النبوات/8
فصل
والنوع الثاني ما يدل بقصد الدال به كالكلام وكالعقد باليد والاشارة بها أو بالعين أو الحاجب أو غير ذلك من الأعضاء وقد يسمى ذلك رمزا ووحيا وكذلك الخط خط الكتابة بخلاف الاستدلال بآثار خطى الانسان فإن هذا من النوع الاول وكذلك القيافة وهي من النوع الاول وهو الاستدلال بالشبه على النسب وكذلك القائف قد يعرف بالأثر من هو الواطئ وأين ذهب ومن هذا النوع الاميال التي جعلت علامات على حدود الحرم والاميال تجعل في الطرقات فإنه قصد بها الدلالة على الطريق أي قصد الناس بها ذلك وهذا النوع قسمان منه ما يكون بالاتفاق والمواطأة بين اثنين فصاعدا كما يتفق الرجل مع وكيله على علامة لمن يرسله اليه مثل وضع خنصره في خنصره ومثل وضع يده على ترقوته كما روي أن النبي ﷺ جعل ذلك علامة مع بعض الناس وكما يجعل الملوك وغيرهم لهم علامات عند بعض الناس من جاء بها عرفوا أنه مرسل من جهته ومن هذا الباب شعائر الناس في الحرب كل طائفة يعرف أصحابها بشعارها ولهذا قال الفقهاء ويجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به كما كان للمهاجرين شعار وللانصار شعار ومن هذا الباب الأعلام والرايات للمقدمين فان الراية ترى فيعلم صاحبها وكذلك العلم يعلم فيعلم صاحبه وقد تميز راية عن راية لما يختص به صاحبها ويسمى ذلك رنكا وقد يكون ذلك اسم الشخص وقد يكون غير ذلك لكن قد اتفق مع غيره على أن هذا علامة وآية له فمتى رؤي استدل به على أنه هو المضاف اليه ذلك العلم ويجعل هذا على الدور والثياب والدواب ومنه الوسم الذي تعلم به إبل الصدقة وإبل الجزية فإن الوسم علامة مقصودة للواسم وأما السيما فهي علامة بنفسها لم يقصدها مثل سيما المؤمنين وسيما المنافقين قال تعالى في المؤمنين سيماهم في وجوههم من أثر السجود وقال في المنافقين فلعرفتهم بسيماهم وقال عتل بعد ذلك زنيم قيل له زنمة من الشر يعرف بها ومنه سيما المؤمنين يوم القيامة التي بها يعرفهم نبيهم وهو أنهم غر محجلين من آثار الوضوء فهذه علامة وآية لكنها من النوع الاول لم يقصد المسلمون أن يتوضئوا ليعرفوا بالوضوء لكن من اللوازم لهم الوضوء للصلاة وقد جعل الله أثر ذلك نورا في وجوههم وأيديهم وليس هذا لغيرهم فإن هذا الوضوء لم يكن لغيرهم والحديث الذي يروى هذا وضوئي ووضوء النبيين من قبلي ضعيف بخلاف الصلاة في المواقيت الخمس فإن الانبياء كانوا يصلون في هذه المواقيت كما قال هذا وقتك ووقت الانبياء قبلك والوسم والسيما من الوسم متفقان في الاشتقاق الاوسط فان أصل سيما سوما فلما سكنت الواو وانكسر ما قبلها قلبت ياء مثل ميقات وميعاد ونحو ذلك والاسم أيضا من هذا الباب وهو علم على المسمى ودليل عليه وآيه عليه وهذا المعنى ظاهر فيه فلذلك قال الكوفيون انه مشتق من الوسم والسمة وهي العلامة وقال البصريون بل هو مشتق من السمو فإنه يقال في تصغيره سمي لا وسيم وفي جمعه أسماء لا أوسام وفي تصريفه سميت ولا وسمت وكلا القولين حق لكن قول البصريين أتم فإنه مشتق منه على قولهم في الاشتقاق الاصغر وهو اتفاق اللفظين في الحروف وتأليفها وعلى قول الكوفيين هو مشتق منه من الاشتقاق الاوسط وهو اتفاق اللفظين في الحروف لا في ترتيبها كما قلنا في الوسم والسيما والسمو هو العلو والسامي هو العالي والعلو مستلزم للظهور كما تقدم فالعالي ظاهر والظاهر عال فكان الاسم بعلوه يظهر فيدل على المسمى لأنه يظهر باللسان والخط ويظهر للسمع المسمى فيعرف بالقلب وقد تقدم أنهم يسمون الجبال أعلاما لما فيها من الظهور ودلالة الاسم على مسماه دلالة قصدية فان المسمى يسمى بالاسم ليعرف به المسمى وليدل عليه يقصد به الدلالة على مجرد نفسه كأسماء الأعلام للأشخاص وتارة يقصد به الدلالة على ما في اللفظ من المعنى كالأسماء المشتقة مثل العالم والحي والقادر ومن هذا الباب تسمية المعبودين آلهة سموها بما لا تستحقه كما يسمى الجاهل عالما والعاجز قادرا والكذاب نبيا فلهذا قال تعالى ان هي إلا اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان والنوع الثاني من هذه الدلالة القصدية أن يقصد الدال الدلالة من غير مواطأة مع المستدلين على أنه دليل لكن هم يعلمون أنه قصد الدلالة لعلمهم بأحواله مثل ما يرسل الرجل شيئا من ملابسه المختص به مع شخص فيعلمون أنه أرسلها علامة على أنه أرسله قال سعيد بن جبير عن ابن عباس ان في ذلك لآية للمؤمنين قال العلامة تكون بين الرجل وأهله رواه ابن المنذر حدثنا موسى بن هارون حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ورواه ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا أبو اسامة حدثني سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ان في ذلك لآية قال علامة ألم تر إلى الرجل إذا أراد أن يرسل إلى أهله في حاجة أرسل بخاتمه أو ثبوته فعرفوا أنه حق فتارة يرسل خاتمه معه فيعلمون أنه أرسله ليعلموا أنه أرسله إذ كانوا قد علموا أن الخاتم معه وأنه ليس في إرساله مع ذلك الشخص الذي لا يعرفونه مقصود له إلا أن يكون علامة على أنه أرسله اليهم فيصدقونه فيما أخبر عنه وتارة يرسل معه عمامته أو نعليه وقد علموا أنه لا يخلع عمامته ويبعثها مع ذلك الشخص إلا لتكون علامة على صدقه كما فعل النبي ﷺ في غزاة الفتح لما كانت راية الخزرج مع سعد بن عبادة وكان فيه حدة وقال لا قريش بعد اليوم اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة قيل للنبي ﷺ إنه يخاف منه أن يضع السيف في أهل مكة فقال قولوا له يعطى الراية لابنه قيس فقيل انه لا يقبل منه فقال هذه عمامتي قولوا له قد أمر رسول الله ﷺ بذلك فلما رأى عمامته مع من جاء بها علم أنه ليس له في إعطائه عمامته مقصود إلا أن تكون علامة ولم يكن قبل ذلك قد واطأه على ذلك وكذلك لما أعطى أبا هريرة نعليه ليخرج فيبشر الناس بما ذكره له فإنهم إذا أرادوا معه نعليه علموا أنه لم يعطه النعلين إلا علامة وكذلك قد يكون بين الشخص وبين غيره سر لم يطلع عليه المرسل فيقول له اعطني علامة فيقول قل له بعلامة ما تكلمت أنت وهو في كذا وكذا أو ما فعلت أنت وهو كذا وكذا فيعلم المرسل اليه أن المرسل هو أعلم هذا الرسول بهذا الأمر اذ كان غيره لم يعلمه ويعلم أنه ليس له في إعلامه به مقصود إلا أن يكون علامة له على تصديقه ثم أكثر هذه الآيات التي هي علامات للناس يرسلونها مع من يرسلونه ليعرف صدقه هي قطعية عند المستدل بها المرسل اليه من الأهل والاصدقاء والوكلاء والنواب وغيرهم يأتيهم الرجل بعلامة وهي مستدلة على حيهم فيعلمون قطعا أن هذا جاء من عنده ويعلمون قطعا أنه لم يرسله بتلك العلامة الا ليعلموا صدقه لا يخطر لسعد بن عبادة حين رأى عمامة النبي ﷺ معهم أنهم أخذوها بغير قصده بأن تكون سقطت منه ونحو ذلك بل قد علم أنها كانت على رأسه وهو راكب في الجيش وقد أرسلها مع هذا وكذلك خاتم الشخص الذي يعلمون أنه لا ينزع خاتمه من يده ويعطيها لغيره ليعبث بها عنه وهو لا يختم بها شيئا إلا لذلك وقد يقع في مثل ذلك احتمالات فيستعمل المستدلون التقسيم فإن الاستدلال مداره على أنه أرسله بالعلامة وأنه إنما أرسله بها ليبين صدقه فقد يعرض في المقدمة الاولى أنه أخذها بغير اختياره أو أن الخاتم سقط منه أو ان كان مسافرا أنه قتل أو مات فقد يقع مثل ذلك وقد يؤخذ خاتم الرجل بغير أمره ويختم به كتابه كما حكى أن مروان فعل مثل ذلك بعثمان والمقدمة الثانية أنه قد يرسله بالخاتم ليختم به شيئا أو ليصلحه ونحو