انتقل إلى المحتوى

النظرات/الجمال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الجمال


الجمال هو التناسب بين أجزاء الهيئات المركبة، سواءٌ أكان ذلك في الماديات أم في المعقولات، وفي الحقائق أم الخيالات.

ما كان الوجه الجميل جميلًا إلا للتناسب بين أجزائه، وما كان الصوت الجميل جميلًا إلا للتناسب بين نغماته، ولولا التناسب بين حبات العقد ما افتنت به الحسناء، ولولا التناسق في أزهار الرَّوْضِ ما هامت به الشعراء.

ليس للتناسب قاعدةٌ مطردةٌ يستطيع الكاتب أن يبينها، فالتناسب في المرئيات غيرُه في المسموعات، وفي الرسوم غيرُه في الخطوط، وفي الشئون العلمية غيرُه في القصائد الشعرية، على أنه لا حاجة إلى بيانه ما دامت الأذواق السليمة تدرك بفطرتها ما يلائمها، فترتاح إليه، وما لا يلائمها فتفرُّ منه.

إنَّ كثيرًا من الناس يستحسنون الأنف الصغير في الوجه الكبير، والرأس الكبير في الجسم الصغير، ولا يفرقون بين البرص في الجسم الأسود والخال في الخد الأبيض، ويطربون لنقيق الضفادع كما يطربون لخرير الماء، ويفضلون أنغام النواعير على أنغام العيدان، ويعجبون بشعر ابن الفارض، وابن معتوق، والبرعي، أكثر مما يعجبون بشعر أبي الطيب وأبي تمام والبحتريِّ، ويضحكون لما يبكي ويبكون مما يضحك ويَرْضَوْنَ بما يُغْضِبُ ويغضبون مما يُرضي.

أولئك هم أصحاب الأذواق المريضة، وأولئك هم الذين تصدر عنهم أفعالهم وأقوالهم مشوهةً غير متناسبة ولا متلائمة؛ لأنهم لم يُدْرِكُوا سر الجمال فيصدر عنهم، ولم تألفه نفوسهم فيصير غريزةٌ من غرائزهم.

إنْ رأيت شاعرًا يبتدئ قصائد التهنئة بالبكاء على الأطلال، ويودع القصائد الرثائية النكات الهزلية، ويتغزل بممدوحه كما يتغزل بمعشوقه، أو متكلمًا يقتضب الأحاديث اقتضابًا، ويهزل في موضع الجد ويجد في موضع الهزل، أو صحفيًّا يضع العنوان الضخم للخبر التافه، ويكتب مقدمةً في السماء لموضوعٍ في الأرض، أو حاكمًا يضع الندى في موضع السيف والسيف في موضع الندى، أو ماشيًا يتلوى في طريقه من رصيفٍ إلى رصيفٍ كأنما يرسم خطًّا مُعَرَّجًا، أو لابسًا في الشتاء غلالة الصيف وفي الصيف فروة الشتاء، فاعلم أنَّ ذوقه مريضٌ، وأنه في حاجةٍ إلى معالجة ذوقه، كحاجة المجنون إلا علاج عقله، والمريض إلى علاج جسمه.

كما أنه ليس كُلُّ مجنون يرجى شفاؤه، ولا كل مريض يرجى إبلاله، كذلك ليس كُلُّ من فسد ذوقه يرجى صلاحه، فإن رأيت من تؤمل في صلاحه خيرًا، وتجد في نفسه استعدادًا لتقويم ذوقه، فعلاجه أن تَحفُّه بأنواع الجمال، وتدأب على تنبيهه على متناسباته ومؤتلفاته، وإن استطعت أن تُعَلِّمَهُ فنًّا من الفنون الجميلة — كالشعر والتصوير والموسيقى — فافعل، فإنها المقومات للأذواق، والغارسات في النفوس ملكات الجمال.