المغني - كتاب الغصب
المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي
(الجزء الثامن عشر – كتاب الغصب) • كتاب الغصب o مسألة: مسألة: من غصب أرضًا فغرسها أخذ بقلع غرسه وأجرتها إلى وقت تسليمها o الفصل الثاني: إذا غرس في أرض غيره بغير إذنه أو بنى فيها o فصل: الحكم فيما إذا بنى في الأرض كالحكم فيما إذا غرس فيها o فصل: إن غصب دارًا فجصصها وزوقها وطالبه ربها بإزالته o فصل: إن غصب أرضًا فكشط ترابها o فصل: إن غصب أرضًا فحفر فيها بئرًا o الفصل الثالث: على الغاصب أجر الأرض منذ غصبها إلى وقت تسليمها o الفصل الرابع: إن على الغاصب ضمان نقص الأرض o فصل: قدر الأرش قدر نقص القيمة في جميع الأعيان o فصل: إن غصب عبدًا فجنى عليه جناية مقدرة الدية o فصل: إن غصب عبدًا فقطع آخر يده o فصل: إن غصب عبدًا فقطع أذنيه أو يديه o فصل: إن جنى العبد المغصوب فجنايته مضمونة على الغاصب o فصل: إذا نقصت عين المغصوب دون قيمته o فصل: إن غصب عبدًا فسمن سمنًا نقصت به قيمته o فصل: إن نقص المغصوب نقصًا غير مستقر o مسألة: إن كان زرعها فأدركها ربها والزرع قائم كان الزرع لصاحب الأرض o فصل: إن كان الزرع مما يبقى أصوله في الأرض ويجز مرة بعد أخرى o فصل: إن غصب أرضًا فغرسها فأثمرت فأدركها ربها بعد أخذ الغاصب o فصل: إن غصب شجرا فأثمر فالثمر لصاحب الشجر o فصل: إذا غصب أرضًا فحكمها في جواز دخول غيره إليها حكمها قبل الغصب o فصل: إن مرض المغصوب ثم برأ o فصل: زوائد الغصب في يد الغاصب مضمونة ضمان الغصب o فصل: ليس على الغاصب ضمان نقص القيمة الحاصل o فصل: فصل: لو غصب شيئًا فشقه نصفين وكان ثوبًا ينقصه القطع o فصل: إن غصب ثوبًا فلبسه فأبلاه فنقص نصف قيمته o فصل: إن غصب ثوبًا أو زوليًا فذهب بعض أجزائه o فصل: إذا نقص المغصوب عند الغاصب ثم باعه فتلف عند المشتري o فصل: إذا غصب حنطة فطحنها o فصل: إن غصب حبا فزرعه فصار زرعًا o فصل: إن غصب دنانير أو دراهم من رجل o فصل: وإن غصب عبدًا فصاد صيدًا o مسألة: من غصب جارية فوطئها وأولدها لزمه الحد o فصل: الغاصب يكون جاهلاً o مسألة: قال: إن كان الغاصب باعها فوطئها المشتري وأولدها وهو لا يعلم o فصل: من استكره امرأة على الزنى فعليه الحد دونها o فصل: إذا أجر الغاصب المغصوب o فصل: إن أودع المغصوب أو وكل رجلا في بيعه o فصل: إن أعار العين المغصوبة فتلفت عند المستعير o فصل: إن وهب المغصوب لعالم بالغصب o فصل: تصرفات الغاصب كتصرفات o فصل: إذا غصب أثمانًا فاتجر بها o مسألة: من غصب شيئًا ولم يقدر على رده o فصل: إذا غصب شيئًا ببلد فلقيه ببلد آخر o مسألة: لو غصبها حاملاً فولدت في يده o فصل: إن كان المغصوب من المثليات فتلف وجب رد مثله o مسألة: إذا كانت للمغصوب أجرة فعلى الغاصب رده o فصل: إن غصب شيئًا فشغله بملكه كخيط خاط به ثوبًا أو نحوه o فصل: إن غصب فصيلًا فأدخله داره فكبر ولم يخرج من الباب o فصل: إن غصب جوهرة فابتلعتها بهيمة o فصل: إن غصب دينارًا فوقع في محبرته o فصل: إن غصب لوحًا فرقع به سفينة o فصل: إذا غصب شيئاً فخلطه بما يمكن تمييزه منه o فصل: إن غصب ثوبا فصبغه o فصل: إذا غصب طعامًا فأطعمه غيره o فصل: إذا اختلف المالك والغاصب في قيمة المغصوب o فصل: إذا باع عبدا فادعى إنسان على البائع أنه غصبه العبد o فصل: إن كان المشتري أعتق العبد فأقرا جميعًا o فصل: إذا باع عبدًا أو وهبه ثم ادعى إني فعلت ذلك قبل أن أملكه o مسألة: من أتلف لذمي خمرًا أو خنزيرًا o فصل: إن غصب من ذمي خمرًا لزمه ردها o فصل: إن غصب كلبًا يجوز اقتناؤه وجب رده o فصل: إن كسر صليبًا أو مزمارًا أو طنبورًا o فصل: إن كسر آنية ذهب أو فضة o فصل: إن كسر آنية الخمر o فصل: لا يثبت الغصب فيما ليس بمال o فصل: أم الولد مضمونة بالغصب o فصل: إذا فتح قفصًا عن طائر فطار o فصل: لو حل زقًا فيه مائع فاندفق ضمنه o فصل: إن حل رباط سفينة فذهبت أو غرقت فعليه قيمتها o فصل: إذا أوقد في ملكه نارًا أو في موات فطارت شرارة إلى دار جاره فأحرقتها o فصل: إن ألقت الريح إلى داره ثوب غيره لزمه حفظه o فصل: إذا أكلت بهيمة حشيش قوم ويد صاحبها عليها o فصل: إذا شهد بالغصب شاهدان
كتاب الغصب
مسألة:
قال: [ من غصب أرضا, فغرسها أخذ بقلع غرسه وأجرتها إلى وقت تسليمها ومقدار نقصانها, إن كان نقصها الغرس] الكلام في هذه المسألة في فصول: أحدها أنه يتصور غصب العقار من الأراضي والدور ويجب ضمانها على غاصبها هذا ظاهر مذهب أحمد وهو المنصوص عن أصحابه, وبه قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وروى ابن منصور عن أحمد في من غصب أرضا فزرعها ثم أصابها غرق من الغاصب, غرم قيمة الأرض وإن كان شيئا من السماء لم يكن عليه شيء وظاهر هذا أنها لا تضمن بالغصب وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يتصور غصبها, ولا تضمن بالغصب وإن أتلفها ضمنها بالإتلاف لأنه لا يوجد فيها النقل والتحويل, فلم يضمنها كما لو حال بينه وبين متاعه فتلف المتاع لأن الغصب إثبات اليد على المال عدوانا على وجه تزول به يد المالك, ولا يمكن ذلك في العقار ولنا قول النبي ـ ﷺ ـ : (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) رواه البخاري عن عائشة وفي لفظ: (من غصب شبرا من الأرض) فأخبر النبي ـ ﷺ ـ أنه يغصب ويظلم فيه ولأن ما ضمن في البيع, وجب ضمانه في الغصب كالمنقول ولأنه يمكن الاستيلاء عليه على وجه يحول بينه وبين مالكه, مثل أن يسكن الدار ويمنع مالكها من دخولها فأشبه ما لو أخذ الدابة والمتاع وأما إذا حال بينه وبين متاعه فما استولى على ماله, فنظيره ها هنا أن يحبس المالك ولا يستولي على داره وأما ما تلف من الأرض بفعله أو سبب فعله, كهدم حيطانها وتغريقها وكشط ترابها, وإلقاء الحجارة فيها أو نقص يحصل بغرسه أو بنائه فيضمنه بغير اختلاف في المذهب, ولا بين العلماء لأن هذا إتلاف والعقار يضمن بالإتلاف من غير اختلاف ولا يحصل الغصب من غير استيلاء فلو دخل أرض إنسان أو داره, لم يضمنها بدخوله سواء دخلها بإذنه أو غير إذنه وسواء كان صاحبها فيها أو لم يكن وقال بعض أصحاب الشافعي: إن دخلها بغير إذنه, ولم يكن صاحبها فيها ضمنها سواء قصد ذلك, أو ظن أنها داره أو دار أذن له في دخولها لأن يد الداخل ثبتت عليها بذلك فيصير غاصبا, فإن الغصب إثبات اليد العادية وهذا قد ثبتت يده بدليل أنهما لو تنازعا في الدار ولا بينة لهما, حكم بها لمن هو فيها دون الخارج منها ولنا أنه غير مستول عليها, فلم يضمنها كما لو دخلها بإذنه أو دخل صحراءه, ولأنه إنما يضمن بالغصب ما يضمنه في العارية وهذا لا تثبت به العارية ولا يجب به الضمان فيها, فكذلك لا يثبت به الغصب إذا كان بغير إذن.
