاخذة أي أن الناكح ما نكح أبوه آثم مؤاخذ إلا ما قد سلف قبل النهي وإقامة الحجة فإنه لا تتعلق به المؤاخذة.

وأحسن من هذا عندي أن يقال لما نهى سبحانه عن نكاح منكوحات الاباء، أفاد ذلك أن وطئهن بعد التحريم لا يكون نكاحًا البتة، بل لا يكون إلا سفاحًا فلا يترتب عليه أحكام النكاح من ثبوت الفراش ولحوق النسب، بل الولد فيه يكون ولد زنية، وليس هذا حكم ما سلف قبل التحريم، فإن الفراش كان ثابتًا فيه والنسب لاحق، فأفاد الاستثناء فائدة جليلة عظيمة، وهي أن ولد من نكح ما نكح أبوه قبل التحريم ثابت النسب وليس ولد زنا والله أعلم.

المثال الخامس: قوله تعالى: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة }. 110 ومعلوم أن التقاة ليست بموالاة، ولكن لما نهاهم عن مولاة الكفار اقتضى ذلك معاداتهم والبراءة منهم ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال، إلا إذا خافوا من شرهم فأباح لهم التقية، وليست التقية موالاة لهم. والدخول ههنا ظاهر فهو إخراج من متوهم غير مراد.

المثال السادس: قوله تعالى: { لست عليهم بمصيطر * إلا من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر }، 111 فهذا من المنقطع لا بالاعتبار الذي ذكره ابن خروف من كون المستثنى جملة مستقلة، بل باعتبار آخر وهو أنه ليس المراد إثبات المسيطرة على الكفار، فإن الله سبحانه بعثه نذيرًا مبلغًا لرسلات ربه فمن أطاعه فله الجنة، ومن عصاه فله النار. قال تعالى: { ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا }، 112 { إن عليك إلا البلاغ }، 113 وقال تعالى: { قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل }، 114 قال المفسرون: المعنى أنك لم ترسل مسلطًا عليهم قاهرًا لهم جبارًا كالملوك، بل أنت عبدي ورسولي المبلغ رسالاتي، فمن أطاعك فله الجنة، ومن عصاك فله النار. ويوضح هذا أن المخاطيبن بهذا الخطاب هم الكفار فلا يصح أن يكونوا هم المستثنين.

المثال السابع قوله تعالى: { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما }، 115 وهذا فيه نفي لسماع اللغو والتأثيم وإثبات لضده وهو السلام المنافي لهما، فالمقصود به نفي شيء وإثبات ضده وعلى هذا فلا حاجة إلى تكلف دخوله تحت المستثنى منه، لأنه يتضمن زوال هذه الفائدة من الكلام ومن رده إلى الأول. قال: لما نفى عنهم سماع اللغو والتأثيم وهما مما يقال فكأن النفس تشوفت إلى أنه هل يسمع فيها شيء غيره. فقال: إلا قيلا سلامًا سلامًا فعاد المعنى إلى لا يسمعون فيها شيئًا إلا قيلا سلامًا سلاما. وأنت إذا تأملت هذين التقديرين رأيت الأول أصوب فإنه نفى سماع شيء وأثبت ضده. وعلى الثاني نفي سماع كل شيء إلا السلام وليس المعنى عليهم فإنهم يسمعون السلام وغيره فتأمله.

المثال الثامن: قوله تعالى: { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى }، 116 فهذا من الاستثناء السابق زمانه زمان المستثنى منه، ولما كانت الموتة الأولى من جنس الموت المنفي زعم بعضهم أنه متصل. وقال بعضهم إلا بمعنى بعد، والمعنى لا يذوقون بعد الموتة الأولى موتًا في الجنة، وهذا معنى حسن جدًا، يفتقر إلى مساعدة اللفظ عليه ويوضحه أنه ليس المراد إخراج الموتة الأولى من الموت المنفي ولا ثم شيء متوهم يحتاج لأجله إلى الاسثتناء، وإنما المراد الإخبار بأنهم بعد موتتهم الأولى التي كتبها الله عليهم لا يذوقون غيرها وعلى هذا فيقال لما كان ما بعد إلا حكمه مخالف لحكم ما قبلها، والحياة الدائمة في الجنة إنما تكون بعد الموتة الأولى، كانت أداة إلا مفهمة هذه البعدية وقد أمن اللبس لعدم دخولها في الموت المنفي في الجنة فتجردت لهذا المعنى، فهذا من أحسن ما يقال في الآية فتأمله.

المثال التاسع: قوله تعالى: { لابثين فيها أحقابا * لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا }، 117 فهذا على عدم تقدير التناول يكون فيه نفي الشيء، وإثبات ضده وهو أظهر وعلى تقدير التناول لما نفي ذرق البرد والشراب فربما توهم أنهم لا يذوقون غيرهما فقال إلا حميمًا وغساقًا فيكون الاستثناء من عام مقدر.

المثال العاشر: قوله تعالى: { إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء }، 118 فعلى تقدير عدم الدخول نفي الخوف عن المرسلين وأثبته لمن ظلم ثم تاب، وعلى تقدير الدخول يكون المعنى ولا غيرهم إلا من ظلم.

وأما قول بعض الناس: إن إلا بمعنى الواو. والمعنى ولا من ظلم فخبط منه، فإن هذا يرفع الأمان عن اللغة ويوقع اللبس في الخطاب، والواو وإلا متنافيتان، فإحداهما تثبت للثاني نظير حكم الأول والأخرى تنفي عن الثاني ذلك، فدعوى تعاقبهما دعوى باطلة لغة وعرفًا. والقاعدة إن الحروف لا ينوب بعضها عن بعض خوفًا من اللبس وذهاب المعنى الذي قصد بالحرف، وإنما يضمن ويشرب معنى فعل آخر يقتضي ذلك الحرف فيكون ذكر الفعل مع الحرف الذي يقتضيه غيره قائمًا مقام ذكر الفعلين، وهذا من بديع اللغة وكمالها. ولو قدر تعاقب الحروف ونيابة بعضها عن بعض، فإنما يكون ذلك إذا كان المعنى مكشوفًا واللبس مأمونًا فيكون من باب التفنن في الخطاب والتوسع فيه. فأما أن يدعى ذلك من غير قرينة في اللفظ، فلا يصح وسنشيع الكلام على هذا في فصل مفرد إن شاء الله تعالى.

والذي حملهم على دعوى ذلك أنهم لما رأوا الخوف منتفيًا عن المذكور بعد ألا ظنوا أنها بمعنى الواو لكون المعنى عليه، وغلطوا في ذلك فإن الخوف ثابت له حال ظلمه وحال تبديله الحسن بعد السوء. أما حال ظلمه فظاهر وأما حال التبديل فلأنه يخاف أنه لم يقم بالواجب وإنه لم يقبل منه ما أتى به. كما في الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة هو الرجل يزني ويسرق ويخاف قال: «يا بنت الصديق هو الرجل يصوم ويصلي ويخاف أن لا يقبل منه». فمن ظلم ثم تاب فهو أولى بالخوف وإن لم يكن عليه خوف.

وقد يجيء الانقطاع في هذا الاستثناء من وجه آخر، وهو أن ما بعد إلا جملة مستقلة بنفسها فهي منقطعة مما قبلها انقطاع الجمل بعضها عن بعض، فسمي منقطعًا بهذا الاعتبار كما تقدم نظيره والله أعلم.

المثال الحادي عشر: قوله تعالى: { بل الذين كفروا يكذبون * والله أعلم بما يوعون * فبشرهم بعذاب أليم * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون }. 119 فهذا يبعد تقدير دخوله فيما تقدم قبله جدًا، وإنما هو إخبار عن مآل الفريقين، فلما بشر الكافرين بالعذاب بشر المؤمنين بالأجر غير الممنون. فهذا من باب المثاني الذي يذكر فيه الشيء وضده كقوله: { إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم }، 120 فليس هناك مقدر يخرج منه هذا المستثنى والله أعلم.

المثال الثاني عشر: قوله تعالى: { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحًا }، 121 فمن أمن ليس داخلًا في الأموال والأولاد، ولكنه من الكلام المحمول على المعنى، لأنه تعالى أخبر أن أموال العباد وأولادهم لا تقربهم إليه. وذلك يتضمن أن أربابها ليسوا هم من المقربين إليه فاستثنى منهم من آمن وعمل صالحًا، أي لا قريب عنده إلا من آمن وعمل صالحًا سواء كان له مال وولد أو لم يكن له. والانقطاع فيه أظهر فإنه تعالى نفى قرب الناس إليه بأموالهم وأولادهم وأثبت قربهم عنده بأيمانهم وعملهم الصالح، فتقدير لكن ههنا أظهر من تقدير الاتصال في هذا الاستثناء؟

وإذا تأملت الكلام العربي رأيت كثيرًا منه واردًا على المعنى لوضوحه، فلو ورد على قياس اللفظ مع وضوح المعنى لكان عيًا. وبهذه القاعدة تزول عنك إشكالات كثيرة ولا تحتاج إلى تكلف التقديرات التي إنما عدل عنها المتكلم لما في ذكرها من التكلف، فقدر المتكلفون لنطقه ما فر منه وألزموه بما رغب عنه، وهذا كثير في تقديرات النحاة التي لا تخطر ببال المتكلم أصلًا ولا تقع في تراكيب الفصحاء ولو سمعوها لاستهجنوها وسنعقد لها إن شاء الله تعالى فصلًا مستقلًا.

المثال الثالث عشر: قوله تعالى: { لن يضروكم إلا أذى }، 122 وتقدير الدخول في هذا أظهر، إذ المعنى لن ينالوا منكم إلا أذى، وأما الضرر فإنهم لن ينالوه منكم وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا، فنفى لحوق ضرر كيدهم بهم مع أنهم لا يسلمون من أذى يلحقهم بكيدهم، ولو أنه بالإرهاب والكلام وألجائهم إلى محاربتهم وما ينالهم بها من الأذى والتعب، ولكن ليس ذلك بضارهم ففرق بين الأذى والضرر.

المثال الرابع عشر: قوله تعالى: { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم }، 123 المشهور ظلم مبني للمفعول وعلى هذا، ففي الاستثناء قولان:

أحدهما: أنه منقطع أي لكن من ظلم فإنه إذأ شكا ظالمه وجهر بظلمه له لم يكن آثمًا وتقدير الدخول في الأول على هذا القول ظاهر. فإن مضمون لا يحب كذا أنه يبغضه ويبغض فاعله إلا من ظلم فإن جهره وشكايته لظالمه حلال له كما قال النبي : «لي الواجد بحل عرضه وعقوبته» فعرضه شكاية صاحب الحق له، وقوله: ظلمني ومطلني ومنعني حقي وعقوبته ضرب الإمام له حتى يؤدي ما عليه في أصح القولين في مذهب أحمد، وهو مذهب مالك وقيل هو حبسه. وقيل: هو استثناء متصل والجهر بالسوء هو جهره بالدعاء، أن يكشف الله عنه ويأخذ له حقه، أو يشكو ذلك إلى الإمام ليأخذ له بحقه، وعلى هذا التقدير فيجوز فيه الرفع بدلًا من أحد المدلول عليه بالجهر أي لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا المظلوم. ويجوز فيه النصب بدلًا من الجهر، والمعنى إلا جهر من ظلم وقرىء من ظلم بالفتح. وعلى هذه القراءة فمنقظع ليس إلا أي لكن الظالم يجهر بالسوء من القول.

المثال الخامس عشر: قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم }، 124 فهذا استثناء منقطع تضمن نفي الأكل بالباطل وإباحة الأكل بالتجارة الحق. ومن قدر دخوله في الأول قدر مستثنى منه عامًا أي لا تأكلوا أموالكم بينكم بسبب من الأسباب، إلا أن تكون تجارة أو يقدر بالباطل ولا بغيره إلا بالتجارة. ولا يخفى التكلف على هذا التقدير، بل هو فاسد إذ المراد بالنهي الأكل بالباطل وحده وقرىء برفع التجارة ونصبها، فالرفع على التمام والنصب على أنها خبر كان الناقصة، وفي اسمها على هذا وجهان:

أحدهما: التقدير إلا أن يكون سبب الأكل أو المعاملة تجارة؟

والثاني: إلا أن تكون أموال الناس تجارة.

المثال السادس عشر: قوله تعالى: { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم }، 125 وهذا من أشكل مواضع الاستثناء، لأن مملوكته إذا كانت محصنة إحصان التزويج، فهي حرام عليه، والإحصان ههنا إحصان التزويج بلا ريب، إذ لا يصح أن يراد به إحصان العفة، ولا إحصان الحرية، ولا إحصان الإسلام، فهو إحصان التزويج قطعًا. فكيف يستثنى من المحرمات به لمملوكه فقال كثير من الناس: الاستثناء ههنا منقطع، والمعنى لكن ما ملكت أيمانكم فهن لكم حلال. ورد هذا بأنه استثناء من موجب والانقطاع إنما يقع حيث يقع التفريغ.

ورد هذا الرد بأن الانقطاع يقع في الموجب وغيره، قال تعالى: { فبشرهم بعذاب أليم * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات }. 126

وقالت طائفة الاستثناء: على بابه متصل وما ملكت أيمانكم مستثنى من المزوجات، ثم اختلفوا. فقالت طائفة من الصحابة، منهم ابن عباس وغيره وبعض التابعين، إنه إذا زوج أمته ثم باعها كان بيعها طلاقًا. وتحل للسيد، لأنها ملك يمينه واحتج لهم بالآية ورد هذا المذهب بأمور:

أحدها: أنه لو كان صحيحًا لكان وطؤها حلالًا لسيدها إذا زوجها، لأنها ملك يمنيه. فكما اجتمع ملك سيدها لها وحلها للزوج، فكذلك يجتمع فكذلك يجتمع ملك مشتريها لها وحلها للزوج وتناول اللفظ لهما واحد.

الثاني: أن المشتري خليفة البائع، فانتقل إليه بعقد الشراء ما كان يملكه بائعها، وهو كان يملك رقبتها مسلوبة منفعة البضع ما دامت مزوجة، وينتقل إلى المشتري ما كان يملكه فملكها المشتري مسلوبة منفعة البضع، فإذا فارقها زوجها رجع إليه البضع كما كان يرجع إلى بائعها، كذلك فهذا محض الفقه والقياس.

الثالث: أنه قد ثبت في الصحيحين: أن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة وكانت مزوجة فعتقتها وخيرها النبي ولو بطل النكاح بالشراء لم يخبرها، وهذا مما أخذ الأئمة الأربعة وغيرهم فيه برواية ابن عباس وتركوا رأيه، فإنه رواي الحديث وهو ممن يقول: بيعُ الأمة طلاقُها.

وقالت طائفة أخرى: الآية مختصة بالسبايا، قال أبو سعيد الخدري: نزلت في سبايا أوطاس قالوا: فأباح الله تعالى للمسلمين وطء ما ملكوه من السبي. وإن كن محصنات، ثم اختلف هؤلاء متى يباح وطء المسبية فقال الشافعي وأبو الخطاب وغيرهما: يباح وطؤها إذا تم استبراؤها، سواء كان زوجها موجودًا أو مفقودًا، واحتجوا بثلاث حجج:

إحداها: أن الله سبحانه أباح وطء المسبيات بملك اليمين مستثنيًا لهن من المحصنات.

الثانية: ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس، فلقي عدوًا فقاتلوهم، فظهروها عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناسًا من أصحاب النبي تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك: { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم }، 127 أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن. وفي الترمذي عن أبي سعيد أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج في قومهن فذكروا ذلك لرسوله الله فنزلت: { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم }، وهذا صريح في إباحتهن، وإن كن ذوات أزواج. وفي الترمذي، ومسند أحمد من حديث عياض بن سارية أن النبي حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن، فهذا التحريم إلى غاية وهي وضع الحمل، فلا بد أن يحصل الحل بعد الغاية، ولو كان وجود أزواجهن مانعًا من الوطء لكان له غايتان إحداهما: عدم الزوج، والثاني: وضع الحمل. وهو خلاف ظاهر الحديث، قالوا: ولأن ملك الكفار الحربي البضع لم يبق له حرمة ولا عصمة، إذ قد ملك المسلمون عليه ما كان يملكه، فملكوا رقبة زوجته فكيف يقال ببقاء العصمة في ملك البضع، لا سيما والمسلمون يستحقون ملك رقبته وأولاده وسائر أملاكه، فما بال ملك البضع وحده باقيًا على العصمة فهذا لا نص ولا قياس ولا معنى قالوا: فقد أذن النبي في وطء السبايا بعد انقضاء عدتهن مطلقًا ولو كان بقاء الزوج مانعًا، لم يأذن في وطئهن إلا بعد العلم بموته، وهذا المذهب كما تراه قوة وصحة.

وقال أصحابنا القاضي وغيره، إنما يباح وطؤها إذا سبيت وحدها فلو سبيت مع زوجها فهما على نكاحهما ولا يباح وطؤها قالوا: لأنها إذا سبيت وحدها فبقاء الزوج مجهول. والمجهول كالمعدوم فنزلت منزلة من لا زوج لها فحل وطؤها، ولا كذلك إذا كان زوجها معها.

ثم أوردوا على أنفسهم سؤالًا. وهو إذا سبيت وحدها وعلم بقاء زوجها في دار الحرب، وهذا سؤال لا محيد لهم عنه ولا ينجيهم منه إلا قولهم بالحل، وإن علم بقاء الزوج استنادًا إلى زوال عصمة النكاح بالسبي، فإنهم إذا أجابوا بالتزام التحريم خالفوا النصوص خلافًا بينًا، وإن أجابوا بالحل مع تحقيق بقاء الزوج نقضوا أصلهم، حيث أسندوا الحل إلى كون المسبية خالية من الزوج تنزيلًا للمجهول منزلة المعدوم.

فقول أبي الخطاب أففه وأصح وعليه تنزل الآية والأحاديث ويظهر به أن الاستثناء متصل. وإن الله تعالى أباح من المحصنات من سباها المسلمون.

فإن قيل: فعلى ما قررتموه يزول الإحصان بالسبي، فلا تدخل في المحصنات فيجيء الانقطاع في الاستثناء.

قيل: لما كانت محصنة قبل السبي صح شمول الاسم لها فأخرجت بالاستثناء.

فإن قيل: فما تقولون في الأمة المزوجة إذا بيعت فإنها محصنة قد ملكت نفسها فهل هي مخصوصة من هذا العموم أو غير داخلة فيه.

قيل: ههنا مسلكان للناس:

أحدهما: أنها خصت من العموم بالأدلة الدالة على أن البيع لا يفسخ النكاح، وإن الفرج لا يكون حلالًا لشخصين في وقت واحد.

والمسلك الثاني: أنها لم تدخل في المستثنى منه، لأن السيد إذا زوجها فقد أخرج منفعة البضع عن ملكه فإذا باعها فقد انتقل إلى المشتري ما كان للبائع، فملكها المشتري مسلوبة منفعة البضع فلم تدخل هذه المنفعة في ملكه بعقد البيع، فلم تتناولها الآية وهذا المسلك ألطف وأدق من الأول والله أعلم.

فوائد شتى منقولة من خط القاضي أبي يعلى رحمه الله تعالى

فائدة: الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء

إسماعيل بن سعيد عن أحمد: لا يجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء ويصلي صلاة الناس ليس فيها تكبير مثل تكبير العيدين.

وعنه محمد بن الحكم والكوسج والمروذي: يجهر بالقراءة فيها لحديث عبد الله بن زياد. قال أبو حفص يحتمل أن هذا القول هو المتأخر لأنه قد قيل إن إسماعيل بن سعيد سماعه قديم.

فائدة: قال أحمد لا تعجبني صلاة الخوف ركعة

قال أحمد: لا تعجبني صلاة الخوف ركعة. لما روى أبو عياش الزرقي عن النبي أنه صلى بعسفان ويوم بني سليم، وكذلك روى جابر وابن عباس وابن أبي خثمة في ذات الرقاع، وكذلك أبو هريرة في عام نجد أنه صلى ركعتين، وكذا روت عائشة وابن عمر وأبو موسى.

فائدة: إذا أراد القوم الغارة فخشوا أن يتبادرهم العدو يصلون على دوابهم

ابن لحيان عن أحمد في القوم إذا أرادوا الغارة فخشوا أن يتبادرهم العدو يصلون على دوابهم أو يؤخرون الصلاة إلى طلوع الشمس؟ قال: أي ذلك شاؤوا فعلوا، والحجة فيه تأخير النبي أربع صلوات يوم الخندق.

وعنه أبو طالب إن كانوا منهزمين يصلون ركبانًا يومئون ولا يؤخرون الصلاة على ما صلى النبي . هذه الآية نزلت بعدما صلى النبي والحجة قوله تعالى: { فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا }. 128

فائدة: فيمن صلى ركعتين من فرض ثم أقيمت صلاة

نقل محمد بن الحكم عن أحمد بن حنبل في رجل صلى ركعتين من فرض ثم أقيمت الصلاة، قال: إن شاء دخل مع الإمام فإذا صلى معه ركعتين سلم، وأعجب إلي أن يقطع الصلاة ويدخل مع الإمام. قال القاضي وظاهر هذا الدخول من غير تحريمة، غير انه اختار القطع والدخول بتحريمة.

فائدة: فيمن دخل المسجد يظن أنهم قد وصلوا فيصلي ركعتين فتقام الصلاة فهل يمضي في صلاته أم يسلم

أبو طالب: سألت أحمد عن الرجل يدخل المسجد يظن أنهم قد صلوا فيصلي ركعتين فتقام الصلاة، قال: قد اختلفوا فيها، بعض قال يمضي لا يدخل فرض في فرض، وبعض قال يسلم. قلت: ما تقول؟ قال: ما يبالي كيف، قلت: يسلم ويدخل معه، قال: نعم.

قال القاضي: وظاهر هذا أنه منع من الدخول لأنه قال يستأنف، فإذا قلنا لا يدخل معه، فهل يمضي في صلاته أو يقطع على روايتين محمد بن الحكم عنه: إن شاء دخل معه وأعجب إلي أن يقطع. وأبو طالب: يسلم ويدخل معه، والثانية يمضي.

فعنه أبو الحارث وقد سئل عن رجل دخل في مسجد فافتتح صلاة مكتوبة وهو يرى أن قد صلوا، فلما صلى ركعة أو ركعتين أقيمت الصلاة، قال: يتم الصلاة التي افتتحها، ثم إن شاء صلى مع القوم، وإن شاء لم يدخل معهم. قال أبو حفص: وكذلك نقول فيمن افتتح تطوعًا ثم أقيمت الصلاة إنه لا يقطعها، ولكن يتمها، ووجهه قول النبي : «تحليلها التسليم». فوجب أن لا يخرج منها بغير التسليم الذي بعد التمام.

ابن مسعود: من دخل في صلاة فلا يقطع حتى يفرغ.

ووجه الأخرى وأنه يخرج منها: أن صلاة الجماعة واجبة، فإن قلنا يمضي في صلاته، ففرغ ثم أدرك الجماعة في المسجد فهل يدخل معهم أو يكون مخيرًا في الدخول والانصراف على روايتين: إحداهما يخير وهو المنصوص في رواية أبي الحارث؛ والأخرى يجب أن يصلي معهم إذا حضر في مسجد أهله يصلون وهو الأكثر في مذهبه وبه وردت السنة.

فإن أحرم بتطوع ثم أقيمت الصلاة فهل يقطعها ويدخل في الجماعة أو يتمها؟ على روايتين، ولا فرق بين ركعتي الفجر وغيرها، كاختلاف قوليه فيمن انفرد بصلاة فريضة ثم أقيمت الصلاة.

فإن دخل في تطوع ثم ذكر أن عليه فريضة، فعنه: يعجبني أن ينصرف عن شفع ثم يقضي الفريضة.

قال أبو حفص: ويخرج عنه في هذه المسألة رواية أخرى كما ذكرنا فيمن دخل في تطوع ثم أقيمت الصلاة، ووجهه قوله : «فليصلها إذا ذكرها».

فائدة: فيما إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة

قال أبو الحارث: سئل أحمد عن العشاء إذا وضع وأقيمت الصلاة؟ قال: قد جاءت أحاديث وكان القوم في مجاعة، فأما اليوم فلو قام رجوتُ. وقال في رواية جماعة: يبدأ بالطعام.

فإن قلنا يبدأ بالطعام فهل يتناول منه شيئًا أو يتم عشاءه؟ حنبل عنه: إذا كان الرجل قد أكل من طعامه لقمة أو نحو ذلك فلا بأس أن يقوم إلى الصلاة فيصلي ثم يرجع إلى العشاء، لأن النبي دعي إلى الصلاة وقد كان يجتز من كتف الشاة فألقى السكين وقام.

أحمد بن الحسين سألت أحمد إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة. قال: ابدأ بالعشاء. قلت: أنال منه شيئًا ثم أخرج إلى الصلاة، قال: لا، بل تعش، قلت: أخاف أن تفوتني الصلاة جماعة. قال: إن الرجل إذا تناول منه شيئًا ثم تركه فكان في نفسه شغل من ترك الطعام إذا لم ينل منه حاجته، قلت: فيأتي على ما يريد من الطعام ثم يصلي؟ قال: نعم، وإن خاف أن تفوته الصلاة ما دام في وقت.

حرب: قلت لأحمد: الرجل يصلي بحضرة الطعام، قال: إن كان قد أكل بعضه فأقيمت الصلاة فإنه يتم أكله وإن كان لم يأكل فأحب إلي أن يصلي. قال القاضي: وظاهر هذا الفرق بين أن يكون ابتداء فيستوفي طعامه وبين أن لا يبتدئ فيؤخره.

فائدة: اختلاف العلماء هل يجوز للجماعة أن يقوموا قبل أن يروا الإمام أم لا

إذا أقيمت الصلاة والإمام غير حاضر، مثل أن يكون لم يخرج من بيته بعد أو هو المؤذن وهو في المنارة، فعلى روايتين؛ روى جماعة: لا يقوموا حتى يروه للحديث. وروى الأثرم وغيره أنه جائز للمأمومين أن يقوموا قبل أن يروا الإمام لحديث أبي هريرة: أقيمت الصلاة وصف الناس صفوفهم وخرج النبي فقام مقامه ثم أومأ إليهم بيده أن مكانكم، ولم ينكر عليهم فدل على جوازه. وروى جعفر بن محمد والمروذي وغيرهما عنه أنه وسع العمل بالحديثين جميعًا فإن شاؤوا قاموا قبل أن يروه وإن شاؤوا لم يقوموا حتى يروه.

فائدة: يجوز للإمام أن ينتظر المؤذن وأن لا ينتظره

قال أحمد في رواية أبي طالب: إن انتظر الإمام المؤذن فلا بأس، قد فعل ذلك عمر، وإن لم ينتظره فلا بأس. ووجهه قول بلال للنبي : «لا تسبقني بآمين»، فدل على أنه لم ينتظره.

فائدة: كان أحمد بن حنبل يضع نعله بين يديه وعلى يساره

عبد الله والكوسج قالا: كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل يضع نعليه بين يديه ولا يجعلهما بين رجليه، يعني في الصلاة إمامًا كان أو غير إمام. قال عبد الله (بن أحمد): كان أبي يصلي الفريضة والتطوع ونعله بين يديه. ونقل حنبل وأحمد بن علي: يجعلهما عن يساره.

وجه الأولى: أنه لا يؤذي بهما أحدًا، وقد أشار النبي إلى ذلك في الحديث. ووجه الثانية: أنه صلى يوم الفتح بمكة فوضع نعليه عن يساره.

فائدة: الجاهل يقوم خلف الإمام فيجيء من هو أعلم منه بالسنة فيؤخره أو يدفعه ويقوم في مقامه هل يجوز أم لا

قال في رواية علي بن سعيد في الرجل الجاهل يقوم خلف الإمام فيجيء من هو أعلم بالسنة منه فيؤخره أو يدفعه ويقوم في مقامه: لا أرى ذلك، فذكر له حديث قيس بن عباد حين أخره أبي بن كعب رضي الله عنهما فقال: إنما كان غلامًا.

قال القاضي: إنما لم يجز تأخيره لأنه كبير قد سبق إلى ذلك الموضع. وأجاب أحمد عن حديث أبي بأن قيسًا كان غلامًا.

قلت: وقد يؤخذ من كلام أحمد جواز تأخير الصبي وصلاة الرجل مكانه، وقد قال أحمد في رواية الميموني: يلي الإمام الشيوخ وأصحاب القرآن ويؤخر الغلام والصبيان. وقال في رواية أبي طالب في الصف يكون طويلًا فيكون في آخره صبي فيجيء رجل فيقوم خلف الصبي: لا بأس هو متصل بالصف. قال بعض أصحابنا وهذا يدل على أنه إذا كان في الصف خلل مقام رجل لا يبطل الموقف، لأن الصبي لا يصاف الرجل وقد حكم باتصاله بالصف فإن كان قد امتلأ الصف وفيه صبي فجاء رجل، فللرجل إذا جاء أن يؤخره ويقوم مقامه لأنه أولى بالتقدمة.

فائدة: نهي أن يتخذ الرجل مصلاه مثل مربض البعير

قال المروذي: كان أبو عبد الله يقوم خلف الإمام، فجاء يومًا وقد تجافى الناس أن يصلي أحد في ذلك الموضع فاعتزل وقام في طرف الصف، وقال: قد نهي أن يتخذ الرجل مصلاه مثل مربض البعير.

فائدة: الجاهل يصلي برجل فيجعله عن يساره وفي الرجل يقيم الصلاة وليس معه إلا غلام

قال أحمد في رواية ابن عبد الله: لو أن رجلًا جاهلًا صلى برجل فجعله عن يساره كان مخالفًا للسنة ورد إليها وجازت صلاته.

وقال في رواية جعفر بن محمد في الرجل يقيم الصلاة وليس معه إلا غلام: لا يؤمه في الفريضة، وإنما أم النبي ابن عباس في تطوع صلاة الليل. وكذلك حديث أنس إنما هو تطوع. وروى هذه أيضا عنه حرب وابن سندي.

قال بعض أصحابنا: وجه ذلك أنه لا يصح أن يكون إمامًا في هذه الصلاة فلم تنعقد به كالمرأة والعبد في صلاة الجمعة، ولا يلزم إنه إذا صلى بامرأة أن تنعقد الجماعة، لأنها تصح أن تكون إمامة فيها في حق النساء.

فائدة: علة منع البالغ من مصاففة الصبي

اختلف أصحابنا في علة منع البالغ من مصاففة الصبي، فقال أبو حفص: يخشى أن لا يكون متطهرًا، يعني فيصير البالغ فذًا، وقال غيره: لما لم يجز أن يؤمه لم يجز أن يصافه كالمرأة، وعكسه صلاة النافلة لم جاز أن يؤمه جاز أن يصافه.

وإذا ثبت ذلك، فالإمام مخير بأن يقف في وسطهما الرجل عن يمينه، والصبي عن يساره، وبين أن يقفا جميعًا عن يمينه إن كانت الصلاة فرضًا وإن كانت نافلة جاز أن يقفا خلفه نص عليه فقال: إذا كان رجل وغلام لم يدرك في صلاة الفريضة فيقوم الرجل وسطهم بينهما، كما فعل ابن مسعود في الفريضة. قيل له حديث أنس: أمنا رسول الله واليتيم قال ذلك في التطوع.

قال أبو حفص: واحتج أبو عبد الله في أن الرجل يقف على يمين الإمام والغلام عن يساره بما رواه. حدثنا يعقوب ثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه: قال دخلت أنا وعمي علقمة على عبد الله بن مسعود بالهاجرة، قال: فاقام الصلاة الظهر فقمنا خلفه، فاخذ بيدي وبيد عمي، ثم جعل أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره، ثم قام بيننا فصففنا صفًا واحدًا، ثم قال: هكذا كان رسول الله يصنع إذا كانوا ثلاثة. وحجته في التطوع أنهما يقفان خلف الإمام. ما رواه أحمد ثنا عبد الرزاق عن مالك أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس، فذكر الحديث وفيه، فقمت أنا واليتيم وراءه.

قال أبو حفص على أن حديث أنس لم يقطع به أبو عبد الله. قال في رواية عبد الله: كان قلبي لا يجسر على حديث إسحاق، لأن حديث موسى يعني خلافه ليس فيه ذكر لليتيم، إنما فيه أن أنسًا قام عن يمين النبي .

قال أحمد: ثنا حجاج بن محمد قال شعبة قال: سمعت عبد الله بن المختار عن موسى بن أنس يحدث عن أنس أنه كان هو ورسول الله وأمه وخالته (فصلى بهم فجعل أنسا عن يمينه وأمه وخالته) خلفهما. قال شعبة: وكان عبد الله بن المختار أشب مني.

فائدة: صفوف الجماعة وترتيبها

الأفضل إذا كانا رجلين أن يصليا خلفه نص عليه لحديث جابر وجبار، فأما ما ذهب إليه ابن مسعود إذا كانوا ثلاثة يقوم وسطهم، فإن أبا عبد الله قال: لم يبلغ عبد الله هذه الأخبارُ.

وقد سهّل أبو عبد الله في ذلك قال: وأرجو أن يكون الإمام في الثلاثة واسعًا، وأحب إلي أن يتقدم كما فعل عمر.

وروى عنه المروذي في الرجل يجيء والإمام في التشهد وإلى لزقه رجل هل يقوم معه أو يجذبه، قال: أعجب إلى أن يتقدم الإمام ويجذب الرجل.

قال أبو حفص قوله: يتقدم الإمام ليقل تأخر المأموم، ويقرب الإمام من السترة، وقد أجاز جذب الرجل ليصح مقامه معه خلف الإمام.

وأكثر الروايات عنه أنه كره أن يجذب رجلًا، لأنه يؤخره عن موقفه وإن اختار هو ذلك.

وقال في رواية أبي طالب: إذا صلى الإمام مع رجل وجلس، وجاء رجل فليجلس عن يساره حتى يقوم، لأن تأخير الجالس يثقل عليه وكون المأموم عن يسار الإمام إذا كان عن يمينه رجل موسع.

فائدة: صلاة المأمومين على علو

اختلف قول أحمد في صلاة المأمومين على علو فنقل عنه صالح أنه أجاز ذلك للضرورة إذا كان موضعًا ضيقًا.

وقال في الرجل يصلي فوق البيت بصلاة الإمام إن كان في موضع ضيق يوم الجمعة كما فعل أنس.

ونقل حرب وحنبل وأبو الحارث الجواز مطلقًا أن يصلي المأموم وهو يسمع قراءة الإمام في دار، أو فوق سطح، أو في الرحبة، أو رجل منزله مع المسجد يصلي على سطحه بصلاة الإمام، أو على سطح المسجد بصلاة الإمام أسفل، وذكر الآثار بذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وابن عمر وابن عباس.

واختلف قوله إذا كان بينهم نهر أو طريق أو حائط، فنقل حرب عنه أنه أجاز للمرأة أنها تصلي فوق بيت بصلاة الإمام وبينها وبين الإمام طريق، ولفظه أرجو أن لا يكون به بأس. وذكر حديث أنس أنه كان يفعل ذلك، فقيل: إذا كان وحده قال: لا من صلى خلف الصف وحده أعاد.

ونقل أبو طالب المنع فقال في الرجل: يصلي فوق سطح بصلاة الإمام. قال إذا كان بينهما طريق أو نهر فلا قيل أنس صلى قال أنس: صلى يوم الجمعة في عرفة بعدما كبر، ويوم الجمعة لا يكون طريق يمتلئ من الناس.

ونقل ابن الحكم جواز ذلك للضرورة، قال: إذا كان موضع ضرورة أجزأ عنه. يروى عن أنس. فأما التراويح فتجوز فوق سطح وإن كان بينهما طريق، نص عليه وقال ذلك تطوع.

قال أبو حفص: وجائز أن يصلي الناس يوم الجمعة في طاقات باب خراسان وخارج الطاقات، نص عليه.

قال أبو حفص: إذا فعل الرجل مثل فعل أبي بكرة مع العلم بنهي النبي لأبي بكرة فيه فروايتان. إحداهما يعيد وعنه، أنه أجاز للرجل أن يكبر ويركع فيما دون الصف ثم يمشي حتى يدخل في الصف إذا علم أنه لا يدرك. فقال في رجل كبر قبل أن يدخل في الصف وركع، ثم مشى حتى دخل في الصف، فقال: يجوز له ذلك، قد روي أن أبا بكرة ركع دون الصف ولم يأمره أن يعيد. وقد روي أيضا عن ابن مسعود وزيد أنهما ركعا دون الصف.

وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: أرى إذا علم أنه يدرك الركعة لم يركع دون الصف وإذا علم أنه لا يدرك ركع، واثنان أحب إلي أن يكبرا جميعًا ويدبا إلى الصف.

قال أبو حفص: ووجه ذلك ما روى عبد الله بن أحمد رحمهما الله تعالى: ثنا زكريا بن يحيى، ثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب، قال: رأيت زيد بن ثابت يدخل المسجد والقوم ركوع فيركع ثم يدب حتى يصل إلى الصف، وعن ابن مسعود مثله.

ابن جريج عن عطاء أنه سمع ابن الزبير على المنبر يقول للناس: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم ليدب راكعًا حتى يدخل في الصف فإن ذلك من السنة. قال عطاء: وقد رأيته هو يفعل ذلك.

قال أبو حفص البرمكي: وقول النبي لأبي بكرة: «لا تعد» نهى عن شدة السعي بدلياى قول ابن الزبير فإن ذلك من السنة.

فائدة: رجل مكفوف دخل في الصف

قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم في رجل مكفوف دخل في الصف فلما أراد أن يركع التزق الذين كانوا معه في الصف بصف آخر وبقي هو وحده: يعيد.

وقال في رواية مهنأ في رجل على يوم الجمعة مع الإمام ركعة وسجدتين في الصف، ثم زحموه فصلى الركعة الأخرى خلف الصف وحده يعيد الركعة التي صلى وحده.

قال في رواية الحسن بن محمد: إذا ركع ركعة وسجد ثم دخل في الصف يعيد الركعة التي صلاها ولا يعيد الصلاة كلها.

وقال في رواية مهنأ في رجل ركع ركعة وسجدتين دون الصف، ثم جاء الناس فقاموا إلى جنبه في الثلاث ركعات يعيد الصلاة كلها. ثم قال: لو ركع ركعة وحدها ولم يسجد السجدتين لم يكن عليه إعادة، لأن أبا بكرة ركع دون الصف ولم يسجد.

قال أبو حفص: اختك قول أبي عبد الله في رجل يصلي خلف الصف ركعة كاملة ثم يدخل الصف أو ينضاف إليه قوم هل يعيد تلك الركعة وحدها أو الصلاة كلها. قال أبو حفص: والأصح عندي أنه يعيد ما صلى خلف الصف حسب فيعيد الركعة أو الركعتين ولا يعيد ما صتى مع غيره، قال: لأن تكبيرة الإحرام لم تفسد، لأنه لا يختلف قوله إنه إذا كبر وحده أنها صحيحة.

قال القاضي: وتحرير قول أبي حفص أنه صلى بعض الصلاة منفردًا فلم تبطل جميعها كالتكبيرة والركوع من غير سجود، ووجد البطلان أن القياس يقتضي بطلان الصلاة في التكبيرة، والركوع، لأن ما يفسد جميع الصلاة يفسد بعضها كالحدث، وإنما أجاز أحمد ذلك القدر لحديث أبي بكرة.

قال أحمد: إذا صلى بين الصفين وحده يعيدها، لأنه فذ وإن كان بين الصفين.

وقال في الرجل ينتهي إلى الصف الأول وقد تم يدخل بين رجلين إذا علم أنه لا يشق عليهم وذلك أنهم قد أمروا أن لا يكون بينهم خلل ويكره أن يمد رجلًا من الصف إليه نص عليه قال: أما أنا فاستقبح أن يمد رجلًا يدخل مع القوم أو ينتزع رجلًا من الصف فيركع معه.

فال بعض أصحابنا: ويقرب من هذه المسألة أنه يباح تخطي رقاب الناس إذا تركوا قدامه فرجة في رواية. وقال في رواية المروذي: إذا جاء وليس يمكنه الدخول في الصف هل يمد رجلًا يصلي معه قال لا، ولكن يزاحم الصف ويدخل.

قال أبو حفص: وقد ذكرنا عن أحمد جواز جر الرجل في رواية المروذي، فإن صح النقل كان في المسألة روايتان. روى عن أبي أيوب قال: تحريك الرجل من الصف ظلم.

قلت: وفي المدونة قال مالك: هو خطأ منهما.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ينكره أيضا ويقول: يصلي خلف الصف فذا ولا يجذب غيره، قال: وتصح صلاته في هذه الحالة فذًا، لأن غاية المصافة أن تكون واجبة، فتسقط بالعذر.

فائدة: كان أحمد يفرج بين قدميه في الصلاة وإذا انحدر للسجود ضمهما

قال مهنأ: رأيت أحمد إذا قام إلى الصلاة يفرج بين قدميه، وإذا انحدر للسجود ضم قدميه.

قال القاضي: إنما قلنا يفرج بين قدميه لما روى حرب. ثنا أبو حفص ثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال: لا تقارب ولا تباعد.

وكيع عن ابن عيينة عن ابن عبد الرحمن بن حوشب قال: كنت مع أبي في المسجد يعني مسجد البصرة فنظر إلى رجل قائمًا يصلي قد ضيق بين قدميه وألزق إحداهما بالأخرى. فقال أبي: لقد أدركت في هذا المسجد ثمانية عشر من أصحاب رسول الله ما رأيت أحدًا منهم يصنع هكذا قط.

ولأنه أمكن للقيام في الصلاة وضم القدين عند الانحدار للسجود أمكن للانحدار.

قال في رواية حرب وقد سأله الرجل يصف بين قدميه أحب إليك أم يعتمد على هذه مرة وعلى هذه مرة؟ قال: يراوح بين قدميه أحب إلي يعتمد على هذه مرة وعلى هذه مرة لما روى الأعمش عن المنهال عن أبى عبيدة قال: رأى عبد الله رجلًا يصل صافًا بين قدميه فقال: لو راوح هذا بين قدميه كان أفضل. ولأنه أروح للمصلي، وقد رفع النبي المشقة عن المصلي بقوله: «أبردوا بالصلاة»، وكان يتوقى بالثوب في الصلاة حر الأرض وبردها.

وقال حنبل: رأيته يراوح بين قدميه في صلاة التطوع، فإذا كانت المكتوبة قام منتصبًا لا يتحرك منه شيء.

وقال أحمد بن الحسين الترمذي رأيت أبا عبد الله إذا افتتح الصلاة رفع يديه قريبًا من شحمة أذنيه ونشر أصابعه.

وقال أبو داود. سمعت أحمد بن حنبل سئل تذهب إلى نشر الأصابع إذا كبرت، قال: لا.

قال أبو حفص: لعل أبا عبد الله أراد بالنشر الذي لم يذهب إليه التفريق الذي كان يقول به أولا والنشر الذي ذهب إليه اخرًا هو مد اليدين، وقد قال صالح: سألت أبي عن رفع اليدين في التكبيرة الأولى فقال: يا بني كنت أذهب إلى حديث أبي هريرة كان النبي إذا كبر نشر أصابعه فظننت أنه التفريق فكنت أفرق أصابعي، فسألت أهل العربية فقالوا: هو الضم وهذا النشر، ومد أبي أصابعه مدًا مضمومة وهذا التفريق وفرق بين أصابعه.

قال أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ثنا ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة، إن رسول الله كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدًا. وروى يحيى بن اليمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله كان إذا افتتح الصلاة فرج بين أصابعه، وقد ضعفه أحمد فقال أحمد بن أثرم: إن أبا عبد الله سئل عن ابن سمعان في الحديث فقال: ليس بشيء والحديث عنده حديث أبي هريرة إنه كان يرفع يديه مدًا.

قال أحمد في رواية الفضل بن زياد وقد سأله عن رجل بلي بأرض ينكرون فيها رفع اليدين في الصلاة وينسبونه إلى النقص، يجوز له ترك الرفع، قال: لا يترك ذلك يداريهم، إنما قال يداريهم لأنه لا طاقة له بهم وأمر النبي عائشة بالرفق.

قال في رواية ابن مشيش: رفع اليدين في الصلاة من السنة وهذا يدل على أن الهيئات في الصلاة يطلق عليها اسم السنة.

قال أبو حفص: فاما حديث أحمد بن يونس عن أبي بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد عن ابن عمر أنه كان لا يرفع يديه فإن أبا عبد الله قيل له إن مجاهدًا قال: ما رأيت ابن عمر رفع يده إلا في افتتاح الصلاة، قال: هذا خطأ نافع وسالم أعلم بحديث ابن عمر وإن كان مجاهدًا أقدم فنافع أعلم منه.

قال بعض أصحابنا: وهذا من أحمد يدل على أصلين. أحدهما أن رواية الأعلم مقدمة على رواية غيره. والثاني أن رواية من يختص بالصحبة أولى من غيره.

فائدة: رفع اليدين في الصلاة

اختلف قول أحمد في رفع اليدين فيما عدا المواضع الثلاثة، فأكثر الروايات عنه أنه لم ير الرفع عند الانحدار إلى السجود ولا بين السجدتين ولا عند القيام من الركعتين ولا فيما عدا المواضع الثلاثة في حديث ابن عمر.

ونقل عنه ابن أصرم وقد سئل عن رفع اليدين فقال: في كل خفض ورفع. قال ابن أصرم: ورأيت أبا عبد الله يرفع يديه في الصلاة في كل خفض ورفع.

ونقل عنه جعفر بن محمد وقد سئل عن رفع اليدين فقال: يرفع يديه في كل موضع إلا بين السجدتين.

ونقل عنه المروذي: لا يعجبني أن يرفع يديه بين السجدتين فإن فعل فهو جائز.

عمرو بن مرة، عن أبي البحتري، عن عبد الرحمن اليحصبي، عن وائل بن حجر أن النبي كان يرفع يديه مع التكبير.

وقد حكى أحمد لفظ هذا الحديث في موضع آخر أنه كان يرفع يديه كلما كبر.

قال أبو حفص: وظاهر هذا الحديث يأتي على جميع الصلاة في كل خفض ورفع.

أحمد عن ابن فضيل، عن عاصم بن كليب، عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبي كان إذا نهض من الركعتين رفع يديه.

قال أحمد: لا بأس بحديثه، يعني عاصم بن كليب.

رفدة بن قضاعة عن الأوزاعي عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله يرفع يديه مع كل تكبير في الصلاة المكتوبة. قال أحمد ويحيى بن معين: ليس بصحيح ولا يعرف عبيد بن عمير يحدث عن أبيه شيئًا ولا عن جده. وقال أحمد: لا أعرف رفدة.

وجه الثالثة: حديث ابن عمر: ولا يرفع بين السجدتين، بعد ذكر المواضع الثلاثة.

واختلف قوله في حد الرفع، فعنه أنه اختار إلى منكبيه وعنه فروع أذنيه.

وجه الأولى حديث ابن عمر ووجه الثانية حديث مالك بن الحويرث أن النبي رفع يديه إلى فروع أذنيه.

وكيع عن قطن عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه. قال: رأيت رسول الله رفع يديه حين افتتح الصلاة حتى جاوزت ابهاماه شحمة أذنيه.

وكيع عن أبيه عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال: كأني أنظر إلى إبهامَي رسول الله قد حاذتا شحمة أذنيه في الصلاة.

قال أبو حفص: الأمر عند أبي عبد الله واسع إلى أي موضع رفع ما لم يتجاوز الأذنين ولم يقصر عن المنكبين.

الحسن بن محمد الأنماطي رأيت أبا عبد الله إذا رفع رأسه من الركوع لا يرفع يديه حتى يستتم قائمًا.

والحجة فيه حديث أبي حميد فيقول: سمع الله لمن حمده ثم يرفع يديه.

أبو داود قلت لأحمد: افتتح الصلاة ولم يرفع يديه أيعيد؟ قال: لا.

حجته أن النبي لم يعلمه للأعرابي ولا نعلم أحدًا قال بالإعادة إلا محمد بن سيرين، فإن أحمد ذكر عنه أنه قال: يقضي.

اختلف قوله في صفة وضع اليد على اليد فعنه أحمد بن أصرم المزني وغيره، إنه يقبض بيمينه على رسغ يساره. وعنه أبو طالب يضع يده اليمنى وضعًا بعضها على ظهر كفه اليسرى، وبعضها على ذراعه الأيسر.

للأولى حديث وائل رأيت النبي يضع اليمنى على اليسرى قريبًا من الرسغ. وفي حديث ثم ضرب بيمينه على شماله فأمسكها.

وللثانية ما روى أنس أنه وضع يمينه على شماله على هذا الوصف، وفي حديث وائل من طريق زائدة عن عاصم بن كليب قال: ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه والرسغ والساعد.

واختلف في موضع الوضع، فعنه فوق السرة وعنه تحتها، وعنه أبو طالب: سألت أحمد أين يضع يده إذا كان يصلي، قال: على السرة أو أسفل، وكل ذلك واسع عنده إن وضع فوق السرة أو عليها أو تحتها.

علي رضي الله عنه من السنة في الصلاة وضع الأكف على الأكف تحت السرة.

عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس مثل تفسير علي، إلا أنه غير صحيح، والصحيح حديث علي.

قال في رواية المزني: أسفل السرة بقليل ويكره أن يجعلهما على الصدر، وذلك لما روي عن النبي أنه نهى عن التكفير وهو وضع اليد على الصدر.

مؤمل عن سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل أن النبي وضع يده على صدره. 129

فقد روى هذا الحديث عبد الله بن الوليد عن سفيان لم يذكر ذلك. ورواه شعبة وعبد الواحد لم يذكرا، خالفا سفيان.

قال في رواية صالح والكوسج إذا التفت في الصلاة: قد أساء، وما علمت أني سمعت فيه حديثًا، أي أنه يعيد.

وقال في رواية أبي طالب: الالتفات في الصلاة لا يقطع، إنما كره ذلك لأنه يترك الخشوع والإقبال على صلاته قال : «هو اختلاس يختلسه الشيطان» الحديث، فلو كلف الإعادة شق، إذ المصلي لا يكاد يسلم من اختلاسه.

قال في رواية حنبل: كان ابن مسعود وأصحابه لا يعرفون الافتتاح، يكبرون، ولو فعل هذا رجل أجزأه، وأهل المدينة لا يعرفون الافتتاح.

وحجته في سقوط وجوب الافتتاح ما روي عن ابن مسعود، ولأن في الأخبار ضعفاء.

قلت: ابن مسعود كان يذهب في الصلاة إلى أشياء خالفه فيها سائر الصحابة؛ فمنها ترك الرفع فيما عدا الافتتاح، ومنها التطبيق في الركوع، ومنها قيام إمام الثلاثة في وسطهم، ومنها ترك الافتتاح.

وأحمد لم يضعف أحاديث الافتتاح ولا أسقط وجوبه من أجل ضعفها ولا من أجل ترك ابن مسعود له، وإنما لم يوجبه لعدم الأمر به. فإن النبي قال: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن»، ولم يأمره بالاستفتاح.

روى حنبل عنه: إذا أراد أن يبتدي الصلاة يكبر ثم يستفتح استفتاح عمر ثم يتعوذ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم، ثم يقرأ ويبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم، هذا كله يخافت به، فإن جهر بها فهو سهو يسجد سجدتي السهو إذا جهر بها. قال أبو حفص: ليس السجود واجبًا.

حرب عنه: لا يقرأ الإمام إلا بعد سكتة حتى يقرأ من خلفه فاتحة الكتاب.

عبد الله عنه: يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم، هذا أعجب إلي. وكذا نقل المروذي ثم قال: والأمر سهل.

والأصل فيه قوله تعالى: { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }، 130 وقوله: { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله } 131 الآية. وفي هذا جمع بين الأمرين. وعن النبي في قصة عائشة قال: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، إن الذين جاؤوا بالإفك».

روى أحمد بن إبراهيم بن هشام عن أبي عبد الله أنه سئل عن بسم الله الرحمن الرحيم من فاتحة الكتاب. فقال: نعم هي إحدى آياتها. قال أبو حفص: ليست هذه الرواية في كتاب الخلال، لكنها في سماعنا.

وروى عنه أبو طالب إذا نسي أن يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم يسجد سجدتي السهو. قال: لا. قال أبو حفص هذا على إحدى الروايتين إذا تركها عند قراءة السورة.

وروى عنه الفضل وأبو الحارث وقد سئل عن الجهر بآمين قال: اجهر بها فإنها سنة ذهبت من الناس. وهذا يدل على أن الهيئة سنة عند أحمد، لأن الجهر هيئة في الكلام.

وروى عنه إسحاق بن إبراهيم آمين أمر من النبي : «إذا أمن القارئ فآمنوا»، وهذا يدل على أن المندوب مأمور به عند أحمد.

وروى عنه حنبل يجهر بها في المكتوبة وغيرها لعموم الأخبار.

ابن منصور عن أحمد وقد سأله عن قول أبي هريرة: لا تسبقني بآمين. قال: يتأيد حتى يجيء المؤذن لفضل التأمين.

وروى عنه الأثرم وقد سئل إذا كان خلف الإمام فقرأ خلفه فيما يجهر فيه أيقول آمين؟ قال: لا أدري ولا أعلم به بأسًا.

اختلف قوله إذا لم يقرأ أول الصلاة هل يقضي؟ فروى عنه عبد الله ابنه أنه إن ترك القراءة في الأولتين قرأ في الآخرتين وسجد سجدتي السهو بعد السلام، وإن ترك القراءة في الثلاث ثم ذكر وهو في الرابعة فسدت صلاته واستأنف الصلاة.

وروى عنه إسماعيل بن سعيد فيمن ترك القراءة في الركعة من صلاة الغداة أو في ركعتين من الظهر عمدًا أو سهوًا لا يعتد بتلك الركعة التي لم يقرأ فيها ويبني على صلاته ويقرأ.

وروى عنه ابن مشيش في إمام صلى بقوم الظهر، فلما فرغ ذكر أنه لم يقرأ يعيد ويعيدون وهو الصحيح.

وجه الأولى ما روى أحمد ثنا وكيع ثنا عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوس الهسفاني عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب. قال: صلى بنا عمر المغرب فنسي أن يقرأ في الركعة الأولى فلما قام في الثانية قول بفاتحة الكتاب مرتين وسورتين فلما قضى الصلاة سجد سجدتين.

ووجه الثانية قوله: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»، والركعة الواحدة صلاة. وروى محمد بن أبي عدي عن الشعبي قال: قال الأشعري صلى بنا عمر فدخل ولم يقرأ شيئًا، قال: فاتبعته حتى أتيت الأطناب. فقلت: يا أمير المؤمنين إنك لم تقرأ شيئًا، فقال: لقد رأيتني أجهز عيرًا بكذا وأفعل كذا، قال: فأمر المؤذنين فأذنوا وأقاموا فأعاد بنا الصلاة.

قال القاضي: إذا قلنا يعيد فإنه يعيد الأذان قال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد وقد سأله هل يعيدون الأذان والإقامة إذا كانوا على ذلك؟ قال نعم. ووجهه حديث عمر ولأن فيه إعلام الناس ليجتمعوا للإعادة.

وروى عنه أحمد بن الحسين الترمذي وقد سئل عن حديث عم أنه صلى بالناس وهو جنب فأعاد ولم يعيدوا قال: هكذا تقول قلت: فإن لم يقرأ الإمام الجنب والذي على غير طهر ومن خلفه قال يعيد ويعيدون انتهى.

قلت: والفرق بين القراءة وترك الطهارة، إن القراءة يتحملها الإمام عن المأموم، فإذا لم يقرأ لم يكن ثم تحمل. والطهارة لا يتحملها الإمام عن المأموم فلا يتعدى حكمها إلى المأموم بخلاف القراءة فإن حكمها يتعدى إليه.

فإن قيل: كيف يتحمل الجنب القراءة عن المأموم وليس من أهل التحمل؟

قيل: لما كان معذورًا بنسيانه حدثه نزل في حق المأموم منزلة الطاهر فلا يعيد المأموم وفي حق نفسه تلزمه الإعادة، وهذا بخلاف المتعمد للصلاة محدثًا أو جنبًا، فإنه لما لم يكن معذورًا، نزل فعله بالنسبة إلى المأموم منزلة العبث الذي لا يعتد به، وأيضا لما كان هذا يكثر مع السهو لم يتعد بطلان صلاته إلى المأموم رفعًا للمشقة والحرج. ولما كان يندب مع التعمد تعدى فساد صلاته إليهم.

واختلف قوله في الصلاة بغير الفاتحة فروى حرب عنه فيمن نسي أن يقرأ بفاتحة الكتاب، وقرأ قرآنًا قال: وما بأس بذلك. أليس قد قرأ القرآن؟

قال: وسمعته مرة أخرى يقول: كل ركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فإنها ليست بجائزة، وعلى صاحبها أن يعيدها.

قال الخلال: الذي رواه حرى قد رجع عنه أبو عبد الله وبين عنه خلف كثير أنه لا يجزئه إلا أن يقرأ في كل ركعة.

للثانية ما روى مالك عن وهب بن كيسان عن جابر قال: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن لم يصل إلا وراء إمام.

وروى عنه أبو طالب من نسي أول ركعة ثم ذكر في آخر ركعة أنه لم يقرأ لا يعتد بالركعة التي لم يقرأ فيها ويصلي ركعة أخرى مكان تلك الركعة، فإن ذكرها وقد سلم وتكلم أعاد الصلاة.

اختلف قوله في قراءة القرآن في الفرائض على التأليف على سبيل الدرس، فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال: سألت أبي عن الرجل يقرأ القرآن كله في الصلاة الفريضة، قال: لا أعلم أحدًا فعل هذا، وقد روى عن عثمان أنه كان يقرأ بعض القرآن سورًا على التأليف.

وروى عنه حرب في الرجل يقرأ على التأليف قي الصلاة اليوم سورة الرعد وغدًا التي تليها ونحو ذلك قال: ليس في هذا شيء إلا أنه يروي عن عثمان أنه فعل ذلك في المفصل وحدها.

وروى عنه مهنأ أنه رخص أن يقرأ في الفرائض حيث ينتهي.

سَلم بن قتيبة عن سهل بن أبي حذيفة عن ثابت عن أنس قال: كانوا يقرؤون في الفريضة من أول القرآن إلى آخره.

وروى المروذي أن أحمد سئل عن حديث أنس هذا، فقال: هذا حديث منكر.

روى حنبل عنه: إذا كان المسجد على قارعة الطريق أو طريق يسلك، فالتخفيف أعجب إلي، وإن كان مسجدًا معتزلًا أهله فيه ويرضون بذلك، فلا أرى به بأسًا وأرجو إن شاء الله.

وروى عنه أبو الحارث: إذا قرأ بفاتحة الكتاب وهو يحسن غيرها إن كان عامدًا فلا أحب له ذلك، وإن كان ساهيًا فلا بأس صلاته تامة.

