النظرات/رباعيات الخيام
رباعيات الخيام
وقفت برباعيات الخيام كما يقف مسافرٌ ضلَّ به سبيله في فلوات الأرض ومجاهلها بوادٍ معشوشبٍ زاهرٍ في وسط فلاةٍ جرداء عند منقطع العمران، فما خطوت فيه بضع خطواتٍ حتى رأيت ما شاء الله أن أرى من أنوارٍ بيضاء، وورودٍ حمراء، وألوان من النبات، مشتبهاتٍ وغير مشتبهاتٍ، وغدرانٍ مسلسلة مطَّردةٍ تتبسط في تلك الديباجة الخضراء تبسُّط الشهب في الديباجة الزرقاء، وأسرابٍ من الحمائم والعصافير والكراكي والبلابل تتطاير من فرعٍ إلى فرع، وتتناثر من غصنٍ إلى غصن، وتجتمع لتفترق، وتفترق لتجتمع، وتقتتل مرةً وتتلاثم أخرى، وتصعد حتى تلامس بأجنحتها جلدة السماء، ثم تهبط فتقبِّل صفحة الماء، ولا تزال تغرد في صعودها وهبوطها تغريدًا مختلف النغمات متنوع اللهجات، فيتألف من ذلك الاختلاف نغمٌ بديع لا أعرف له شبيهًا إلا تلك الصورة الخيالية التي أتخيلها في نغم الحور الحسان في فراديس الجنان.
فلم أزل أتقلَّب في أعطاف تلك الغلائل الخضراء، وأجرُّ ذيول تلك الجداول البيضاء، وأقلِّب في طَرْفي فلا أرى رائحًا ولا غاديًا، وأتسمع فلا أسمع هاتفًا ولا داعيًا. حتى وقف بي الحظ على دوحةٍ فرعاء، ماثلةٍ على رأس بعض الجداول، قد اضطجع في ظلها على قطيفةٍ من ذلك العشب الناعم رجلٌ هانئٌ باسمٌ، يقرأ تارة سورة الجمال في وجه فتاةٍ جالسة بين يديه، ويقبل أخرى ثغر الكأس التي في يمينه، ويترنَّم فيما بين هذا وذاك بمقطوعاتٍ شعرية بديعة، يمثِّل فيها جمال الطبيعة وهدوءها، وسعادة الوحدة وهناءها. ويطير بأجنحة خياله في عالمٍ بديع من عوالم الغيب، كأنما يريد أن يفرَّ بنفسه من هذا العالم المملوء بالآلام والأحزان، ويحاول أن يطارد كل خاطرٍ من خاطرات الهموم التي تتطاير حول قلبه ليستكمل لذته في العيش، ويتغلغل في أعماق المتعة بوحدته وكتابه، وكأسه وفتاته.
فإن مرَّ بخاطره ذكر الملوك والأمراء وما ينعمون به من عزٍّ وسلطان ولذةٍ واستمتاع قال: «ما لي وللملك والسلطان، والحاشية والجند، والقصور الشمَّاء، والجنان الفيحاء، هنالك المحنة والشقاء، والفتنة الشعواء، والهموم والأرزاء، والدماء والأشلاء، والعويل والبكاء، وهنا الراحة والسكون في ظلال الوحدة والانفراد، حيث لا سيِّد ولا مسود، ولا عابد ولا معبود. وبين هذين الثغرين: ثغر الفتاة وثغر الكأس، وذينك الصديقين: هذا الكتاب المفتوح، وذلك الغصن المطلِّ، كان ما يقدِّر السعداء لأنفسهم من غبطةٍ في الحياة وهناء.»
وإنْ ذكر الآخرة وما أعدَّ الله فيها من العذاب للمسرفين على أنفسهم قال: «إنَّ من العجز أن أبيع عاجل السعادة المعلوم بآجلها المجهول. أنا اليوم موجودٌ، فلا بدَّ أن أستمتع بمتعة الوجود، أما الغد فلا علم لي به ولا بما قُدِّر لي فيه، وعسير عليَّ أن أتصور أننا — معشرَ الأحياء — كنوزٌ من الذهب تدفن اليوم في باطن الأرض، لينبش عنا النابشون غدًا.»