الفصل الثاني:
أنه إذا غرس في أرض غيره بغير إذنه أو بنى فيها, فطلب صاحب الأرض قلع غراسه أو بنائه لزم الغاصب ذلك ولا نعلم فيه خلافا لما روى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن النبي ـ ﷺ ـ قال: (ليس لعرق ظالم حق) رواه أبو داود, والترمذي وقال: حديث حسن وروى أبو داود وأبو عبيد في الحديث أنه قال: فلقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث (أن رجلا غرس في أرض رجل من الأنصار, من بني بياضة فاختصما إلى النبي ـ ﷺ ـ فقضى للرجل بأرضه وقضى للآخر أن ينزع نخله قال: فلقد رأيتها تضرب في أصولها بالفؤوس, وإنها لنخل عم) ولأنه شغل ملك غيره بملكه الذي لا حرمة له في نفسه بغير إذنه, فلزمه تفريغه كما لو جعل فيه قماشا وإذ قلعها لزمه تسوية الحفر ورد الأرض إلى ما كانت عليه لأنه ضرر حصل بفعله في ملك غيره, فلزمته إزالته وإن أراد صاحب الأرض أخذ الشجر والبناء بغير عوض لم يكن له ذلك لأنه عين مال الغاصب فلم يملك صاحب الأرض أخذه, كما لو وضع فيها أثاثا أو حيوانا وإن طلب أخذه بقيمته وأبى مالكه إلا القلع فله القلع لأنه ملكه, فملك نقله ولا يجبر على أخذ القيمة لأنها معاوضة فلم يجبر عليها وإن اتفق على تعويضه عنه بالقيمة أو غيرها جاز لأن الحق لهما, فجاز ما اتفقا عليه وإن وهب الغاصب الغراس والبناء لمالك الأرض ليتخلص من قلعه وقبله المالك, جاز وإن أبى قبوله وكان في قلعه غرض صحيح لم يجبر على قبوله لما تقدم وإن لم يكن فيه غرض صحيح احتمل أن يجبر على قبوله لأن فيه رفع الخصومة من غير غرض يفوت, ويحتمل أن لا يجبر لأن فيه إجبارا على عقد يعتبر الرضا فيه وإن غصب أرضا وغراسا من رجل واحد فغرسه فيها فالكل لمالك الأرض فإن طالبه المالك بقلعه وفي قلعه غرض, أجبر على قلعه لأنه فوت عليه غرضا مقصودا بالأرض فأخذ بإعادتها إلى ما كانت وعليه تسوية الأرض, ونقصها ونقص الغراس لما ذكرنا وإن لم يكن في قلعه غرض لم يجبر على قلعه لأنه سفه, فلا يجبر على السفه وقيل: يجبر لأن المالك محكم في ملكه والغاصب غير محكم فإن أراد الغاصب قلعه, ومنعه المالك لم يملك قلعه لأن الجميع ملك للمغصوب منه فلم يملك غيره التصرف فيه بغير إذنه.
فصل:
والحكم فيما إذا بنى في الأرض كالحكم فيما إذا غرس فيها في هذا التفصيل جميعه, إلا أنه يتخرج أنه إذا بذل مالك الأرض القيمة لصاحب البناء أجبر على قبولها إذا لم يكن في النقض غرض صحيح لأن النقض سفه والأول أصح لما روى الخلال بإسناده عن الزهري, عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله ـ ﷺ ـ : (من بنى في رباع قوم بإذنهم فله القيمة, ومن بنى بغير إذنهم فله النقض) ولأن ذلك معاوضة فلا يجبر عليها وإذا كانت الآلة من تراب الأرض وأحجارها فليس للغاصب النقض, على ما ذكرنا في الغرس.
فصل:
وإن غصب دارا فجصصها وزوقها وطالبه ربها بإزالته وفي إزالته غرض, لزمه إزالته وأرش نقصها إن نقصت وإن لم يكن فيه غرض, فوهبه الغاصب لمالكها أجبر على قبوله لأن ذلك صفة في الدار فأشبه قصارة الثوب ويحتمل أن لا يجبر لأنها أعيان متميزة, فصارت بمنزلة القماش وإن طلب الغاصب قلعه ومنعه المالك وكان له قيمة بعد الكشط, فللغاصب قلعه كما يملك قلع غراسه سواء بذل له المالك قيمته, أو لم يبذل وإن لم يكن له قيمة ففيه وجهان أحدهما يملك قلعه لأنه عين ماله والثاني, لا يملك لأنه سفه يضر ولا ينفع فلم يجبر عليه.
فصل:
وإن غصب أرضا فكشط ترابها, لزمه رده وفرشه على ما كان إن طلبه المالك وكان فيه غرض صحيح, وإن لم يكن فيه غرض فهل يجبر على فرشه؟ يحتمل وجهين وإن منعه المالك فرشه أو رده وطلب الغاصب ذلك, وكان في رده غرض من إزالة ضرر أو ضمان فله فرشه ورده, وعليه أجر مثلها مدة شغلها وأجر نقصها وإن أخذ تراب أرض فضربه لبناء رد, ولا شيء له إلا أن يكون قد جعل فيه تبنا له فيكون له أن يحله ويأخذ تبنه وإن كان لا يحصل منه شيء, ففيه وجهان بناء على كشط التزويق إذا لم يكن له قيمة وإن طالبه المالك بحله لزمه ذلك إذا كان فيه غرض, وإن لم يكن فيه غرض فعلى وجهين وإن جعله آجرا أو فخارا لزمه رده, ولا أجر له لعمله وليس له كسره ولا للمالك إجباره عليه لأن ذلك سفه لا يفيد, وإتلاف للمال وإضاعة له وقد (نهى النبي ـ ﷺ ـ عن إضاعة المال).
فصل:
وإن غصب أرضا, فحفر فيها بئرا فطالبه المالك بطمها لزمه ذلك لأنه يضر بالأرض ولأن التراب ملكه, نقله من موضعه فلزمه رده كتراب الأرض وكذلك إن حفر فيها نهرا, أو حفر بئرا في ملك رجل بغير إذنه وإن أراد الغاصب طمها فمنعه المالك نظرنا فإن كان له غرض في طمها, بأن يسقط عنه ضمان ما يقع فيها أو يكون قد نقل ترابها إلى ملك نفسه أو ملك غيره, أو طريق يحتاج إلى تفريغه فله الرد لما فيه من الغرض وبهذا قال الشافعي وإن لم يكن له غرض في طم البئر مثل أن يكون قد وضع التراب في ملك المغصوب منه, وأبرأه المغصوب منه مما حفر وأذن فيه لم يكن له طمها, في أحد الوجهين لأنه إتلاف لا نفع فيه فلم يكن له فعله كما لو غصب نقرة, فطبعها دراهم ثم أراد جعلها نقرة وبهذا قال أبو حنيفة والمزني وبعض الشافعية وقال بعضهم: له طمها وهو الوجه الثاني لنا لأنه لا يبرأ من الضمان بإبراء المالك لأنه إبراء مما لم يجب بعد, وهو أيضا إبراء من حق غيره وهو الواقع فيها ولنا أن الضمان إنما لزمه لوجود التعدي فإذا رضي صاحب الأرض, زال التعدي فزال الضمان وليس هذا إبراء مما لم يجب, وإنما هو إسقاط التعدي برضائه به وهكذا ينبغي أن يكون إذا لم يتلفظ بالإبراء ولكن منعه من طمها لأنه يتضمن رضاه بذلك.