وعنه محمد بن الحكم هو عندي مسيء إذا عمد ذلك، قلت: يريد الاقتصار على الفاتحة وكلامه يدل على أحد أمرين: إما أن تكون السورة واجبة. وأما أن يكون تارك سنة الصلاة مسيئًا.

وروى الفضل بن زياد عنه وقد سئل الرجل يقرأ في المكتوبة في كل ركعة بالحمد لله وسورة قال: قد كان عمر يفعل. قيل: فتراه أنت. قال: لا قد فعل النبي غير هذا اقرأ في الأوليين انتهى.

وروي عن علي وجابر قالا في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب.

وروى أبو طالب سالت أبا عبد الله عن الرجل يصلي بالناس المكتوبة، فيقرأ في الأربع كلها بالحمد لله وسورة قال: لا ينبغي أن يفعل قلت: ساهيًا، قال: يسجد سجدتين.

وروى عنه أحمد بن هاشم وقد سئل عن رجل قرأ في الركعتين الآخريين بالحمد لله وسورة ناسيًا هل عليه سجدتا السهو قال: لا وكذلك قال مهنأ والميموني.

وروى عنه أبو الحارث في إمام صلى بقوم فقرأ بفاتحة الكتاب ثم قرأ بعض السورة ولم يتمها، ثم ركع لا بأس.

ثم قال أحمد: ثنا عبد الله بن إدريس، ثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن أبي ليلى عن ابن أبزي قال: صليت خلف عمر فقرأ سورة يوسف حتى إذا بلغ وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم وقع عليه البكاء فركع ثم قرأ سورة النجم، فسجد فيها، ثم قام فقرأ إذا زلزلت.

وروى عنه صالح وقد سأله رجل عن رجل يصلي فيبدأ من أوسط السورة أو من آخرها، قال: أما آخر السورة فأرجو، وأما من وسطها فلا.

وروى عنه أحمد بن هشام الأنطاكي هل يجزىء مع قراءة الحمد آية قال: إن كانت مثل آية الدين أو مثل آية الكرسي.

وروى عنه محمد بن حبيب: يكره أن يقرأ الرجل في صلاة الفجر بقل يا أيها الكافرون وأرأيت إلا أن يكون في سفر.

محمد بن حبيب ثنا عمر والناقد ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعيد، ثنا أبي عن إسحاق، عن مسعر ومالك، عن مغول، عن الحكم عن عمرو بن ميمون، عن عمر أنه صلى بهم الفجر في طريق مكة فقرأ بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد.

وروى الميموني صلى بنا أبو عبد الله الفجر فقرأ في الأولى بالمدثر، وفي الثانية بالفجر، وكنا نصلي خلف أبي عبد الله بغلس فيقرأ بنا في الأولى تبارك ونحوها ويقرأ في الثانية إذا الشمس كورت.

وروى عنه أحمد بن الحسين بن حسان في إمام يقصر في الركعة الأولى ويطول في الأخيرة، لا ينبغي هذا يطول في الأولى ويقصر في الآخرة.

قال أبو حفص وقد روى عن أنس أنه قرأ في الركعة الأول قل هو الله أحد، وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون وهذا يدل على جواز الإطالة في الثانية وليس ما ذكره بقوي.

ومن خط القاضي مما قال انتقيته من كتاب الصيام لأبي حفص البرمكي قال ونقلته من خطه

نقل عبد الله: سألت أبي عمن صام رمضان وهو ينوي به تطوعًا، قال: لا يفعل هذا إنسان من أهل الإسلام لا يجزئه حتى ينوي، لو أن رجلًا قام فصلى أربع ركعات لا ينوي بها صلاة فريضة أكان يجزئه ثم قال: لا تجزئه صلاة فريضة حتى ينويها.

قال أبو حفص: وقد قال الشافعي ولو عقد رجل على أن غدًا عنده من رمضان في يوم الشك ثم بان أنه من رمضان أجزأه. قال: وهذا موافق لما قال أبو عبد الله في الغيم.

قال أبو عبد الله: قلت لأبي إذا صام شعبان كله قال لا بأس أن يصوم اليوم الذي يشك فيه إذا لم ينو أنه من رمضان، لأن النبي كان يصل شعبان برمضان، فقد دخل ذلك اليوم في صومه.

قال أبو حفص مراد أبي عبد الله في هذه المسألة إذا كان الشك في الصحو لما تقدم من مذهبه في الغيم.

ومن خط القاضي أيضا مما ذكر أنه انتقاه من كتاب حكم الوالدين في مال ولدهما جمع أبي حفص البرمكي

قال: اختلف قول أبي عبد الله في عتق الأب جارية ابنه قيل قبضها، فروى عنه بكر بن محمد أنه قال: ويعتق الأب في ملك الابن وهو في ملك الابن حتى يعتق الأب أو يأخذ، فيكون للأب ما أخذ.

وعنه المروذي: ولو أن لابنه جارية فأعتقها كان جائزًا. وعنه بكر بن محمد إذا كانت للابن جارية فأراد عتقها قبضها ثم أعتقها، ولا يعتق من مال ابنه إلا أن يقبضها وكذا روى عنه عبد الله وغيره.

قلت: الروايتان مأخذهما أن من ملك أن يملك بتصرف قبل تملكه هل ينفذ تصرفه فيه قولان، وعلى هذا يخرج تصرف الزوج في نصف الصداق إذا طلق بعد الإقباض وقبل الدخول، وتصرف الموصى له إذا تصرف بعد الموت وقبل القبول على أن الذي تقتضيه قواعد أحمد وأصوله صحة التصرف ويجعل هذا قبولًا واسترجاعًا للصداق، قد قارن التصرف، ومن منع صحته قال إن غاية هذا التصرف أن يكون دالًا على الرجوع والقبول الذي هو سبب الملك ولم يتقدم على التصرف. والملك لا بد أن يكون سابقًا للتصرف فكما لا يتأخر عنه لا يقارنه.

ولمن نصر الأول أن يجيب عن هذا بأن المحذور أن يرد العقد على ما لا يملكه ولا يكون مأذونًا له في التصرف فيه، فإذا قارن العقد سبب التملك لم يرد العقد إلا على مملوك، فقولكم لا بد أن يتقدم الملك العقد دعوى محل النزاع فمنازعوكم يجوزون مقارنة العقد لسبب التملك.

وهذه المسألة تشبه مسألة حصول الرجعة بالوطء. فإنه بشروعه بالوطء. تحصل الرجعة وإن لم يتقدم على الوطء فما وطأ إلا من ارتجعها وإن كانت رجعته مقارنة لوطئها فتأمله فإنه من أسرار الفقه.

ونظير هذه المسألة، مسألة الجارية الموهوبة للولد سواء قال أحمد في رواية أبي طالب إذا وهب لابنه جارية وقبضها الابن لم يجز للأب عتقها حتى يرجع فيها ويردها إليه.

قال أبو حفص ويخرج في هذه المسألة رواية أخرى بصحة العتق والأول أصح.

قال إسحاق بن إبراهيم: سألت أبا عبد الله رحمه الله تعالى عن جارية وهبها رجل لابنه ثم قبضها الابن من الأب، فأعتقها الأب بعدما قبضها الابن، قال الجارية للابن واعتق الأب ما ليس له.

قلت: فحديث النبي : «أنت ومالك لأبيك»، قال: من قال إن عتق الأب جائز يذهب إلى هذا، فأما الحسن وابن أبي ليلى يقولان: عتقه عليه جائز ولا أذهب إليه، قلت: أيش الحجة في هذا؟ قال: لا يجوز عتقه على ما وهبه الابن وحازه.

اختلف في قبض الأب صداق ابنته. فروى عنه مهنأ لا يبرأ الزوج بذلك. وروى عنه المروذي وأبو طالب أنه يبرأ. وأصل الرواتين عند أصحابنا إبراء الأب عن الصداق فإن فيه روايتين، فإن قلنا يصح ابراؤه صح قبضه وإلا فلا كالأجنبي.

قلت: وعندي أن الروايتين في القبض غير مبنيتين على رواية الإبراء، بل لما ملك الأب الولاية على ابنته في هذا العقد ملك قبض عوضه فلما ملك تزويجها وهو كإقباض البضع وتمكين الزوج منه ملك قبض الصداق، وهذه هي العادة بين الناس.

والرواية الأخرى لا يقبض لها إلا بإذنها، فلا يبرأ الزوج بإقباضه كما لا يتصرف في مالها إلا بإذنها. والله أعلم.

وروى المروذي عنه في الرجل يستفرض من مال أولاده، ثم يوصي بما أخذ من ذلك، قال: ذلك إليه فإن فعل فلا بأس.

وهذه الرواية تدل على أن الدين يثبت في ذمته وإن لم يملك الابن المطالبة به، إذ لولا ثبوته في الذمة لم يملك الوصية به وكانت وصيته لوارث.

وقد روى عنه أبو الحارث في رجل له على أبيه دين فمات الأب قال: يبطل دين الابن.

قلت: وهذه الرواية عندي تحتمل أمرين:

أحدهما: بطلانه وسقوطه جملة وهو الظاهر. والثاني: بطلان المطالبة به فلا يختص به من التركة ثم يقسم الباقي فلو أوصى له به من غير مطالبة فله أخذه يقدم به من التركة موافقًا لنصه الأخر في راوية المروذي. والله أعلم.

فإن قيل: لو اشتغلت الذمة به لوجبت الوصية به كسائر الديون.

قلت: لما كان للأب من الاختصاص في مال ولده ما ليس لغيره، فيملك أن يتملك عليه عين ماله، فلذلك يملك أن يسقطه من ذمه نفسه وأن يوفيه إياه، فتأمله.

اختلفت الرواية عن أحمد فيما أخذه الأب من مال ابنه ومات، ووجده الابن بعينه هل يكون له أخذه على روايتين نقلهما أبو طالب في مسائله واحتج بجواز الأخذ بقول عمر.

قال أبو حفص: ولا ناقد بيننا أن الحق في ذمته ولا يمتنع أن يسقط الرجوع إذا كاد دينًا ويملك إذا كان عينًا كالمفلس بثمن المبيع. ووجه الأخرى أن الأب قد حازه فسقط الرجوع كما لو أتلفه.

روى عنه أبو الحارث: كلما أحرزه الأب من مال ولده فهو له رضي أو كره يأخذ ما شاء من قليل وكثير والأم لا تأخذ إنما قال : «أنت ومالك لأبيك»، ولم يقل لأمك.

وروى عنه إسحاق بن إبراهيم: لا يحل لها، يعني الأم، أن تتصدق شيء من غير علمه.

قال أحمد: أما الذي سمعنا إن المرأة تتصدق من بيت زوجها ما كان من رطب، والشيء الذي تطعمه فأما الرجل فلا أحب له أن يتصدق بشيء إلا بإذنها.

وروى عنه حنبل في الرجل يقع على جارية أبيه أو ابنه أو أمه: لا أراه يلزق به الولد لأنه عاهر إلا أن يحلها له. قال أبو حفص: يحتمل أن يريد بقوله يحلها له أي بالهبة ويحتمل أن يريد بحل فرجها لأنه إذا أحل فرجها فوطئها لحقه الولد لأجل الشبهة. ألا ترى أنا ندرأ عن المحصن الرجم في هذا لحديث النبي .

وقال في رواية بكر بن محمد في رجلا له جارية يطؤها فوثب عليها ابنه فوطئها فحملت منه وولدت: هي أمة تباع، لأنه بمنزلة الغريب وهو أشد عقوبة من الغريب لا يثبت له نسب، ولكن لو اعتقه الأب.

قوله وهو أشد عقوبة لوجهين: أحدهما وطؤه موطوءة أبيه. والثاني: أنها محرمة عليه على التأبيد. وإنما اختار عتقه لأنه من ماء ولده مخلوق ولم يوجبه لعدم ثبوت النسب.

عبد الله ابنه: إذا دفع إليه ابنه ما لا يعمل به، فذهب الابن فاشترى جارية وأعتقها وتزوج بها مضى عتقها وله أن يرجع على ابنه بالملك ويلحق به الولد وليس له الرجوع بالجارية.

حنبل عنه قال: أرى أن من تصدق على ابنه بصدقة فقبضها الابن أو كان في حجر أبيه فأشهد على صدقته فليس له أن ينقض شيئًا من ذلك لأنه لا يرجع في شيء من الصدقة.

وعنه المروذي: إذا وهب لابنه جارية فأراد أن يشتريها فإن كان وهبها على وجه المنفعة فلا بأس أن يأخذها بما تقوم، وإذا جعل الجارية لله تعالى أو في السبيل أو أعطاها ابنه، لم يعجبني أن يشتريها.

أبو حفص إذا وهبها على جهة المنفعة دون الصدقة جاز أن يشتريها، لأن النبي أجاز الرجوع في هبة الولد وإن جعل الجارية صدقة على ابنته وقصد الدار الآخرة لم يجز له الرجوع لا بثمن ولا بغيره لقوله لعمر: «لا تعد في صدقتك».

قال أبو حفص وتحصيل المذهب أنه لا يجوز له الرجوع فيما دفع إلى غير الولد هبة كان أو صدقة ويرجع فيما وهبه لابنه ولا يرجع فيما كان على وجه الصدقة.

وروى عنه مهنا إذا تصدق الرجل بشيء من ماله على بعض ولده ويدع بعضًا.

قال أبو حفص: لا فرق بين العطية للمنفعة وبين الصدقة للأجر، لأن كلاهما عطية، وإنما يختلف حكمهما في رجوع الوالد.

اختلف قوله في قسمة الرجل ماله بين ولده في حياته، فروى عنه حنبل إن شاء قسم، وإن شاء لم يقسم، إذا لم يفضل. وروى عنه محمد بن الحكم أحب إلي أن لا يقسم ماله، يدعه على فرائض الله، لعله يولد له.

علي بن سعيد عن أحمد إذا زوج بعض ولده وجهزه وله ولد سواهم وهم عنده ينفق عليهم ويكسوهم، فإن كان نفقته عليهم مما يجحف بماله، ينبغي له أن يواسيهم وإز لم يجحف بماله، وإنما هي نفقة فلا يكون عليه شيء.

قال أبو حفص قوله: يجحف بماله، يعني ينفق فوق الحاجة ينبغي أن يعطي الذين خرجوا من نفقته بآزاء ذلك، لأن ما زاد على النفقة يجري مجرى النحل.

وروى عنه أحمد بن الحسين في امرأة جعلت مالها لأحد بنيها أن هو حج بها دون أخويه تعطيه أجرته وتسوي بين الولد.

وروى عنه إسحاق بن إبراهيم في الأب يقول: وهبت جاريتي هذه لابني إذا كان ذلك في صحة منه، وأشهد عليه كان قبضه لها قبضًا.

وهذه الرواية تدل على أن هبة الأب لابنه الصغير يجري فيها الإيجاب، لأنه اعتبر في ذلك القبض.

وروى عنه يوسف بن موسى في الرجل يكون له الولد البار الصالح وآخر غير بار: لا ينيل البار دون الآخر.

قال أبو حفص: لأن النبي لم يفرق، ولأنه كالبار في الميراث.

وروى عنه حنبل: للشاهد أن لا يشهد إذا جاء مثل هذا وعَرَف فيه الحيف في الوصية. وروى عنه الحكم لا يشهدُ إذا فضّل بين ولده.

وروى عنه الفضل بن زياد في رجل كانت له بنت وأخ وله عشرة آلاف درهم: لم يجز له أن يصالح الأخ منها على ألفي درهم، ليس هذا بشيء.

قال أبو حفص: لأنه هضم للحق فبطل، ولأنه إنما يستحق بعد الموت فهو كإجارة الشريك لشريكه بيع نصيبه ثم له المطالبة بالشفعة.

قلت: هذا القياس غير صحيح، لأن النبي حرم على الشريك البيع قبل استئذان شريكه فقال: «لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق بالشفعة»، فدل على أنه إذا أذن في البيع ولم يرد أخذ الشقص سقطت شفعته، وعلى هذا موجب النص فسبب الشفعة إرادة البيع واستئذان الشريك، فإذا طلبه الشريك وجب على شريكه بيعه إياه، وهذا مقتضى النص خالفه من خالفه. وأما إسقاط الميراث فإسقاط أمر موهوم لا يدري أيحصل أم لا ولعله أن يموت هو قبله فهو جار مجرى إسقاط حقه من الغنيمة قبل الجهاد وتحرك العدو البتة. وإسقاط حقه بما، لعل الموصى أن يوصى له به وأمثال ذلك مما لا عبرة به والله أعلم.

فصل: أحكام الوالدين بالنسبة لأولادهما

إذا مات ولم يسو فهل يرد؟ فيه روايتان منصوصتان: رواية ابنه عبد الله وعمه حنبل وأبي طالب أنه يرد وأصحابنا إنما نسبوا ذلك إلى أنه قول أبي حفص ولا ريب أنه اختياره في هذا الكتاب، ونقله نصا عن أحمد رواية من سمينا وهو الأقيس.

نقل عنه حرب في مجوسي كان له ولد فنحل بعض ولده دون بعض وكان للمنحول ابن فمات وترك ابنه كيف حاله في هذا المال الذي ورث عن أبيه وكان الجد نحله قال: لا بأس يأكله لأن هذا في الشرك.

قال أبو حفص هذا يجيء على القولين جميعا، أما على القول الذى يمضيه بالموت فهو مثله وأما على القول بالرد بعد الموت فلأنه نحله في حال الشرك وهو مقبوض فيه فهو كما يثبت قبض المهر إذا كان خمرا أو خنزيرا وإن كان مرودا في الإسلام. آخر ما انتقاه القاضي من الكتاب المذكور

ومما انتقاه من كتاب أحكام الملل لأبي حفص أيضا

أبو طالب عنه قال: وسأله إسماعيل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج. قال: لا يستعان بهم في شيء، وذكر أبو حفص الحديث إلى قوله النبي : «ارجع فلن أستعين بمشرك».

قال: وروى أبو معاوية حدثنا أبو حيان التيمي عن الزنباع، عن أبي الدهقانة، قال: قيل لعمر: إن ههنا رجلًا من أهل الحيرة له علم بالديوان أفنتخذه كاتبًا؟ فقال عمر: لقد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين.

وكيع: حدثنا إسرائيل عن سماك بن حرب، وعن عياض الأشعري، عن أبي موسى قال: قلت لعمران لي كاتبًا نصرانيًا، فقال مالك: قاتلك الله أما سمعت الله يقول: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء }، 132 وذكر الحديث.

قال أبو حفص: احتج أبو عبد الله في حبر الكافر على الإسلام بذكر الشهادتين، وإن لم يقل أنا بريء من الكفر الذي كنت فيه بقوله: لعمه أدعوك إلى كلمة أشهد لك بها عند الله لا إله إلا الله وأني رسول الله وقال رسول الله للغلام اليهودي: «يا غلام قل لا إله إلا الله وأني رسول الله». وقال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم».

فإن قال: لم أرد الإسلام فهل تضرب عنقه أم لا.

اختلف قوله في ذلك فروى عنه حرب يضرب عنقه. وروى عنه مهنا في يهودي أو نصراني أو مجوسي قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وقال: لم أنو الإسلام، يجبر على الإسلام فإن أبى يحبس، فقلت: يقتل؟ قال: لا، ولكن يحبس.

ووجه الأولى: إنه قد أتى بصريح الإسلام والاعتبار في الإسلام بالظاهر.

ووجه الثانية: أنه يحتمل ما قاله وإن لم يقصد الإيمان. فجاز أن يجعل ذلك شبهة في سقوط القتل. والقتل سقط بالشبهة بدليل ما لو أعطى الأمان لواحد من أهل الحصن واشتبه علينا.

ومما انتقاه من خط أبي حفص البرمكي

بإسناده إلى أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله يسجد على كور عمامته. 133

وبإسناده إليه يرفعه: «إذا سمعت الندا فأجب وعليك السكينة فإن أصبت فرجة وإلا فلا تضيق على أخيك واقرأ ما تسمع أذنيك ولا توذ جارك وصل صلاة مودع». 134

وبإسناده إلى ابن عمر يرفعه: «ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتبع المساجد». 135

وبإسناده عن أبي هريرة يرفعه: «إذا دخل أحدكم المسجد فوجد الناس سجودًا فليسجد ولا يقف كما يقف اليهود».

وروى ابن بطة بإسناده إلى أبي أمامة أن رسول الله شهد جنازة وهو سابع سبعة، فأمرهم رسول الله أن يصفوا ثلاثة صفوف خلفه، فصف ثلاثة واثنين وواحد صفًا خلف صف فصلى على الميت ثم انصرف. 136

وبإسناده عن سَمُرة بن جُندُب يرفعه: من كتم على غالٍّ فهو غال مثله. 137

وبإسناده عن عائشة رضي الله عنها: سئل النبي عن الشعر فقال: «هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح». 138

وبإسناده عن جابر بن سمرة يرفعه، لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق بصاع كل يوم على مسكين». 139

وبإسناده عن عائشة ترفعه: «اعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد وليولم أحدكم ولو بشاة». 140

وبإسناده عن إبراهيم الحربي قال: الناس كلهم عندي عدول إلا من عدله القاضي.

قلت: ويروى عن ابن المبارك أنه قال: الناس كلهم عدول إلا العدول، سمعته من شيخنا.

وبإسناده عن يحيى القطان: لم يكن يشهد عند الحاكم إلا القسام والذراع، فأما المستورون وأهل العلم فلم يكونوا يشهدون.

وبإسناده قال رجل لابن المبارك: يا أبا عبد الرحمن من السفل؟ قال: الذين يلبسون القلانس وياتون مجالس الحكام.

وبإسناده عن أنس بن مالك قال رسول الله : «يأتي على الناس زمان يدعو فيه المؤمن للعامة فيقول الله عز وجل: ادع لخاصة نفسك أستجب لك فأما العامة فإني عليهم ساخط». 141

وبإسناده عن عبد الله بن محمد بن الفضل الصيداوي قال: قال أحمد بن حنبل: إذا سلم الرجل على المبتدع فهو يحبه، قال النبي : «ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم». 142

وبإسناده عن همام بن مسعود كان يقول: لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا. 143

وليت القاضي ذكر أسانيد هذه الأحاديث، وكتبتها لأكشف حالها.

ومن خط القاضي أيضا

حكي عن عثمان بن منصور وعمرو بن معدي كرب، أنهما كانا يقولان: الخمر مناحة مباحة ويحتجان بقوله تعالى: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات }، 144 قالا: قد آمنا وعملنا الصالحات فلا جناح علينا فيما طعمنا. فلم تكفرهما الصحابة بهذا القول، وبينوا لهما الحكم في ذلك، لأنه لم يكن قد ظهرت أحكام الشريعة في ذلك الوقت ظهورًا عامًا. ولو قال بعض المسلمين في وقتنا هذا لكفرناه لأنه قد ظهر تحريم ذلك.

وسبب نزول هذه الآية ما قاله الحسن: لما نزل تحريم الخمر قالوا: كيف بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم، وقد أخبر الله أنها رجس فأنزل الله: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا }. 145

وكذلك قد قيل في مانعي الزكاة إنهم على ضربين: منهم من حكم بكفره وهم من آمن بمسيلمة وطليحة والعنسي؛ ومنهم من لم يحكم بكفره، وهم من لم يؤمنوا بهم، لكن منعوا الزكاة وتأولوا أنها كانت واجبة عليهم، لأن النبي كان يصلي عليهم وكانت صلاته سكنًا لهم. قالوا: وليس صلاة ابن أبي قحافة سكنًا لنا فلم يحكم بكفرهم، لأنه لم يكن قد انتشرت أحكام الإسلام. ولو منعها مانع في وقتنا حكم بكفره.

ومن خطه أيضا من تعاليقه

عذاب القبر حق وقد قيل ولا بد من انقطاعه، لأنه من عذاب الدنيا. والدنيا وما فيها فإن منقطع فلا بد أن يلحقهم الفناء والبلاء ولا يعرف مقدار مدة ذلك.

يجوز أن يحشر الله العباد يوم القيامة عراة في وقت خروجهم من قبورهم يوم البعث، ثم يكسو الله المؤمن حلل الجنان ويجعل على الكافر والعصاة سرابيل القطران والتعبد في الآخرة بترك التكشف زائل.

المحشر هل هو في أرض من أراضي الجنة أو في أرض من أراضي الدنيا أو في موضع لا من الجنة ولا من النار؟ فقد قيل: أول حشر الناس عند قيامهم من قبورهم في هذه الأرض التي ماتوا ودفنوا فيها، ثم يحولون إلى الأرض التي تسمى الساهرة، فهذا معنى قوله: فإذا هم بالساهرة. والساهرة هي التي يحاسبون عليها، فإذا فرغوا من الحساب وجازوا على الصراط وميز بين المجرمين والمؤمنين ضرب بينهم بسور فكان ما وراء السور مما يلي الجنة من أرض الجنة وصار ما دون السور مما يلي النار من أرض جهنم وموضع الحساب يصير من جهنم.

قوله تعالى: { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون }، 146 المراد الأمر في الدنيا، لأن الآخرة ليس فيها أمر ولا نهي على الملائكة ولا غيرهم لأن التعبد زائل. وفي البخاري عن علي: اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل.

قلت: هذا وهم منه رحمه الله تعالى، فإن الله تعالى يأمر الملائكة يوم القيامة بأخذ الكفار والمجرمين إلى النار وسوقهم إليها وتعذيبهم فيها. ويأمر عباده بالسجود له، فيخرون سجدًا إلا من منعه الله من السجود. ويأمر المؤمنين فيعبرون الصراط. ويأمر خزنة الجنة بفتحها لهم. ويأمر خزنة النار بفتحها لأهلها، ويأمر ملائكة السموات بالنزول إلى الأرض، ويأمر بشأن البعث كله وما بعده، فالأمر يومئذ لله، ولا يعصي الله في ذلك اليوم طرفة عين وأوامره ذلك اليوم للثواب والعقاب والشفاعة للملائكة والأنبياء وغيرهم، تضبطها قدرة الخالق فكيف يقال ليس في الآخرة أمر ولا نهي حتى يقال: لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون في الدنيا، أفترى الله عز وجل لا يأمرهم يوم القيامة في أمر النار بشيء فلا يعصونه فيه. نعم ليست الآخرة دار حرث، وإنما هي دار حصاد وأوامر الرب ونواهيه ثابتة في الدارين، وكذلك أوامر التكليف ثابتة في البرزخ ويوم القيامة وحكاه الأشعري في مقالاته عن أهل السنة في تكليف من لم تبلغه الدعوة في الدنيا. إن يكلفوا يوم القيامة فقول القائل الآخرة ليست دار تكليف ولا أمر ولا نهي، قول باطل ودعوى فاسدة والله الموفق.

قال: ذكر بعضهم أنه يجوز أن يقول أنا مؤمن ولا يقول أنا ولي، وفرق بينهما فإن الله تعالى أمر من ظهر منه الإيمان أن يسمى مؤمنًا قال تعالى: { فإن علمتموهن مؤمنات }، 147 الآية ولم يأمر من ظهر منه ذلك أن يسمى وليًا ولا فرق بينهما، فإن الله قد وصف الولي بصفة المؤمن فقال: { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون }، 148 وهذه صفة المؤمن، ثم لا يجوز أن يصف نفسه بأنه ولي، وكذلك المؤمن، ولأنه إنما يكون وليًا بتوليه لطاعات الله وقيامه بها كالمؤمن.

قلت: هذه حجة من منع قول القائل أنا مؤمن بدون استثناء، كما لا يقول أنا ولي. ومن فرق بينهما أجاب بأنه لا يمكنه العلم بأنه ولي لأن الولاية هي القرب من الله عز وجل. فولي الله هو القريب منه المختص به، والولاء هو في اللغة القرب، ولهذا علامات وأدلة وله أسباب وشروط وموجبات، وله موانع آفات وقواطع، فلا يعلم العبد هل هو ولي الله أم لا.

وأما االأيمان فهو أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه ويلتزم أداء فرائضه وترك محارمه، وهذا يمكن أن يعلمه من نفسه بل ويعلمه غيره منه.

والذي يظهر لي من ذلك، أن ولاية الله تعالى نوعان: عامة وخاصة.

فالعامة ولاية كل مؤمن فمن كان مؤمنًا لله تقيًا كان له وليًا وفيه من الولاية بقدر إيمانه وتقواه ولا يمتنع في هذه الولاية أن يقول أنا ولي إن شاء الله، كما يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

والولاية الخاصة إن علم من نفسه أنه قائم لله بحميع حقوقه مؤثر له على كل ما سواه في جميع حالاته قد صارت مراضى الله ومحابة هي همه ومتعلق خواطره. يصبح ويمسي وهمه مرضاة ربه وإن سخط الخلق فهذا إذا قال أنا ولي لله كان صادقًا.

وقد ذهب المحققون في مسألة "أنا مؤمن" إلى هذا التفصيل بعينه فقالوا له: ان يقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، ولا يقول أنا مؤمن يفيد الإيمان المطلق الكامل الآتي صاحبه بالواجبات التارك للمحرمات بخلاف قوله: آمنت بالله. فتأمله.

إذا دخل خط خارجي أو قاطع طريق إلى بلد وقد غصب الأموال وسبى الذراري هل يجوز معاملته؟

نظرتَ فإن لم يكن معهم إلا ما أخذوه من الناس لم يجز معاملتهم، وإن كان معهم حلال وحرام لم يجز أيضا إلا أن يبينوه كرجل كان عنده أربع إماء، فأعتق واحدة منهم بعينها وعرض واحدة منهن وهو مدع لرقهن لم يجز الشراء منه حتى يبين التي أعتقها، وكذلك إذا كان عنده ميتة ومذكاة لم يجز الشراء منه حتى يبين. فأما الأموال التي في أيدي هؤلاء الغصبة من الخوارج واللصوص الذين لا يعرف لهم صناعة غير هذه الأموال المحرمة عليهم فالعلم قد أحاط بأن جميع ما معهم حرام، فلا يجوز البيع والشراء منهم، ولكن يجوز للفقير أن يأخذ منهم ما يعطوه من جهة الفقر، لأن إمام المسلمين لو ظفر بهذا الفاسق وبما معه من الأموال المغصوبة لوجب أن يصرف هذه الأموال في الفقراء. وأما المستور فإنه يحكم له بما في يده لأنا لا نعلم أنه في دعواه مبطل، وكذلك لو أن رجلًا من فساق المسلمين لا ينزع عن الزنا والقذف. ونحوه وكان في يده مال حكم له به ويفارق هذا من يعرف بالغصب والظلم، لأن الظاهر أن تلك الأموال حرام غصوب.

ومن خط القاضي من جزء فيه تفسير آيات من القرآن عن الإمام أحمد

رواية المروذي عنه، رواية أبي بكر أحمد بن عبد الخالق عنه، رواية أبي بكر أحمد بن جعفر بن سالم الحنبلي، رواية أبي الحسين أحمد بن عبد الله السوسنجردي.

قال المروذي: سمعت أبا عبد الله يقول لرجل: اقعد اقرأ، فجئته أنا بالمصحف، فقعد، فقرأ عليه، فكان يمر بالآية، فيقف أبو عبد الله فيقول له: ما تفسيرها فيقول: لا أدري فيفسرها لنا، فربما خنقته العبرة فيردها وكان إذا أمر بالسجدة سجد الذي يقرأ وسجدنا معه فقرأ مرة فلم يسجد فقلت لأبي عبد الله: لأي شيء لم تسجد قال: لو سجد سجدنا معه قد قال ابن مسعود للذي قرأ أنت أمامنا إن سجدت سجدنا وكان يعجبه أن يسلم فيها.

وقال: ذهب إلى ابن سواء، فكان يقرأ بنسخة لعبد الوهاب فكان يقرأ ويفسر قال ابن سواء كان يقرأ ويفسر قال: وكان قتادة يقرأ ويفسر.

وقال لرجل: لو قرأت فسمعنا ونحن يسير من العسكر، فكان الرجل يقرأ وأبو عبد الله يسمع، وربما زاد أبو عبد الله الحرف والآية فتفيض عيناه وسمعته يفسر القرآن. وقال: قال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث مرات، وقال: أعيتني الفرائض فما أحسنها.

وقُرئ عليه: { لا شية فيها }، 149 قال: لا سواد فيها.

{ عوان بين ذلك }، 150 قال لا كبيرة ولا صغيرة.

{ غير مدينين }، 151 قال محاسبين.

وكان يقرأ السجنُ: { السجنُ أحبُّ إلي }.

{ أيتها العير }، قال: حمر تحمل الطعام.

{ كفرت بأنعم الله فأذاقها الله }، قال: مكة.

{ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن }، 152 قال: هذه نسختها التي في البقرة: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا }. 153 قال: يفرض لكل حامل مطلقة كانت أو متوفى عنها زوجها لها النفقة حتى تضع، هكذا رأيت هذا التفسير ولا يخلو من وهم إما من المروذي أو من الناقل.

{ وثيابك فطهر }، قال: عملك فأصلحه. { والرجز فاهجر }، قال: الرجز عبادة الأوثان. { ولا تمنن تستكثر }، 154 قال: تمنن بما أعطيت لتأخذ أكثر.

{ قل أعوذ برب الفلق } قال: واد في جهنم. الغاسق: القمر. وقال النبي لعائشة: «هذا الغاسق قد طلع»، يعني القمر. { النفاثات } السحر. و { العقد }: الذين يعقدون السحر. { حاسد إذا حسد }، قال: هو الحسد الذي يتحاسد الناس. قلت: إيش تفسير إذا وقب؟ قال: لا أدري.

وقرىء عليه { إرم ذات العماد }، قال: لم تزل. { جابوا الصخر بالواد }، 155 قال: نقبوا الصخر وجاؤوا عليهم جلود النمار. قد جابوها: قد نقبوها.

{ عسعس }: أظلم.

{ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة }، 156 قال: هذه مدينة مروان قد مررت بها وهي قريبة من عبد الرزاق رأيتها سوداء حمراء أثر النار تبين فيها ليس فيها أثر زرع ولا خضرة إنما غدوا على أن يصرموها أو يجذوها وفيها حرث وكانوا قد أقسموا أن لا يدخلها مسكين فأصبحت كالصريم قد أكلتها النار حتى تركتها سوداء. قال أوسطهم: أعدلهم.

{ لا يلتكم من أعمالكم } 157: لا يظلمكم.

{ يوم تكون السماء كالمهل } 158 قال: مثل دردى الزيت.

{ ذات الرجع } 159 قال: الرجع المطر، والصدع النبات.

{ ألم نجعل الأرض كفاتًا } 160: يكفتون فيها الأحياء الشعر والدم وتدفنون فيها موتاكم. قان المروذي وسمعته يقول: يدفن فيها ثلاثة أشياء الأظافر والشعر والدم. ثم قال: وأمواتًا تدفن فيها الأموات. ماء فراتًا: عذبًا.

{ كالفراش المبثوث }، قال: مثل الفراش الذي يطير عند السراج فيحترق.

{ نجني من فرعون وعمله } 161 قال: مضاجعته.

{ بغير عمد ترونها } 162 قال: كان ابن عباس يقول: ترون السموات ولا ترون العمد.

{ والنجم والشجر يسجدان } 163 قال: الشجر ما كان إلى الطول قائم والنجم النبات الذي على وجه الأرض.

وقرىء عليه: { خلقت بيديّ }، قال: مشددة مخالفة على الجهمية.

{ أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } قال: أخلصوا بذكر الآخرة.

{ فطفق مسحًا بالسوق والأعناق } 164 قال: ضرب أعناقها.

{ وآتيناه أجره في الدنيا }، 165 قال: الثناء، قال: يتولى إبراهيم الملل كلها يتسولونه.

{ ورد الله الذين كفروا بغيظهم }، 166 قال: جاءت ريح فقطعت أطناب الفساطيط فرجعوا.

{ لن تنالوا البر } 167 قال: الجنة.

{ اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة }، 168 قال: باعوها. قلت: يريد أبو عبد الله باعوا الآخرة لا أنه فسر الاشتراء بالبيع فإنهم لم يبيعوا الحياة الدنيا وإنما باعوا الآخرة واشتروا الدنيا.

{ فيها صر } 169: برد.

{ فضحكت } 170: حاضت.

{ بخس دراهم معدودة } 171 قال: بعشرين درهما.

{ قاصرات الطرف: } 172 قال: قصرن طرفهن على أزوجهن فلا يرين غيرهم.

{ حور عين } 173: قال: كثير بياض أعينهن شديد سواد الحدق.

{ والذين جاؤوا من بعدهم } 174 قال: العجم.

{ يصرون على الحنث العظيم } 175 قال: الكفر.

{ شرب الهيم } 176: الإبل.

{ الأحقاف }: الرمل.

{ سيل العرم } 177: قال السيل هو السيل، والعرم وهو مسناة البحر. قال المروذي (عن أحمد): حدثنا محمد بن جعفر ثنا شريك عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة في قوله: { سيل العرم }، قال: المسناة بلحن اليمن.

وقال أي شيء تفسير: { إن الإنسان لربه لكنود }، 178 قلت: لكفور، قال: نعم.

{ بين الصدفين } 179 قال: الجبلين.

{ عين القطر } 180: النحاس المذاب.

{ لا تأخذه سنة: لا تأخذه نعسة.

{ فلما قضينا عليه الموت } 181 قال: مكث على عصاه سنة فلما نخرت العصى وقع.

{ ذواتي أكل خمط } 182 قال: الأراك.

{ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } 183: ما لم يكن فيه سرف أو تقتير.

{ وأنى لهم التناوش } 184: قال التناول بالأيدي.

{ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } 185 قال: القرآن.

{ ذنوبًا مثل ذنوب أصحابهم } 186 قال: سجل من العذاب.

{ ذات الأكمام } 187 قال: الطلع.

قرىء عليه: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }، 188 قال: الذي قال سفيان: إذا اختلفتم في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر، يتأول: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }.

{ سوف أستغفر لكم ربي } 189: أخرَّ دعاءه إلى السحر.

{ العشار عطلت } 190: لم تحلب ولم تصر.

{ ما أغنى عنه ماله وما كسب } 191: قال ما كسب ولده.

{ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } 192: قال نعيم الدنيا.

{ نسوق الماء إلى الأرض الجرز } 193: هي أرض لا يأتيها المطر إنما يساق إليها الماء وقد مررت بها بليل. قلت: وكان شيخنا أبو العباس أحمد بن تيمية يقول: هي أرض مصر، وهي أرض إبليز 194 لا ينفعها المطر فلو أمطرت مطر العادة لم ينفعها ولم يروها ولو داوم عليها المطر لهدم البيوت وقطع المعايش فأمطر الله بلاد الحبشة والنوبة ثم ساق الماء إليها. وعندي أن الآية عامة في الماء الذي يسوقه الله على متون الرياح في السحاب وفي الماء الذي يسوقه على وجه الأرض، فمن قال هي أبين أو مصر إنما أراد التمثيل لا التخصيص.

{ فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين }، 195 قال: أهل المدينة. { قنوان } 196: نضيج. قلت أهل المدينة أول من وكل بها ولمن بعدهم من الوكالة بحسب قيامه بها علمًا وعملًا ودعوة إلى الله.

قال: بعث شعيب إلى مدينتين قال: عذبوا يوم الظلة، قال: وأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.

قال: يقرأ صُواع الملك وصاع، وصواع أصوب. قال: وكان من ذهب.

{ هارون أخي * اشدد به أزري }، 197 قال: أشركه معي يا رب قال افعل بنا قال: هذا دعاء. قال: ومن قرأ اشدد به أزري قال: قال موسى: أنا أشركه في أمري. قال: كلا الوجهين حسن.

{ يعلم السر وأخفى }، 198 قال: السر ما كان في القلب يسره وأخفى الذي لم يكن بعد يعلمه هو.

{ يعلم خائنة الأعين }، 199 قال: هو الرجل يكون في القوم فتمر به المرأة فيلحظها بصره. وقد سئل النبي عن نظرة الفجأة فقال: «اصرف بصرك عنها».

{ ضرب الله مثلًا عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء }، 200 قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ حيث ما وُجِدَ لا يأت بخير، قال: أحسن هذا الحرف، وقرأه هو.

{ أكثر نفيرًا }، قال: رجالًا.

{ ولم يجعل له عوجا * قيما }، 201 قال: إنما هي قيمًا ولم يجعل له عوجًا.

وقال: ليس أحد من الأنبياء تمنى الموت غير يوسف قال: { توفني مسلما }، 202 الآية.

{ أزكى طعاما } 203: أحل.

{ لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها } 204 قال: عيسى والعزيز. قلت هذا تفسير يحتاج إلى تفسير، فإن كان أحمد قال هذا فلعله أراد الشياطين الذي عبدهم اليهود والنصارى وزعموا أنهما عيسى كذا والعزيز.

وقال: { يا أخت هارون } 205 قلت: هو هارون أخو موسى؟ قال: نعم، كان المشركون قد اختصموا على عهد رسول الله فقال بين موسى وعيسى كذا وكذا فقال النبي : «قد كان هذا يدعى بين الأنبياء». 206

قال أبو عبد الله: استعمل عمر رضي الله عنه رجلا فأبى أن يدخل له في عمل، فقال يعني عمر: يوسف قد سأل العمل فاستعمل على خزائن الأرض.

وقال: في المائدة ثمانية عشر فريضة حلال وحرام يعمل بها وليس فيها شيء لا يعمل به إلا آية: { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام }، 207 قال: هذه منسوخة.

وقال: آخر شيء نرل من القرآن المائدة، وأول شيء نزل من القرآن اقرأ.

{ أحلت لكم بهيمة الأنعام }، 208 قال: كان ابن عباس يأخذ بذنب الجنين ويقول: هذا من بهيمة الأنعام.

وقد روي عن النبي أنه قال: «ذكاة الجنين ذكاة أمه». قال: أما أبو حنيفة فقال: لا يؤكل، تذبح نفس وتوكل نفس!

{ فأنزل الله سكينته } 209 عليه قال: على أبي بكر وكان النبي قد أنزلت عليه السكينة. قلت: وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه يذهب إلى خلاف هذا ويقول: الضمير عائد إلى النبي أصلًا وإلى صاحبه تبعًا له، فهو الذي أنزلت عليه السكينة وهو الذي أيده الله بالجنود وسرى ذلك إلى صاحبه، انتهى. 210

وقال: أربع سور أنزلت بالمدينة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، يا أيها الذين آمنوا، قال: بالمدينة؛ يا أيها الناس، قال: بمكة.

قلت: لم يرد أحمد التخصيص ولا خلاف بين الأمة في أن الأنفال وبراءة والنور والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقين نزلن بالمدينة في سور أخرى، وقوله: { يا أيها الذين آمنوا } بالمدينة صحيح ويا أيها الناس بمكة فمنه ما هو بالمدينة ومنه ما هو ما هو بمكة. فالبقرة مدنية وفيها { يا أيها الناس }.

{ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس }. 211 قال: كان ابن عباس يقول: لو ترك الناس الحج سنة واحدة ماتوا طُرًّا.

{ ما ذبح على النصب }، 212 قال: على الأصنام، قال: وكل شيء يذبح على الأصنام لا يؤكل.

{ تستقسموا بالأزلام }، 213 قال: كعاب فارس، يقال لها النرد وأشباه ذلك.

{ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } قال: لو أن رجلًا بـ"عدن أبين" همَّ بقتل رجل وهو في الحرم هذا قول الله نذقه من عذاب أليم. هكذا قال ابن مسعود.

قال: وقد خرج جابر من المدينة إلى مكة مجاورًا.

أربعة أشهر وعشرًا، وقال: والعشر ليال أو أيام، ثم قال: لو كانت ليالي، كان يكون نقصان يوم لكنها أيام وليالي عشرة.

قال: وأهل مصر يقولون الشام باديتهم، قال يوسف: { وجاء بكم من البدو }. 214 { لا تثريب عليكم } 215: لا تعيير. { اذهبوا بقميصي }، 216 قال: شم ريحه من مسيرة سبعة أيام. { صبر جميل } 217: لا جزع فيه.

قلت: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه مرارًا يقول: ذَكَرَ الله الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل. فالصبر الجميل الذي لا شكوى معه، والهجر الجميل الذي لا أذى معه، والصفح الجميل الذي لا عتاب معه. انتهى.

وشهد شاهد من أهلها، قال: قد قال قوم: حكيم من أهلها، وقال قوم: القميص الشاهد، وقال قوم: الصبر.

خلقنا الإنسان في كبد، قال: منتصبًا. قلت وكأن القول الآخر أظهر، وهو في مشقة وعناء يكابد أمر الدنيا والآخرة. قال الحسن: ما أجد من خلق الله تعالى يكابد ما يكابده ابن آدم.

ماؤكم غورًا، قال: لا تناله الرشاء. بماء معي، ن قال: على وجه الأرض.

قلت: يحتمل تفسير أحمد أمرين أحدهما: أن يكون معينًا فعيلًا من أمعن في الأرض إذا ذهب فيها ويحتمل أن يكون مفعولًا من العين أي مرئيًا بالعين وأصله معيون، ثم أعل إعلال مبيع وبابه.

و قال: قرأ زيد بن ثابت: { وانظر إلى العظام كيف نُنشِرُها }، وهو أشبه: إذا شاء أنشره.

ويعزروه ويوقروه ويسبحوه، قال يعزروه النبي ، ويسبحوه الله تعالى.

على تخوف: على نقصان.

فيه يعصرون قال: يحلبون.

والبحر المسجور: جهنم. قلت: لم يرد أحمد أن المراد بالآية جهنم، وإنما أراد أنه يكون جهنم أو موضعها، والله أعلم.

البحار فجرت: فاضت.

{ فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون }، 218 قال: كانوا يؤخرونها حتى يخرج الوقت.

{ أو دمًا مسفوحًا }: وهو العبيط ولا يكاد أن يكون في اللحم الصفو فيغسل.

{ في ظلمات ثلاث }: البحر وحوت في حوت، فنادى في الظلمات. قلت: هذا تفسير فنادى في الظلمات؛ وذكر في ظلمات ثلاث وهم. فإن تلك الظلمات هي التي يخلق فيها الجنين لا مدخل لظلمة البحر ولا لظلمة الحوت فيها، بل ظلمة الرحم وظلمة المشيمة وظلمة البطن، والله أعلم.

{ فمن ابتغى وراء ذلك }، قال: الزنا.

{ لكم فيها منافع }، قال: اشترى ابن المنكدر بجميع ما كان معه بدنة وتأول هذه الآية.

{ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } - إلى – { عذاب يوم عقيم }، قال: هذه نزلت بمكة والباقي بالمدينة.

{ ثم أنشأناه خلقًا آخر }، قال: نفخ فيه الروح.

{ قال أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك }، قال: هو أن ينظر قبل أن يرجع طرفه إليه. قال: وإنما كان قد علم الاسم الذي يستجاب فدعا به.

{ سائق وشهيد }، قال: يسوق إلى أمر الله والشهيد يشهد عليه بما عمل.

{ الماعون }: الفاس والقدر وأشباه ذلك.

{ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح }، قال: قدمه على نوح، قال: هذه حجة على القدرية. قلت: ولعل أحمد أراد القدرية المنكرة للعلم بالأشياء قبل كونها، وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف وإلا فلا تعرض فيها لمسألة خلق الأعمال.

{ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء } إلى قوله { ومتعوهن }، قال: هذه لها نصف الصداق وإن متعت فحسن، وإن لم تمتع فحسن، قال ابن عباس: تمتع بخادم، ابن عمر: تمتع بدرع وإزار ونحو هذا، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره.

{ يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن }، 219 الآية، قال: هذه ليس عليها عدة، وقال سعيد بن جبير: لكل مطلقة متاع. ابن المسيب: ليس لها متاع. قال أبو عبد الله: من متع فحسن، ومن لم يمتع فحسن.

{ الذي بيده عقدة النكاح }: هو الزوج. وقد قال قوم: هو الولي، فإذا عفا الرجل أعطاها المهر كاملًا. أن يعفون، قال: تكون المرأة تترك للزوج ما عليه فتكون قد عفت. قلت: ونص أحمد في رواية أخرى أنه الأب وهو مذهب مالك، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ذكرت على رجحانه بضعة عشر دليلًا في موضع آخر.

{ الوحوش حشرت }، قال: جمعت، وقال قوم: ماتت.

قال: من قرأ إن هذان لساحران، قال موسى وهارون من قرأ سِحران قال هذان كتابان واحد بعد واحد. قلت: هكذا رأيته وهو وهم، وإنما هذا تفسير الآية التي في القصص: أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا ساحران تظاهرا، أراد موسى ومحمدًا ، وقالوا: إنا بكل كافرون، وقرأ الكوفيون سِحران تظاهرا أرادوا التوراة والقرآن. وأما آية طه فليس فيها إلا قراءة واحدة ومعنى واحد لساحران يريدون موسى وهارون، فاشتبهت الآيتان على الناقل أو السامع.

{ نزاعة للشوى } تأكل لحم الساقين، قلت: في الآية تفسيران مشهوران. أحدهما: أن الشوي الأطراف التي ليست مقاتل، كاليدين والرجلين تنزعها عن أماكنها. ومنه قولهم: رمي الصيد فأشواه إذا أصاب أطرافه دون مقاتلة، فإن أصاب مقتله فمات موضعه قيل: رماه فاصماه فإن حمل السهم وفر به ثم مات في موضع آخر قيل رماه فأنحاه قال الشاعر:

فهو لا تَنمي رميّتُه ** مالَه لا عُدّ من نفره

والتفسير الثاني: أن الشوى جمع شواه وهي جلدة الرأس وفروته، وتفسير أحمد لا يناقض هذا فلعله إنما ذكر لحم الساقين تمثيلا والله أعلم.

{ ما زاغ البصر }: لم ينصرف يمينًا ولا شمالًا. وما طغى: لم ينظر إلى فوق.

وقال: من قرأ سال سائل قال: سال واد، ومن قرأ سأل قال دعا. قلت: هذا أحد القولين والثاني أن ذا الألف من السؤال أيضا، لكنه قلبت الهمزة فيه ألفًا.

{ ناشئة الليل } قال: قيام الليل من المغرب إلى طلوع الفجر، والناشئة لا تكون إلا من بعد رقدة، ومن لم يرقد لا يقال لها ناشئة. هي أشد وطئًا، قال: هي أشد تبيينًا، تفهم ما يقرأ وتعي أذنك.

{ وخر راكعًا }، قال: كان ابن مسعود لا يسجد فيها، يقول: هي توبة نبي.

{ إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث }: قال قوينا، قال: هي أنطاكية، وجاء الثالث وقد اجتمع الناس على الاثنين فقال: { يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرًا }.

قال: أبو عبد الله: قال ابن إدريس: وددت أني قرأت قراءة أهل المدينة.

قال: وقال ابن عيينة: قال لي ابن جريج اقرأ علي حتى أفسر لك. قال: وكان ابن جريج قد كتب التفسير عن ابن عباس وعن مجاهد.

وقال: رحم الله سفيان ما كان أفقهه في القرآن وكان له علم.

وقال في النجم في آخرها يسجد، ثم يقوم فيقرأ، هذا في الإمام.

وقال: النفاق لم يكن في المهاجرين.

وقال: في القرآن اثنان وثمانون موضعًا الصبر محمود وموضعان مذموم، قال المذموم: { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا }، { أن امشوا واصبروا على آلهتكم }، أو قال: { فما أصبرهم على النار }. المروذي شك.

{ وإبراهيم الذي وفى } قال: بُلي بالذبح ذبح ابنه فوفى وبلي بحرق النار فوفى، وذكر الثالثة فوفى فلم أحفظه.

قلت لأبي عبد الله أيش تفسير { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } قال: لا ترضوا أعمالهم.

قال: { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا }: في الصلاة والخطبة.

{ يوم ندعو كل أناس بإمامهم }، قال: هو في التفسير بكتابها.

قلت لأبي عبد الله: في القرآن المحراب، { كلما دخل عليها زكريا المحراب }، هو محراب مثل محاريبنا هذه؟ قال: لا أدري أي محراب هو. وفى بعض التفسير ذكر محراب داود.

وسئل عن قوله تعالى: { قلوبنا غلف } قال: أوعية. قلت: هذا أحد القولين والقول الثاني وهو أرجح غلف أي في غشاوة لا نفقه عنك ما تقول؛ نظيره قوله: { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه }. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يضعف قول من قال أوعية جدًا وقال: إنما هي جمع أغلف، ويقال للقلب الذي في الغشا أغلف وجمعه غلف، كما يقال للرجل غير المختون أقلف وجمعه قلف.

وسئل عن صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة قال: كملت للهدي ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فأما أهل مكة فليس عليهم هدي ولا لمن كان بأطراف ما تقصر فيه الصلاة. آخر ما وجد من خط القاضي رحمه الله.

فوائد شتى من كلام ابن عقيل وفتاويه

سئل عمن قال إن برىء مريضي أو قدم غائبي صمت هل يكفي كونه نذرًا أو يفتقر إلى أن يقول لله عليَّ؟

فأجاب: يكفي نذرًا، لأنه ذكره على وجه المجازاة، لأن الله هو يبرىء المرضى. فاستغنى بدلالة الحال.

وسئل عن رجل طعن بعض الناس فظنه لصًا في لصوص هربوا.

فأجاب عليهه القود: لأنه لو كان لصًا فهرب لم يجز طعنه ووجب القود فكيف إذا لم يكن.

وسئل لو قال منجم إن الشمس تكسف تحت الأرض في وقت كذا، هل تصلى صلاة الكسوف؟

فأجاب: لا، لأن خبرهم لا يؤخذ به كما لو قالوا: الهلال تحت الغيم، فإن قيل: فإذا قالوا: قد زالت الشمس، قلنا: ذاك موقوف على تقدير، ولهذا نقدره بالصنائع انتهى كلامه ولا حاجة إلى هذا، فإن الشمس لو كسفت ظاهرًا ثم غابت كاسفة لم يصل للكسوف بعد غيبتها، فكيف، يصلى لها إذا لم يعاين كسوفها البتة.

وذكر له حاكم طعن عليه بأنه يحكم بالفراسة، وإنه ضرب بالجريد في إقرار بمال وأخذه منه، فقال ابن عقيل: ليس ذلك فراسة بل حكم بالإمارات، وإذا تأملتم الشرع وجدتموه يجوز التعويل على ذلك، وقد ذهب مالك إلى التوصل إلى الإقرار بما يراه الحاكم، وذلك يستند إلى قوله: { إن كان قميصه قد من قبل }، 220 ومتى حكمنا بعقد الأزح وكثرة الخشب ومعاقد القمط في الحصن، وما يصلح للمرأة والرجل يعني في الدعاوى والدباغ والعطار إذا تحاكما في جلد. والقيافة والنظر في الخنثى، والنظر في إمارات القبلة وهل اللوث في القسامة إلا نحو طذا انتهى.

قلت: الحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الإمارات ودلائل الحال كفقهه في كليات الأحكام ضيع الحقوق، فههنا فقهان لا بد للحاكم منهما فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في الوقائع وأحوال الناس، يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل، ثم يطبق بين هذا، وهذا بين الواقع والواجب فيعطي الواقع حكحمه من الواجب. ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالها وعدلها وسعتها ومصلحتها، وأن الخلق لا صلاح لهم بدونها البتة، علم أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من أحاط علمًا بمقاصدها ووضها مواضعها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر وهي من الشريعة علمها من علمها وخفيت على من خفيت عنه، ولا تنس في هذا الموضع قول سليمان نبي الله للمرأتين اللتين ادعتا الولد فحكم به داود للكبرى فقال سليمان: ايتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل هو ابنها فقضى به للصغرى. لما دل عليه امتناعها من رحمة الأم ودل رضى الكبرى بذلك على الاسترواح إلى التأسي بمساواتها في فقد الولد. وكذلك قول الشاهد من أهل امرأة العزيز: { إن كان قميصه قد من قبل وإن كان قميصه قد من دبر }، 221 فذكر الله تعالى ذلك مقررًا له غير منكر على قائله بل رتب عليه العلم ببراءة يوسف وكذب المرأة عليه. وقد أمر النبي الزبير أن يقرر ابني أبي الحقيق بالتعذيب على إخراج الكنز، فعذبهما حتى أقرا به. ومن ذلك قول علي للظعينة التي حملت كتاب حاطب وأنكرته، فقال لها: لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. وهل تقتضي محاسن الشريعة الكاملة إلا هذا، وهل يشك أحد في أن كثيرًا من القرائن تفيد علمًا أقوى من الظن المستفاد من الشاهدين بمراتب عديدة. فالعلم المستفاد من مشاهدة الرجل مكشوف الرأس وآخر هارب قدامه وبيده عمامة وعلى رأسه عمامة، فالعلم بأن هذه عمامة المكشوف رأسه كالضروري، فكيف تقدم عليه اليد التي إنما تفيد ظنًا ما عند عدم المعارضة، وأما مع هذه المعارضة فلا تفيد شيئًا سوى العلم بأنها يد عادية، فلا يجوز الحكم بها البتة ولم تأت الشريعة بالحكم لهذه اليد وأمثالها البتة. وقد أمر النبي الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها، وقد نص أحمد على اعتبار الوصف عند تنازع المالك والمستأجر في الدفين في الدار، وهذه من محاسن مذهبه. ونص على البلد يفتح فيوجد فيه أبواب مكتوب عليها بالكتابة القديمة أنها وقف أنه يحكم بذلك لقوة هذه القرينة وهل الحكم بالقافة إلا حكم بقرينة الشبه، وكذلك اللوث في القسامة، حتى أن مالكًا وأحمد في إحدى الروايتين يقيدان بها وهو الصواب الذي لا ريب فيه، وكذلك الحكم بالنكول، إنما هو مستند إلى قوة القرينة الدالة على أن الناكل غير محق وبالجملة. فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ومن خصها بالشاهدين، فلم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة في القرآن قط، مرادًا بها الشاهدان، إنما أتت مرادًا بها الحجة، والدليل والبرهان مفردة ومجموعة، وكذلك قول النبي : «البينة على المدعي» المراد به بيان ما يصحح دعواه، والشاهدان من البينة ولا ريب أن غيرهما من أنواع البينة قد تكون أقوى منهما، كدلالة الحال على صدق المدعي فانها أقوى من دلالة أخبار الشاهد والبينة والحجة والدلالة والبرهان والآية والتبصرة كالمترادفة لتقارب معانيها، والمقصود أن الشرع لم يلغ القرائن ولا دلالات الحال، بل من استقرأ مصادر الشرع وموارده وجده شاهدًا لها بالاعتبار مرتبًا عليها الأحكام. وقول ابن عقيل: ليس هذا فراسة يقال: ولا ضير في تسميته فراسة، فإنها فراسة صادقة وقد مدح الله سبحانه وتعالى الفراسة وأهلها في مواضع من كتابه قال تعالى: { إن في ذلك لآيات للمتوسمين }، 222 وهم المتفرسون الذين يأخذون بالسيما وهي العلامة. ويقال: توسمت فيك كذا أي تفرسته، كأنك أخذت من السيما وهي فعلًا من السمة وهي العلامة. وقال تعالى: { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم }، 223 وقال تعالى: { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم }، 224 وفي الترمذي مرفوعًا اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين والله أعلم.