ذلك فإذا عرض مثل هذا الاحتمال وقوى توقفوا وإن عرفوا انتفاء ذلك مثل أن يكون قد ذهب من عندهم قريبا وليس له ما يختم به ونحو ذلك قطعوا بأنه أرسله علامة ثم بعد هذا قد يعلمون أنه أرسله لكن قد يكذب عليه ولكن العهدة في هذا على المرسل فإن ارسال العلامة هو إعلام منه لهم بأني أرسلته اليكم فهذا الفعل هو مثل هذا القول يجري مجرى إعلامهم وإخبارهم بأنه أرسله وتصديقه في قوله هو أرسلني والإخبار تارة يكون بالقول وتارة يكون بالعمل كما يعلم الرجل غيره بالاشارة بيده ورأسه وعينه وغير ذلك وان لم يتقدم بينهما مواضعة لكن يعلم قصده ضرورة مثل أن يسأله عن شيء هل كان فيرفع رأسه أو يخفضه أو يشير بيده أو يكون قائما فيشير اليه اجلس أو قاعدا مطلوبا فيشير اليه أن اهرب فقد جاء عدوك أو نحو ذلك من الاشارات التي هي أعمال بالأعضاء وهي تدل دلالة ضرورية تعلم من قصد الدال كما يدل القول وقد تكون أقوى من دلالة القول لكن دلالة القول أعم وأوسع فإنه يدل على الأمور الغائبة وعلى الأمور المعضلة وهذه الأدلة العيانية هي أقوى من وجه ولكن ليس فيها من السعة للمعاني الكثيرة ما في الاقوال
فصل
وخاصة الدليل أن يكون مستلزما للمدلول فكل ما استلزم شيئا كان دليلا عليه ولا يكون دليلا إلا إذا كان مستلزما له ثم دلاله الدليل تعلم كما يعلم لزوم اللازم للملزوم وهذا لا بد أن يعلم بالضرورة أو بدليل ينتهي الى الضرورة وعلى هذا فآيات الأنبياء هي أدلة صدقهم وهي ما يستلزم صدقهم ويمتنع وجوده بدون صدقهم فلا يمكن أن يكون ما يدل على النبوة موجودا بدون النبوة ثم كونه مستلزما للنبوة ودليلا عليها يعلم بالضرورة أو بما ينتهي إلى الضرورة فآيات الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا تحد بحدود يدخل فيها غير آياتهم كحد بعضهم كالمعتزلة وغيرهم بأنها خرق العادة ولم يعرف مسمى هذه العبارة بل ظن أن خوارق السحرة والكهان والصالحين خرق للعادة فكذبها وحد بعضهم بأنها الخارق للعادة إذا لم يعارضه أحد وجعل هذا فصلا احترز به عن تلك الامور فقال المعجزة هي الخارق المقرون بالتحدي بالمثل مع عدم المعارضة وجوز أن يأتي غير الانبياء بمثل ما أتوا به سواء مع المعارضة وجعل ما يأتي به الساحر والكاهن معجزات مع عدم المعارضة وحقيقة المعجز هذا ما لم يعارض ولا حاجة إلى كونه خارقا للعادة بل الامور المعتادة إذا لم تعارض كانت آية وهذا باطل قطعا ثم مسيلمة والأسود العنسي وغيرهما لم يعارضوا ثم يقال ما يعني بعدم المعارضة في ذلك المكان والزمان فالسحرة والكهان لا يعارضون والعنسي ومسيلمة لم يعارضا في مكانهم ووقت اغرائهم وإن قال لا يعارض البتة فمن أين يعلم هذا العدم فإن قيل فما آيات الانبياء قيل هي آيات الانبياء التي تعلم أنها مختصة بالانبياء وأنها مستلزمة لصدقهم ولا تكون إلا مع صدقهم وهي لا بد أن تكون خارقة للعادة خارجة عن قدرة الانس والجن ولا يمكن أحدا أن يعارضها لكن كونها خارقة للعادة ولا تمكن معارضتها هو من لوازمها ليس هو حدا مطابقا لها والعلم بأنها مستلزمة لصدقهم قد يكون ضروريا كانشقاق القمر وجعل العصا حية وخروج الناقة فمجرد العلم بهذه الآيات يوجب علما ضروريا بأن الله جعلها آية لصدق هذا الذي استدل بها وذلك يستلزم أنها خارقة للعادة وأنه لا يمكن معارضتها فهذا من جملة صفاتها لا أن هذا وحده كاف فيها وهذا اذا قال من قال أن فلانا أرسلني اليكم فإنه يأتي بما يعلم أنه علامة والعلامة والدليل والآية حدها أنها تدل على المطلوب وآيات الانبياء تدل على صدقهم وهذا لا يكون الا مع كونها مستلزمة لصدقهم فيمتنع أن تكون معتادة لغيرهم ويمتنع أن يأتي من يعارضهم بمثلها ولا يمتنع أن يأتي نبي آخر بمثلها ولا أن يأتي من يصدقهم بمثلها فان تصديقه لهم يتضمن صدقهم فلم يأت إلا مع صدقهم وقد تكون الآيات تدل على جنس الصدق وهو صدق صاحبها فيلزم صدقه اذا قال أنا نبي ولكن يمتنع أن يكون لكاذب فهذا ونحوه مما تنكشف به حقيقة هذا الباب وهو من أهم الأمور وإذا فسر خرق العادة بأنها خرق لعادات غير الانبياء أي لا يكون لغير جنسهم وجنس من صدقهم وفسر عدم المعارضة بأنه لا يقدر أن يأتي بها من ليس بنبي أو متبع لنبي كان المعنى واحدا واتحدت التفاسير الثلاثة
فصل
والله سبحانه دل عباده بالدلالات العيانية المشهودة والدلالات المسموعة وهي كلامه لكن عامتهم تعذر عليهم أن يسمعوا كلامه منه فأرسل اليهم بكلامه رسلا وأنزل اليهم كتبا والمخلوق اذا قصد إعلام من يتعذر أن يسمع منه أرسل اليه رسلا وكتب اليه كتبا كما يفعل الناس ولاة الامور وغيرهم يرسلون الى من بعد عنهم رسولا ويكتبون اليه كتبا ثم انه سبحانه جعل مع الرسل آيات هن علامات وبراهين هي أفعال يفعلها مع الرسل يخصهم بما لا يوجد لغيرهم فيعلم العباد لاختصاصهم بها أن ذلك إعلام منه للعباد وإخبار لهم أن هؤلاء رسلي كما يعلمهم بكلامه المسموع منه ومن رسوله ولهذا قد يعلم برسالة رسول بإخبار رسول أخبر عنه وقد يخبر عن ارساله بكلامه لمن سمع كلامه منه كما أخبر موسى وغيره بالوحي الذي يوحيه اليهم فآيات الانبياء هي علامات وبراهين من الله تتضمن إعلام الله لعباده وإخباره فالدليل وهو الآية والعلامة لا يدل إلا إذا كان مختصا بالمدلول عليه مستلزما له إما مساويا له وأما أخص منه لا يكون أعم منه غير مستلزم له فلا يتصور أن يوجد الدليل بدون المدلول عليه فالآيات التي أعلم الله بها رسالة رسله وصدقهم لا بد أن تكون مختصة بهم مستلزمة لصدقهم فان الإعلام والإخبار بأن هذا رسول وتصديقه في قوله إن الله أرسلني لا يتصور أن يوجد لغير رسول والآيات التي جعلها الله علامات هي أعلام بالفعل الذي قد يكون اقوى من القول فلا يتصور أن تكون آيات الرسول إلا دالة على صدقهم ومدلولها أنهم صادقون لا يجوز أن توجد بدون صدق الرسل البتة وكون الرب أراد بها إعلام عباده بصدقهم وصدقهم بها في إخبارهم أنه أرسلهم وكونها آية وعلامة على صدقهم أمر يعلم كما تعلم دلالة سائر الادلة كما يعلم من الرجل أصدقاؤه ووكلاؤه أنه أرسل هذا بهذه العلامات فتارة يعلم ذلك بالضرورة بعد تصور الامر وتارة يحتاج الى نظر هل هذه العلامة منه أو من غيره وهل هو أرسله بها أو غيره وهل قصد بها الإعلام والتصديق أم لا وهل يعلم من حال الذاكر أنه أرسله أنه صادق فقد يرسل من يعلمون هم صدقه وأنه لا يكذب فيعلمون صدقه بمجرد قوله هو أرسلني من غير آية ولا علامة ولهذا إذا قال من صدقه إنه رأى رؤيا صدقه وجزم بصدقه من قد خبر صدقه والرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وكذلك لو أخبر بغير ذلك كما أخبر عمران بن حصين أن الملائكة تسلم عليه فلم يشك الذين أخبرهم في صدقه من غير آية فمن كان يعلم صدق موسى والمسيح ومحمد وغيرهم وأنهم لا يكذبون في أخف الامور فكيف بالكذب على الله إذا أخبرهم أحدهم بما جاءه من الوحي والرسالة وما غاب من الملائكة فإنه قد يجزم بصدقه من غير آية لا سيما ان كان ما يقوله لهم مما يؤيد صدقه ولهذا لم يكن من شرط الايمان بالانبياء وجود الآيات بل قد يعلم صدقهم بدون ذلك كما قد بين في موضع آخر وتارة يحتاجون إلى العلامة وتارة يعلمون كذبه بأن يذكر عن صاحبهم ما يعلمون هم خلافه ويصفه بما علموا نقيضه وقد يظهر لهم من قصده أنه كذاب ملبس طالب أغراض له إما مال يعطونه أو ولاية يولونه أو امرأة يزوجونه بها أو غير ذلك من أغراض النفوس فيسألونه عن مقصوده فإذا عرفوا مقصوده فقد يعلمون كذبه أو صدقه ومثل هذا كثير في عادات الناس فكثيرا ما يجيء الرجل بما يزعم أنه علامة وتكون مشتركة فيقال له ما تريد فيذكر مراده فيعلمون كذبه فدلائل الصدق والكذب لا تنحصر كدلائل الحب والبغض هي كثيرة جدا وهذا يعرفه من جرب عادات الناس
