انتقل إلى المحتوى

النبوات/10

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


ولهذا نجد حذاقهم في السمعيات انما يفرون الى ما علم بالاضطرار من قصد الرسول لا الى الاستدلال بالقرآن فالقاضي أبو بكر عمدته أن يقول هذا مما وقفنا عليه الرسول وعلمنا قصده بالاضطرار كما يقول مثل ذلك في تخليد أهل النار وفيما علمه من الاحكام اذ كانوا لا يعتمدون على القول المسموع لا خبرا ولا أمرا فهم لا طريق عندهم الى التمييز بين ما يقع وما لا يقع مثل التمييز بين كونه يثيب المحسن ويعاقب المسيء أو لا يفعله ففي الجملة جميع أفعاله من ارسال الانبياء ومجازاة العباد وقيام القيامة لا طريق لهم الى العلم بذلك الا من جهة الخبر وطريق الخبر على أصلهم مسدود وهم يعلمون صدق الرسول وصدق خبره معلوم في أنفسهم لكن يناقض أصولهم لكن مع هذا هم واقفة فيما أخبرت به الرسل من الوعيد فضعف علمهم بما أخبرت به الرسل فصاروا في نقص عظيم في علمهم وايمانهم بما اخبرت به الرسل وما أمرت به وفي أصل ثبوت الرسالة هذه السمعيات وأما العقليات فمدارها على حدوث الجسم وقد عرف فساد أصلهم فيها فهذه أصولهم العقلية والسمعية وهم لا يعلمون أيضا ما يفعله الرب من غير الخبر الا من جهة العادة والعادة يجوز عندهم نقضها بلا سبب ولا لحكمة ويجوزون أن تصبح الجبال بواقيت والبحار زيبقا فإذا احتجوا بالعادات فقيل لهم عندكم يجوز نقضها بلا سبب ولا حكمة أجابوا بأن الشيء قد يعلم جوازه ويعلم بالضرورة أنه لا يقع وهذا أيضا جمع بين النقيضين وهم يقولون العقل هو العلم بجواز الجائزات وامتناع الممتنعات ووجوب الواجبات كالعلم بأن الجبل لم ينقلب ياقوتا ثم يجعلون هذا من الجائز على أصلهم ليس في الأفعال لا واجب ولا ممتنع بل كل مقدور فإنه جائز الوجود وجائز العدم لا يعلم أحد الطرفين الا بخبر أو عادة لا بسبب يقتضيه ولا حكمة تستلزمه كما ان المرجح له عندهم مجرد الارادة لا بسبب ولا حكمة وإذا علم جواز الشيء وعدمه ولم يعلم ما يوجب أحدهما أمتنع أن يعلم بالضرورة ثبوت أحدهما والناس إنما يعلمون أن الجبال لم تنقلب بواقيت لعلمهم بأن هذا ممتنع وأن الله اذا أراد قلبها بواقيت أحدث أسبابا تقتضي ذلك فأما انقلاب العادة بلا سبب فهذا ممتنع عند العقلاء وجميع ما خرق الله به العادة كان لاسباب تقتضيه ولحكم فعل لاجلها لم يكن ترجيحا بلا مرجح كما يقوله هؤلاء فهذا هذا ولا حول ولا قوة الا بالله ولو لم يتعلق هذا بالايمان بالرسول وبما أخبر به الرسول واحتجنا الى ان نميز بين الصحيح والفاسد في الادلة والاصول لما ورد على ما قاله هؤلاء من هذه السؤالات لم تكن بنا حاجة الى كشف الاسرار لكن لما تكلموا في اثبات النبوة صاروا يوردون عليها أسئلة في غاية القوة والظهور ولا يجيبون عنها الا بأجوبة ضعيفة كما ذكرنا كلامهم فصار طالب العلم والإيمان والهدي من عندهم لا سيما إذا اعتقد أنهم أنصار الاسلام ونظاره والقائمون ببراهينه وأدلته إذا عرف حقيقة ما عندهم لم يجد ما ذكروه يدل على ثبوت نبوة الانبياء بل وجده يقدح في الانبياء ويورث الشك فيها أو الطعن فيها وأنها حجة لمكذب الانبياء أعظم مما هي حجة لمصدق الانبياء فافسد طريق الايمان والعلم وانفتح طريق النفاق والجهل لا سيما على من لم يعرف الا ما قالوه والذي يفهم ما قالوه لا يكون إلا فاضلا قد قطع درجة الفقهاء ودرجة من قلد المتكلمين فيصير هؤلاء إما منافقين وإما في قلوبهم مرض ويظن الظان أنه ليس في الامر على نبوة الانبياء براهين قطعية ولا يعلم أن هذا انما هو لجهل هؤلاء أصولهم الفاسدة التي بنوا عليها الاستدلال وقدحهم في الآلهية وأنهم لم ينزهوا الرب عن فعل شيء من الشر ولا أثبتوا له حكمة ولا عدلا فكان ما جهلوه من آيات الانبياء إذ كان العلم بآيات الله وما قصه لخلقه من الدلائل والبراهين مستلزما لثبوت علمه وحكمته ورحمته وعدله فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وهم في الاصل انما قصدوا الرد على القدرية الذين قالوا إن الله لم يشأ كل شيء ولم يخلق أفعال العباد وهو مقصود صحيح لكن ظنوا أن هذا لا يتم إلا بجحد حكمته وعدله ورحمته فغلطوا في ذلك كما أن المعتزلة أيضا غلطوا من جهات كثيرة وظنوا أنه لا تثبت حكمته وعدله ورحمته إن لم يجحد خلقه لكل شيء وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ويجحد اتصافه بالكلام والارادة وغير ذلك من اقوال المعتزلة التي هي من أقوال هؤلاء فإن هؤلاء في الصفات خير من المعتزلة وفي الافعال من بعض الوجوه ولهذا لما ظهر للغزالي ونحوه ضعف طريق الاستدلال بالمعجزات الذي سلكه شيوخه وهو لا يعرف غيره أعرض عنها وذكر أنه إنما علم ثبوت النبوة بقرائن تعجز عنها العبارة وهي علوم ضرورية حصلت له على الطول وجعل الدليل على النبوة هو العلم بنأ ما جاء به حق من غير جهته وهذه طريق صحيحة قد سلك الجاحظ نحوا منها ولكن النبوة التي علمها أبو حامد هي النبوة التي تثبتها الفلاسفة وهي من جنس المنامات ولهذا استدل على جوازها بمبدأ الطب والهندسة ونحو ذلك وأمر النبوة أعظم من هذا بكثير وتلك النبوة موجودة لخلق من الناس فلهذا لا يوجد للنبوة ما تستحقه من التصديق والاحترام ولا يعتمدون عليها في استفادة شيء من العلم الخبري وهي الإنباء بالغيب وهي خاصة النبوة والرازي كلامه في النبوة متردد بين نبوة الفلاسفة ونبوة اصحابه هؤلاء كما ترى وليس في واحد من الطريقين إثبات النبوة التي خص الله بها أنبياءه فلهذا ضعفت معرفة هؤلاء بالأنبياء وضعف أخذ العلم من طريقهم لا سيما وقد عارضوا كثيرا مما جاء عنهم بالعقليات ودخلوا فيما هو أبعد عن الهدى والعلم من العقليات والذوقيات التي من سلكها ضل ضلالا بعيدا وإنما ينجو من سلك منها شيئا إذا لطف الله فعرفه السلوك خلف طريق الانبياء فمن لم يهتد بما جاءت به الانبياء فهو أبعد الناس عن الهدى تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل افاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزؤا أولئك لهم عذاب مهين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون وكيف تكفرون وأنتم تتلى عيكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي الى صراط مستقيم ولهذا اعترف الرازي بهذا في آخر مصنفاته حيث قال ولقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الاثبات اليه يصعد الكلم الطيب الرحمن على العرش استوى وأقرأ في النفي ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وأكثر الانتفاع بكلام هؤلاء هو فيما يثبتونه من فساد أقوال سائر الطوائف وتناقضها وكذلك كلام عامة طوائف المتكلمين ينتفع بكلام كل طائفة في بيان فساد قول الطائفة الاخرى لا في معرفة ما جاء به الرسول فليس في طوائف أهل الاهواء والبدع من يعرف حقيقة ما جاء به الرسول ولكن يعرف كل طائفة منه ما يعرفه فليسوا كفارا جاحدين له وليسوا عارفين به

فلقد عرفت وما عرفت حقيقة ... ولقد جهلت وما جهلت خمولا

وبسط هذه الامور له موضع آخر ولكن نبهنا هنا على طريق الحكمة

فصل