ذكر مناظرة بين فقيهين في طهارة المني ونجاسته

قال مدعي الطهارة: المني مبدأ خلق بشر فكان طاهرا كالتراب.

قال الآخر: ما أبعد ما اعتبرت فالتراب وضع طهورا ومساعدا للطهور في الولوغ ويرفع حكم الحدث على رأي والحدث نفسه على رأي فأين ما يتطهر به إلى ما يتطهر منه، على أن الاستحالات تعمل عملها فأين الثواني من المبادىء؟ وهل الخمر إلا ابنة العنب، والمني إلا المتولد من الأغذية في المعدة ذات الإحالة لها إلى النجاسة ثم إلى الدم ثم إلى المني.

قال المطهّر: ما ذكرته في التراب صحيح وكون المني يتطهر منه لا يدل على نجاسته، فالجماع الخالي من الأنزال يتطهر منه ولو كان التطهر منه لنجاسته لاختصت الطهارة بأعضاء الوضوء كالبول والدم، وأما كون التراب طهورا دون المني فلعدم تصور التطهير بالمني وكذلك مساعدته في الولوغ فما أبعد ما اعتبرت من الفرق. وأما دعواك أن الاستحالة تعمل عملها فنعم وهي تقلب الطيب إلى الخبيث كالأغذية إلى البول والعذرة والدم، والخبيث إلى الطيب كدم الطمث ينقلب لبنا وكذلك خروج اللبن من بين الفرث والدم؛ فالاستحالة من أكبر حجتنا عليك لأن المني دم قصرته الشهوة وأحالته الحرارة من طبيعة الدم ولونه إلى طبيعة المني، وهل هذا إلا دليل على مفارقته للأعيان النجسة وانقلابه عنها إلى عين أخرى، فلو اعطيت الاستحالة حقها لحكمت بطهارته

قال مدعي النجاسة: المذي مبدأ المني وقد دل الشرع على نجاسته حيث أمر بغسل الذكر وما أصابه منه، وإذا كان مبدؤه نجسا فكيف بنهايته. ومعلوم أن المبدأ موجود في الحقيقة بالفعل.

قال المطهر: هذه دعوى لا دليل عليها ومن أين لك أن المذي مبدأ المني وهما حقيقتان مختلفتان في الماهية والصفات والعوارض والرائحة والطبيعة، فدعواك أن المذي مبدأ المني وأنه مني لم تستحكم طبخه دعوى مجردة عن دليل نقلي وعقلي وحسي فلا تكون مقبولة. ثم لو سلمت لك لم يفدك شيئا البتة فإن للمبادىء أحكاما تخالفها أحكام الثواني فهذا الدم مبدأ اللبن وحكمهما مختلف، بل هذا المني نفسه مبدأ الآدمي طاهر العين ومبدأ ه عندك نجس العين فهذا من أظهر ما يفسد دليلك ويوضح تناقضك، وهذا مما لا حيلة في دفعه فإن المني لو كان نجس العين لم يكن الآدمي طاهرا لأن النجاسة عندك لا تطهر بالاستحالة فلا بد من نقض أحد أصليك، فإما أن تقول بطهارة المني أو تقول النجاسة تطهر بالاستحالة وإما أن تقول المني نجس والنجاسة لا تطهر بالاستحالة ثم تقول بعد ذلك بطهارة الآدمي، فتناقض ما لنا إلا النكير له.

قال المنجس: لا ريب أن المني فضلة مستحيلة عن الغذاء يخرج من مخرج البول فكانت نجسة كهو أي كالبول ولا يرد على البصاق والمخاط والدمع والعرق لأنها لا تخرج من مخرج البول.

قال المطهر: حكمك بالنجاسة إما أن يكون للاستحالة عن الغذاء أو للخروج من مخرج البول أو لمجموع الأمرين فالأول باطل إذ مجرد استحالة الفضلة عن الغذاء لا يوجب الحكم بنجاستها كالدمع والمخاط والبصاق وإن كان لخروجه من مخرج البول فهذا إنما يفيدك أنه متنجس لنجاسة مجراه لا أنه نجس العين كما هو أحد الأقوال فيه وهو فاسد فإن المجرى والمقر الباطن لا يحكم عليه بالنجاسة وإنما يحكم بالنجاسة بعد الخروج والانفصال ويحكم بنجاسة المنفصل لخبثه وعينه لا لمجراه ومقره، وقد علم بهذا بطلان الاستناد إلى مجموع الأمرين. والذي يوضح هذا أنا رأينا الفضلات المستحيلة عن الغذاء تنقسم إلى طاهر كالبصاق والعرق والمخاط ونجس كالبول والغائط، فدل على أن جهة الاستحالة غير مقتضية للنجاسة ورأينا أن النجاسة دارت مع الخبث وجودا وعدما فالبول والغائط ذاتان خبيثتان منتنتان مؤذيتان متميزتان عن سائر فضلات الآدمي بزيادة الخبث والنتن والاستقذار، تنفر منهما النفوس وتنأى عنهما وتباعدهما عنها أقصى ما يمكن، ولا كذلك هذه الفضلة الشريفة التي هي مبدأ خيار عباد الله وساداتهم وهي من أشرف جواهر الإنسان وأفضل الأجزاء المنفصلة عنه ومعها من روح الحياة ما تميزت به عن سائر الفضلات، فقياسها على العذرة أفسد قياس في العالم وأبعده عن الصواب.

والله تعالى أحكم من أن يجعل محال وحيه ورسالاته وقربه مبادئهم نجسة، فهو أكرم من ذلك وأيضا فإن الله تعالى أخبر عنه هذا الماء وكرر الخبر عنه في القرآن ووصفه مرة بعد مرة وأخبر أنه دافق يخرج من بين الصلب والترائب وأنه استودعه في قرار مكين ولم يكن الله تعالى ليكرر ذكر شيء كالعذرة والبول ويعيده ويبديه ويخبر بحفظه في قرار مكين ويصفه بأحسن صفاته من الدفق وغيره ولم يصفه بالمهانة إلا لإظهار قدرته البالغة أنه خلق من هذا الماء الضعيف هذا البشر القوي السوي فالمهين ههنا الضعيف ليس هو النجس الخبيث.

وأيضا فلو كان المني نجسا وكل نجس خبيث لما جعله الله تعالى مبدأ خلق الطيبين من عبادة والطيبات، ولهذا لا يتكون من البول والغائط طيب. فلقد أبعد النجعة من جعل أصول بني آدم كالبول والغائط في الخبث والنجاسة والنا سإذا سبوا الرجل قالوا أصله خبيث وهو خبيث الأصل فلو كانت أصول الناس نجسة وكل نجس خبيث لكان هذا السب بمنزلة أن يقال أصله نطفة أو أصله ماء ونحو ذلك وإن كانوا إنما يريدون بخبث الأصل كون النطفة وضعت في غير حالها فذاك خبث على خبث ولم يجعل الله في أصول خواص عباده شيئا من الخبث بوجه ما.

قال المنجسون: قد أكثرتم علينا من التشنيع بنجاسة أصل الآدمي وأطلتم القول وأغرضتم وتلك الشناعة مشتركة الإلزام بيننا وبينكم فإنه كما أن الله يجعل خواص عباده ظروفا وأوعية للنجاسة كالبول والغائظ والدم والمذي ولا يكون ذلك عائدا عليهم بالعيب والذم فكذلك خلقه لهم من المني النجس وما الفرق!

قال المطهرون: لقد تعلقتم بما لا متعلق لكم به واستروحتم إلى خيال باطل فليسوا ظروفا للنجاسة البتة وإنما تصير الفضلة بولا وغائطا إذا فارقت محلها فحينئذ يحكم عليها بالنجاسة وإلا فما دامت في محلها فهي طعام وشراب طيب غير خبيث وإنما يصير خبيثا بعد قذفه وإخراجه وكذلك الدم إنما هو نجس إذا سفح وخرج فأما إذا كان في بدن الحيوان وعروقه فليس بنجس، فالمؤمن لا ينجس ولا يكون ظرفا للخبائث والنجاسات.

قالوا: والذي يقطع دابر القول بالنجاسة أن النبي علم أن الأمة شديدة البلوى في أبدانهم وثيابهم وفرشهم ولحفهم ولم يأمرهم فيه يوما ما بغسل ما أصابه لا من بدن ولا من ثوب البتة، ويستحيل أن يكون كالبول ولم يتقدم إليهم بحرف واحد في الأمر بغسله، وتأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ممتنع عليه.

قالوا: ونساء النبي أعلم الأمة بحكم هذه المسألة، وقد ثبت عن عائشة أنها أنكرت على رجل أعارته ملحفة صفراء فنام فيها، فاحتلم فغسلها، فأنكرت عليه غسلها وقالت إنما كان يكفيه أن يفركه بإصبعه، ربما فركته من ثوب رسول الله بإصبعي. ذكره ابن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام قال نزل بعائشة ضيف فذكره. وقال أيضا حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت لقد رأيتني أجده في ثوب رسول الله عنه تعنى المني.

وهذا قول عائشة وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم.

قال ابن أبي شيبة ثنا هشيم عن حصين عن مصعب بن سعد عن سعد أنه كان يفرك الجناية من ثوبه.

حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن مصعب بن سعد عن سعد أنه كان يفرك الجنايه من ثوبه.

حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في المني قال: امسحه بإذخرة.

حدثنا هشيم أنبأنا حجاج وابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس في الجنابة تصيب الثوب قال: إنما هو كالنخامة أو النخاعة أمطه عنك بخرقة أو بإذخرة.

قالوا وقد روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه ويحته من ثوبه يابسا ثم يصلى فيه.

وهذا صريح في طهارته، لا يحتمل تأويلا البتة.

قالوا: وقد روى الدارقطني من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق ثنا شريك عن محمد ابن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل النبي المني يصيب الثوب فقال إنما هو بمنزلة البصاق والمخاط وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة.

قالوا: هذا إسناد صحيح فإن إسحاق الأزرق حديثه مخرج في الصحيحين، وكذلك شريك، وإن كان قد علل بتفرد إسحاق الأزرق به فإسحاق ثقة يحتج به في الصحيحين وعندكم تفرد الثقة بالزيادة مقبول.

قال المنجس: صح عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغسله من ثوب رسول الله وثبت أبن عباس رضي الله عنهما أنه أمر بغسله.

قال أبو بكر ابن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: إذا أجنب الرجل في ثوبه ورأى فيه أثرا فليغسله وإن لم ير فيه أثرا فلينضحه.

حدثنا عبد الاعلى عن معمر عن الزهري عن طلحة بن عبد الله بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول في الجنابة في الثوب: إن رأيت أثره فاغسله، وإن علمت أن قد أصابه وخفي عليك فاغسل الثوب، وإن شككت فلم تدر أصاب الثوب أم لا فانضحه.

حدثنا عبدة بن سليمان عن سعيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: إن خفي مكانه وعَلِم أنه قد أصابه غسل الثوب كله.

حدثنا وكيع عن هشام عن أبيه عن زيد بن الصلت أن عمر بن الخطاب غسل ما رأى ونضح ما لم ير، وأعاد بعدما أضحى متمكنا.

حدثنا وكيع عن السري بن يحيى عن عبد الكريم بن رشيد عن أنس في رجل أجنب في ثوبه فلم ير أثره قال: يغسله كله.

ثنا حفص عن أشعت عن الحكم أن ابن مسعود كان يغسل أثر الاحتلام من ثوبه.

حدثنا حسين بن علي عن جعفر بن برقان عن خالد بن أبي عزة قال: سأل رجل عمر بن الخطاب فقال: إني احتلمت على طنفسة، فقال: إن كان رطبا فاغسله وإن كان يابسا فاحككه وإن خفي عليك فارششه.

قالوا: وقد ثبت تسمية المني أذى كما سُمي دم الحيض أذى، والأذى هو النجس. فقال الطحاوي حدثنا ربيع الجيزي حدثنا إسحاق بن بكر بن مضر قال حدثني أبي عن جعفر بن ربيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس عن معاوية بن حُدَيج عن معاوية بن أبي سفيان أنه سأل أخته أم حبيبة زوج النبي : هل كان النبي في الثوب الذي يضاجعك فيه، قالت: نعم، إذا لم يصبه أذى. وفي هذا دليل من وجه آخر وهو ترك الصلاة فيه.

وقد روى محمد بن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان رسول الله لا يصلي في لحف نسائه.

قالوا: وأما ما ذكرتم من الآثار على مسحه بإذخرة وفركه فإنما هي في ثياب النوم لا في ثياب الصلاة.

قالوا: وقد رأينا الثياب النجسة بالغائط والبول والدم لا بأس بالنوم فيها ولا تجوز الصلاة فيها. فقد يجوز أن يكون المني كذلك.

قالوا: وإنما تكون تلك الآثار حجة علينا لو كنا نقول لا يصح النوم في الثوب النجس فإذا كنا نبيح ذلك ونوافق ما رويتم ما رويتهم عن النبي ذلك ونقول من بعد لا تصلح الصلاة في ذلك فلم يخالف شيئا مما روى في ذلك عن النبي .

قالوا: وإذا كانت الآثار قد اختلفت في هذا الباب ولم يكن فيها دليل على حكم المني كيف هو اعتبرنا ذلك من طريق النظر فوجدنا خروج المني حدثا أغلظ الأحداث لأنه يوجب أكبر الطهارات فأردنا أن ننظر في الأشياء التي خروجها حدث كيف حكمها في نفسها فرأينا الغائط والبول خروجهما حدث وهما نجسان في أنفسهما وكذلك دم الحيض والاستحاضة هما حدث وهما نجسان في أنفسهما ودم العروق كذلك في النظر فلما ثبت بما ذكرنا أن كل ما خروجه حدث فهو نجس في نفسه وقد ثبت أن خروج المني حدث ثبت أيضا أنه في نفسه نجس فهذا هو النظر فيه.

قال المطهر: ليس في شيء مما ذكرت دليل على نجاسته. أما كون عائشة كانت تغسله من ثوب رسول الله ، فلا ريب أن الثوب يغسل من القذر والوسخ والنجاسة فلا يدل مجرد غسل الثوب منه على نجاسته فقد كانت تغسله تارة وتمسحه أخرى وتفركه أحيانا، ففركه ومسحه دليل على طهارته وغسله لا يدل على النجاسة. فلو أعطيتم الأدلة حقها لعلمتم توافقها وتصادقها لا تناقضها واختلافها.

وأما أمر ابن عباس بغسله فقد ثبت عنه أنه قال إنما هو بمنزله المخاط والبصاق فأمطه عنك ولو بإذخرة، وأمره بغسله للاستقذار والنظافة. ولو قدر أنه للنجاسة عنده وأن الرواية اختلفت عنه فتكون مسألة خلاف عنه بين الصحابة والحجة تفصل بين المتنازعين، على أنا لا نعلم عن صحابي ولا أحد أنه قال إنه نجس البتة بل غاية ما يروونه عن الصحابة غسله فعلا وأمرا وهذا لا يستلزم النجاسة، ولو أخذتم بمجموع الآثار عنهم لدلت على جواز الأمرين: غسله للاستقذار والاجتزاء بمسحه رطبا وفركه يابسا، كالمخاط.

وأما قولكم ثبت تسمية المني أذى فلم يثبت ذلك، وقول أم حبيبة ما لم ير فيه أذى لا يدل على أن مرادها بالأذى المني لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام فإنها إنما أخبرت بأنه يصلي في الثوب الذي يضاجعها فيه مالم يصبه أذى ولم تزد. فلو قال قائل المراد بالأذى دم الطمث لكان أسعد تفسيره منكم، وكذلك تركه الصلاة في لحف نسائه لا يدل على نجاسة المني البتة فإن لحاف المرأة قد يصيبه من دم حيضها وهي لا تشعر وقد يكون الترك تنزها عنه وطلب الصلاة على ما هو أطيب منه وأنظف فأين دليل التنجيس.

وأما حملكم الآثار الدالة على الاجتزاء بمسحه وفركه على ثياب النوم دون ثياب الطهارة فنصرة المذاهب توجب مثل هذا، فلو أعطيتم الأحاديث حقها وتأملتم سياقها وأسبابها لجزمتم بأنها إنما سيقت لا حتجاج الصحابة بها على الطهارة وإنكارهم على من نجس المني.

قالت عائشة: كنت أفركه من ثوب رسول الله فيصلي فيه. وفي حديث عبد الله بن عباس مرفوعا وموقوفا: إنما هو كالمخاط والبصاق فأمطه عنك ولو بإذخرة.

وبالجملة فمن المحال أن يكون نجسا والنبي يعلم شدة ابتلاء الأمة به في ثيابهم وأبدانهم ولا يأمرهم يوما من الأيام بغسله وهم يعلمون الاجتزاء بمسحه وفركه.

وأما قولكم إن الآثار قد اختلفت في هذا الباب ولم يكن في المروي عن النبي بيان حكم المني فاعتبرتم ذلك من طريق النظر فيقال: الآثار بحمد الله في هذا الباب متفقة لا مختلفة وشروط الاختلاف منتفية بأسرها عنها وقد تقدم أن الغسل تارة والمسح والفرك تارة جائز ولا يدل ذلك على تناقض ولا اختلاف البتة.

ولم يكن رسول الله ليكل أمته في بيان حكم هذا الأمر المهم إلى مجرد نظرها وآرائها وهو يعلمهم كل شيء حتى التخلي وآدابه، ولقد بينت السنة هذه المسألة بيانا شافيا ولله الحمد.

وأما ما ذكرتم من النظر على تنجيسه فنظر أعشى، لأنكم أخذتم حكم نجاسته من وجوب الاغتسال منه ولا ارتباط بينهما لا عقلا ولا شرعا ولا حسا، وإنما الشارع حكم بوجوب الغسل على البدن كله عند خروجه كما حكم به عند إيلاج الحشفة في الفرج ولا نجاسة هناك ولا خارج، وهذه الريح توجب غسل أعضاء الوضوء وليست نجسة، ولهذا لا يستنجى منها ولا يغسل الإزار والثوب منها. فما كل ما أوجب الطهارة يكون نجسا ولا كل نجس يوجب الطهارة أيضا. فقد ثبت عن الصحابة أنهم صلوا بعد خروج دمائهم في وقائع متعددة وهم أعلم بدين الله من أن يصلوا وهم محدثون، فظهر أن النظر لا يوجب نجاسته والآثار تدل على طهارته. وقد خلق الله الأعيان على أصل الطهارة فلا ينجس منها إلا ما نجسه الشرع وما لم يرد تنجيسه من الشرع فهو على أصل الطهارة والله أعلم.

فائدة: تعليق الطلاق على أمر

إذا علق الطلاق بأمر يعلم العقل استحالته عادة وأخبر من لا يعلم إلا من جهته بوقوعه، وليس خبره مما قام الدليل على صدقه فقد قال كثير من الفقهاء بوقوع الطلاق عند خبره.

وقال محمد بن الحسن بعدم الوقوع وهو الصواب وهو اختيار ابن عقيل وغيره من أصحاب أحمد بن حنبل.

وصورة المسألة إذا قال: إن كنت تحبين أن يعذبك الله في النار فأنت طالق. فقالت: أنا أحب ذلك.

قال الموقعون: المحبة أمر لا يتوقف عليه ولا يعلم إلا من جهتها، فإذا أخبرت به رجع إلى قولها.

اعترض على ذلك ابن عقيل فقال الباطن: إذا كان عليه دلالة أمكن الاطلاع عليه ولا دلالة أكبر من العلم بأن طباع الحيوان لا تصبر على نفحات النار ولا تحبها، وإذا علم هذا طبعًا صار دعوى خلافًا خرقًا للعادة، فهو كقوله: أنت طالق إن صعدت السماء فغابت، ثم ادعت الصعود فإن لا يقع لاستحالته طبعًا وعادة.

قالوا: النعام يميل إلى النار فلا يمتنع أن تكون هذه صادقة لإخبارها عن نفسها أو دخل عليها داخل من برد استولى على جسدها، فتمنت معه دخول النار.

قال ابن عقيل: لا يستحيل الميل إلى النار من الحيوان الذي ذكرت لكن ذلك خرق للعادة في حق غيرها، فلئن جاز أن يصدقها في ذلك لكونه لا يستحيل وجب أن يصدقها في صعود السماء، فقد صعدت إليها الملائكة والجن والأنبياء بل يبنى الأمر على العادة دون خرقها. وفي مسألتنا لم تقل أحب، النار بل. قالت: أحب أن يعذبني الله بالنار والنعام لا يتعذب، فقد صرحت بحب أعظم الألم ولم يجتمع في حيوان حب وميل إلى ما يعذب به، بل طبعه النفور من حل مؤلم، فأما تعلقهم بأن ما في قلبها لا يطلع عليه إلا من إخبارها، فهذا شيء يرجع إلى ما يجوز أن يكون في قلبها من طريق العادة.

فأما المستحيل عادة فإنه كالمستحيل في نفسه ولو أنه قال لها: إن كنت تعتقدين أن الجمل يدخل في خرم الإبرة فأنت طالق فقالت: أعتقد لم يقع الطلاق إذ لا عاقل يجوز ذلك فضلًا عن أن يعتقده انتهى كلامه. وهو كما ترى قوة وصحة.

حادثة: هل يجوز نقل وقف مسجد خرب إلى عمارة الجامع الذي لا غنى للقارية عنه

مسجد عليه وقف خرب، وليس في وقفه ما يفي بعمارته، هل يجوز نقل ذلك إلى عمارة الجامع الذي لا غنى للقرية عنه.

قال جماعة: يجوز، وخالفهم ابن عقيل فقال: يجب صرف دخل وقف المسجد إلى عمارته بحسبها، وقد كان سقف مسجد النبي سعفًا انتهى.

والتحقيق في المسألة أن المسجد إن تعطل بحيث انتقل أهله عنه وبقي في مكان لا يصلى فيه، فالصواب ما قاله الجماعة، وإن كان جيرانه بحالهم وهو بصدد أن يصلي فيه، فالصواب ما قاله ابن عقيل والله أعلم.

وسئل عن رجل تزوج ضريرة ومعها جارية تخدمها، فأنفق عليها مدة، ثم قصر في النفقة وعلل ذلك بأنه في مقابلة ما كان أنفق على الجارية. فقال: هذا جهل منه، فإن من تزوج ضريرة فقد دخل على بصيرة أنه لا بد لها من خادم، فتكون المؤنة عليه كمن تزوج امرأة ذات جلالة يلزمه إخدامها.

وسئل عن رجل أدرك الناس ركوعًا في صلاة الجمعة، وسمع من المبلغين قول سمع الله لمن حمده، فهل يقدر ما يكون به تابعًا للإمام أو يعتبر بمن يليه، فقال: بل يقدر ما يكون به تابعًا للإمام في حال ركوعه، لأنه قد يكون ركع والإمام قد رفع، ولكن لبعد ما بين المبلغين وبين الإمام قد يكون الأواخر ركعًا، وذلك أن الشرع علق الإدراك بركوع الإمام فالوسائط لا عبرة بهم.

حادثة: من قال لامرأته أنت طالق لا كلمتك وأعاده

رجل قال لامرأته: أنت طالق لا كلمتك وأعاده. فقال بعض أصحاب أحمد إن قصد إفهامها بالثاني لم يقع، وإن قصد الابتداء وقع المعلق بالثاني. قال ابن عقيل: هذا خطأ، لأن الثاني هو كلام لها على كل حال، سواء قصد الإفهام أو الابتداء، وإنما اشتبهت بمسألة إذا قال إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، وأعاده. فإن التفصيل كما ذكرت، فأما الكلام فهو على الإطلاق يتناول كل كلام مخصوص بخلاف الحلف فإنه لا يكون حلفًا إلا بقصد، وإذا كان قصده بالثاني إفهامها لما حلف به أولا لم يكن حلفًا، قلت: والصواب القول الأول وهذا الفرق خيالي، فإنه إذا قصد إفهامها فلم يرد إلا اليمين الأولى ولم يرد به الكلام المحلوف عليه، فتحنيثه به تحنيث بما لم يرده البتة. وبساط الكلام وتبينه إنما يدل على أنه أراد لا كلمتك بعد اليمين مفردة كانت أو مكررة، فما كلمها الكلام الذي حلف عليه، وإنما أفهمها يمينه فلا فرق بينهما وبين مسألة الحلف. وأما قوله إن الحلف لا يكرن حلفًا إلا بقصد، فيقال: إن كان القصد شرطًا في اعتبار المحلوف عليه لم يحنث في الموضعين. وإن لم يكن شرطًا فيه فينبغي أن يحنث في الموضعين، فأما أن يجعل القصد شرطًا في أحدهما دون الآخر فلا وجه له والله أعلم.

فائدة: استدلال بعض الشيعة على الوصية لأهل البيت بقوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى

استدل شيعي على الوصية لأهل البيت بقوله تعالى: { قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى }. 225

فأجيب بأن قيل: هذه وصية بهم لا وصية إليهم، فهي حجة على خلاف قول الشيعة، لأن الأمر لو كان إليهم لأوصاهم ولم يوص بهم؛ ونظير هذا الاحتجاج على أن الأمر في قريش لا في الأنصار بقول النبي : «أوصيكم بالأنصار»، فدل على أن الأمر في غيرهم.

قلت: وهذا كله خروج عن معنى الآية وما أريد بها. ولا دلالة فيها لواحدة من الطائفتين، فإن معنى الآية: { لا أسألكم عليه أجرًا } إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة فإنه لم يكن بطن من قريش إلا وللنبي فيهم قرابة. فقال: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرًا ولكن صلوا ما بيني وبينكم من القرابة، وليست هذه الصلة أجرًا، فالاستثناء منقطع فإن الصلة من موجبات الرحم فهي واجبة على كل أحد. وهذا هو تفسير ابن عباس الذي ذكره البخاري عنه في صحيحه.

فائدة: إنكار المصنف على الفقهاء بعض الأشياء لمناقضتها السنة

من العجب إنكار كون القرعة طريقًا لإثبات الأحكام مع ورود السنة بها، وإثبات حل الوطء بشهادة شاهدي زور يعلم الزوج الثاني أنهما شاهدا زور، ومع هذا فيثبت الحل له بشهادتهما، فمن يقول هذا في باب حل الإبضاع والفروج كيف يمنع القرعة.

ومن العجب قولهم إذا منع الذمي دينارا من الجزية انتقض عهده، ولو جاهر بسب الله ورسوله ودينه أو حرق بيوت الله لم ينتقض عهده.

ومن العجب إباحتهم القرآن بالعجمية ومنع رواية الحديث بالمعنى.

ومن العجب قولهم الإيمان نفس التصديق وهو لا يتفاضل والأعمال ليست منه، وتكفيرهم من يقول مسيجد وفقيه، ومن يلتذ بالسماع ويصلي بلا وضوء ونحو ذلك.

ومن العجب إسقاطهم الحد عمن استأجر امرأة لرضاع ولده فزنا بها أو استاجرها ليزني بها، وإيجابهم الحد على من وطىء امرأة في الظلمة يظنها امرأته فبانت أجنبية.

ومن العجب تشددهم في المياه أعظم التشديد حتى نجسوا القناطير المقنطرة من الماء بمثل رأس الإبرة من البول ويجوزون الصلاة في ثوب ربعه متضمخ بالنجاسة.

ومن العجب منعهم إلحاق النسب بالقيافة التي هي من أظهر الأدلة، وقد اعتبرها النبي وعمل بها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإلحاقهم النسب برجل تزوج امرأة بأقصى المشرق وهو بأقصى المغرب وبينهما ما لا يقطعه البشر وقال تزوجت فلانة وهي طالق ثلاثًا عقب القبول، ثم جاءت بولد فقالت: هو منه.

ومن العجب إلحاقهم الولد في هذه الصورة وزعمهم أن الرجل إذا كانت له سرية وهو يطأها دائمًا فأتت بولد على فراشه لم يلحقه إلا أن يستلحقه.

ومن العجب أنهم يقولون إذا شهد عليه أربعة بالزنا فقالوا: صدقوا في شهادتهم، وقد فعلت سقط عنه الحد، وإن اتهمهم وقال كذبوا علي حد.

ومن العجب قولهم لا يصح استئجار دار لتجعل مسجدًا يصلي فيه المسلمون ويصح استئجارها كنيسة يعبد فيها الصليب وبيتًا تعبد فيه النار.

ومن العجب قولهم إذا قهقه في الصلاة انتقض وضؤوه، ولو غنى في صلاته وقذف المحصنات وأتى بأقبح السب والفحش فوضؤوه بحاله لم ينتقض.

ومن العجب قولهم إذا وقع في البئر نجاسة ينزح منه أدلاء معينة، فإذا حصل الدلو الأول في البئر تنجس وغرف الماء نجسًا فما أصاب حيطان البئر منه نجسها، وكذلك ما بعده من الدلاء إلى الدلو الأخير، فإنه ينزل نجسًا ثم يصعد طاهرًا يقشقش النجاسة من البئر. قال الجاحظ: ما يكون أكرم أو أعقل من هذا الدلو.

ومن العجب قولهم: لو حلف لا يأكل فاكهة حنث بأكل الجوز ولو كان يابسًا منذ سنين ولا يحنث بأكل الرطب والعنب والرمان.

وأعجب من ذلك تعليلهم بأن هذه الثلاثة خيار الفاكهة، فلا تدخل في الاسم المطلق، ذكرَ الحكمَ والدليل (الإسبيجابي) في شرح الطحاوي.

ومن العجب قولهم: لو حلف لا يشرب من النيل والفرات أو دجلة فشرب بكفه لم يحنث، ولا يحنث حتى ينكب ويكرع بفيه مثل البهائم.

فائدة: نعيم وعذاب

قال جماعة من الناس: إذا ماتت نصرانية في بطنها جنين مسلم، نزل ذلك القبر نعيم وعذاب، فالنعيم للابن والعذاب للأم. ولا بعد فيما قاله، كما لو دفن في قبر واحد مؤمن وفاجر، فإنه يجتمع في القبر النعيم والعذاب.

فائدة: العتق

قالت الإمامية إن العتق لا ينفذ إلا إذا قصد به القربة، لأنهم جعلوه عبادة، والعبادة لا تصح إلا بالنية.

قال ابن عقيل: ولا بأس بهذا القول لا سيما وهم يقولون الطلاق لا يقع إلا إذا كان مصادفًا للسنة مطابقًا للأمر وليس بقربة، فكيف بالعتق الذي هو قربه.

قلت: وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه قال الطلاق ما كان عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله.

فائدة: نافعة: خطاب الرؤساء باللطف واللين

كثير من الناس يطلب من صاحبه بعد نيله درجة الرياسة الأخلاق التي كان يعامله بها قبل الرياسة فلا يصادفها، فينتقض ما بينهما من المودة، وهذا من جهل الصاحب الطالب للعادة، وهو بمنزلة من يطلب من صاحبه إذا سكر أخلاق الصاحي، وذلك غلط. فإن للرياسة سكرة كسكرة الخمر أو أشد، ولو لم يكن للرياسة سكرة لما اختارها صاحبها على الآخرة الدائمة الباقية، فسكرتها فوق سكرة القهوة 226 بكثير، ومحال أن يرى من السكران أخلاق الصاحي وطبعه، ولهذا أمر الله تعالى أكرم خلقه عليه بمخاطبة رئيس القبط بالخطاب اللين، فمخاطبة الرؤساء بالقول اللين أمر مطلوب شرعًا وعقلًا وعرفًا. ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبي يخاطب رؤساء العشائر والقبائل. وتأمل امتثال موسى لما أمر به كيف قال لفرعون: { هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى }. 227 فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض لا مخرج الأمر، وقال: { إلى أن تزكى }، ولم يقل إلى أن أزكيك فنسب الفعل إليه هو، وذكر لفظ التزكي دون غيره لما في البركة والخير والنماء، ثم قال: { وأهديك إلى ربك، أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك، وقال: إلى ربك استدعاء لإيمانه بربه الذي خلقه ورزقه ورباه بنعمه صغيرًا ويافعًا وكبيرًا. وكذلك قول إبراهيم الخليل لأبيه: { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا }. 228 فابتدأ خطابه بذكر أبوته الدالة على توقيره، ولم يسمه باسمه، ثم أخرج الكلام معه مخرج السؤال، فقال: لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا، ولم يقل لا تعبد. ثم قال: { يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، فلم يقل له إنك جاهل لا علم عندك بل عدل عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدل على هذا المعنى فقال: { جاءني من العلم ما لم يأتك }، ثم قال: { فاتبعني أهدك صراطًا سويًا }، وهذا مثل قول موسى لفرعون: { وأهديك إلى ربك }، ثم قال: { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا }، 229 فنسب الخوف إلى نفسه دون أبيه كما يفعل الشقيق الخائف على من يشفق عليه، وقال: يمسك فذكر المس الذي هو ألطف من غيره ثم نكر العذاب ثم ذكر الرحمن ولم يقل الجبار ولا القهار، فأي خطاب ألطف وألين من هذا. ونظير هذا خطاب صاحب يس لقومه حيث قال: { يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون * وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون }. 230 ونظير ذلك قول نوح لقومه: { يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون * يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى }، 231 وكذلك سائر خطاب الأنبياء لأمتهم في القرآن إذا تأملته وجدته ألين خطاب وألطفه، بل خطاب الله لعباده وألطف خطاب وألينه كقوله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم }. 232 وقوله تعالى: { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له }، 233 وقوله: { يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور }. 234 وتأمل ما في قوله تعالى: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا }، 235 من اللطف الذي سلب القلوب. وقوله: { أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين }، 236 على أحد التأويلين، أي نترككم فلا ننصحكم ولا ندعوكم ونعرض عنكم إذا أعرضتم أنتم وأسرفتم. وتأمل لطف خطاب نُذُر الجن لقومهم وقولهم: { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم }. 237

فوائد شتى منقولة عن ابن عقيل

سئل ابن عقيل عن رجل له ماء يجري على سطح جاره فعلا داره هل يسقط حق الجري؟ فقال لا، لكنه إذا سلط الماء على عادته حفر سطح جاره لموضع العلو، فينبغي أن يجعل جريه بحدته إلى ملكه ثم يخرجه بسهولة إلى سطح جاره.

وسئل عن رجل قالت له زوجته: طلقني. فقال: إن الله قد طلقك فقال: يقع الطلاق لأنه كناية استندت إلى دلالة الحال وهي ذكر الطلاق وسؤالها إياه. وأجاب بعض الشافعية بأنه إن نوى وقع الطلاق وإلا لم يقع. قلت: وهذا هو الصواب إن قوله إن الله قد طلقك إن أراد به شرع طلاقك وأباحه لم يقع، وإن أراد أن الله قد أوقع عليك الطلاق وأراده وشاءه، فهذا يكون طلاقًا لأن ضرورة صدقه أن يكون الطلاق واقعًا، وإذا احتمل الأمرين فلا يقع إلا بالنية.

وسئل عن رجل أوقف دابة في مكان، فجاء رجل فضربها فرفسته فمات، هل يضمن صاحب الدابة. فقال: إذا لم يكن متعديًا في إيقافها بأن تكون في ملك الضارب فلا ضمان عليه وإن كان متعديًا فالضمان عليه.

حكى الطحاوي أن مذهب أبي يوسف جواز أخذ بني هاشم الفقراء الزكاة من بني هاشم الأغنياء. قاله ابن عقيل قال: وسألت قاضي القضاة عن ذلك يريد الدامغاني، فقال: نعم هو مذهب أبي يوسف وهو مذهب الإمامية. قلت: وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنهم يجوزون لهم الأخذ من الزكاة مطلقًا إذا منعوا حقهم من الخمس، وأفتى به بعض الشافعية.

فائدة: هل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أم الكعبة

قال ابن عقيل: سألني سائل أيما أفضل حجرة النبي أو الكعبة فقلت: إن أردت مجرد الحجرة فالكعبة أفضل، وإن أردت وهو فيها فلا واللهِ، ولا العرش وحملته ولا جنة عدن ولا الأفلاك الدائرة، لأن بالحجرة جسدًا لو وزن بالكونين لرجح.

وسئل عن حبس الطير لطيب نغمتها، فقال: سفه وبطر يكفينا أن نقدم على ذبحها للأكل فحسب، لأن الهواتف من الحمام، ربما هتفت نياحة على الطيران وذكر أفراخها، أفيحسن بعاقل أن يعذب حيًا ليترنم فيلتذ بنياحته، وقد منع من هذا بعض أصحابنا وسموه سفهًا.

فائدة: صحة الرأي باعتدال المزاج

من دقيق الورع أن لا يُقبل المبذول حال هيجان الطبع من حزن أو سرور، فذلك كجذل السكران، ومعلوم أن الرأي لا يتحقق إلا مع اعتدال المزاج، ومتى بذل باذل في تلك الحال يعقبه ندم. ومن هنا لا يقضي القاضي وهو غضبان، وإذا أردت اختبار ذلك فاختبر نفسك في كل مواردك من الخير والشر، فالبدار بالانتقام حال الغضب يعقب ندمًا، وطالما ندم المسرور على مجازفته في العطاء وود أن لو كان اقتصر. وقد ندم الحسن على تمثيله بابن ملجم.

فائدة: حديث صل معنا

في قول النبي لسائل عن مواقيت الصلاة: «صل معنا»، جواز البيان بالفعل، وجواز تأخيره إلى وقت الحاجة إليه. وجواز العدول عن العمل الفاضل إلى المفضول لبيان الجواز.

فائدة: حديث من صلى على جنازة فله قيراط

قوله : «من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان»، سئل أبو نصر بن الصباغ عن القيراطين، هل هما غير الأول أو به، فقال بل القيراطان الأول وآخر معه بدليل قوله تعالى: { مثنى وثلاث ورباع }. 238

قلت: نظير هذا قوله : «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله»، فهذا مع صلاة العشاء في جماعة قد جاء مصرحًا به في جامع الترمذي كذلك، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة، فكأنما قام الليل كله. ونظيره أيضا قوله تعالى: { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين }، 239 فهي أربعة باليومين الأولين ولولا ذلك لكانت أيام التخليق ثمانية.

فائدة: معنى القيراط في الحديث

لم أزل حريصًا على معرفة المراد بالقيراط في هذا الحديث وإلى أي شيء نسيته حتى رأيت لابن عقيل فيه كلامًا، قال القيراط: نصف سدس درهم مثلًا، أو نصف عشر دينار، ولا يجوز أن يكون المراد هنا جنس الأجر، لأن ذلك يدخل فيه ثواب الإيمان وأعماله كالصلاة والحج وغيره، وليس في صلاة الجنازة ما يبلغ هذا. فلم يبق إلا أن يرجع إلى المعهود، وهو الأجر العائد إلى الميت ويتعلق بالميت أجر الصبر على المصاب فيه. وأجر تجهيزه وغسله ودفنه والتعزية به، وحمل الطعام إلى أهله وتسليتهم، وهذا مجموع الأجر الذي يتعلق بالميت، فكان للمصلي والجالس إلى أن يقبر سدس ذلك أو نصف سدسه إن صلى وانصرف.

قلت: كأن مجموع الأجر الحاصل على تجهيز الميت من حين الفراق إلى وضعه في لحده وقضاء حق أهله وأولاده وجبرهم دينارًا مثلا فللمصلي عليه قيراط من هذا الدينار، والذي يتعارفه الناس من القيراط أنه نصف سدس، فإن صلى عليه وتبعه كان له قيراطان منه، وهما سدسه وعلى هذا، فيكون نسبة القيراط إلى الأجر الكامل بحسب عظم ذلك الأجر الكامل في نفسه، وكلما كان أعظم كان القيراط منه بحسبه فهذا بين ههنا.

وأما قوله : «من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية أو زرع نقص من أجره أو من عمله كل يوم قيراط»، فيحتمل أن يراد به هذا المعنى أيضا بعينه، وهو نصف سدس أجر عمله ذلك اليوم ويكون صغر هذا القيراط وكبره بحسب قلة عمله وكثرته، فإذا كانت له أربعة وعشرون ألف حسنة مثلًا نقص منها كل يوم ألفا حسنة وعلى هذا الحساب، والله أعلم بمراد رسوله وهذا مبلغ الجهد في فهم هذا الحديث.

فائدة: حديث من عزى مصابا فله مثل أجره

قوله : «من عزى مصابًا فله مثل أجره استشكله بعضهم. وقال: مشقة المصيبة أعظم بكثير من مساواة تعزية المعزى لها برد قلبه.

فأجاب ابن عقيل رحمه الله بجواب بديع جدًا، فقال: ليس مراده قول بعضهم لبعض: نسأل الله في أجلك وتعيش أنت وتبقى وأطال الله عمرك وما أشبه ذلك، بل المقصود من عمد إلى قلب قد أقلقه ألم المصاب وأزعجه، وقد كاد يساكن السخط ويقول الهجر ويوقع الذنب فداوى ذلك القلب بآي الوعيد، وثواب الصبر، وذم الجزع حتى يزيل ما به أو يقلله، فيتعزى فيصير ثواب المسلي كثواب المصاب، لأن كلًا منهما دفع الجزغ، فالمصاب كابده بالاستجابة، والمعزى عمل في أسباب المداواة لألم الكآبة.

فائدة: حديث أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود

قوله : «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود»، قال ابن عقيل: المراد بهم الذين ما دامت طاعاتهم وعدالتهم فزلت في بعض الأحايين أقدامهم بورطة.

قلت: ليس ما ذكره بالبين فإن النبي لا يعبر عن أهل التقوى والطاعة والعبادة بأنهم ذووا الهيئات، ولا عهد بهذه العبارة في كلام الله ورسوله للمطيعين المتقين، والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد، فإن الله تعالى خصهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان منهم مستورًا مشهورًا بالخير حتى كبابه جواده ونبا عضب صبره وأديل عليه شيطانه فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال عثرته ما لم يكن حدًا من حدود الله فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف، كما يتعين أخذه من الوضيع فإن النبي قال: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، وقال: «إنما هلك بنو إسرائيل إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد». وهذا باب عظيم من أبواب محاسن هذه الشريعة الكاملة وسياستها للعالم وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد.

فائدة: رد على نفاة المعاني والحكم في الشريعة

اعترض نفاة المعاني والحكم على مثبتيها في الشريعة بأن قالوا الشرع قد فرق بين المتماثلات، فأوجب الحد بشرب الخمر ولم يحد بشرب الدم والبول وأكل العذرة وهي أخبث من الخمر، وأوجب قطع اليد في سرقة ربع دينار ومنع من قطعها في نهبة ألف دينار. وأوجب الحد في رمي الرجل بالفاحشة ولم يوجبه في رميه بالكفر وهو أعظم منه، ولم يرتب على الربا حدًا مع كونه من الكبائر ورتب الحد على شرب الخمر والزنا وهما من الكبائر.

فأجاب المثبتون بأن قالوا: هذا مما يدل على اعتبار المعاني والحكم ونصب الشرع بحسب مصالح العباد، فإن الشارع ينظر إلى المحرم ومفسدته، ثم ينظر إلى وازعه وداعيه، فاذا عظمت مفسدته رتب عليها من العقوبة بحسب تلك المفسدة، ثم إن كان في الطباع التي ركبها الله تعالى في بني آدم وازعًا عنه اكتفى بذلك الوازع عن الحد، فلم يرتب على شرب البول والدم والقيء وأكل العذرة حدًا لما في طباع الناس من الامتناع عن هذه الأشياء، فلا تكثر مواقعتها بحيث يدعو إلى الزجر بالحد، بخلاف شرب الخمر والزنا والسرقة. فإن الباعث عليها قوي، فلولا ترتيب الحدود عليها لعمت مفاسدها وعظمت المصيبة بارتكابها.

وأما النهبة فلم يرتب عليها حدًا. إما لأن بواعث الطباع تدعو إليها غالبًا خوف الفضيحة والاشتهار وسرعة الأخذ. وإما لأن مفسدتها تندفع بإغاثة الناس ومنعهم المنتهب وأخذهم على يده.

وأما الربا فلم يرتب عليه حدًا فقيل: لأنه يقع في الأسواق وفي الملأ، فوكلت إزالته إلى إنكار الناس بخلاف السرقة والفواحش وشرب الخمر، فإنها إنما تقع غالبًا سرًا، فلو وكلت إزالته إلى الناس لم تزل.

وأحسن من هذا أن يقال لما كان المرابي، إنما يقضي له برأس ماله فقط فإن أخد الزيادة قضى عليه بردها إلى غريمه وإن لم يأخذها لم يقض له بها كانت مفسدة الربا منتفية بذلك، فإن غريمه لو سأله لم يعطه إلا رأس ماله فحيث رضي بإعطائه الزيادة فقد رضي باستهلاكها وبذلها مجانًا والآخذ لها رضي بأكل النار.

وأجود من هذين أن يقال ذنب الربا أكبر من أن يطهره الحد، فإن المرابي محارب لله ورسوله آكل للجمر والحد، إنما شرع طهرة وكفارة والمرابي لا يزول عنه إثم الرد بالحد لأن حرمته أعظم من ذلك، فهو كحرمة مفطر رمضان عمدًا من غير عذر. ومانع الزكاة بخلا وتارك صلاة العصر وتارك الجمعة عمدًا فإن الحدود كفارات وطهر فلا تعمل إلا في ذنب يقبل التكفير والطهر.

ومن هذا عدم إيجاب الحل. بأكل أموال اليتامى لأن آكلها قد وجبت له النار، فلا يؤثر الحد في إسقاط ما وجب له من النار.

وكذلك ترك الصلاة هو أعظم من أن يرتب عليه حد. ونظير هذا اليمين الغموس هي أعظم، إنما من أن يكون فيها حد أو كفارة.

وإذا تأملت أسرار هذه الشريعة الكاملة، وجدتها في غاية الحكمة ورعاية المصالح لا تفرق بين متماثلين البتة. ولا تسوي بين مختلفين، ولا تحرم شيئًا لمفسدة وتبيح ما مفسدته مساوية لما حرمته أو رجحته عليه، ولا تبيح شيئًا لمصلحة وتحرم ما مصلحته تساويه لما إباحته البتة. ولا يوجد فيما جاء به الرسول شيء من ذلك البتة.

ولا يلزمه الأقوال المستندة إلى آراء الناس وظنونهم واجتهاداتهم، ففي تلك من التفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات وإباحة الشيء وتحريم نظيره وأمثال ذلك ما فيها.

فائدة: سئل ابن عقيل عن كشف المرأة وجهها في الإحرام أهو أولى أم التغطية مع الفداء

وسئل ابن عقيل عن كشف المرأة وجهها في الإحرام مع كثرة الفساد اليوم، أهو أولى أم التغطية مع الفداء؟ وقد قالت عائشة رضي الله عنها: لو علم رسول الله ما أحدث النساء لمنعهن المساجد.

فأجاب: بأن الكشف شعار إحرامها ورفع حكم ثبت شرعًا بحوادث البدع لا يجوز لأنه يكون نسخًا بالحوادث ويفضي إلى رفع الشرغ رأسًا. وأما قول عائشة فإنها ردت الأمر إلى صاحب الشرع. فقالت: لو رأى لمنع ولم نمنع، ير وقد جبد عمر السترة عن الأمة وقال: لا تشبهي بالحرائر. ومعلوم أن فيهن من تفتن لكنه لما وضع كشف رأسها للفرق بين الحرائر والإماء جعله فرقًا، فما ظنك بكشف وضع بين النسك والإحلال، وقد ندب الشرع إلى النظر إلى المرأة قبل النكاح وأجاز للشهود النظر، فليس ببدع أن يأمرها بالكشف ويأمر الرجال بالغض ليكون أعظم للابتلاء كما قرب الصيد إلى الأيدي في الإحرام ونهى عنه.

قلت: سبب هذا السؤال والجواب خفاء بعض ما جاءت به السنة في حق المرأة في الإحرام، فإن النبي لم يشرع لها كشف الوجه في الإحرام ولا غيره، وإنما جاء النص بالنهي عن النقاب خاصة، كما جاء بالنهي عن القفازين وجاء بالنهي عن لبس القميص والسراويل، ومعلوم أن نهيه عن لبس هذه الأشياء لم يرد أنها تكون مكشوفة لا تستر البتة، بل وجه أجمع الناس على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودرعها وأن الرجل يستر بدنه بالرداء وأسافله بالإزار مع أن مخرج النهي عن النقاب والقفازبن والقميص والسراويل واحد، وكيف يزاد على موجب النص ويفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملأ جهارًا، فأي نص اقتضى هذا أو مفهوم أو عموم أو قياس أو مصلحة. بل وجه المرأة كبدن الرجل يحرم ستره بالمفصل على قدره كالنقاب والبرقع بل وكيدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليد كالقفاز. وأما سترها بالكم وستر الوجه بالملاءة والخمار والثوب فلم ينه عنه البتة. ومن قال إن وجهها كرأس المحرم فليس معه بذلك نص ولا عموم، ولا يصح قياسه على رأس المحرم لما جعل الله بينهما من الفرق. وقول من قال من السلف إحرام المرأة في وجهها، إنما أراد به هذا المعنى أي لا يلزمها اجتناب اللباس كما يلزم الرجل، بل يلزمها اجتناب النقاب، فيكون وجهها كبدن الرجل، ولو قدر أنه أراد وجوب كشفه فقوله ليس بحجة ما لم يثبت عن صاحب الشرع أنه قال ذلك وأراد به وجوب كشف الوجه، ولا سبيل إلى واحد من الأمرين. وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كنا إذا مر بنا الركبان سدلت إحدانا الجلباب على وجهها ولم تكن إحداهن تتخذ عودًا تجعله بين وجهها وبين الجلباب كما قاله بعض الفقهاء، ولا يعرف هذا عن امرأة من نساء الصحابة ولا أمهات المؤمنين البتة لا عملًا ولا فتوى. ومستحيل أن يكون هذا من شعار الإحرام ولا يكون ظاهرًا مشهورًا بينهن يعرفه الخاص والعام. ومن آثر الإنصاف وسلك سبيل العلم والعدل تبين له راجح المذاهب من مرجوحها وفاسدها من صحيحها والله الموفق والهادي.

فائدة: زكاة الحلي

قال ابن عقيل: يخرج من رواية إيجاب الزكاة في حلي الكرا والمواشط، إن يجب في العقد المعد للكراء وكل سلعة تؤجر وتعد للإجارة قال: وإنما خرجت ذلك عن الحلي، لأنه قد ثبت من أصلنا أن الحلي لا يجب فيه الزكاة، فإذا أعد للكراء وجبت، فإذا ثبت أن الإعداد للكراء ينشىء إيجاب الزكاة في شيء لا يجب فيه الزكاة. كان في جميع العروض التي لا تجب فيها الزكاة ينشيء إيجاب الزكاة.

يوضحه أن الذهب والفضة عينان تجب الزكاة بجنسهما وعينهما، ثم إن الصياغة والإعداد للباس والزينة والانتفاع غلبت على إسقاط الزكاة في عينه، ثم جاء الإعداد للكراء فغلب على الاستعمال، وإنشاء إيجاب الزكاة، فصار أقوى مما قوي على إسقاط الزكاة، فأولى أن يوجب الزكاة في العقار والأواني. والحيوان التي لا زكاة في جنسها أن ينشيء فيها الإعداد للكراء زكاة.

فائدة: يهودي أقر بأن محمدا بعث إلى العرب

قال ابن عقيل: جاءت فتوى أن حاكمًا قال بين يديه يهودي: لا ننكر أن محمدًا بعث إلى العرب، فقال له: ونقول إنه جاء بالحق؟ فقال: نعم، فأفتى جماعة أنه قد أسلم.

وكتبتُ: لا شك أن قوله إنه بعث إلى العرب قول طائفة منهم، وقوله بعد هذا وأعتقد أنه جاء بالحق يرجع إلى ما أقر به من أنه جاء رسولًا إلى العرب، 240 فإذا احتمل أن يعود كلامه إلى هذا لم يخرج من دينه بأمر محتمل، وكتب كذلك كيا والشاشي.

فائدة: غلبة الحس على العلم

قال ابن عقيل في مسألة ما إذا ألقى في مركبهم نار، واستوى الأمر أن عندهم فيه روايتان، قال: واعلموا أن التقسيم والتفصيل ما لم تمس النار الجسد، فإن مسته فالإنسان بالطبع يتحرك إل خارج منها، لأن طبع الحيوان الهرب من المحس ويغلب الحس على التأمل، والنظر في العاقبة فتصير النار دافعة له بالحس والبحر ليس محسوسًا أذاه له، لكن الغرق والمضرة معلومة، والحس يغلب على العلم.

يبين هذا ما يشاهد من الضرب والخز للإنسان الذي قد نصبت له خشبة ليصلب عليها أو حفر له بئر ليلقي فيها، فإنه يتقدم إلى الخشبة والبئر، لأن الضرر فيهما ليس بمحس والوخز بالإنسان والضرب محس فهو إضرار ناجز واقع، وإذا أردت أن تعلم ذلك فانظر إلى وقوف الحي وجنوحه عن التحرك إذا تكافأ عنده الأمران في الحس والعلم.

بيانه إنسان هجم عليه سبع على حرف نهر جار عميق وهو لا يحسن السباحة فإنه لا محالة يتحرك نحو الماء راميًا نفسه لأجل الجاء السبع له وهجومه عليه، فلو هجم عليه من قبل وجهه سبع، فالتفت فإذا وراءه سبع آخر وهما متساويان في الهجوم عليه لم يبق للطبع مهرب وتوازنت المكروهات، فإنه يقف مستسلمًا صامدًا للبلاء، وكذلك تكافؤ كفة الميزان.

قلت: هذا صحيح من جهة الوهم والدهش وإلا فلو كان عقله حاضرًا معه لتكافأ عنده الأمران المحسوس والمعلوم وكثيرًا ما يحضر الرجل عقله إذ ذاك فيتكافأ عنده المحسوس والمعلوم فيستسلم لما لا صنع له فيه ولا يعين على نفسه ويحكم عقله على حسه ويعلم أنه إن صبر كان له أجر من قتل ولم يعن على نفسه وإن ألقى نفسه في الهلاك لم يكن من هذا الأجر على يقين، بل ولا يستلزم ذلك للإيمان بالثواب بل إذا تصور حمد الناس له على صبره وعدم جزعه بإلقاء نفسه في الهلاك هربًا، مما لا بد له منه رأي الصبر أحمد عاقبة وأنفع له أجلًا فمحكم العقل يقدم الصبر، ومحكم الحس يهرب من التلف، إلى التلف فليست الطباع في هذا متكافئة والله أعلم.

فائدة: الهدية تفقأ عين الحكم

يذكر عن كعب قال: قرأت في بعض كتب الله، الهدية تفقأ عين الحكم. قال ابن عقيل: معناه أن المحبة الحاصلة للمهدَى إليه، وفرحته بالظفر بها وميله إلى المهدي يمنعه من تحديق النظر إلى معرفة باطل المهدي وأفعاله الدالة على أنه مبطل، فلا ينظر في أفعاله بعين ينظر بها إلى من لم يهد إليه. هذا معنى كلامه.

قلت: وشاهده الحديث المرفوع الذي رواه أحمد في مسنده: حبك الشيء يعمي ويصم. فالهدية إذا أوجبت له محبة المهدي فقأت عين الحق وأصمت أذنه.

(الأموال التي يأخذها القضاة أربعة أقسام رشوة وهدية وأجرة ورزق والكلام على كل منها)

قال ابن عقيل: الأموال التي يأخذها القضاة أربعة أقسام: رشوة وهدية وأجرة ورزق.

فالرشوة حرام وهي ضربان: رشوة ليميل إلى أحدهما بغير حق فهذه حرام عن فعل حرام على الآخذ والمعطي وهما آثمان. ورشوة يعطاها ليحكم بالحق واستيفاء حق المعطي من دين ونحوه، فهي حرام على الحاكم دون المعطي، لأنها للاستنقاذ، فهي كجعل الآبق وأجرة الوكلاء في الخصومة.

وأما الهدية فضربان هدية كانت قبل الولاية فلا تحرم استدامتها. وهدية لم تكن إلا بعد الولاية، وهي ضربان: مكروهة وهي الهدية إليه، ممن لا حكومة له. وهدية ممن قد اتجهت له حكومة فهي حرام على الحاكم والمهدي.

وأما الأجرة فإن كان للحاكم رزق من الإمام من بيت المال حرم عليه أخذ الأجرة قولًا واحدًا، لأنه إنما أجرى له الرزق لأجل الاشتغال بالحكم، فلا وجه لأخذ الأجرة من جهة الخصوم، وإن كان الحاكم لا رزق له فعلى وجهين: أحدهما: الإباحة لأنه عمل مباح فهو كما لو حكماه، ولأنه مع عدم الرزق لا يتعين عليه الحكم فلا يمنع من أخذ الأجرة كالوصي وأمين الحاكم يأكلان من مال اليتيم بقدر الحاجة.

وأما الرزق من بيت المال، فإن كان غنيًا لا حاجة له إليه احتمل أن يكره، لئلا يضيق على أهل المصالح ويحتمل أن يباح، لأنه بذل نفسه لذلك فصار كالعامل في الزكاة والخراج.

قلت: أصل هذه المسائل عامل الزكاة، وقيم اليتيم، فإن الله تعالى أباح لعامل الزكاة جزءًا منها، فهو يأخذه مع الفقر والغنى والنبي منعه من قبول الهدية وقال: «هلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر هل يهدى إليه أم لا». وفي هذا دليل على أن ما أهدي إليه في بيته ولم يكن بسببه العمل على الزكاة جاز له قبوله، فيدل ذلك على أن الحاكم إذا أهدى إليه من كان يهدي له قبل الحكم ولم تكن ولايته سبب الهدية فله قبولها.

وأما ناظر اليتيم فالله تعالى أمره بالاستعفاف مع الغنى وأباح له الأكل بالمعروف مع الفقر. وهو إما اقتراض أو إباحة على الخلاف فيه، والحاكم فرع متردد بين أصلين: عامل الزكاة. وناظر اليتيم فمن نظر إلى عموم الحاجة إليه وحصول المصلحة العامة به، ألحقه بعامل الزكاة فيأخذ الرزق مع الغنى، كما يأخذه عامل الزكاة. ومن نظر إلى كونه راعيًا منتصبًا لمعاملة الرعية بالاحظ لهم، ألحقه بولي اليتيم إن احتاج أخذ وإن استغنى ترك. وهذا أفقه وهو مذهب الخليفتين الراشدين. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم، إن احتاج أكل بالمعروف وإن استغنى ترك.