فصل
فالآيات التي تكون آيات للانبياء هي دليل وبرهان والله تعالى سماها برهانا في قوله لموسى فذانك برهانان من ربك وهي العصا واليد وسماها برهانا وآيات في مواضع كثيرة من القرآن فحدها حد الدليل والبرهان وهي أن تكون مستلزمة لصدق النبي فلا يتصور أن توجد مع انتفاء صدق من أخبر أن الله أرسله فليس له إلا حالان إما أن يكون الله أرسله فيكون صادقا أو لا يكون أرسله فلا يكون صادقا فآيات الصدق لا توجد إلا مع أحد النقيضين وهو الصدق لا توجد قط مع الآخر وهو انتفاء الصدق كسائر الادلة التي هي البراهين والآيات والعلامة فإنها لا توجد إلا مع تحقق المدلول عليه لا توجد مع عدمه قط اذ كانت مستلزمة له يلزم من وجود الدليل وجود المدلول عليه فلا يوجد الدليل مع عدم المدلول عليه فلا توجد آياتهم مع عدم صدقهم فيجب أن يتصور هذا الموضع فإنه حق معلوم بعد تصوره لكل العقلاء بالضرورة فلا يمكن أحدا كذب النبي أن يأتي بمثلها فإنه لو أتى بمثلها مع تكذيب النبي لكانت قد وجدت مع قوله اني صادق ومع قول هذا المكذب إنه كاذب فلم تختص بصدقه ولم تستلزمه فلا يلزم إذا قال إني صادق أن يكون صادقا وهذا قد أتى بمثل ما أتى به وقال انه كاذب ولا يكون إعلاما من الله لعباده وإخبارا لهم بأني أرسلته ولا تصديقا له كما لو قال رجلا إن فلانا أرسلني وجاء بعلامة ذكر أنه خصه بها مثل أن يقول العلامة أنه أعطاني خاتمه فيقول المكذب وأنا أيضا أعطاني خاتمه الأخرى لاصلحها له أو لأختم بها كذا وأنت إنما أعطاك خاتمه لتصلحها أو أن تختم بها فإذا أتى المكذب له بمثل ما أتى به امتنع كونها آية ولكن لو كان قد جاء بالخاتم غيره لأمر آخر أرسله له لم يمتنع ذلك بل قد جرت عادته معهم بأنه من ارسله يرسل معه خاتمه فقد صار ارسال الخاتم عادة له يدل على صدق من أرسله فهو يميز رسله بالخاتم لا يخص بها واحدا منهم وهي عادة منه لرسله ليست لغيرهم لا عادة ولا غير عادة فهذا شأن الآيات والعلامات التي يقصد الدال بها أن يدل بها
فصل
والله تعالى سماها آيات وبراهين وهو اسم مطابق لمسماه مطرد لا ينتقض فلا تكون قط إلا آيات لهم وبراهين وأما تسميتها بخرق العادة فللناس في ذلك ثلاثة أقوال أحدها أن ذلك حد لها مطرد منعكس فكل خرق هو معجزة للنبي فهو خرق عادة والثاني أن خرق العادة شرط فيها وليس بحد لها فيجب أن تكون خارقة لعادة ولكن ليس كل خارق للعادة يكون آية لنبي كأشراط الساعة بل أن يقع على وجه مخصوص مثل دعوى النبوة والاستدلال بها والتحدي بمثلها مع عجز الناس عن معارضته والقول الثالث أن كونها خارقة للعادة ليس بحد ولا شرط قال القاضي أبو بكر في مناظرته في الكرامات ويقال لهم أيضا إن من الناس من لا يشترط في الآية المعجزة أن تكون خارقة للعادة ويقول إنما تكون آية اذا كانت من فعل الله مع التحدي بمثلها ودعوى النبوة فدلالتها على وجه لا يمكن أن يشترك في ادعائه الصادق والكاذب فإذا ظهرت على هذا الوجه كانت آية لمن فعلت على يده قال المجيبون بهذا ولهذا لم تكن أشراط الساعة آية لاحد وان خرقت العادة اذ لم يكن معها دعوى نبوة ولأن موت زيد عند قول الرسول آيتي أن يميت الله زيدا عند دعائي موته فإذا مات عند دعوته صار ذلك آية له وإن كان فعل الموت في الانسان وغيره من الحيوان معتادا قال ان قالوا لو كان كذلك لكان من قال آيتي أن تطلع الشمس وتغرب ويأتي الليل والنهار والضياء والظلام وفعل ذلك مع دعواه الرسالة كان آية له وإن لم يكن المفعول من ذلك خارقا للعادة فلما لم يكن كذلك وإن كان واقعا من فعل الله مع دعوى النبوة لكونه غير خارق للعادة بطل ما قلتموه يقال لهم قد أجبنا عن هذا حين قلنا ويكون الواقع من فعل الله مع دعوى النبوة مما لا يشترك فيه الصادق والكاذب ويستوي مع ظهوره دعوى المحق والمبطل وطلوع الشمس وغروبها ولو قال النبي آيتي أن يظلنا السحاب الساعة وتزلزل الارض وتحدث الامطار بدعوى فحدث ذلك لكان آية له وإن كان مثل ذلك قد يحدث في العصر ويشاهد فإذا قال المتنبي انني معارضه وآيتي في كوني نبيا ظهور مثل ذلك منع منه ولم يحدث قلت هذا الذي ذكروه هو أيضا خرق للعادة فإن ظهور مثل ذلك على هذا الوجه مما لم تجر به العادة وهو نفسه القاضي أبو بكر في هذا الكتاب كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر والنيرنجيات قد قال قبل هذا باب القول في معنى العادة وانخراقها والعادة التي اذا انخرقت دلت على صدق الرسل والاعتياد للأمر وتفصيل ذلك وتنزيله واعلموا رحمكم الله أن الكل من سائر الامم قد شرطوا في صفة المعجز أن يكون خارقا للعادة وإذا كان ذلك واجبا وجب معرفة هذه العادة ومعرفة انخرافها فقد حكي هنا الإجماع وهناك صرح بالاختلاف وقوى ذلك القول وسبب ذلك اضطرابهم في معنى العادة وانخراقها فان كل قوم يفهمون غير ما يفهمه الآخرون والله تعالى انما سماها آيات وهذا القول الذي ذكره وقواه وهو لا يشترط فيها أن تكون خارقة للعادة هو حقيقة قول القاضي وأمثاله من المتكلمين الأشعرية ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأمثاله فإن المعجزات عندهم لا تختص بجنس من الأجناس المقدورات بل خاصتها أن النبي يحتج بها ويتحدى بمثلها فلا يمكن معارضته فاشترطوا لها وصفين أن تكون مقترنة بدعوى النبوة وجعلوا المدلول جزءا من الدليل وأنها لا تعارض وبالاول فرقوا بينها وبين الكرامات وبه وبالثاني فرقوا بينها وبين السحر والكهانة وصرحوا بأن جميع خوارق السحرة والكهان يجوز أن تكون معجزة لنبي لكن إذا كانت معجزة لم تمكن معارضتها فلو ادعى ساحر أو كاهن النبوة لكان الله يعجزه عن تلك الخوارق التي علم أن غيره من السحرة والكهان يفعل مثلها وليس بنبي وما يأتي به الانبياء من المعجزات جوزوا أن يأتي بمثله الساحر والكاهن إلا ما منع منه السمع للإجماع على أن الساحر لا يقلب العصا حية وهذا الفرق ليس يختص به أحد النوعين ولا ضابط له وصرحوا بأنه لا يستثنى من الخوارق إلا ما انعقد عليه الإجماع وصرحوا بأن العجائب الطبيعية مثل جذب حجر المغناطيس الحديد يجوز أن يكون معجزة لكن بشرط أن لا يعارض وكذلك الطلاسم وكذلك الامور المعتادة يجوز أن تكون معجزة بشرط أن يمنع غيره منها فتكون المعجزة منع المعتاد فالخاصة عندهم فيها أنها لا تعارض وأنها تقترن بدعوى النبوة وقد يشترطون أن تكون خارقة للعادة لكن يكتفون بمنع المعارض فهو وحده خرق للعادة فلا يشترطون هذا وهذا وقد اشترط القاضي أبو بكر أن يكون مما يختص الرب بالقدرة عليه ولا حقيقة له فإن جميع الحوادث كذلك عندهم وكل ما خرج عن محل قدرة العبد فالرب عندهم مختص بفعله كخوارق السحرة والكهان وحقيقة الامر أنه لا فرق عندهم بين المعجزات والكرامات والسحر والكهانة لكن هذه إذا لم تقترن بدعوى النبوة لم تكن آية وإذا اقترنت بها كانت آية بشرط أن لا تعارض ثم انه لما أثبت النبوة قال انه يجوز على النبي فعل كل شيء من الكبائر الا أن يمنع من ذلك سمع كما قال كل ما كان معجزة للانبياء يجوز أن يأتي به الساحر إلا أن يمنع منه سمع اذ كان في نفس الامر لا فرق بين فعل وفعل بل يجوز من الرب كل شيء فيجوز أن يبعث كل أحد ولا يقيم على نبوته دليلا هذا حقيقة قولهم انه