انتقل إلى المحتوى

بحر الدموع/ الفصل الرابع عشر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الرابع عشر

يا من أقعده الحرمان، هذه رفاق التائبين عليك عبور. لا رسالة دمع ولا نفس آسف، وما أراك الا مهجور. هذا نذير الشيب ينذر بالرحلة تهيأ لها منذور. كم أعذار؟ كم كسل؟ كم غفلة؟ ما أجدك يوم الحساب معذور. بيت وصلك خراب، وبيت هجرك معمور. بدر عساك تجبر بالتوبة وتعود مجبور، سجدة واحدة واصل بها السحر وتنجو من الأهوال، { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدوّ والآصال} الرعد 15. لله در أقوام قلوبهم معمورة بذكر الحبيب، ليس فيها لغيره حظ ولا نصيب، ان نطقوا فبذكره، وان تحرّكوا فبأمره، وان فرحوا فبقربه، وان ترحوا فبعتبته، أقواتهم ذكر الحبيب، وأوقاتهم بالمناجاة تطيب، لا يصبرون عنه لحظة، ولا يتكلمون في غير رضاه بلفظة. وأنشدوا: حياتي منك في روح الوصال وصبري عنك من طلب المحال وكيف الصبر عنك وأي صبر لعطشان عن الماء الزلال اذا لعب الرجال بكل شيء رأيت الحبّ يلعب بالرجال

يروى عن رسول الله أنه قال:" اذا بلغ العبد أربعين سنة، ولم يغلب خيره على شرّه، قبّله الشيطان بين عينيه، وقال: فديت وجها لا يفلح أبدا، فان منّ الله عليه، وتاب اليه، واستنقذه من الضلالة، واستخرجه من غمرات الجهالة، يقول الشيطان لعنه الله: يا ويلاه، قطع همره بالضلالة، فأقرّ بالمعصية عيني، ثم أخرجه الله من الجهالة بتوبته ورجوعه الى ربه" أورده الغزالي في الاحياء.

وذكر في بعض الأخبار أن رجلا كان من الفقهاء من أهل بغداد، وكان ممن يسار اليه في العلم والصلاح، وكان شيخا كبيرا فاضلا، وأراد الحج الى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيّه عليه الصلاة والسلام، فألّف من أصحابه جماعة من الذين كانوا يقؤون عليه، فارتبط معهم على أنهم يخرجون متوكلين على الله عز وجل.

فلما ساروا في بعض الطريق، واذا بدير نصراني، وقد أعياهم الحرّ والعطش، فقالوا: يا أستاذنا، نسير لهذا الدير، فنستظل حتى يبرد النهار، ونرحل ان شاء الله تعالى، فقال لهم: افعلوا ما شئتم، فساروا الى ذلك الدير، ونزلوا عند جداره وقد أضابهم العياء والحر، فنام الطلبة، والشيخ لم ينم.