والفرق بينه وبين عامل الزكاة أن عامل الزكاة مستأجر من جهة الإمام لجباية أموال المستحقين لها، وجمعها فما يأخذ يأخذه بعمله كمن يستأجره الرجل لجباية أمواله. وأما الحاكم فإنه منتصب لإلزام الناس بشرائع الرب تبارك وتعالى وأحكامه وتبليغها إليهم فهو مبلغ عن الله تعالى عز وجل بفتياه، ويتميز عن المفتى بالإلزام بولايته وقدرته والمبلغ عن الله تعالى، الملزم للأمة بدينه لا يستحق عليهم شيئًا، فإن كان محتاجًا فله من الفيء ما يسد حاجته، وهذا لون وعامل الزكاة لون، فالحاكم مفتي في خبره عن حكم الله ورسوله، شاهد فيما ثبت عنده، ملزم لمن توجه عليه الحق، فيشترط له شروط المفتي والشاهد ويتميز بالقدرة على التنفيذ فهو في منصب خلافة من قال: { لا أسألكم عليه أجرا }، 241 فهؤلاء هم الحكام المقدر وجودهم في الأذهان المفقودون في الأعيان الذين جعلهم الله ظلالًا لا يأوي إليها اللهفان ومناهل يردها الظمآن.

فوائد شتى من فتاوى ابن عقيل

إذا قال أنفذ لي كتابًا فحلف أنه قد أنفذه أمس، فبان أنه أنفذه قبله بيوم.

قال ابن عقيل: لا يحنث لا لأجل الخطأ والنسيان بل، لأن قصده تصديق نفسه في الإنفاذ الذي هو مقصود الطالب، وإذا بان أن المقصود قد حصل قبل أمس، فقد بان أنه قد حصل أوفى المقصود، كما لو حلف قد أعطيتك دينارًا فبان أنه أعطاه دينارين.

إذا ماتت الحامل فصلي عليها هل ينوي الحمل؟

قال ابن عقيل: يحتمل أن لا يذكر سوى المرأة، لأن الحمل غير متيقن، ولهذا لا يلاعن عليه ولو قتلت لم تجب دبته. فإن قيل: أليس يعزل له الإرث ولا تدفن في مقابر المشركين إذا كانت نصرانية ويتذكى بذكاة أمه. قيل: أما الأرث: فهو الحجة لأنه لا يعطاه ولا يورث عنه حتى يتحقق وضعه عنه، وأما دفنه فلظن وجوده وحكم الزكاة تلحقه إذا وضع.

إذا جب عبده ليزيد ثمنه فهل تحل له الزيادة؟

فأما على أصلنا وأصل مالك في العتق بالمثلة فلا تفريع، وأما من لم يعتقه بالمثلة فينبغي عنده أن لا تحرم الزيادة، كما لو قطع له أصبعًا زائدة فزاد ثمنه بقطعها. فإن قيل: فالمغنية إذا زادت قيمتها لأجل الغناء حرمت الزيادة. قيل: الغناء منهي عنه حال دوامه، فيقال: لا يحل لك تغني ولا يؤخذ العوض عنه. وأما الخصا فهو أثر فعل قد انقضى، لا يتعلق النهي بدوامه فافترقا.

سَرق منديلًا لا يساوي نصابًا وفي طرفه دينار لم يعلم به.

قال ابن عقيل: قياس قول أحمد فيمن سرق إناء من ذهب فيه خمر. قال: إنه لا يقطع، فكذلك ههنا لا يقطع، لأنه جعل القصد للخمر علة لإسقاط القطع بالإناء، فقال: لو لم يكن قصده الخمر أراقه.

رجل له على آخر قود في النفس والطرف، فقطع الطرف فسرى إلى النفس، هل يسقط حكم القود في النفس بالسراية؟

قال ابن عقيل: يحتمل أن يكون مستوفيًا للحق بالسراية، لأن القطع قد صار قتلًا وما صلح لاستفياء الحقين حصل به استيفاؤهما كمن أعتق المكاتب عندنا في الكفارة، حصل به مقصود المكاتب من العتق ومقصود السيد من التكفير. وكمن أطعم المضطر طعامًا قد وجب عليه بذله لكون المضطر لا طعام له، وكون صاحب الطعام غير محتاج اليه، ونوى بإطعامه الكفارة فإنه يندفع به الحقين. وكذا من دخل المسجد فصلى قضاء ناب عن القضاء والتحية.

قلت: وكذلك إذا نذر صيام يوم يقدم فلان، فقدم في نهار رمضان علىقول الخرقي. وكذلك المتمتع إذا دخل المسجد طاف طوافًا واحدًا هو طواف العمرة وطواف القدوم. وكذلك إذا أخر طواف الزيادة إلى وقت الوداع. وطاف طوافًا واحدًا كفاه عنهما. وكذلك إذا سرق وقطع يدًا معصومة فطلب القصاص قطعت يده حدًا وقصاصًا. قال: ويحتمل أن لا يقع موقعه يكون فائدة وقوعه على الاحتمال الأول أنه لا يستحق الدية. وإن قلنا: الواجب أحد أمرين ويكون فائدة عدم وقوعه على الاحتمال الثاني أن تقع السراية هدرًا، لأنها غير مضمونة عندنا، وإن لم تكن مضمونة لم يكن محتسبًا بالسراية قتلًا، فإن الاحتساب بها عن القود الواجب له هو أحد الضمانين، فإذا ثبت أنها لا تقع موقع القود، كان له الدية على الرواية التي تقول إن الواجب أحد الأمرين.

فائدة: مذاهب العلماء فيما يؤخذ من التاجر الذمي إذا جاز علينا

مذهب الإمام أحمد رحمه الله يؤخذ من الذمي التاجر إذا جاز علينا نصف العشر ومن الحربي المستأمن العشر.

ومذهب أبي حنيفة إن فعلوا ذلك بنا فعلناه بهم وإلا فلا.

ومذهب الشافعي لا يجوز إلا بشرط أو تراض بينهم وبين الإمام.

قال ابن عقيل: وهذا هو الصحيح من المذهب، لأن عقد الذمة للذمي والأمان للحربي أوجب حفظ أموالهم وصيانتها بالعهد والجزية، وأخذ ذلك يقع ظلمًا منا ونقضًا لذمتهم الموجبة عصمة أموالهم ودمائهم.

فأورد عليه: ما يصنع بقضية عمر؟

فقال: هي محتملة أنه فعل ذلك بمقابلة لفعل كان منهم، ويحتمل أنه كان شرط على قوم منهم ذلك لمصلحة رآها وحاجة للمسلمين أوجبت ذلك، قال: ودليلي مصرح بالحكم واضح، لا يحتمل فأصرف ظاهر القصة إلى هذا الاحتمال بدليلي الواضح.

فائدة: كتب المهر في ديباج

قال ابن عقيل: سئلت عن كتب المهر في ديباج فقلت: إنما يقصد المباهاة وهي التي حرم لأجلها الحرير، وهو الكبر والخيلاء. قالوا: فهل يطعن ذلك في الحجة؟ قلت: لا كما لو كتب في ورقة مغصوبة، الكتب حرام، والحجة ثابتة.

فائدة: اختلاف عدد الشهود على زنا المحصن وغيره

طلب في الزنا أربعة وفي الإحصان اكتفى باثنين، لأن الزنا سبب وعلة، والإحصان شرط، وإبداء الشروط تقصر عن العلل والأسباب لأنها مصححة وليست موجبة، ولهذا لا يكتفي بالإقرار مرة عندنا وعند الحنفية.

فائدة: عطية الأولاد المشروعة

عطية الأولاد المشروع أن يكون على قدر مواريثهم، لأن الله تعالى منع مما يؤدي إلى قطيعة الرحم، والتسوية بين الذكر والأنثى مخالفة لما وضعه الشرع من التفضيل، فيفضي ذلك إلى العداوة، ولأن الشرع أعلم بمصالحنا، فلو لم يكن الأصلح بالتفضيل بين الذكر والأنثى لما شرعه، ولأن حاجة الذكر إلى المال أعظم من حاجة الأنثى، ولأن الله تعالى جعل الأنثى على النصف من الذكر في الشهادات والميراث والديات وفي العقيقة بالسنة، ولأن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء، فإذا علم الذكر أن الأب زاد الأنثى على العطية التي أعطاها الله وسواها بمن فضله الله عليها، أفضى ذلك إلى العداوة والقطيعة، كما إذا فضل عليه من سوى الله بينه وبينه. فأي فرق بين أن يفضل من أمر الله بالتسوية بينه وبين أخيه ويسوي بين من أمر الله بالتفضيل بينهما.

واعترض ابن عقيل على دليل التفضيل. وقال بناء العطية حال الحياة والصحة والمال لا حق لأحد فيه، ولهذا لا يجوز له الهبات والعطايا للوارث وما زاد على الثلث للأجانب عبرة بحال صحته وقطعًا له عن حال مرض الموت فضلًا عن الموت، وكذا تعطى الأخوات مع وجود الابن، والأب وإن لم يكن لهم حق في الإرث، وتلك عطية من الله على سبيل التحكم لا اختيار لأحد فيه، وهذه عطية من مكلف غير محجور عليه فكانت على حسب اختياره من تفصيل وتسوية، وهذا هو القول الصحيح عندي.

قلت: وهذه الحجة ضعيفة جدًا فإنها باطلة بما سلمه من امتناع التفضيل بين الأولاد المتساويين في الذكورة والأنوثة، وكيف يصح له قوله إنها عطية من مكلف غير محجور عليه. فجازت على حسب اختياره وأنت قد حجرت عليه في التفضيل بين المتساويين.

فائدة: جواز العمل في السلطنة الشرعية بالسياسة ومناظرة ابن عقيل لعالم شافعي في السياسة الشرعية

قال ابن عقيل: جرى 242 في جواز العمل في السلطنة الشرعية بالسياسة: هو الحزم، فلا يخلو منه إمام. قال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. قال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط. وتغليط للصحابة فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل، ما لا يجحده عالم بالسنن، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة وتحريق علي في الأخاديد وقال:

إني إذا شاهدت أمرًا منكرًا ** أججت ناري ودعوت قنبرا

ونفى عمر نصر بن حجاج.

قلت: هذا موضع مزلة إقدام وهو مقام ضنك ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بها مصالح العباد، وسدوا على نفوسهم طرقًا عديدة من طرق معرفة الحق من الباطل، بل عطلوها مع علمهم قطعًا وعلم غيرهم بأنها أدلة حق ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة، أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم ا بها أمر العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه. وأفرطت طائفة أخرى فسوغت منه ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أتت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي به قامت السموات والأرض، فإذا طهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وعلاماته في شيء ونفى غيرها من الطرق التي هي مثلها، أو أقوى منها، بل بين بما شرعه من الطرق إن مقصوده إقامة العدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين. لا يقال: إنها مخالفة له فلا تقول إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي شرع حق، فقد حبس رسول الله في نميمة وعاقب في تهمة لما ظهر إمارات الريبة على المتهم، فمن أطلق كل متهم خلى سبيله مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض ونقبه البيوت وكثرة سرقاته. وقال لا آخذه إلا بشاهدي عدل، فقوله مخالف للسياسة الشرعية، وكذلك منع النبي الغال من سهمه من الغنيمة وتحريق الخلفاء الراشدين متاعه كله، وكذلك أخذه شطر مال مانع الزكاة، وذلك إضعافه الغرم على سارق ما لا يقطع فيه وعقوبته بالجلد. وكذلك إضعافه الغرم على كاتم الضالة. وكذلك تحريق عمر حانوت الخمار وتحريقه قربة خمر وتحريقه قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية. وكذلك حلقه رأس نصر بن حجاج ونفيه. وكذلك ضربه صبيغًا. وكذلك مصادرته عماله. وكذلك إلزامه الصحابة أن يقلوا الحديث عن رسول الله ، ليشتغل الناس بالقرآن فلا يضيعوه، إلى غير ذلك من السياسة التي ساس بها الأمة فصارت سنة إلى يوم القيامة وإن خالفها من خالفها. ومن هذا تحريق الصديق رضي الله عنه للوطىء. ومن هذا تحريق عثمان رضي الله عنه للصحف المخالفة للسان قريش. ومن هذا، اختيار عمر رضي الله عنه للناس الأفراد بالحج ليعتمروا في غير أشهره، فلا يزال البيت الحرام مقصودًا إلى اضعاف اضعاف ذلك من سياساته التي ساسوا بها الأمة، وهي بتأويل القرآن وسنته.

وتقسيم الناس الحكم إلى شريعة وسياسة، من قسم الطريقة إلى شريعة وحقيقة وذلك تقسيم باطل فالحقيقة نوعان. حقيقة هي حق صحيح فهي لب الشريعة لا قسيمتها. وحقيقة باطلة، فهي مضادة للشريعة كمضادة الضلال للهدى. وكذلك السياسة نوعان:

سياسة عادلة فهي جزء من الشريعة وقسم من أقسامها لا قسيمتها.

وسياسة باطلة فهي مضادة للشريعة مضادة الظلم للعدل.

ونظير هذا تقسيم بعض الناس الكلام في الدين إلى الشرع والعقل هو تقسيم باطل، بل المعقول قسمان:

قسم يوافق ما جاء به الرسول فهو معقول كلامه ونصوصه لا قسيم ما جاء به.

وقسم يخالفه فلذلك ليس بمعقول، وإنما هي خيالات وشبه باطلة لظن صاحبها أنها معقولات، وإنما هي خيالات وشبهات.

وكذلك القياس والشرع، فالقياس الصحيح هو معقول النصوص. والقياس الباطل المخالف للنصوص مضاد للشرع.

فهذا الفصل هو فرق ما بين ورثة الأنبياء وغيرهم، وأصله مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالته بالسنة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم التي بها صلاحهم في معاشهم ومعادهم. وإنه لا حاجة إلى أحد سواه البتة، وإنما حاجتنا إلى من يبلغنا عنه ما جاء به فمن لم يستقر هذا في قلبه، لم يرسخ قدمه في الإيمان بالرسول، بل يجب الإيمان بعموم رسالته في ذلك، كما يجب الإيمان بعموم رسالته بالنسبة إلى المكلفين. فكما لا يخرج أحد من الناس عن رسالته البتة، فكذلك لا يخرج حق من العلم به والعمل عما جاء به، فما جاء به هو الكافي الذي لا حاجة بالأمة إلى سواه، وإنما يحتاج إلى غيره من قل نصيبه من معرفته وفهمه فبحسب قلة نصيبه من ذلك، تكون حاجة وإلا فقد توفي رسول الله وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وقد ذكر للأمة منه علمًا، وعلمهم كل شيء حتى آداب التخلي وآداب الجماع والنوم والقيام والقعود والأكل والشرب والركوب والنزول. ووصف لهم العرش والكرسي والملائكة والجنة والنار ويوم القيامة وما فيه، حتى كأنه رأى عين وعرفهم بربهم ومعبودهم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه بما وصفه لهم به من صفات كماله ونعوت جلاله وعرفهم الأنبياء وما جرى لهم معهم حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يعرفه نبي لأمته قبله. وعرفهم من أحوال الموت وما يكون بعده في البرزخ، وما يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن ما جلي لهم ذلك حتى كأنهم يعاينوه. وكذلك عرفهم من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع طوائف أهل الكفر والضلال ما ليس لمن عرفه حاجة إلى كلام أحد من الناس البتة. وكذلك عرفهم من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرق الظفر به ما لو علموه وفعلوه لم يقم لهم عدو أبدًا. وكذلك عرفهم من مكائد إبليس وطرقه التي يأتيهم منها ويحترزون به من كيده ومكره، وما يدفعون به شره ما لا مزيد عليه وبذلك أرشدهم في معاشهم إلى ما لو فعلوه، لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة.

وبالجملة فقد جاءهم رسول الله بخير الدنيا والآخرة بحذافيره ولم يجعل الله بهم حاجة إلى أحد سواه. ولهذا ختم الله به ديوان النبوة فلم يجعل بعده رسولًا لاستغناء الأمة به عمن سواه، فكيف يظن أن شريعته الكاملة المكملة محتاجة إلى سياسة خارجة عنها، أو إلى حقيقة خارجة عنها أو إلى قياس خارج عنها أو إلى معقول خارج عنها؟ فمن ظن ذلك، فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده. وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك. قال تعالى: { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون }، 243 وقال تعالى: { ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين }، 244 وقال تعالى: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم }، 245 وقال تعالى: { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين }، 246 وكيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يفي بعشر معشار ما الناس محتاجون إليه على زعمهم الباطل.

ويا لله العجب، كيف كان الصحابة والتابعون قبل وضع هذه القوانين واستخراج هذه الآراء والمقاييس والأقوال؟ أهلْ كانوا مهتدين بالنصوص أم كانوا على خلاف ذلك حتى جاء المتأخرون أعلم منهم وأهدى منهم؟ هذا ما لا يظنه من به رمق من عقل أو حياء نعوذ بالله من الخذلان، ولكن من أوتي فهمًا في الكتاب وأحاديث الرسول استغني بهما عن غيرهما بحسب ما أوتيه من الفهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وهذا الفصل لو بسط كما ينبغي لقام منه عدة أسفار، ولكن هذه لفظات تشير إلى ما وراءها.

فائدة: مسائل فقهية عن ابن عقيل

قال ابن عقيل يحرم خلوة النساء بالخصيان والمجبوبين، إذ غاية ما تجد فيهم عدم العضو أو ضعفه، ولا يمنع ذلك لإمكان الاستمتاع بحسبهم من القبلة واللمس والاعتناق والخصي يقرع قرع الفحل والمجبوب يساحق. ومعلوم أن النساء لو عرض فيهن حب السحاق ومنعنا خلوة بعضهن ببعض. فأولى أن يمنع خلوة من هو في الأصل على شهوته للنساء.

فائدة: لا شهادة لمعين بالجنة إلا بنص

عزى بعض العلماء رجلًا بطفلة فقال له: قد دخل بعضك الجنة، فاجتهد أن لا تتخلف بقيتك عنها.

قلت: وفي جواز هذه الشهادة ما فيها فأنا وإن لم نشك أن أطفال المؤمنين في الجنة لا نشهد به لمعين أنه فيها. كما نشهد لعموم المؤمنين بالجنة ولا نشهد بها لمعين سوى من شهد له النص. وعلى هذا يحمل حديث عائشة رضي الله عنها، وقد شهدت للطفل من الأنصار بأنه عصفور من عصافير الجنة. فقال لها النبي : «وما يدريك». وهكذا نقول لهذا المعزي، وما يدريك أن بعض المعزى دخل الجنة. وسر المسألة الفرق بين المعين والطلق في الأطفال والبالغين. والله أعلم.

فائدة: حديث وطويت الصحف

قوله في حديث الجمعة: «وطويت الصحف» أي صحف الفضل، فأما صحف الفرض فإنها لا تطوى، لأن الفرض يسقط بعد ذلك.

فائدة: الشاة والشواؤون

عن أحمد في الصيد إذا أوجبه والشاة إذا ذبحها ثم سقطت في ماء، هل تباح على روايتين. وسئل بعض أصحابنا عن هؤلاء الشوائين بذبحون الدجاج ويرمون به في ماء السمط وهو يضطرب فخرجه على هاتين الروايتين. وصحح الإباحة قال: لأن ذلك الاضطراب ليس له حكم الحياة.

فائدة: تفضيل النكاح على التخلي لنوافل العبادة

استُدِل على تفضيل النكاح على التخلي لنوافل العبادة بأن الله تعالى عز وجل اختار النكاح لأنبيائه ورسله فقال تعالى: { ولقد أرسلنا رسلًا من قبلك وجعلنا لهم أزواجًا وذرية }، 247 وقال في حق آدم: { وجعل منها زوجها ليسكن إليها }، 248 واقتطع من زمن كليمه عشر سنين في رعاية الغنم مهر الزوجة، ومعلوم مقدار هذه السنين العشر في نوافل العبادات.

واختار لنبيه محمد أفضل الأشياء فلم يحب له ترك النكاح، بل زوجه بتسع فما فوقهن. ولا هدي فوق هدية.

ولو لم يكن فيه إلا سرور النبي يوم المباهاة بأمته، ولو لم يكن فيه ألا أنه بصدد أنه لا ينقطع عمله بموته.

ولو لم يكن فيه إلا أنه يخرج من صلبه من يشهد لله بالوحدانية ولرسوله بالرسالة.

ولو لم يكن فيه إلا غض بصره وإحصان فرجه عن التفاته إلى ما حرم الله تعالى.

ولو لم يكن فيه إلا تحصين امرأة يعفها الله به، ويثيبه على قضاء وطره ووطرها فهو في لذاته، وصحائف حسناته تتزايد.

ولو لم يكن فيه إلا ما يثاب عليه من نفقته على امرأته وكسوتها ومسكنها ورفع اللقمة إلى فيها.

ولو لم يكن فيه إلا تكثير الإسلام وأهله وغيظ أعداء الإسلام.

ولو لم يكن فيه إلا ما يترتب عليه من العبادات التي لا تحصل للمتخلي للنوافل.

ولو لم يكن فيه إلا تعديل قوته الشهوانية الصارفة له عن تعلق قلبه بما هو أنفع له في دينه ودنياه. فإن تعلق القلب بالشهوة أو مجاهدته عليها تصده عن تعلقه بما هو أنفع له، فإن الهمة متى انصرفت إلى شيء انصرفت عن غيره.

ولو لم يكن فيه إلا تعرضه لبنات إذا صبر عليهن وأحسن إليهن، كن له سترًا من النار.

ولو لم يكن فيه إلا أنه إذا قدم له فرطين لم يبلغا الحنث، أدخله الله بهما الجنة.

ولو لم يكن فيه إلا استجلابه عون الله له، فإن في الحديث المرفوع ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والمجاهد.

فائدة: وجوب الجماعة

استُدل على وجوب الجماعة، بأن الجمع بين الصلاتين شرع في المطر لأجل تحصيل الجماعة مع أن إحدى الصلاتين قد وقعت خارج الوقت، والوقت واجب فلو لم تكن الجماعة واجبة، لما ترك لها الوقت الواجب.

اعتُرض على ذلك بأن الواجب قد يسقط لغير الواجب بل لغير المستحب، فإن شطر الصلاة يسقط لسفر الفرجة والتجارة، ويسقط غسل الرجلين لأجل لبس الخف، وغايته أن يكون مباحًا.

وهذا الاعتراض فاسد، فإن فرض المسافر ركعتين فلم يسقط الواجب لغير الواجب وأيضا فإنه لا محذور في سقوط الواجب لأجل المباح وليس الكلام في ذلك، وإنما المستحيل أن يراعى في العبادة أمر مستحب يتضمن فوات الواجب، فهذا هو الذي لا عهد لنا في الشريعة بمثله البتة، وبذلك خرج الجواب عن سقوط غسل الرجلين لأجل الخف.

واستدل على وجوبها بأن الله تعالى أمر بها في صلاة الخوف، التي هي محل التخفيف وسقوط ما لا يسقط في غيرها واحتمال ما لا يحتمل في غيرها، فما الظن بصلاة الآمن المقيم.

فاعترض على ذلك بأن المقصود الاجتماع في صلاة الخوف فقصد اجتماع المسلمين وإظهار طاعتهم وتعظيم شعار دينهم، ولا سيما حيث كانوا مع النبي فكان المقصود أن يظهروا للعدو طاعة المسلمين له وتعظيمهم لشأنه، حتى أنهم في حال الخوف الذي لا يبقى أحد مع أحد يتبعونه ولا يتفرقون عنه ولا يفارقونه بحال، وهذا كما جرى لهم في عمرة القضاء معه حتى قال عروة بن مسعود: لقد وفدت على الملوك كسرى وقيصر فلم أر ملكًا يعظمه أصحابه ما يعظم محمدًا أصحابه. والذي يدل على هذا أنا رأينا الجماعة تسقط عند المطر الذي يبل النعال، فكان منادي رسول الله : ألا صلوا في رحالكم والجمعة تسقط بخشية فوات الخبر الذي في التنور مع كون الجماعة شرطًا فيها. وتسقط خشية مصادفة غريم يؤذيه. ومعلوم أن عذر الحرب وموافقة الكفار أعظم من هذا كله، ومع هذا فأقيم شعارها في تلك الحال. فدل على أن المقصود ما ذكرنا.

قلت: ونحن لا ننكر أن هذا مقصود أيضا مضموم إلى مقصود الجماعة، فلا منافاة بينه وبين وجوب الجماعة بل إذا كان هذا أمرًا مطلوبًا فهو من في أدل الدلائل على وحوب الجماعة في تلك الحال، ومع أن هذا مقصود أيضا في اجتماع المسلمين في الصلاة وراء إمامهم وأسباب العبادات التي شرعت لأجلها لا يشترط دوامها في ثبوت تلك العبادات، بل تلك العبادات تستقر وتدوم. وإن زالت أسباب مشروعيتها. وهذا كالرماط في الطواف والسعي بين الصفا والمروة.

ونظير هذا اعتراضهم على أحاديث الأمر بفسخ الحج إلى العمرة بأن المقصود بها الإعلام بجوز العمرة في أشهر الحج مخالفة للكفار. فقيل لهم: وهذا من أدل الدلائل على استجبابه ودوام مشروعيته فإن ما شرع من المناسك قصدًا لمخالفة الكفار، فإنه دائم المشروعية إلى يوم القيامة. كالوقوف بعرفة فإن النبي خالفهم ووقف بها وكانوا يقفون بمزدلفة. فقال: «خالف هدينا هدي المشركين» وكالدفع من مزدلفة قبل طلوغ الشمس، فإنهم كانوا لا يدفعون منها حتى تشرق الشمس فقصد مخالفتهم وصارت سنة الى يوم القيامة. وهذه قاعدة من قواعد الشرع، إن الأحكام المشروعة لهذه الأسباب في الأصل، لا يشترط في ثبوتها قيام تلك الأسباب، فلو كان ما ذكرتم من الأسباب في كون الجماعة مأمورًا بها في صلاة الخوف هو الواقع لم يلزم منه سقوط الأمر بها عند زوال تلك الأسباب، وفتح هذا الباب يفضي إلى إسقاط كثير من السنن وذلك باطل.

فائدة: فضل عائشة وفاطمة

الخلاف في كون عائشة أفضل من فاطمة أو فاطمة أفضل، إذا حرر محل التفضيل صار وفاقًا، فالتفضيل بدون التفصيل لا يستقيم.

فإن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله عز وجل، فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب، لا بمجرد أعمال الجوارح، وكم من عاملين أحدهما أكثر عملًا بجوارحه والآخر أرفع درجة منه في الجنة.

وإن أريد بالتفضيل التفضل بالعلم، فلا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة وأدت إلى الأمة من العلم ما لم يؤد غيرها، واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها.

وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل وجلالة النسب، فلا ريب أن فاطمة أفضل، فإنها بضعة من النبي وذلك اختصاص لم يشركها فيه غير إخوتها. وإن أريد السيادة، ففاطمة سيدة نساء الأمة.

وإذا ثبتت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم وعدل. وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يفصل جهات الفضل ولم يوازن بينهما، فيبخس الحق وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصيب وهوى لمن يفضله تكلم بالجهل والظلم.

(أجوبة ابن تيمية في مسائل التفضيل)

وقد سئل شيخ الاسلام ابن تيمية عن مسائل عديدة من مسائل التفضيل فأجاب فيها بالتفصيل الشافي.

فمنها إنه سئل عن تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر أو العكس. فأجاب بما يشفي الصدور. فقال: أفضلهما أتقاهما لله، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة.

ومنها أنه سئل عن عشر ذي الحجة والشعر الأواخر من رمضان، أيهما أفضل فقال: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة.

وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيًا كافيًا، فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وفيهما يوم عرفة ويوم النحر ويوم التروية. وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الأحياء التي كان رسول الله يحييها كلها وفيها ليلة خير من ألف شهر. فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة.

ومنها أنه سئل عن ليلة القدر وليلة الإسراء بالنبي أيهما أفضل، فأجاب بأن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة، فحظ النبي الذي اختص به ليلة المعراج منها أكمل من حظه من ليلة القدر، وحظ الأمة من ليلة القدر أكمل من حظهم من ليلة المعراج، وإن كان لهم فيها أعظم حظ، لكن الفضل والشرف والرتبة العليا، إنما حصلت فيها لمن أسرى به .

ومنها أنه سئل عن يوم الجمعة ويوم النحر فقال: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ويوم النحر أفضل أيام العام. وغير هذا الجواب لا يسلم صاحبه من الاعتراض الذي لا حيلة له في دفعه.

ومنها أنه سئل عن خديجة وعائشة أم المؤمنين أيهما أفضل. فأجاب بأن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام ونصرها وقيامها في الدين لم تشركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثير عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها. فتأمل هذا الجواب الذي لو جئت بغيره من التفضيل مطلقًا لم تخلص من المعارضة.

ومنها أنه سئل عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل، فأجاب بأن صالحي البشر أفضل، باعتبار كمال النهاية؛ والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهين عما يلابسه بنو آدم، مستغرقون في عبادة الرب. ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر، وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة، وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل وتتفق أدلة الفريقين، ويصالح كل منهم على حقه.

فعلى المتكلم في هذا الباب أن يعرف أسباب الفضل أولًا، ثم درجاتها ونسبة بعضها إلى بعض والموازنة بينها ثانيا، ثم نسبتها إلى من قامت به ثالثًا كثرة وقوة، ثم اعتبار لفاوتها بتفاوت محلها رابعًا. فرب صفة هي كمال لشخص وليس كمالًا لغيره، بل كمال غيره بسواها، فكمال خالد بن الوليد بشجاعته وحروبه. وكمال ابن عباس بفقهه وعلمه. وكمال أبي ذر بزهده وتجرده عن الدنيا. فهذه أربع مقامات يضطر إليها المتكلم في درجات التفضيل. وتفضيل الأنواع على الأنواع أسهل من تفضيل الأشخاص على الأشخاص وأبعد من الهوى والغرض. وههنا نكتة خفية لا ينتبه لها إلا من بصره الله وهي أن كثيرًا ممن يتكلم في التفضيل يستشعر نسبته وتعلقه بمن يفضله ولو على بعد، ثم يأخذ في تقريظه وتفضيله، وتكون تلك النسبة والتعلق مهيجة له على التفضيل والمبالغة فيه واستقصاء محاسن المفضل والإغضاء عما سواها، ويكون نظره في المفضل عليه بالعكس. ومن تأمل كلام أكثر الناس في هذا الباب رأى غالبه غير سالم من هذا. وهذا مناف لطريقة العلم والعدل التي لا يقبل الله سواها ولا يرضى غيرها، ومن هذا تفضيل كثير من أصحاب المذاهب والطرائق وأتباع الشيوخ كل منهم لمذهب وطريقته أو شيخه، وكذلك الأنساب والقبائل والمدائن والحرف والصناعات، فإن كان الرجل ممن لا يشك في علمه وورعه خيف عليه من جهة أخرى وهو أنه يشهد حظه ونفعه المتعلق بتلك الجهة ويغيب عن نفع غيره بسواها، لأن نفعه مشاهد له أقرب إليه من علمه بنفع غيره، فيفضل ما كان نفعه وحظه من جهته باعتبار شهوده ذلك وغيبته عن سواه. فهذه نكت جامعة مختصرة إذا تأملها المنصف عظم انتفاعه بها واستقام له نظره ومناظرته. والله الموفق.

فائدة: السمع والبصر أيهما أفضل

اختلف ابن قتيبة وابن الأنباري في السمع والبصر أيهما أفضل.

ففضل ابن قتيبة السمع، ووافقه طائفة. واحتج بقوله تعالى: { ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون }، 249 قال: فلما قرن بذهاب السمع ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر كان دليلًا على أن السمع أفضل.

قال ابن الأنباري: هذا غلط، وكيف يكون السمع أفضل وبالبصر يكون الإقبال والإدبار، والقرب إلى النجاة والبعد من الهلاك وبه جمال الوجه وبذهابه شينه وفي الحديث: «من ذهبت كريمتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثوابًا دون الجنة». وأجاب عما ذكره ابن قتيبة بأن الذي نفاه الله تعالى مع السمع بمنزلة الذي نفاه عن البصر إذ كأنه أراد إبصار القلوب ولم يرد ابصار العيون، والذي يبصره القلب هو الذي يعقله، لأنها نزلت في قوم من اليهود كانوا يستمعون كلام النبي فيقفون على صحته ثم يكذبونه فأنزل الله فيهم: { أفأنت تسمع الصم }، 250 أي المعرضين ولو كانوا لا يعقلون. ومنهم من ينظر إليك بعين نقص. أفأنت تهدي العمى أي المعرضين ولو كانوا لا يبصرون قال: ولا حجة في تقديم السمع على البصر هنا، فقد أخبر في قوله تعالى: مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع.

قلت: واحتج مفضلو السمع بأن به ينال غاية السعادة من سمع كلام الله وسماع كلام رسوله. قالوا: وبه حصلت العلوم النافعة قالوا: وبه يدرك الحاضر والغائب والمحسوس والمعقول، فلا نسبة لمدرك البصر إلى مدرك السمع. قالوا: ولهذا يكون فاقده أقل علمًا من فاقد البصر، بل قد يكون فاقد البصر أحد العلماء الكبار بخلاف فاقد صفة السمع، فإنه لم يعهد من هذا الجنس عالم البتة، قال: مفضلو البصر أفضل النعيم النظر إلى الرب تعالى. وهو يكون بالبصر والذي يراه البصر لا يقبل الغلط بخلاف ما يسمع فإنه يقع فيه الغلط والكذب والوهم. فمدرك البصر أتم وأكمل. قالوا: وأيضا فمحله أحسن وأكمل وأعظم عجائب من محل السمع، وذلك لشرفه وفضله.

قال شيخنا: والتحقيق أن السمع له مزية والبصر له مزية، فمزية السمع العموم والشمول ومزية البصر كمال الإدراك وتمامه، فالسمع أعم وأشمل والبصر أتم وأكمل. فهذا أفضل من جهة شمول إدراكه وعمومه وهذا أفضل من جهة كمال إدراكه وتمامه.

فائدة: مسائل فقهية عن ابن عقيل

إذا تزوجها على خمر أو خنزير صح النكاح واستحقت مهر المثل، ولو خالعها على خمر أو خنزير صح الخلع ولم تستحق عليه شيئًا في أحد القولين. والفرق بينهما عند بعض الأصحاب أن البضع متقوم في دخوله إلى ملك الزوج ولا يتقوم في خروجه عن ملكه، أما تقومه داخلًا فلتعلق أحكام المقومات به من استقرار المهر بالدخول ووجوب المهر بوطء الشبهة. ولهذا يزوج الأب ابنه الصغير ولا يخلع ابنته الصغيرة بشيء من مالها ولا فرق بينهما. إلا أن الابن حصل في ملكه ما له قيمة، والبنت أخرج مالها في مقابلة ما لا قيمة له في خروجه إليها، ولو كان خروج البضع من ملك الزوج متقومًا لكان قد بذل مالها فيما له قيمة، وذلك لا يمتنع.

ويدل عليه أنه لو طلق زوجته في مرض موته لم يعتبر من الثلث، ولو كان بخروج البضع قيمة لاعتبر من الثلث. وأيضا لو خالعها في مرض موته بدون مهر مثلها صح الخلع، ولو كان خروجه متقومًا لكان بمثابة ما لو باع سلعة بدون ثمنها فإنه محاباة محسوبة من الثلث، ويدل عليه أيضا أنه يطلق عليه القاضي في الإيلاء والعنت والإعسار بالنفقة وغير ذلك مجانًا، ولا عهد لنا في الشريعة بمنقوم يخرج عن ملك مالكه قهرًا بغير عوض، ويدل عليه أنه لو كان بخروجه قيمة لجاز للأب أن يخرجه عن ابنته الصغيرة بشيء من مالها. كما يشتري لها عقارًا أو غيره بمالها.

قلت: وكان شيخنا أبو العباس بن تيمية رحمه الله ورضي عنه يضعف هذا القول جدًا ويذهب إلى خروج البضع من ملكه متقوم ويحتج عليه بالقرآن. قال: لأن الله تعالى أمر المسلمين أن يردوا إلى من ذهبت امرأته إلى الكفار مهره إذا أخذوا من الكفار مالًا بغنيمة أو غيرها، فقال تعالى: { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا }، 251 ومعنى عاقبتم أصبتم منهم عقبى، وهي الغنيمة، هذا قول المفسرين. والمقصود أنه قال: فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا وهو المهر. وقال تعالى في هذه القصة: { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم }، 252 فأمر المسلمين أن يسألوا مهور نسائهم ويسأل الكفار مهور نسائهم اللاتي هاجرن وأسلمن، ولولا أن خروج البضع متقوم لم يكن لأحد الفريقين على الآخر مهرًا.

واختلف أهل العلم في رد مهر من أسلم من النساء إلى أزواجهن في هذه القصة، هل كان واجبًا أو مندوبًا علن قولين أصلهما أن الصلح هل كان قد وقع على رد النساء أم لا.

والصحيح أن الصلح كان عامًا على رد من جاء مسلمًا مطلقًا ولم يكن فيه تخصيص، بل وقع بصيغة من المتناولة للرجال والنساء، ثم أبطل الله منه النساء وعوض منه رد مهورهن، وهذه شبهة من قان إن حكم هذه اللآية منسوخ ولم ينسخ منه إلا رد النساء خاصة، وكان رد المهور مأمورًا به، والظاهر أنه كان واجبًا لأن الله تعالى قال: { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم }، فثبت أن رد المهور حق لمن يسأله فيجب رده إليه.

قال الزهري: ولولا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يرد الصداق. وكذك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد.

فلما نزلت هذه الآية أقر المسلمون بحكم الله تعالى وأدوا ما أمررا به من نفقات المشركين على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله تعالى فيما أمر من رد نفقات المسلمين إليهم. فأنزل الله تعالى: { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا }. فهذا ظاهر القرآن يدل على أن خروج البضع من ملك الزوج متقوم.

قلت: ويدل عليه أن الشارع كما جعله متقومًا في دخوله، فكذلك في خروجه، لأنه لم يدخله إلى ملك الزوج إلا بقيمة وحكم الصحابة رضي الله عنهم في المفقود بما حكموا به من رد صداق امرأته إليه بعد دخول الثاني بها، دليل على أنه متقوم في خروجه وهذا ثابت عن خمسة من الصحابة منهم عمر وعلي.

قال أحمد: أي شيء يذهب من خالفهم فهذا القرآن والسنة وأقوال الخلفاء الراشدين دالة على تقويمه، ولو لم يكن له قيمة لما صح بذل نفائس الأموال فيه، بل قيمته عند الناس من أغلى القيم، ورغبتهم فيه من أقوى الرغبات، وخروجه عن ملك الرجل من أ عظم المغارم حتى يعده غرمًا أعظم من غرم المال.

قلت لشيخنا: لو كان خروجه من ملكه متقومًا عليه لكانت المرأة إذا وطئت بشبهة يكون المهر للزوج دونها، فحيث كان المهر لها دل على أن الزوج لم يملك البضع، وإنما يملك الاستمتاع، فإذا خرج البضع عنه لم يخرج عنه شيء كان مالكه.

فقال لي: الزوج إنما ملك البضع ليستمتع به، ولم يملكه ليعاوض عليه. فإذا حصل لها بوطء الشبهة عوض كان لها، لأن عقد النكاح لم يقتض ملك الزوج المعاوضة عن بضع امرأته فصار ما يحصل لها بجناية الواطىء بمثابة ما يحصل لها بغيره من أروش الجنايات.

قلت له: فما تقول في خلع المريض بدون مهر المثل.

فقال: هو يملك إخراج البضع مجانًا بالطلاق، فإذا أخذ منها شيئًا فقد زاد الورثة خيرًا. قال: ونحن إنما منعناه من المحاباة فيما ينتقل إلى الورثة، لأنه يفوته عليهم وبضع الزوجة لا حق للورثة فيه البتة ولا ينتقل إليهم فإذا أخرجه بدون مهر المثل لم يفوتهم حقًا ينتقل إليهم. انتهى.

قلت: وأما منع الأب من خلع ابنته بشيء من مالها فليست مسألة وفاق، بل فيها قولان مشهوران ونحن إذا قلنا إن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب وإن له أن يعفو عن صداق ابنته فبل الدخول وهو الصحيح لبضعة عشر دليلًا قد ذكرتها في موضع آخر، فكذلك خلعها بشيء من مالها، بل هو أولى لأنه إذا ملك إسقاط مالها مجانًا فلأن يملك إسقاطه ليخلصها من رق الزوج وأسره ويزوجها بمن هو خير لها منه أولى وأحرى.

وهذه رواية عن أحمد ذكرها أبو الفرج في مبهجه وغيره واختارها شيخنا.

وأما قولكم: إنه يخرج من ملكه قهرًا بغير عوض فيما إذا طلق عليه الحاكم لإعسار أو عنت أو غيرها، فجوابه أن الشارع، إنما ملكه البضع بالمعروف، وإنما ملكه بحقه فإذا لم يستمتع به بالمعروف الذي هو حقه أخرجه الشارع عنه قال تعالى: { وعاشروهن بالمعروف }، 253 وقال: { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف }، 254 وقال: { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان }، 255 فأوجب الله على الزوج أحد الأمرين، إما أن يمسك بمعروف، وإما أن يسرح بإحسان، فإذا لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان سرح الحاكم عليه قهرًا.

قلت لشيخنا: فلو قتلت الزوجة لم يجب للزوج المهر على قاتلها، مع كونه قد أخرج البضع عن ملكه وفوته إياه، فلو كان خروجه متقومًا لوجب له على القاتل المهر.

فقال: النكاح معقود على مدة الحياة، فإذا قتلت زال وقت النكاح وانقضى أمده، فلا يجب للزوج شيء بعد ذلك كما لو ماتت.

قلت له: فلو أفسد مفسد نكاحها بعد الدخول لاستقر المهر على الزوج ولم يرجع على المفسد؟ فضعف هذا القول، وقال: عندي أنه يرجع به وهو المنصوص عن أحمد وهو مبني على هذا الأصل، فإذا ثبت أن خروج البضع من ملكه متقوم فله قيمته على من أخرجه من ملكه.

قلت: ويرد عليه ما لو أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول، فإن مهرها لا يسقط قولًا واحدًا ولم أسأله عن ذلك، وكان يمنع ذلك ويختار سقوط المهر ويثبت الخلاف في المذهب. ولا فرق بين ذلك وبين إفساد الأجنبي فطرد قول من طرد هذا الأصل. وقال: بالتقويم في حال الخروج أن يسقط إذا أفسدته هي. ولو قيل إن مهرها لا يسقط بذلك قولًا واحدًا، وإن قلنا: بأن خروج البضع متقوم فيجب لها مهرها المسمى في العقد وعليها مهر المثل وقت الإفساد، لأن اعتبار خروجه عن ملكه حينئذ لكان متوجهًا، ولكن يشكل على هذا أن الله سبحانه وتعالى اعتبر في خروج البضع ما أنفق الزوج وهو المسمى لا مهر المثل. وكذلك الصحابة حكموا للمفقود بالمسمى الذي أعطاها لا بمهر المثل، فطرد هذه القاعدة أن مهرها يسقط بإفسادها، وهو الذي كان شيخنا يذهب إليه.

فإن قيل: فما تقولون في شهود الطلاق إذا رجعوا قبل الدخول أو بعده.

قيل: أما قبل الدخول فيلزمه نصف المهر ويرجع به على الشهود. وفيها مأخذان: أحدهما: أنه يقوم عليه في دخوله بنصف المهر الذي غرمه فيقوم عليه في خروجه بنظيره. والثاني: أنهم ألجأوه إلى غرمه وكان بصدد السقوط جملة بان ينسب الزوجة إلى إسقاطه. ورجح هذا المأخذ بأنه لو كان الغرم لأجل التقويم للزمهم نصف مهر المثل، لأنه هو القيمة لا المسمى، وقد تقدم أن الشارع إنما اعتبر تقويمه في الخروج بالمسمى لا بمهر المثل، وكذلك خلفاؤه الراشدون.

فإن قيل: لو كان الغرم لأجل التقويم للزم الشهود جميع المهر، لأنهم أخرجوا البضع كله من ملكه.

قيل: هو متقوم عليه بما بذله فلما كان من المبذول نصف المهر كان هو الذي رجع به، ولا ريب أن خروج البضع قبل الدخول دون خروجه بعد الدخول. فإن المقصرد بالنكاح لم يحصل إلا بالدخول، فإذا دخل استقر له ملك البضع واستقر عليه الصداق، وأما إذا رجع الشهود بعد الدخول، فكذلك يقول يجب عليهم غرم المهر الذي بذله الزوج، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رضي الله عنه.

فإن قيل: فما في مقابلة المهر قد استوفاه بوطئه فلم يفت عليه شيء.

قيل: ليس كذلك، لأنه إنما بذل المهر في مقابلة بضع يسلم له الاستمتاع به، فإذا لم يسلم له رجع بما بذله، ويدل عليه حكم الله عز وجل في المهاجرات وحكم الصحابة في امرأة المفقود.

فإن قيل: فما تقولون فيما إذا أفسدت امرأة نكاحه برضاع.

قيل: إن أفسدته قبل الدخول غرمت نصف المهر. وفيه مأخذان: أحدهما: أنها قررته عليه، وهذا مأخذ كثير من الأصحاب لظنهم أنه لو كان لأجل التقويم لغرمت كمال المهر بعد الدخول. والثاني: وهو الصحيح، أنها إنما غرمت لأنه متقوم في خروجه، وقد يقوم بنصف المهر وهو الذي بذله فهو الذي يرجع به وعلى هذا فإذا كان الإفساد بعد الدخول رجع عليها بكمال المهر. هذا منصوص الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وفي رواية أبي القاسم وقال بعض أصحابه: لا يرجع شيء والمنصوص هو الأقوى دليلًا ومذهبًا. والله تعالى أعلم.

فائدة: إذا خاف على نفسه الهلاك وأبى صاحب الطعام أن يبذله

إذا خاف على نفسه الهلاك وأبى صاحب الطعام أن يبذله إلا بعقد ربا، فهل يباح أخذه منه على هذا الوجه أو يغالبه ويقاتله.

فقال بعض أصحاب أحمد: الربا عقد محظور لا تبيحه الضرورة، والمغالبة والمقاتلة للمانع طريق إباحة الشرع فينبغي له أن يغلبه على قدر ما يحتاج إليه ولا يدخل في الربا، فإن لم يقدر دخل معه في العقد ملافظة وعزم بقلبه على أن لا يتمم عقد الربا، بل إن كان نسيئًا عزم على أن يجعل العوض الثابت في الذمة قرضًا. ولو قيل: إن له أن يظهر معه صورة الربا ولا يغالبه ولا يقاتله ويكون بمنزلة المكره فيعطيه من عقد الربا صورته لا حقيقته، لكان أقوى من مقاتلة فلو اتفق مثل هذا لامرأة فأبى صاحب الطعام أن يبذله لها إلا بالفجور بها، فهل يباح لها ذلك إذا خافت الهلاك. قال بعض أصحابنا: لها أن تبذل نفسها ويجري ذلك مجرى التهديد بقتلها من قادر فإن المنع في هذه الحال قتل، ولهذا يجب القود على صاحب الطعام إذا منع المضطر حتى مات، قال: وغاية ما يمكنها مما يبعدها عن الزنا يجب فعله بان تقول قدم عقد زوجية على أرخص المذاهب ولو بمتعة ولا تمكنه تمكينًا بغير عقد رأسًا مع إمكان أن يرغب إليه في عقد على قول بعض أهل الإسلام. فلو اتفق مثل هذا لصبي صبر لحكم الله ولقائه ولم يجز له التمكين من نفسه بحال، لأن الضرر اللاحق له بتمكينه أعظم فسادًا من الضرر اللاحق له بفوات الحياة والله أعلم.

فائدة: تسديد الذمي الدين من ثمن الخمر

رجل له على ذمي دين، فباع الذمي خمرًا وقضاه من ثمنه، فأبى أن يأخذه.

قال الإمام أحمد: ليس له إلا أن يأخذه أو يبرئه، واستدل بقول عمر في أخذ العشر منهم من ثمنه ولو هم بيعها وخذوا العشر من أثمانها.

فائدة: بناء من مال مغصوب

إذا غصب مالًا وبنى به رباطًا أو مسجدًا أو قنطرة فهل ينفعه ذلك أو يكون الثواب للمغصوب منه.

قال ابن عقيل: لا ثواب على ذلك لواحد منهما، أما الغاصب فعليه العقوبة وجميع تصرفاته في مال الغير آثام متكررة، وأما صاحب المال فلا وجه لثوابه، لأن ذلك البناء لم يكن له فيه نية ولا حسبة، وما لم يكن للمكلف فيه عمل ولا نية فلا يثاب عليه، وإنما يطالب غاصبه يوم القيامة فيأخذ من حسناته بقدر ماله.

قلت: في هذا نظر، لأن النفع الحاصل للناس متولد من مال هذا وعمل هذا، والغاصب وإن عوقب على ظلمه وتعديه واقتص المظلوم من حسناته، فما تولد من نفع الناس بعمله له وغصب المال عليه، وهو لو غصبه وفسق به لعوقب عقوبتين، فإذا غصبه وتصدق به أو بنى به رباطًا أو مسجدًا أو افتك به أسيرًا فإنه قد عمل خيرًا وشرًا. { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره }، 256 وأما ثواب صاحب المال. فإنه وإن لم يقصد ذلك فهو متولد من مال اكتسبه، فقد تولد من كسبه خير لم يقصده فيشبه ما يحصل له من الخير بولده البار وإن لم يقصد ذلك الخير، وأيضا فإن أخذ ماله مصيبة، فإذا أنفق في خير فقد تولد له من المصيبة خير. والمصائب إذا ولدت خيرًا لم يعدم صاحبها منه ثوابًا، وكما أن الأعمال إذا ولدت خيرًا أثيب عليه وإن لم يقصده، فالمصائب إذا ولدت خيرًا لم يمنع أن يثاب عليه وإن لم يقصده والله أعلم.

فائدة: وراثة

رجل مات وترك دينًا فورثه ولده ولم يستوفه، فهل المطالبة به في الآخرة له أو لولده؟

قال بعض أصحاب أحمد: المطالبة للابن، لأن الأرث انتقل عن الأب إلى الابن فصار الحق له.

قلت: وفي هذا نظر، وينبغي التفصيل، فإن كان الموروث قد عجز عن استيفائه وتعذر عليه. فقد وجب أجره له. وله حق المطالبة لا للابن لأن الأرث انتقل عن الأب إلى يوم القيامة والحقوق الأخروية لا تورث وإن أمكنه المطالبة به فلم يطالب به حتى مات. انتقل إلى الولد، فإذا لم يوفه إياه كان حق المطالبة به للولد. وقد قال بعض الناس: إنه إذا لم يوف الميت ولا وارثه حتى مات الوارث وورثه آخر، ثبتث المطالبة لكل واحد منهم. وتضاعفت عليه المطالبة لاستحقاق كل واحد منهم ذلك الحق عليه.

فائدة: سر اشتمال الم على هذه الحروف الثلاثة

تأمل سرًا: { الم } كيف اشتملت على هذه الحروف الثلاثة فالألف إذا بدأ بها أولا كانت همزة، وهي أول المخارج من أقصى الصدر واللام من وسط مخارج الحروف، وهي أشد الحروف اعتمادًا على اللسان والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم. وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف، أعني الحلق واللسان والشفتين. وترتيب في التنزيل من البداية إلى الوسط إلى النهاية. فهذه الحروف معتمد المخارج الثلاثة التي تتفرع منها ستة عشر مخرجًا، فيصير منها تسعة وعشرون حرفًا عليها مدار كلام الأمم الأولين والآخرين مع تضمنها سرًا عجيبًا. وهو أن للألف البداية واللام التوسط والميم النهاية، فاشتملت الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما. وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة فهي مشتملة على بدء الخلق ونهايته وتوسطه، فمشتملة على تخليق العالم وغايته وعلى التوسط بين البداية والنهاية من التشريع والأوامر. فتامل ذلك في البقرة وآل عمران وتنزيل السجدة وسورة الروم.

وتأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن، فإن الطاء جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها، وهي الجهر والشدة والاستعلا والإطباق والسين مهموس رخو مستفل صفيري منفتح، فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء، فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف.

وتأمل السور التي اشتملت على الحروف المفردة. كيف تجد السورة مبنية على كلمة ذلك الحرف، فمن ذلك ق والسورة مبنية على الكلمات القافية من ذكر القرآن وذكر الخلق وتكرير القول ومراجعته مرارًا والقرب من ابن آدم وتلقي الملكين قول العبد وذكر الرقيب وذكر السائق والقرين والإلقاء في جهنم والتقديم بالوعيد وذكر المتقين وذكر القلب والقرون والتنقيب في البلاد وذكر القيل مرتين وتشقق الأرض وإلقاء الرواسي فيها وبسوق النخل والرزق وذكر القوم وحقوق الوعيد. ولو لم يكن إلا تكرار القول والمحاورة. وسر آخر وهو أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلو والانفتاح.

وإذا أردت زيادة إيضاح هذا فتأمل ما اشتملت عليه سورة ص من الخصومات المتعددة، فأولها خصومة الكفار مع النبي وقولهم: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إلى آخر كلامهم، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصم الملأ الأعلى في العلم وهو الدرجات والكفارات، ثم مخاصمة إبليس واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لأدم، ثم خصامه ثانيًا في شأن بنيه وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم.

فليتأمل اللبيب الفطن هل يليق بهده السورة غير ص وبسورة ق غير حرفها. وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف والله أعلم.

فوائد من السياسة الشرعية نص عليها الإمام أحمد

قال في رزاية المروذي وابن منصور: المخنث ينفى، لأنه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له. وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله وإن خاف عليهم حبسه.

ونقل حنبل عنه فيمن شرب خمرًا في نهار رمضان أو أتى شيئًا نحو هذا أقيم عليه الحد وغلظ عليه مثل الذي قتل في الحرم دية وثلث.

ونقل حرب عنه إذا أتت المرأة المرأة يعاقبان ويؤدبان.

وقال أصحاب أحمد: إذا رأى الإمام تحريق اللوطي بالنار فله ذلك إذا رأى، لأن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلًا ينكح كما تنكح المرأة، فاستشار أصحاب النبي وفيهم علي بن أبي طالب وكان أشدهم قولًا. فقال: إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا واحدة، فصنع الله بهم ما قد علمتم أرى أن يحرقوا بالنار فأجمع رأي أصحاب رسول الله على أن يحرقوا بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقوا، ثم حرقهم ابن الزبير ثم حرقهم هشام بن عبد الملك.

ونص أحمد فيمن طعن في الصحابة، على أنه قد وجب على السلطان عقوبته، وليس للسلطان أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه فإن تاب وإلا أعاد عليه العقوبة.

(فتاوى عن ابن عقيل)

فائدة: الإخلاص في العمل

قال ابن عقيل: شاهدت شيخنا ومعلمنا المناظرة أن أبا إسحاق الفيروزابادي لا يخرج شيئًا إلى فقير إلا أحضر النية، ولا يتكلم في مسألة إلا قدم الاستعانة بالله وإخلاص القصد في نصرة الحق دون التزين والتحسين للخلق، ولا صنف مسألة إلا بعد أن صلى ركعات فلا جرم شاع اسمه واشتهرت تصانيفه شرقًا وغربًا، هذه بركات الإخلاص.

فائدة: تقبيل يد السلطان

عوتب ابن عقيل في تقبيل يد السلطان حين صافحه. فقال: أرأيتم لو كان والدي فعل ذلك فقبلت يده أكان خطأ أم واقعًا موقعه. قالوا: بلى. قال: فالأب يربي ولده تربية خاصة والسلطان يربي العالم تربية عامة، فهو بالإكرام أولى، ثم قال: وللحال الحاضرة حكم من لابسها. وكيف يطلب من المبتلى بحال ما يطلب من الخالي عنها.

فائدة: كفر تارك الصلاة

أورد إلكيا الهراسي سؤالًا على القول بكفر تارك الصلاة، وزعم أنه لا جواب عنه، فقال: إذا أراد هذا الرجل معاودة الإسلام فبماذا يسلم، فإنه لم يترك كلمة الإسلام؟

فأجابه ابن عقيل بأن قال: إنما كان كفره بترك الصلاة لا بترك الكلمة، فهو إذا عاود فعل الصلاة صارت معاودته للصلاة إسلامًا. فإن الدال على إسلام الكافر الكلمة أو الصلاة.

قلت: وهذا الذي ذكره كِيا يرد عليه في كل من كفر بشيء من الأشياء، مع إتيانه بالشهادتين وتلك صور عديدة.

فائدة: لا موت في الجنة

سأل سائل فقال: إذا كانت الجنة لا موت فيها، فكيف يأكلون فيها لحم الطير وهو حيوان قد فارقته الروح.

فأجيب: بأنه يجوز أن لا يكون ميتًا، وهذا جواب في غاية الغثاثة.

قال ابن عقيل: وما الذي أحوجه إلى هذا، والجنة دار لا يخلق فيها أذى ولا نصب لا مطلقًا. بل لا يدخل الداخل إليها ذلك على طريق الإكرام، كما قال تعالى: { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى }، 257 وذلك مشروط بالطاعة، فإذا جاز ذلك في حق آدم علم أنه ليس بواجب في حق الطير ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يكون هذا الطائر مشويًا لا عن روح خرجت منه أو عن روح خرجت خارج الجنة، وولج الجنة وهو لحم مشوي.

قلت: وما الذي أوجب هذا التكلف كله، فالجنة دار الخلود لأهلها وسكانها. وأما الطير فهو نوع من أنواع الأطعمة التي يحدثها الله لهم شيئًا بعد شيء فهو دائم النوع، وإن كان آحاده متصرمة كالفاكهة وغيرها، وقد ثبت عن النبي أن المؤمنين ينحر لهم يوم القيامة ثور الجنة الذي كان يأكل منها، فيكون نزلهم. فهذا حيوان قد كان يأكل من الجنة فينحر نزلًا لأهلها والله أعلم.

فائدة: الدنيا سجن المؤمن

الدنيا سجن المؤمن فيه تفسيران صحيحان.

أحدهما: أن المؤمن قيده إيمانه عن المحظورات والكافر مطلق التصرف.

الثاني: أن ذلك باعتبار العواقب. فالمؤمن لو كان أنعم الناس، فذلك بالإضافة إلى مآله في الجنة كالسجن. والكافر عكسه فإنه لو كان أشد الناس بؤسًا، فذلك بالنسبة إلى النار جنته.

فائدة: المبالغة في المدح

سأل تلميذ أستاذه أن يمدحه في رقعة إلى رجل ويبالغ في مدحه بما هو فوق رتبته. فقال: لو فعلت ذلك لكنت عند المكتوب إليه، إما مقصرًا في الفهم حيث أعطيتك فوق حقك، أو متهمًا في الإخبار، فأكون كذابًا، وكلا الأمرين يضرك، لأني شاهدك، وإذا قدح في الشاهد بطل حق المشهود له.