يجوز أن يبعث كل احد وإنه اذا بعثه لا يقيم دليلا على نبوته بل يلزم العباد بتصديقه بلا دليل يدلهم على صدقه فإن غاية هذا تكليف مالا يطاق وهم يجوزونه وهذا الذي قالوه باطل من وجوه متعددة قد بسطت في غير هذا الموضع منها أنهم جعلوا المدلول عليه وهو اخبارالنبي بنبوته وشهودها وثبوتها جزءا من الدليل قالوا لأنها لو كانت معجزة لجنسها لم تقع الا معجزة والخوارق التي تكون أمام الساعة ليست معجزة لأحد فعلم ان الدليل هو مجموع دعوى النبوة والخارق والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن تلك من آيات الله تعالى فالخوارق التي لا يقدر عليها العباد كلها آيات الله تعالى وهي دالة على ما تظهر دلالتها عليه تارة تكون تخويفا كما قال النبي ﷺ ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده والتخويف يتضمن الامر بطاعته والنهي عن معصيته وأشراط الساعة آيات على قربها وعلى جزاء الأعمال وهو يتضمن الامر بالطاعة والنهي عن المعصية والثاني أن يقال هي آيات على صدق الانبياء فإنهم أخبروا بها وهي آية على ما اخبروا به وعلى صدقهم وأيضا فإن عامة معجزات الرسول لم يكن يتحدى بها ويقول ائتوا بمثلها والقرآن انما تحداهم لما قالوا إنه افتراه ولم يتحدهم به ابتداء وسائر المعجزات لم يتحد بها وليس فيما نقل تحد إلا بالقرآن لكن قد علم أنهم لا يأتون بمثل آيات الانبياء فهذا لازم لها لكن ليس من شرط ذلك أن يقارن خبره وايضا فمن آيات الانبياء ما كان قبل ولادتهم وقبل إنبائهم وما يكون بعد موتهم فإن الآية دليل على صدق الخبر بأنه رسول الله وهذا الدليل لا يختص لا بمكان ولا زمان ولا يكون هذا الدليل إلا من جنس لا يقدر عليه الإنس كلهم ولا الجن فلا بد أن يكون جنسه معجزا أعجز الانس والجن وأما قولهم خاصة المعجز عدم المعارضة فهذا باطل وإن كان عدم المعارضة لازما له فإن هذا العدم لا يعلم إذ يمكن أن يعارضه من ليس هناك إذا كان مما يعلم أنه معتاد مثل خوارق السحرة والكهان فإنه وإن لم يمكن أن يعارض في هذا الموضع ففي السحرة والكهان من يفعل مثلها مع أنه ليس بنبي ودليل النبوة يمتنع ثبوته بدون النبوة وإذا قالوا الدليل هو مجموع الدعوى والدليل تبين خطأهم وان القوم لم يعرفوا دلائل النبوة ولا اقاموا دليلا على نبوة الانبياء كما لم يقيموا دليلا على وجود الرب فليس في كتبهم ما يدل على الرب تعالى ولا على رسوله مع أن هذا هو المقصود من أصول الدين وايضا فمسيلمة والعنسي لم يكن عندهما من يعارضهما وأيضا فالمعارض ان اعتبروه في المدعوين وهذا مقتضى في خرق العادة وإن العادات تختلف فلكل قوم عادة قالوا فالمعتبر خرق عادة من أرسل اليهم وعلى هذا فإذا أرسل الى بني اسرائيل ففعل مالم يقدروا عليه كان آية وإن كان ذلك مما يقدر عليه العرب ويقدر عليه السحرة والكهان وصرحوا بأن السحر الذي قال الله فيه وما يعلمان من أحد حتى يقولا انما نحن فتنة فلا تكفر يجوز أن يكون من معجزات الانبياء اذا لم يعارض وقد قال الرازي أن السمعيات لا يحتج بها لأن دلالتها مشروطة بعدم المعارض العقلي وذلك غير معلوم وكذلك يقال في معجزات هؤلاء إن خاصتها عدم المعارضة فإن اعتبروا أن أحدا من الخلق لا يعارض فهذا لا يعلم وإن اكتفوا بأن لا يعارض في ذلك المكان والزمان فكثير من الصناعات والعجائب والعلوم من هذا الباب وهم لا ينكرون هذا بل يقولون المعجز هو هذا مع دعوى النبوة وقد تبين أن الشيء في نفسه إذا لم يكن دليلا لم يصر دليلا باستدلال المستدل به بل هو في نفسه دليل وإن لم يستدل به اذ كان الدليل هو المستلزم للمدلول فدليل صدق النبي هو يدل على أنه نبي وأن الخبر بنبوته صدق وإن كان هو لا يستدل بذلك ولا يتحدى بمثلها وقد لا يخبر بنبوة نفسه ويكون له دلائل تدل على نبوته كما كانت قبل أن يولد وفي الامكنة البعيدة فتبين أن قول هؤلاء هو أنه لا يعلم ما يستدل به على نبوة الانبياء وهذا اذا انضم الى أصلهم وهو أن الرب يجوز عليه فعل كل شيء صارا شاهدين بأنه على أصلهم لا دليل على النبوة اذ كان عندهم لا فرق بين فعل من الرب وفعل وعندهم لا فرق بين جنس وجنس في اختصاصه بالانبياء به فليس في أجناس المعقولات ما يكون آية تختص بالانبياء فيستلزم نبوتهم بل ما كان لهم قد يكون عند غيرهم حتى السحرة والكهان وهم أعداؤهم وفرقوا بعدم المعارضة وهذا فرق غير معلوم وهو مجرد دعوى قالوا لو ادعى الساحر والكاهن النبوة لكان الله ينسيه الكهانة والسحر ولكان له من يعارضه لان السحر والكهانة هي معجزة عندهم وفي هذه الاقوال من الفساد عقلا وشرعا ومن المناقضة لدين الاسلام وللحق ما يطول وصفه ولا ريب أن قول من أنكر وجود هذه الخوارق أقل فسادا من هذا ولهذا يشنع عليهم ابن حزم وغيره بالشناعات العظيمة ولهذا يقيم أكابر فضلائهم مدة يطلبون الفرق بين المعجزات والسحر فلا يجدون فرقا اذ لا فرق عندهم في نفس الامر والتحقيق أن آيات الانبياء مستلزمة للنبوة ولصدق الخبر بالنبوة فلا يوجد إلا مع الشهادة للرسول بأنه رسول لا يوجد مع التكذيب بذلك ولا مع عدم ذلك البتة وليست من جنس ما يقدر عليه لا الانس ولا الجن فان ما يقدر عليه الانس والجن يفعلونه فلا يكون مختصا بالانبياء ومعنى كونها خارقة للعادة أنها لا توجد إلا للنبوة لا مرة ولا أقل ولا أكثر فالعادة هنا تثبت بمرة والقاضي أبو بكر يقول ان ما فعل مرات يسيرة لا يكون معتادا وفي كلامه في هذا الباب من الاضطراب ما يطول وصفه وهو رأس هؤلاء الذين اتبعوه كالقاضي أبي يعلى وأبي المعالي والرازي والآمدي وغيرهم وما يأتي به السحرة والكهان يمتنع أن يكون آية لنبي بل هو آية على الكفر فكيف يكون آية للنبوة وهو مقدور للشياطين وآيات الانبياء لا يقدر عليها جن ولا إنس وآيات الانبياء آيات لجنسها فحيث كانت آية لله تدل على مثل ما أخبرت به الانبياء وإن شئت قلت هي آيات لله يدل بها على صدق الانبياء تارة وعلى غير ذلك تارة وما يكون للسحرة والكهان لا يكون من آيات الانبياء بل آيات الانبياء مختصة بهم وأما كرامات الاولياء فهي أيضا من آيات الانبياء فإنها إنما تكون لمن تشهد لهم بالرسالة فهي دليل على صدق الشاهد لهم بالنبوة وأيضا فإن كرامات الاولياء معتادة من الصالحين ومعجزت الانبياء فوق ذلك فانشقاق القمر والإتيان بالقرآن وانقلاب العصا حية وخروج الدابة من صخرة لم يكن مثله للاولياء وكذلك خلق الطير من الطين ولكن آياتهم صغار وكبار كما قال تعالى فأراه الآية الكبرى فلله تعالى آية كبيرة وصغيرة وقال عن نبيه محمد لقد رأى من آيات ربه الكبرى فالآيات الكبرى مختصة بهم وأما الآيات الصغرى فقد تكون للصالحين مثل تكثير الطعام فهذا قد وجد لغير واحد من الصالحين لكن لم يوجد كما وجد للنبي ﷺ أنه أطعم الجيش من شيء يسير فقد يوجد لغيرهم من جنس ما وجد لهم لكن لا يماثلون في قدره فهم مختصون إما بجنس الآيات فلا يكون لمثلهم كالإتيان بالقرآن وانشقاق القمر وقلب العصا حية وانفلاق البحر وأن يخلق من الطين كهيئة الطير وإما بقدرها وكيفيتها كنار الخليل فإن أبا مسلم الخولاني وغيره صارت النار عليهم بردا وسلاما لكن لم تكن مثل نار ابراهيم في عظمتها كما وصفوها فهو مشارك للخليل في جنس الآية كما هو مشارك في جنس الايمان محبة الله وتوحيده ومعلوم أن الذي امتاز به الخليل من هذا لا يماثله فيه أبو مسلم وأمثاله وكذلك الطيران في الهواء فإن الجن لا تزال تحمل ناسا وتطير بهم من مكان إلى مكان كالعفريت الذي قال لسليمان أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك لكن قول الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك لا يقدر عليه العفريت ومسرى النبي ﷺ الى بيت المقدس ليريه الله من آياته الكبرى أمر اختص به بخلاف من يحمل من مكان الى مكان لا ليريه الله من آياته الكبرى أمر اختص به ولا يعرج الى السماء فهؤلاء كثيرون وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن هؤلاء حقيقة قولهم انه ليس للنبوة آية تختص بها كما أن حقيقة قولهم إن الله لا يقدر أن يأتي بآية تختص بها وإنه لو كان قادرا على ذلك لم يلزم أن يفعله بل ولم يفعله فهذان أمران متعلقان بالرب اذ هو عندهم لا يقدر أن يفعل شيئا لشيء والآية انما تكون آية اذا فعلها لتدل ولو قدر أنه قادر فهم يجوزون عليه فعل كل شيء فيمكن أنه لم يجعل على صدق النبي دليلا وأما الذي ذكرناه عنهم هنا فإنه يقتضي أنه لا دليل عندهم على نبوة النبي بل كل ما قدر دليلا فإنه يمكن وقوعه مع عدم النبوة فلا يكون دليلا فهم هناك حقيقة قولهم انا لا نعلم على النبوة دليلا وهنا حقيقة قولهم إنه لا دليل على النبوة ولهذا كان كلامهم في هذا الباب منتهاه التعطيل ولهذا عدل الغزالي وغيره عن طريقهم في الاستدلال بالمعجزات لكون المعجزات على أصلهم لا تدل على نبوة نبي وليس عندهم في نفس الامر معجزات وإنما يقولون المعجزات علم الصدق لانها في نفس الامر كذلك وهم صادقون في هذا لكن على اصلهم ليست دليلا على الصدق ولا دليل على الصدق فآيات الأنبياء تدل على صدقهم دلالة معلومة بالضرورة تارة وبالنظر أخرى وهم قد يقولون إنه يحصل العلم الضروري بأن الله صدقه بها وهي الطريقة التي سلكها أبو المعالي والرازي وغيرهما وهي طريقة صحيحة في نفسها لكن تناقض بعض أصولهم فالقدس ليس في آيات الأنبياء لكن في الأقوال الفاسدة التي تنافض ما هو معلوم بالضرورة عقلا وما هو أصل الايمان شرعا ومن عرف تناقضهم في الاستدلال يعرف أن الآفة في فساد قولهم لا في جهة صحة الدلالة فقد يظهر بلسانه ما ليس في قلبه كالمنافقين الذين يقولون في أول سورة المنافقون نشهد أنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون ولقد صدق الإمام أحمد في قوله علماء الكلام زنادقة وطريقة القرآن فيها الهدى والنور والشفاء سماها آيات وبراهين فآيات الانبياء مستلزمة لصدقهم وصدق من صدقهم وشهد لهم بالنبوة والآيات التي يبعث الله بها انبياء قد يكون مثلها لأنبياء أخر مثل إحياء الموتى فقد كان لغير واحد من الأنبياء وقد يكون إحياء الموتى على يد أتباع الانبياء كما قد وقع لطائفة من هذه الامة ومن أتباع عيسى فإن هؤلاء يقولون نحن إنما أحيى الله الموتى على أيدينا لاتباع محمد أو المسيح فبايماننا بهم وتصديقنا لهم أحيى الله الموتى على أيدينا فكان إحياء الموتى مستلزما لتصديقه عيسى ومحمدا لم يكن قط مع تكذيبهما فصار آية لنبوتهم وهو أيضا آية لنبوة موسى وغيره من أنبياء بني اسرائيل الذين أحيى الله الموتى على أيديهم وليس مدلول الآيات هو مجرد دعواه أن الله أرسلني وإخباره عن نفسه بذلك لأن ذلك معلوم بالحس لمن سمعه وبالتواتر لمن لم يسمعه بل صدقه في هذا الخبر وهو ثبوت نبوته فالآية مستلزمة لصدقه وثبوت نبوته ومن أخبر غيره عن إرسال الله له وأتى هذا المخبر بآية كانت أيضا آية على صدق هذا المخبر وثبوت نبوة النبي فان من أخبر عن نبوة نبي من الانبياء وأتى بآية على صدقه في خبره كانت تلك آية ودليلا على نبوة النبي وأن إخبار المخبر بنبوته صدق بل كون غيره هو المخبر الآتي بالعلامة أبلغ ولهذا كانت من أعظم آيات النبي إخبار غيره من الانبياء بنبوته فإن قال آخر إنه كذب وأتى بمثل تلك الآية بطلت الدلالة المعينة ولا يلزم من بطلان دليل معين بطلان سائر الأدلة فان الدليل يجب طرده ولا يجب عكسه ولو جاء من قال إن فلانا أرسلني ومعه شخص فصدقه وقال إنه أمرني أن أخبركم بأني رسوله بعلامة كيت وكيت لكان ذلك أبلغ وكل من علم صدق النبي فقد صدقه أنه أن يعلم الناس أن الله يشهد له بالنبوة ويحكم بينه وبين منازعيه بتصديقه وتكذيبهم وذلك بآياته وعلاماته يبين بها أنه مصدق للرسول وقد يصدقه بكلامه الذي قد بين أنه كلامه فكونه في نفسه آية وعلامة إذ كان لا يمكن الجن والانس أن يأتوا بمثله فهو من أعظم الآيات وبغير ذلك فالآيات كلها شهادة بالنبوة وإخبار بها وتصديق للمخبر فهي تستلزم ثبوت النبوة في نفسها وأن صاحب الآيات قد نبأه الله وأوحى اليه كما أوحي إلى غيره من الانبياء وتستلزم أيضا صدق الإخبار بأنه نبي فهو اذا قال إني نبي كان صادقا وكذلك كل من أخبر بنبوته فإنه يكون صادقا وثبوت الشيء وصدق من أخبر به متلازمان فكل حق ثابت إذا أخبر به مخبر فهو صادق وكل خبر صادق فقد تحقق مخبره فالخبر الصادق هو ومخبره متلازمان يلزم من صدق الخبر تحقق مخبره ومن تحقق الشيء صدق المخبر به بخلاف الكذب فإنه ومخبره ليسا متلازمين بل الخبر الكذب يوجد مع انتفاء مخبره والمخبر به يتحقق على صفة خلاف ما في الخبر الكاذب فلهذا كانت الآيات والعلامات والدلائل ونحو هذا كما تدل على المدلول وأنه حق ثابت فهي أيضا تدل على صدق من أخبر به كائنا من كان فمن قال اني ابن فلان وقامت بينة بنسبة فهي تثبت صدقه وصدق كل من قال هو ابن فلان وكذلك البينة التي تشهد برؤية الهلال هي تشهد بصدق كل من أخبر بطلوعه وكذلك كل دليل دل على مدلول فهو دليل على صدق كل من أخبر بذلك المدلول عليه وكذلك اذا قال الصادق ان الله أرسلني فهذا خبر منه عن ارسال الله فالآية الدالة على صدقه تدل على صدق كل من قال ان الله أرسله فالآيات الدالة على صدق محمد اذا قال ما أمره الله به في قوله قل يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا هي دالة على صدق كل من قال أشهد أن محمدا رسول الله فجميع آياته وآيات الانبياء الذين أخبروا بنبوته كموسى والمسيح وأنبياء بني اسرائيل وغيرهم كلها آيات ومعجزات تبين صدق كل واحد من المؤمنين به الذين يقول أحدهم أشهد أن محمدا رسول الله سواء قالها مجردة أو قالها في صلاته أو عقب طهارته أو متى ما قالها ليست آيات النبوة دالة على أنه وحده هو الصادق في قوله اني رسول الله اليكم جميعا بل الآيات تصدقه وتصدق كل من شهد له بالرسالة وهكذا سائر الادلة الدالة على مدلول فإنها تدل على صدق من أخبر بذلك المدلول عليه من جميع الخلق وقد عرف أن الدليل لا بد أن يكون مختصا بالمدلول عليه مستلزما له فآيات الانبياء وسائر أنواع الآيات والأدلة لا تكون مع نقيض المدلول عليه أي مع عدمه فإنها اذا كانت مع وجوده وعدمه لم تكن دالة على وجوده ولا على عدمه ولم يكن الاستدلال بها على وجوه أولى به من الاستدلال على عدمه كالامور المعتادة التي توجد مع الصادق والكاذب كطلوع الشمس وغروبها فإن هذه لا تدل على صدق أحد ولا كذبه وكذلك خوارق السحرة والكهان هي معتادة مع صدق أحدهم ومع كذبه فلا تدل على الصدق اذ كان كذبهم أكثر من صدقهم كالذين يخبرون بكلمة صدق وعشر كذب قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فكيف إذا كان مع الصدق مائة كذبة كما قال النبي ﷺ لما سئل عن الكهان كما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت سأل ناس رسول الله ﷺ عن الكهان فقال لهم رسول الله ﷺ ليسوا بشيء قالوا يا رسول الله فانهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا فقال رسول الله ﷺ تلك الكلمة من الحق