الفصل الثالث:
أن على الغاصب أجر الأرض منذ غصبها إلى وقت تسليمها وهكذا كل ما له أجر فعلى الغاصب أجر مثله, سواء استوفى المنافع أو تركها حتى ذهبت لأنها تلفت في يده العادية فكان عليه عوضها كالأعيان وإن غصب أرضا, فبناها دارا فإن كانت آلات بنائها من مال الغاصب فعليه أجر الأرض دون بنائها لأنه إنما غصب الأرض والبناء له, فلم يلزمه أجر ماله وإن بناها بتراب منها وآلات للمغصوب منه فعليه أجرها مبنية لأن الدار كلها ملك للمغصوب منه, وإنما للغاصب فيها أثر الفعل فلا يكون في مقابلته أجر لأنه وقع عدوانا وإن غصب دارا فنقضها, ولم يبنها فعليه أجر دار إلى حين نقضها وأجرها مهدومة من حين نقضها إلى حين ردها لأن البناء انهدم وتلف, فلم يجب أجره مع تلفها وإن نقضها ثم بناها بآلة من عنده فالحكم فيها كذلك وإن بناها بآلتها, أو آلة من ترابها أو ملك المغصوب منه فعليه أجرها عرصة, منذ نقضها إلى أن بناها وأجرها دارا فيما قبل ذلك وبعده لأن البناء للمالك وحكمها في نقض بنائها الذي بناه الغاصب حكم ما لو غصبها عرصة فبناها وإن كان الغاصب باعها, فبناها المشتري أو نقضها ثم بناها فالحكم لا يختلف, لكن للمالك مطالبة من شاء منهما والرجوع عليه فإن رجع على الغاصب, رجع الغاصب على المشتري بقيمة ما تلف من الأعيان لأن المشتري دخل على أنه مضمون عليه بالعوض فاستقر ضمانه عليه وإن رجع المالك على المشتري رجع المشتري على الغاصب بنقص التالف, ولم يرجع بقيمة ما تلف وهل يرجع كل واحد منهما على صاحبه بالأجر؟ على روايتين وليس له مطالبة المشتري من الأجر إلا بأجر مدة مقامها في يديه لأن يده إنما ثبتت عليها حينئذ.
الفصل الرابع:
إن على الغاصب ضمان نقص الأرض إن كان نقصها الغرس أو نقصت بغيره وهكذا كل عين مغصوبة, على الغاصب ضمان نقصها إذا كان نقصا مستقرا كثوب تخرق وإناء تكسر, وطعام سوس وبناء خرب ونحوه, فإنه يردها وأرش النقص لأنه نقص حصل في يد الغاصب فوجب ضمانه كالقفيز من الطعام, والذراع من الثوب وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: إذا شق رجل لرجل ثوبا شقا قليلا أخذ أرشه وإن كان كثيرا فصاحبه بالخيار بين تسليمه وأخذ قيمته, وبين إمساكه وأخذ أرشه وقد روي عن أحمد كلام يحتمل هذا فإنه قال في رواية موسى بن سعيد في الثوب: إن شاء شق الثوب, وإن شاء مثله يعنى والله أعلم إن شاء أخذ أرش الشق ووجهه أن هذه جناية أتلفت معظم منفعته فكانت له المطالبة بقيمته كما لو قتل شاة له وحكى أصحاب مالك عنه, أنه إذا جنى على عين فأتلف غرض صاحبها فيها كان المجني عليه بالخيار, إن شاء رجع بما نقصت وإن شاء سلمها وأخذ قيمتها ولعل ما يحكى عنه من قطع ذنب حمار القاضي ينبني على ذلك لأنه أتلف غرضه به, فإنه لا يركبه في العادة وحجتهم أنه أتلف المنفعة المقصودة من السلعة فلزمته قيمتها كما لو أتلف جميعها ولنا, أنها جناية على مال أرشها دون قيمته فلم يملك المطالبة بجميع قيمته كما لو كان الشق يسيرا, ولأنها جناية تنقص بها القيمة فأشبه ما لو لم يتلف غرض صاحبها وفي الشاة تلف جميعها لأن الاعتبار في الإتلاف بالمجني عليه, لا بغرض صاحبه لأن هذا إن لم يصلح لهذا صلح لغيره.
فصل: وقدر الأرش قدر نقص القيمة في جميع الأعيان وبهذا قال الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أن عين الدابة تضمن بربع قيمتها فإنه قال في رواية أبي الحارث, في رجل فقأ عين دابة لرجل: عليه ربع قيمتها قيل له: فقأ العينين؟ فقال: إذا كانت واحدة فقال عمر ربع القيمة وأما العينان فما سمعت فيهما شيئا قيل له: فإن كان بعيرا أو بقرة أو شاة؟ فقال: هذا غير الدابة, هذا ينتفع بلحمه ينظر ما نقصها وهذا يدل على أن أحمد إنما أوجب مقدارا في العين الواحدة من الدابة وهي الفرس والبغل والحمار خاصة للأثر الوارد فيه, وما عدا هذا يرجع إلى القياس واحتج أصحابنا لهذه الرواية بما روى زيد بن ثابت (أن النبي ـ ﷺ ـ قضى في عين الدابة بربع قيمتها) وروى عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه كتب إلى شريح لما كتب إليه يسأله عن عين الدابة: إنا كنا ننزلها منزلة الآدمي إلا أنه أجمع رأينا أن قيمتها ربع الثمن وهذا إجماع يقدم على القياس ذكر هذين أبو الخطاب في " رءوس المسائل " وقال أبو حنيفة إذا قلع عين بهيمة ينتفع بها من وجهتين, كالدابة والبعير والبقرة وجب نصف قيمتها وفي إحداهما ربع قيمتها لقول عمر رضي الله عنه أجمع رأينا على أن قيمتها ربع الثمن وروى عن أحمد في العبد, أنه يضمن في الغصب بما يضمن به في الجناية ففي يده نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنه ضمان لأبعاض العبد, فكان مقدرا من قيمته كأرش الجناية ولنا أنه ضمان مال من غير جناية, فكان الواجب ما نقص كالثوب وذلك لأن القصد بالضمان جبر حق المالك بإيجاب قدر المفوت عليه, وقدر النقص هو الجابر ولأنه لو فات الجميع لوجبت قيمته فإذا فات منه شيء وجب قدره من القيمة, كغير الحيوان وأما حديث زيد بن ثابت فلا أصل له ولو كان صحيحا لما احتج أحمد وغيره بحديث عمر وتركوه, فإن قول النبي ـ ﷺ ـ أحق أن يحتج به وأما قول عمر فمحمول على أن ذلك كان قدر نقصها كما روي عنه أنه قضى في العين القائمة بخمسين دينارا, ولو كان تقديرا لوجب في العين نصف القيمة كعين الآدمي وأما ضمان الجناية على أطراف العبد, فمعدول به عن القياس للإلحاق بالجناية على الحر والواجب ها هنا ضمان اليد, ولا تثبت اليد على الحر فوجب البقاء فيه على موجب الأصل وإلحاقه بسائر الأموال المغصوبة وقول أبي حنيفة إن هذا في بهيمة الأنعام والدابة لا يصح لأن هذا القول مبني على قول عمر وقول عمر إنما هو في الدابة, والدابة في العرف ما يعد للركوب دون بهيمة الأنعام.