وإذا عرفت حكمة الرب وعدله تبين أنه إنما يرسل من اصطفاه لرسالته واختاره لها كما قال الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وكما قال لموسى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى وأنه إذا أبلغ الرسالة وقام بالواجب وصبر على تكذيب المكذبين وأذاهم كما مضت به سنته في الرسل قال كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون وقال تعالى ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم وقال تعالى ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم الا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا ايديهم في أفواهم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا اليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم الى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا باذن الله وعلى الله فليتوك المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الارض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ الى سائر ما أخبر به من أحوال الرسل والرسل صادقون مصدقون من عند الله يخبرون بالحق ويأمرون بالعدل ويدعون الى عبادة الله وحده لا شريك له وأهل الكذب المدعون للنبوة ضد هؤلاء كاذبون يأتيهم الشياطين الكاذبون يأمرون بما نهى الله عنه وينهون عما أمر الله به فإنهم لا بد أن يأمروا بتصديقهم واعتقاد نبوتهم وطاعتهم وذلك مما نهى الله عنه ولا بد أن ينهوا عن متابعة من يكذبهم ويعاديهم وذلك مما أمر الله به فإنه يمتنع في حكمة الرب وعدله أن يسوي بين هؤلاء خيار الخلق وبين هؤلاء شرار الخلق لا في سلطان العلم وبراهينه وأدلته ولا في سلطان النصر والتأييد بل يجب في حكمته أن يظهر الآيات والبراهين الدالة على صدق هؤلاء وينصرهم ويؤيدهم ويعزهم ويبقى لهم سلطان الصدق ويفعل ذلك بمن اتبعهم وان يظهر الآيات المبينة لكذب أولئك ويذلهم ويخزيهم ويفعل ذلك بمن اتبعهم كما قد وقع في هؤلاء وهؤلاء وقد دل القرآن على الاستدلال بهذا في غير موضع والادلة والبراهين كما تقدم نوعان نوع يدل بمجرده بحيث يمتنع وجوده غير دال كدلالة حدوث الحادث على محدث فهذا يدل بمجرده وان قدر أن أحدا لم يقصد الدلالة به لكن الرب بكل شيء عليم وهو مريد لخلق ما خلقه ولصفاته لكن لا يشترط في الاستدلال بهذا أن يعلم أن دالا قصد أن يدل به والنوع الثاني ما هو دليل بقصد الدال وجعله فهذا لولا القصد وجعله دليلا لم يكن دليلا فهو انما قصد به الدلالة فهذا مقصوده مجرد الدلالة وذلك بمجرده هو الدليل وهذا كالكلام الذي يدل بقصد المتكلم وغير ذلك مثل الاشارة بالرأس والعين والحاجب واليد ومثل الكتابة ومثل العقد ومثل الأعلام التي نصبت على الطرق وجعلت علامة على حدود الارض وغير ذلك ومن ذلك العلامات التي يبعثها الشخص مع رسوله ووكيله إلى أهله سواء كان قد تواطأ معهم عليها مثل أن يقول علامته أن يضع يده على ترقوته أو يضع خنصره في خنصره ونحو ذلك أو كانت علامة قصد بها الإعلام من غير تقدم مواطأة مثل إعطائه عمامته أو نعليه كما أعطى النبي عمامته علامة على ولاية قيس بن سعد وعزل أبيه عن الإمارة يوم الفتح وكما أعطى أبا هريرة نعليه علامة على ما أرسله به وكما يعطي الرجل لرسوله خاتمه ونحو ذلك فهذه الدلائل دلت بالقصد والجعل وقد كان يمكن أن لا تجعل دليلا فاذا كانت آيات الانبياء من هذا الجنس فهي إنما تدل مع قصد الرب الى جعلها دليلا وجعله لها دليلا بأن يجعل المدلول لازما لها فكل من ظهرت على يده كان نبيا صادقا فإن الدليل لا يكون دليلا إلا مع كونه مستلزما للمدلول فيمتنع أن يكون دليلا اذا وجد معه عدم المدلول أو وجد ضد المدلول فآيات الانبياء الدالة على صدقهم يمتنع وجودها بدون صدق النبي ووجودها مع مدعي النبوة كاذبا أعظم استحالة فإنها اذا كانت ممتنعة مع عدم نبوة صادقة وإن لم تكن هناك نبوة كاذبة فمع الكاذبة أشد امتناعا فهي مستلزمة للنبوة لا تكون مع عدم النبوة البتة والكاذب قد عدمت في حقه النبوة ووجد في حقه ضدها وهو الكذب في دعواها يمتنع كونه نبيا صادقا فيمتنع أن يخلق الرب ما يدل على صدق الانبياء بدون صدقهم لامتناع وجود الملزوم دون لازمه ومع كذبهم لامتناع وجود الشيء مع ضده والكذب ضد الصدق فيمتنع أن يكون قوله أنا نبي صدقا وكذبا فاذا استلزم الصدق امتنع وجود الكذب وخلق دليل الصدق مع عدم الصدق ممتنع غير مقدور لكن الممكن المقدور أن ما جعله دليلا على الصدق يخلقه بدون الصدق فيكون قد خلقه وليس بدليل حينئذ ويمكن أن يخلق على يد الكاذب ما يدل انه دليل على صدقه وليس بدليل مثل خوارق السحرة والكهان كما كان يجري لمسيلمة والعنسي وغيرهما لكن هذه ليست دليلا على النبوة لوجودها معتادة لغير الانبياء وليست خارقة لعادة غير الانبياء بل هي معتادة للسحرة والكهان فالتفريط ممن ظنها دليلا لا سيما ولا بد أن تكون دليلا على كذب صاحبها فإن الشياطين لا تقترن إلا بكاذب كما قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم ولا يجوز أن يظهر الرب ما جعله دليلا للنبوة مع عدم النبوة كما أنه لا يجوز أن يتكلم بالكلام الذي جعله لبيان معان بدون إرادة تلك المعاني بل ذلك ممتنع من وجوه من جهة حكمته ومن جهة عادته ومن جهة عدله ورحمته ومن جهة علمه وإعلامه وغير ذلك كما قد بسط في مواضع ومن جهة قدرته أيضا فإنه قادر على هدي عبادة وتعريفهم وذلك إنما يكون بتخصيص الصادق بما يستلزم صدقه فاذا ما سوي بين الصادق والكاذب فإنه يمتنع التعريف والممتنع ليس بمقدور فقدرته تقتضي خلق الفرق وقد يقال هو قادر لكن لا يفعل مقدوره فيقال فعله له ممكن ولا يمكن إلا على هذا الوجه فيكون قادرا على هذا الوجه فإن قيل هو قادر ولكن لا يفعله قيل إن أريد أنه يمتنع فهذا باطل وإن أريد أنه يمكن فعله ولكن لا يفعله لم يكن على هذا النفي دليل بل وجوده يدل على أنه فعله وأيضا فأفعال الرب إما واجبة وإما ممتنعة وإذا لم يكن ممتنعا تعين أنه واجب وأنه قد فعله وهذا قد فعله وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن هذا كله يستلزم أن الرب منزه عن أن يفعل بعض الامور الممكنة المقدورة لكون ذلك يستلزم أمرا يناقض حكمته ولكون فعل الشيء لا يكون إلا مع لوازمه وانتفاء أضداده فيمتنع فعله بدون لوازمه أو مع ضده كما يمتنع جعل الدليل دليلا مع وجوده بلا مدلول أو مع وجود ضد المدلول معه والذين قالوا يجوز منه فعل كل شيء ولا ينزه عن شيء يتعذر على أصلهم وجود دليل جعلي قصدي لا الكلام ولا الفعال فيمتنع على أصلهم كون كلام الرب يدل على مراده أو كون آياته التي قصد بها الدلالة على صدق الانبياء أو غيرهم تدل لأنه يقدر أن يفعل ذلك وغير ذلك كما يقدر أن يظهر على يد الكاذب ما أظهره على يد الصادق وهم يقولون المعجزة هي الخارق المقرون بالتحدي بالمثل وعدم المعارضة وهذا يقدر على إظهاره على يد الصادق فمن سوى بين جميع الامور وجعل إرادته لها سواء لم يفرق بين هذا وهذا فقالوا نحن نستدل على أنه لم يظهرها على يد الكاذب بأنه لو فعل ذلك لبطلت قدرته على تصديق الصادقين بالآيات فإنه إنما