يحفظها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة فيلزم من هذا أن آيات الانبياء لا يكون مثلها لمن يكذبهم وهو الذي يخبر بكذبهم والناس فيهم رجلان إما مصدق وإما مكذب فالمكذب لهم يمتنع أن يأتي بمثل آياتهم ومتى كذب مكذب لمدعي النبوة وأتى بمثل آيته سواء دل على أن تلك ليست من آيات الانبياء ولا تدل على صدق النبي لكن لا يلزم أن تدل على كذبه فإن الدليل المعين إذا بطل لا يستلزم انتفاء المدلول عليه فقد تكون له آيات أخر تدل على نبوته وصدق الصادق وكذب الكاذب يعرف بوجوه كثيرة جدا وكذلك النبوة لها آثار مستلزمة لها بدون إخبار النبي بانه نبي وكذب المتنبي الذي يزين له الشيطان أن يقول إنه نبي له آثار تستلزم انتفاء النبوة وأنه كاذب إما عمدا وإما أن الشيطان قد لبس عليه فإن الخبر عند كثير من الناس ينقسم الى صدق وكذب فالمطابق هو الصدق والمخالف هو الكذب وأثبت بعضهم واسطة بين الصدق والكذب وهو مالم يتعمده الانسان قال فهذا ليس بصدق لأنه غير مطابق وليس بكذب لأن صاحبه لم يتعمد الكذب بل أخطأ ولس كل من أخطأ يقال انه كاذب كالناسي في الصلاة إذا قال صليت أربعا ولم يصل إلا ثلاثا كما قال النبي ﷺ لما قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت فقال لم أنس ولم تقصر فقال بلى قد نسيت فقال أكما يقول ذو اليدين قالوا نعم والذي يدل عليه القرآن أن كل من تكلم بلا علم فأخطأ فهو كاذب كالذين حرموا وحللوا وأوجبوا وان كان الشيطان قد زين لهم ذلك وأوهمهم أنه حق ولهذا قال قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم وهي تتنزل على من يظن أنه يصدقها قال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون وقال تعالى وقال الشيطان لما قضى الامر ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وكذلك الذي تدل عليه الشرع أن كل من أخبر بخبر ليس له أن يخبر به وهو غير مطابق فإنه يسمى كاذبا وإن كان لم يتعمد الكذب كقول النبي ﷺ لما قيل له ان أبا السنابل قال ما أنت بناكحة حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر فقال كذب من قالها إن له لأجرين أنه جاهد مجاهد ولما قال سعد بن عبادة في يوم الفتح اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة وحكاه أبو سفيان لرسول الله ﷺ قال كذب سعد ولكن هذا يوم تعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة وكذلك قال عبادة بن الصامت لما قيل له إن أبا محمد يقول الوتر واجب فقال كذب أبو محمد وكذلك ابن عباس لما قيل له إن نوفا يقول إن موسى بني اسرائيل ليس هو موسى الخضر فقال كذب نوف وأيضا من أخبر الناس خبرا طلب أن يصدقوه فيه وقد نهوا عن تصديقه الا ببينة فإنه أيضا كاذب كما قال تعالى في القرآن لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون وقال في القاذفين فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فان الله غفور رحيم وكذلك أن القاذف وإن كان قد رأى الفاحشة بعينه لكنه إذا أخبر بها الناس فهو يطلب منهم أن يصدقوه بمجرد خبره وليس لهم ذلك بل ليس لهم أن يصدقوه حتى يأتي بأربعة شهداء وهو لا يخبر الناس ليكذبوه بل يخبرهم ليعتقدوا ثبوت ما أخبرهم به ويعتقدوا أن المقذوف قد فعل الفاحشة وهم ليس لهم أن يقولوا ذلك إلا بأربعة شهداء فإذا لم يأت بأربعة شهداء فهو عند الله كاذب لأنه أخبر الناس بأن هذا فعل الفاحشة وقال خبرا طلب به تصديقهم وأن يظهر أن هذا فعلها فحقيقية خبره أن هذا فعل فاحشة ظاهرة يرتب عليها هذا بل ان كان فعل شيئا فقد فعله سرا لم يعلم به الناس وقد علم أن الذنب إذا كتم لم يضر الا صاحبه ولكن إذا أعلن فلم ينكر ضر الناس وهذا لم يعلنه وأكثر المسلمين إذا فعل أحدهم فاحشة باطنة تاب منها ومن إعلانها يتشبه الناس بعضهم ببعض في ذلك فلهذا نهى الله عن فعلها وعن التكلم بها صدقا وغير صدق فإنها اذا فعلت وكتمت خف أمرها وإذا أظهرت كان فيها مفاسد كثيرة قال النبي ﷺ من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإن من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله وقال كل أمتي معافى الا المجاهدين وإن من المهاجدة ان يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يقول يا فلان فعلت البارحة كذا وكذا فقد نهى الله تعالى صاحبها أن يظهرها ويعلنها فكيف القاذف بخلاف ما اذا أقر بها عند ولي أمر ليقيم عليه الحد أو يشهد بها نصاب تام لإقامة الحد فذاك فيه منفعة وصلاح وقد يخبر بها بعض الناس سرا لمن يعلمه كيف يتوب ويستفتيه ويستشيره فيما يفعل فعلى ذلك المفتى والمشير أن يكتم عليه ذلك ولا يشيع الفاحشة وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن الناس في من قال اني رسول قسمان إما مصدق وإما غير مصدق فمن ليس بمصدق لا يمكنه أن يأتي بمثل آيات الانبياء سواء قال انه كاذب أو توقف في التصديق والتكذيب وكذلك المؤمنون أتباع الانبياء اذا أتوا بآية كانت دليلا على نبوة النبي الذي اتبعوه فلا يمكن من لا يصدق النبي أن يعارضهم ومتى عارضهم لم تكن من آيات الانبياء ولهذا كان أبو مسلم لما قال له الاسود العنسي أتشهد أني رسول الله قال ما أسمع قال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم فألقاه في النار فصارت عليه بردا وسلاما فكرامات الصالحين هي مستلزمة لصدقهم في قولهم ان محمد رسول ولثبوت نبوته فهي من جملة آيات الانبياء وآياتهم وما خصهم الله به لا يكون لغير الانبياء واذا قال القائل معجزات الانبياء وآياتهم وما خصهم الله به فهذا كلام مجمل فانه لا ريب أن الله خص الانبياء بخصائص لا توجد لغيرهم ولا ريب ان من آياتهم ما لا يقدر ان يأتي به غير الانبياء بل النبي الواحد له آيات لم يأت بها غيره من الانبياء كالعصا واليد لموسى وفرق البحر فإن هذا لم يكن لغير موسى وكانشقاق القمر والقرآن وتفجير الماء من بين الأصابع وغير ذلك من الآيات التي لم تكن لغير محمد من الانبياء وكالناقة التي لصالح فإن تلك الآية لم يكن مثلها لغيره وهو خروج ناقة من الارض بخلاف احياء الموتى فانه اشترك فيه كثير من الانبياء بل ومن الصالحين وملك سليمان لم يكن لغيره كما قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فطاعة الجن والطير وتسخير الريح تحمله من مكان الى مكان له ولمن معه لم يكن مثل هذه الآية لغير سليمان وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال ما من نبي من الانبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة وهو من حين أتى بالقرآن وهو بمكة يقرأ على الناس قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا فقد ظهر أن من آيات الانبياء ما يختص به النبي ومنها ما يأتي به عدد من الانبياء ومنها ما يشترك فيه الانبياء كلهم ويختصون به وهو الاخبار عن الله بغيبه الذي لا يعلمه الا الله قال عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم ان قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا لكن ما يظهر على المؤمنين بهم من الآيات بسبب الايمان بهم فيه قولان قال طائفة ليس ذلك من آياتهم وهذا قول من يقول من شرط المعجزة أن تقارن دعوى النبوة لا تقدم عليها ولا تتأخر عنها كما قاله هؤلاء الذين يجعلون خاصة المعجزة التحدي بالمثل وعدم المعارضة ولا تكون إلا مع الدعوى كما تقدم وهو قول قد عرف فساده من وجوه والقول الثاني وهو القول الصحيح أن آيات الأولياء هي من جملة آيات الانبياء فإنها مستلزمة لنبوتهم ولصدق الخبر بنبوتهم فإنه لولا ذلك لما كان هؤلاء أولياء ولم تكن لهم كرامات لكن يحتاج أن يفرق بين كرامات الأولياء وبين خوارق السحرة والكهان وما يكون للكفار والفساق وأهل الضلال والغي بإعانة الشياطين لهم كما يفرق بين ذلك وبين آيات الانبياء والفروق بين ذلك كثيرة كما قد بسط في غير هذا الموضع