فصل:
وإن غصب عبدا فجنى عليه جناية مقدرة الدية فعلى قولنا: ضمان الغصب ضمان الجناية الواجب أرش الجناية, كما لو جنى عليه من غير غصب فنقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر وإن قلنا: ضمان الغصب غير ضمان الجناية وهو الصحيح فعليه أكثر الأمرين, من أرش النقص أو دية ذلك العضو لأن سبب ضمان كل واحد منهما وجد فوجب أكثرهما, ودخل الآخر فيه فإن الجناية واليد وجدا جميعا فإن غصب عبدا يساوي ألفا فزادت قيمته فصار يساوي ألفين, ثم قطع يده فنقص ألفا لزمه ألف, ورد العبد لأن سبب زيادة السوق مع تلف العين مضمونة ويد العبد كنصفه فكأنه بقطع يده فوت نصفه وإن نقص ألفا وخمسمائة, وقلنا: الواجب ما نقص فعليه ألف وخمسمائة ويرد العبد وإن قلنا: ضمان الجناية فعليه ألف ورد العبد فحسب وإن نقص خمسمائة, فعليه رد العبد وهل يلزمه ألف أو خمسمائة؟ على وجهين.
فصل:
وإن غصب عبدا فقطع آخر يده, فللمالك تضمين أيهما شاء لأن الجاني قطع يده والغاصب حصل النقص في يده إن ضمن الجاني, فله تضمينه نصف قيمته لا غير ولا يرجع على أحد لأنه لم يضمنه أكثر مما وجب عليه ويضمن الغاصب ما زاد على نصف القيمة إن نقص أكثر من النصف ولا يرجع على أحد وإن قلنا: إن ضمان الغصب ضمان الجناية, أو لم ينقص أكثر من نصف قيمته لم يضمن الغاصب ها هنا شيئا وإن اختار تضمين الغاصب وقلنا: إن ضمان الغصب كضمان الجناية ضمنه نصف القيمة ورجع بها الغاصب على الجاني لأن التلف حصل بفعله فاستقر الضمان عليه وإن قلنا: إن ضمان الغصب بما نقص فلرب العبد تضمينه بأكثر الأمرين لأن ما وجد في يده فهو في حكم الموجود منه, ثم يرجع الغاصب على الجاني بنصف القيمة لأنها أرش جنايته فلا يجب عليه أكثر منها.
فصل:
وإن غصب عبدا فقطع أذنيه أو يديه, أو ذكره أو أنفه أو لسانه أو خصيتيه, لزمته قيمته كلها ورد العبد نص عليه أحمد وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة والثوري يخير المالك بين أن يصبر ولا شيء له وبين أخذ قيمته ويملكه الجاني لأنه ضمان مال, فلا يبقى ملك صاحبه عليه مع ضمانه له كسائر الأموال ولنا أن المتلف البعض, فلا يقف ضمانه على زوال الملك عن جملته كقطع ذكر المدبر وكقطع إحدى يديه أو أذنيه, ولأن المضمون هو المفوت فلا يزول الملك عن غيره بضمانه كما لو قطع تسع أصابع وبهذا ينفصل عما ذكروه, فإن الضمان في مقابلة المتلف لا في مقابلة الجملة فأما إن ذهبت هذه الأعضاء بغير جناية فهل يضمنها ضمان الإتلاف, أو بما نقص؟ على روايتين سبق ذكرهما.
فصل:
وإن جنى العبد المغصوب فجنايته مضمونة على الغاصب لأنه نقص في العبد الجاني, لكون أرش الجناية يتعلق برقبته فكان مضمونا على الغاصب كسائر نقصه وسواء في ذلك ما يوجب القصاص أو المال ولا يلزمه أكثر من النقص الذي لحق العبد وإن جنى على سيده, فجنايته مضمونة على الغاصب أيضا لأنها من جملة جناياته فكان مضمونا على الغاصب كالجناية على الأجنبي.
فصل:
إذا نقصت عين المغصوب دون قيمته, فذلك على ثلاثة أقسام أحدها أن يكون الذاهب جزءا مقدر البدل كعبد خصاه, وزيت أغلاه ونقرة ضربها دراهم فنقصت عينها دون قيمتها فإنه يجب ضمان النقص, فيضمن نقص العبد بقيمته ونقص الزيت والنقرة بمثلهما مع رد الباقي منهما لأن الناقص من العين له بدل مقدر فلزمه ما تقدر به, كما لو أذهب الجميع الثاني أن لا يكون مقدرا مثل إن غصب عبدا ذا سمن مفرط, فخف جسمه ولم تنقص قيمته فلا شيء فيه سوى رده لأن الشرع إنما أوجب في هذا ما نقص من القيمة, ولم يقدر بدله ولم تنقص القيمة فلم يجب شيء, بخلاف الصورة الأولى فإن الذاهب مقدر البدل فلم يسقط بدله الثالث أن يكون النقص في مقدر البدل, لكن الذاهب منه أجزاء غير مقصودة كعصير أغلاه فذهبت مائيته وانعقدت أجزاؤه, فنقصت عينه دون قيمته ففيه وجهان أحدهما لا شيء فيه سوى رده لأن النار إنما أذهبت مائيته التي يقصد ذهابها, ولهذا تزداد حلاوته وتكثر قيمته فلم يجب ضمانها, كسمن العبد الذي ينقص قيمته والثاني يجب ضمانه لأنه مقدر البدل فأشبه الزيت إذا أغلاه وإن نقصت العين والقيمة جميعا, وجب في الزيت وشبهه ضمان النقصين جميعا لأن كل واحد منهما مضمون منفردا فكذلك إذا اجتمعا وذلك مثل أن يكون رطل زيت قيمته درهم, فأغلاه فنقص ثلثه فصار قيمة الباقي نصف درهم, فعليه ثلث رطل وسدس درهم وإن كانت قيمة الباقي ثلثي درهم فليس عليه أكثر من ثلث رطل لأن قيمة الباقي لم تنقص وإن خصى العبد فنقصت قيمته, فليس عليه أكثر من ضمان خصيتيه لأن ذلك بمنزلة ما لو فقأ عينيه وهل يجب في العصير ما نقص من القيمة أو يكون كالزيت؟ على وجهين.
فصل:
وإن غصب عبدا فسمن سمنا نقصت به قيمته أو كان شابا فصار شيخا, أو كانت الجارية ناهدا فسقط ثدياها وجب أرش النقص لا نعلم فيه خلافا فإن كان العبد أمرد فنبتت لحيته فنقصت قيمته وجب ضمان نقصه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجب ضمانه لأن الفائت لا يقصد قصدا صحيحا, فأشبه الصناعة المحرمة ولنا أنه نقص في القيمة بتغير صفته فيضمنه, كبقية الصور.
فصل:
وإن نقص المغصوب نقصا غير مستقر كطعام ابتل وخيف فساده أو عفن وخشي تلفه فعليه ضمان نقصه وهذا منصوص الشافعي وله قول آخر أنه لا يضمن نقصه وقال القاضي: يلزمه بدله, لأنه لا يعلم قدر نقصه وكلما نقص شيئا ضمنه لأنه يستند إلى السبب الموجود في يد الغاصب فكان كالموجود في يده, وقال أبو الخطاب يتخير صاحبه بين أخذ بدله وبين تركه حتى يستقر فساده ويأخذ أرش نقصه وقال أبو حنيفة يتخير بين إمساكه ولا شيء له, أو تسليمه إلى الغاصب ويأخذ منه قيمته لأنه لو ضمن النقص لحصل له مثل كيله وزيادة وهذا لا يجوز كما لو باع قفيزا جيدا بقفيز رديء ودرهم ولنا, أن عين ماله باقية وإنما حدث فيه نقص فوجب فيه ما نقص, كما لو كان عبدا فمرض وقد وافق بعض أصحاب الشافعي على هذا في العفن وقال: يضمن ما نقص قولا واحدا ولا يضمن ما تولد منه لأنه ليس من فعله وهذا الفرق لا يصح لأن البلل قد يكون من غير فعله أيضا, وقد يكون العفن بسبب منه ثم إن ما وجد في يد الغاصب فهو مضمون عليه لوجوده في يده, فلا فرق وقول أبي حنيفة لا يصح لأن هذا الطعام عين ماله وليس ببدل عنه وقول أبي الخطاب لا بأس به.