يستدل على صدقهم بالآيات فلو أظهرها على يد الكاذب لم يبق قادرا هذه عمدة أكثرهم وعليها اعتمد القاضي أبو بكر في كتاب المعجزات فيقال لهم هذا لا يبطل قدرته على ذلك ولكن هذا يوجب أنه لم يفعل المقدور فيلزم من ذلك أنه سوى بين الصادق والكاذب ولم يبين صدقه وهذا مقدور ممكن وكل مقدور ممكن فهو عندكم جائز عليه فلم يكن اللازم رفع قدرته بل اللازم أنه لم يفعل مقدوره وهذا جائز عندكم ومما يوضح هذا أن يقال هو قادر على إظهار ذلك على يد الكاذب أم لا فإن قلتم ليس بقادر أبطلتم قدرته وإن قلتم هو قادر فثبت أنه قادر على إظهار ذلك على يد الصادق والكاذب فبقي مشتركا لا يخص أحدهما فلا يكون حينئذ دليلا فمجرد القدرة لم يوجب اختصاص الصادق به وان قلتم لا يقدر على إظهاره على يد الكاذب فقد رفعتم القدرة فأنتم بين أمرين إن أثبتم القدرة العامة فلا اختصاص لها وإن نفيتم القدرة على أحدهما بطل استدلالكم بشمول القدرة وأيضا فالقدرة إنما تكون على ممكن وعلى أصلكم لا يمكن تصديق الصادق فهم استدلوا بمقدمتين وكلاهما باطلة قالوا لو لم يكن دليلا رفع القدرة وهذا باطل بل يلزم أنه لم يفعل المقدور وهذا جائز عندهم فلا يجب عندهم شيء من الأفعال ثم قالوا وهو قادر على ذلك وعلى أصلهم ليس هو بقادر على ذلك فإنهم قالوا يمكنه تصديق الانبياء بالفعل كما يمكنه التصديق بالقول فيقال لهم كلاهما يدل بالقصد والجعل وهذا إنما يكون ممن يقصد أن يفعل الشيء ليدل وعندكم هو لا يفعل شيئا لشيء فيلزم على أصلكم أن لا يفعل شيئا لاجل أنه يدل به عباده لا فعلا ولا كلاما إذ كان هذا عندكم ممتنعا وهو فعل شيء لمقصود آخر غير فعله واذا كان هذا ممتنعا عندكم لم يكن مقدورا فلا يقدر على أصلكم أن ينصب لعباده دليلا ليدلهم به على شيء بل هذا عندهم فعل لغرض وهو ممتنع عليه وإن قلتم هو وأن لم يقصد أن يفعل شيئا لحكمة لكن قد يفعل الشيئين المتلازمين فيستدل بأحدهما على الآخر قيل هذا إنما يكون بعد أن يثبت التلازم وأن أحدهما مستلزم للآخر وهذا معلوم فيما يدل بمجرده فإنه يمتنع وجوده بدون لازمه إما ما يدل بالجعل والقصد فيمكن وجوده بدون ما جعل مدلولا له واللزوم إنما يكون بالقصد وهو عندكم يمتنع أن يفعل شيئا لاجل شيء فبطلت الادلة القصدية على أصلكم وهي أخص بالدلالة من غيرها ولهذا لا يكادون يستدلون بكلام الله بل يعتمدون في السمعيات إما على ما علم بالضرورة أو الاجماع وحقيقة الأمر أن الأدلة الجعلية القصدية لا بد فيها من إرادة الرب ومشيئته أن تكون أدلة فلا بد أن يريد أن يجعل هذا الفعل ليدل وهم لا يجوزون أن يريد شيئا لشيء بل كل مخلوق هو عندهم مراد من نفسه لم يرد لغيره فامتنع أن يكون يريد الرب جعل شيء دليلا على أصلهم فتبين أنه على أصلهم غير قادر على نصب ما يقصد به دلالة العباد وهدايتهم وإعلامهم لا قول ولا فعل فبطلت المقدمة الكبرى وبتقدير أن يكون قادرا على ذلك فهو إذا أظهر على يد الكاذب ما يظهر على يد الصادق كان لم يفعل هذا المقدور ولم يجعل ذلك دليلا على الصدق لا يلزم أن لا يكون قادرا فهم اعتمدوا على هذه الحجة وقالوا هذا هذا وهذا هذا فقد تبين أن من لم يثبت حكمة الرب يلزمه نفي إرادته ومشيئته كما تقدم ويلزمه أيضا نفي قدرته على أن يفعل شيئا لشيء فلا يمكنه أن ينصب دليلا ليدل به عباده على صدق صادق ولا كذب كاذب وهم يقولون من فعل شيئا لحكمة دليل على حاجته ونقصه لأنه فعل لغرض والغرض هو الشهوة وذلك يتضمن الحاجة وهذا بعينه يقال في الإرادة أن من أراد فإنما يريد لغرض وشهوة فقولهم بنفي الحكمة يتضمن نفي الارادة ونفي القدرة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن من نفى الحكمة يلزمه نفي الارادة ومن نفى الارادة يلزمه نفي فعل الرب ونفي الأحداث ومن نفى ذلك يلزمه امتناع حدوث حادث في الوجود وأن أثبات الحكمة لازم لكل طائفة على أي قول قالوه كما قد بسط في غير هذا الموضع إذ المقصود التنبيه على أن أثبات آيات الانبياء والاستدلال بكلام الله وآياته التي أراد أن يدل بها عباده بدون إثبات حكمته ممتنع ولهذا اضطرب كلام من نفى حكمته في آيات الانبياء وفي كلام الرب سبحانه وهي الآيات التي بعثت بها الانبياء القولية والفعلية واضطربوا في الاستدلال على ما جاءت به الانبياء كما قد نبه عليه والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل

وأما الاستدلال بسنته وعادته فهو أيضا طريق برهاني ظاهر لجميع الخلق وهم متفقون عليه من يقول بالحكمة ومن يقول بمجرد المشيئة فإنه قد علم عادته سبحانه في طلوع الشمس والقمر والكواكب والشهور والاعوام وعادته في خلق الانسان وغيره من المخلوقات وعادته فيما عرفه الناس من المطاعم والمشارب والأغذية والأدوية ولغات الامم كالعلم بنحو كلام العرب وتصريفه والعلم بالطب وغير ذلك كذلك سنته تعالى في الانبياء الصادقين وأتباعهم وفيمن كذبهم أو كذب عليهم فأولئك ينصرهم ويعزهم ويجعل لهم العاقبة المحمودة والآخرون يهلكهم ويذلهم ويجعل لهم العاقبة المذمومة كما فعل بقوم نوح وبعاد وثمود وقوم لوط واصحاب مدين وفرعون وقومه وكما فعل بمن كذب محمدا من قومه قريش ومن سائر العرب وسائر الامم غير العرب وكما فعل من نصر أنبيائه وأتباعهم قال تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون وقال انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال تعالى ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وقال تعالى وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير وقال تعالى أولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الارض وعمروها اكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون وقال تعالى أولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الارض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب وقال تعالى كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وقال تعالى أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الارض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون وقال تعالى ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وقال تعالى واقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الارض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا وقال تعالى وإن كانوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا وقال تعالى وان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا اذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا وقد قيل آية الحاقة وآية الشورى تبين أنه لو افترى عليه لعاقبة فهذه سنته في الكاذبين وحقيقة الاستدلال بسنته وعادته هو اعتبار الشيء بنظيره وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين وهو الاعتبار المامور به في القرآن كقوله تعالى قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الابصار وقال تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار وقال تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب وإنما تكون العبرة به بالقياس والتمثيل كما قال ابن عباس في دية الاصابع هن سواء واعتبروها بدية الاسنان فإذا عرفت قصص الانبياء ومن اتبعهم ومن كذبهم وأن متبعيهم كان لهم النجاة والعافية والنصر والسعادة ولمكذبيهم الهلاك والبوار جعل الامر في المستقبل مثلما كان في الماضي فعلم أن من صدقهم كان سعيدا ومن كذبهم كان شقيا وهذه سنة الله وعادته ولهذا يقول سبحانه في تحقيق عادته وسنته وأنه لا ينقضها ولا يبدلها أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر يقول فاذا لم يكونوا خيرا منهم فكيف ينجون من العذاب مع مماثلتهم لهم هذا بطريق الاعتبار والقياس ثم قال أم لكن براءة في الزبر أي معكم خبر من الله بأنه لا يعذبكم فنفي الدليلين العقلي والسمعي ثم ذكر قولهم نحن جميع منتصر وانا نغلب من يغالبنا فقال تعالى سيهزم الجمع ويولون الدبر وهذا مما أنبأه من الغيب في حال ضعف الاسلام واستبعاد عامة الناس ذلك ثم كان كما أخبر وقد قال للمؤمنين في تحقيق سنته وعادته أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا ان نصر الله قريب وقال لمحمد ما يقال لك الا ما قد قيل للرسل من قبلك وقال كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون وقال تعالى وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال نعم وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي أنه قال ليأخذن أمتي ما أخذ الامم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا يا رسول الله فارس والروم قال ومن الناس إلا هؤلاء وفي السنن لما قال به بعض أصحابه أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ثم قال انه السنن لتركبن سنن من كان قبلكم وقال تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ولهذا احتج من احتج بسنة الله وعادته في مكذبي الرسل كقول شعيب ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد وقال مؤمن آل فرعون يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد وقال تعالى كدأب آل فرعون والذين من قبلهم والدأب العادة في ثلاثة مواضع قال تعالى إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب قال ابن قتيبة وغيره الدأب العادة ومعناه كعادة آل فرعون يريد كفر اليهود كل فريق بنبيهم وقال الزجاج هو الاجتهاد أي دأب هؤلاء وهو اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي كتظاهر آل فرعون على موسى وقال عطاء والكسائي وأبو عبيدة كسنة آل فرعون وقال النضر بن شميل كعادة آل فرعون يريد عادة هؤلاء الكفار في تكذيب الرسل وجحود الحق كعادة آل فرعون وقال طائفة نظم الآية أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الامم الخالية أخذناهم فلن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم وفي تفسير أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس كدأب فرعون قال كصنيع آل فرعون قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد والضحاك وأبي مالك وعكرمة نحو ذلك قال وروي عن الربيع بن أنس كشبه آل فرعون وعن السدي قال ذكر الذين كفروا كمثل الذين من قبلهم في التكذيب والجحود قلت فهؤلاء جعلوا الشبيه في العمل فإن لفظ الدأب يدل عليه قال الجوهري دأب فلان في عمله أي جد وتعب دأبا ودءوبا فهو دئب وأدأبته أنا والدائبان الليل والنهار قال والدأب يعني بالتسكين العادة والشأن وقد يحرك قال الفراء أصله من دأبت إلا أن العرب حولت معناه إلى الشأن قلت الزجاج جعل ما في القرآن من الدأب الذي هو الاجتهاد والصواب ما قاله الجمهور أن الدأب بالتسكين هو العادة وهو غير الدأب بالتحريك إذا زاد اللفظ زاد المعنى والذي في القرآن مسكن ما علمنا أحدا قرأه بالتحريك وهذا معروف في اللغة يقال فلان دأبه كذا وكذا أي هذا عادته وعمله الملازم له وإن لم يكن في ذلك تعب واجتهاد ومنه قوله تعالى وسخر لكم الشمس والقمر دائبين والدائب نظير الدائم والباء والميم متقاربان ومنه اللازب واللازم قال ابن عطية دائبين أي متماديين ومنه قول النبي لصاحب الجمل الذي بكى وأجهش اليه ان هذا الجمل شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه أي تديمه في العمل له والخدمة قال وظاهر الآية أن معناه دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثرة قال وحكى الطبري عن مقاتل بن حيان يرفعه الى ابن عباس أنه قال معناه دائبين في طاعة الله قال وهذا قول ان كان يراد به أن الطاعةانقيادهما للتسخير فذلك موجود في طاعة قوله وسخر وإن كان يراد أنها طاعة مقدورة كطاعة العبادة من البشر فهذا بعيد قلت ليس هذا ببعيد بل عليه دلت الادلة الكثيرة كما هو مذكور في مواضع وقالت طائفة منهم البغوي وهذا لفظه دائبين يجريان فيما يعود الى مصالح عباد الله لا يفتران قال ابن عباس دءوبهما في طاعة الله ولفظ أبي الفرج داءبين في اصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره لا يفتران قال ومعنى الدءوب مرور الشيء على عادة جارية فيه قلت واذا كان دأبهم هو عادتهم وعملهم الذي كانوا مصرين عليه فالمقصود أن هؤلاء أشبهوهم في العمل فيشبهونهم في الجزاء فيحيق بهم ما حاق بأولئك هذا هو المقصود ليس المقصود التشبيه في الجزاء كقوله ان الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب أي فهؤلاء لا تدفع عنهم أموالهم وأولادهم عذاب الله اذا جاءهم كدأب آل فرعون وكذلك قوله ولو ترى اذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وان الله ليس بظلام للعبيد الى قوله كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين فهذا كله يقتضي التشبيه في العذاب وأما الطائفة الاخرى فجعلوا الدأب نفس فعل الرب بهم وعقوبته لهم قال مكي بن أبي طالب الكاف في كدأب في موضع نصب نعت لمحذوف تقديره غيرناهم كما غيروا تغييرا مثل عادتنا في آل فرعون ومثلها الآية الاولى الا أن الاولى العادة في العذاب تقديره فعلنا بهم ذلك فعلا مثل عادتنا في آل فرعون وقد جمع بعضهم بين المعنيين فقال أبو الفرج كدأب آل فرعون أي كعادتهم والمعنى كذب أولئك فنزل بهم العذاب كما نزل بأولئك قلت الدأب العادة وهو مصدر يضاف الى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى فاذا أضيف الى الفاعل كان المعنى كفعل آل فرعون وإذا أضيف إلى المفعول كان المعنى كعادتهم في العذاب والمصائب التي نزلت بهم يقال هذه عادة هؤلاء لما فعلوه ولما يصيبهم وهي عادة الرب وسنته فيهم والتحقيق أن اللفظ يتناول الامرين جميعا وقد تقدم عن الفراء والجوهري أن الدأب العادة والشأن وهذا كقوله قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين روى ابن أبي حاتم بالاسناد المعروف عن مجاهد قد خلت من قبلكم سنن من الكفار والمؤمنين في الخير والشر وعن أبي اسحاق أي قد مضت مني وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي والشرك بي عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين فرأوا مثلات قد مضت مني فيهم فقد فسرت السنن بأعمالهم وبجزائهم قال البغوي معنى الآية قد مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم من الامم الماضية الكافرة بامهالي واستدراجي إياهم حتى يبلغ الكتاب فيهم أجلي الذي أجلته لاهلاكهم وأدالة أنبيائي فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين أي آخرة المكذبين منهم قال وهذا في حزب واحد يقول فانا أمهلهم وأستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت من نصرة النبي وأوليائه قلت ونظير هذا قوله تعالى أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقوله أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الارض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وقوله في الآية الأخرى كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الارض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون فهذا كله يبين أن سنة الله وعادته مطردة لا تنتقض في إكرام مصدقي الرسل وإهانة مكذبيهم