فصل
فقد تبين أن من آيات الانبياء ما يظهر مثله على اتباعهم ويكون ما يظهر على أتباعهم من آياتهم فان ذلك مختص بمن يشهد بنبوتهم فهو مستلزم له لا تكون تلك الآيات الا لمن أخبر بنبوتهم وإذا لم يخبر بنبوتهم لم تكن له تلك الآيات وهذا حد الدليل وهو أن يكون مستلزما للمدلول عليه فإذا عدم المدلول عليه عدم الدليل ولهذا من السلف من يأتي بالآيات دلالة على صحة الاسلام وصدق الرسول كما ذكر أن خالد بن الوليد شرب السم لما طلب منه آية ولم يضره
فصل
في معنى خرق العادة وأن الاعتبار أن تكون خارقة لعادة غير الانبياء مطلقا بحيث تختص بالانبياء فلا توجد الا مع الإخبار بنبوتهم وأما إخبار الكهان ببعض الامور الغائبة لإخبار الشياطين لهم بذلك وسحر السحرة بحيث يموت الانسان من السحر أو يمرض ويمنع من النكاح ونحو ذلك مما هو باعانة الشياطين فهذا أمر موجود في العالم كثير معتاد يعرفه الناس ليس هذا من خرق العادة بل هو من العجائب الغريبة التي يختص بها بعض الناس كما يختص قوم بخفة اليد والشعبذة وقوم بالسباحة الغريبة حتى يضطجع أحدهم على الماء وكما يختص قوم بالقيافة حتى يباينوا بها غيرهم وكما يختص قوم بالعيافة ونحو ذلك مما هو موجود ولهذا كان مكذبو الرسل يجعلون آياتهم من جنس السحر وهذا مستقر في نفوسهم أن الساحر ليس برسول ولا نبي كما في قصة موسى لما قالوا ان هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحرة فماذا تأمرون قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون وهذا لحيرتهم وضلالتهم تارة ينسبون إلى الجنون وعدم العقل وتارة الى الحذق والخبرة التي ينال بها السحر فان السحر لا يقدر عليه ولا يحسنه كل أحد لكن العجائب والخوارق المقدورة للناس منها ما سببه من الناس بحذقهم في ذلك الفن كما يحذق الرجل في صناعة من الصناعات وكما يحذق الشاعر والخطيب والعالم في شعره وخطابته وعلمه وكما يحذق بعض الناس في رمي النشاب وحمل الرمح وركوب الخيل فهذه كلها قد يأتي الشخص منها بما لا يقدر عليه أهل البلد بل أهل الاقليم لكنها مع ذلك مقدورة مكتسبة معتاده بدون النبوة قد فعل مثلها ناس آخرون قبلهم أو في مكان آخر فليست هي خارقة لعادة غير الانبياء مطلقا بل توجد معتادة لطائفة من الناس وهم لا يقولون انهم أنبياء ولا يخبر أحد عنهم بأنهم أنبياء ومن هنا دخل الغلط على كثير من الناس فإنهم لما رأوا آيات الانبياء خارقة للعادة لم يعتد الناس مثلها اخذوا مسمى خرق العادة ولم يميزوا بين ما يختص به الانبياء ومن أخبر بنبوتهم وبين ما يوجد معتادا لغيرهم واضطربوا في مسمى هذا الاسم كما اضطربوا في مسمى المعجزات ولهذا لم يسمها الله في كتابه إلا آيات وبراهين فإن ذلك اسم يدل على مقصودها ويختص بها لا يقع على غيرها لم يسمها معجزة ولا خرق عادة وان كان ذلك من بعض صفاتها فهي لا تكون آية وبرهانا حتى تكون قد خرقت العادة وعجز الناس عن الإتيان بمثلها لكن هذا بعض صفاتها وشرط فيها وهو من لوازمها لكن شرط الشيء ولازمه قد يكون أعم منه وهؤلاء جعلوا مسمى المعجزة وخرق العادة هو الحد المطابق لها طردا وعسكا كما أن بعض الناس يجعل اسمها أنها عجائب وآيات الانبياء اذا وصفت بذلك فينبغي أن تقيد بما يختص بها فيقال العجائب التي أتت بها الانبياء وخوارق العادات والمعجزات التي ظهرت على أيديهم أو التي لا يقدر عليها البشر أو لا يقدر عليها الانس والجن أو لا يقدر عليها الا الله بمعنى أنه لا يقدر عليها أحد بحيلة واكتساب كما يقدرون على السحر والكهانة فبذلك تتميز آياتهم عما ليس من آياتهم وإلا فلفظ العجائب قد يدخل فيه بعض الناس الشعبذة ونحوها والتعجب في اللغة يكون من أمر خرج عن نظائره وما خرج عن نظائره فقد خرق تلك العادة المعينة في نظائره فهو أيضا خارق للعادة وهذا شرط في آيات الانبياء أن لا يكون لها نظير لغير الانبياء ومن يصدقهم فإذا وجد نظيرها من كل وجه لغير الانبياء ومن شهد لهم بالنبوة لم تكن تلك من آياتهم بل كانت مشتركة بين من يخبر بنبوتهم ومن لا يخبر بنبوتهم كما يشترك هؤلاء وهؤلاء في الطب والصناعات وأما السحر والكهانة فهو من إعانة الشياطين لبني آدم فإن الكاهن يخبره الجن وكذلك الساحر انما يقتل ويمرض ويصعد في الهواء ونحو ذلك باعانة الشياطين له فأمورهم خارجة عما اعتاده الانس باعانة الشياطين لهم قال تعالى ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أوليائهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله فالجن والانس قد استمتع بعضهم ببعض فاستخدم هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء في أمور كثيرة كل منهم فعل للآخر ما هو غرضه ليعينه على غرضه والسحر والكهانة من هذا الباب وكذلك ما يوجد لعباد الكفار من المشركين وأهل الكتاب ولعباد المنافقين والملحدين من المظهرين للاسلام والمبتدعين منهم كلها باعانة الجن والشياطين لكن الشياطين تظهر عند كل قوم بما لا ينكرونه فإذا كان القوم كفارا لا ينكرون السحر والكهانة كما كانت العرب وكالهند والترك المشركين ظهروا بهذا الوصف لأن هذا معظم عند تلك الأمة وإن كان هذا مذموما عند أولئك كما قد ظهر ذم هؤلاء عند أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى أظهرته الشياطين فيمن يظهر العبادة ولا يكون مخلصا لله في عبادته متبعا للانبياء بل يكون فيه شرك ونفاق وبدعة فتظهر له هذه الامور التي ظهرت للكهان والسحرة حتى يظن أولئك أن هذه من كرامات الصالحين وأن ما هو عليه هذا الشخص من العبادة هو طريق أولياء الله وإن كان مخالفا لطريق الانبياء حتى يعتقد من يعتقد أن لله طريقا يسلكها اليه أولياؤه غير الايمان بالانبياء وتصديقهم وقد يعتقد بعض هؤلاء أن في هؤلاء من هو أفضل من الانبياء وحقيقة الامر أن هؤلاء عارضوا الانبياء كما كانت تعارضهم السحرة والكهان كما عارضت السحرة لموسى وكما كان كثير من المنافقين يتحاكمون إلى بعض الكهان دون النبي ﷺ ويجعلونه نظير النبي وكان في العرب عدة من هؤلاء وكان بالمدينة منهم أبو برزة الاسلمي قبل أن يسلم كان كاهنا وقد قيل ان الذي أنزل الله تعالى فيه الم تر الى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وقد ذكر قصته غير واحد من المفسرين ولما كان الذين يعارضون آيات الانبياء من السحرة والكهان لا يأتون بمثل آياتهم بل يكون بينهما شبه كشبه الشعر بالقرآن ولهذا قالوا في النبي إنه ساحر وكاهن وشاعر مجنون قال تعالى انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا فجعلوا له مثلا لا يماثله بل بينهما شبه مع وجود الفارق المبين وهذا هو القياس الفاسد فلما كان الشعر كلاما له فواصل ومقاطع والقرآن آيات له فواصل ومقاطع قالوا شاعر ولكن شتان وكذلك الكاهن يخبر ببعض المغيبات ولكن يكذب كثيرا وهو يخبر بذلك عن الشياطين وعليه من آثارهم ما يدل على أنه أفاك أثيم كما قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ثم قال والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون فذكر سبحانه