مسألة:
قال: [وإن كان زرعها فأدركها ربها والزرع قائم, كان الزرع لصاحب الأرض وعليه النفقة وإن استحقت بعد أخذ الغاصب الزرع, فعليه أجرة الأرض] قوله: " فأدركها ربها " يعني استرجعها من الغاصب أو قدر على أخذها منه وهو معنى قوله: " استحقت " يعني أخذها مستحقها فمتى كان هذا بعد حصاد الغاصب الزرع فإنه للغاصب لا نعلم فيه خلافا وذلك لأنه نماء ماله, وعليه الأجرة إلى وقت التسليم وضمان النقص ولو لم يزرعها فنقصت لترك الزراعة كأراضي البصرة, أو نقصت لغير ذلك ضمن نقصها أيضا لما قدمنا في المسألة التي قبل هذه فأما إن أخذها صاحبها والزرع قائم فيها لم يملك إجبار الغاصب على قلعه, وخير المالك بين أن يقر الزرع في الأرض إلى الحصاد ويأخذ من الغاصب أجر الأرض وأرش نقصها وبين أن يدفع إليه نفقته ويكون الزرع له وبهذا قال أبو عبيد وقال أكثر الفقهاء: يملك إجبار الغاصب على قلعه, والحكم فيه كالغرس سواء لقوله عليه السلام: (ليس لعرق ظالم حق) ولأنه زرع في أرض غيره ظلما أشبه الغراس ولنا, ما روى رافع بن خديج قال: قال رسول الله: ـ ﷺ ـ (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء, وعليه نفقته) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن فيه دليل على أن الغاصب لا يجبر على قلعه لأنه ملك للمغصوب منه وروى (أن النبي ـ ﷺ ـ رأى زرعا في أرض ظهير, فأعجبه فقال: ما أحسن زرع ظهير فقال: إنه ليس لظهير ولكنه لفلان قال: فخذوا زرعكم, وردوا عليه نفقته قال رافع: فأخذنا زرعنا ورددنا عليه نفقته) ولأنه أمكن رد المغصوب إلى مالكه من غير إتلاف مال الغاصب على قرب من الزمان, فلم يجز إتلافه كما لو غصب سفينة فحمل فيها ماله وأدخلها البحر, أو غصب لوحا فرقع به سفينة فإنه لا يجبر على رد المغصوب في اللجة وينتظر حتى ترسي, صيانة للمال عن التلف كذا ها هنا ولأنه زرع حصل في ملك غيره فلم يجبر على قلعه على وجه يضر به كما لو كانت الأرض مستعارة أو مشفوعة وفارق الشجر والنخل لأن مدته تتطاول ولا يعلم متى ينقطع من الأرض, فانتظاره يؤدي إلى ترك رد الأصل بالكلية وحديثهم ورد في الغرس وحديثنا في الزرع فيجمع بين الحديثين, ويعمل بكل واحد منهما في موضعه وذلك أولى من إبطال أحدهما إذا ثبت هذا فمتى رضي المالك بترك الزرع للغاصب ويأخذ منه أجر الأرض فله ذلك لأنه شغل المغصوب بماله فملك صاحبه أخذ أجره, كما لو ترك في الدار طعاما أو أحجارا يحتاج في نقله إلى مدة وإن أحب أخذ الزرع فله ذلك كما يستحق الشفيع أخذ شجر المشتري بقيمته وفيما يرد على الغاصب روايتان إحداهما, قيمة الزرع لأنه بدل عن الزرع فيقدر بقيمته كما لو أتلفه ولأن الزرع للغاصب إلى حين انتزاع المالك له منه بدليل أنه لو أخذه قبل انتزاع المالك له, كان ملكا له ولو لم يكن ملكا له لما ملكه بأخذه فيكون أخذ المالك له تملكا له إلا أن يعوضه فيجب أن يكون بقيمته, كما لو أخذ الشقص المشفوع ويجب على الغاصب أجر الأرض إلى حين تسليم الزرع لأن الزرع كان محكوما له به وقد شغل به أرض غيره والرواية الثانية أنه يرد على الغاصب ما أنفق من البذر, ومؤنة الزرع في الحرث والسقي وغيره وهذا الذي ذكره القاضي وهو ظاهر كلام الخرقي وظاهر الحديث لقوله عليه السلام " عليه نفقته " وقيمة الشيء لا تسمى نفقة له والحديث, مبني على هذه المسألة: فإن أحمد إنما ذهب إلى هذا الحكم استحسانا على خلاف القياس فإن القياس أن الزرع لصاحب البذر لأنه نماء عين ماله, فأشبه ما لو غصب دجاجة فحضنت بيضا له أو طعاما فعلفه دواب له كان النماء له وقد صرح به أحمد فقال: هذا شيء لا يوافق القياس أستحسن أن يدفع إليه نفقته للأثر ولذلك جعلناه للغاصب إذا استحقت الأرض بعد أخذ الغاصب له, وإذا كان العمل بالحديث فيجب أن يتبع مدلوله.
فصل:
فإن كان الزرع مما يبقى أصوله في الأرض ويجز مرة بعد أخرى كالرطبة والنعناع, احتمل أن يكون حكمه ما ذكرنا لدخوله في عموم الزرع لأنه ليس له فرع قوي فأشبه الحنطة والشعير واحتمل أن يكون حكمه حكم الغرس لبقاء أصله وتكرر أخذه, ولأن القياس يقتضي أن يثبت لكل زرع مثل حكم الغرس وإنما ترك فيما تقل مدته للأثر ففيما عداه يبقى على قضية القياس.
فصل:
وإن غصب أرضا فغرسها فأثمرت, فأدركها ربها بعد أخذ الغاصب ثمرتها فهي له وإن أدركها والثمرة فيها فكذلك لأنها ثمرة شجره, فكانت له كما لو كانت في أرضه ولأنها نماء أصل محكوم به للغاصب, فكان له كأغصانها وورقها ولبن الشاة وولدها وقال القاضي: هي لمالك الأرض إن أدركها في الغراس لأن أحمد قال في رواية على بن سعيد: إذا غصب أرضا فغرسها, فالنماء لمالك الأرض قال القاضي: وعليه من النفقة ما أنفقه الغارس من مؤنة الثمرة لأن الثمرة في معنى الزرع فكانت لصاحب الأرض إذا أدركه قائما فيها كالزرع والأول أصح لأن أحمد قد صرح بأن أخذ رب الأرض الزرع شيء لا يوافق القياس وإنما صار إليه للأثر, فيختص الحكم به ولا يعدى إلى غيره ولأن الثمرة تفارق الزرع من وجهين أحدهما, أن الزرع نماء الأرض فكان لصاحبها والثمرة نماء الشجر فكان لصاحبه الثاني, أنه يرد عوض الزرع الذي أخذه مثل البذر الذي نبت منه الزرع مع ما أنفق عليه, ولا يمكنه مثل ذلك في الثمر. فصل: وإن غصب شجرا فأثمر فالثمر لصاحب الشجر بغير خلاف نعلمه لأنه نماء ملكه ولأن الشجر عين ملكه نما وزاد, فأشبه ما لو طالت أغصانه وعليه رد الثمر إن كان باقيا وإن كان تالفا فعليه بدله وإن كان رطبا فصار تمرا أو عنبا فصار زبيبا, فعليه رده وأرش نقصه إن نقص وليس له شيء بعمله فيه وليس للشجر أجرة لأن أجرتها لا تجوز في العقود, فكذلك في الغصب ولأن نفع الشجر تربية الثمر وإخراجه وقد عادت هذه المنافع إلى المالك ولو كانت ماشية, فعليه ضمان ولدها إن ولدت عنده ويضمن لبنها بمثله لأنه من ذوات الأمثال ويضمن أوبارها وأشعارها بمثله, كالقطن.