ثم يعود إلى نفسه مستغفرًا الله من ذنبه في شكِّه وارتيابه فيقول: «اللهم إنك تعلم أني ما كفرت بك مذ آمنت، ولا أضمرت لك في قلبي غير ما يضمر لك المؤمنون الموحدون، فاغفر لي آثامي وذنوبي؛ فإني ما أذنبت عنادًا لك ولا تمردًا عليك، ولكنها الكأس غلبتني على أمري، وحالت بيني وبين عقلي، وأنت أجلُّ من أن تقاضيني كما يقاضي الدائن مَدينه؛ لأنك كريمٌ، والكريم يرتجل المنحة ارتجالًا ولا يقرضها قرضًا، ويسبغ نعمته حتى على العصاة والمذنبين.»
وأحيانًا يستشعر قلبه الرحمة بالعباد فيبكي أحياءهم وأمواتهم، ويقول مخاطبًا فتاته: «رويدًا أيتها الفتاة في خطواتك على هذه الأعشاب، فلعل جذورها تستمدُّ حياتها من كبد فتاةٍ مثلك لها قلبٌ مثل قلبك، ووجدانٌ مثل وجدانك، وجمالٌ ورواء مثل جمالك وروائك، ثم ضرب الدهر ضرباته، فإذا أنت في غلالة هذه الأشعة البيضاء، وإذا هي في دجنة تلك الأعماق السوداء، فارفقي بها، واسكبي هذه الفَضْلة من كأسك على تربتها علَّها تتسرَّب إلى نفسها فتطفئ ذلك اللاعج الذي يتأجج بين جوانحها.»
ثم يتخيَّل أحيانًا كأنه واقفٌ أمام رجلٍ خزَّاف يحرق آنيته في تنُّوره، فيقول له: «رحمة أيها الخزاف بهذه الحمأة التي تقلبها في هذه النار، فقد كانت بالأمس إنسانًا مثلك، وستكونُ في مستقبل الأيام حمأةً مثلها، وربما ساقك الدهر إلى يدي خزَّاف تحتاج إلى رحمته ورفقه، فارفقْ بها اليوم يَرفقْ بك خزَّافك غدًا.» وآونةً يلبس ثوب الواعظ المنذر، فينعى على السعداء سعاداتهم ويذكرهم بما آلت إليه حال الملوك السالفين، والأقيال الماضين، من خراب دورهم، وعمران قبورهم، وغروب شموسهم، واندثار آثارهم. ثم ينتقل من ذلك إلى البكاء على نفسه، وترقُّب ذلك اليوم الذي تصوح فيه زهرته، وتنطفئ جذوته، وتضعف مُنَّتُه، ويمحو نهار مشيبه ليلَ شبابه، فيزحف إلى قبره شيئًا فشيئًا حتى يتردَّى فيه، فيعود كما كان سرًّا مكتومًا في ضمائر الأقدار، وذرةً هائمةً في مجاهل الأكوان.
وهكذا ما زال ينتقل من عِبرةٍ بليغةٍ إلى عظةٍ بديعةٍ، ومن خيالٍ جميلٍ إلى تشبيهٍ رقيق، ومن وصفٍ ناطقٍ إلى تمثيلٍ صادق، حتى أصبحتُ أعتقد أنَّ هذه النفس التي تشتمل عليها بردة هذا الشاعر الجليل مرآةٌ صافية قد تمثَّل فيها هذا الكون بأرضه وسمائه، وليله ونهاره، وناطقه وصامته، وصادحه وباغمه. وأنَّ فخار الأعراب بمُتنبيِّها ومَعرِّيها، والفرنسة بلامَرْتِينِها وفِيكْتُورِها، والسكسون بشكسبيرها ومِلْتُونِها، والطليان بدَانْتِيِّها، والألمان بجِيتِها، والرومان بفِرْجِيلها، واليونان بهُومِيرِها، ومصر القديمة ببِنْتَاؤورها، ومصر الحديثة بأحْمَدها، لا يقل عن فخار فارس بخيَّامها.