فصل

آيات الانبياء كما قد عرف هي مستلزمة لثبوت النبوة وصدق المخبر بها والشاهد بها قيلزم من وجودها وجود النبوة وصدق المخبر بها ويمتنع أن تكون مع التكذيب بها وكذب المخبر بها فلا يجوز وجودها لمن كذب الانبياء ولا لمن أقر بنبوة كذاب سواء كان هو نفسه المدعي للنبوة أو ادعى نبوة غيره وهذان الصنفان هما المذكوران في قوله ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله وهؤلاء كلهم من أظلم الكاذبين كما قال فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق اذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ثم قال والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون فالمخبر بالنبوة مع ثبوتها هو الذي جاء بالصدق وصدق به والمخبر بها مع انتفائها هو الذي كذب على الله والمكذب بها مع ثبوتها هو الذي كذب بالحق لما جاءه فدلائل النبوة هي مستلزمة لصدق من أثبت نبوة هي نبوة حق يمتنع أن تكون لمن نفى هذه أو أثبت نبوة ليست بنبوة وكذلك كل دليل دل على إثبات الصانع دل على صدق المؤمنين به المخبرين بما دل عليه الدليل على كذب من نفى ذلك ويمتنع أن تكون تلك الأدلة دالة على نفي ذلك أو على صدق الخبر بنفي ذلك أو على صدق من جعل صفات الرب ثابتة لغيره وما دل على أن هذه الدار ملك لزيد يدل على صدق المخبر بذلك وكذب النافي له ويمتنع أن يدل مع انتفاء الملك وما دل على علم شخص وعدله فإنه مستلزم لذلك ولصدق المخبر به وكذلك النافي له يمتنع أن يدل على صدق النافي أو يدل مع انتفاء العلم والعدل فإن ما استلزم ثبوت شيء وصدقه استلزم كذب نقيضه وكان عدم اللازم مستلزما لعدم الملزوم فما كان مستلزما لثبوت النبوة وصدق المخبر بها كان مستلزما لكذب من نفاها فامتنع أن يكون موجودا مع من نفاها وامتنع أن يكون موجودا مع انتفائها فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين فدليل كل مدلول عليه يمتنع ثبوته مع عدم المدلول عليه فانه مستلزم لثبوته فلو وجد مع عدمه للزم الجمع بين النقيضين فما كان دليلا على نبوة شخص فهو دليل على جنس النبوة فإن نبوة الشخص لا تثبت إلا مع ثبوت جنس النبوة فيمتنع وجود ذلك الدليل مع عدم النبوة وثبوت أحد النقيضين مستلزم لنفي الآخر فثبوت صدق المخبر بثبوتها مستلزم لكذب المخبر بانتفائها فهذا أمر عقلي مقطوع به معلوم بالبديهة بعد تصوره في جميع الأدلة أدلة النبوة وغيرها فلا يجوز أن يكون ما دل على النبوة وعلى صدق المخبر بها وكذب المكذب بها دليلا للمكذب بها ولا دليلا مع انتفائها كالمتنبي الذي يدعي النبوة ولا نبوة معه فلا يتصور أن يكون معه ولا مع المصدق بنبوته شيء من دلائل النبوة وأما كون دليل من دلائل النبوة مع المصدق بها كائنا من كان فهذا حق بل هذا هو الواجب فمن صدق بها بلا دليل كان متكلما بلا علم فكل من صدق بالنبوة بعلم فمعه دليل من أدلتها وإخبار أهل التواتر بما جاءت به الانبياء من الآيات هو من أدلة ثبوتها فكل من آمن بالرسول عن بصيرة فلا بد أن يكون في قلبه علم بأنه نبي حق إما علم ضروري أو علم نظري بدليل من الأدلة والعلوم النظرية مع أدلتها تبقى ضرورية وقد تكون في نفس الامر علوم ضرورية ولا يمكنه التعبير عما يدل عليها كالذي يجده الانسان في نفسه ويعلمه من العلوم البديهية والضرورية وغير ذلك فإن كثيرا من الناس لا يمكنهم بيان الادلة لغيرهم على وجود ذلك عندهم واذا عرف هذا فقولنا دلائل النبوة مختصة بالانبياء لا تكون لغيرهم له معنيان أحدهما أنه لا يشاركهم فيها من يكذب بنبوتهم لا من يدعي نبوة كاذبة وهذا ظاهر بين فإن الدليل على الشيء لا يكون دليلا على وجوده وعلى عدمه فلا يكون ما يدل النبوة أو غيرها وعلى صدق المخبر بذلك دليلا على كذب المخبر بذلك ولا دليلا على النبوة مع انتفاء النبوة والمعنى الثاني أنها لا توجد إلا مع النبي فهذا إن أريد به أنها لا توجد إلا والنبوة ثابتة فهو صحيح وإن كانت مع ذلك دليلا على نبي فلا يمتنع أن يكون الشيء الواحد دليلا على أمور كثيرة لكن يمتنع أن يوجد مع انتفاء مدلوله فما دل على النبوة قد يدل على أمور أخرى من أمور الرب تبارك وتعالى لكن لا يمكن أن يدل مع انتفاء النبوة أي مع كون النبوة المدلول عليها باطلة لا حقيقة لها ولكن قد يدل مع موت النبي ومع غيبته فان موته وغيبته لا ينفي نبوته وليس من شرط دليل النبي أن يكون موجودا في محل المدلول عليه ولا في مكانه ولا زمانه وقول من اشترط في آيات الأنبياء أن تكون مقترنة بالدعوى في غاية الفساد والتناقض كما قد بسط لا سيما والآيات قد تكون مخلوقة نائية عن النبي وعن مكانه وكذلك سائر الأدلة لا سيما ما يجري مجرى الخبر فالاخبار الدالة على وجود المخبر به لا يجب أن تكون مقارنة المخبر به لا في محله ولا زمانه ولا مكانه وآيات الانبياء هي شهادة من الله وإخبار منه بنبوتهم فلا يجب أن تكون في محل النبوة ولا زمانها ولا مكانها لكن يجوز ذلك فلا يمتنع أن يكون الدليل في محل المدلول عليه أو في مكانه لكن يجوز ذلك فيه فالانسان قد تقوم به أمور تدل على بعض الأمور التي فيه وقد تعلم أموره بخبر غيره وببعض آثاره المنفصلة عنه فاذا أريد بأن آيات الانبياء مختصة بهم وأنها لا تكون لغيرهم أنها لا تكون مع انتفاء النبوة المدلول عليها فهذا صحيح لأنه يستلزم الجمع بين النقيضين وأما إذا أريد أنها لا توجد إلا في ذات النبي أو مقترنة بخبره عن نبوته أو في المكان الذي كان فيه أو في الزمان فهذا كله غلط وخطأ ممن ظنه وجهل بين بحقائق الأدلة وان كان من الأدلة وآيات النبوة ما يكون في ذات النبي ويكون مقترنا بقوله إني رسول الله ويكون في المكان الذي هو فيه وفي زمانه فهذا يمكن وهو الواقع فإن النبي بل وغيره من الانبياء كان في نفس أقوالهم وأفعالهم وصفاتهم وأخلاقهم وسيرهم أمور كثيرة تدل على نبوتهم وكذلك لما قال إني رسول الله أتى مع ذلك بآيات دلت على صدقه وكذلك في مكانه وزمانه ظهر من انشقاق القمر وغيره ما دل على نبوته لكن آيات الانبياء أعم من ذلك كما أن دليل كل شيء أعم من أن يختص بمعنى المدلول وزمانه