فصل:
وإذا غصب أرضا فحكمها في جواز دخول غيره إليها حكمها قبل الغصب فإن كانت محوطة كالدار والبستان المحوط, لم يجز لغير مالكها دخولها لأن ملك مالكها لم يزل عنها فلم يجز دخولها بغير إذنه كما لو كانت في يده قال أحمد, في الضيعة تصير غيضة فيها سمك: لا يصيد فيها أحد إلا بإذنهم وإن كانت صحراء جاز الدخول فيها ورعى حشيشها قال أحمد لا بأس برعى الكلأ في الأرض المغصوبة وذلك لأن الكلأ لا يملك بملك الأرض ويتخرج في كل واحدة من الصورتين مثل حكم الأخرى قياسا لها عليها ونقل عنه المروذي في رجل والداه في دار طوابيقها غصب لا يدخل على والديه, وذلك لأن دخوله عليهما تصرف في الطوابيق المغصوبة ونقل عنه الفضل بن عبد الصمد في رجل له إخوة في أرض غصب: يزورهم ويراودهم على الخروج فإن أجابوه, وإلا لم يقم معهم ولا يدع زيارتهم يعني يزورهم بحيث يأتي باب دارهم ويتعرف أخبارهم, ويسلم عليهم ويكلمهم ولا يدخل إليهم ونقل المروذي عنه: أكره المشي على العبارة التي يجري فيها الماء وذلك لأن العبارة وضعت لعبور الماء, لا للمشي عليها وربما كان المشي عليها يضر بها وقال أحمد: لا يدفن في الأرض المغصوبة لما في ذلك من التصرف في أرضهم بغير إذنهم وقال أحمد في من ابتاع طعاما من موضع غصب, ثم علم: رجع إلى الموضع الذي أخذه منه فرده وروي عنه أنه قال: يطرحه يعني على من ابتاعه منه وذلك لأن قعوده فيه حرام, منهي عنه فكان البيع فيه محرما ولأن الشراء ممن يقعد في الموضع المحرم يحملهم على القعود والبيع فيه, وترك الشراء منهم يمنعهم من القعود وقال: لا يبتاع من الخانات التي في الطرق إلا أن لا يجد غيره كأنه بمنزلة المضطر وقال في السلطان إذا بنى دارًا وجمع الناس إليها: أكره الشراء منها وهذا ـ إن شاء الله تعالى ـ على سبيل الورع, لما فيه من الإعانة على الفعل المحرم والظاهر صحة البيع لأنه إذا صحت الصلاة في الدار المغصوبة في رواية, وهي عبادة فما ليس بعبادة أولى وقال في من غصب ضيعة وغصبت من الغاصب, فأراد الثاني ردها: جمع بينهما يعني بين مالكها والغاصب الأول وإن مات بعضهم جمع ورثته إنما قال هذا احتياطا خوف التبعة من الغاصب الأول لأنه ربما طالب بها, وادعاها ملكا باليد وإلا فالواجب ردها على مالكها وقد صرح بهذا في رواية عبد الله في رجل استودع رجلا ألفا, فجاء رجل إلى المستودع فقال: إن فلانا غصبني الألف الذي استودعكه وصح ذلك عند المستودع فإن لم يخف التبعة, وهو أن يرجعوا به عليه دفعه إليه "
فصل:
وإن مرض المغصوب ثم برأ أو ابيضت عينه ثم ذهب بياضها, أو غصب جارية حسناء فسمنت سمنا نقصها ثم خف سمنها فعاد حسنها وقيمتها ردها ولا ضمان عليه لأنه لم يذهب ما له قيمة والعيب الذي أوجب الضمان زال في يديه وكذلك لو حملت فنقصت, ثم وضعت فزال نقصها لم يضمن شيئا فإن رد المغصوب ناقصا بمرض أو عيب, أو سمن مفرط أو حمل فعليه أرش نقصه, فإن زال عيبه في يدي مالكه لم يلزمه رد ما أخذ من أرشه لأنه استقر ضمانه برد المغصوب وكذلك إن أخذ المغصوب دون أرشه ثم زال العيب قبل أخذ أرشه, لم يسقط ضمانه لذلك.
فصل:
زوائد الغصب في يد الغاصب مضمونة ضمان الغصب مثل السمن وتعلم الصناعة, وغيرها وثمرة الشجرة وولد الحيوان, متى تلف شيء منه في يد الغاصب ضمنه سواء تلف منفردا أو تلف مع أصله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة, ومالك: لا يجب ضمان زوائد الغصب إلا أن يطالب بها فيمتنع من أدائها لأنها غير مغصوبة فلا يجب ضمانها, كالوديعة ودليل عدم الغصب أنه فعل محرم وثبوت يده على هذه الزوائد ليس من فعله لأنه انبنى على وجود الزوائد في يده, ووجودها ليس بفعل محرم منه ولنا أنه مال المغصوب منه حصل في يد الغاصب بالغصب, فيضمنه بالتلف كالأصل وقولهم: إن إثبات يده ليس من فعله لا يصح لأنه بإمساك الأم تسبب إلى إثبات يده على هذه الزوائد وإثبات يده على الأم محظور.
فصل:
وليس على الغاصب ضمان نقص القيمة الحاصل بتغير الأسعار نص عليه أحمد وهو قول جمهور العلماء وحكي عن أبي ثور أنه يضمنه لأنه يضمنه إذا تلفت العين, فيلزمه إذا ردها كالسمن ولنا أنه رد العين بحالها, لم ينقص منها عين ولا صفة فلم يلزمه شيء كما لو لم تنقص, ولا نسلم أنه يضمنها مع تلف العين وإن سلمنا فلأنه وجبت قيمة العين أكثر ما كانت قيمتها فدخلت في التقويم, بخلاف ما إذا ردها فإن القيمة لا تجب ويخالف السمن فإنه من عين المغصوب, والعلم بالصناعة صفة فيها وها هنا لم تذهب عين ولا صفة ولأنه لا حق للمغصوب منه في القيمة مع بقاء العين وإنما حقه في العين, وهي باقية كلها كما كانت ولأن الغاصب يضمن ما غصب والقيمة لا تدخل في الغصب, بخلاف زيادة العين فإنها مغصوبة وقد ذهبت.
فصل:
ولو غصب شيئا فشقه نصفين وكان ثوبا ينقصه القطع, رده وأرش نقصه فإن تلف أحد النصفين رد الباقي وقيمة التالف, وأرش النقص وإن لم ينقصه القطع رد الباقي وقيمة التالف لا غير وإن كانا باقيين, ردهما ولا شيء عليه سوى ذلك وإن غصب شيئين ينقصهما التفريق كزوجي خف ومصراعي باب, فتلف أحدهما رد الباقي وقيمة التالف وأرش نقصهما فإذا كانت قيمتهما ستة دراهم, فتلف أحدهما فصارت قيمة الباقي درهمين رد الباقي وأربعة دراهم وفيه وجه آخر, أنه لا يلزمه إلا قيمة التالف مع رد الباقي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه لم يتلف غيره ولأن نقص الباقي نقص قيمة فلا يضمنه, كالنقص بتغير الأسعار والصحيح الأول لأنه نقص حصل بجنايته فلزمه ضمانه كشق الثوب الذي ينقصه الشق إذا أتلف أحد شقيه, بخلاف نقص السعر فإنه لم يذهب من المغصوب عين ولا معنى وها هنا فوت معنى, وهو إمكان الانتفاع به وهذا هو الموجب لنقص قيمته وهو حاصل من جهة الغاصب, فينبغي أن يضمنه كما لو فوت بصره أو سمعه أو عقله أو فك تركيب باب ونحوه.