قال: فتركهم الشيخ نائمين، وخرج يطلب ماء لوضوئه، ولم يكن له همّ الا ذلك، فبينما هو يمشي في حومة الدير يطلب الماء، فرفع رأسه، فرأى جارية صغيرة السن، كأنها الشمس الضاحية، فلما رآها الشيخ تمكّن ابليس من قلبه، ونسي الوضوء والماء، ولم يكن له هم الا الجارية، فأقبل يقرع الباب قرعا عنيفا، فخرج اليه راهب وقال له: من أنت؟ قال له: أنا فلان العالم الفلاني، وعرّفه بنفسه واسمه. فقال له الراهاب: ما تريد يا فقيه المسلمين؟. قال له: يا راهب، هذه الصبية التي بدت من أعلى الدير، ما هي منك؟. قال الراهب: هي ابنتي، فما سؤالك عنها؟. قال له الشيخ: أريد أن تزوّجني اياها. قال له الراهب: ان ذلك لا يجوز عندنا في ديننا، ولو كان جائزا، لكنت أزوّجها منك بغير مشورتها، ولكن قد جعلت لها على نفسها عهدا، أن لا أزوّجها الا من ترضى لنفسها، ولكن أنا أدخل عليها وأعلمها بخبرك، فان هي رضيتك لنفسها، زوّجتك منها. قال له السيخ: حبا وكرامة. قال: فذهب الراهب الىابنته، فأعلمها بالقصة، والشيخ يسمع. فقالت: يا أبت، كيف تزوّجني منه، وأنا على دين النصرانية، وهو على دين الاسلام، انّ ذلك لا يتم له الا أن يدخل في دين النصرانية. قال: فعند ذلك، قال لها الراهب: أرأيت ان دخل في دينك، تتزوجينه؟. قالت: نعم. والشيخ العالم في هذا كله يتضاعف به الأمر، وابليس يزيّنها في عينيه، وأصحابه رقود، ليس عندهم علم بما حلّ به. قال: فعند ذلك، أقبل عليها الشيخ وقال لها: قد نبذت دين الاسلام، ودخلت في دينك. قالت له الجارية: هذا زواج قدري، ولكن لا بد من حق الزوجية ودفع المهر، وأين الحق، وأراك رجلا فقيرا، ولكن أقبل منك في حقي أن ترعى هذه الخنازير عاما كاملا، ويكون ذلك صداقي. قال لها: نعم، لك ذلك، ولكن أشترط عليك أن لا تجبي وجهك عني، لأنظر اليك غدوة وعشيا. قالت: نعم. فأخذ عصاه التي كان يخطب عليها، وأقبل بها على الخنازير، يزجرها لتمشي للمرعى. وجرى هذا كله وأصحابه نيام، فلما استيقظوا من نومهم طلبوا الشيخ فلم يجدوه، فسألوا عنه الراهب، فأعلمهم بالقصة. قال: فمنهم من خرّ مغشيا عليه، ومنهم من بكى وناح، ومنهم من تأسف على ما حلّ به. ثم قالوا للراهب: وأين هو؟. قال لهم: يرعى الخنازير. قال: فمضينا اليه، فوجدناه متكئا على عصاه التي كان يخطب عليها وهو يزجر بها الخنازير، وقلنا له: يا سيّدنا، ما هذا البلاء الذي حلّ بك. وجعلنا نذكّره فضل القرآن والاسلام، وفضل محمد ، وقرأنا عليه القرآن والحديث. فقال لنا: اليكم عني، فأنا أعلم بما تذكرونني به منكم، ولكن قد نزل بي البلاء من عند رب العالمين. قال: فكلما عالجناه ليسير معنا، ما قدرنا عليه، فمضينا الى مكة وتركناه، وفي قلوبنا منه حسرة. وقضينا حجنا ورجعنا نريد بغداد، فلما صرنا الى ذلك الموضع، فقلنا: تعالوا ننظر ما فعل الشيخ، لعله ندم وتاب الى الله عز وجلّ، ورجع عما كان فيه. قال: فذهبنا اليه، فوجدناه على حالته، وهو يزجر الخنازير، فسلمنا عليه وذكّرناه، وقرأنا عليه القرآن، فما ردّ علينا شيئا، فانصرفنا عنه وفي قلوبنا منه حسرة عظيمة. قال: فلما صرنا على بعد من الدير، واذا نحن بسواد قد أقبل علينا من ناحية الدير، وهو يصيح علينا، فوقنا له، فاذا هو صاحبنا الشيخ قد لحق بنا. وقال: اشهد أن لا اله الا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وأنا قد تبت الى الله، ورجعت عما كنت فيه، وماكنت فيه، وما كان ذلك الا من ذنب كان بيني وبين ربي عاقبني به، فكان من البلاء ما رأيتم. قال: فسررنا بذلك غاية السرور، وجئنا الى بغداد، وأقبل الشيخ على العبادة والاجتهاد أكثر مما كان عليه قبل ذلك، فبينما نحن في دار الشيخ نقرأ عليه، واا نحن بامرأة قد قرعت الباب، فخرجنا اليها وقلنا لها: ما حاجتك أيتها المرأة. قالت: أريد الشيخ وقولوا: ان فلانة بنت فلان الراهب قد جاءت لتسلم على يديك، فأذن لهابالدخول، فدخلت، وقالت: يا سيدي جئت لأسلم على يديك. فقال لها الشيخ: وما كانت القصة. قالت له: لما وليت عني، غلبتني عيناي، فنمت، فرأيت فيما يرى النائم علي بن ابي طالب رضي الله عنه، وهو يقول: لا دين الا دين محمد صلى الله عليه سولم، قال لي ذلك ثلاث مرّات، ثم قال لي بعد ذلك: ما كان الله ليبتلي بك وليا من أوليائه. وها أنا ذا قد جئت اليك، وأنا بين يديك، وأقول: أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. ففرح الشيخ بذلك، حيث منّ الله عليها بدين الاسلام على يديه، فتزوجها على كلمة الله وسنة رسوله. قال: فسألناه عن ذلك الذنب الذي كان بينه وبين الله. قال: كنت يوما ماشيا في بعض الأزقة، واذا برجل نصراني قد لصق بي، فقلت له: ابعد عني عليك لعنة الله. فقال: ولم ؟ قلت له: أنا خير منك. فالتفت النصراني، وقال: ما يدريك أنك خير مني، وهل تدري ما عند الله تعالى حتى تقول هذا الكلام؟. وقد بلغني بعد ذلك أن هذا الرجل النصراني قد أسلم وحسن اسلامه، ولزم العبادة، فعاقبني الله تعالى من أجل ذلك ما رأيتم. نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.