الفرق بين النبي وبين الكاهن والشاعر وكذلك الساحر لما كان يتصرف في العقول والنفوس بما يغيرها وكان من سمع القرآن وكلام الرسول خضع له عقله ولبه وانقادت له نفسه وقلبه صاروا يقولون ساحر وشتان وكذلك مجنون لما كان المجنون يخالف عادات الكفار وغيرهم لكن بما فيه فساد لا صلاح والانبياء جاءوا بما يخالف عادات الكفار لكن بما فيه صلاح لا فساد قالوا مجنون قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتارة يصفونه بغاية الحذر والخبرة والمعرفة فيقولون ساحر وتارة بغاية الجهل والغباوة والحمق فيقولون مجنون وقد ضلوا في هذا وهذا كما قال تعالى انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا فهم بمنزلة السائر في الطريق وقد ضل عنها يأخذ يمينا وشمالا ولا يهتدي الى السبيل التي تسلك والسبيل التي يجب سلوكها قول الصدق والعمل بالعدل. والكهانة والسحر يناقض النبوة فإن هؤلاء تعينهم الشياطين تخبرهم وتعاونهم بتصرفات خارقة ومقصودهم الكفر والفسوق والعصيان والانبياء تعينهم الملائكة هم الذين يأتونهم فيخبرونهم بالغيب ويعاونونهم بتصرفات خارقة كما كانت الملائكة تعين النبي ﷺ في مغازية مثل يوم بدر أمده الله بألف من الملائكة ويوم حنين قال ويوم حنين اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم وقال تعالى ان لا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وقال تعالى اذ يوحي ربك الى الملائكة إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب وقد بين سبحانه أن الذي جاء بالقرآن ملك كريم ليس بشيطان فقال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون ولما كانت الانبياء مؤيدة بالملائكة والسحرة والكهان تقترن بهم الشياطين كان من الفروق التي بينهم الفروق التي بين الملائكة والشياطين والمتفلسفة الذين لم يعرفوا الملائكة والجن كابن سينا وأمثاله ظنوا أن هذه الخوارق من قوى النفس قالوا والفرق بين النبي والساحر أن النبي يأمر بالخير والساحر يأمر بالشر وجعلوا ما يحصل للممرور من هذا الجنس اذ لم يعرفوا صرع الجن للانسان وإن الجني يتكلم على لسان الانسان كما قد عرف ذلك الخاصة والعامة وعرفه علماء الأمة وأئمتها كما قد بسط في غير هذا الموضع والجهمية المجبرة الذين قالوا ان الله قد يفعل كل ممكن مقدور لا ينزهونه عن فعل شيء ويقولون انه يفعل بلا سبب ولا حكمة وهو الخالق بجميع الحوادث لم يفرقوا بين ما تأتي به الملائكة ولا ما تأتي به الشياطين بل الجميع يضيفونه الى الله على حد واحد ليس في ذلك حسن ولا قبيح عندهم حتى يأتي الرسول فقبل ثبوت الرسالة لا يميزون بين شيء من الخير والشر والحسن والقبيح فلهذا لم يفرقوا بين آيات الانبياء وخوارق السحرة والكهان بل قالوا ما يأتي به السحرة والكهان يجوز أن يكون من آيات الانبياء وما ياتي به الانبياء يجوز أن يظهر على أيدي السحرة والكهان لكن ان دل على انتفاء ذلك نص أو إجماع نفوه مع أنه جائز عندهم أن يفعله الله لكن بالخبر علموا أنه لم يفعله فهؤلاء لما رأوا ما جاءت به الانبياء وعلموا أن آياتهم تدل على صدقهم وعلموا ذلك اما بضرورة وإما بنظر واحتاجوا الى بيان دلائل النبوة على أصلهم كان غاية ما قالوا أنه كل شيء يمكن أن يكون آية للنبي بشرط أن يقترن بدعواه وبشرط أن يتحدى بالاتيان بالمثل فلا يعارض ومعنى التحدي بالمثل أن يقول لمن دعاهم ائتوا بمثله وزعموا أنه اذا كان هناك سحرة وكهان وكانت معجزته من جنس ما يظهر على أيديهم من السحر والكهانة فإن الله لا بد أن يمنعهم عن مثل ما كانوا يفعلونه وأن من ادعى منهم النبوة فانه يمنعه من تلك الخوارق أو يقيض له من يعارضه بمثلها فهذا غاية تحقيقهم وفيه من الفساد ما يطول وصفه وطاعة الجن والشياطين لسليمان صلوات الله عليه لم تكن من جنس معاونتهم للسحرة والكهان والكفار وأهل الضلال والغي ولم تكن الآية والمعجزة والكرامة التي أكرمه الله بها هي ما كانوا يعتادونه مع الانس فإن ذلك انما كان يكون في أمور معتادة مثل اخبارهم أحيانا ببعض الغائبات ومثل إمراضهم وقتلهم لبعض الانس كما أن الانسي قد يمرض ويقتل غيره ثم هم انما يعاونون الانس على الإثم والعدوان إذا كانت الاناسي من أهل الإثم والعدوان يفعلون ما تهواه الشياطين فتفعل الشياطين بعض ما يهوونه قال تعالى ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أوليائهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وأما التسخير الذي سخروه لسليمان فلم يكن لغيره من الانبياء فضلا عمن ليس بنبي وقد سأل ربه ملكا لا ينبغي لاحد من بعده فقال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب قال تعالى فسخروا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الاصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وقال تعالى ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره على الارض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا له حافظين وقال تعالى ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلناله عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل دواد شكرا وقليل من عبادي الشكور فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين وكذلك ما ذكره من قول العفريت له أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك فهذه الطاعة من التسخبر بغير اختيارهم في مثل هذه الاعمال الظاهرة العظيمة ليس مما فعلته بأحد من الانس وكان ذلك بغير أن يفعل شيئا مما يهوونه من العزائم والاقسام والطلاسم الشركية كما يزعم الكفار أن سليمان سخرهم بهذا فنزهه الله عن ذلك بقوله واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وأما طاعة الجن لنبينا وغيره من الرسل كموسى فهذا نوع آخر فان هذا طاعتهم فيما أمرهم الله به من عبادته وطاعته كطاعة الانس لنبينا حيث أرسل الى الطائفتين فدعاهم الى عبادة الله وحده وطاعته ونهاهم عن معصيته التي بها يستحقون العذاب في الآخرة وكذلك الرسل دعوهم إلى ذلك وسليمان منهم لكن هذا انما ينتفع به منهم من آمن طوعا ومن لم يؤمن فإنه يكون بحسب شريعة ذلك الرسول هل يترك حتى يكون الله هو الذي ينتقم منه أو يجاهد وسليمان كان على شريعة التوراة واستخدامه لمن لم يؤمن منهم هو مثل استخدام الاسير الكافر فحال نبينا مع الجن والانس أكمل من حال سليمان وغيره فإن طاعتهم لسليمان كانت طاعة ملكية فيما يشاء وأما طاعتهم لمحمد فطاعة نبوة ورسالة فيما يأمرهم به من عبادة الله وطاعة الله واجتناب معصية الله فان سليمان كان نبيا ملكا ومحمد ﷺ كان عبدا رسولا مثل ابراهيم وموسى وسليمان مثل داود ويوسف وغيرهما مع أن داود وسليمان ويوسف هم رسل أيضا دعوا إلى توحيد الله وعبادته كما أخبر الله أن يوسف دعا أهل مصر لكن بغير معاداة لمن لم يؤمن ولا إظهار مناوأة بالذم والعيب والطعن لما هم عليه كما كان نبينا أول ما انزل عليه الوحي وكانت قريش اذ ذاك تقره ولا تنكر عليه إلى أن أظهر عيب آلهتهم ودينهم وعيب ما كانت عليه آباؤهم وسفه أحلامهم فهنالك عادوه وآذوه وكان ذلك جهادا باللسان قبل أن يؤمر بجهاد اليد قال تعالى ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا وكذلك موسى مع فرعون أمره أن يؤمن بالله وأن يرسل معه بني إسرائيل وان كره ذلك وجاهد فرعون بالزامه بذلك بالآيات التي كان الله يعاقبهم بها إلى أن أهلكه الله وقومه على يديه