فصل:
وإن غصب ثوبا فلبسه فأبلاه, فنقص نصف قيمته ثم غلت الثياب فعادت لذلك قيمته, كما كانت لزمه رده وأرش نقصه فلو غصب ثوبا قيمته عشرة, فنقصه لبسه حتى صارت قيمته خمسة ثم زادت قيمته فصارت عشرة رده ورد خمسة لأن ما تلف قبل غلاء الثوب ثبتت قيمته في الذمة خمسة, فلا يعتبر ذلك بغلاء الثوب ولا رخصه وكذلك لو رخصت الثياب فصارت قيمتها ثلاثة, لم يلزم الغاصب إلا خمسة مع رد الثوب ولو تلف الثوب كله وقيمته عشرة, ثم غلت الثياب فصارت قيمة الثوب عشرين لم يضمن إلا عشرة لأنها ثبتت في الذمة عشرة, فلا تزداد بغلاء الثياب ولا تنقص برخصها.
فصل:
وإن غصب ثوبا أو زوليا فذهب بعض أجزائه, كخمل المنشفة وزئبرة الثوب فعليه أرش نقصه وإن أقام عنده مدة لمثلها أجرة, لزمه أجره سواء استعمله أو تركه وإن اجتمعا مثل أن أقام عنده مدة, فذهب بعض أجزائه فعليه ضمانهما معا الأجر وأرش النقص, سواء كان ذهاب الأجزاء بالاستعمال أو بغيره وقال بعض أصحاب الشافعي: إن نقص بغير الاستعمال كثوب ينقصه النشر فنقص بنشره, وبقي عنده مدة ضمن الأجر والنقص وإن كان النقص من جهة الاستعمال, كثوب لبسه وأبلاه ففيه وجهان أحدهما يضمنهما معا والثاني, يجب أكثر الأمرين من الأجر وأرش النقص لأن ما نقص من الأجزاء في مقابلة الأجر ولذلك لا يضمن المستأجر تلك الأجزاء ويتخرج لنا مثل ذلك ولنا, أن كل واحد منهما ينفرد بالإيجاب عن صاحبه فإذا اجتمعا وجبا كما لو أقام في يده مدة ثم تلف, والأجرة تجب في مقابلة ما يفوت من المنافع لا في مقابلة الأجزاء ولذلك يجب الأجر وإن لم تفت الأجزاء, وإن لم يكن للمغصوب أجر كثوب غير مخيط فلا أجر على الغاصب, وعليه ضمان نقصه لا غير.
فصل:
وإذا نقص المغصوب عند الغاصب ثم باعه فتلف عند المشتري فله أن يضمن من شاء منهما, فإن ضمن الغاصب ضمنه قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف لأنه في ضمانه من حين غصبه إلى يوم تلف وإن ضمن المشتري ضمنه قيمته أكثر ما كانت من حين قبضه إلى حين تلفه لأن ما قبل القبض لم يدخل في ضمانه وإن كان له أجرة فله الرجوع على الغاصب بجميعها, وإن شاء رجع على المشتري بأجر مقامه في يده والباقي على الغاصب والكلام في رجوع كل واحد منهما على صاحبه نذكره فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ .
فصل:
وإذا غصب حنطة فطحنها, أو شاة فذبحها وشواها أو حديدا فعمله سكاكين أو أواني أو خشبة فنجرها بابا أو تابوتا, أو ثوبا فقطعه وخاطه لم يزل ملك صاحبه عنه ويأخذه وأرش نقصه إن نقص, ولا شيء للغاصب في زيادته في الصحيح من المذهب وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة في هذه المسائل كلها: ينقطع حق صاحبها عنها إلا أن الغاصب لا يجوز له التصرف فيها إلا بالصدقة, إلا أن يدفع قيمتها فيملكها ويتصرف فيها كيف شاء وروى محمد بن الحكم عن أحمد ما يدل على أن الغاصب يملكها بالقيمة إلا أنه قول قديم رجع عنه, فإن محمدا مات قبل أبي عبد الله بنحو من عشرين سنة واحتجوا بما روى (أن النبي ـ ﷺ ـ زار قوما من الأنصار في دارهم فقدموا إليه شاة مشوية فتناول منها لقمة فجعل يلوكها ولا يسيغها, فقال: إن هذه الشاة لتخبرني أنها أخذت بغير وجه حق فقالوا: نعم يا رسول الله طلبنا في السوق فلم نجد فأخذنا شاة لبعض جيراننا, ونحن نرضيهم من ثمنها فقال النبي ـ ﷺ ـ : أطعموها الأسرى) رواه أبو داود بنحو من هذا وهذا يدل على أن حق أصحابها انقطع عنها ولولا ذلك لأمر بردها عليهم ولنا أن عين مال المغصوب منه قائمة, فلزم ردها إليه كما لو ذبح الشاة ولم يشوها ولأنه لو فعله بملكه لم يزل عنه, فإذا فعله بملك غيره لم يزل عنه كما لو ذبح الشاة أو ضرب النقرة دراهم, ولأنه لا يزيل الملك إذا كان بغير فعل آدمي فلم يزله إذا فعله آدمي كالذي ذكرناه, فأما الخبر فليس بمعروف كما رووه وليس في رواية أبي داود: " ونحن نرضيهم من ثمنها " فإذا ثبت هذا فإنه لا شيء للغاصب بعمله, سواء زادت العين أو لم تزد وهذا مذهب الشافعي وذكر أبو الخطاب أن الغاصب يشارك المالك بالزيادة لأنها حصلت بمنافعه ومنافعه أجريت مجرى الأعيان فأشبه ما لو غصب ثوبا فصبغه والمذهب الأول ذكره أبو بكر والقاضي لأن الغاصب عمل في ملك غيره بغير إذنه, فلم يستحق لذلك عوضا كما لو أغلى زيتا فزادت قيمته أو بنى حائطا لغيره, أو زرع حنطة إنسان في أرضه وسائر عمل الغاصب فأما صبغ الثوب فإن الصبغ عين مال, لا يزول ملك صاحبه عنه بجعله مع ملك غيره وهذا حجة عليه لأنه إذا لم يزل ملكه عن صبغه بجعله في ملك غيره وجعله كالصفة, فلأن لا يزول ملك غيره بعمله فيه أولى فإن احتج بأن من زرع في أرض غيره يرد عليه نفقته قلنا: الزرع ملك للغاصب لأنه عين ماله, ونفقته عليه تزداد به قيمته فإذا أخذه مالك الأرض احتسب له بما أنفق على ملكه, وفي مسألتنا عمله في ملك المغصوب منه بغير إذنه فكان لاغيا على أننا نقول: إنما تجب قيمة الزرع على إحدى الروايتين فأما إن نقصت العين دون القيمة, رد الموجود وقيمة النقص وإن نقصت العين والقيمة ضمنهما معا, كالزيت إذا غلاه وهكذا القول في كل ما تصرف فيه مثل نقرة ضربها دراهم أو حليا أو طينا جعله لبنا, أو غزلا نسجه أو ثوبا قصره وإن جعل فيه شيئا من عين ماله مثل أن سمر الرفوف بمسامير من عنده, فله قلعها ويضمن ما نقصت الرفوف وإن كانت المسامير من الخشب المغصوبة أو مال المغصوب منه فلا شيء للغاصب, وليس له قلعها إلا أن يأمره المالك بذلك, فيلزمه وإن كانت المسامير للغاصب فوهبها للمالك فهل يجبر على قبول الهبة؟ على وجهين وإن استأجر الغاصب على عمل شيء من هذا الذي ذكرناه, فالأجر عليه والحكم في زيادته ونقصه كما لو ولى ذلك بنفسه إلا أن يضمن النقص من شاء منهما, فلو استأجر قصابا فذبح شاة فللمالك أخذها وأرش نقصها ويغرم من شاء منهما, فإن غرم الغاصب لم يرجع على أحد إذا لم يعلم القصاب الحال وإن ضمن القصاب رجع على الغاصب, لأنه غره وإن علم القصاب أنها مغصوبة فغرمه لم يرجع على أحد لأنه أتلف مال غيره بغير إذنه عالما بالحال, وإن ضمن الغاصب رجع على القصاب لأن التلف حصل منه فاستقر الضمان عليه وإن استعان بمن ذبح له, فهو كما لو استأجره.