ومكانه وبهذا يظهر خطأ كثير من الناس في عدم معرفتهم بجنس آيات الانبياء لعدم تحقيقهم جنس الأدلة والبراهين وأن خاصة الدليل أنه يلزم من تحققه تحقق المدلول عليه فقط سواء كان مقارنا للمدلول عليه أو كان حالا في محله أو مجاوزا لمحله أو لم يكن كذلك والنبوة قد قال طائفة من الناس إنها صفة في النبي وقال طائفة ليست صفة ثبوتية في النبي بل هي مجرد تعلق الخطاب الآلهي به بقول الرب إني أرسلتك فهي عندهم صفة إضافية كما يقولونه في الاحكام الشرعية انها صفات اضافية للافعال لا صفات حقيقية والصحيح أن النبوة تجمع هذا وهذا فهي تتضمن صفة ثبوتية في النبي وصفة إضافية هي مجرد تعلق الخطاب الآلهي به بقول الرب إني أرسلتك فهي عندهم صفة إضافية كما يقولونه في الاحكام الشرعية إنها صفات إضافية للأفعال لا صفات حقيقية لكن على الاقوال الثلاثة ليس من شرط أدلتها أن تكون حالة في ذات النبي ولكن يجوز أن تكون لها أدلة قائمة بذات النبي كما كان في محمد عدة أدلة من دلائل النبوة كما هو مبسوط في دلائل نبوته اذ المقصود هنا الكلام على جنس آيات الانبياء لا على شيء معين لا دليل معين ولا نبي معين فاذا عرف أن دلائل النبوة يمتنع ثبوتها لشخص لا نبوة فيه إذا ادعاها أو ادعيت له كذبا ويمتنع ثبوتها مع المكذب بالنبوة الصادقة وإنها لا توجد إلا والنبوة ثابتة وأنها دليل على صدق المخبر بالنبوة من جميع الخلق فكل من آمن أن محمدا رسول الله فقد أخبر عن نبوته كما أخبر هو عن نبوة نفسه بما أمره الله به حيث قال قل يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا فهذا الخبر وهو الشهادة بأنه رسول الله الى الناس جميعا سواء وجد منه او من غيره هو مدلول عليه بجميع دلائل النبوة فاذا وجد هذا الخبر في غير النبي ووجد ما يدل على صدق هذا الخبر كان ذلك من دلائل النبوة كما وجد هذا في خلق كثير من المؤمنين ومن دلائل النبوة وجود العلم الضروري بخبر أهل التواتر الذين أخبروا بالآيات فهذا العلم الضروري هو بمنزلة المشاهدة للآيات وكذلك ما يوجد لأهل الايمان مما يستلزم صدق خبرهم بأن محمدا رسول كما يوجد لأمته من الآيات الكثيرة عند تحقيق أمره ونصره وطاعته والجهاد عن دينه والذب عنه وبيان ما أرسل به كما وجد أمثال ذلك للصحابة والتابعين وسائر المؤمنين الى يوم القيامة

فصل

فجميع ما يختص بالسحرة والكهان هو مناقض للنبوة فوجود ذلك يدل على أن صاحبه ليس بنبي ويمتنع أن يكون شيء من ذلك دليلا على النبوة فإن ما استلزم عدم الشيء لا يستلزم وجوده وكذلك ما يأتي به أهل الطلاسم وعبادة الكواكب ومخاطبتها كل ذلك مناقض للنبوة فان النبي لا يكون إلا مؤمنا وهؤلاء كفار فوجود ما يناقض الايمان هو مناقض للنبوة بطريق الأولى وهو آية ودليل وبرهان على عدم النبوة فيمتنع أن يكون دليلا على وجودها وجميع ما يختص بالسحرة والكهان وغيرهم ممن ليس بنبي لا يخرج عن مقدور الانس والجن وأعني بالمقدور ما يمكنهم التوصل اليه بطريق من الطرق فان من الناس من يقول ان المقدور لا بد أن يكون في محل القدرة وليس هذا هو لغة العرب ولا غيرهم من الأمم لا لغة القرآن والحديث ولا غيرهما وإنما يدعون ذلك من جهة العقل وقولهم في ذلك باطل من جهة العقل لكن المقصود هنا التكلم باللغة المعروفة لغة العرب وغيرهم التي كان نبينا وغيره يخاطب بها الناس كقوله في الحديث الصحيح لابي مسعود بما ضرب غلامه اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك على هذا فجعل نفس المملوك مقدورا عليه لسيده كما يقول الناس القوة على الضعيف ضعف في القوة ويقولون فلان قادر على فلان وفلان عجز عن فلان ويقولون فلان ناسج هذا الثوب وبنى هذه الدار ومنه قوله تعالى ويصنع الفلك فجعل الفلك مصنوعة لنوح ومنه قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون أي والأصنام التي تعملونها وتنحتونها فجعل ما في الاصنام من التأليف معمولا لهم كما جعل تأليف السفية مصنوعا لهم وهذا كثير والمقصود هنا أن ما يأتي به السحرة والكهان ونحوهم هو مما يصنعه الانس والجن لا يخرج ذلك عنهم والانس والجن قد أرسلت اليهم الرسل فآيات الانبياء خارجة عن قدرة الانس والجن لا يقدر عليها لا الانس ولا الجن ولله الحمد والمنة ومقدورات الجن هي من جنس مقدورات الانس لكن تختلف في المواضع فإن الإنسي يقدر على أن يضرب غيره حتى يمرض أو يموت بل يقدر أن يكلمه بكلام يمرض به أو يموت فما يقدر عليه الساحر من سحر بعض الناس حتى يمرض أو يموت هو من مقدور الجن وهومن جنس مقدور الانس ومنعه من الجماع هو من جنس المرض المانع له من ذلك والحب والبغض لبعض الناس كما يفعله الساحر هو من استعانته بالشياطين وهو من جنس مقدور الانس بل شياطين الانس قد يؤثرون من البغض والحب أعظم مما تؤثره شياطين الجن والجن تقدر على الطيران في الهواء وهو من الأعمال والطيور تطير فهو من جنس مقدور الانس لكن يختلف المحل بأن هؤلاء سيرهم في الهواء والانس سيرهم على الأرض وكذلك المشي على الماء وطي الارض وهو قطع المسافة البعيدة في زمان قريب هو من هذا الجنس هو مما تفعله الجن وهو مما تفعله الجن ببعض الناس وقد أخبر الله عن العفريت أنه قال لسليمان عن عرش بلقيش وهو باليمن وسليمان بالشام أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ولهذا يوجد كثير من الكفار والفساق والجهال تطير بهم الجن في الهواء وتمشي بهم على الماء وتقطع بهم المسافة البعيدة في المدة القريبة وليس شيء من ذلك من آيات الانبياء ولله الحمد والمنة إذ كان مقدور الانس والجن والاخبار ببعض الامور الغائبة التي يأتي بها الكهان هو أيضا من مقدور الجن فإنهم تارة يرون الغائب فيخبرون به وتارة يسترقون السمع من السماء فيخبرون به وتارة يسترقون وهم يكذبون في ذلك كما أخبر النبي عنهم وما تخبر به الانبياء من الغيب لا يقدر عليه إنس ولا جن ولا كذب فيه وأخبار الكهان وغيرهم كذبها أكثر من صدقها وكذلك كل من تعود الاخبار عن الغائب فاخبار الجن لا بد أن تكذب فإنه من طلب منهم الاخبار بالمغيب كان من جنس الكهان وكذبوا في بعض ما يخبرون به وإن كانوا صادقين في البعض وقد ثبت في الصحيح أن النبي سئل عن الكهان فقيل له إن منا قوما يأتون الكهان قال فلا تأتوهم وثبت عنه في الصحيح أنه قال من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما وفي السنن عنه أنه قال من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد والنبي لما أسري به من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى لم يكن المقصود مجرد وصوله الى الاقصى بل المقصود ما ذكره الله بقوله لنريه من آياتنا كما قال في سورة النجم ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى وما رآه مختص بالانبياء لا يكون ذلك لمن خالفهم ولا يريه الله تعالى ما أراه محمد حين أسري به وكذلك صلاته بالانبياء في المسجد الاقصى وركوبه على البراق هذا كله من خصائص الانبياء والذين تحملهم الجن وتطير بهم من مكان الى مكان أكثرهم لا يدري كيف حمل بل يحمل الرجل الى عرفات ويرجع وما يدري