فائدة: مخالفة العادات

قال قائل: أراني إذا دعيت باسمي دون لقبي شق ذلك علي جدًا بخلاف السلف، فإنهم كانوا يدعون بأسمائهم. فقيل له: هذا لمخالفة العادات، لأن أنس النفوس بالعادة طبيعة ثابتة، ولأن الاسم عن السلف لم يكن عندهم دالًا على قلة رتبة المدعو. واليوم صارت المنازل في القلوب تعلم بإمارة الاستدعاء، فإذا قصر دل على تقصير رتبته فيقع السخط لما وراء الاستدعاء، فلما صارت المخاطبات موازين المقادير شق على المحطوط من رتبته قولًا كما يشق عليه فعلًا.

فائدة: الدعاء والدواء

سمع بعض أهل العلم رجلًا يدعو بالعافية فقال له: يا هذا استعمل الأدوية وادع بالعافية، فإن الله تعالى إذا كان قد جعل إلى العافية طريقًا وهو التداوي، ودعوته بالعافية ربما كان جوابه قد عافيتك بما جعلته ووضعته سببًا للعافية، وما هذا إلا بمثابة من بين زرعه وبين الماء ثلمة يدخل منها الماء يسقي زرعه، فجعل يصلي ويستسقي لزرعه ويطلب المطر مع قدرته على فتح تلك الثلمة لسقي زرعه. فإن ذلك لا يحسن منه شرعًا ولا عقلًا ولم يكن ذاك إلا لأنه سبق بإعطاء الأسباب فهو إعطاء بأحد الطريقين. وله أن يعطي بسبب وبغير سبب، وبالسبب ليتبين به ما أفاض من صنعه وما أودع قي مخلوفاته من القوى والطبائع والمنافع، وإعطاؤه بغير سبب ليتبين للعباد أن القدرة غير مفتقرة إلى واسطة في فعله، فإذا دعوته بالعافية فاستنقذ ما أعطاك من العتائد والأرزاق، فإن وصلت بها وإلا فاطلب طلب من أفلس من مطلوبه فرغب إلى المعدن كما قال سيد الخلائق: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك».

قلت: هذا كلام حسن وأكمل منه أن يبذل الأسباب ويسأل سؤال من لم يدل بشيء البتة. والناس في هذا المقام أربعة أقسام:

فأعجزهم من لم يبذل السبب ولم يكثر الطلب فذاك أمهن الخلق.

والثاني: مقابله وهو أحزم الناس من أدلي بالأسباب التي نصبها الله مفضية إلى المطلوب. وسأل سؤال من لم يدل بسبب أصلًا، بل سؤال مفلس بائس ليس له حيلة ولا وسيلة.

الثالث: من استعمل الأسباب وصرف همته إليها وقصر نظره عليها فهذا وإن كان له حظ مما رتبه الله عليها لكنه منقوص منقطع نصب الآفات والمعارضات، لا يحصل له إلا بعد جهد فإذا حصل فهو وشيك الزوال سريع الانتقال غير معقب له توحيدًا ولا معرفة ولا كان سببًا لفتح الباب بينه وبين معبوده.

الرابع: مقابلة وهر رجل نبذ الأسباب وراء ظهره وأقبل على الطلب والدعاء والابتهال، فهذا يحمد في موضع ويذم في موضع ويشينه الأمر في موضع. فيحمد عند كون تلك الأسباب غير مأمور بها إذ فيها مضرة في دينه فإذا تركها وأقبل على السؤال والابتهال والتضرع لله كان محمودًا. ويذم حيث كانت الأسباب مأمورًا بها، فتركها وأقبل على الدعاء كمن حصره العدو وأمر بجهاده فترك جهاده وأقبل على الدعاء والتضرع أن يصرفه الله عنه، وكمن جهده العطش وهو قادر على تناول الماء فتركه وأقبل يسأل الله تعالى أن يرويه، وكمن أمكنه التداوي الشرعي فتركه وأقبل يسأل العافية ونظائر هذا. ويشتبه الأمر في الأسباب التي لا يتبين له عواقبها، وفيها بعض الاشتباه، ولها لوازم قد يعجز عنها وقد يتولد عنها ما يعود بنقصان دينه. فهذا موضع اشتباه وخطر. والحاكم في ذلك كله الأمر فإن خفي فالاستخارة وأمر الله وراء ذلك.

فائدة: إذا تزوج العبد حرة

قال أحمد: إذا تزوج العبد حرة عتق نصفه. ومعنى هذا، أن أولاده يكونون أحرارًا وهم فرعه، فالأصل عبد وفرعه حر والفرع جزء من الأصل.

فائدة: رد الحق والتهاون

حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوء.

أحدهما: رد الحق لمخالفته هواك، فإنك تعاقب بتقليب القلب ورد ما يرد عليك من الحق رأسًا ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك. قال تعالى: { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة }، 258 فعاقبهم على رد الحق أول مرة، بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك.

والثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته فإنك إن تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك. قال تعالى: { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدًا ولن تقاتلوا معي عدوًا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين }. 259 فمن سلم من هاتين الآفتين والبليتين العظيمتين فليهنه السلامة.

فائدة: فتوى ابن جرير في طلاق

وقعت حادثة في أيام ابن جرير. وهي أن رجلًا تزوج امرأة فأحبها حبًا شديدًا وأبغضته بغضًا شديدًا، فكانت تواجهه بالشتم والدعاء عليه. فقال لها يومًا: أنت طالق ثلاثًا لا تخاطبيني بشيء إلا خاطبتك بمثله. فقالت له في الحال: أنت طالق ثلاثًا بتاتًا، فأبلس الرجل ولم يدر ما يصنع فاستفتى جماعة من الفقهاء. فكلهم قال: لا بد أن تطلق فإنه إن أجابها بمثل كلامها طلقت. وإن لم يجبها حنث وطلقت، فإن بر طلقت وإن حنث طلقت. فأرشد به إلى ابن جرير فقال له: امض ولا تعاود الإيمان، وأقم على زوجتك بعد أن تقول لها أنت طالق ثلاثًا إن أنا طلقتك فتكون قد خاطبتها بمثل خطابها لك فوفيت بيمينك ولم تطلق منك لما وصلت به الطلاق من الشرط. فذكر ذلك لابن عقيل فاستحسنه. وقال وفيه وجه آخر لم يذكره ابن جرير وهو أنها قالت له: أنت طالق ثلاثًا بفتح التاء وهو خطاب تذكير، فإذا قال لها: أنت بفتح التاء لم يقع به طلاق.

قلت: وفيه وجه آخر أحسن من الوجهين وهو جار على أصول المذهب، وهو تخصيص اللفظ العام بالنية، كما إذا حلف لا يتغدى ونيته غداء يومه قصر عليه. وإذا حلف لا يكلمه ونيته تخصيص الكلام بما يكرهه، لم يحنث إذا كلمه بما يحبه ونظائره كثيرة. وعلى هذا فنياط الكلام صريح أو كالصريح في أنه إنما أراد أنها لا تكلم بشتم أو سب أو دعاء، أو ما كان من هذا الباب إلا كلمها بمثله. ولم يرد أنها إذا قالت له: اشتر لي مقنعة أو ثوبًا أن يقول لها اشتري لي ثوبًا أو مقنعة وإذا قالت له: لا تشتر لي كذا فإني لا أحبه أن يقول لها مثله. هذا مما يقطع أن الحالف لم يرده، فإذا لم يخاطبها بمثله لم يحنث. وهكذا يقطع بأن هذه الصورة المسؤولع عنها لم يردها ولا كان بساط الكلام يقتضيها ولا خطرت بباله، وإنما أراد ما كان من الكلام الذي هيج يمينه وبعثه على الحلف. ومثل هذا يعتبر عندنا في الإيمان.

فائدة: تفسير آية إذا الشمس كورت

قرأ قارىء: { إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت * وإذا الجبال سيرت }، 260 وفي الحاضرين أبو الوفاء بن عقيل. فقال له قائل: يا سيدي هب أنه أنشر الموتى للبعث والحساب وزوج النفوس بقرنائها بالثواب والعقاب فلم هدم الأبنية وسير الجبال ودك الأرض وفطر السماء ونثر النجوم وكور الشمس. فقال: إنما بنى لهم الدار للسكنى والتمتع وجعلها وجعل ما فيها للاعتبار والتفكر والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر، فلما انقضت مدة السكنى وأجلاهم من الدار خربها لانتقال الساكن منها. فأراد أن يعلمهم بأن الكونين كانت معمورة بهم وفي إحالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال وبيان المقدرة بعد بيان العزة وتكذيب لأهل الإلحاد وزنادقة المنجمين وعباد الكواكب والشمس والقمر والأوثان، فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، فاذا رأوا آلهتهم قد انهدمت وأن معبوداتهم قد انتثرت وانفطرت ومحالها قد تشققت. ظهرت فضائحهم وتبين كذبهم وظهر أن العالم مربوب محدث مدبر له رب يصرفه كيف يشاء تكذيبًا لملاحدة الفلاسفة. القائلين بالقدم، فكم لله من حكمة في هدم هذه الدار ودلالة على عظم عزته وقدرته وسلطانه وانفراده بالربوية وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره وإذعانها لمشيئته، فتبارك الله رب العالمين.

فائدة: حشر الوحوش

الدليل على حشر الوحوش وجوه:

أحدها: قوله تعالى: { وإذا الوحوش حشرت }. 261

الثاني: قوله تعالى: { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون }. 262

الثالث: حديث مانع صدقة الإبل والبقر والغنم وإنها تجيء يوم القيامة أعظم ما كانت واسمنه تنطحه بقرونها وتطاؤه بأظلافها وهو متفق على صحته.

الرابع: حديث أبي ذر أن النبي رأى شاتين ينتطحان فقال: «يا أبا ذر أتدري فيما ينتطحان؟» قال: قلت: لا، قال: «لكن الله يدري وسيقضي بينهما». رواه أحمد في مسنده.

الخامس: الآثار الواردة في قوله تعالى: { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابًا }، 263 وأن الله تعالى يجمع الوحوش ثم يقتص من بعضها لبعض ثم يقول لها: كوني ترابًا فتكون ترابًا فعندها يقول الكافر: { يا ليتني كنت ترابًا }.

فائدة: الحكمة في التشديد أول التكليف والتيسير آخره

تأمل الحكمة في التشديد في أول التكليف ثم التيسير في آخره بعد توطين النفس على العزم والامتثال، فيحصل للعبد الأمر أن الأجر على عزمه، وتوطين نفسه على الامتثال والتيسير والسهولة بما خفف الله عنه. فمن ذلك أمر الله تعالى رسوله بخمسين صلاة ليلة الإسراء، ثم خففها وتصدق بجعلها خمسًا. ومن ذلك. أنه أمر أولًا، بصبر الواحد إلى العشرة ثم خفف عنهم ذلك إلى الاثنين، ومن ذلك أنه حرم عليهم في الصيام إذا نام أحدهم أن يأكل بعد ذلك أو يجامع، ثم خفف عنهم بإباحة ذلك إلى الفجر. ومن ذلك أنه أوجب عليهم تقديم الصدقة بين يدي مناجاة رسوله ، فلما وطنوا له أنفسهم على ذلك خففه عنهم. ومن ذلك تخفيف الاعتداد بالحول بأربعة أشهر وعشرًا. وهذا كما قد يقع في الابتلاء بالأوامر فقد يقع في الابتلاء بالقضاء، والقدر يشدد على العبد أولا ثم يخفف عنه، وحكمة تسهيل الثاني بالأول وتلقي الثاني بالرضى وشهود المنة والرحمة. وقد يفعل الملوك ببعض رعاياهم قريبًا من هذا. فهؤلاء المصادرون يطلب منهم الكثير جدًا الذي ربما عجزوا عنه، ثم يحطون إلى ما دونه لتطوع لهم أنفسهم بذله ويسهل عليهم. وقد يفعل بعض الحمالين قريبًا من هذا، فيزيدون على الحمل شيئًا لا يحتاجونه إليها، ثم يحط تلك الأشياء فيسهل حمل الباقي عليهم.

والمقصود أن هذا باب من الحكمة خلقًا وأمرًا ويقع في الأمر والقضاء. والقدر أيضا ضد هذا فينقل عباده بالتدريج من اليسير إلى ما هو أشد منه، لئلا يفجأ هذا التشديد بغتة فلا تحمله ولا تنقاد له، وهذا كتدريجهم في الشرائع شيئًا بعد شيء دون أن يؤمروا بها كلها وهلة واحدة. وكذلك المحرمات.

ومن هذا أنهم أمروا بالصلاة أولا ركعتين ركعتين، فلما ألفوها زيد فيها ركعتين أخريين في الحضر. ومن هذا أنهم أمروا أولا بصيام وخيروا فيه بين الصوم عينًا وبين التخيير بينه وبين الفدية، فلما ألفوه أمروا بالصوم عينًا. ومن هذا أنهم أذن لهم بالجهاد أولا من غير أن يوجبه عليهم فلما توطنت عليهم نفوسهم وباشروا حسن عاقبته وثمرته أمروا به فرضًا. وحكمة هذا التدريج التربية على قبول الأحكام والإذعان لها والانقياد لها شيئًا فشيئًا. وكذلك يقع مثل هذا في قضائه وقدره مقدر على عبده، بل لا بد منه اقتضاه حمده وحكمته فيبتليه بالأخف أولا ثم يرقيه إلى ما هو فوقه حتى يستكمل ما كتب عليه منه. ولهذا قد يسعى العبد في أول البلاء في دفعه وزواله ولا يزداد إلا شدة لأنه كالمرض في أوله وتزايده. فالعاقل يستكين له أولا وينكسر وبذل لربه ويمد عنقه خاضعًا ذليلًا لعزته، حتى إذا مر به معظمه وغمرته وأذن ليله بالصباح، فإذا سعى في زواله ساعدته الأسباب. ومن تأمل هذا في الخلق انتفع به انتفاعًا عظيمًا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فائدة: امرأة طلبت الطلاق من زوجها

رجل قالت له زوجته أريد منك أن تطلقني فقال لها إن كنت تريدين أن أطلقك فأنت طالق فهل يقع الطلاق أو لا بد من إخبارها عن إرادة مستقبلة؟

قال بعض الفقهاء: لا بد من إرادة مستقبلة عملًا بمقتضى الشرط. وأن تأثيره إنما هو في المستقبل.

وقال بعضهم: بل تطلق بذلك اكتفاء بدلالة الحال على أنه إنما أراد بذلك، إجابتها إلى ما سألته من طلاقها المراد لها فأوقعه معلقًا له بإرادتها التي أخبرته بها. هذا هو المفهوم من الكلام لا يفهم الناس غيره.

وقال ابن عقيل: ظاهر الكلام ووضعه يدل على إرادة مستقبلة، ودلالة الحال تدل على أنه أراد إيقاعه لأجل الإرادة التي أخبرته بها ولم يزد.

قلت: وكأنه ترجيح منه للوقوع اكتفاء بدلالة الحال على ما هو المعهود من قواعد المذهب ولفظ الشرط، في مثل هذا لا يستلزم الاستقبال، وقد جاء مرادًا به الشسروط المقارن للتعليق وهو كثير في أفصح الكلام كقوله تعالى: { وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين }، 264 وقوله: { واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون }، 265 وقوله تعالى: { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين }، 266 وقول مريم: { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا }، 267 وهو كثير جدًا. ولما كان ما يتلو أداة الشرط في هذا لا يراد به المستقبل، بل يراد الحال والماضي. قال بعض النحاة: إن فيه بمعنى إذا التي تكون للماضي. وقال غيره: إنها للتعليل. والتحقيق فيها أنها للشرط على بابها والشرط في ذلك داخل الكون المستمر المطلوب دوامه واستمراره. دون تقيده بوقت دون وقت فتأمله.

فائدة: النية وطهارة الماء

استدل على أن النية لا تشترط في طهارة الماء بأن الماء خلق على صفات وطبيعة لا يحتاج في حصول أثرها إلى النية، وخلق طهورًا وخلق مرويًا وخلق مبردًا سائلًا، كل ذلك طبعه ووصفه الذي جعل عليه، فكما أنه لا يحتاج إلى النية في حصول الري والتبريد به، فكذلك في حصول التطهير يوضحه أنه خلق طاهرًا أو طهورًا وطاهريته لا تتوقف على نية، فكذلك طهوربته يزيده إيضاحًا أن عمله في أقوى الطهارتين. وهي طهارة الخبث لا تتوقف على نية فعدم توقف عمله على النية في الطهارة الأخرى أولى، وإنما قلنا إنها أقوى الطهارتين، لأن سببها وموجبها أمر حسي. وخبث مشاهد، ولأنه لا بد لها من التراب فقد ظهرت قوتها حسًا وشرعًا يزيده بيانًا. قوله : «خلق الماء طهورًا» صريح في أنه مخلوق على هذه الصفة وطهورًا منصوب على الحال، أي خلق على هذه الحالة من كونه طهورًا وإن كانت حالًا لازمة، فهي كقولهم: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها، فهذه الصفة وهي الطهورية مخلوقة معه نويت أو لم تنو.

والاستدلال بهذا قريب من الاستدلال بقوله تعالى: { وأنزلنا من السماء ماء طهورًا }، 268 يوضح ذلك أيضا، أن النية إن اعتبرت بجريان الماء على الأعضاء فهو حاصل نوى أو لم ينو، وإن اعتبر الحصول الوضاءة والنظافة، فكذلك لا يتوقف حصولها على نية وإن اعتبرت لإزالة الحدث المتعلق بالأعضاء. فقد بينا أن الخبث المتعلق بها أقوى من الحدث وزوال هذا الأقوى لا يتوقف على النية، فكيف للأضعف.

يوضحه أيضا أنا رأينا الشريعة قد قسمت أفعال المكلفين إلى قسمين.

قسم: يحصل مقصوده والمراد منه بنفس وقوعه فلا يعتبر في صحة نية كأداء الديون ورد الأمانات والنفقات الواجبة وإقامة الحدود وإزالة النجاسات وغسل الطيب عن المحرم واعتداد المفارقة وغير ذلك. فإن مصالح هذه الأفعال حاصلة بوجودها، ناشئة من ذاتها، فإذا وجدت حصلت مصالحها فلم تتوقف صحتها على نية.

القسم الثاني: ما لا يحصل مراده ومقصوده منه بمجرده، بل لا يكفي فيه بمجرد صورته العارية عن النية، كالتلفظ بكلمة الإسلام والتلبية في الإحرام. وكصورة التيمم والطواف حول البيت، والسعي بين الصفا والمروة والصلاة والاعتكاف والصيام. ولما كان إزالة الخبث من القسم الأول اكتفى فيه بصورة الفعل لحصول مقصوده.

وقد عللنا أن المراد من الوضوء النظافة والوضاءة وقيام العبد بين يدي الرب تبارك وتعالى على أكمل أحواله مستور العورلة متجنبًا للنجاسة نظيف الأعضاء وضيئها. وهذا حاصل بإتيانه بهذه الأفعال نواها أو لم ينوها.

يوضحه: أن الوضوء غير مراد لنفسه، بل مراد لغيره، والمراد لغيره لا يجب أن ينوي لأنه وسيلة. وإنما تعتبر النية في المراد لنفسه إذ هو المقصود المراد. ولهذا كانت نية قطع المسافة في الحج والجمعة غير واجبة ولا تتوقف الصحة عليها، وكذلك نية شراء الماء وشراء العبد في عتق الكفارة وشراء الطعام فيها غير واجبة، إذ هذه وسائل مرادة لغيرها. وكذلك الوضوء وسيلة تراد للصلاة فهي كطهارة المكان والثياب.

يوضحه أيضا: أن النية لو اعتبرت في الوضوء لاعتبرت في سائر شروط الصلاة كستر العورة وإزالة النجاسة وغيرهما، ولا أرى منازعي القوم يتمكنون من الجواب عن هذه الكلمات بجواب شاف، وهذه أجوبتهم في طريقهم. فعليك بمراجعتها.

ونحن لا نرتضي هذا الرأي، ولكن لم نر استدلال منازعتهم وأجوبتهم لهم أقوى من هذه الأدلة وما ذاك لضعف المسألة من جانبهم، ولكن لأن الكلام في مسألة النية شديد الارتباط بأعمال القلوب ومعرفة مراتبها وارتباطها بأعمال الجوارح وبنائها عليها وتأثيرها فيها صحة وفسادًا، وإنما هي الأصل المراد المقصود وأعمال الجوارح تبع ومكملة ومتممة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات، وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث.

فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح إذ هي أصلها وأحكام الجوارح متفرعة عليها. وكذلك أيضا لا يتحقق الكلام في المسألة إلا بعد معرفة حقيقة النية. وهل هي من جنس المعلوم والتصورات، أو من جنس الإرادات والعزوم أو حقيقتها مركبة من الأمرين، وأما من قدر انبساطها وانقسامها على حروف معينة. لكل حرف منها جزء من أجزاء النية، فلم يحصل معنى النية فضلًا عن أن يتمكن من ردة قول منازعه في اعتبارها. وكذلك من ظن أنها لا تتحقق إلا بجريان ألفاظ من اللسان يخبر بها عنها، لم يحصل أيضا معناها فيجب أن نعلم حقيقتها أولا ومنزلها من أعمال القلوب، وإنه مستحيل عليها الانبساط والانقسام، وأنه لا مدخل للألفاظ البتة. ويفرق بين النية المتعلقة بالمعبود التي هي من لوازم ا الإسلام وموجباته، بل هي روحه وحقيقته التي لا يقبل الله من عامل عملًا بدونها البتة. وبين النية المتعلقة بنفس العمل التي وقع فيها النزاع في بعض المواضع ثم يعرف ارتباطها بالعمل، وكيف قصد به تمييز العبادة عن العادة إذ كانا في الصورة واحدًا، وإنما يتميزان بالنية، فإذا عدمت النية كان العمل عاديًا لا عباديًا والعادات لا يتقرب بها إلى بارىء البريات وفاطر المخلوقات، فإذا عري العمل عن النية كان كالأكل والشرب والنوم الحيواني البهيمي الذي لا يكون عبادة بوجه، فضلًا أن يؤمر به ويرتب عليه الثواب والعقاب والمدح والذم وما كان هذا سبيله لم يكن من المشروع المتقرب به إلى الرب تبارك وتعالى، ولذلك يقصد بها تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض فيميز فرضها عن نفلها ومراتبها بعضها عن بعض، وهذه أمور لا تحقق لها إلا بالنية ولا قوام لها بدونها البتة. وهي مرادة للشارع بل هي وظائف العبودية، فكيف يؤدي وظائف العبودية من لا يخطر بباله التمييز بين العبادات والعادات، ولا التمييز بين مراتب تلك الوظائف ومنازلها من العبودية هذا أمر ممتنع عادة وعقلًا وشرعًا، فالنية هي سر العبودية وروحها ومحلها من العمل محل الروح من الجسد ومحال أن يعتبر في العبودبة عمل الأرواح له معه، بل هو بمنزلة الجسد الخراب وهذا معنى الأثر المروي موقوفًا على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، لا عمل لمن لا نية له ولا أجر لمن لا حسنة له. وقد قال تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين }، 269 فنهى سبحانه أن يكون أمر عباده بغير العبادة التي قد أخلص عاملها له فيها النية، ومعلوم أن إخلاص النية للمعبود أصل لنية أصل العبادة، فإذا لم يأمرهم إلا بعمل هو عبادة قد أخلص عاملها النية فيها لربه عز وجل. ومعلوم أن النية جزء من العبادة بل هي روح العبادة كما تبين، علم أن العمل الذي لم ينو ليس بعبادة ولا مأمور به فلا يكون فاعله متقربًا به إلى الله تعالى، وهذا مما لا يقبل نزاعًا.

ومن نكت المسألة أن يفرق بين الأفعال التي لا تقع إلا منوية عادة، وبين الأفعال التي تقع منوية وغير منوية فالأولى كالوضوء المرتب عضوًا بعد عضو، فإنه لا يكاد يتصور وقوعه من غير نية، فإن علم الفاعل بما يفعله وقصده له هو النية. والعاقل المختار لا يفعل فعلًا إلا مسبوقًا بتصوره وإرادته وذلك حقيقة النية، فليست النية أمرًا خارجًا عن تصور الفاعل وقصده لما يريد أن يفعله.

وبهذا يعلم غلط من ظن أن للتلفظ مدخلًا في تحصيل النية. فإن القائل: إذا قال: نويت الصلاة الظهر أو نويت رفع الحدث، إما أن يكون مخبرًا أو منشئًا. فإن كان مخبرًا فإما أن يكون إخباره لنفسه أو لغيره، وكلاهما عبث لا فائدة فيه، لأن الإخبار إنما يفيد إذا تضمن تعريف المخبر ما لم يكن عارفًا به، وهذا محال في إخباره لنفسه وإن كان إخبارًا لغيره بالنية فهو عبث محض وهو غير مشروع ولا مفيد وهو بمثابة إخباره له بسائر أفعاله من صومه وصلاته وحجه وزكاته، بل بمنزلة إخباره له عن إيمانه وحبه وبغضه، بل قد تكون في هذا الإخبار فائدة. وأما إخبار المأمومين أو الإمام أو غيرهما بالنية فعبث محض، ولا يصح أن يكون ذلك إنشاء، فإن اللفظ لا ينشىء وجود النية، وإنما انشاؤها إحضار حقيقتها في القلب لا إنشاء اللفظ الدال عليها. فعلم بهذا أن التلفظ بها عبث محض، فتأمل هذه النكتة البديعة.

والمقصود أن مثل هذه الأفعال المرتبة التي لا تقع إلا عن علم وقصد لا تكون إلا منوية. وهذا بخلاف الاغتسال مثلًا فإنه قد يقع لتنظيف أو تبريد ونحوهما، فإن لم يقصد به رفع حدثه لم يكن منويًا.

وكذلك أفعال الصلاة المرتبة التي يتبع بعضها بعضًا لا تقع إلا منوية. ولو تكلف الرجل أن يصلي أو يتوضأ بغير نية لتعذر عليه ذلك، بل يمكن تصوره فيما إذا قصد تعليم غيره، ولم يقصد العبادة أو صلى وتوضأ مكرهًا. وأما عاقل مختار عالم بما يفعله يقع فعله علي وفق قصده فهذا لا يكون إلا منويًا. فالنية هي القصد بعينه ولكن بينها وبين القصد فرقان:

أحدهما: أن القصد معلق بفعل الفاعل نفسه وبفعل غيره. والنية لا تتعلق إلا بفعله نفسه فلا يتصور أن ينوي الرجل فعل غيره ويتصور أن يقصده ويريده.

الفرق الثاني: إن القصد لا يكون إلا بفعل مقدور يقصده الفاعل. وأما النية فينوي الإنسان ما يقدر عليه وما يعجز عنه. ولهذا في حديث أبي كبشة الأنماري الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن النبي : «إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مالًا وعلمًا فهو يتقي في ماله ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقًا فهذا بأفضل المنازل عند الله، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا فهو يقول لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته وأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا فذلك شر منزلة عند الله» ثم قال: «وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا فهو يقول لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته وهما في الوزر سواء».

فالنية تتعلق بالمقدور عليه والمعجوز عنه، بخلاف القصد والإرادة فإنهما لا يتعلقان بالمعجوز عنه لا من فعله ولا من فعل غيره، وإذا عرف حقيقة النية ومحلها من الإيمان شرائعه، تبين الكلام في المسألة نفيًا وإثباتًا بعلم وإنصاف. ولنذكر كلامهم وما فيه من مقبول ومردود.

فأما قولهم: إن الماء خلق بطبعه مبردًا ومرويًا وسائلًا ومطهرًا، وحصول هذه الآثار منه لا تفتقر إلى نية إلى آخره.

فيقال: إن أردتم بكونه مطهرًا بطبعه أنه منظف لمحل التطهير فمسلم. ولكن نزاعنا في أمر وراءه. وإن أردتم أنه يفتتح به الصلاة ويرفع المانع الذي جعله الشارع صادًا عن الدخول فيها بطبعه من غير اعتبار نية فدعوى مجردة لا يمكنهم تصحيحها البتة. بل هي بمثابة قول القائل استعماله عبادة بمجرد طبعه، فحصول التعبد والثواب به لا يحتاج إلى نية وهذا بين البطلان، وهذا حرف المسألة. وهو أن التعبد به مقصود وهو متوقف على النية والمقدمتان معلومتان مغنيتان عن تقرير.

وقد أجابهم بعض الناس بأن منع أن يكون في الماء قوة أو طبع. وقال: هذا مبني على إثبات القوى والطبائع في المخلوقات وأهل الحق ينكرونه. وهذا جواب فاسد. يرغب طالب الحق عن مثله وهو باطل طبعًا وحسًا وشرعًا وعقلًا، وأهل الحق هم المتبعون للحق أين كان والقرآن والسنة مملوان من إثبات الأسباب والقوى والعقلاء قاطبة على إثباتها، سوى طائفة من المتكلمين حملهم المبالغة في إبطال قول القدرية والنفاة على إنكارها جملة.

والذي يكشف سر المسألة أن التبريد والري والتنظيف حاصل بالماء ولو لم يرده وحتى لو أراد أن لا يكون. وأما التعبد لله بالوضوء فلا يحصل إلا بنية التعبد فقياس أحد الأمرين على الآخر من أفسد القياس. فالحاصل بطبع الماء أمر غير التعبد الذي هو مقوم لحقيقة الوضوء الذي لا يكون وضوءًا إلا به، وبهذا خرج الجواب عن قولهم إن عمله في رفع الخبث إذا لم يتوقف على نية، فإن لا يتوقف رفعه للحدث أولى فإن رفع الخبث أمر حسي مشاهد لا يستدعي أن يكون رافعه من أهل العبادة بل هو بمنزلة كنس الدار وتنظيف الطرقات وطرح المميتات والخبائث.

يوضحه: أن زوال النجاسة لا يفتقر إلى فعل من المكلف البتة، بل لو أصابها المطر فأزال عينها طهر المحل بخلاف الطهارة من الخبث، فإن الله أمر بأفعال متميزة لا يكون المكلف مؤديًا ما أمر به إلا بفعلها الاختياري الذي هو مناط التكليف، وبهذا خرج الجواب عن قولهم: النية إن اعتبرت لجريان الماء على الأعضاء أو لحصول الوضاءة لم يفتقر إلى نية.. إلى آخره.

قولهم: "الشريعة قسمت الأفعال إلى قسمين: قسم حصل منه مقصوده بمجرده من غير نية، وقسم لا يحصل إلا بالنية"؛ فمسلم.

قولهم: "إن الوضوء من القسم الأول" دعوى محل النزاع فلا يقبل.

قولهم في تقريرها: "المقصود الوضاءة والنظافة وقيام العبد بين يدي ربه على أكمل أحواله".

فجوابه: أن لله على العبد عبوديتين عبودية باطنة وعبودية ظاهرة، فله على قلبه عبودية، وعلى لسانه وجوارحه عبودية، فقيامه بسورة العبودية الظاهرة مع تعريه عن حقيقة العبودية الباطنة مما لا يقربه إلى ربه ولا يوجب له الثواب وقبول عمله. فإن المقصود امتحان القلوب وابتلاء السرائر، فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح. والنية هي عمل القلب الذي هو ملك الأعضاء. والمقصود بالأمر والنهي فكيف يسقط واجبه ويعتبر واجب رعيته وجنده واتباعه اللاتي إنما شرعت واجباتها لأجله ولأجل صلاحه؟ وهل هذا إلا عكس القضية وقلب الحقيقة؟

والمقصود بالأعمال كلها ظاهرها وباطنها، إنما هو صلاح القلب وكماله وقيامه بالعبودية بين يدي ربه وقيومه وإلهه، ومن تمام ذلك قيامه هو وجنوده في حضرة معبوده وربه، فإذا بعث جنوده ورعيته وتغيب هو عن الخدمة والعبودية فما أجدر تلك الخدمة بالرد والمقت. وهذا مثل في غاية المطابقة. وهل الأعمال الخالية عن عمل القلب إلا بمنزلة حركات العابثين؟ وغايتها أن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب.

ولما رأى بعض أرباب القلوب طريقة هؤلاء انحرف عنها هو إلى أن صرف همه إلى عبودية القلب وعطل عبودية الجوارح، وقال: المقصود قيام القلب بحقيقة الخدمة والجوارح تبع، والطائفتان متقابلتان أعظم تقابل. هؤلاء لا التفات لهم إلى عبودية جوارحهم ففسدت عبودية قلوبهم، وأولئك لا التفات لهم إلى عبودية قلوبهم ففسدت عبودية جوارحهم. والمؤمنون العارفون بالله وبأمره قاموا له بحقيقة العبودية ظاهرًا وباطنًا وقدموا قلوبهم في الخدمة وجعلوا الأعضاء تبعًا له فأقاموا الملك وجنوده في خدمة المعبود وهذا هو حقيقة العبودية.

ومن المعلوم أن هذا هو مقصود الرب تعالى بإرساله رسله وإنزاله كتبه وشرعه شرائعه، فدعوى المدعي أن المقصود من هذه العبودية حاصل وإن لم يصحبها عبودية القلب من أبطل الدعاوى وأفسدها والله الموفق.

ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح. وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما. وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام. والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان فمركب الإيمان القلب ومركب الإسلام الجوارح فهذه كلمات مختصرة في هذه المسألة لو بسطت لقام منها سفر ضخم، وإنما أشير إليها إشارة.

وحرف المسألة أن أعمال الجوارح إنما تكون عبادة بالنية. والوضوء عبادة في نفسه مقصود مرتب عليه الثواب وعلى تركه العقاب وكما يجب في العبادات إفراد المعبود تعالى عن غيره بالنية والقصد، فيكون وحده المقصود المراد، فكما أنه يجب في العبادات أفراد المعبود تعالى بها لا سواه، فكذلك يجب فيها تمييز العبادة عن العادة. ولا يقع التمييز بين النوعين اتحاد صورة العملين إلا بالنية، فعمل لا يصحبه إرادة المعبود غير مقبول ولا يعتد به، وكذلك عمل لا تصحبه إرادة التعبد له والتقرب إليه غير مقبول ولا معتد به بل نية التقرب. والتعبد جزء من نية الإخلاص ولا قوام لنية الإخلاص للمعبود إلا بنية التعبد، فإذا كان نية الإخلاص شرطًا في صحة كل أداء العبادة فاشتراط نية التعبد أولى وأحرى، ولا جواب عن هذا البتة، إلا بإنكار أن يكون الوضوء عبادة. وكذلك يلتحق بإنكار المعلوم من الشرغ بالضرورة، وهو بمنزلة انكار كون الصوم والزكاة والحج والجهاد وغيرهما عبادات والله الموفق للصواب.

فائدة: ميت لا يوجد له كفن

ذكر أحمد بن مروان المالكي عن ابن عباس أنه سئل عن ميت مات ولم يوجد له كفن. قال: يكب على وجهه ولا يستقبل بوجهه القبلة.

قلت: هذا بعيد الصحة عن ابن عباس، بل هو باطل، والصواب أنه يستر بحاجز من تراب ويوضع في لحده على جنبه مستقبل القبلة كما ينام العريان الذي نشر عليه ملاءة أو غيرها، وإذا كان عليه حاجز من تراب وهو مستقبل القبلة كان بمنزلة من عليه ثيابه.

فائدة: فوائد شتى

وذكر أيضا عن مجاهد، قال: جلست إلى عبد الله بن عمر وهو يصلي فخفف ثم سلم وأقبل إلي ثم قال: إن حقًا علي أو سنة إذا جلس الرجل إلى الرجل وهو يصلي التطوع أن يخفف ويقبل إليه.

وذكر أيضا عن ابن عباس. قال: ما من يوم إلا وليلته قبله إلا يوم عرفة فإن ليلته بعده.

قلت: هذا مما اختلف فيه. وحكي عن طائفة أن ليلة اليوم بعده. والمعروف عند الناس أن ليلة اليوم قبله ومنهم من فصل بين الليلة المضافة إلى اليوم كليلة الجمعة وليلة السبت والأحد وسائر الأيام والليلة المضافة إلى مكان أو حال أو فعل، كليلة عرفة وليلة النفر ونحو ذلك، فالمضافة إلى اليوم قبله والمضافة إلى غيره بعده، واحتجوا له بهذا الأثر المروي عن ابن عباس ونقض عليهم بليلة العيد، والذي فهمه الناس قديمًا وحديثًا من قول النبي : «لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ولا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي» أنها الليلة التي تسفر صبيحتها عن يوم الجمعة، فإن الناس يسارعون إلى تعظيمها وكثرة التعبد فيها عن سائر الليالي فنهاهم عن تخصيصها بالقيام كما نهاهم عن تخصيص يومها بالصيام والله أعلم.

قال أبو عبد الله الحاكم في كتابه الجامع لذكر أيمة الأمصار المزكين لرواة الأخبار: سمعت أبا تراب المذكر يقول: سمعت إبراهيم بن عبد الرحمن بن سهل يقول: سمعت العباس بن محمد الهاشمي. يقول: دخل يحيى بن معين مصر فاستقبلته هدايا أبي صالح كانت الليث وجارية ومائة دينار فقبلها ودخل مصر، فلما تأمل حديثه. قال: لا تكتبوا عن أبي صالح.

قال الحاكم: هذه من أجل فضائل يحيى إذ لم يحابّ أبا صالح وهو في بلده ونعمته.

أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني ناجدي سمعت علي بن المديني يقول: كان أبو الجعد والد سالم بن أبي الجعد إذا تغدى جمع بنيه فكانوا ستة اثنان مرجئان، واثنان شيعيان، واثنان خارجيان فكان أبو الجعد يقول: لقد جمع الله بين أيديكم وفرق بين أهوائكم.

قرأت على قاضي القضاة أبي الحسن محمد بن صالح الهاشمي ثنا عبد الله بن الحسين بن موسى نا عبد الله بن علي بن المدين. قال: سمعت أبي يقول خمسة أحاديث يروونها ولا أصل لها عن رسول الله حديث: «لو صدق السائل ما أفلح من رده». وحديث: «لا وجع إلا وجع العين ولا غم إلا غم الدين». وحديث: «إن الشمس ردت لعلي بن أبي طالب». وحديث أنه قال: «إنا أكرم على الله من أن يدعني تحت الأرض مائتي عام»، وحديث: «أفطر الحاجم والمحجوم إنهما كانا يغتابان».

قال كاتبه: ونظير هذا قول الإمام أحمد أربعة أحاديث تدور في الأسواق لا أصل لها عن رسول الله حديث: «من آذى ذميًا فكأنما آذاني»، وحديث: «من بشرني بخروج آذار ضمنت له على الله الجنة»، وحديث: «للسائل حق وإن جاء على فرس»، وحديث: «يوم صومكم يوم نحركم يوم رأس سنتكم».

قال الحاكم: سمعت الأستاذ أبا سهل محمد بن سليمان يقول: سمعت أبا العباس محمد بن إسحاق الثقفي يقول: شاهدت محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى ودفع إليه كتابًا من محمد بن كرام يسأله عن أحاديث منها سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي قال: «الإيمان لا يزيد ولا ينقص»، ومعمر عن الزهري مثله فكتب البخاري رحمه الله تعالى على ظهر كتابه: من حدث بها استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل.

سمعت أبا الحسين محمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت أبا العباس الدغولي يقول: قلت لأبي حاتم الرازي: هل تعرف في أصحاب رسول الله أحدًا اسمه أحمد؟ قال: لا أعلمه. قلت: فهل تعلم في الصحابة رضي الله عنهم من اسمه إسماعيل؟ قال: لا. قلت: فهل تعلم فيهم من اسمه أيوب؟ قال: لا، قلت: فهل تعرف فيهم من اسمه أسيد؟ قال: لا أعلمه. قلت: فهل كان فيهم من اسمه أيمن؟ قال: لا أعلم. قلت: فكان فيهم من اسمه أشعث؟ قال: لا غير أشعث بن قيس الكندي. قلت: فهل كان فيهم من اسمه أمية؟ قال صحابي واحد: يقال له أمية بن مخشي الخزاعي، قلت: فهل كان فيهم من اسمه أسلم؟ قال: واحد أسلم أبو رافع مولى النبي . قلت: فهل كان غير أهبان بن صيفي؟ قال: أهبان بن أوس. قلت: فهل كان فيهم أبيض غير ابن حمال؟ فقال: لا أعلمه. قلت: فهل كان فيهم أغر غير الأغر المزني؟ قال: لا أعلمه. قلت: فهل كان فيهم من اسمه أرقم؟ قال: نعم أرقم بن أبي الأرقم. قلت: فهل كان فيهم من اسمه إبراهيم؟ قال: نعم إبراهيم اسم قديم قد تسمى به رجل قد سمع من النبي رواه المكيون عن عطاء بن إبراهيم عن أبيه. قال: سمعت رسول الله يقول: «قابلوا بين النعال».

قال كاتبه: وفي كتاب ابن حبان في ترجمة الصحابة أسلم آخر غير أبي رافع. قال: أسلم بن عبدل لما أسلم أسلمت اليهود بإسلامه، لم يزد. تم الانتقاء.

يا جامع المال ما أعددت للحفر ** هل يغفل الزاد من أضحى على سفر

أفنيت عمرك في اللذات تطلبها ** وا خيبة السعي بل وا ضيعة العمر

قف في ديار بني اللذات معتبرًا ** وانظر إليها ولا تسأل عن الخبرا

ففي الذي فعلت أيدي الشتات ** بهم من بعد ألفتهم معنى لمعتبر

غيره:

قد عُرف المنكر واستُنكر الـ ** معروف في أيامنا الصعبة

وصار أهل العلم في وهدة ** وصار أهل الجهل في رتبة

فقلت للأبرار أهل التقى ** والدين لما اشتدت الكربة

لا تنكروا أحوالكم قد أتت ** نوبتكم في زمن الغربة

غيره:

اقنع بأيسر ميسور من الزمن ** واشكر لربك ما أولاك من منن

واذكر ملابس من عدن تخص بها ** ذوو التقى واهجر الأبراد من عدن

إن شئت أن تدخل الجنات مجتنيًا ** قطوفها فتوق النار بالجنن

وباشر الناس بالمعروف مجتهدًا ** وراقب الله في سر وفي علن

حديث: روى البيهقي من حديث أبي بكر الحنفي: ثنا سفيان الثوري عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله عاد مريضًا فرآه يصلي على وسادة فأخذها فرمى بها. فأخذ عودًا ليصلي عليه فأخذه فرمى به. وقال: «صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك»، قال البيهقي: هذا الحديث يعد في أفراد أبي بكر الحنفي عن الثوري. تم كلامه.

وقال ابن أبي حاتم في كتاب العلل: سألت أبي عن هذا الحديث فقال إن هذا خطأ، إنما هو عن جابر. قوله: إنه دخل على مريض قيل له: فإن أبا أسامة قد رواه عن الثوري مرفرعًا. قال: ليس بشيء هو موقوف. تم كلامه.

ورواه يحيى بن أبي طالب ثنا عبد الوهاب بن عطاء ثنا سفيان الثوري فذكره بمثله، رواه البيهقي.

فهؤلاء ثلاثة رفعوه: أبو أسامة وعبد الوهاب بن عطاء وأبو بكر الحنفي. فأما أبو أسامة فالعلم المشهور. وأما أبو بكر الحنفي من رجال الصحيحين وقواه ووثقه أحمد. وأما عبد الوهاب بن عطاء فاحتج به مسلم. والظاهر أن الحديث موقوف كما ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه والله أعلم.

والآثار في ذلك معروفة عن الصحابة، كما روى مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: إذا لم يستطع المريض السجود أومأ برأسه إيماء ولم يرفع إلى جبهته شيئًا.

وقد رفعه عبد الله بن عامر الأسلمي عن نافع وقد ضعفه أحمد وأبو زرعة، والصواب وقفه.

وروى شعبة عن أبي الحق السبيعي عن زيد مولى ابن معاوية عن علقمة قال: دخلت مع عبد الله بن مسعود على أخيه يعوده وهو مريض فرأى معه مروحة يسجد عليها، فانتزعها منه عبد الله وقال: اسجد على الأرض فإن لم تستطع فأوم إيماء واجعل السجود أخفض من الركوع. وزيد هذا ثقة.

حديث: قال حنبل: قال أحمد في حديث حجاج المصيصي عن شريك عن إبراهيم بن حزم عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: كان النبي إذا دخل الخلاء أتيته بماء فاستنجى، ثم مسح بيده على الأرض ثم توضأ، فقال أحمد: هذا حديث منكر، إنما هو عن أبي الأحوص عن عبد الله ولم يرفعه.

فائدة: قول العامة نسيات

قال بعضهم: قول العامة نُسَيّات ليس بلحن، لأن الجوهري حكاه، وكأنه جمع نسية بتصغير نسوة.

قلت: وعلى هذا فلا يقال إلا على جماعات متعددة منهن، لأنه جمع الجمع، والعامة تطلقه على الجماعة الواحدة منهن.

فائدة: تفسير حديث من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه

قول النبي : «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه». سر هذا التشبيه والله أعلم أن اللاعب بها لما كان مقصوده بلعبه أكل المال بالباطل الذي هو حرام كحرمة لحم الخنزير وتوصل إليه بالقمار وظن أنه يفيده حل المال كان كالمتوصل إلى أكل لحم الخنزير بذكاته والنبي شبه اللاعب بها بغامس يده في لحم الخنزير ودمه إذ هو مقدمة الأكل، كما أن اللعب بها مقدمة أكل المال فإن أكل بها المال كان كأكل لحم الخنزير. والتشبه إنما وقع في مقدمة هذا بمقدمة هذا. والله أعلم.

فائدة: في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم البقر التي رآها في نومه بالذين أصبيوا من أصحابه يوم أحد

تفسير النبي البقر التي رأها في النوم تنحر بالنفر الذين أصيبوا من أصحابه يوم أحد، قيل: وجه هذا التأويل أن البقر والنفر مشتركان في صورة الخط ويمتاز أحدهما عن الآخر بالنقط، وهذه جهة من جهات التعبير، وهذا قول فاسد جدًا. ولم يكن النبي يدرك شيئًا من الخط أصلًا ولا هذه جهة صحيحة من جهات التأويل فلا يؤول النرد بالبرد ولا الزيد بالزند ولا العين بالغين ولا الحية بالجنة وأمثال ذلك.

وقيل: وجه الشبه أن البقر معها أسلحتها التي تقاتل بها وهي قرونها وكانت العرب تستعمل الصياصي والقرون في الرماح عند عدم الأسنة. وهذا أقرب من الأول، ولكنهم مشترك بين المسلمين والكفار فإن كل طائفة معها سلاحها.

وأجود من هذين أن يقال وجه التشبيه أن الأرض لا تعمر ولا تفلح إلا بالبقر فهم عمارة الأرض وبها صلاح العالم وبقاء معيشتهم وقوام أمرهم، وهكذا المؤمنون بهم إصلاح الأرض وأهلها وهم زينتها وأنفع أهل الأرض للناس، كما أن البقر أنفع الدواب للأرض. ومن وجه آخر وهو أن البقر تثير الأرض وتهيئها لقبول البدر وإنباته وهكذا أهل العلم والإيمان يثيرون القلوب ويهيئونها لقبول بذر الهدى فيها ونباته وكماله والله أعلم.

فائدة: قول عيسى آمنت بالله وكذبت بصري

قول النبي : «رأى عيسى رجلًا يسرق فقال: سرقت، قال: كلا والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت بصري».

قيل: هو استفهام من المسيح لا أنه إخبار، والمعنى أسرقت فلما حلف له صدقه. ويرد هذا قوله وكذبت بصري. وقيل: لما راه المسيح أخذ المال بصورة السارق فقال: سرقت، قال: كلا، أي ليس بسرقة، إما لأنه ماله أو له فيه حق أو لأنه أخذه ليقلبه ويعيده والمسيح أحال على ظاهر ما رأى فلما حلف له قال: آمنت بالله وكذبت نفسي في ظني أنها سرقة لا أنه كذب نفسه في أخذه المال عيانا. فالتكذيب واقع على الظن لا على العيان وهكذا الرواية كذبت نفسي ولا تنافي بينها وبين رواية وكذبت بصري، لأن البصر ظن أن ذلك الأخذ سرقة فأنا كذبته في ظن أنه رأى سرقة، ولعله إنما رأى أخذًا ليس بسرقة.

وفي الحديث معنى ثالث ولعله أليق به وهو أن المسيح لعظمة وقار الله في قلبه وجلاله ظن أن هذا الحالف بوحدانية الله صادقًا فحمله إيمانه بالله على تصديقه وجوز أن يكون بصره قد كذبه وأراه ما لم ير. فقال: آمنت بالله وكذبت بصري. ولا ريب أن البصر يعرض له الغلط ورؤية بعض الأشياء بخلاف ما هي عليه ويخيل ما لا وجود له في الخارج، فإذا حكم عليه العقل تبين غلطه. والمسيح صلوات الله عليه وسلامه حكم إيمانه على بصره ونسب الغلط إليه. والله أعلم.

فائدة: قول النبي الأنبياء أولاد علات

قول النبي : «الأنبياء أولاد علات». وفي لفظ: إخوة من علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد.

قال الجوهري: بنو العلات هم أولاد الرجل من نسوة شتى سميت بذلك، لأن الذي تزوجها عل أولى كانت قبلها ثم عل من الثانية، العلل الشرب الثاني يقال له علل بعد نهل، وعله يعله إذا سقاه السقية الثانية.

وقال غيره: سموا بذلك لأنهم أولاد ضرائر والعلات الضرائر وهذا الثاني أظهر.

وأما وجه التسمية فقال جماعة منهم القاضي عياض وغيره، معناه أن الأنبياء مختلفون في أزمانهم وبعضهم بعيد الوقت من بعض فهم أولاد علات إذ لم يجمعهم زمان واحد، كما لم يجمع أولاد العلات بطن واحد وعيسى لما كان قريب الزمان من النبي ولم يكن بينهما نبي كانا كأنهما في زمان واحد. فقال : «أنا أولى الناص بعيسى ابن مريم عليه السلام». قالوا: كيف يا رسول الله. فقال: «الأنبياء أخوة من علات» الحديث.

وفيه وجه آخر أحسن من هذا وهو، أن النبي شبه دين الأنبياء الذي اتفقوا عليه من التوحيد وهو عبادة الله وحده لا شريك له والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله ولقائه بالأب الواحد لاشتراك جميعهم فيه وهو الدين الذي شرعه الله لأنبيائه كلهم. فقال تعالى: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه }. 270

وقال البخاري في صحيحه: باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد، وذكر هذا الحديث. وهذا هو دين الإسلام الذي أخبر الله أنه دين أنبيائه ورسله من أولهم نوح إلى خاتمهم محمد ، فهو بمنزلة الأب الواحد.

وأما شرائع الأعمال والمأمورات فقد تختلف فهي بمنزلة الأمهات الشتى التي كانت لقاح تلك الأمهات من أب واحد، كما أن مادة تلك الشرائع المختلفة من دين واحد. متفق عليه، فهذا أولى المعنيين بالحديث، وليم في تباعد أزمنتهم ما يوجب أن يشبه زمانهم بأمهاتهم ويجعلون مختلفي الأمهات لذلك، وكون الأم بمنزلة الشريعة والأب بمنزلة الدين، وأصالة هذا وتذكيره وفرعيته. الأم وتأنيثها واتحاد الأب وتعدد الأم ما يدل على أنه معنى الحديث والله أعلم.

فائدة: قوله تعالى أسرى بعبده

في قوله تعالى: { أسرى بعبده }، 271 دون بعث بعبده وأرسل به ما يفيد مصاحبته له في مسراه، فإن الباء هنا للمصاحبة كهي في قوله هاجر بأهله وسافر بغلامه وليست للتعدية، فإن أسرى يتعدى بنفسه يقال: سرى به وأسراه وهذا، لأن ذلك السري كان أعظم أسفاره والسفر يعتمد الصاحب، ولهذا كان إذا سافر يقول: «اللهم أنت الصاحب في السفر».

فإن قيل: فهذا المعنى يفهم من الفعل الثلاثي لو قيل: سرى بعبده فما فائدة الجمع بين الهمزة والباء؟ ففيه أجوبة:

أحدها: أنهما بمعنى وإن أسرى لازم كسرى تقول سرى زيد وأسرى بمعنى واحد هذا قول جماعة. والثاني: إن أسرى متعد ومفعوله محذوف أي أسرى بعبده البراق هذا قول السهيلي وغيره، ويشهد للقول الأول قول الصديق أسرينا ليلتنا كلها ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة.

والجواب الصحيح أن الثلاثي المتعدي بالباء يفهم منه شيئان: أحدهما: صدور الفعل من فاعله. الثاني: مصاحبته لما دخلت عليه الباء. فإذا قلت: سريت بزيد وسافرت به كنت قد وجد منك السري والسفر مصاحبًا لزيد فيه كما قال: * ولقد سريت على الظلام بمعشر * ومنه الحديث: أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها.

وأما المتعدي بالهمزة فيقتضي إيقاع العبد بالمفعول فقط، كقوله تعالى: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم }، 272 { فأخرجناهم من جنات وعيون }، 273 ونظائره، فإذا قرن هذا المتعدي بالهمزة أفاد إيقاع الفعل على المفعول مع المصاحبة المفهومة من الباء، ولو أتى فيه بالثلاثي فهم منه معنى المشاركة في مصدره وهو ممتنع فتامله.

فائدة: كرامة الرسول بالأسراء

كانت كرامة رسول الله بالإسراء مفاجأة من غير ميعاد ليحمل عنه ألم الانتظار، وبفاجأ بالكرامة بغتة. وكرامة موسى بعد انتظار أربعين ليلة.

فائدة: ليس في السفر إلى الخالق تعب

لما سافر موسى إلى الخضر وجد في طريقه مس الجوع والنصب. فقال لفتاه: { آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا }، 274 فإنه سفر إلى مخلوق. ولما واعده ربه ثلاثين ليلة وأتمها بعشر فلم يأكل فيها لم يجد مس الجوع ولا النصب، فإنه سفر إلى ربه تعالى. وهكذا سفر القلب وسيره إلى ربه لا يجد فيه من الشقاء والنصب ما يجده في سفره إلى بعض المخلوقين.

فائدة: تسخير البراق لحمل الرسول

تسخير البراق لحمل رسول الله في ليلة واحدة، مسيرة شهرين ذهابًا وإيابًا، أعظم من تسخير الريح لسليمان مسيرة شهرين في يوم واحد ذهابًا وإيابًا، فإن الريح سريعة الحركة طبعها الإسراع بما تحمله، وأما البراق فالآية فيه أعظم.

فائدة: شق صدر الرسول

شق صدر النبي والاعتناء بتطهير قلبه وحشوه إيمانًا وحكمة دليل على أن محل العقل القلب وهو متصل بالدماغ.

واستدل بعض الفقهاء بغسل قلبه في الطست من الذهب على جواز تحلية المصاحف بالذهب والمساجد وهو في غاية البعد. فإن ذلك كان قبل النبوة، ولم يكن ذلك من ذهب الدنيا وكان كرامة أكرم بها وكان من فعل الملائكة بأمر الله وهم ليسوا داخلين تحت تكاليف البشر.

وأبعد منه احتجاج من احتج به على جواز انتفاع الرجل بالحرير تبعًا لامرأته كالفراش واللحاف والمخدة. قال: لأن الملك لا حرج عليه والنبي انتفع بذلك تبعًا. وقد أبعد هذا القائل النجعة وأتى بغير دليل.

فائدة: التحريم والكراهية

الفعل إذا كان منشأ المفسدة الخالصة أو الراجحة فهو المحرم، فإن ضعفت تلك المفسدة فهو المكروه. ومراتبه في الكراهة بحسب ضعف المفسدة. هذا إذا كان منشأ للمفسدة. وأما أن كان مفضيًا إليها فإن كان الإفضاء قريبًا فهو حرام أيضا، كالخلوة بالأجنبية والسفر بها ورؤية محاسنها، فهذا القسم يسلب عنه اسم الإباحة وحكمها. وإن كان الإفضاء بعيدًا جدًا لم يسلب اسم الإباحة ولا حكمها كخلوة ذي رحم المحرم بها وسفره معها، وكنظر الخاطب الذي مقصوده الإفضاء إلى المصلحة الراجحة، فإن قرب الإفضاء قربًا ما فهو الورع وهو في المراتب على قدر قرب الإفضاء وبعده، وكلما قرب الإفضاء كان أولى بالكراهة والورع حتى ينتهي إلى درجة التحريم.

فائدة: ترحيب الملائكة بالرسول

قول الملائكة للنبي ليلة الإسراء: مرحبًا به أصل في استعمال هذه الألفاظ وما ناسبها عند اللقاء نحو أهلًا وسهلًا ومرحبًا وكرامة وخير مقدم وأيمن مورد ونحوها. ووقع الاقتصار منها على لفظ مرحبًا وحدها لاقتضاء الحال لها، فإن الترحيب هو السعة وكان قد أفضى إلى واسع الأماكن ولم يطلق فيها سهلًا، لأن معناه وطئت مكانًا سهلًا والنبي كان محمولًا إلى السماء.

فائدة: تفسير حديث والله لا أحملكم

قول النبي في حديث أبي موسى: «والله لا أحملكم ولا عندي ما أحملكم عليه». يحتمل وجهين:

أحدهما أن يكون جملة واحدة والواو واو الحال والمعنى لا أحملكم في حال ليس عندي فيها ما أحملكم عليه ويؤيد هذا جوابه حيث قال: «ما أنا حملتكم، الله حملكم» وعلى هذا فلا تكون هذه اليمين محتاجة إلى تكفير.

ويحتمل أن تكون جملتين حلف من إحداهما أنه لا يحملهم وأخبر في الثانية أنه ليس عنده ما يحملهم عليه. ويؤيد هذا قوله في الحديث لما قيل له إنك حملتنا وقد حلفت فقال: «إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها، خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير». ولمن نصر الاحتمال الأول أن يجيب عن هذا بجوابين:

أحدهما: أن هذا لم استئناف لقاعدة كان سببها اليمين ليبين فيها للأمة حكم اليمين لا إنه حنث في تلك اليمين وكفرها.

الجواب الثاني: أن هذا كلام خرج على التقدير، أي ولو حنث لكفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير والله أعلم.

فائدة: يوسف أوتي شطر الحسن

قول النبي عن يوسف: «أوتي شطر الحسن».

قالت طائفة المراد منه أن يوسف أوتي شطر الحسن الذي أوتيه محمد فالنبى بلغ الغاية في الحسن ويوسف بلغ شطر تلك الغاية. قالوا: ويحقق ذلك ما رواه الترمذي من حديث قتادة عن أنس قال: ما بعث الله نبيًا إلا حسن الوجه حسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجهًا وأحسنهم صوتًا. والظاهر أن معناه أن يوسف اختص على الناس بشطر الحسن واشترك الناس كلهم في شطره فانفرد عنهم بشطره وحده. وهذا ظاهر اللفظ فلماذا يعدل عنه؟ واللام في الحسن للجنس لا للحسن المعين المعهود المختص بالنبي . وما أدري ما الذي حملهم على العدول عن هذا إلا ما ذكروه. وحديث أنس لا ينافي هذا، بل يدل على أن النبي كان أحسن الأنبياء وجهًا وأحسنهم صوتًا ولا يلزم من كونه أحسنهم وجهًا أن لا يكون يوسف اختص عن الناس بشطر الحسن واشتركوا هم في الشطر الآخر ويكون النبي قد شارك يوسف فيما اختص به من الشطر وزاد عليه بحسن آخر من الشطر الثاني والله أعلم.

فائدة: لا يكون اللعانون شفعاء

قول النبي : «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة»، لأن اللعن إساءة، بل من أبلغ الإساءة والشفاعة إحسان، فالمسيء في هذه الدار باللعن سلبه الله الإحسان في الأخرى بالشفاعة، فإن الإنسان إنما يحصد ما يزرع، والإساءة مانعة من الشفاعة التي هي إحسان. وأما منع اللعن من الشهادة فإن اللعن عداوة وهي منافية للشهادة ولهذا كان النبي سيد الشفعاء وشفيع الخلائق لكمال إحسانه ورأفته ورحمته بهم .

فائدة: سر خروج الخلافة عن أهل بيت النبي إلى أبي بكر وعمر وعثمان

السر والله أعلم في خروج الخلافة عن أهل بيت النبي إلى أبي بكر وعمر وعثمان أن عليًا لو تولى الخلافة بعد موته لأوشك أن يقول المبطلون: إنه ملك ورّث ملكه أهل بيته فصان الله منصب رسالته ونبوته عن هذه الشبهة، وتأمل قول هرقل لأبي سفيان هل كان في آبائه من ملك، قال: لا، فقال له: لو كان في آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك آبائه. فصان الله منصبه العلي من شبهة الملك في آبائه وأهل بيته، وهذا والله أعلم هو السر في كونه لم يورث هو والأنبياء قطعًا لهذه الشبهة لئلا يظن المبطل أن الأنبياء طلبوا جمع الدنيا لأولادهم وورثتهم كما يفعله الإنسان من زهده في نفسه وتوريثه ماله لولده وذريته فصانهم الله عن ذلك، ومنعهم من توريث ورثتهم شيئًا من المال لئلا يتطرق التهمة إلى حجج الله ورسله، فلا يبقى في نبوتهم ورسالتهم شبهة أصلًا.

ولا يقال: فقد وليها علي وأهل بيته، لأن الأمر لما سبق أنها ليست بملك موروث، وانما هي خلافة نبوة تستحق بالسبق والتقدم كان علي في وقته هو سابق الأمة وأفضلها ولم يكن فيهم حين وليها أولى بها منه ولا خير منه، فلم يحصل لمبطل بذلك شبهة والحمد لله.

فائدة: بيع عقار اليتيم وطهارة المقبرة

في شراء رجل مسجد المدينة من اليتيمين، وجعلها مسجدًا من الفقه دليل على جواز بيع عقار اليتبم وإن لم يكن محتاجًا إلى بيعه للنفقة إذا كان في البيع مصلحة للمسلمين عامة لبناء مسجد أو سور أو نحوه. ويؤخذ من ذلك أيضا بيعه إذا عوض عنه بما هو خير له منه.

وفي نبش قبور المشركين من الأرض وجعلها مسجدًا دليل على طهارة المقبرة، فإن الصلاة فيها لم ينه عنها لنجاستها، لم إنما هو صيانة للتوحيد وسدًا لذريعة الشرك بالقبور الذي هو أصل عبادة الأصنام كما قال ابن عباس وغيره.

فائدة: جواز الرجوع للكافر في الطب والكتابة

في استئجار النبي عبد الله بن أريقط الدؤلي هاديًا في وقت الهجرة وهو كافر دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والكحل رالأدوية والكتابة والحساب والعيوب ونحوها ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة ولا يلزم من مجرد كونه كافرًا، أن لا يوثق به في شيء أصلًا فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق، ولا سيما في مثل طريق الهجرة.

فائدة: شهادة التقليد

في حدبث عبد الله بن جحش أن النبي كتب له كتابًا وأمره أن لا يقرأه حتى يسير يومين وأن عبد الله امتثل أمره ففتح الكتاب بعد اليومين فقرأه. الحديث فيه من الفقه جواز الشهادة على الكتاب الذي لا يدري ما فيه، بل إذا قال: هذا كتابي فاشهد علي بما فيه جازت الشهادة، وهي مسألة خلاف مشهورة وتسمى شهادة التقليد ويدل عليها أيضا أن النبي كان يبعث كتبه إلى الملوك والنواحي ولا يقرأها على من يبعثها معه، بل يقول: «هذا كتابي فأوصله إلى فلان». وكذلك عمل به خلفاؤه من بعده. وفيه جواز تراخي القبول عن الإيجاب، فإن في هذا الكتاب أن اقرأه ولا تكره أحدًا، فمن أجابك فامض به حتى تنزل نخلة. وفيه مسألة بديعة وهي جواز العقد والتولية على أمر مجهول حال العقد يتبين في ثاني الحال.

فائدة: الندم والشفاعة

قول النبي لما أنشدته قُتيلة بنت الحارث شعرها المعروف ترثي به أخاها النضر: «لو سمعت هذا قبل قتله لم أقتله». ليس فيه الندم على قتله فإنه لم يقتله إلا بالحق ولكن كان رفيقًا رحيمًا يقبل الشفاعة ويمن على الجاني، فمعناه لو شفعت عندي بما قالت قبل أن أقتله لقبلت شفاعتها وتركته. وقريب من هذا قوله: «لو استقبل من أمري ما استدبرت لها سقت الهدي ولجعلتها متعة»، ليس فيها ندامة على أفضل مما أتي به من النسك. فإن الله لم يكن ليختار له إلا أفضل الأنساك وأعلاها، ولكن كان لمحبة تألف قلوب أصحابه وموافقتهم وتطييب نفوسهم بأن يفعل كما فعلوا، ود لو أنه أحل كما أحلوا، ولكن منعه سوق الهدي، وعلى هذا فيكون الله تعالى قد اختار له أفضل الأنساك بفعله وأعطاه ما تمناه من موافقة أصحابه وتألف قلوبهم بنيته ومناه. فجمع له بين الأمرين وهذا هو اللائق به صلوات الله وسلامه.

فائدة: استشكال في حديث قتل ابن الأشرف

استشكل الناس من حديث قتل كعب بن الأشرف استئذان الصحابة أن يقولوا في النبي وذلك ينافي الإيمان وقد أذن لهم فيه، وأجيب عنه بأجوبة:

أحدها: بأن الإكراه على التكلم بكلمة الكفر يخرجها عن كونها كفرًا مع طمأنينة القلب بالإيمان. وكعب قد اشتد في أذى المسلمين وبالغ في ذلك فكان يحرض على قتالهم وكان في قتله خلاص المسلمين من ذلك، فكان أكره الناس على النطق بما نطقوا به ألجأهم إليه فدفعوا عن أنفسهم بألسنتهم مع طمأنينة قلوبهم بالإيمان وليس هذا بقوي الجواب.

الثاني: إن ذلك القتل والكلام لم يكن صريحًا بما يتضمن كفرًا، بل تعريضًا وتورية فيه مقاصد صحيحة موهمة موافقة في غرضه، وهذا قد يجوز في الحرب الذي هو خدعة.

الجواب الثالث: إن هذا الكلام والنيل كان بإذنه والحق له. وصاحب الحق إذا أذن في حقه لمصلحة شرعية عامة لم يكن ذلك محظورًا.

فائدة: الشروع والنذر

قوله : «لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه» احتج به من يقول إن النوافل تلزم بالشروع، وأن الشروع فيها جار مجرى التزامها بالنذر، فإن الشروع التزام بالفعل والنذر التزام بالقول والالتزام بالفعل أقوى لأنه الغاية. وفي الاستدلال بالحديث شيء فإن فيه الإشارة إلى الاختصاص بقوله ما ينبغي لنبي ولم يقل ما بنبغي لأحد ولا ما ينبغي لكم فدل على مخالفة حكم غيره له في هذا وإنه من خواصه، ويدل عليه أنه كان إذا عمل عملًا أثبته وداوم عليه، ولهذا لما قضى سنة الظهر بعد العصر أثبتها وداوم عليها. وقولهم الشروع التزام بالفعل. يقال: تعنون بالالتزام إيجابه إياه على نفسه أم تعنون به دخوله فيه الأول: محل النزاع، والثاني: لا يفيد وبه خرج الجواب عن قولكم الالتزام بالفعل أقوى. وسر المسألة: أن الشارع في النافلة لم يلتزمها التزام الواجبات، بل شرع فيها نية تكميلها وفعلها فعل سائر النوافل، وأما الناذر لها فبنذره قد التزم أداءها كما يؤدي الواجبات فافترقا.

فائدة: شؤم الآباء على الأبناء

عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعية النبي يوم أحد قال بعض العلماء بالأخبار إنه استقرى نسله فلا يبلغ أحد منهم الحلم إلا انجرا واهتم، يعرف ذلك فيهم، وهو من شؤم الأباء على الأبناء.

واختلف فيما وقع للنبي من هذا ونحوه، فقيل: هو قبل نزول قوله: { والله يعصمك من الناس }، 275 وقيل: العصمة الموعود بها عصمة النفس من القتل لا عصمته من أذاهم بالكلية، بل أبقى الله تعالى لرسوله ثواب ذلك الأذى ولأمته حسن التأسي به إذا أوذي أحدهم نظر إلى ما جرى عليه فتأسى وصبر. وللمؤذين الأشقياء الأخذة الرابية.

فائدة: التفدية

قيل: إنما فدا النبي سعدًا بأبويه لما ماتا عليه، وأما الأبوان المسلمان فلا يجوز أن يفدي بهما ولهذا لا يحتاج إليه، فإن التفدية نقلت بالعرف عن وضعها الأول وصارت علامة على الرضى والمحبة، وكأنه قال: افعل كذا مغبوطًا مرضيًا عنك.

فائدة: عسى من الله واجب

في حديث أبا لبابة لما بلغ النبي ارتباطه قال: لو أتاني لاستغفرت له وإذا فعل فلست أطلقه حتى يطلقه الله فأنزل الله تعالى: { وآخرون اعترفوا بذنوبهم }، إلى قوله: { عسى الله أن يتوب عليهم }، 276 فأطلقه النبي حينئذ وفي هذا ما يدل على صحة قول المفسرين إن عسى من الله واجب وفيه أن فاطمة جاءت تحله. فقال: لا إلا رسول الله ، فقال: «فاطمة بضعة مني».

فإن قيل: فهل يبر الحالف بمثل هذا لو اتفق اليوم.

قيل: لا إما لأنه مختص بالنبي ، وأما لأن فاطمة بضعة منه قطعًا. والله أعلم.

فائدة: إطلاق السيد على البشر

اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر فمنعه قوم، ونقل عن مالك واحتجوا بأنه لما قيل له: يا سيدنا، قال: «إنما السيد الله». وجوزه قوم واحتجوا يقول النبي للأنصار: «قوموا الى سيدكم» وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال لتميمي إنه سيد كندة، ولا يقال لمالك إنه سيد البشر. قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم. وفي هذا نظر، فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو بمعنى المالك والمولى والرب، لا بالمعنى الذي يطلق على المخلوق. والله سبحانه وتعالى أعلم.

فوائد: حكم ومواعظ وعبر منتقاة من المدهش

وأخلاق كأخلاق الزجاج ** دققت بها فصارت كالزجاج

إلى أن عدن لي عسلًا وماء ** كذاك يكون عاقبة العلاج

الأول: جمع زج وهو نصل الرمح. والثاني: القوارير.

ما أنت أول سار غره قمر ** ورائد أعجبته خضرة الدمن

فاربأ بنفسك عني إنني رجل ** مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني

غيره:

إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت ** عن الماء فاشتاقت إليها المناهل

تحاما الرزايا كل خف ومنسم ** وتلقى رداهن الذرى والكواهل

وترجع أعقاب الرماح سليمة ** وقد حطمت في الدار عين العوامل

من أراد من العمال أن ينظر قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه.

وحّد زيد وما رأى الرسول وكفر ابن أبي وقد صلى معه القبلتين.

لما تقدم اختبار الطين المنهبط صعد على النار المرتفعة فكانت الغلبة لآدم في حرب إبليس.

سبق العلم بنبوة موسى وإيمان آسية، فسبق تابوته إلى بيتها، فجاء طفل بلا أم إلى امرأة بلا ولد.

يا من هو من جملة عسكر الرسول أيحسن بك كل يوم هزيمة.

الحيوانات تذل في طلب القوت والفيل يتملق حتى يأكل.

إن كان يوجب صبري رحمتي فرضًى ** بسوء حالي وحل للضنى بدني

منحتك القلب لا أبغي به ثمنًا ** إلا رضاك ووافقري إلى الثمن

قال غيره:

أحن بأطراف النهار صبابة ** وبالليل يدعوني الهوى فأجيب

غيره:

سأتعب نفسي أو أصادف راحة ** فإن هوان النفس أكرم للنفس

يا من هو من أرباب الخبرة هل عرفت قيمة نفسك، إنما خلقت الأكوان كلها لك يا من غذي بلبان البر وقلب بأيدي الألطاف كل الأشياء شجرة، وأنت الثمرة وصورة، وأنت المعنى وصدف، وأنت الدر ومخيض، وأنت الزبد منشور اختيارنا لك واضح الخط، لكن استخراجك ضعيف متى رمت طلبي فاطلبني عندك.

ويحك لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي إنما أبعدنا إبليس لأنه لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك.

فواعجبًا كيف صالحته وتركتنا { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا }. 277

لو كان في قلبك محبة لبان أثرها على جسدك. عجب ربنا من رجل ثار عن وطائه ولحافه إلى صلاته. تأمل معنى ثار ولم يقل قام لأن القيام قد يقع بفتور. فأما الثوران فلا يكون إلا بإسراع حذرًا من فائت.

ما انتفع آدم في بلية وعصى بكمال وعلم ولا رد عنه عز اسجدوا، وإنما خلصه ذل ربنا ظلمنا أنفسنا.

لما عشقت للبلاء به الشجر تعلقت طلبًا للعناق فقيل لها مع الكثافة: لا يمكن فرضيت بالنحول والتفت.

تلق قلبي فقد أرسلته عجلا ** إلى لقائك والأشواق تقدمه

ولا تكلني على بعد الديار إلى ** صبري الضعيف فصبري أنت تعلمه

قال الشاعر:

إذا لم يكن بيني وبينك مرسل ** فريح الصبا مني إليك رسول

ملأوا مراكب القلوب متاعًا لا ينفق إلا على الملك فلما هبت رياح السحر أقلعت تلك المراكب.

قطعوا بادية الهوى بأقدام الجد فما كان إلا القليل حتى قدموا من السفر فاعتنقتهم الراحة في طريق التلقي فدخلوا بلد الوصل وقد حازوا ريح الأبد.

فرغ القوم قلوبهم من الشواغل فضربت فيها سرادقات المحبة فأقاموا العيون تحرس تارة وترش الأرض أخرى.

سرادق المحبة لا تضرب إلا في قاع فارغ نزه، فرغ لي بيتًا أسكنه.

اعرف مقدار ما ضاع منك وابك بكاء من يدري مقدار الفائت.

لو تخيلت قرب الأحباب لأقمت المآتم على بعدك، لو استنشقت ريح الأسحار لأفاق قلبك المخمور.

من استطال الطريق ضعف مشيه.

وما أنت بالمشتاق إن قلت بيننا ** طوال الليالي أو بعيد المفاوز

أما علمت أن الصادق: * إذا هم ألقى بين عينيه عزمه *

إذا نزل آب في القلب سكن آذار في العين.

من قبل فم اللذة لا ينكر عض أسنان الندامة.

هان سهر الحراس لما علموا أن أصواتهم بمسمع الملك.

رفيقك قيسي وأنت يماني.

إذا كنت كلما لاحمت لك شهوة طفيل العرائس، فانتظر قتلة وضاح اليمن.

من لاح له كمال الآخرة هان عليه فراق الدنيا.

إذا لاح للباشق الصيد نسي مألوف الكف.

يا أقدام الصبر احملي بقي القليل.

تذكر حلاوة الوصال يهن عليك مر المجاهدة.

قد علمت أين المنزل فاحد لها تسر.

قال أبو يزيد: ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي حتى سقتها إليه وهي تضحك.

الهمة العلية من استعد صاحبها للقاء الحبيب وقدم التقادم بين يدي الملتقي فاستبشر عند القدوم { وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه }. 278

الجنة ترضى منك بأداء الفرائض والنار تندفع عنك بترك المعاصي والمحبة لا تقنع منك إلا ببذل الروح إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم

بدم المحب يباع وصلهم ** فمن الذي يبتاع بالثمن

لله ما أحلا زيارة تسعى بها أقدام الرضى على أرض الاشتياق.

زرناك شوقًا ولو أن النوى بسطت ** فرش الفلا بيننا جمرًا لزرناك

ما سافر الخليل سفرًا ولا سلك طريقًا أطيب من الفلاة التي دخلها حين خرج من كفة المنجنيق. رآه جبريل قد ودع بلد العادة فظن ضعف قدم التوكل فعرض عليه زادَ "ألك حاجة" فرده بأنفة: أما إليك فلا.

لما تكامل وفاؤه ما أمر به جاءته خلعته وإبراهيم الذي وفى.

قالت لطيف خيال زارها ومضى ** بالله صفه ولا تنقص ولا تزد

فقال خلفته لو مات من ظمأ ** وقلت قف عن ورود الماء لم يرد

قالت صدقت الوفا في الحب شيمته ** يا نرد ذاك الذي قالت على كبدي

غيره:

إن قومي بانوا ** فرقوا بينه وبيني

فإذا نهت أنا الرهـ ** ن، فمن يقبض ديني

غيره:

وكم مغرم بين تلك الخيا ** م تحسبه بعض أطنابها

للنفس حظ وعليها حق فلا تميلوا كل الميل وزنوا بالقسطاس المستقيم. وإن رأيتم منها فتورًا فاضربوها بسوط الهجر في المضاجع، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا. أرفقوا بمطايا الأبدان ففد ألفت الترف، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن.

إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تحملوا على النفس فوق الطاقة إلى أن تتمكن المحبة فلها حينئذ حكمها.

شراب الهوى حلو ولكنه يورث الشرق.

من تذكر خنق الفخ هان عليه هجران الحبة.

يا معرقلًا في شرك الهوى حموة عزم وقد خرقت الشبكة لا بد من نفوذ القدر، فاجنح للسلم.

أي تصرف بقي لك في قلبك وهو بين إصبعين.

يا منقطعين عن القوم سيروا في بادية الدجى وانتحوا بوادي الذل، فإذا فتح باب للواصلين فدونكم، فاهجموا هجوم اللوافين وابسطوا أكف وتصدق علينا، لعل هاتف الرحمة يقول لا تثريب.

{ لله ملك السموات والأرض } واستقرض منك حبة فبخلت بها وخلق سبعة أبحر واستقرض دمعة فقحطت عينك بها.

إطلاق البصر ينقش في القلب صورة المنظور، والقلب كعبة وما يرضى المعبود بمزاحمة الأصنام.

لذات الدنيا كسوداء، وقد غلبت عليك والحور العين يعجبن من سوء اختيارك عليهن غير أن زوبعة الهوى إذا ثارت سفت في عين البصيرة، فخفيت الجادة.

تدور عينك على المحرمات، كأنك قد ضاع منك شيء ورواحل همتك في الهوى ما تحمل لها قتب.

إن قهر نفسك حب الفاني فذكرها العيش الباقي فإن أبت إلا بيع الغبن، فاحجر عليها حجر السفيه وغط بصر باشقك إلى أن ينسى ما رأى واغسل باطن عينيك بطهور المدامع، وكلما تذكرت ما أبصرت فاطرق بدمعة، لعل فرط البكاء يدفع فساد البصر فيصلح لرؤية الحبيب:

وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ** سواها وما طهرتها بالمدامع

وتسمع منها لفظة بعدما جرى ** حديث سواها في خروق المسامع

غيره:

إذا لم أنل منكم حديثًا ونظرة ** إليكم فما نفعي بسمعي وناظري

تزينت الجنة للخطاب فجدوا في تحصيل المهر.

تعرف رب العزة للمحبين فعملوا على اللقاء، وأنت مشغول بالجيف.

ما يساوي ربع الدينار خجل الفضيحة فكيف بألم القطع.

المعرفة بساط لا يطأ عليه إلا مقرب والمحبة نشيد لا يطرب عليه إلا محب مغرم والحب غدير في صحراء ليس عليه جادة، فلهذا قال وراده.

المحب يهرب إلى العزلة والخلوة بمحبوبه والتعلق بذكره، كهرب الحوت إلى الماء، والطفل إلى أمه:

وأخرج من بين البيوت لعلني ** أحدث عنك النفس بالسر خاليًا

لو رأيت المحبين في الدجى تمر عليهم زمر النجوم مر الوصائف إلى أن تقبل هوادج هل من سائل، فينثرون عليه الأرواح نثر الفراش على النار.

ليس للعابدين مستراح إلا تحت شجرة طوبى ولا للمحبين قرار إلا يوم المزيد، فمثل لقلبك الاستراحة تحت شجرة طوبى يهن عليك النصب، واستحضر يوم المزيد يهن عليك ما تتحمل من أجله.

كنوز الجواهر مودعة في مصر الليل، فتتبع آثار المحبين لعلك تظفر بكنز.

أنت طفل في حجر العادة، مشدود بقماط الهوى فمالك ولمزاحمة الرجال؟

أين أنت والمحبة. وأنت أسير الحبة. تمسكت بالدنيا تمسك الرضيع بالظئر والقوم ما أعاروها الطرف.

أف لبدوي لا يطربه ذكر حاجر.

انقسم الصالحون عند السباق فمنهم من أخذه القلق، فكان يقول ويل لي إن لم يغفرها أنا أمضي إلى النار أو يغفر. ومنهم من غلب عليه الرجاء كبلال كانت زوجته تقول واحزناه، وهو يقول واطرباه. غدًا ألقي الأحبة محمدًا وحزبه. واهًا لبلال علم أن الإمام لا ينسى المؤذن.

اشتغل به في الحياة يكفك ما بعد الموت.

دق كؤوس الرحيل فسار الركب وتأهبوا للمسير، وعكمت أحمال الزاد وسار رفقة المجدين، وأنت في الرقدة الأولى بعد كيف تطيق السهر مع الشبع أم كيف تزاحم أهل العزائم بمناكب الكسل.

هيهات ما وصل القوم إلى المنزل إلا بعد مواصلة السرى، ولا عبروا إلى مقر الراحة إلا على جسر التعب.

وأطيب الأرض ما للقلب فيه هوى ** سم الخياط مع المحبوب ميدان

لو رأيت أهل القبور في وثاق الأسر فلا يستطيعون الحركة إلى نجاة وحيل بينهم وبين ما يشتهون.

يا منفقًا بضاعة العمر في مخالفة حبيبه والبعد منه، ليس في أعدائك أشد شرًا عليك منك.

ما يبلغ الأعداء من جاهل ** ما يبلغ الجاهل من نفسه

غيره:

هذا المحب لديك فانظر هل ترى ** قلبًا فإن صادفت قلبًا فاعذل

غاية العاذل إيصال اللوم إلى الأذن فأما القلب فلا سبيل له إليه.

سفر الليل لا يطيقه إلا مضمر المجاعة. تمر النجائب في الأول، وحاملات الزاد في الآخر، ولو وردت ماء مدين، لوجدت عليه أمة من الناس يسقون.

إقبال الليل عند المحبين كقميص يوسف في أجفان يعقوب.

لو أحببت المخدوم حضر قلبك في خدمته.

فيا دارها بالحزن إن مزارها ** قريب ولكن دون ذلك أهوال

العروس تلبس عند العرض تحت الثياب شعار الخوف من الرد، وفوق الثياب حلة الانكسار وحمرة الخجل تغنيها عن تخمير مستعار، لإنها لا تدري على ماذا تقدم فكيف يسكن من لا يعرف العواقب.

مداراة قيس ممكن، ولكن لا مع ذكر ليلى.

انقسم العباد ثلاثة أقسام: فمنهم من لاحظ الحصاد فزاد في البذر. ومنهم من رأى حق المحذوم فقام بأدائه. ومنه من خدم حبًا وشوقًا فتلذذ بالخدمة، وهذه الخدمة لا ثقل لها، لأن محركها الحب وغيرها ثقيل على البدن.

نوق أبدان المحبين لا تحس بالنصب، وأسماعها مشغولة بصوت الحادي وقلوبها معلقة بالمنزل.

من عبده خوفًا أمنه ومن عبده رجاء إعطاه أمله ومن عبده حيًا فلا تعلم نفس ما أخفي لها.

يراها بعين الشوق قلبي على النوى ** فتحظى ولكن من لعيني برؤياها

وهبكم منعتم أن يراها بعينه ** فهل تمنعون القلب أن يتمناها

كم دخل المجلس عاص في باطنه باطية خمر فما زالت تعمل فيها حدة شمس التذكير حتى انقلبت خلًا فحلت.

يكون أجاجًا دونكم فإذا انتهى ** إليكم تلقى نشركم فيطيب

فصل: فوائد لغوية

حَلِيَ الشيء في عيني وحَلا في فمي.

الحذف بالعصا والخذف بالحصا.

حسر عن رأسه وسفر عن وجهه.

وافترّ عن نابه وكشّر عن أسنانه.

وأبدى عن ذراعيه وكشف عن ساقيه.

مائدة لما عليها الطعام وخِوان لما لا طعام عليه.

عَرْق العظم عليه اللحم، وعُراق جمعه، وبدون اللحم عظم.

كأس لما فيه شراب وبدونه زجاجة.

وإناء وقدح كوز لذي العروة، وبدونها كوب.

رُضاب للريق في الفم فإذا انفصل فبُصاق.

أريكة السرير عليه قبة وبدونها سرير.

خِدْر للخباء فيه المرأة وبدونها سِتر.

ظعينة للمرأة في الهودج.

قلم للمبري، وبدون بريه أنبوب.

عهن للصوف المصبوغ وبدون صبغه صوف.

وَقود للحطب المشتعل نارًا وبدونها حطب.

رَكِيّة للبئر ذي الماء، وراوية للإبل حاملات الماء.

سَجْل للدلو فيها الماء فإذا ملئت فهي ذَنُوب ودَلو بدونهما.

نَفَق إذا كان له منفذ وبدونه سَرَب.

نَعش للسرير عليه الميت وبدونه سرير.

خاتَم لذي الفص وبدونه حَلقة.

رُمْح لذي الزُّج وبدونه قَناة.

لطيمة الإبل التي لحمل الطيب والبَزّ خاصة، وحَمُولة للحاملات الأمتعة وبدَنة للمهداة.

هَضبة للحمراء من التلول.

غَيث للمطر في إبّانه وإلا فمطر.

الفَرْك البغض بين الزوجين خاصة.

الشَّيم نظير البرق وحده.

الواعية الصائحة على الميت خاصة.

الإباق هرب العبد خاصة.

القُتار ريح الشواء خاصة.

القَذف الشتم بالزنا خاصة.

لا يُؤبه به وله، وأما إليه فمن لحن الخاصة.

يتفل بالكسر والضم ويفسق مثله.

آسيتك وآكلتك وآخيتك. وحكى أبو عبيد واسيتك.. بالواو فيهن وليس إذا من لحن الخاصة، وله وجه في العربية فإنهم يقولون أواسيه بقلب الهمزة واوًا في المستقبل، فأعطوها ذلك في الماضي.

لا يقال أقْلَبه إلا في موضع واحد قلبت الخبز إذا حان وقت قلبها.

القوة الماسكة ليس بغلط، كما زعم طائفة لأنه قد ورد مَسَك ثلاثي.

تَعَسَ بفتح العين.

ما أعطي أحد النصف فأباه إلا أخذ أقل منه.

أعجبني الشيء يراد به معنيان: أحدهما: سرني وهو من الإعجاب، والثاني: بمعنى دعاني إلى التعجب منه. فتقول: عجب يعجب معدًّى بالهمزة.

قال كعب بن زهير:

لو كنت أعجب من شيء لأعجبني سعى الفتى وهو مخبوء له القدر

فأعجبني هنا من العجب لا من الإعجاب. فتقول أعجبني، وما أعجبني بالاعتبارين.

يحدر في قراءته يسرع، ويهدر يهتاج في قراءته مع علو صوته فيها، من قولهم هدر الفحل إذا هاج، وهدر الحمام وهدرت الضفادع. فليس من لحن العامة.

إذا حلَّت الشمس بالشَّرَطَيْنِ بفتح الشين والراء وضمهما لحن.

يقال: عَنِيتُ في كذا، فأنا عانٍ فيه، وعُنِيت به مبني للمفعول، فأنا مَعنِيٌّ به، وحكى ابن الأعرابي الفتح أيضا فيه، وقال غيره: عُنيت بالضم أي قصدت بها، وعَنيت بالفتح أي قصدتُ، تقول عنيت كذا أي قصدته غير معدّى بالباء فهذا من القصد، وأما من العناء فإنما يقال معنَّى وأما من العناية، فإنما يقال عُنِيَ به، مبني للمفعول.

فصل: أسماء بعض الرجال وأسماء آبائهم

بلال بن حمامة وأبوه رباح. ابن أم مكتوم وأبوه عمرو. بشير بن الخصاصية وأبوه مَعبَدٌ، الحارث بن البرصاء وأبوه مالك. خُفاف بن نُدبة وأبوه عُمير. شُرَحبيل بن حسنة وأبوه مالك. مالك بن نُمَيلة وأبوه ثابت. مُعاذ ومُعوذ ابني عفراء وأبوهما الحارث. يعلَى ابن مُنْيَة وأبوه أمية. عبد الله بن بُحَينة وأبوه مالك.

إسماعيل بن عُلَيّة وأبوه إبراهيم. منصور بن صفية وأبوه عبد الرحمن. محمد بن عائشة وأبوه حفص. إبراهيم بن هَراسة وأبوه سلمة. محمد بن عَثْمة وأبوه خالد.

فصل: بعض ما رواه عطاء عن أبي هريرة والكلام على الفرار من الطاعون

عطاء عن أبي هريرة: في كل صلاة قراءة.

وعطاء مرفوعًا لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن، فذكر الخلفاء الأربعة.

وعطاء عنه مرفوعًا إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة.

وعطاء عنه أن النبي سجد في اقرأ باسم ربك.

وعطاء عنه مرفوعًا إذا مضى ثلث الليل. يقول الله تعالى: { ألا داع.

فالأول ابن أبي رباح، والثاني الخراساني، والثالث ابن يسار، والرابع ابن ميناء، والخامس مولى أم صُبَية.

عَمْرة أنها دخلت مع أمها على عائشة، فسألتها ما سمعت رسول يقول في الفرار من الطاعون. قالت: سمعته يقول: كالفرار من الزحف.

وعمرة قالت: خرجت مع عائشة سنة قتل عثمان إلى مكة، فمررنا بالمدينة وأرينا المصحف الذي قتل وهو في حجره فكانت أول قطرة قطرت على هذه الآية { فسيكفيكهم الله }، 279 قالت عمرة: فما مات منهم رجل سويًا.

وعمرة عن عائشة: سمعت رسول الله ينهى عن الوصال.

الأولى بنت عبد الرحمن، الثانية: بنت قيس العدوية، الثالثة بنت أرطاة، الرابعة يقال لها الصاحية.

حماد عن ثابت عن أنس سمع النبي في النخل صوتًا.. الحديث.

حماد عن ثابت عن أنس رأى رسول الله على عبد الرحمن صُفرة.. الحديث.

حماد عن ثابت عن أنس يرفعه مثل أمتي كالمطر.

الأول ابن سَلَمة، الثاني ابن زيد، الثالث الأبحّ.

قتادة يروي عن عكرمة مولى ابن عباس. وعن عكرمة بن خالد: ضعيف.

وكيع يروي عن النضر بن عدي: ثقة. وعن النضر بن عبد الرحمن: ضعيف.

حفص بن غياث يروي عن أشعث بن عبد الرحمن ثقة. وعن أشعث بن سوار ضعيف.

موسى بن عبيدة الربذي كان أخوه عبد الله بن عبيدة أسن منه بثمانين سنة.

طالب أسن من عقيل بعشر سنين. وعقيل أسن من جعفر بعشر. وجعفر أسن من علي بعشر.

يزيد وزياد ومدرك بنو المهلب بن أبي صفرة ولدوا في عام واحد وقتلوا في عام واحد، وعاش كل منهم ثمانيًا وأربعين سنة.

أربعة أنفس ولد لكل منهم مائة ولد: أنس بن مالك، وعبد الله بن عمر الليثي، وخليفة السعدي. وجعفر بن سليمان الهاشمي.

علي بن الحسين وعلي بن عبد الله بن عباس وعلي بن عبد الله بن جعفر: بنو عم. ولكل منهم ابن اسمه محمد، والكل أشراف والكل علماء والكل أخيار.

فصل: الإنسان خليفة في الأرض

الله سبحانه مهد الأرض لآدم وذريته قبل خلقه، فقال: { إني جاعل في الأرض خليفة }، 280 وقضى أن يعرفه قدر المخالفة وأقام عذره بقوله: { فأزلهما الشيطان }، 281 وتداركه برحمة بقوله: { ثم اجتباه ربه }، 282 يا آدم لا تجزع من كأس خطا كان سبب كيسك، فقد استخرج منك داء العجب، وألبسك رداء العبودية: لو لم تذنبوا.

لا تحزن بقولي لك اهبطوا منها فلك خلقتها، ولكن اخرج إلى مزرعة المجاهدة واجتهد في البذر واسق شجرة الندم بساقية الدمع، فإذا عاد العود أخضر فعد لما كان.

منصب الخلة منصب لا يقبل المزاحمة بغير المحبوب. وأخذ الولد شعبة من شعاب القلب. غار الحبيب على خليله أن يسكن غيره في شعبة من شعاب قلبه فأمره بذبحه فلما أسلم للامتثال خرجت تلك المزاحمة وخلصت المحبة لأهلها فجاءته البشرى وفديناه بذبح عظيم.

ليس المراد أن يعذب، ولكن يبتلى ليهذب.

ليس العجب من أمر الخليل بذبح الولد، إنما العجل من مباشرة الذبح بيده، ولولا الاستغراق في حب الآمر لما هان مثل هذا المأمور، فلذلك جعلت آثارها مثابة للقلوب تحن إليها أعظم من حنين الطيور إلى أوكارها.

قول لوط لقومه: { يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد }، 283 يجمع أنواعًا من الاستعطاف:

أحدها: خطابهم بخطاب الناصح المشفق بقوله: يا قوم ولم يقل يا هؤلاء.

الثاني: عرضه بناته عليهم بقوله: هؤلاء بناتي.

الثالث: تنجيز ذلك بالإشارة بلفظ الحضور.

الرابع: ترغيبه فيهن لطهارتهن وطيبهن.

الخامس: تذكيرهم بالله بقوله فاتقوا الله.

السادس: المطالبة بحفظ الذمام وترك الأذى بقوله ولا تخزون.

السابع: التوبيخ الشديد بقوله أليس منكم رجل رشيد.

لما تمكن الحسد من قلوب أخوة يوسف أُريَ المظلوم مآل الظالم في مرآة: إني رأيت أحد عشر كوكبًا.

شكرك لا يساوي قدر قوتك.

لا كانت دابة لا تعمل بعلفها.

متى رأيت العقل يؤثر الفاني على الباقي، فاعلم أنه قد مسخ.

ومتى رأيت القلب قد ترحل عنه حب الله والاستعداد للقائه وحل فيه حب المخلوق والرضى بالحياة الدنيا، والطمأنينة بها، فاعلم أنه قد خسف به.

ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله تعالى فاعلم أن قحطها من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي.

ومتى رأيت نفسك تهرب من الأُنس به إلى الأُنس بالخلق، ومن الخلوة مع الله إلى الخلوة مع الأغيار، فاعلم أنك لا تصلح له.

ومتى رأيته يستزيد غيرك وأنت لا تطلب ويستدني سواك وأنت لا تقرب، فإن تحركت لك قدم في الزيارة تخلف قلبك في المنزل، فاعلم أنه الحجاب والعذاب.

مزاج الإيمان منحرف عن الصحة، ونبض الهوى شديد الخفقان، تحكمت أخلاط الشهوات في أعضاء الكسل فثبطت عن الحركة، فتولدت الأمراض المختلفة، هذا وما يسهل عليك شرب مسهل، فإن تداركت المرض وإلا قتل. لو احتميت ساعة لم تحتج إلى معالجة الدواء مدة. من ركب ظهر التفريط والتواني نزل به دار العسرة والندامة.

ربك يحب حياة نفسك، وأنت تريد قتلها. يريد بك اليسر، وأنت تريد العسر، يريد بها الكرامة، وأنت جاهد في إهانتها. * ما يبلغ الأعداء من جاهل * 284

من أدلج في غياهب الليل على نجائب الصب صبح منزل السرور. ومن نام علىفراش الكسل أصبح ملقى بوادي الأسف. الجد كله حركة، والكسل كله سكون. فتورك عن السعي في طلب الفضائل دليل على تأنيث العزم.

إذا أردت أن تعرف الديك من الدجاجة وقت خروجه من البيضة فعلقه بمنقاره، فإن تحرك فديك، وإلا فدجاجة.

الدنيا كامرأة بغي لا تثبت مع زوج، فلذلك عِيب عُشاقها.

مَيّزت بين جمالها وفعالها ** فإذا الملاحة بالقباحة لا تفي

حَلَفت لنا أن لا تخون عهودها ** فكأنما حلفت لنا أن لا تفي

ما حظى الدينار بنقش اسم الملك فيه حتى صيرت سبيكته على الترداد إلى النار، فنفت عنها كل خبث، ثم صبرت على تقطيعها دنانير ثم صبرت على ضربها على السكة، فحينئذ يظهر عليها رقم النقش، فكيف يطمع في نقش كتب في قلوبهم الإيمان من كله خبث.

مكابدة البادية تهون عند ذكر البيت المضحى بوادي الجوع، والمعشى بوادي السهر، إلى أن تلوح أعلام المنزل. إذا ونت الركاب في السير فبثوا حداة العزم في نواحيها يطيب لها السري.

إذا حال غيم الهوى بين القلوب وبين شمس الهدى تحير السالك.

الحيوان البهيم يتأمل العواقب وأنت لا ترى إلا الحاضر. ما تكاد تهتم بمؤونة الشتاء حتى يقوى البرد، ولا بمؤونة الصيف حتى يقوى الحر. والذر يدخر الزاد من الصيف لأيام الشتاء. وهذا الطائر إذا علم أن الأنثى قد حملت أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع. أفتراك ما علمت قرب رحيلك إلى القبر، فهلا بعثت فراش من عمل صالحًا فلأنفسهم يمهدون.

وهذا اليربوع لا يتخذ بيتًا إلا في موضع صلب ليسلم من الحافر ويكون مرتفعًا ليسلم من السيل، ويكون عند أكمة أو صخرة لئلا يضل عنه ثم يجعل له أبوابًا ويرقق بعضها، فلا ينفذه. فإذا أتى من باب مفتوح دفع برأسه مارق من التراب وخرج منه، وأنت قد ضيقت على نفسك الخناق فما أبقيت للنجاة موضعًا.

النفس كالعدو إن عرفت صولة الجد منك استاسرت لك، وإن أنست عنك المهانة أسرتك أتمنعها ملذوذ مباحاتها ليقع الصلح على ترك الحرام، فإذا احتجت لطلب المباح، فأما منا بعد وأما فداء.

الدنيا والشيطان عدوان خارجان عنك، والنفس عدو بين جنبيك. ومن سنة الجهاد قاتلوا الذين يلونكم. أليس المبارز بالمحاربة كالكمين الذي يطلع عليك من حيث لا تشعر.

أقل ما تفعل النفس معك أنها تمزق العمر بكف التبذير والبطالة أخل معها في بيت الفكر سويعة ثم انظر هل هي معك أو عليك؟ ثم عاملها بما تعامل به. واحدًا منهما.

من لم تبك الدنيا عليه لم تضحك الآخرة إليه. سينقشع غيم التعب عن فجر الآخرة. كم صبر بشر عن شهوة حتى سمع كل يا من لم يأكل. يا من حسد سجاف نعم العبد على فيه ووهنًا له حتى وصل على قدر أنا وجدناه صابرًا.

كيف يفلح من يشكو الليل إلى ربه من طول يومه والنهار من قبيح فعله. كيف يفلح من هو جيفة بالليل قطرب بالنهار ينصب بميزان البخس، ومكيال التطفيف والقدر ثالثة الأثافي.

لو فكر الطائر في الذبح ما حام حول القمح. لولا صبر المضمرات على قلة العلف ما قيل لها سوابق.

مما أضر بأهل العشق أنهم ** هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا

تفنى نفوسهم شوقًا وأعينهم ** في إثر كل قبيح وجهه حسن

تحملوا حملتكم كل ناجية ** فكل بينٍ علي اليوم مؤتمن

ما في هوادجكم من مهجتي عوض ** إن مت شوقًا ولا فيها لها ثمن

سهرت بعد الرحيل وحشة لكم ** ثم استمر مريري وارعوى الوسن

لا تلق دهرك إلا غير مكترث ** ما دام تصحب فيه روحك البدن

فما يديم سرورًا قد سررت به ** ولا يرد عليك الغائب الحزن

إذا لم تكن من أنصار الرسول فتنازل الحرب. فكن من حراس الخيام، فإن لم تفعل فكن من نظارة الحرب الذين يتمنون الظفر للمسلمين، ولا تكن الرابعة فتهلك.

إذا رأيت الباب مسدودًا في وجهك فاقنع بالوقوف خارج الدار مستقبل الباب سائلًا مستعطيًا فعسى، ولكن لا تول ظهرك وتقول ما حيلتي وقد سد الباب دوني.

لما نادى منادي الأفضال: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، سارت نجائب الأعمال (إلى) باب الجزاء، فصيح بالدليل: ولولا أن ثبتناك، فقال: ما منكم من ينجيه عمله.

إن لم تقدر على مشارع أرباب العزائم، فرد باقي الحياض، فمن لم يكن عنده ابن لبون قبلت منه ابنة مخاض.

لا تحتقر معصية فكم أحرقت شررة، أما عرفت سر ولا تقربا هذه الشجرة. لو قنع آدم لاكتفى، ولكن المحنة كانت في الشره.

الخلوة شرك لصيد المؤانسة. أخفى الصيادين شخصًا، وأقلهم حركة أكثرهم التقاطًا للصيد. ما صاد هِرٌّ نوا. 285

أبدا نفوس العاشـ ** قين إلى ربوعكم تحن

وكذا القلوب بذكركم ** بعد المخافة تطمئن

غيره:

طلول إذا يشكو إليها متيم ** شكا غير ذي نطق إلى غير ذي فهم

غيره:

وإنما عمر الفتى سوق له ** يصدر عنه غانمًا أو خاسرًا

غيره:

نراع إذا الجنائز قابلتنا ** ونلهو حين تخفى ذاهبات

كروعة ثلة لظهور ذئب ** فلما غاب عادت راتعات

خذ نفسك بالعزانم لا ترخص، حائط الباطن خراب فعلام إذًا تجصص.

العلم والعمل توأمان أمهما علو الهمة.

والجهل والبطالة توأمان أمهما إيثار الكسل.

أيها المعلم تثبت على المبتدي وقدر في السرد، فللعالم رسوخ وللمتعلم قلق، ويا أيها الطالب تواضع في الطلب فإن التراب بينا هو تحت الأخمص صار طهورًا للوجه.

تُجلى عليك عروس المعرفة، ولكن على غير كفؤ. وإنما يحل النظر إذا كان العقد جائزًا. * فغضَّ الطرف إنك من نمير *

ليس العالِم شخصًا واحدًا، العالم عالم تصانيف. العالم أولاده المخلدون دون أولاده. من خلق للعلم شف جوهره من الصغر. طول الشهر مفض إلى طيب المرقد:

والهوان في ظل الهوينا كامن ** وجلالة الأخطار في الإخطار

مياه المعاني مخزونة في قلب العالم يفتح منها للسقي سيحًا بعد سيح، ويدخر أصفاها لأهل الصفا، فإذا تكاثرت عليه نادى للسبيل فيبقى علمه سيح، ولهذا يتضاعف عليه زكاة الشكر.

كل وقت تسافر بضائع فكره من مدينة قلبه إلى قلوب الطالبين فينادي عليها دلال لسانه وهو يعرضها في مواسم النصح على تجار الطلب والإرادة من يشتري حكمة وعلمًا بتخبير الثمن. فيا من يرى علو تلك المرتبة لا تنس الدرج.

كم خاض بحرًا ملحًا حتى وقع بالعذب، وكم تاه في مهمه قفر حتى سمي بالدليل، وكم أنض مراكب الجسم وفض شهوات الحس وواصل السرى ليلًا ونهارًا، وأوقد نار الصبر في دياجي الهوى فإن وثقتم بأمانته، فهذا تخبير الشراء.

الدنيا تفوق سهامها نحو بنيها. وتقول خذوا حذركم فلهذا دم قتلاها هدر.

غاب الهدهد عن سليمان ساعة فتوعده، فيا من أطال الغيبة عن ربه هل أمنت غضبه.

تخلف الثلاثة عن الرسول في غزوة واحدة فجرى لهم ما سمعت فكيف بمن عمره في التخلف عنه.

إذا سكر الغراب بشراب الحرص تنقل بالجيف فإذا صحى من خماره ندم على الطلل. خالف موسى الخضر في طريق الصحبة ثلاث مرات فحل عقدة الوصال بيد هذا فراق بيني وبينك أفما تخاف يا من لم يف لربه قط أن تقول في بعفى زلاتك هذا فراق بيني وبينك.

أعظم عذاب أهل جهنم جهلهم بالمعذب. لو صحت معرفتهم بما لمالك هنالك لما استغانوا بمالك يا مالك. وقع بينهم شخص ليس من الجنس كان في باطنه ذرة من المعرفة، فكلما حملت عليه النار اتقاها بدرع يا حنان يا منان. كان موته في المعاصي سكته فقبر في جهنم، فلما تحرك الررح في الباطن أخرج من القبر.

حرص العصفور يخنقه وقع العنكبوت في زاوية الضعف يسوق إليها الذباب قوتًا لها. رب ساع لقاعد. أرسلت قلبك مع كل مطلوب من الهوى ثم تبعث وراءه وقت الصلاة فربما لا يلقاه الرسول فتصلي بلا قلب:

خلفت قلبك في الأظعان إذ نزلت ** بالمازمين غداة النفر بالنفر

ورحت تطلب في أرض العراق ضحى ** ما ضاع عند منى فاعجب لذا الخبر

لما طرقنا منى كان الفؤاد معي ** فضل عني بين الضال والسمر

بأرجل العيس تتبيك الرمال فما ** أمشي بوجدي غدًا إلا على الأثر

يا من فقد قلبه لا تيأس من عوده.

فقد يجمع الله الشتيتين بعدما ** يظعنان كل الظن أن لا تلاقيا

الهوى قاطن والصواب خاطر وطرد القاطن صعب وإمساك الخاطر أصعب.

إنك لم تزل في حبس فأول الحبوس صلب الأب. والثاني بطن الأم. والثالث: القماط والمهد. والرابع المكتب. والخامس الكد على العيال. والسادس مرض الموت. والسابع القبر، فإن وقعت في الثامن نسيت مرارة كل حبس تقدم.

ادخل حبس التقوى باختيارك أيامًا ليحصل لك الإطلاق على الدوام ولا تؤثر إطلاق نفسك فيما تحب فإنه يؤثر حبس الأبد.

العذل على حمل العشق علاوة.

ومرنح قطب الشم يوجده ** فروى له خبر التعذيب معرضا

متى تركت المعصية وما حللت عقد الإصرار لم يفد شيئًا، كما لو سكن المرض من غير استفراغ، فإنه على حاله إن لم يتحقق، قصد القلب لم يؤثر النطق شيئًا. يمين المكره لا تنعقد.

ويحك نفسك سلعتك وقد استامها المشتري بأفخر الثمن، فاجهد في إصلاح عيوبها لعله يرض بها.

منام المنى أضغاث. ورائد الآمال كذوب. ومرتع الشهوات وخيم. العجز شريك الحرمان، التفريط مصائب الكسل، قُفلُ قلبك رومي ما يقع عليه فش. 286

متى خامر من جنود عزمك عليك واحد لم يأمن قلبك الهزيمة عليك.

وإذا كان في الأنابيب خلف ** وقع الطيش في رؤوس الصعاد

كن قيمًا على جوارحك ورعيتك إذا وفيتها الحظوظ فاستوف منها الحقوق.

تأمل قوله تعالى: { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى }، 287 كيف شرك بينهما في الخروج، وخص الذكر بالشقاء لاشتغاله بالكسب والمعاش والمرأة في خدرها.

تزود من الماء القراح فلن ترى ** بوادي الغضا ماء نقاحًا ولا بردًا

ونل من نسيم البان والرند نفحة ** فهيهات واد ينبت البان والرندا

وكر إلى نجد بطرفك إنه ** متى تسرِ لا تنظر عقيقًا ولا نجدا

انظر يمنة فهل ترى محنة، ثم اعطف يسرة فهل ترى إلا حسرة، أما الربع العامر فدرس، وأما أسر الممات فغرس، وأما الراكب فكبت به الفرس ساروا في ظلم ظلامتهم فما عندهم قبس وقفت بهم سفن نجاتهم، لأن البحر يبس. وانقلبت تلك الدور كلها في تعس. وجاء منكر بآخر سبأ ونكير بأول عبس. أفلا يقوم لنجاته من طال ما قد جلس.

يا نفس ما هي إلا صبر أيام ** كان مدتها أضغاث أحلام

يا نفس جودي عن الدنيا ولذتها ** وخل عنها فإن العيش قدامي

ألا يصبر طائر الهوى عن حبة مجهولة العاقبة، وإنما هي ساعة ويصل إلى برج أمنه وكم فيه من حبة:

وإن حننت للحمى وروضه ** فبالغَضا ماء وروضات أخر

حامل الكتب من الطير أقوى عزيمة منك، فلعل وضعك على غير الاعتدال، لا تكون الروح الصافية إلا في بدن معتدل ولا الهمة العالية إلا في نفس نفيسة.

إذا حمل الطائر الرسالة صابر العزيمة ولازم بطون الأودية، فإن خفيت عليه الطريق تنسم الرياح وتلمح قرص الشمس وتستر، وهو مع شدة جوعه يحذر الحب الملقى خوفًا من دفينة فخ توجب تعرقل الجناح، ويضيع ما حمل، فإذا بلغ الرسالة أطلق نفسه في أغراضها داخل البرج.

فيا حاملي كتب الأمانة أكثركم على غير الجادة وما يستدن منكم من قد راقه الحب فنزل (ناسيا) بما حمل فارتهن وربح، فيسلم تعرقل جناحه وينتظر الذبح فلا الحبة حصلت ولا الرسالة وصلت.

قطاة غرها شرك فباتت ** تجاذبه وقد علق الجناح

فلا في الليل نالت ما تمنت ** ولا في الصبح كان لها سَراح

لو صابرتم مشقة الطريق لانتهى السفر. فتوطنتم مستريحين في جنات عدن. يا مهملين النظر في العواقب أسلفوا في وقت الرخص، فما يؤمن تغير الأسعار. لا ترم بسهام النظر، فإنها والله فيك تقع رب راع مقلة أهملها فأغير على السرح.

كل الحوادث مبدؤها من النظر ** ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فعلت في قلب ناظرها ** فعل السهام بلا قوص ولا وتر

غيره:

وأرى السهام نام من يرمي بها ** فعلام سهم اللحظ يصمي من رمى

اعرف قدر لطفه بل وحفظه لك. إنما نهاك عن المعاصي حماية لك وصيانة لك لا بخلا منه عليك، وإنما أمرك بالطاعة رحمة وإحسانًا. لا حاجة منه إليك، لما عرفته بالعقل حرم ما يزيله، وهو الخمر صيانة لبيت المعرفة. يا متناولًا للمسكر لا تفعل يكفيك سكر جهلك فلا تجمع بين سكرين.

سلعة { وإني لغفار } لا تبذل إلا بثمن { لمن تاب }. يا خارجًا من سبيله { وأمن } عن سكة { وعمل صالحًا } من دار ضرب { ثم اهتدى }

إن لم تقدر على الجد في العمل، فقف على باب الطلب. تعرض لنفحة من نفحات الرب ففي لحظة أفلح السحرة:

لا تجزعن من كل خطب عرى ** ولا ترى الأعداء ما يشمت

واصبر فبالصبر تنال المنى ** إذا لقيتم فئة فاثبتوا

ثمن المعالي الجد، والفتور داء مزمن.

من السلوة في عينيـ ** ك آيات وآثار

إذا ما برد القلب ** فما تسخنه النار

الوجود بحر، والعلماء جواهره، والزهاد عنبره، والتجار حيتانه، والأشرار تماسيحه، والجهال على ظهره كالزبد.

لو كشفت لك الدنيا ما تحت نقابها لرأيت المعشوقة عجوزًا وما ترضى إلا بقتل عشاقها، وكم تدللت عليهم بالنشوز، أذاقتهم برد كانون الأماني وإذا هم في وسط تموز.

تطلب مشاركة الغانمين وما شهدت الحرب، تحل الغنيمة لمن شهد الوقعة.

البلايا تظهر جواهر الرجال وما أسرع ما يفتضح المدعي.

تنام عينيك وتشكو الهوى ** لو كنت صَبا لم تكن هكذا

يا مؤثرًا ما يفني على ما يبقى. هذا رأي هواك فهلا استشرت العقل لتعلم أنصحهما لك. لا تحقرن يسير المعصية كالعشب الضعيف يفتل منه حبال تجر السفن. أو ما نفذت في سد سباحيلة جرد. العمر ثوب غير مكفوف وكل نفس خيط يسل منه. أنت أجير وعليك عمل، فأخر ثياب الراحة إلى انقضاء العمل. كم غرقت سفينة في بحر سوف.

ساروا وما يسألون ما فعل الـ ** فجر ولا كيف مالت الشهب

عودهم هجرهم مطالبة الر ** احة أن يظفروا بما طلبوا

الشجاع يلبس القلب على الدرع، والجبان يلبس الدرع على القلب.

أعظم البلايا تردد الركب إلى بلد الحبيب يودعون الدمن:

ومعال لو ادعاها سواهم ** لزمته جناية السراق

(غيره: )

نالوا السماء وحطوا من نفوسهم ** إن الكرام إذا انحطوا فقد صعدوا

لو صدق عزمك قذفتك ديار الكسل إلى بيداء الطلب.

الناقد يخاف دخول المبهرج عليه واختلاطه بماله والبهرج آمنة. هذا الصديق يمسك بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد. وعمر يناشد حذيفة: هل أنا منهم؟ والمخلط على بساط الأمن.

إذا جن الليل وقع الحرب بين النوم والسهر، فكان الشوق والخوف في مقدمة عسكر اليقظة، وصار الكسل والتواني في كثيبة الغفلة، فإذا حمل الغريم حملة صادقة هزم جنود الفتور والنوم فحصل الظفر والغنيمة، فما يطلع الفجر إلا وقد قسمت السهمان، وما عند النائمين خبر.

قام المتهجدون على أقدام الجد تحت ستر الدجى يبكون على زمن ضاع في غير الوصال.

ما زالت مطايا السهر تذرع بيداء الدجى وعيون آمالها لا ترى إلا المنزل وحادي العزم يقول: يا رفقة الليل طاب السير فاغتنموا المَسرَى، فمن نام طول الليل لم يصل. إلى أن هب نسيم السحر فقام الصادح يبغي ظلام الليل فلما هم بالرحيل تشبث القوم بأذياله يبكون على فراق المحبوب، فلما طلع الفجر حدى حاديهم: * عند الصباح يحمد القوم السُّرَى *

يا من يستعظم أحوال القوم تنقل في المراقي تَعلُ.

من جمع بين العلم بالسنة ومتابعتها أنتجا له المعاني البديعة فهي تنادي على رؤوس الأشهاد: ولدت من نكاح لا من سفاح. ومن قرن بين البدعة والهوى أنتجا له ضروب الهذيان، فهي تنادي على رؤوس الأشهاد: أيها الفطن لا تغتر.

إذا فتحت الوردة عينها فرأت الشوك، حولها فلتصبر على مجاورته قليلًا، فوحدها تقصد وتقبل وتشم.

إذا تكلم من يريد الدنيا بكلامه فإنه كلما حفر في قليب قلبه وأمعن في الاستنباط أنهار عليه تراب الطمع فطمه.

إذا رأيت سربال الدنيا قد تقلص عنك فاعلم أنه لطف بك، لأن المنعم لم يقبضه بخلًا أن يتمزق، ولكن رفقًا بالساعي أن يتعثر.

فتش على القلب الضائع قبل الشروع فحضور القلب أول منزل من منازل الصلاة فإذا نزلته انتقلت إلى بادية المعنى، فإذا رحلت عنها انخت بباب المناجاة، فكان أول قرى ضيف اليقظة. كشف الحجاب لعين القلب فكيف يطمع في دخول مكة من لا خرج إلى البادية بعد.

إذا كانت مشاهدة مخلوق يوم أخرج عليهن استغرقت إحساس الناظرات فقطعن أيديهن وما شعرن فكيف بالحال يوم المزيد. لو أحببت المعبود لحضر قلبك في عبادته. قيل لعامر بن عبد القيس. أما تسهو في صلاتك؟ قال: أوَحديثٌ أحب إلي من القرآن حتى أشتغل به.

وكان مسلم بن يسار لا يلتفت في صلاته حتى انهدمت ناحية من نواحي المسجد فزع لها أهل السوق. فما التفت وكان إذا دخل منزله سكت أهل بيته، فإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا علمًا منهم بالغيبة.

وقيل لبعضهم: إنا لنوسوس في صلاتنا. قال: بأي شيء بالجنة أو الحور العين والقيامة، قالوا: لا بل بالدنيا. فقال: لأن تختلف في الأسنة أحب إلي من ذلك.

تقف في صلاتك بجسدك. وقد وجهت وجهك إلى القبلة، ووجهت قلبك إلى قطر آخر. ويحك ما تصلح هذه الصلاة مهر للجنة فكيف تصلح ثمنًا للمحبة.

رأت فأرة جملًا فأعجبها فجرت خطامه فتبعها فلما وصلت إلى باب بيتها وقف فنادى بلسان الحال إما أن تتخذي دارًا تليق بمحبوبك أو محبوبًا يليق بدارك، وهكذا أنت أما أن تصلي صلاة تليق بمعبودك وأما أن تتخد معبودًا يليق بصلاتك.