كيف حملته الشياطين ولا يدعونه يفعل ما أمر الله به كما أمر الله به بل قد يقف بعرفات من غير إحرام ولا إتمام مناسك الحج وقد يذهبون به الى مكة ويطوف بالبيت من غير إحرام اذا حاذى الميقات وذلك واجب في أحد قولي العلماء ومستحب في الآخر فيفوته المشروع أو يوقعونه في الذنب ويغرونه بأن هذا من كرامات الصالحين وليس هو مما يكرم الله به وليه بل هو مما أضلته به الشياطين وأوهمته أن ما فعله قربة وطاعة أو يكون صاحبه له عند الله منزلة عظيمة وليس هو قربة وطاعة وصاحبه لا يزداد بذلك منزلة عند الله فإن التقرب الى الله انما يكون بواجب أو مستحب وهذا ليس بواجب ولا مستحب بل يضلون صاحبه ويصدونه عن تكميل ما يحبه الله منه من عبادته وطاعته وطاعة رسوله ويوهمونه أن هذا من افضل الكرامات حتى يبقى طالبا له عاملا عليه وهم بسبب اعانتهم له على ذلك قد استعملوه في بعض ما يريدون مما ينقص قدره عند الله أو وقوعه في ذنوب وإن لم يعرف انها ذنوب فيكون ضالا ناقصا وإن غفر له ذلك لعدم علمه فإنه نقص درجته وخفض منزلته بذلك الذي أوهموه أنه رفع درجته وأعلى منزلته وهذا من جنس ما تفعله السحرة فإن الساحر قد يصعد في الهواء والناس ينظرونه وقد يركب شيئا من الجمادات إما قصبة واما خابية وإما مكنسة وإما غير ذلك فيصعد به في الهواء وذلك أن الشياطين تحمله وتفعل الشياطين هذا ونحوه بكثير من العباد والضلال من عباد المشركين وأهل الكتاب والضلال من المسلمين فتحملهم من مكان الى مكان وقد يرى أحدهم بما يركبه إما فرس وإما غيره وهو شيطان تصور له في صورة مركوب وقد يرى أنه يمشي في الهواء من غير مركوب والشيطان قد حمله والحكايات في هذا كثيرة معروفة عند من يعرف هذا الباب ونحن نعرف من هذا أمورا يطول وصفها وكذلك المشي على الماء قد يجعل له الجن ما يمشي عليه وهو يظن أنه يمشي على الماء وقد يخيلون أليه أنه التقى طرفا النهرليعبر والنهر لم يتغير في نفسه ولكن خيلوا اليه ذلك وليس هذا ولله الحمد شيء من جنس معجزات الانبياء وقد يمشي على الماء قوم بتأييد الله لهم وإعانته إياهم بالملائكة كما يحكى عن المسيح وكما جرى للعلاء بن الحضرمي في عبور الجيش ولابي مسلم الخولاني وذلك اعانة على الجهاد في سبيل الله كما يؤيد الله المؤمنين بالملائكة ليس هو من فعل الشياطين والفرق بينهما من جهة السبب ومن جهة الغاية أما السبب فإن الصالحون يسمون الله ويذكرونه ويفعلون ما يحبه الله من توحيده وطاعته فييسر لهم بذلك ما ييسره ومقصودهم به نصر الدين والاحسان الى المحتاجين وما تفعله الشياطين يحصل بسبب الشرك والكذب والفجور والمقصود به الاعانة على مثل ذلك والجن فيهم مسلم وكافر فالمسلمون منهم يعاونون الانس المسلمين كما يعاون المسلمون بعضهم بعضا والكفار مع الكفار والجن الذين يطيعون الانس وتستخدمهم الانس ثلاثة أصناف أعلاها أن يأمروهم بما أمر الله به ورسله فيأمرونهم بعبادة الله وحده وطاعة رسله فإن الله أوجب على الجن طاعة الرسل كما أوجب ذلك على الانس وقال تعالى ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي اجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على انفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون فالرسل تكون من الانس الى الثقلين والنذر من الجن باتفاق العلماء واختلفوا هل يكون في الجن رسل والاكثرون على أنه لا رسل فيهم كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي اليهم من أهل القرى وعن الحسن البصري قال لم يبعث الله نبيا من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء ذكره عنه طائفة منهم البغوي وابن الجوزي وقال قتادة ما نعلم أن الله أرسل رسولا قط إلا من أهل القرى لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمور رواه ابن أبي حاتم وذكره طائفة ونبينا محمد قد أرسل إلى الثقلين وقد آمن به من آمن من جن نصيبين فسمعوا القرآن وولوا الى قومهم منذرين ثم أتوا فبايعوه على الاسلام بشعب معروف بمكة بين الأبطح وبين جبل حراء وسألوه الطعام لهم ولدوابهم فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم قال النبي فلا تستنجوا بهما فانهما زاد إخوانكم من الجن والاحاديث بذلك كثيرة مشهورة في الصحيح والسنن والمسند وكتب التفسير والفقه وغيرها وقد روى الترمذي وغيره أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وهي خطاب للثقلين وقد اتفق العلماء على أن كفارهم يدخلون النار كما أخبر الله بذلك في قوله قال ادخلوا في أمم قبلكم من الجن والانس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها وقال الله تعالى لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وقال لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وأما مؤمنوهم فأكثر العلماء على أنهم يدخلون الجنة وقال طائفة بل يصيرون ترابا كالدواب والاول أصح وهو قول الأوزاعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد ونقل ذلك عن مالك والشافي وأحمد بن حنبل وهو قول أصحابهم واحتج عليه الاوزاعي وغيره بقوله ولكل درجات مما عملوا بعد ذكره أهل الجنة وأهل النار من الجن والانس كما قال في سورة الأنعام وفي الاحقاف ولكل درجات مما عملوا بعد ذكر هل الجنة والنار وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم درجات أهل النار تذهب سفولا ودرجات أهل الجنة تذهب صعودا فنبينا هو مع الجن كما هو مع الانس والانس معه إما مؤمن به وإما مسلم له وإما مسالم له وإما خائف منه وكذلك الجن منهم المؤمن به ومنهم المسلم له مع نفاق ومنهم المعاهد المسالم لمؤمني الجن ومنهم الحربي الخائف من المؤمنين وكان هذا أفضل مما أوتيه سليمان فان الله سخر الجن لسليمان تطيعه طاعة الملوك فإن سليمان كان نبيا ملكا مثل داود ويوسف وأما محمد فهو عبد رسول مثل ابراهيم وموسى وعيسى وهؤلاء أفضل من أولئك فأولياء الله المتبعون لمحمد إنما يستخدمون الجن كما يستخدمون الانس في عبادة الله وطاعته كما كان محمد يستعمل الانس لا في غرض له غير ذلك ومن الناس من يستخدم من يستخدمه من الإنس في أمور مباحة كذلك فيهم من يستخدم الجن في أمور مباحة لكن هؤلاء لا يخدمهم الانس والجن الا بعوض مثل أن يخدموهم كما يخدمونهم أو يعينونهم على بعض مقاصدهم وإلا فليس أحد من الانس والجن يفعل شيئا إلا لغرض والانس والجن اذا خدموا الرجل الصالح في بعض أغراضه المباحة فاما أن يكونوا مخلصين يطلبون الاجر من الله وإلا طلبوه منه إما دعاءه لهم وإما نفعه لهم بجاهه أو غير ذلك والقسم الثالث أن يستخدم الجن في أمور محظورة أو بأسباب محظورة مثل قتل نفس وإمراضها بغير حق ومثل منع شخص من الوطء ومثل تبغيض شخص الى شخص ومثل جلب من يهواه الشخص اليه فهذا من السحر وقد يقع مثله لكثير من الناس ولا يعرف السحر بل يكون موافقا للشياطين على بعض أغراضهم مثل شرك أو بدعة وضلالة أو ظلم أو فاحشة فيخدمونه ليفعل مايهوونه وهذا كثير في عباد المشركين وأهل الكتاب وأهل الضلال من المسلمين وكثير من هؤلاء لا يعرف أن ذلك من الشياطين بل يظنه من كرامات الصالحين ومنهم من يعرف أنه من الشياطين ويرى أنه بذلك حصل له ملك وطاعة ونيل ما يشتهيه من الرياسة والشهوات وقتل عدوه فيدخل في ذلك كما تدخل الملوك الظلمة في أغراضهم وليس أحد من الناس تطيعه الجن طاعة مطلقة كما كانت تطيع سليمان بتسخير من الله وأمر منه من غير معارضة كما أن الطير كانت تطيعه والريح قال تعالى ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور والجن والانس فيهم المؤمن المطيع والمسلم الجاهل أو المنافق أو العاصي وفيهم الكافر وكل ضرب يميل الى بني جنسه والذي أعطاه الله تعالى سليمان خارج عن قدرة الجن والانس فإنه لا يستطيع أحد أن يسخر الجن مطلقا لطاعته ولا يستخدم أحدا منهم الا بمعاوضة إما عمل مذموم تحبه الجن وإما قوم تخضع له الشياطين كالاقسام والعزائم فان كل جني فوقه من هو أعلى منه فقد يخدمون بعض الناس طاعة لمن فوقهم كما يخدم بعض الانس لمن أمرهم سلطانهم بخدمته لكتاب معه منه وهم كارهون طاعته وقد يأخذون منه ذلك الكتاب ولا يطيعونه وقد يقتلونه أو يمرضونه فكثير من الناس قتلته الجن كما يصرعونهم والصرع لأجل الزنا وتارة يقولون إنه آذاهم إما بصب نجاسة عليهم وإما بغير ذلك فيصرعون صرع عقوبة وانتقام وتارة يفعلون ذلك عبثا كما يعبث شياطين الانس بالناس والجن أعظم شيطنة وأقل عقلا وأكثر جهلا والجني قد يحب الإنسي كما يحب الأنسي الانسي وكما يحب الرجل المرأة والمرأة الرجل ويغار عليه ويخدمه بأشياء واذا صار مع غيره فقد يعاقبه بالقتل وغيره كل هذا واقع ثم الذي يخدمونه تارة يسرقون له شيئا من أموال الناس مما لم يذكر اسم الله عليه ويأتونه إما بطعام وإما شراب واما لباس واما نقد وإما غير ذلك وتارة يأتونه في المفاوز بماء عذب وطعام وغير ذلك وليس شيء من ذلك من معجزات الانبياء ولا كرامات الصالحين فإن ذلك انما يفعلونه بسبب شرك وظلم وفاحشة وهو لو كان مباحا لم يجز أن يفعل بهذا السبب فكيف اذا كان في نفسه ظلما محرما لكونه من الظلم والفواحش ونحو ذلك وقد يخبرون بأمور غائبة مما رأوه وسمعوه ويدخلون في جوف الانسان قال النبي ان الشيطان يجري من الانسان مجرى الدم لكن إنما سلطانهم كما قال الله إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ولما قال الشيطان رب بما أغويتني لأزينن لهم في الارض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال الله تعالى ان عبادي ليس لك عليهم سلطان ثم قال إلا أي لكن من اتبعك من الغاوين وان جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم فأهل الاخلاص والايمان لا سلطان له عليهم ولهذا يهربون من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ويهربون من قراءة آية الكرسي وآخر سورة البقرة وغير ذلك من قوارع القرآن ومن الجن من يخبر بأمور مستقبلة للكهان وغير الكهان مما يسرقونه من السمع والكهانة كانت ظاهرة كثيرة بأرض العرب فلما ظهر التوحيد هربت الشياطين وبطلت أو قلت ثم انها تظهر في المواضع التي يختفي فيها أثر التوحيد وقد كان حول المدينة بعد أن هاجر النبي كهان يتحاكمون اليهم وكان أبو بردة بن نيار كاهنا ثم أسلم بعد ذلك وهو من أسلم والاصنام لها شياطين كانت تتراءى للسدنة أحيانا وتكلمهم أحيانا قال أبي بن كعب مع كل صنم جنية وقال ابن عباس في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم والشياطين كما قال الله تقترن بما يجانسها بأهل الكذب والفجور قال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون فكيف يجوز أن يقال إن مثل هذا يكون معجزة لنبي أو كرامة لولي وهذا يناقض الايمان ويضاده والانبياء والاولياء أعداء هؤلاء قال تعالى ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا انما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وقال تعالى ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون وهذا يظهر الفرق بين إخبار الانبياء عن الغيب ما لا سبيل لمخلوق الى علمه إلا منه كما قال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا فقوله على غيبه هو غيبه الذي اختص به وأما ما يعلمه بعض المخلوقين فهو غيب عمن لم يعلمه وهو شهادة لمن علمه فهذا أيضا تخبر منه الانبياء بما لا يمكن الشياطين أن تخبر به كما في إخبار اللمسيح بقوله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فإن الجن قد يخبرون بما يأكله بعض الناس وبما يدخرونه لكن الشياطين انما تتسلط على من لا يذكر اسم الله كالذي لا يذكر اسم الله اذا دخل فيدخلون معه وإن لم يذكر اسم الله اذا أكل فانهم يأكلون معه وكذلك اذا ادخر شيئا ولم يذكر اسم الله عليه عرفوا به وقد يسرقون بعضه كما جرى هذا لكثير من الناس وأما من يذكر اسم الله على طعامه وعلى ما يجتازه فلا سلطان لهم عليه لا يعرفون ذلك ولا يستطيعون أخذه والمسيح عليه السلام كان يخبر المؤمنين بما يأكلون وما يدخرون مما ذكر اسم الله عليه والشياطين لا تعلم به ولهذا من يكون إخباره عن شياطين تخبره لا يكاشف أهل الايمان والتوحيد وأهل القلوب المنورة بنور الله بل يهرب منهم ويعترف أنه لا يكاشف هؤلاء وأمثالهم وتعترف الجن والانس الذين خوارقهم بمعاونة الجن لهم أنهم لا يمكنهم أن يظهروا هذه الخوارق بحضرة أهل الايمان والقرآن ويقولون أحوالنا لا تظهر قدام الشرع والكتاب والسنة وإنما تظهر عند الكفار والفجار وهذا لأن أولئك أولياء الشياطين ولهم شياطين يعاونون شياطين المخدومين ويتفقون على ما يفعلونه من الخوارق الشيطانية كدخول النار مع كونها لم تصر عليهم بردا وسلاما فإن الخليل لما ألقى في النار صارت عليه بردا وسلاما وكذلك أبو مسلم الخولاني لما قال له الاسود العنسي المتنبي أتشهد أني رسول الله قال ما أسمع قال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم فأمر بنار فأوقدت له وألقي فيها فجاءوا اليه فوجدوه يصلي فيها وقد صارت عليه بردا وسلاما فقدم المدينة بعد موت النبي وأخذه عمر فأجلسه بينه وبين أبي بكر وقال الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من فعل به كما فعل بابراهيم وأما اخوان الشياطين فاذا دخلت فيهم الشياطين فقد يدخلون النار ولا تحرقهم كما يضرب أحدهم الف سوط ولا يحس بذلك فإن الشياطين تتلقى ذلك وهذا أمر كثير معروف قد رأينا من ذلك ما يطول وصفه وقد ضربنا نحن من الشياطين في الانس ما شاء الله حتى خرجوا من الانس ولم يعاودوه وفيهم من يخرج بالذكر والقرآن وفيهم من يخرج بالوعظ والتخويف وفيهم من لا يخرج إلا بالعقوبة كالانس فهؤلاء الشياطين اذا كانوا مع جنسهم الذين لا يهابونهم فعلوا هذه الامور وأما اذا كانوا عند أهل ايمان وتوحيد وفي بيوت الله التي يذكر فيها اسمه لم يجترئوا على ذلك بل يخافون الرجل الصالح أعظم مما يخافه فجار الانس ولهذا لا يمكنهم عمل سماع المكاء والتصدية في المساجد المعمورة بذكر الله ولا بين أهل الايمان والشريعة المتبعين للرسول إنما يمكنهم ذلك في الأماكن التي تأتيها الشياطين كالمساجد المهجورة والمشاهد والمقابر والحمامات والمواخير