تعاهد قلبك فإن رأيت الهوى قد أمال أحد الحملين فاجعل في الجانب الآخر ذكر الجنة والنار ليعتدل الحمل، فإن غلبك الهوى فاستعنت بصاحب القلب يعينك على الحمل. فإن تأخرت الإجابة فابعث رائد الانكسار خلفها تجده عند المنكسرة قلوبهم.

اللطف مع الضعف أكثر، فتضاعف ما أمكنك.

لما كانت الدجاجة لا تحنو على الولد أخرج كاسيًا. 288 ولما كانت النملة ضعيفة البصر أعينت بقوة الشم، فهي تجد ريح المطعوم من البعد. ولما كانت الخلد عمياء ألهمت وقت الحاجة إلى القوت أن تفتح فاها، فيبعث إليها الذباب فيسقط فيه فتتناول منه حاجتها.

الأطيار تترنم طول النهار. فقيل للضفضع: ما لك لا تنطقين. فقالت: مع صوت المزمار يستبشع صوتي ولكن الليل أجمل بي.

لا تنس العناية بالسحرة، جاؤوا يحاربونه ويحاربون رسله وخلع الصلح قد فصلت وتيجان الرضي قد وضعت، وشراب الوصال مروق، فمدوا أيديهم إلى ما اعتصروا من خمر الهوى، فإذا بها قد انقلبت خلًا فأفطروا عليه فسكروا بشراب المحبة، فلما عربدت عليهم المحبة صلبوا في جذوع النخل. واعجبًا لعزمات ما ثناها { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف }.

سجدوا له سجدة واحدة فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا منازلهم من الجنة فغلبهم الوجد وتمكن منهم الشوق. فقالوا: اقض ما أنت قاض، إنما نقضي هذه الحياة الدنيا.

تمر الصبا صبحًا بساكن ذي الغضا ** ويصدع قلبي أن يهب هبوبها

قريبة عهد بالحبيب وإنما ** هوى كل نفس أين حل حبيبها

قطعت نياق جدهم بادية الليل، ولم تجد مس التعب، فالطريق إلى المحبوب لا تطول:

بعيد على كسلان أو ذي ملالة ** وأما على المشتاق فهو قريب

يا حاضرين معنا بنية النزهة لستم معنا. عودوا إلى أوكار الكسل فالحرب طعن وضرب ويا مودعين ارجعوا، فقد عبرنا العذيب وعن قريب تأتيكم أخبارنا بعد قليل، ويا أيها الحادي عرس بالخيف من منى تعلمك الدموع كيف ترمي حصا الجمار.

ضيف المحبة ما له قرى إلا المهج، إذا رأيت محبًا ولم تدر لمن وضع يدك على نبضه، وسم له من تطبه به فإن النبض ينزعج عند ذكره: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم }.

حر الخوف صيف الذوبان وبرودة الرجاء شتاء العطلة ومن لطف به فزمانه كله فصل الربيع:

عين تسر إذا رأتك وأختها ** تبكي لطول تباعد وفراق

فاحفظ لواحدة دوام سرورها ** وعد التي أبكيتها بتلاق

إذا رزقت يقظة فصنها في بيت عزلة، فإن أيدي المعاشرة نهابة، واحذر معاشرة البطالين فإن الطبع لص. لا تصادقن فاسقًا ولا تثق إليه فإن من خان أول منعم عليه لا يفي لك.

يا فرخ التوبة لازم ذكر الخلوة فإن هر الهوى صيود. إياك والتقرب من طرف الوكر والخروج من بيت العزلة حتى تتكامل نيات الحوافي وإلا كنت رزق الصائد.

الأنس بالخلوة دبق، أول ما يعرقل جناح الطير، والمخالطة توجب التخليط، وأيسرها تشتيت الهمة وضعف العزيمة:

أقل ما في سقوط الذئب في غنم ** إن لم يصب بعضها أن تنفر الغنم

إن لم تكن من جملة المستحقين للميراث فكن من رفقة: { وإذا حضر القسمة أولو القربى }.

ويحك لا تحقر نفسك، فالتائب حبيب والمنكسر صحيح. إقرارك بالإفلاس عين الغنى. تنكيس رأسك بالندم هو الرفعة. اعترافك بالخطأ نفس الإصابة.

عرضت سلعة العبودية في سوق البيع فبذلت الملائكة نقد. ونحن نسبح بحمدك. فقال آدم: ما عندي إلا فلوس الإفلاس. نقشها ربنا ظلمنا أنفسنا. فقيل: هذا الذي ينفق على خزانة الخاص، أنين المذنبين أحب إلينا من زجل المسبحين.

إن كان يأجوج الطبع ومأجوج الهوى قد عانوا في أرض القلوب فأفسدوا فيها فأعينوا الملك بقوة يجعل بينكم وبينهم ردمًا. أجمعوا له من العزائم ما يشابه زبر الحديد ثم تفكروا فيما أسلفتم ليثور صعد الأسف، فلا يحتاج إلى أن يقول لكم { انفخوا }.

شدوا بنيان العزم بهجر المألوفات والعوائد وقد استحكم البناء فحينئذ، أفرغوا عليه قطر الصبر. وهكذا بنى الأولياء قبلكم فجاء العدو، فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا.

ضاقت أيام الموسم فأسرعوا بالإبل. لا تفتكم الوقفة.

إذا لم تخلص فلا تتعب. لا تحد ومالك بعير. لا تمد القوس وما لها وتر.

كم بذل نفسه مراء ليمدحه الخلق فذهبت نفسه فانقلب المدح ذمًا. ولو بذلها لله. لبقيت ما بقي الدهر. عمل المرائي بصلة كلها قشور. المرائي يحشو جراب الزوادة رملًا يثقله في الطريق وما ينفعه. ريح الرياء جيفة تجافاها مشام القلوب.

لما أخذ دود القز ينسج أقبلت العنكبوت تشبهه. وقالت: لك نسج ولي نسج، فقالت دودة القز: ولكن نسجي أدية الملوك ونسجك شبكة الذباب وعند مس الحاجة يتبين الفرق:

إذا اشتبكت دموع في خدود ** تبين من بكا ممن تباكا

شجرة الصنوبر تثمر في ثلاثين سنة. وشجرة الدباء تصعد في أسبوعين، فتقول للصنوبرة: إن الطريق التي قطعتها في ثلاثين سنة قطعتها في أسبوعين، ويقال: لي شجرة ولك شجرتم. فقالت لها الصنوبرة: مهلًا حتى تهب رياح الخريف، فإن ثبتِّ لها تم فخرك.

كان التصوف والفقر في مواطن القلوب فصار في ظواهر الثياب. كان خرقة فصار حرفة. غير زيك أيها المرائي فإنه يصيح بك خذوني. السيف والدرع لتزيين هيئتك فضيحة البَهرَج تبين عند الحك.

لو أبصرت طلائع الصديقين في أوائل الركب، أو سمعت استغاثة المحبين في وسط الركب، أو شاهدت ساقة المستغفرين في آخر الركب. لعلمت أنك قد انقطعت تحت شجر أم غيلان.

واحسرتا لمنقطع دون الركب يعد المنازل:

أعد الليالي ليلة بعد ليلة ** وقد عشت دهرًا ولا أعد اللياليا

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ** يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

إلام الرواح في الهوى والتغليس، وحتام السعي في صحبة إبليس، وكم بهرجة في العمل وتدليس؟ أين أقرانك هل تسمع لهم من حسيس. أعلمت أنهم اشتد ندمهم وحسرتهم على إيثار الخسيس. تالله لقد ودوا أن لو كانوا طلقوا الدنبا قبل المسيس:

عين المنية تغضي غير مطرفة ** وطرف مطلوبها مذ كان وسنان

جهلًا تمكن منه حين مولده ** فالنطق صاح ولب المرء سكران

لا تنفع الرياضة إلا في نجيب، لو سقي الحنظل بماء السكر لم يخرج إلا مرًا شجر الأثل والصفصاف والحور ونحوها، ولو دام الماء في عروقها لا تثمر أبدًا.

سحاب الهوى قد طبق بيداء الأكوان وأمطر مشارق الأرض ومغربها، ولكن قيعان أرض قلبك قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. ومع هذا فلا تيأس فقد يستحيل الخمر خلا، ولكن إنما ذلك لطيب العنصر.

خلا الفكر في القلب في بيت التلاوة فجرى ذكر الحبيب وأوصافه فنهض الشوق على قدم السعي.

من لم يشاهد جمال يوسف لم يعرف ما الذي آلم قلب يعقوب:

من لم يبت والحب حشو فؤاده ** لم يدر كيف تفتت الأكباد

يا من هبت على قلبه جنوب المجانبة فتكاثفت عليه غيوم الغفلة فأظلم أفق المعرفة. لا تيأس فالشمس تحت الغيم. لو تصاعد منك نفس أسف استحالت شمالًا فتقطع السحاب فبانت الشمس تحته.

لما كان رزق الطائر اختلاسًا لم يجعل له أسنان، لأن زمن الانتهاب لا يحتمل المضغ. وجعل له حوصلة كالمخلاة ينقل إليها، ما يستلب ثم تنقله إلى القانصة في زمن الإمكان. فإن كانت له أفراخ أسهمهم قبل النقل.

كلما طالت ساق الحيوان طال عنقه ليمكنه تناول الأطعمة من الأرض.

رميت صخرة الهوى على ينبوع الفطنة فاحتبس الماء، فإن لم تطق رفعها فانقب حولها لعل ينابيع الماء تتفجر.

لو بعت لحظة من إقبالك على الله بمقدار عمر نوح في ملك قارون، لكنت مغبونًا في العقد.

عشاق الدنيا بين مقتول ومأسور { فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر }.

يا طالبي العلم قد كتبتم ودرستم فلو طلبكم العلم في بيت العمل فلستم. وإن ناقشكم على الإخلاص أفلستم. شجرة الإخلاص { أصلها ثابت } لا يضرها زعازع { أين شركائي الذين كنتم تزعمون }، وأما شجرة الدباء فإنها تجتث عند نسمة «من كان يعبد شيئًا فليتبعه».

رياء المرائين صير مسجد الضرار مزبلة وخربة { لا تقم فيه أبدًا }. وإخلاص المخلصين رفع قدر التفث «رب أشعث أغبر».

قلب من ترائيه بيد من أعرضت عنه يصرفه عنك إلى غيرك، فلا على ثواب المخلصين حصلت ولا إلى ما قصدته بالرياء وصلت وفات الأجر والمدح. فلا هذا ولا هذا.

لا تنقش على الدرهم الزائف اسم الملك، فإنه لا يدخل الخزانة إلا بعد النقد.

المخلص يتبهرج على الخلق بستر حاله وببهرجته يصح له النقد. والمرائي يتبرطل على باب الملك يوهم أنه من الخواص وهو غريب فسله عن أسرار الملك يفتضح. فإن خفي عليك فانظر حاله مع خاصة الملك.

يا من لم يصبر عن الهوى صبر يوسف يتعين عليه بكاء يعقوب، فإن لم يطق فذل أخوته يوم { وتصدق علينا }.

إذا طاب لبث الطين على حافات الأنهار تكامل ربه، فإذا نضب عنه الماء استلبت الشمس ما فيه من الرطوبة، فيشتد شوقه إلى الماء. فلو وضعت منه قطعة على لسانك لأمسكه وعلق به شوقًا إلى الورد. فيا من نضب ماء معاملته. هل أحسست بالعطش؟ * وقالوا يعود الماء في البئر بعدما *

وكانت بالحجاز لنا ليال ** نهبناهن من أيدي الزمان

آخر:

ولا تنصب خيامك في محل ** فإن النازلين على ارتحال

مداراة الضعفاء باللطف. فاذا قووا شدد عليهم. «مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشر».

كان الإسلام في بدايته كالنطفة فاقتنع بكلمة التوحيد، فلما نفخ فيه الروح احتاج إلى الغذاء ففرضت الصلاة، فلما تحرك وجبت الهجرة، فلما اشتد وجبت الزكاة فلما قربت الولادة لزم الحج، فلما ظهر طفلًا حبى بلطف { يريد الله بكم اليسر }، فلما خاف من الزلل والعقاب جاءت بشارة { لا تقنطوا }، فلما ترعرع قال المؤدب { من يعمل سواء يجز به }، فلما بلغ أشده واستوى جاء { ويحذركم الله نفسه }.

المتعبدون باليل يقربون إلى نوق الأبدان خيط الرقاد. فإذا تناولت سد الفاقة رفعت رؤوسها، فإذا الدليل على الجادة فتأخذ في السير.

من النجوم الجواري مؤذن ومنها مقيم فأرباب العزائم يؤذن في محلتهم بليل ويقام لهم أول الوقت، وأهل يصلون في أول الوقت، وأهل الفتور في آخره.

إذا هجمت جنود الرقاد على العيون صاح حارس اليقظة بالمتعبدين «الصلاة خير من النوم». وهتف رقيب المعاتبة كذب من ادعى محبتي حتى إذا جنه الليل نام عني. فيصيح المشتاق:

سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم ** هل اكتحلت بالغمض لي في أجفان

ثم تمر بالمتهجدين سيارة النجوم، فيبعثون مع كل فيج رسالة فتسلم أخباره إلى ركب السحر فتهب لمجيئها رياح الأسحار، فيقول المنتظر: { إني لأجد ريح يوسف }.

سبحان من أنعم على الموجودات بإيجادها من غير طلب، فلما وجدت بسطت أكف السؤال لطلب تكميلها. فالأجنحة في بطون الأمهات تطلب تكميل الخلق والبذر تحت التراب يطلب قوته من الري. ومخ الثمار ينتظر من فضله كمال نضجه. ومراكب البحار ترجو تحريكها بالرياح. وأصحاب البضائع ينتظرون وجود الأرباح عليهم. وطلاب العلم يسألون فتح منغلق الفهم. وأهل المجاهدة يرومون المعاونة على الطبع. ومظلوم يترقب طلوع فجر النصر. والمريض يتململ بين يديه طلبًا للطفه. والمكروب ينتظر كشف ما به. والخائف يترقب بريد الأمن. والأبدان المتمزقة في اللحود تنتظر جمع الشمل بعد الشتات، وعرائس الجنان يسألن سلامة بعولتهن وتعجيل اللقاء. فإذا قام الخلق من أطباق التراب بإنعاش البعث نكس صاحب الزلل رأس الندم طلبًا للعفو. ومد العابد يد التقاضي بالمسلم فيه عند حلول الأجل، وحدق الزاهد إلى جزاء الصبر. وأشرف المحب على أطلال الشوق إلى الحبيب. وصاح العارف بلسان الوجد إذ لم يبق وقت للصمت.

لي عندكم دين فواعجبًا ** الدين لي وفؤادي الرهن

(غيره: )

عدمتُ دوائي بالعراق وربما ** وجدتُ بنجدٍ لي طبيبا مداويا

ويا جبل الريان إن تعر منهم ** فإني سأكسوك الدموع الجواريا

ومن حذري لا أسال الركب عنهم ** وإغلاق وجدي باقيات كما هيا

ومن يسأل الركبان عن كل غائب ** فلا بد أن يلقي بشيرًا وناعيا

فائدة: الغوص في دقائق المعاني وتجاوز قالب اللفظ

من له غوص من دقائق المعاني يتجاوز نظره قالب اللفظ إلى لب المعنى، والواقف مع الألفاظ مقصود على الزينة اللفظية. فتأمل قوله تعالى: { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى }، 289 كيف قابل الجوع بالعرى والظمأ بالضحى والواقف مع القالب، ربما يخيل إليه أن الجوع يقابل بالظمأ والعرى بالضحى. والداخل إلى بلد المعنى يرى هذا الكلام في أعلا الفصاحة والحلالة، لأن الجوع ألم الباطن والعرى ألم الظاهر فهما متناسبان في المعنى، وكذلك الظمأ مع الضحى، لأن الظمأ موجب لحرارة الباطن والضحى موجب لحرارة الظاهر. فاقتضت الآية نفي جميع الآفات ظاهرًا وباطنًا.

وفي هذا الباب حكاية مشهورة وهي أن ابن حمدان قال يومًا للمتنبي: قد انتقد عليك قولك:

وقفت وما في الموت شك لواقف ** كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ** ووجهك وضاح وثغرك باسم

قالوا: ركبت صدر كل بيت على عجز الآخر وكان الأولى أن يقول:

وقفت وما في الموت شك لواقف ** ووجهك وضاح وثغرك باسم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ** كأنك في جفن الردى وهو نائم

فليتم المعنى حينئذ، لأن انبساط الوجه ووضوحه مع الوقوف في موقف الموت أشبه بأوصاف الكماة، والسلامة من الردى مع مرور الأبطال كلمى هزيمة أعجب في حصول النجاة.

وهذا كما انتقد على امرىء القيس قوله:

كأني لم أركب جوادًا للذة ** ولم أبتطن كاعبًا ذات خلخال

ولم أسبا الزق الروي ولم أقل ** لخيلي كُرّي كرة بعد إجفال

فلو قال:

كأني لم أركب جوادًا ولم أقل ** لخيلي كري كرة بعد أجفال

ولم أسبا الزق الروي للذة ** ولم أبتطن كاعبًا ذات خلخال

كان أشبه بالمعنى، لأن ركوب الخيل أشبه بالكر على الأبطال وسبا الزق أليق بتبطن الكواعب.

فقال المتنبه -يعني قائل الشعر المدعو بالمتبي الكذاب-: اعلم أن القزاز أعلم بالثوب من البزاز، لأن القزاز يعلم أوله وآخره، والبزاز لا يرى منه إلا ظاهره. وهذا الانتقاد غير صحيح، فإني قلت: * وقفت وما في الموت شك لواقف * فذكرت الموت وتحقق وقوعه في صدر البيت ثم تممت المعنى بقولي: * كأنك في جفن الردى وهو نائم * والردى الموت بعينه، فكأني قلت: وقفت في مواضع الموت ولم تمت، كأن الموت نائم عنك فحصل المعنى مناسبًا للقصد. ثم قلت: تمر بك الأبطال كلمى هزيمة، ومن شأن المكلوم والمنهزم أن يكونا كاشحي الوجوه عابسيها خائبي الأمل، فقلت: * ووجهك وضاح وثغرك باسم * لتحصل المطابقة بين عبوس الوجه وقطوبه ونضارته وشحوبه، وإن لم تكن ظاهرة في اللفظ فهي في المعنى يفهمها من له في إدراك دقائق المعاني قدم راسخ.

وأما قول امرىء القيس: * كأني لم أركب جوادًا للذة * فإنه لما ذكر الركوب في البيت الأول تممه بما يشبهه ويناسبه من ركوب الكواعب ليحصل لذة ركوب مهر الحرب وركوب مهر اللذة.

وأما البيت الثاني فمن شأن الشارب إذا انتشا أن تتحرك كوامن صدره ويثور ما في نفسه من كوامن الأخلاق إلى الخارج. فلما ذكر الشرب وحاله وتخيل نفسه كذلك فتحرك كامن خلقه من الحماسة والشجاعة فأردفه بما يليق به.

ثم ذكر الآية وتكلم عليها بنحو ما تقدم.

إذا ظفرت من الدنيا بقربكم ** فكل ذنب جناه الحب مغفور

فصل: حكم ومواعظ

من نبت جسمه على الحرام فمكاسبه كبريت به يوقد عليه. الحجر المغصوب في البناء أساس الخراب.

أتراهم نسوا طي الليالي لمن تقدمهم { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } فما هذا الاغترار وقد { خلت من قبلهم المثلات }، { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } من لهم إذا طلبوا العودة فـ { حيل بينهم وبين ما يشتهون }.

سبحان الله كم بكت في تنعم الظالم عين أرملة واحترقت كبد يتيم وجرت دمعة مسكين. { كلوا وتمتعوا قليلًا إنكم مجرمون }، 290 { ولتعلمن نبأه بعد حين }، 291 ما ابيض لون رغيفهم حتى اسود لون ضعيفهم. وما سمنت أجسامهم حتى انتحلت أجسام ما استأثروا عليه.

لا تحتقر دعاء المظلوم فشرر قلبه محمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك. ويحك نبال أدعيته مصيبة وإن تأخر الوقت. قوسه قلبه المقروح، ووتره سواد الليل، وأستاذه صاحب لأنصرنك ولو بعد حين، وقد رأيت ولكن لست تعتبر.

احذر عداوة من ينام وطرفه باك يقلب وجهه في السماء. يرمي سهامًا ما لها غرض سوى الإحشاء منك، فربما ولعلها إذا كانت راحة اللذة تثمر ثمر العقوبة لم يحسن تناولها.

ما تساوي لذة سنة غم ساعة. فكيف والأمر بالعكس.

كم في يم الغرور من تمساح فاحذر يا غائص. ستعلم أيها الغريم قصتك عند تعلق الغرماء بك.

إذا التقى كل ذي دين وماطله ** ستعلم ليلى أي دين تداينت

من لم يتتبع بمنقاش العدل شوك الظلم من أيدي التصرف أثر ما لا يؤمن تعديه إلى القلب. يا أرباب الدول لا تعربدوا في سكر القدرة فصاحب الشرطة بالمرصاد.

سليمان الحكم قد حبس عاصف العقوبة في حصن { فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا }، 292 وأجرى رحا الرخا { لئلا يكون للناس على الله حجة }، 293 فلو هبت سموم الجزاء من مهب { ولئن مستهم نفحة }، 294 قلعت سكري { إنما نملي لهم }، 295 فإذا طوفان التلف ينادي فيهم { لا عاصم اليوم من أمر الله }، 296 فالحذر أن تقول - نفس: { يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله }. 297

وأنت أيها المظلوم. فتذكر من أين أتيت، فإنك لا تلقى كدرًا إلا من طريق جناية. { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }، 298 { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم }. 299

كان لبان يشرب الماء باللبن، فجاء سيل فذهب بالغنم فجعل يبكي فهتف به هاتف. اجتمعت تلك القطرات فصارت سيلًا، ولسان الجزاء يناديه: يداك أوقدتا وفوك نفخ.

اذكر غفلتك عن الأمر والأمر وقت الكسب. ولا تنس إطراح التقوى عند معاملة الخلق، فإذا انقض غاصب فسمعت صوت صوله يضرب عقد المكسب جزاء لخيانته العقود فلا تستعظم ذاك فأنت الجاني والبادي أظلم.

فائدة: بيتان من الشعر تحتمل ثمانية أوجه

ما يقول الفقيه أيده اللـه ما زال عنده إحسان

في فتى علق الطلاق بشهر ** قبل ماقبل قبله رمضان

في هذا البيت ثمانية أوجه:

أحدها: هذا والثاني: بعدما بعد بعده، والثالث: قبل ما بعد بعده، والرابع: بعدما قبل قبله فهذه أربعة متقابلة، والخامس: قبل ما بعد قبله، والسادس: بعد ما قبل بعده. والسابع: بعد ما بعد قبله، والثامن: قبل ما قبل بعده.

وتلخيصها أنك إن قدمت لفظة بعد جاء أربعة: أحدها: بعدات كلها. الثانية: بعد أن وقبل. الثالثة: بعد وقبلان. الرابعة: بعد وقبل ئم بعد. وإن قدمت لفظة قبل جاءت أربعة كذلك.

فإذا عرفت هذا فضابط الجواب عن هذه الأقسام الثمانية، أنه إذا اتفقت الألفاظ. فإن كانت قبلًا فيكون هذا السهر الذي تقدمه رمضان بثلاثة أشهر، فيقع الطلاق في ذي الحجة، فكأنه قال: أنت طالق في شهر ذي الحجة، لأن المعنى أنت طالق في شهر رمضان قبل قبل قبله فلو قال رمضان: قبله طلقت في شوال. ولو قال: قبل قبله لطلقت في ذي القعدة. فإن قال: قبل قبل قبله طلقت في ذي الحجة.

وإن كانت الألفاظ بعدات طلقت في جمادى الأخرة، لأن المعنى أنت طالق في شهر يكون رمضان بعد بعد بعده. ولو قال رمضان. بعده: طلقت في شعبان. ولو قال: بعد بعده طلقت في رجب فإذا قال: بعد بعد بعده طلقت في جمادى الآخرة، وإن اختلفت الألفاظ وهي في ست مسائل فضابطها أن كل ما اجتمع فيه قبل وبعد فالغهما نحو قبل بعده وبعد قبله، واعتبر الثالث. فإذا قال: قبل بعد بعده أو بعد قبل قبله فالغ اللفظين الأولين يصير، كأنه قال في الأول: بعده رمضان فيكون شعبان وفي الثاني كأنه قال قبله رمضان فيكون شوال. وتقرير هذا إن كل شهر واقع قبل ما هو بعده، وبعد ما هو قبله.

وإن توسطت لفظة بين مضادين لها نحو قبل بعد قبله وبعد قبل بعده فالغ اللفظين الأولين ويكون شوالًا في الصورة الأولى كأنه قال في شهر رمضان وشعبان في الثانية كأنه قال بعده رمضان.

وإذا قال بعد بعد قبله أو قبل قبل بعده وهما تمام الثمانية طلقت في الأولى في شعبان كأنه قال بعده رمضان. وفي الثانية في شوال كأنه قال قبله رمضان.

فائدة: بيت شعر يشتمل على أربعين ألف وثلاثمائة وعشرين بيتا

قال بعض الفضلاء بيتًا من الشعر يشتمل على أربعين ألف بيت من الشعر وثلاثمائة وعشرين بيتًا وهو لزين الدين المغربي:

لقلبي حبيب مليح ظريف ** بديع جميل رشيق لطيف

وبيان ذلك أن هذا البيت ثمانية أجزاء، يمكن أن ينطق بكل جزء من أجزائه مع الجزء الآخر فتنتقل كل كلمة ثمانية انتقالات. فالجزءان الأولان لقلبي حبيب يتصور منهما صورتان بالتقديم والتأخير.

ثم خذ الجزء الثالث فيحدث منه مع الأولين ست صور، لأن له ثلاثة أحوال تقديمه عليهما وتأخيره وتوسطه ولهما حالان، فاضرب أحواله في الحالين يكون ستة.

ثم خذ الجزء الرابع وله أربعة أحوال فاضربها في الصور المتقدمة وهي الستة التي لما قبله تكن أربعة وعشرين.

ثم خذ الخامس تجد له خمسة أحوال فاضربها في الصور المتقدمة وهي أربعة وعشرون تكن مائة وعشرين.

ثم خذ السادس تجد له ستة أحوال فاضربها في مائة وعشرين تكن سبعمائة وعشرين.

ثم خذ السابع تجد له سبعة أحوال فاضربها في سبعمائة وعشرين تكن خمسة آلاف وأربعين.

ثم خذ الثامن تجد أحواله ثمانية فاضربها في خمسة آلاف وأربعين تكن أربعين ألفًا وثلاثمائة وعشرين بيتًا؛ فامتحنها تجدها كذلك.

ومثله لي قلته في القدس:

محب صبور غريب فقير ** وحيد ضعيف كتوم حمول

فائدة: صور دخول الشرط على الشرط

في دخول الشرط على الشرط وهو صور:

أحدها: إن خرجت ولبست فأنت طالق لا يحنث إلا بهما كيفما كانا.

الثانية: إن لبست فخرجت لم يحنث إلا بخروج بعد لبس.

الثالثة: إن لبست ثم خرجت لا يحنث إلا بخروجها بعد لبسها لا معه ويكون متراخيًا هذا بناء على ظاهر اللفظ، وأما قصده فيراعى ولا يلتفت إلى هذا.

الرابعة: إن خرجت لا إن لبست يحنث بالخروج وحده، ولا يحنث باللبس، ويحتمل هذا التعليق أمرين: أحدهما: أن يجعل الخروج شرطًا ويبقى أن يكون اللبس شرطًا فحكمه ما ذكرنا. الثاني: أن يجعل الخروج مع عدم اللبس شرطًا فلا يحنث بخروج معه لبس ويكون المعنى إن خرجت لا لابسة أو غير لابسة، فإن خرجت لابسة لم يحنث.

الخامسة: إن خرجت، بل إن لبست فلا يحنث إلا باللبس دون الخروج، ويحتمل هذا التعليق أيضا أمرين، أحدهما: هذا، والثاني أن يكون كل منهما شرطًا فيحنث بأيهما وجد ويكون الإضراب إضراب اقتصار لا إضراب إلغاء فكأنه يقول: لا أقتصر على جعل الأول وحده شرطًا، بل أيهما وجد فهو شرط فعلى التقدير الأول يكون اضراب الغاء ورجوع. وعلى الثاني إضراب اقتصار وإفراد.

السادسة: إن خرجت أو إن لبست يحنث بأيهما وجد.

السابعة: إن لبست، لكن إن خرجت فالشرط الثاني قد لغا الأول بلكن لأنها للاستدراك.

الثامنة: وهي أشكلها إن لبست إن خرجت وهذه مسألة دخول الشرط على الشرط ويحتمل التعليق في ذلك أمرين. أحدهما: أن يجعل كل واحد منهما شرطًا مستقلًا فيكون كالمعطلوف بالواو سواء ولا إشكال. والثاني: أن يجعل أحدهما شرطًا في الآخر.

واختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة. فقال أصحاب مالك هو تعليق للتعليق ففي هذا الكلام تعليقان: أحدهما: إن لبست فأنت طالق، ثم علق هذه الجملة المعلقة بالخروج، فكأنه قال: شرط نفوذ هذا التعليق الخروج فعلى هذا لا يحنث حتى يوجد الخروج بعد اللبس. وممن نص عليها ابن شاش في الجواهر. وقال أبو إسحاق في المهذب وقد صور المسألة إن كلمت زيدًا، إن دخلت الدار، فأنت طالق ثم كلمت زيدًا طلقت، وإن كلمت زيدًا أولًا، ثم دخلت الدار لم تطلق، لأنه جعل دخول الدار شرطًا في كلام زيد فوجب تقديمه عليه، وهكذا عكس قول المالكية ورجح أبو المعالي قول المالكية في نهايته. وقد وقع هذا التعليق في كتاب الله عز وجل في مواضع:

أحدها: قوله حكاية عن نوح: { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم }، 300 وهذا ظاهر في أن الشرط الثاني شرط في الشرط الأول. والمعنى إن أراد الله أن يغويكم لم ينفعكم نصحي إن أردته وهذا يشهد لصحة ما قال الشيخ أبو إسحاق.

الموضع الثاني: قوله تعالى: { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك }، 301 قالوا: فهذه الآية ظاهرة في قول المالكية، لأن إرادة رسول الله متأخرة عن هبتها فإنها تجرى مجرى القبول في هذا العقد. والإيجاب هو هبتها. ونظير هذا أن يقول: إن وهب لي شيئًا إن أردت قبوله أخذته فإرادة القبول متأخرة عن الهبة فلا يكون شرطًا فيها، قال الأولون: يجوز أن تكون إرادة رسول الله متقدمة، فلما فهمت المرأة منه ذلك وهبت نفسها له فيكون كالآية الأولى. وهذا غير صحيح والقصة تأباه، فإن المرأة قامت. وقالت: يا رسول الله إني وهبت لك نفسي. فصعد فيها النظر وصوبه ثم لم يتزوجها وزوجها غيره.

الموضع الثالث: قوله تعالى: { فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين }. 302 المعنى: فلولا ترجعونها أي تردون الروح إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مربوبين مملوكين إن كنتم صادقين. وهنا الثاني شرط للأول. والمعنى: إن كنتم صادقين في قولكم، فهلا تردونها إن كنتم غير مدينين، ويدل عليه قول الشاعر أنشده أبو عبد الله بن مالك:

إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا ** منا معاقل عز زانها الكرم

ومعلوم أن الاستغاثة إنما تكون بعد الذعر، فالذعر شرط فيها. ومن هذا قول الدريدي:

فإن عثرت بعدها إن وألت نفسي ** من هاتا فقولا لا لعا

ومعلوم أن العثور مرة ثانية إنما يكون بعد النجاة من الأولى، فوالت شرط في الشرط الثاني وعلى هذا فإذا ذكرت الشرطين وأتيت بالجواب. كان جوابًا للأول خاصة. والثاني جرى معه مجرى الفضلة والتتمة كالحال وغيرها من الفضلات؛ قاله ابن مالك.

وأحسن من هذا أن يقال: ليس الكلام بشرطين يستدعيان جوابين، بل هو شرط واحد وتعليق واحد، اعتبر في شرطه قيد خاص جعل شرطًا فيه. وصار الجواب للشرط المقيد فهو جواب لهما معًا بهذا الاعتبار وإيضاحه، إنك إذا قلت إن كلمت زيدًا إن رأيته فأنت طالق جعلت الطلاق جزاء على كلام مقيد بالرؤية لا على كلام مطلق، وكأنه قال: إن كلمته ناظرة إليه فأنت طالق. وهذا يبين لك حرف المسألة، ويزيد عنك أشكالها جملة، وبالله التوفيق.

فائدة: الأعم لا يستلزم الأخص

قولهم: الأعم لا يستلزم الأخص عينًا، وإنما يستلزم مطلق الأخص ضرورة وقوعه في الوجود. ولا بد في هذا من تفصيل. وهو أن الحقيقة العامة، تارة تقع في رتب متساوية، فهذه تستلزم الأخص عينًا ولا بد، كما إذا قال: افعل كذا فإنه أعم من مرة ومرات، وهو يستلزم المرة الواحدة عينًا واتفق ما لا يستلزم أقل القليل عينًا، وتارة يقع في رتب غير متساوية كالحيوان والعدد فإنهما لا يستلزمان أحد أنواعهما عينًا والله سبحانه وتعالى أعلم.

فائدة: الفرق بين حمل المطلق على المقيد في الكلي والكلية

حمل المطلق على المقيد في الكلي شيء وحمل المطلق على المقيد في الكلية شيء آخر فالأول كقوله تعالى: { فتحرير رقبة }، 303 وقيدها بالإيمان في مكان آخر، فهذا إذا حمل المطلق على المقيد فيه لم يكن متضمنًا لمخالفة أحدهما، بل هو عمل بهما وتوفية بمقتضاهما. ولو عمل بالمطلق دون المقيد لخالف ولا بد، وأما الثاني فكما إذا كان الإطلاق في العام كقوله في كل أربعين شاة شاة، فإذا قيل في الغنم السائمة في كل أربعين شاة شاة، فليس هذا من باب حمل المطلق على المقيد، فإن اللفظ العام متناول لجميع أفراده. فحمله على التخصيص إخراج لبعض مدلوله والفرق بين إخراج بعض مدلول اللفظ وبين تقييد سلب عنه اللفظ الأول. رافع لموجب الخطاب. والثاني رافع لموجب الاستصحاب، وإنما يرجع هذا إلى أصل آخر وهو تخصيص العموم بالمفهوم فتأمله.

فائدة: يفرق بين الأمر والنهي في حمل المطلق على المقيد

وعلى هذا فلا ينبغي أن يقال يحمل المطلق على المقيد مطلقًا، بل يفرق بين الأمر والنهي، فإن المطلق إذا كان في الأمر لم يكن عامًا، فحمله على المقيد لا يكون مخالفة لظاهره ولا تخصيصًا. وإذا كان الإطلاق في النهي، فإنه يعم ضرورة عموم النكرة في سياق النهي. وإذا حمل عليه مقيد آخر كان تخصيصًا. ومثاله قوله : «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه». فهذا عام في الإمساك وقت البول ووقت الجماع وغيرهما وقال: «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول». فهذا مقيد بحالة البول. فحمل الأول عليه تخصيص محض.

فائدة: من شروط حمل المطلق على المقيد

حمل المطلق على المقيد مشروط بأن لا يقيد بقيدين متنافيين. فإن قيد بقيدين متنافيين امتنع الحمل وبقي على إطلاقه وعلم أن القيدين تمثيل لا تقييد مثاله قوله في ولوغ الكلب: «فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب مطلق». وفي لفظ أولاهن وهذا مقيد بالأول. وفي لفظ أخراهن وهذا مقيد بالآخرة، فلا يحمل على أحدهما، بل يبقى على إطلاقه.

فائدة: ومن شروطه

إنما يحمل المطلق على المقيد إذا لم يستلزم حمله تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن استلزمه حمل على إطلاقه وله مثالان:

أحدهما: قوله بعرفات: «من لم يجد نعلين فليلبس خفين» ولم يشترط قطعًا. وقال بالمدينة على المنبر لمن سأله ما يلبس المحرم: «من لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من كعبيه» فهذا مقيد ولا يحمل عليه ذلك المطلق، لأن الحاضرين معه بعرفات من أهل اليمن ومكة والبوادي لم يشهدوا خطبته بالمدينة. فلو كان القطع شرطًا لبينه لهم لعدم علمهم به، ولا يمكن اكتفاؤهم بما تقدم من خطبته بالمدينة. ومن هنا قال أحمد ومن تابعه أن القطع منسوخ بإطلاقه بعرفات اللبس، ولم يأمر بقطع في أعظم أوقات الحاجة.

المثال الثاني: قوله لمن سألته عن دم الحيض: «حتيه ثم اغسليه» ولم يشترط عددًا مع أنه وقت حاجة، فلو كان العدد شرطًا لبينه لها ولم يحملها على غسل ولوغ الكلب فإنها ربما لم تسمعه، ولعله لم يكن شرع الأمر بغسل ولوغه.

فائدة: النهي عن بيع الطعام قبل قبضه

نهى رسول الله عن بيع الطعام قبل قبضه، ونهى عن بيع ما لم يقبض في حديث حكيم بن حزام وزيد بن ثابت.

فقال أصحاب مالك: النهي مخصوص بالطعام دون غيره، فمنهم من قال: هو من باب حمل المطلق على المقيد وهو فاسد كما تقدم فإنه عام وخاص ولفظه: «إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه». ومنهم من قال: خاص وعام تعارضًا فقدم الخاص على العام، وهو أفسد من الأول. إذ لا تعارض بين ذكر الشيء بحكم وذكر بعضه به بعينه. ومنهم من قال: هو من باب تخصيص العموم بالمفهوم، وهذا المأخذ أقرب، لكنه ضعيف هنا لأن الطعام هنا وإن كان مشتقًا فاللقبية أغلب عليه، حيث لم يلج معنى يقتضي اختصاص النهي به دون الشراب واللباس والأمتعة فالصواب التعميم.

فائدة: حديث جعلت لي الأرض مسجد وطهورا

قوله : «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، وفي لفظ وترابها طهورًا، فقيل تخصيص الطهور بالتراب حملًا للمطلق على المقيد وهو ضعيف لأنه من باب الخاص والعام. وقيل هو من باب التخصيص بالمفهوم. واعترض عليه بثلاثة أمور.

أحدها: أن دلالة العموم أقوى لأنها لفظية متفق عليها.

الثاني: أنه مفهوم لقب وهو أضعف المفهومات.

الثالث: أن التخصيص بالتربة خرج لكونه غالب أجزاء الأرض والتخصيص إذا كان له سبب لم يعتبر بمفهومه وأجيب بأن ذكر التربة الخاصة بعد ذكر لفظ الأرض عامًا في مقام بيان ما اختص به، وأمنن الله عليه وعلى الأمة به دليل ظاهر على اختصاص الحكم باللفظ الخاص، فإن عدوله عن عطفه على اللفظ العام إلى اسم خاص بعده. يتضمن زيادة اللفظ والتفريق بين الحكمين، وإن الطهور متعلق بالتربة وكونها مسجدًا متعلق بمسمى الأرض يفهم تقييد كل حكم بما نسب إليه، وتخصيصه بما جعل خبرًا عنه وهذا واضح.

فائدة: قال لنسائه إحداكن طالق

استشكل جمهور الفقهاء مذهب مالك فيمن قال لنسائه: إحداكن طالق فإن الجميع يحرمن عليه بالطلاق. وقالوا: هذا الزام بالطلاق لمن لم يطلقها وهو باطل. قالوا: ويلزم من هذا خلاف الإجماع ولا بد، لأن الله تعالى أوجب إحدى خصال الكفارة، فإضافة الحكم لأحد الأمور إن اقتضى التعميم. وجب أن يوجبوا جميع الخصال وهو خلاف الإجماع وإن لم يقتض العموم وجب أن لا يقتضيه في قوله: إحداكن طالق، لأنه لو عم لعم بغير مقتض وهو باطل بالإجماع، ولكن لقوله: رضي الله عنه غور وهو الفرق بين إيجاب القدر المشترك وتحريم القدر المشترك، فالإيجاب في الكفارة إيجاب لقدر مشترك وهو مسمى أحد الخصال، وذلك لا يقتضي العموم. كما إذا أوجب عتق رقبة وهي مشتركة بين الرقاب لم يعم سائرها، وأما تحرير القدر المشترك فيلزم منه العموم، لأن التحريم من باب النهي وإذا نهى عن القدر المشترك كان نهيًا عن كل فرد من أفراده بطريق العموم. وإذا ثبت هذا، فالطلاق تحريم لأنه رافع لحل النكاح، فإذا وقع في القدر المشترك وهو إحدى نسائه عم جميعهن كما لو قال: والله لا قربت إحداكن شهرًا.

وأما أصحاب أحمد فإنهم قالوا إذا قال عبدي حر وامرأتي طالق عتق عليه جميع عبيده وطلق جميع نسائه، ولكن ليس بناء منهم على هذا المأخذ، بل لأن عندهم المفرد المضاف يعم كالجمع المضاف. وأما أصحاب أبي حنيفة والشافعي فلم يقولوا بالعموم في واحدة من الصورتين. وقال أصحاب مالك إذا قال لعبيده أحدكم حر كان له أن يختار من شاء منهم فيعينه للعتق ولا يتق الجميع. قالوا: لأن العتق قربة وطاعة لا تحريم فهو إيجاب للقدر المشترك وإن لزم منه التي التحريم، ولهذا لو قال: لله علي أن أعتق أحدكم لزمه عتق واحد دون الجميع. فيقال: لا فرق بين الطلاق والعتق في ذلك. وقول الجمهور: أصح وقولكم: إن الطلاق تحريم. ليس كذلك بل هو كاسمه إطلاق وإرسال للمرأة ويلزم منه التحريم، كما أن العتق إرسال للأمة ويلزم منه التحريم فهما سواء. ويدل عليه إن قال إن كلمت زيدًا فلله علي أن أطلق واحدة منكن، أو إحداكن لم يلزمه طلاق جميعهم عند من يعين عليه الوفاء عينًا دون الكفارة. ومعلوم قطعًا أن القائل لنسائه إحداكن طالق. غير مطلق لبقيتهن لا بلفظه ولا بقصده. فكيف يطلقن جميعًا؟ فلو طلقن لطلقن بغير مقتض لطلاقهن، ويدل على أن الطلاق ليس بتحريم إن الله تعالى أباحه، ولم يبح قط تحريم الحلال والتحريم ليس إلى العبد، إنما إليه الأسباب. والتحليل والتحريم يتبعها فهو كالعتق سواء. وقد قال تعالى: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك }، 304 ثم فرض تحلة اليمين في تحريم الحلال، وقد طلق حفصة، ولم يكن ذلك تحريمًا لها، ولو كان الطلاق تحريمًا لشرعت فيه الكفارة، كما شرعت في تحريم الحلال، وكما شرعت في الظهار الذي هو تحريم، فإن قيل: فما تقولون: إذا قال لنسائه: إحداكن علي حرام.. فإن هذا تحريم للمشترك. فينبغي أن يعم. قيل: هذا السؤال غير مسموع منكم فإن التحريم عندكم طلاق. فهو كقوله: إحداكن طالق، وأما من يجعله تحريمًا تزيله الكفارة كالظهار كقول أحمد: ومن وافقه فعندهم لا يعم، لأنه مطلق في إثبات فهو كقوله: حرمت واحدة منكن بخلاف ما إذا أراد المطلق في نفي كقوله: والله لا قربت واحدة منكن أو في نهي كقوله: لا تقرب واحدة منهن فإنه يعم.

فائدة: ارتفاع الواقع في الماضي

ارتفاع الواقع شرعًا محال. أي ارتفاعه في الزمن الماضي، وأما تقدير ارتفاعه مع وجوده ممكن وله أمثلة.

أحدها: أن من يقول الفسخ رفع للعقد من أصله فيستتبع الولد والثمرة والكسب. نقول: يقدر ارتفاعه من أصله واقعًا لا أنا نقول برفعه من أصله.

الثاني: إذا قال لامرأته إن قدم زيد آخر الشهر فأنت طالق أوله وقلنا: تطلق أول الشهر بقدومه آخره. فإنا نقدر ارتفاع تلك الإباحة قبل قدومه، لا انا نرفعها ونجعل الوطء حرامًا، بل نقدر أن تلك الإباحة في حكم العدم تنزيلًا للموجود بمنزلة المعدوم.

وثالثها: أنا ننزل المجهول كالمعدوم في باب اللقطة فننقل الملك بعد الحول إلى الملتقط مع بقاء المالك تنزيلًا له بمنزلة المعدوم.

ورابعها: أنا في المفقود نزلنا الزوج الذي فقد منزلة المعدوم فأبحنا لامرأته أن تعتد وتتزوج كما قضى فيه الصحابة. وخامسها: إن من مات ولا يعرف له قرابة كان ماله لبيت المال تنزيلًا للمجهول منزلة المعدوم. ولا نقول نوقفه حتى يتبين له قرابة، وكذلك لو علمنا له وارثًا واحدًا وشككنا في غيره، دفعنا إلى المعلوم ميراثه ولم نوقفه إلا إن تيقن أنه كان له وارث وشككنا في عدمه، فإنه ينبني على تقدير وجوده لأنه الأصل، وعكس هذا تنزيل المعدوم منزلة الموجود تقديرًا لا تحقيقًا وله أمثلة. أحدها: أن المقتول خطأ تورث عنه ديته المستحقة بعد موته تنزيلًا لحياته المعدومة وقت ثبوت الدية منزلة الحياة الموجودة ليثبت له الملك. وثانيها: لو أعتق عبده عن غيره، فإنا نقدر الملك المعدوم للمعتق عنه بمنزلة الموجود الثابت له ليقع العتق عنه. وثالثها: الأجزاء التي لم تخلق بعد في بيع الثمار بعد بدو صلاحها، فإنها تنزل بمنزلة الموجود حتى يكون موردًا للعقد. ورابعها: المنافع المعدومة في الإجازة فإنها تنزل منزلة الموجود.

ونظائر القاعدتين كثيرة.

فائدة: رفض الأعمال بعد الفراغ منها باطل

القياس وأصول الشرع يقتضي أنه لا يصح رفض شيء من الأعمال بعد الفراغ منه. وإن نية رفضه وإبطاله لا تؤثر شيئًا، فإن الشارع لم يجعل ذلك إليه، ولو صح ذلك لتمكن المكلف من إسقاط جميع أعماله الحسنة والقبيحة في الزمن الماضي. فيقصد إبطال ما مضى من حجه وجهاده وهجرته وزكاته وسائر أعماله الحسنة والقبيحة فيقصد إبطال زناه وسرقته وشربه وقتله ورباه وأكله أموال اليتامى وغير ذلك، فما بال الوضوء والصلاة والصوم والحج دون سائر الأعمال. خرج فيها الخلاف، فالمشهور في مذهب مالك صحة الرفض في الصلاة والصوم وفي الحج والطهارة خلاف، وفي الطهارة خاصة وجهان لأصحابنا وليس في هذه المسائل نص ولا إجماع ولافرق صحيح بينها وبين سائر الأعمال، بل المعلوم من قاعدة الشرع أن إبطال ما وقع من الأعمال، إنما يكون بأسباب نصبه الله تعالى مبطلات لتلك الأعمال كالردة المبطلة للإيمان، والحدث المبطل للوضوء، والإسلام المبطل للكفر، والتوبة المبطلة لآثار الذنوب وقريب منه المن والأذى المبطل للصدقة. وفي الرياء اللاحق بعد العمل خلاف فهذه الأسباب جعلها الشارع مبطلات لآثار الأعمال. وأما الرفض فلا دليل في الشرع يدل على أنه مبطل ولا يمكن طرده وليس له أصل يقاس عليه بل قد يقترن بالعمل أمور تمنع صحته وترتب أثره عليه كالرياء والسمعة وغيرهما، وليس هذا إبطالًا لما صح، وإنما هو مانع من الصحة.

فائدة: الأسباب الفعلية أقوى من الأسباب القولية

الأسباب الفعلية أقوى من الأسباب القولية. ولهذا تصح الفعلية من المحجور عليه دون القولية فلو استولد ثبت استيلاده، ولو عتق كان لغوًا ولو تملك مالًا بالشراء كان لغوًا، ولو تملكه باصطيادًا واحتطاب ونحوه ملكه، وكذلك لو أحياه ملكه بالإحياء، ثم قيل: الفرق بينهما احتياجه إلى الفعل دون القول. فإنا لو منعناه من وطئه أمته أضررنا بها ولا حاجة به إلى عتقها، وهذا غير طائل فإنه قد يحتاج إلى القول أيضا كالشراء والنكاح والإقرار، ولكن الفرق أن أقواله يمكن إلغاؤها، فإنها مجرد كلام لا يترتب عليه شيء. وأما الأفعال فإذا وقعت لا يمكن إلغاؤها، فلا يمكن أن يقال: إنا لم يسرق ولم يقتل ولم يستولد ولم يتلف. وقد وجدت منه هذه الأفعال فجرى مجرى المكره في إلغاء أقواله، ومجرى المأذون له في صحة أفعاله والله أعلم.

فائدة: الحائض والجنب

الحائض إذا انقطع دمها فهي كالجنب فيما يجب عليها ويحرم. فيصح صومها وغسلها وتجب عليها الصلاة، ولها أن تتوضأ وتجلس في المسجد، ويجوز طلاقها على أحد القولين إلا في مسألة واحدة فإنها تخالف الجنب فيها، وهي جواز وطئها فإنه يتوقف على الاغتسال والفرق بينها وبين الجنب في ذلك أن حدث الحيض أوجب تحريم الوطء وحدثه لا يزول إلا بالغسل، بخلاف حدث الجنابة فإنه لا يوجب تحريم الوطء، ولا يمكن ذلك فيه البتة. واستثنى بعض الفقهاء مسألة أخرى وهي نفض الشعر للغسل، فإنه يجب على الحائض في أحد القولين دون الجنب ولا حاجة إلى هذا الاستثناء فتأمله.

قاعدة: المسائل التي يتعلق بها الاحتياط الواجب

في المسائل التي يتعلق بها الاحتياط الواجب وترك ما لا بأس به حذرًا مما به البأس. ومدارها على ثلاثة قواعد: قاعدة في اختلاط المباح بالمحظور حسًا، وقاعدة في اشتباه أحدهما بالآخر والتباسه به على المكلف. وقاعدة في الشك في العين الواحدة هل هي من قسم المباح، أم من قسم المحظور. فهذه القواعد الثلاث هي معاقد هذا الباب.

(القاعدة الأولى اختلاط المباح بالمحظور)

فأما القاعدة الأولى: وهي اختلاط المباح بالمحظور فهي قسمان:

أحدهما أن يكون المحظور محرمًا لعينه كالدم والبول والخمر والميتة.

والثاني: أن يكون محرمًا لكسبه، لأنه حرام في عينه كالدرهم المغصوب مثلًا. فهذا القسم الثاني لا يوجب اجتناب الحلال ولا تحريمه البتة. بل إذا خالط ما له درهم حرام أو أكثر منه أخرج مقدار الحرام وحل له الباقي بلا كراهة سواء كان المخرج عين الحرام أو نظيره، لأن التحريم لم يتعلق ذات الدرهم وجوهره، وإنما تعلق بجهة الكسب فيه، فإذا خرج نظيره من كل وجه لم يبق لتحريم ما عداه معنى. هذا هو الصحيح في هذا النوع ولا تقوم مصالح الخلق إلا به.

وأما القسم الأول وهو الحرام لعينه كالدم والخمر ونحوهما، فهذا إذا خالط حلالًا وظهر أثره فيه حرم تناول الحلال، ولا نقول إنه صير الحلال حرامًا فإن الحلال لا ينقلب حرامًا البتة، ما دام وصفه باقيًا، وإنما حرم تناوله لأنه ما تعذر الوصول إليه إلا بتناول الحرام فلم يجز تناوله، وهذه العلة بعينها منصوصة للإمام أحمد، وقد سئل بأي شيء يحرم الماء إذا ظهرت فيه النجاسة. فأجاب بهذا، وقال: حرم الله تعالى الميتة والدم ولحم الخنزير، فإذا خالطت هذه الماء فمتناوله، كأنه قد تناول هذه الأشياء، هذا معنى كلامه، هذا إذا ظهر أثر المخالطة. فلو استهلك ولم يظهر أثره فهنا معترك النزال وتلاطم أمواج الأقوال وهي مسألة الماء. والمانع إذا خالطته النجاسة فاستهلكت، ولم يظهر لها فيه أثر البتة.

والمذاهب فيها لا تزيد على اثني عشر مذهبًا نذكرها في غير عذا الموضع إن شاء الله، أصحها مذهب الطهارة مطلقًا مانعًا كان ما خالطته أو جامدًا ماء أو غيره قليلًا أوكثيرًا لبراهين كثيرة قطعية أو تكاد. تذكر هناك إن شاء الله.

وعلى هذا فإذا وقعت قطرة من لبن في ماء فاستهلكت وشربه الرضيع لم تنتشر الحرمة، ولو كانت قطرة خمر فاستهلكت في الماء البتة، لم يجد بشربه ولو كانت قطرة بول لم يغير ويشربه، وهذا لأن الحقيقة لما استهلكت امتنع ثبوت الاسم الخاص بها فنفي الاسم والحقيقة للغالب فيتعين ثبوت أحكامه، لأن الأحكام تتبع الحقائق والاسماء وهذا أحد البراهين في المسألة.

(القاعدة الثانية اشتباه المباح بالمحظور)

وأما القاعدة الثانية وهي اشتباه المباح بالمحظور. فهذا إن كان له بدل لا اشتباه فيه انتقل إليه وتركه. وإن لم يكن له بدل ودعت الضرورة إليه اجتهد في المباح واتقى الله ما استطاع، فإذا اشتبه الماء الطاهر بالنجس انتقل إلى بدله وهو التيمم، ولو اشتبها عليه في الشرب اجتهد في أحدهما وشربه. وكذلك لو اشتبهت ميتة بمذكاة انتقل إلى غيرهما، ولم يتحر فيهما فإن تعذر عليه الانتقال ودعته الحاجة اجتهد. ولو اشتبهت أخته بأجنبية انتقل إلى نساء لم يشتبه فيهن، فإن كان بلدًا كبيرًا تحرى ونكح.

ولو اشتبه ثوب طاهر بنجس انتقل إلى غيرهما، فإن لم يجد فقيل يصلي في كل ثوب صلاة ليؤذي الفرض في ثوب متيقن الطهارة وقيل: بل يجتهد في أحد الثوبين ويصلي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: لأن اجتناب النجاسة من باب التروك، ولهذا لا تشترط له النية. ولو صلى في ثوب لا يعلم نجاسته ثم علمها بعد الصلاة لم يعد، فإن اجتهد فقد صلى في ثوب يغلب على ظن طهارته وهذا هو الواجب عليه لا غير.

قلت: وهذا كما لو اشترى ثوبًا لا يعلم حاله جاز له أن يصلي فيه اعتمادًا على غلبة ظنه وإن كان نجسًا في نفس الأمر، فكذلك إذا أداه اجتهاده إلى طهارة أحد الثوبين، وغلب عنى ظنه جاز أن يصلي فيه وإن كان نجسًا في نفس الأمر، فالمؤثر في بطلان الصلاة العلم بنجاسة الثوب لا نجاسته المجهولة. بدليل ما لو جهلها في الصلاة ثم علمها بعد الصلاة لم يعد الصلاة. فهذا القول ظاهر جدًا وهو قياس المذهب.

وقيل: يراعى في ذلك جانب المشقة، فإن كثرت الثياب اجتهد في أحدها، وإن قلت صلى بعدد الثياب النجسة وزاد صلاة وهذا اختيار ابن عقيل.

ومن هذا الباب ما لو استيقظ فرأى في ثوبه بللًا واشتبه عليه. أمني هو أم مذي؟ ففي هذه المسألة قولان: في كل مذهب من المذاهب الأربعة. إلا أن أصحاب الإمام أحمد قالوا: إن سبق منه سبب يمكن إحالة كونه مذيًا عليه مثل القبلة والملاعبة والفكر مع الانتشار فهو مذي إذ الظاهر أن الذكر بعد ذلك، إنما نكسر به فهو المتيقن، وما زاد عليه فمشكوك فيه فلا يجب عليه غسل بالشك، وإن لم يتقدم منه شيء من ذلك فهو مني في الحكم إذ هو الغالب على النائم ولم يتقدم سبب يعارضه. والنوم في مظنة الاحتلام وقد قام شاهد المظنة ظاهر القياس بموجب شهادته وقوة هذا المسلك، مما لا يخفى على منصف.

ومن هذا الباب إذا اشتبهت عليه جهة القبلة ففيها ثلاثة أقوال.

أحدها: يجتهد ويصلي صلاة واحدة هذا أصح الأقوال في المذاهب الأربعة وهو المشهور.

الثاني: أنه يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات ليؤدي مستيقنًا كما قالوا في الثياب النجسة وكما قالوا: فيمن فاتته صلاة من يوم لا يعلم عينها صلى خمس صلوات.

والقول الثالث: أنه قد سقط عنه فرض الاستقبال في هذه الحال فيصلي حيث شاء. وهذا مذهب أبي محمد بن حزم واحتج بأن الله إنما فرض الاستقبال على العالم بجهة الكعبة القادر على التوجه إليها، فأما العاجز عنها فلم يفرض الله عليه التوجه إليها قط، فلا يجوز أن يلزم بما لا يلزمه الله ورسوله به. وإذا لم يكن التوجه واجبًا عليه لأن وجوبه مشروط بالقدرة صلى إلى أي جهة، كالمسافر المتطوع والزمن الذي لا يمكنه التوجه إلى جهة القبلة.

قلت: وهذا القول أرجح وأصح من القول بوجوب أربع صلوات عليه فإنه إيجاب ما لم يوجبه الثه ورسوله ولا نظير له في إيجابات الشارع البتة، ولم يعرف في الشريعة موضع واحد أوجب الله على العبد فيه أن يوقع الصلاة ثم يعيدها مرة أخرى إلا لتفريط في فعلها أولًا، كتارك الطمأنية والمصلي بلا وضوء ونحوه، وأما أن يأمره بصلاة فيصليها بأمره بإعادتها بعينها، فهذا لم يقع قط وأصول الشريعة ترده. وقياس هذه المسألة على مسألة الثياب وناسي صلاة من يوم قياس لمختلف فيه على مثله، ولعل الكلام إلا في تينك المسألين أيضا، فلو أن حكمهما ثبت بكتاب أو سنة أو اجماع لكان في القياس عليها مافيه، بل لم يكن صحيحًا لأن جهة الفرق أما مساوية لجهة الجمع أو أظهر. وعلى التقديرين فالقياس منتف.

يبقى النظر في ترجيح أحد قولي الاجتهاد والتخيير في مسألة القبلة على الآخر، فمن نصر التخيير احتج بما في الترمذي وسنن ابن ماجه عن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع النبي في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي فنزل: { فأينما تولوا فثم وجه الله }، 305 قال الترمذي: هذا حديث حسن ألا أنه من حديث أشعث السمان وفيه ضعف.

وروى الدارقطني من حديث عطاء عن جابر قال: كنا مع النبي في مسير فأصابنا غيم فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فذكرنا ذلك للنبي فلم يأمرنا بالإعادة. فقال: «قد أجزأتكم صلاتكم». قال الدارقطني: رواه محمد بن سالم عن عطاء قال: ويروى أيضا عن محمد بن عبد الله العرزمي عن عطاء، مكلاهما ضعيف. وقال العقيلي: لا يروى متن هذا الحديث من وجه يثبت.

واحتجوا أيضا بما تقدم حكايته أن الله لم يأمر بالاستقبال إلا من كان عالمًا به وقادرًا عليه، وأما العاجز الجاهل فساقط عنه فرض الاستقبال فلا يكلف به.

ومن نصر الاجتهاد احتج بأن الله تعالى أوجب على العبد أن يتقيه ما استطاع، وهذا مقتضى وجوب الاجتهاد عليه في تقوى ربه تعالى والتقوى هي في فعل ما أمر وترك ما نهى عنه.

قالوا: وأيضا فإنه من المعلوم أنه إذا قام إلى الصلاة لم يجز له أن يستقبل أي جهة شاء ابتداء، بل ينظر إلى مطالع الكوكب ومساقطها. وسمت جهة القبلة حتى إذا علم جهتها استقبلها. وهذا نوع اجتهاد وأدلة الجهة متفاوتة الخفاء والظهور فيجب على كل أحد فعل مقدوره من ذلك، فإن لم يصبها قطعًا أصابها ظنًا وهو الذي يقدر عليه فمتى ترك مقدوره لم يكن قد اتقى الله بحسب استطاعته.

وقولكم: إن الله إنما أوجب الاستقبال على القادر عليه العالم به. قلنا: الله سبحانه وتعالى أوجب على كل عبد ما تؤديه إليه استطاعته من طاعته، فإذا عجز عن هذا اليقين وأدلة الجهة سقط عنه. ولكن من أين يسقط عنه بذل وسعه ومقدوره اللائق به؟

فصل: لو طلق إحدى امرأتيه ثم اشتبهت عليه الأخرى

ومن هذا الباب لو طلق إحدى امرأتيه بعينها ثم اشتبهت عليه بالأخرى، فقيل: يجب عليه اعتزالهما ويوقف الأمر حتى يتبين الحال وعليه نفقتهما، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وهي اختيار صاحب المغني.

وقيل: يقرع بينهما كما لو أبهم الطلاق في واحدة لا بعينها. وهذا هو المشهور في المذهب وهذا اختيار عامة أصحاب أحمد. ونص عليه الخرقي في المختصر فقال: ولو طلق واحدة من نسائه ونسيها أخرجت بالقرعة.

قال المانعون من القرعة: في هذه الصورة اشتبهت عليه زوجته بأجنبية، فلا تحل له إحداهما بالقرعة، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية لم يكن له أن يعقد على إحداهما بالقرعة. قالوا: ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة، ولا ترفع الطلاق عمن وقع عليه، ولا تزيل احتمال كون المطلقة غير من وقعت عليها القرعة، بدليل أن التحريم لو ارتفع بالقرعة لما عاد إذا ذكرها، فلما عاد التحريم بالذكر دل على أن القرعة لم ترفع تحريم المطلقة. قالوا: وأيضا القرعة لا يؤمن وقوعها على غير المطلقة وعدولها عن المطلقة. وذلك يتضمن مفسدتين: تحريم المحللة له بلا سبب. وتحليل المحرمة عليه مع جواز كونها المطلقة. قالوا: وأيضا فلو حلف لا يأكل تمرة بعينها ثم وقعت في تمر فإنها لا تخرج بالقرعة، ولو حلف لا يكلم إنسانًا بعينه ثم اختلط في آخرين لم يخرج بالقرعة إلى أمثال ذلك من الصور فهكذا قالوا. وأيضا فلا نعلم سلفًا باستعمال القرعة في مثل هذه الصورة. قالوا: وأيضا لو حلف لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة، فقد قال الخرقي: لا تحل له امرأته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها فحرمها، مع أن الأصل بقاء النكاح ولم يعارضه يقين التحريم فههنا أولى قالوا: وأيضا فقد قال الخرقي: فيمن طلق امرأته ولم يدر أو واحدة طلق أو ثلاثًا اعتزلها وعليه نفقتها ما دامت في العدة، د فإن راجعها في العدة لم يطأها حتى يتيقن كم الطلاق فلم يبح له وطئها لاحتمال كون الطلاق ثلاثًا والأصل عدمه. واحتمال كون غير من خرجت عليها القرعة هي المطلقة، كاحتمال كون هذه مطلقة ثلاثًا، بل هو هناك أقوى فإن في صورة الشك في عدد الطلاق لم يتيقن تحريمًا يرفع النكاح والأصل بقاء الحل وفي المنسية قد تيقنا ارتفاع النكاح جملة عن إحداهما وأنها أجنبية وحصل الشك في تعيينها. قالوا: ولا يصح قياس هذه الصورة على ما إذا طلق واحدة مبهمة، فقال: واحدة منكن طالق جاز له أن يعينها بالقرعة، لأن الطلاق ههنها لم يثبت لواحدة بعينها، فإذا عينتها القرعة تعينت، لأن الشارع جعل القرعة صالحة للتعيين منشأة له. وفي مسألتنا المطلقة معينة في نفسها لا محالة والقرعة لا ترفع الطلاق عنها ولا توقعه على غيرها كما تقدم.

وسر المسألة: أن القرعة، إنما تعمل في إنشاء التعيين الذي لم يكن لا في إظهار تعيين كائن قد نسي. فهذا ما احتج به من نصر هذا القول.

وأما من نصر القول بالقرعة فقالوا: الشارغ جعل القرعة معينة في كل موضع تتساوى فيه الحقوق، ولا يمكن التعيين إلا بها إذ لولاها لزم أحد باطلين، إما الترجيح بمجرد الاختيار والشهوة وهو باطل في تصرفات الشارع، وإما التعطيل ووقف الأعيان وفي ذلك تعطيل الحقوق وتضرر المكلفين بما لا تأتي به الشريعة الكاملة. بل ولا السياسة العادلة، فإن الضرر الذي في تعطيل الحقوق أعظم من الضرر المقدر في القرعة بكثير ومحال أن تجيء الشريعة بالتزام أعظم الضررية لدفع أدناهما.

إذا عرف هذا فالحق إذا كان لواحد غير معين فإن الفرعة تعينه فيسعد الله بها من يشاء ويكون تعيين القرعة له هو غاية ما يقدر عليه المكلف، فالتعيين بها تعيين لتعلق حكم الله لما عينته فهي دليل من أدلة الشرع واجب العمل به، وإن كان في نفس الأمر بخلافه كالبينة والإقرار والنكول فإنها أدلة منصوبة من الشارع لفصل النزاع، وإن كانت غير مطابقة لمتعلقها في بعض الصور فلهذا نصب الشارع القرعة معينة للمستحق قاطعة للنزاع.

وإن تعلقت بغير صاحب الحق في نفس الأمر فإن جماعة المستحقين إذا استووا في سبب الاستحقاق لم تكن القرعة ناقلة لحق أحدهم ولا مبطلة له، بل لما لم يمكن تعميمهم كلهم ولا حرمانهم كلهم، وليس أحدهم أولى بالتعيين من الآخرين. جعلت القرعة فاصلة بينهم معينة لأحدهما، فكأن المقرع يقول: اللهم قد ضاق الحق عن الجميع وهم عبيدك فخص بها من تشاء منهم به ثم تلقى فيسعد الله بها من يشاء ويحكم بها على من يشاء.

فهذا سر القرعة في الشرع. وبهذا علم بطلان قول من شبهها بالقمار الذي هو ظلم وجور، وكيف يلحق غاية الممكن من العدل والمصلحة بالظلم والجور. هذا من أفسد القياس وأظهره بطلانًا وهو كقياس البيع على الربا. فإن الشريعة فرقت بين القرعة والقمار كما فرقت بين الربا والبيع فأحل الله البيع وحرم الربا وأحل الشارع القرعة وحرم القمار وقد قال تعالى: { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون }، 306 وقال تعالى إخبارًا عن ذي النون: { فساهم فكان من المدحضين }، 307 وقد احتج الأئمة بشرع من قبلنا. جاء ذلك منصوصًا عنهم في مواضع وقد ثبت عن النبي أنه كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه.

وثبت عنه في الصحيح أيضا أن رجلًا أعتق ستة مملوكين لا مال له سواهم فجزأهم النبي ثلاثة أجزاء وضرب عليهم بسهمي رق وسهم حرية فأعتق اثنين وأرق أربعة، وكل ما ذكروه في الطلاق فهو منتقض عليهم بهذه الصورة، بل القرعة في الطلاق أولى، لأن القرعة ههنا، إنما هي لجمع الحرية في بعضهم. وقد كان في الممكن أن يتق من كل واحد سدسه وليستسعى في بقية نفسه كما يقول أبوحنيفة: أو يترك رقيقًا، ومع هذا فاقرع بينهم لجمع الحرية في اثنين منهم وعين بها عبدبن من الستة مع تشوفه إلى العتق وحكمه به في السراية في ملكه وملك شريكه، فما الظن بالطلاق الذي هو أرضغ الحلال إلى الله ورسوله.

ولأنا لو لم نستعمل القرعة في المنسية لزم أحد محذورين:

إما إيقاع الطلاق على الأربع إذ أنسيت بينهن وهذا باطل، لأنه يتضمن تحريم من لم يطلقها ولا حرمها الله عليه.

وإما أن يعطل انتفاعه بهن ويتركهن معلقات أبدًا إلى الممات، ومع هذا نوجب عليه نفقتهن وكسوتهن وإسكانهن. ونقول: لا يحل لك قربان واحدة منهن وعليك القيام بجميع حقوقهن، فهذا لو جاء به الشارع لقوبل بالسمع والطاعة، ولكن حكمة شرعه ورحمته تأبياه ولا شاهد له يرد إليه ويعتبر به.

وأما القول بالقرعة فقد ذكرنا من أصول شرعه ما يدل عليه، وإنه أولى الأقوال في المسألة وقد روى البخاري في صحيحه: أن النبي عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف وفي السنن والمسند عن أبي هريرة أن رجلين تداعيا في دابة ليس لواحد منهما بينة فأمرهما رسول الله أن يستهما على اليمين أحبا أو كرها. وفي المسند والسنن أيضا أن النبي قال: «إذا كره الاثنان اليمين أو استحباها فليستهما عليها». وفي السنن عن أم سلمة أن رجلين اختصما إلى رسول الله في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة فقال: «إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها أسطامًا في عنقه يوم القيامة»، فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي. فقال رسول الله : «أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما عليه ثم ليتحلل كل منكما صاحبه». وأقرع سعد يوم القادسية بين المؤذنين.

فهذه قرعة في الحضانة وفي تخفيف السفينة وفي السفر بالزوجة والبداءة بها في القسم وفي الحلف على الحق، وفي تعيين الحق المتنازع فيه وفي الأذان، وفي العتق وجمع الحرية وتكميلها في رقبة كاملة.

وصح عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن رجل له أربع نسوة طلق إحداهن ونكح ثم مات لا يدري الشهود أيتهن طلق. فقال: أقرع بين الأربع وانذر منهن واحدة وأقسم بينهن الميراث. فهذه قرعة، إما في الطلاق وإما في الاستحقاق للمال وأيًا ما كان. فالموانع التي ذكروها في الطلاق بعينها قائمة في استحقاق المال سواء بسواء، فأي فرق بين تحريم مال أحله الله، وبين تحريم فرج أحله الله؟ فإن كانت القرعة تتضمن أحد الفسادين فهي متضمنة للآخر قطعًا وإن لم تتضمن من الآخر لم تتضمن ذلك.

وقولكم: المال أسهل لا ينفعكم في دفع هذا الإلزام والله أعلم.

قالوا: ونحن نجيب عن كلماتكم. أما قولكم: اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلم يحل المشتبه بالقرعة، كما لو اشتبهت قبل العقد أخته بأجنبية.

فجوابه: أن الأصل قبل العقد التحريم، وقد شككنا في دفعه والأصل بقاؤه فمنعنا ثم أصل مستصحب لا يجوز تركه إلا بسبب يزيله، ولا كذلك في مسألتنا. إذ ثبت الحل قطعًا. فنحن إذا أخرجنا المطلقة بالقرعة بقيت الأخرى على الحل المستصحب قبل الطلاق. وقد شككنا في إصابة الطلاق لها فنتمسك بالأصل حتى يثبت ما يزيله وهذا واضح. وقد اتفق على هذا الأصل أعني استصحاب ما ثبت حتى يثبت رفعه.

وأما قولكم القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة ولا ترفع الطلاق عمن وقع عليه ولا تزيل احتمال كون المطلقة غير التي وقع عليها القرعة.

فجوابه أنه منقوض بالعتق وما كان جوبكم عن العتق فهو جوابنا بعينه، ومنقوض بالقرعة في الملك المطلق، فحق المالك في ملك المال كحقه في ملك البضع. والعتق بالقرعة متضمن ارقاق رقبة من ثبت له الحرية وسقوط الحج والجهاد عنه وثبوت أحكام العبيد له. على تقدير كونه هو المعتق في نفس الأمر وإن كانت امة يضمن إباحة فرجها لغير مالكها ومع هذا فالقرعة معينة للمعتق. فتعيينها للمطلقة كذلك أولى.

وجواب آخر: وهو أن القرعة لم تزل تحريمًا ثابتًا في المطلقة وإنما عينت حكمًا لم يكن لنا سبيل إلى تعيينه إلا بالقرعة واحتمال كون غير التي خرجت لها القرعة هي المطلقة في نفس الأمر، كما لم يكلفنا به الشارع لتعذر الوصول إلى علمه فنزل منزلة المعدوم.

وهذا كما أن احتمال كون غير الأمة التي خرجت لها القرعة هي الحرة في نفس الأمر ساقطًا عنا لتعذر علمنا به فتنزل منزلة المعدوم.

وكذلك كون مالك المال الضائع موجودًا في نفس الأمر لا يمتنع من نقله عنه إلى الملتقط بعد حول التعريف لتعذر معرفته فنزل منزلة المعدوم.

وكذلك حكم الصحابة عمر وغيره في المفقود تتزوج امرأته وإن كان باقيًا حيًا على وجه الأرض، وقد أبيح فرج زوجته لغيره من غير طلاق منه ولا وفاة لتعذر معرفته، فنزل في منزلة المعدوم.

قولكم: لو ارتفع التحريم بالقرعة، لما عاد إذا ذكرها.

قلنا: ارتفاع التحريم مشروط باستمرار النسيان وإذا زال النسيان زال شرط الارتفاع، والقرعة إنما صرنا إليها للضرورة ولا ضرورة مع التذكر.

قولكم: القرعة لا يؤمن وقوعها على غير المطلقة وعدولها عن المطلقة، وذلك يتضمن مفسدتين إلى آخره.

قلنا: منقوض بالعتق وبالملك المطلق، وأيضا لما كان ذلك مجهولًا معجوزًا عن علمه نزل منزلة المعدوم ولم يضر كون المستحق في نفس الأمر غير المستحق بالقرعة كما قدمنا من النظائر.

فلسنا مؤاخذين بما في نفس الأمر ما لم نعلم به.

وهذه قاعدة أيضا من قواعد الشرع وهي أن المؤاخذة وترتب الأحكام على المكلف، إنما هي على علمه لا على ما في نفس الأمر إذا لم يعلمه، وعليها جل الشريعة في الطهارات والنجاسات والمعاملات والمناكحات والأحكام والشهادات. فإن الشاهد إذا عرف أن لزيد قبل عمرو حقًا وجب عليه أن يشهد به، وإن كان قد برىء إليه منه ويحكم به الحاكم. فالشريعة غير منكر فيها ذلك وهل تتم مصالح العباد إلا بذلك.

قولكم: لو حلف لا يأكل تمرة ولا يكلم انسانًا ثم اختلط المحلوف عليه بغيره لم يخرج بالقرعة.

فيقال: هذه المسألة ليست منصوصًا عليها ولا يعلم فيها إجماع البتة. فإن كانت مثل مسألتنا سواء، فالصواب التسوية بينهما وان كان بينهما فرق بطل الإلحاق، فبطل الإلزام بها على التقديرين نعم غاية ما يفيدكم الزام الفرق بينهما وإن كان بينهم فرق بطل التقديران بالتنافض، وإنه يجب عليه التسوية بينهما في الحكم وهذا ليس بدليل يثبت لكم حكم المسألة، إذ منازعكم يقول: تناقضي في الفرق بين المسألتين ليس بدليل على صحة ما ذهبتم إليه، فإن كان التفريق باطلًا. جاز أن يكون الباطل في عدم القول بالقرعة في مسألة الإلزام، ولا يتعين أن يكون الباطل القول بها في المسألة المتنازع فيها، فهذا جواب إجمالي كاف فكيف والفرق بينهما في غاية الظهور؟ فإنه إذا حلف لا يأكل تمرة بعينها ثم وقعت في تمر فأكل منه واحدة فإنه لا يحنث حتى يأكل الجميع أو ما يعلم به أنه أكلها وما لم يتيقن أكلها لم يتيقن حنثه فلا حاجة إلى القرعة. وكذلك مسألة كلام رجل بعينه.

فإن قيل: فهل يأمرونه بالإقدام على الأكل مع الاختلاط.

قيل: الورع أن لا يقدم على الأكل فإن أكل لم يحنث حتى يتيقن أكله لها.

قولكم: لا سلف بالقرعة في هذه الصورة.

فيقال: سبحان الله وأي سلف معكم يوقف الرجل عن جميع زوجاته وجعلهن معلقات لا مزوجات ولا مطلقات إلى الموت مع وجوب نفقتهن وكسوتهن وسكناهن عليه.

وينبغي أن يعلم أن القول الذي لا سلف به الذي يجب إنكاره: إن المسألة وقعت في زمن السلف فأفتوا فيها بقول أو أكثر من قول.، فجاء بعض الخلق فأفتى فيها بقول لم يقله فيها أحد منهم؛ فهذا هو المنكر.

فأما إذا لم تكن الحادثة قد وقعت بينهم، وإنما وقعت بعدهم فإذا أفتى المتأخرون فيها بقول لا يحفظ عن السلف لم يقل أنه لا سلف لكم في المسألة. اللهم إلا أن يفتوا في نظيرها سواء بخلاف ما أفتى به المتأخرون فيقال حينئذ، أنه لا سلف لكم بهذه الفتوى وليس هذا موضع بسط الكلام في هذا الموضع فإنه يستدعي تحريرًا أكثر من هذا.

وأما قولكم: لو حلف لا يأكل تمرة قد وقعت في تمر فأكل منه واحدة فإن الخرقي يحرم عليه امرأته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت عليها اليمين. مع أن الأصل بقاء النكاح فهنا أولى.

قلنا: الخرقي لم يصرح بالتحريم، بل أفتى بأنه لا يقرب زوجته حتى يتبين الحال، وهذا لا ينهض للتحريم ولفظ الخرقي في مختصره هذا. وإذا حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فإن أكل منه واحدة منع من وطء زوجته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت عليها اليمين. ولا يتحقق حنثه حتى يأكل التمر كله هذا لفظه. وآخر كلامه يدل على أن منعه من وطئها، إنما هو على سبيل الورع فإنه لا يحرمها عليه بحنث مشكوك فيه وهذا ظاهر.

وأما مسألة من طلق ولم يدر أواحدة طلق أم ثلاثًا فالاحتجاج بها في غاية الضعف. وكذلك الإلزام بها فإن الخرقي بناها على كون الرجعية محرمة. ولهذا صرح في المختصر بذلك في تعليل المسألة فقال: وإذا طلق فلم يدر أواحدة طلق أم ثلاثًا اعتزلها وعليه نفقتها ما دامت في العدة، فإن راجعها في العدة لم يطأها حتى يتيقن كم الطلاق، لأنه متيقن للتحريم شاك في التحليل.

فالخرقي يقول: هذا قد تيقن وقوع الطلاق وشك هل الرجعة رافعة أم لا؟ وغيره ينازعه في إحدى المقدمتين ويستفصل في الأخرى. فيقول: لا نسلم أن الرجعية محرمة فلم يتيقن تحريمًا البتة. وعلى تقدير أن تكون محرمة فالتحريم المتيقن أي تحريم يعنون به تحريمًا تزيله الرجعة أو تحريمًا لا تزيله الأول مسلم ولا يفيدكم شيئًا والثاني ممنوع وعلى التقديرين فلا حجة لكم في هذه المسألة ولا إلزام، فإنها ليست منصوصة ولا متفق عليها ولا ملزمة أيضا، فإنه بناها على أصله من كون الرجعية محرمة فقد تيقن تحريمها وشك في رفع هذا التحريم إلا بالرجعة، ولا كذلك فيمن خرجت على سواها فإنه لم يتيقن تحريمها وإزالة التحريم بالقرعة فافترقا.

وأما قولكم: لا يصح قياسها على ما إذا طلق واحدة مبهمة حيث يعينها بالقرعة لأن الطلاق لم يثبت لواحدة بعينها فتعيينها بالقرعة بخلاف المنسية.

قلنا: لا ريب أن يبن المسألتين فرقًا، ولكن الشأن في تأثيره ومنعه من إلحاق أحدهما بالأخرى. فإن صح تأثير الفرق بطل هذا الدليل المعين. ولا يلزم من بطلان دليل معين بطلان الحكم إلا أن لا يكون لهم دليل سواه، ونحن لم نحتج بهذا الدليل أصلًا حتى يلزم بطلان ما ذكرناه، وإن بطل تأثير الفرق وجب إلحاق إحدى الصورتين بالأخرى.

ونحن نبين بحمد الله أن هذا الفرق ملغى فنقول: إذا قال لنسائه: إحداكن طالق. فأما أن ينفذ الطلاق على واحدة منهن عقب إيقاعه، أو لا يقع إلا بتعيينه والثاني باطل، لأن التعيين ليس بسبب صالح للتطليق فلا يصح إضافة الطلاق إليه، فيتعين أن الطلاق استند إلى واحدة في إيقاظه أو لا فقد وقع بواحدة منهن ولا بد. والأقوال هنا ثلاثة، أحدها:

أنه يملك تعيين المطلقة فيمن شاء وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة.

والثاني: أنه تطلق عليه الجميع وهذا قول مالك ومن وافقه.

والثالث: أنه يخرج المطلقة بالقرعة، وهذا مذهب أحمد وهو قول علي وابن عباس ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة. وبه قال الحسن البصري وأبو ثور وغيرهما، وهو الصحيح من الأقوال: فإن طلاق الأربع مع كون اللفظ غير صالح له، والإرادة غير متناولة له مخالفة للأصول. وإيقاع الطلاق من غير سببه. وقد تقدم الكلام على مأخذ هذا القول وما فيه فلا نعيده، وعلى هذا القول لا قرعة ولا تعيين، وإنما الكلام على قولي القرعة والتعيين.

فنقول: القول بالقرعة أصح وإذا كان القول بها أصح في هذه المسألة، فالقول بها في مسألة المنسية أولى فهذان مقامان بهما يتم الكلام في المسألة. فأما المقام الأول فيدل عليه أن القرعة قد ثبت لها اعتبار في الشرع كما قدمناه. وهي أقرب إلى العدل وأطيب للقلوب وأبعد عن تهمة الغرض والميل بالهوى إذ لولاها لزم أحد الأمرين: أما الترجيح بالميل والغرض، وأما التوقف وتعطيل، الانتفاع وفي كل منهما من الضرر ما لا خفاء به. فكانت القرعة من محاسن هذه الشريعة وكمالها وعموم مصالحها.

وأما تعيين المطلقة بعد ابهامها وانتظار ما يعينه النصيب والقسمة التي لا تتطرق إليها تهمة ولا ظنه، فليس ذلك إلى المكلف، بل إليه إنشاء الطلاق ابتداء في واحدة منهن. وأما أن يكون إليه تعيين من جعل طريق تعيينه خارجًا عن مقدوره وموكولًا إلى ما يأتي به القدر ويخرجه النصيب المقسوم المغيب عن العباد فكلا.

وسر المسألة: أن العبد له التعيين ابتداء، وأما تعيين ما أبهمه أولا فلم يجعل إليه ولا ملكه الشارع إياه.

والفرق بينهما أن التعيين الابتدائي تعلق به إرادته وباشره بسبب الحكم فتعين بتعيينه وبمباشرته بالسبب. وأما التعيين بعد الإبهام فلم يجعل إليه لأنه لم يباشره بالسبب. والسبب كان قاصرًا عن تناوله معينًا، وإنما تناوله مبهمًا والمكلف كان مخيرًا بين أن يوقع الحكم معينًا فيتعين بتعيينه أو يوقعه مبهمًا فيصير تعيينه إلى الشارع.

وسر ذلك أن الحكم قد تعلق في المبهم بالمشترك، فلا بد من حاكم منزه عن التهمة يعين ذلك المشترك في فرد من أفراده.

والمكلف ليس بمنزه عن التهمة فكانت القرعة هي المعينة. وأما إذا عينه ابتداء فلم يتعلق الحكم بمشترك، بل تعلق بما اقتضاه تعيينه وغرضه فأنفذه الشارع عليه.

فهذا مما يدلك على دقة فقه الصحابة رضي الله عنهم وبعد غور مداركهم، ولهذا أفتى علي وابن عباس بالقرعة ولم يجعلا التعيين إليه. ولا نحفظ عن صحابي خلافهما.

وإذا ثبت أن القرعة في هذه الصورة راجحة على تعيين المكلف تبين بذلك تقرير المقام الثاني: وهو أن القول بها في مسألة المنسية أولى، لأنها إذا علمت في محل قد يعلق الحكم فيه بالمشترك وهو أحد الزوجات إذ كل واحدة منهن يصدق عليها أنها أحدها، وهذا هو مأخذ من عمم الوقوع فلأن يعمل في محل تعلق الحكم فيه ببعض أفراده أولى، فإن الحكم في الأول كان صالحًا لجميع الأفراد لتعلقه بالقدر المشترك ومع هذا فالقرعة قطعت هذه الصلاحية وخصتها بفرد بعينه. والحكم في الثانية إنما تعلق بفرد بعينه، لكنه جهل فاستفيد علمه من القرعة ولما جهل صار كالمعدوم. إذ المجهول المطلق في الشريعة كالمعدوم وليس لنا طريق إلى اعتباره موجودًا إلا بالقرعة.

فإذا قطعت القرعة الحق المشترك من غير المعين فلأن يعين مجهولًا لا سبيل إلى تعينه إلا بها أولى وأحرى.

وإن شئت قلت: إخراج المجهول أيسر من تعيين المبهم وأوسع طريقًا وأقل مانعًا، لأن المبهم لا يثبت له حقيقة معينة بعد ولا سيما إذا كان مشتركًا بين أفراد تقتضيه اقتضاء واحدًا. فليس ثبوث التعيين لفرد أولى من ثبوته لغيره، والمجهول قد ثبتت له الحقيقة أولا ثم جهلت. فيكفي في الدلالة أعليها أي دليل واحد وأي علامة أمكنت فإنها علامة ودليل على وجودها لا علة لانيتها، وبغير المبهم ليس دليلًا محضًا، بل هو كالعلة لانيته وثبوته، فإذا صلحت القرعة لتعيين المبهم فلأن تصلح للدلالة على المجهول بطريق الأولى، ونحن لا ندعي ولا عاقل أن القرعة تجعل المخرج بها هو متعلق الحكم في نفس الأمر، بل نقول إن القرعة تجعل المخرج بها متعلق الحكم ظاهرًا وشرعًا، وهو غاية ما يقدر عليه المكلف ولم يكلفه الله علم الغيب ولا موافقة أما في نفس الأمر، بل القرعة عندنا لا تزيد على البينة والنكول والإمارات الظاهرة التي هي طرق لفصل النزاع والله سبحانه وتعالى أعلم.

(القاعدة الثلاثة قاعدة الشك)

وأما القاعدة الثالثة: وهي قاعدة الشك فينبغي أن يعلم أنه ليس في الشريعة شيء مشكوك فيهه البتة. وإنما يعرض الشك للمكلف بتعارض إمارتين فصاعدًا عده، فتصير المسألة مشكوكًا فيها بالنسبة إليه فهي شكية عنده، وربما تكون ظنية لغيره أو له في وقت آخر. وتكون قطعية عند آخرين. فكون المسألة شكية أو ظنية أو قطعية ليس وصفًا ثابتًا لها، بل هو أمر يعرض لها عند إضافتها إلى حكم المكلف، وإذا عرف هذا. فالشك الواقع في المسائل نوعان:

أحدهما شك سببه تعارض الأدلة والأمارات كقولهم في سؤر البغل والحمار مشكوك فيه فتتوضأ به وتتيمم، فهذا الشك لتعارض دليلي الطهارة والنجاسة. وإن كان دليل النجاسة لا يقاوم دليل الطهارة فإنه لم يقم على تنجيس سؤرهما دليل، وغاية ما احتج به لذلك قول النبي في الحمر الأهلية: «إنها رجس»، والرجس هو النجس وهذا لا دليل فيه، لأنه إنما نهاهم عن لحومها. وقال: إنها رجس ولا ريب أن شحومها ميتة لا تعمل الذكاة فيها. فهي رجس، ولكن من أين يلزم أن تكون نجسة في حياتها حتى يكون سؤرها نجسًا؟ وليس هذا موضع هذه المسألة. ومن هذا قولهم للدم الذي تراه المرأة بين الخمسين سنة إلى الستين أنه مشكوك فيه، فتصوم وتصلي وتقضي فرض الصوم لتعارض دليلي الصحة والفساد وإن كان الصحيح إنه حيض ولا معارض لدليل كونه حيضًا أصلًا لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا معقول، فليس هذا مشكوكًا فيه والمقصود التمثيل.

القسم الثاني: الشك العارض للمكلف بسبب اشتباه أسباب الحكم عليه وخفائها لنسيانه وذهوله أو لعدم معرفته بالسبب القاطع للشك. فهذا الحكم واقع كثيرًا في الأعيان والأفعال وهو المقصود لذكر القاعدة التي تضبط أنواعه. والضابط فيه أنه إن كان للمشكوك فيه حال قبل الشك استصحبها المكلف، وبنى عليها حتى يتيقن الانتقال عنها، هذا ضابط مسائله. فمن ذلك إذا شك في الماء هل أصابته نجاسة أم لا، بنى على يقين الطهارة. ولو تيقن نجاسته ثم شك هل زالت أم لا، بنى على يقين النجاسة.

الثالثة: إذا أحدث ثم شك هل توضأ أم لا بنى على يقين الحدث. ولو توضأ وشك في الحدث بنى على يقين الطهارة. وفروع المسألة مبنية على هذا الأصل.

الرابعة: إذا شك الصائم في غروب الشمس لم يجز له الفطر، ولو أكل أفطر. ولو شك في طلوع الفجر جاز له الأكل ولو أكل لم يفطر.

الخامسة: لو شك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا وهو منفرد؟ بنى على اليقين إذ الأصل بقاء الصلاة في ذمته. وإن كان إمامًا فعلى غالب ظنه لأن المأموم ينبهه، فقد عارض الأصل هنا ظهور تنبيه المأموم على الصواب. وقال الشافعي ومالك يبنى على اليقين مطلقًا لأنه الأصل.

السادسة: إذا رمى صيدًا فوقع في ماء فشك هل كان موته بالجرح أو بالماء لم يأكله، لأن الأصل تحريمه وقد شك في السبب المبيح. وكذلك لو خالط كلبه كلابًا أخر ولم يدر أصاده كلبه أو غيره لم يأكله، لأنه لم يتيقن شروط الحل في غير كلبه كما قال النبي : «إنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره».

السابعة: إذا شك هل طاف ستًا أو سبعًا أو رمى ست حصيات أو سبعًا بنى على اليقين.

الثامنة: إذا شك هل عم الماء بدنه وهو جنب أم لا لزمه يقين تعميمه ما لم يكن ذلك وسواسًا.

التاسعة: إذا اشترى ثوبًا جديدًا أو لبيسًا وشك. هل هو طاهر أم نجس؟ فيبني الأمر على الطهارة ولم يلزمه غسله.

العاشرة: إذا أصابه بلل ولم يدر ما هو لم يجب عليه أن يبحث عنه ولا يسأل من أصابه به. ولو سأله لم يجب عليه إجابته على الصحيح. وعلى هذا لو أصاب ذيله رطوبة بالليل أو بالنهار لم يجب عليه شمها ولا تعرفها، فإذا تيقنها عمل بموجب يقينه.

الحادية عشرة: إذا كان عليه حق لله عز وجل من صلاة أو زكاة أو كفارة أو عتق أو صيام وشك هل أتى به أم لا؟ لزمه الإتيان به.

الثانية عشرة: إذا شك هل مات مورثه؟ فيحل له ماله. أو لم يمت لم يحل له المال حتى يتيقن موته.

الثالثة عشرة: إذا شك في الشاهد، هل هو عدل أم لا؟ لم يحكم بشهادته، لأن الغالب في الناس عدم العدالة. وقول من قال الأصل في الناس العدالة كلام مستدرك، بل العدالة طارئة متجددة والأصل عدمها، فإن خلاف العدالة مستندة جهل الإنسان وظلمه.

والإنسان خلق جهولًا ظلومًا، فالمؤمن بكمل بالعلم والعدل وهما جماع الخير وغيره، يبقى على الأصل أي فليس الأصل في الناس العدالة ولا الغالب.

الرابعة عشرة: إذا شك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا؟ بنى على اليقين وألغا المشكوك فيه، واستثنى من هذا موضعين: أحدهما: أن يقع الشك بعد الفراغ في الصلاة لم يتفت إليه. الثاني: أن يكون إمامًا فيبنى على غالب ظنه.

فأما الموضع الأول: فهو مبني على قاعدة الشك في العبادة بعد الفراغ منها فإنه لا يؤثر شيئًا وفي الوضوء خلاف. فمن ألحقه بهذه القاعدة نظر إلى أنه قد انقض بالفراغ منه. وهن نظر إلى بقاء حكمه وعمله وأنه لم يفعل المقصود به ألحقه بالشك في العبادة قبل انقطاعها والفراغ منها.

وأما الموضع الثاني: فإنما استثنى لظهور قطع الشك والرجوع إلى الصواب بتنبيه المأموم له فسكوتهم وإقرارهم دليل على الصواب. هذا ظاهر المذهب عند الإمام أحمد ومذهب الشافعي أنه يبنى على اليقين مطلقًا إمامًا كان أو منفردًا، ولا يلتفت إلى قول غيره. ومذهب مالك أنه يبنى على اليقين إلا أن يكون مستنكحًا بالشك فلا يلتفت إليه ويلهي عنه فإن لم يمكنه أن يلهي عنه بني على أنزل خواطره. ومذهب أبي حنيفة أنه إن عرض له ذلك في أول صلاته أعادها. وإن عرض له فيما بعدها بني على اليقين.

الخامسة عشرة: إذا شك هل دخل وقت الصلاة أو لا؟ لم يصل حتى يتيقين دخوله فإن صلى مع الشك، ثم بان له أنه صلى في الوقت. فقد قالوا: إنه يعيد صلاته وعلى هذا، إذا صلى وهو يشك. هل هو محدث أو متطهر؟ ثم تيقن أنه كان متطهرًا فإنه يعيدها أيضا. وكذلك إذا صلى إلى جهة وشك. هل هي القبلة أو غيرها؟ ثم تبين له أنها جهة القبلة. ولا كذلك إذا شك في طهارة الثوب والبدن والمكان فصلى فيه، ثم تيقن إن ذلك كان طاهرًا، لأن الأصل هنا الطهارة وقد تيقنه آخرًا. فتوسط الشك بين الأصل واليقين لا يؤثر بخلاف المسائل الأول، لأن الأصل فيها عدم الشك. فالشك فيها مستند إلى أصل يوجب عليه حكمًا لم يأت به والذي يقتضيه أصول الشرع وقواعد الفقه في ذلك، هو التفرقة بين المعذور والقادر. فالمعذور لا يجب عليه الإعادة إذا لم ينسب إلى تفريط وقد فعل ما أداه إليه اجتهاده وأصاب فهو كالمجتهد المصيب. وعلى هذا فإذا تحرى الأسير وفعل جهده وصام شهرًا يظنه رمضان وهو يشك فيه فبان رمضان أو ما بعده أجزاه، مع كونه شاكًا فيه. وكذلك المصلي إذا كان معذورًا محتاجًا إلى تعجيل الصلاة في أول الوقت، إما لسفر لا يمكنه النزول في الوقت ولا الوقوف أو لمرض يغمى عليه فيه أو لغير ذلك من الأعذار، فتحرى الوقت وصلى فيه مع شكه، ثم تبين له أنه أوقع الصلاة في الوقت لم يجب عليه الإعادة، بل الذي يقوم عليه الدليل في مسألة الأسير أنه لو وافق شعبان لم يجب عليه الإعادة. وهو قول الشافعي. لأنه فعل مقدوره ومأموره والواجب على مثله صوم شهر يظنه من رمضان، وإن لم يكنه والفرق بين الواجب على القادر المتمكن والعاجز.

فإن قيل: فما تقولون في مسألة الصلاة؟ إذا بان أنه صلاها قبل الوقت.

قيل: الفرق بين المسألتين أن الصوم قابل لإيقاعه في غير الوقت للعذر، كالمريض أو المسافر والمرضع والحبلى فإن هؤلاء يسوغ لهم تأخيره ونقله إلى زمن آخر نظرًا لمصلحتهم، ولم يسوغ لأحد منهم تأخير الصلاة عن وقتها البتة.

فإن قيل: فقد يسوغ تأخيرها للمسافر والمريض والممطور من وقت إحداهما إلى وقت الأخرى.

قيل: ليس بتأخير من وقت إلى وقت، وإنما جعل الشارع وقت العبادتين في حق المعذور وقتًا واحدًا فهو يصلي الصلاة في وقتها المشروع الذي جعله الشارع وقتًا لها بالنسبة إلى أهل الأعذار، فهو كالنائم والناسي إذا استيقظ وذكر فإنه يصلي الصلاة حينئذ، لكون ذلك وقتها بالنسبة إليهما. وإن لم يكن وقتًا بالنسبة إلى الذاكر المستيقظ على أن للشافعي قولين في المسألتين والله أعلم.

فصل: التورع عن الفتيا وطريقة السلف في ذلك

ابن عيينة عن محمد بن المنكدر قال: إن العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم.

وقال سهل بن عبد الله: من أراد أن ينظر إلى محاسن الأنبياء فلينظر محاسن العلماء. يجيء الرجل فيقول: يا فلان أيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا، فيقول: طلقت امرأته، وهذا مقام الأنبياء فأعرفوا لهم ذلك.

قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين مائة من الأنصار من أصحاب رسول الله يسأل أحدهم ا المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول ما منهم من أحد إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.

وقال ابن مسعود: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون. وعن ابن عباس نحوه.

وقان حصين الأسدي: إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، وعن الحسن والشعبي مثله.

وقال الحاكم: سمعت أبا عبد الله الصفار يقول: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول سمعت الشافعي يقول سمعت مالك بن أنس يقول سمعت محمد بن عجلان يقول إذا أخطأ العمالم لا أدري أصيبت مقاتله. وروي ذلك بنحوه عن ابن عباس.

وذكر أبو عمر عن القاسم بن محمد. أنه جاءه رجل فسأله عن شيء فقال القاسم: لا أحسنه فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك لا أعرف غيرك، فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي. والله لا أحسنه. فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها فوالله ما رأيت في مجلس أبيك مثل اليوم. فقال القاسم: والله لئن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا أعلم.

وذكر أبو عمر عن ابن عيينة وسحنون أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا.

وكان مالك يقول: من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة أو النار وكيف يكون خلاصه في الآخرة؟

وسئل عن مسألة فقال: لا أدري: فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف، ألم تسمع قوله جل ثناؤه: { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا }، 308 فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة.

وقال: كان أصحاب رسول الله تصعب عليهم المسائل ولا يجيب أحدهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رزقوا من السداد والتوفيق مع الطهارة فكيف بنا الذي غطت الخطايا والذنوب قلوبنا.

وقال عبد الرحمن بن مهدي: جاء رجل إلى مالك يسأله عن شيء أيامًا ما يجيبه. فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أريد الخروج، وقد طال التردد إليك فأطرق طويلًا، ثم رفع رأسه وقال: ما شاء الله يا هذا. إني إنما أتكلم فيما أحتسب فيه الخير، ولست أحسن مسألتك هذه.

وسئل الشافعي عن مسألة فسكت. فقيل له: ألا تجب يرحمك الله. فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أو في الجواب.

وكان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتي فتيًا ولا يقول شيئًا إلا قال: اللهم سلمني وسلم مني.

وقال سحنون: أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره، فقال: تفكرت فيه وجدته المفتي يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقه، فيقول له: لا شيء عليك، فيذهب الحانث فيستمتع بامرأته ورقيقته، وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا.

وجاء رجل إلى سحنون يسأله عن مسألة فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام، فقال: مسألتين أصلحك الله اليوم ثلاثة أيام. فقال له: وما أصنع بمسألتك. مسألتك معضلة وفيها أقاويل، وأنا متحير في ذلك. فقال: وأنت أصلحك الله لكل معضلة. فقال سحنون: هيهات يا ابن أخي ليس بقولك هذا أبذل لحمي ودمي للنار، وما أكثر ما لا أعرف إن صبرت رجوت أن تنقلب بمسألتك وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامضي تجاب في مسألتك في ساعة. فقال: إنما جئت إليك ولا أستفتي غيرك، قال: فاصبر ثم أجابه بعد ذلك.

وقيل له: إنك تسأل عن المسألة، لو سأل عنها أحد من أصحابك لأجاب فيها فتتوقف فيها. فقال: إن فتنة الجواب بالصواب أشد من فتنة المال.

وقال بعض العلماء: قل من حرص على الفتوى وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه ولضطرب في أمره، وإن كان كارهًا لذلك غير مختار له ما وجد مندوحة عنه، وقدر أن يحيل بالأمر فيه إلى غيره، كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في جوابه وفتاويه أغلب.

وقال بشر الحافي: من أحب أن يسأل فليس بأهل أن يسأل.

وذكر أبو عمر عن مالك: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي. فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه. فقال لا ولكن، أستفتي من لا علم له. وظهر في الإسلام أمر عظيم.

قال ربيعة: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالحبس من السراق.

ومن مسائل إسحاق بن منصور الكوسج لأحمد

قلت: يتوضأ الرجل في المسجد. قال: قد فعل ذلك قوم. قال إسحاق: هو حسن ما لم يستنتج فيه.

قلت: إذا عطس الرجل يوم الجمعة؟ قال: لا تشمته.

قلت: يقاتل اللص؟ قال: إذا كان مقبلًا فقاتله. وإذا ولى لا تقاتل. قال إسحاق كما قال، ويناشده في الإقبال ثلاثًا فإن أبى وإلا يقاتله.

قلت: الضالة المكتومة؟ قال: الذي يكتمها إذا أزلت عنه القطع، فغرامة مثلها عليه. قال إسحاق: كما قال سُنة مسنونة.

قلت: سئل سفيان عن صبي افتض صبية، قال: لها مهر مثلها في ماله. قال أحمد: يكون على عاقلته إذا بلغ الثلث. قال إسحاق كما قال سفيان: في ماله.

قلت: قال سفيان: استفتى يوسف بن عمر بن أبي ليلى في هذه فقال: لها مهر مثلها في ماله. قال أحمد: لا بل على عاقلته إذا بلغ الثلث، قال إسحاق، كما قال ابن أبي ليلى.

قلت: كانه أراد والله أعلم أرش البكارة فسماه مهرًا. أو يقال: إن استيفاء هذه المنفعة منه تجري مجرى جنايته عليها، فإذا أوجبت مالًا كان على من يحمل جنايته، ولا ريب أن الوطء يجري مجرى الجناية، إذ لا بد فيه من عفو أو عقوبة؛ وجناية الصبي على النفوس والأعضاء والمنافع على عاقلته، وهذه جناية على منفعة الصبية، فتكون على عاقلته. وهذا أصوب الاحتمالين. ولم أر أصحابنا تعرضوا لهذا النص ولا وجهه.

قلت: أيقطع في الطير؟ قال: لا يقطع في الطير. قال إسحاق كما قال:.

قلت: لعله أراد به الطير إذا تفلت من قفصه فصاد وهو خلاف ظاهر كلامه، إذ يقال: الطير لا تستقر عليه اليد ولا يثبت في الحرز، ولا سيما إذا اعتاد الخروج والمجيء كالحمام. وأجود من هذين المأخذين أن يقال: إذا أخذه فهو بمنزلة من فتح القفص عنه حتى ذهب ثم صاده من الهواء، فإن ملك صاحبه عليه في الحالين واحد وهو لو تفلت من قفصه ثم جاء إلى دار إنسان فأخذه لم يقطع ولو صاده من الهواء لم يقطع، فكذلك إذا فتح قفصه وأخذه منه والقاضي تأول هذا النص على الطير غير المملوك ولا يخفى فساد هذا التأويل والذي عندي في. أن أحمد ذهب إلى قول أبي يوسف في ذلك والله أعلم.

قلت: رجل زوج جاريته ثم وقع عليها. قال أحمد: أما الرجم فادرأ عنه، ولكن اضربه الحد محصنًا كان أو غير محصن. قال إسحاق كما قال: يجلد مائة نكالًا كما قال عمر. قلت: لعله سمي التعزير حدًا وبلغ به مائة أو لما سقط عنه الرجم حده حد الزاني غير المحصن.

قلت: سئل سفيان عن رجل قال لرجل: ما كان فلان لِيَلِد مثلك. قال: ما أرى في هذا شيئًا. فقال أحمد: هو تعريض شديد، فيه الحد.

قلت: سئل سفيان من رجل قال لرجل: أنت أكثر زنا من فلان، وقد ضرب فلان في الزنا، قال: ما أرى الحد بينًا أرى أن يعزر، قال أحمد: هذا تعريض، يضرب الحد. قال إسحاق كما قال.

فقد نص على وجوب الحد بالتعريض وهو الصواب بلا ريب، فإنه أنكى وأوجع من التصريح، وهو ثابت عن عمر.

قلت: قال سفيان: رمى الجمرتين ولم يقم عندهما فليذبح شاه أو ليتصدق بصاع. قال أحمد: لا أعلم عليه شيئًا، ويتقرب إلى الله تعالى بما شاء وقد أساء. قال إسحاق كما قال أحمد.

قلت: الحائك يدفع إليه ثوبًا على الثلث والربع؟ قال: كل شيء من هذا، الغزل والدار والدابة، وكل شيء يدفع إلى الرجل يعمل فيه على الثلث والربع، فعلى قصة خيبر. قال إسحاق كما قال.

قلت: من بنى في حق قوم بإذنهم أو بغير إذنهم. قال: إذا كان بإذنهم فله عليهم نفقته وإن كان بغير إذنهم قلع بناءه، وأحب إلي إذا كان البناء ينتفع به هنا أن يعطيه النفقة ولا يقلع بناءه. قال إسحاق كما قال سواء.

قلت: رجل ضل بعير له أعجف فوجده في يد رجل قد أنفق عليه حتى سمن. قال: هو بعيره يأخذه من أمر هذا أن يأخذه قال النبي : «دعها فإن معها حذاءها وسقاءها». قال إسحاق: إذا كان أخذه في دار مضيعة فأنفق عليه ليرده إلى الأول ويأخذ النفقة كان له ذلك. قلت: ولا يناقض هذا قاعدته فيمن أدى عن غيره واجبًا بغير إذنه أنه يرجع عليه، لأن هذا متعد بأخذ البعير حيث نهاه الشارع عن أخذه والله سبحانه أعلم.


هامش

  1. [الأعراف: 55 - 56]
  2. [يونس: 18]
  3. [يونس: 106]
  4. [المائدة: 76]
  5. [الأنبياء: 16]
  6. [الشعراء: 69]
  7. [الفرقان: 3]
  8. [الفرقان: 55]
  9. [البقرة: 186]
  10. [الإسراء: 78]
  11. [الفرقان: 77]
  12. [غافر: 60]
  13. [الحج: 73]
  14. [النساء: 117]
  15. [فصلت: 48]
  16. [الزمر: 3]
  17. [الشعراء: 92]
  18. [الأنبياء: 98]
  19. [غافر: 14]
  20. [إبراهيم: 39]
  21. [مريم: 4]
  22. [الإسراء: 110]
  23. [الطور: 28]
  24. [الكهف: 14]
  25. [الصافات: 125]
  26. [القصص: 64]
  27. [الكهف: 52]
  28. [الأعراف: 55]
  29. [مريم: 3]
  30. [مريم: 3]
  31. [البقرة: 186]
  32. [يوسف: 5]
  33. [الأعراف: 205]
  34. [الإسراء: 57]
  35. [المائدة: 87، البقرة: 19]
  36. [الأعراف: 56، 85]
  37. [الروم: 41]
  38. [البقرة: 177]
  39. [الأنبياء: 9]
  40. [المائدة: 3]
  41. [يس: 78]
  42. [الرحمن: 60]
  43. [آل عمران: 97]
  44. [البقرة: 183]
  45. [يوسف: 82]
  46. [الأعراف: 56]
  47. [الانفطار: 4]
  48. [الذاريات: 15]
  49. [الأحزاب: 35]
  50. [البقرة: 254]
  51. [النساء: 1]
  52. [البقرة: 217]
  53. [النساء: 162]
  54. [الحج: 2]
  55. [الشعراء: 4]
  56. [التوبة: 62]
  57. [الأعراف: 156]
  58. [مريم: 28]
  59. [مريم: 20]
  60. [البقرة: 177، التوبة: 18]
  61. [التوبة: 46]
  62. [الأعراف: 26]
  63. [الحديد: 19]
  64. [الأعراف: 170]
  65. [المسد: 3]
  66. [البقرة: 6]
  67. [المنافقون: 6]
  68. [الأعراف: 193]
  69. [آل عمران: 64]
  70. [فصلت: 10]
  71. [يوسف: 35]
  72. [يس: 10]
  73. [الأعراف: 193]
  74. [البقرة: 6]
  75. [التوبة: 112]
  76. [التحريم: 5]
  77. [الحديد: 3]
  78. [الاعراف: 1 - 3]
  79. [الحديد: 3]
  80. [الحشر: 23]
  81. [الحشر: 24]
  82. [التحريم: 5]
  83. [الكهف: 22]
  84. [الزمر: 73]
  85. [الزمر: 71]
  86. [البقرة: 34]
  87. [الأعراف: 11]
  88. [العنكبوت: 14]
  89. [ص: 82]
  90. [النمل: 65]
  91. [الأحزاب: 56]
  92. [الأنعام: 38]
  93. [النحل: 40]
  94. [الأحزاب: 56]
  95. [الدخان: 56]
  96. [الغاشية: 22 - 24]
  97. [البقرة: 249]
  98. [الحجر: 65]
  99. [النساء: 157]
  100. [الجاثية: 24]
  101. [الحجر: 42]
  102. [الفرقان: 63]
  103. [الإنسان: 6]
  104. [النحل: 99]
  105. [الزخرف: 68 - 69]
  106. [الزمر: 53]
  107. [مريم: 93]
  108. [هود: 43]
  109. [النساء: 22]
  110. [آل عمران: 28]
  111. [الغاشية: 22]
  112. [النساء: 80]
  113. [الشورى: 48]
  114. [يونس: 108]
  115. [الواقعة: 25]
  116. [الدخان: 56]
  117. [النبأ: 24]
  118. [النمل: 10]
  119. [الانشقاق: 22 - 25]
  120. [الانفطار: 14]
  121. [سبأ: 37]
  122. [آل عمران: 111]
  123. [النساء: 148]
  124. [النساء: 29]
  125. [النساء: 24]
  126. [الانشقاق: 24 - 25]
  127. [النساء: 24]
  128. [البقرة: 239]
  129. ابن خزيمة والبيهقي والطحاوي في شرح مشكل الآثار.
  130. [النحل: 98]
  131. [الأعراف: 200]
  132. [المائدة: 51]
  133. قال في زاد المعاد: "لم يثبت عنه السجود على كور العمامة من حديث صحيح ولا حسن."
  134. الضعيفة 2569
  135. الصحيحة 2200
  136. الطبراني في الكبير. قال في المجمع: فيه ابن لهيعة، وفيه كلام.
  137. ضعيف أبي داود
  138. ابن عدي في الكامل وابن الجوزي في العلل المتناهية.
  139. أحمد والترمذي والحاكم عن ناصح عن سماك به». قال الذهبي في تلخيص المستدرك: "ناصح هالك". ولفظ أحمد والحاكم: "بنصف صاع".
  140. الترمذي والبيهقي
  141. أخرجه في الحلية، وقال أبو نعيم: غريب من حديث صالح –المري- تفرد به داود –ابن المحبّر" وداود متروك وصالح ضعيف.
  142. مسلم وأحمد واللفظ له.
  143. ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والطبراني في الكبير. قال في المجمع عن سند الطبراني: رجاله رجال الصحيح.
  144. [المائدة: 93]
  145. [المائدة: 93]
  146. [التحريم: 6]
  147. [الممتحنة: 10]
  148. [الأنفال: 34]
  149. [البقرة: 71]
  150. [البقرة: 68]
  151. [الواقعة: 86]
  152. [الطلاق: 4]
  153. [البقرة: 234]
  154. [المدثر: 4 - 6]
  155. [الفجر: 9]
  156. [القلم: 17]
  157. [الحجرات: 4]
  158. [المعارج: 8]
  159. [الطارق: 11]
  160. [المرسلات: 25]
  161. [التحريم: 11]
  162. [الرعد: 2]
  163. [الرحمن: 6]
  164. [ص: 33]
  165. [العنكبوت: 27]
  166. [الأحزاب: 25]
  167. [آل عمران: 92]
  168. [البقرة: 86]
  169. [آل عمران: 117]
  170. [هود: 71]
  171. [يوسف: 20]
  172. [الصافات: 48]
  173. [الواقعة: 22]
  174. [الحشر: 10]
  175. [الواقعة: 46]
  176. [الواقعة: 55]
  177. [سبأ: 16]
  178. [العاديات: 6]
  179. [الكهف: 96]
  180. [سبأ: 12]
  181. [سبأ: 14]
  182. [سبأ: 16]
  183. [سبأ: 39]
  184. [سبأ: 52]
  185. [الإسراء: 86]
  186. [الذارايات: 59]
  187. [الرحمن: 11]
  188. [العنكبوت: 69]
  189. [يوسف: 98]
  190. [التكوير: 4]
  191. [المسد: 2]
  192. [التكاثر: 8]
  193. [السجدة: 27]
  194. الإبليز: الطين الذي يخلفه نهر النيل (المعجم الوسيط).
  195. [الأنعام: 89]
  196. [الأنعام: 99]
  197. [طه: 31]
  198. [طه: 7]
  199. [غافر: 19]
  200. [النحل: 75]
  201. [الكهف: 201]
  202. [يوسف: 101]
  203. [الكهف: 19]
  204. [الأنبياء: 99]
  205. [مريم: 28]
  206. في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة: لما قدمت نجران سألوني فقالوا إنكم تقرؤن يا أخت هارون، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله سألته عن ذلك فقال: «إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم»
  207. [المائدة: 2]
  208. [المائدة: 1]
  209. [الفتح: 26]
  210. ينظر منهاج السنة.
  211. [المائدة: 97]
  212. [المائدة: 5]
  213. [المائدة: 5]
  214. [يوسف: 100]
  215. [يوسف: 92]
  216. [يوسف: 93]
  217. [يوسف: 18، 83]
  218. [الماعون: 107]
  219. [الأحزاب: 49]
  220. [يوسف: 26]
  221. [يوسف: 27]
  222. [الحجر: 75]
  223. [محمد: 30]
  224. [البقرة: 263]
  225. [الشورى: 23]
  226. كانت القهوة من أسماء الخمر.
  227. [النازعات: 19]
  228. [مريم: 42]
  229. [مريم: 45]
  230. [يس: 20 - 22]
  231. [نوح: 2 - 4]
  232. [البقرة: 21]
  233. [الحج: 73]
  234. [لقمان: 33]
  235. [الكهف: 50]
  236. [الزخرف: 5]
  237. [الأحقاف: 31]
  238. [النساء: 3]
  239. [فصلت: 9]
  240. ينظر الجواب الصحيح
  241. [هود: 51]
  242. أي جرى خلاف
  243. [العنكبوت: 51]
  244. [النمل: 89]
  245. [الإسراء: 9]
  246. [يونس: 57]
  247. [الرعد: 38]
  248. [الزمر: 6]
  249. [يونس: 42 - 43]
  250. [يونس: 42]
  251. [الممتحنة: 11]
  252. [الممتحنة: 10]
  253. [البقرة: 191]
  254. [البقرة: 228]
  255. [البقرة: 229]
  256. [الزلزلة: 7]
  257. [طه: 118]
  258. [الأنعام: 110]
  259. [التوبة: 83]
  260. [التكوير: 1 - 3]
  261. [التكوير: 5]
  262. [الأنعام: 38]
  263. [النبأ: 40]
  264. [الأنفال: 1]
  265. [النمل: 114]
  266. [الأنعام: 118]
  267. [مريم: 18]
  268. [الفرقان: 48]
  269. [البينة: 5]
  270. [الشورى: 13]
  271. [الإسراء: 1]
  272. [النحل: 78]
  273. [الشعراء: 57]
  274. [الكهف: 62]
  275. [المائدة: 67]
  276. [التوبة: 102]
  277. [الكهف: 50]
  278. [البقرة: 223]
  279. [البقرة: 137]
  280. [البقرة: 30]
  281. [البقرة: 36]
  282. [طه: 122]
  283. [هود: 78]
  284. عجزه: ما يبلغ الجاهل من نفسه
  285. أي صاح
  286. الفش الحل.
  287. [طه: 117]
  288. أو كاسبا بالباء.
  289. [طه: 118 - 119]
  290. [المرسلات: 46]
  291. [ص: 88]
  292. [مريم: 84]
  293. [النساء: 165]
  294. [الأنبياء: 46]
  295. [آل عمران: 178]
  296. [هود: 43]
  297. [الزمر: 56]
  298. [الرعد: 11]
  299. [الشورى: 30]
  300. [هود: 34]
  301. [الأحزاب: 50]
  302. [الواقعة: 87]
  303. [النساء: 92]
  304. [التحريم: 1]
  305. [البقرة: 115]
  306. [آل عمران: 44]
  307. [الصافات: 141]
  308. [المزمل: 5]


بدائع الفوائد
المجلد الأول | المجلد الثاني | المجلد الثالث | المجلد الرابع