فصل:
وإن غصب حبا فزرعه فصار زرعا أو نوى فصار شجرا أو بيضا فحضنه فصار فرخا, فهو للمغصوب منه لأنه عين ماله نما فأشبه ما تقدم ويتخرج أن يملكه الغاصب بناء على الرواية المذكورة في الفصل السابق وإن غصب دجاجة فباضت عنده, ثم حضنت بيضها فصار فراخا فهما لمالكها ولا شيء للغاصب في علفها قال أحمد في طيرة جاءت إلى دار قوم فأفرخت عندهم: يرد فروخها إلى أصحاب الطيرة, ولا شيء للغاصب فيما عمل وإن غصب شاة فأنزى عليها فحلا فالولد لصاحب الشاة لأنه من نمائها وإن غصب فحلا, فأنزاه على شاته فالولد لصاحب الشاة لأنه يتبع الأم ولا أجرة له لأن النبي ـ ﷺ ـ نهى عن عسب الفحل وإن نقصه الضراب ضمن نقصه.
فصل:
وإن غصب دنانير أو دراهم من رجل, وخلطها بمثلها لآخر فلم يتميزا صارا شريكين وقال أبو حنيفة يملكها الغاصب, وعليه غرامة مثلها لهما وإن خلطها بمثلها من ماله ملكها لأنه تعذر تسليمها بعينها, فأشبه ما لو تلفت ولنا أنه فعل في المغصوب على وجه التعدي لم يذهب بماليته, فلم يزل ملك صاحبه عنه كذبح الشاة.
فصل:
وإن غصب عبدا فصاد صيدا, أو كسب شيئا فهو لسيده وإن غصب جارحا كالفهد والبازي, فصاد به فالصيد لمالكه لأنه من كسب ماله فأشبه صيد العبد ويحتمل أنه للغاصب لأنه الصائد, والجارحة آلة له ولهذا يكتفى بتسميته عند إرساله الجارح وإن غصب قوسا أو سهما أو شبكة فصاد به, ففيه وجهان أحدهما أنه لصاحب القوس والسهم والشبكة لأنه حاصل به فأشبه نماء ملكه وكسب عبده والثاني, للغاصب لأن الصيد حصل بفعله وهذه آلات فأشبه ما لو ذبح بسكين غيره, فإن قلنا: هو للغاصب فعليه أجر ذلك كله مدة مقامه في يديه إن كان له أجر وإن قلنا: هو للمالك لم يكن له أجر في مدة اصطياده في أحد الوجهين لأن الأجر في مقابلة منافعه, ومنافعه في هذه المدة عائدة إلى مالكه فلم يستحق عوضها على غيره كما لو زرع أرض إنسان, فأخذ المالك الزرع بنفقته والثاني عليه أجر مثله لأنه استوفى منافعه أشبه ما لو لم يصد شيئًا.
مسألة:
قال: [ومن غصب جارية, فوطئها وأولدها لزمه الحد, وأخذها سيدها وأولادها ومهر مثلها] وجملة ذلك أن الغاصب إذا وطئ الجارية المغصوبة فهو زان لأنها ليست زوجة له ولا ملك يمين, فإن كان عالما بالتحريم فعليه حد الزنى لأنه لا ملك له ولا شبهة ملك, وعليه مهر مثلها سواء كانت مكرهة أو مطاوعة وقال الشافعي لا مهر للمطاوعة لأن النبي ـ ﷺ ـ نهى عن مهر البغي ولنا أن هذا حق للسيد, فلا يسقط بمطاوعتها كما لو أذنت في قطع يدها ولأنه حق يجب للسيد مع إكراهها, فيجب مع مطاوعتها كأجر منافعها والخبر محمول على الحرة, ويجب أرش بكارتها لأنه بدل جزء منها ويحتمل أن لا يجب لأن مهر البكر يدخل فيه أرش البكارة ولهذا يزيد على مهر الثيب عادة لأجل ما يتضمنه من تفويت البكارة وإن حملت فالولد مملوك لسيدها لأنه من نمائها وأجزائها, ولا يلحق نسبه بالواطئ لأنه من زنى فإن وضعته حيا وجب رده معها وإن أسقطته ميتا, لم يضمن لأننا لا نعلم حياته قبل هذا هذا قول القاضي وهو الظاهر من مذهب الشافعي عند أصحابه وقال القاضي أبو الحسين: يجب ضمانه بقيمته لو كان حيا نص عليه الشافعي لأنه يضمنه لو سقط بضربته وما ضمن بالإتلاف ضمنه الغاصب بالتلف في يده, كأجر العين والأولى ـ إن شاء الله تعالى ـ أن يضمنه بعشر قيمة أمه لأنه الذي يضمنه به بالجناية, فيضمنه به في التلف كالأجزاء وإن وضعته حيا حصل مضمونا في يد الغاصب, كالأم فإن مات بعد ذلك ضمنه بقيمته وإن نقصت الأم بالولادة ضمن نقصها, ولم ينجبر بالولد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ينجبر نقصها بولدها ولنا أن ولدها ملك المغصوب منه فلا ينجبر به نقص حصل بجناية الغاصب, كالنقص الحاصل بغير الولادة وإن ضرب الغاصب بطنها فألقت الجنين ميتا فعليه عشر قيمة أمه وإن ضرب بطنها أجنبي ففيه مثل ذلك, وللمالك تضمين أيهما شاء فإن ضمن الغاصب رجع على الضارب, وإن ضمن الضارب لم يرجع على أحد لأن الإتلاف وجد منه فاستقر الضمان عليه وإن ماتت الجارية, فعليه قيمتها أكثر ما كانت ويدخل في ذلك أرش بكارتها ونقص ولادتها ولا يدخل فيه ضمان ولدها, ولا مهر مثلها وسواء في هذه الأحكام كلها حالة الإكراه أو المطاوعة لأنها حقوق لسيدها فلا تسقط بمطاوعتها وأما حقوق الله تعالى, كالحد عليها والإثم والتعزير في موضع يجب, فإن كانت مطاوعة على الوطء عالمة بالتحريم فعليها الحد إذا كانت من أهله, والإثم وإلا فلا.
فصل:
وإن كان الغاصب جاهلا بتحريم ذلك لقرب عهده بالإسلام أو ناشئا ببادية بعيدة يخفى عليه مثل هذا, فاعتقد حل وطئها أو اعتقد أنها جاريته فأخذها ثم تبين أنها غيرها, فلا حد عليه لأن الحد يدرأ بالشبهات وعليه المهر وأرش البكارة وإن حملت فالولد حر, لاعتقاده أنها ملكه ويلحقه النسب لموضع الشبهة وإن وضعته ميتا لم يضمنه لأنه لم يعلم حياته, ولأنه لم يحل بينه وبينه وإنما وجب تقويمه لأجل الحيلولة وإن وضعته حيا فعليه قيمته يوم انفصاله لأنه فوت عليه رقه باعتقاده, ولا يمكن تقويمه حملا فقوم عليه أول حال انفصاله لأنه أول حال إمكان تقويمه ولأن ذلك وقت الحيلولة بينه وبين سيده وإن ضرب الغاصب بطنها, فألقت جنينا ميتا فعليه غرة عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل, موروثة عنه لا يرث الضارب منها شيئا لأنه أتلف جنينا حرا وعليه للسيد عشر قيمة أمه لأن الإسقاط لما اعتقب الضرب, فالظاهر حصوله به وضمانه للسيد ضمان المماليك ولهذا لو وضعته حيا قومناه مملوكا وإن كان الضارب أجنبيا, فعليه غرة دية الجنين الحر لأنه محكوم بحريته وتكون موروثة عنه وعلى الغاصب للسيد عشر قيمة أمه لأنه يضمنه ضمان المماليك, وقد فوت رقه على السيد وحصل التلف في يديه والحكم في المهر والأرش, والأجر ونقص الولادة وقيمتها إن تلفت, ما مضى إذا كانا عالمين لأن هذه حقوق الآدميين فلا تسقط بالجهل والخطأ كالدية.
مسألة:
قال: [وإن كان الغاصب باعها, فوطئها المشتري وأولدها وهو لا يعلم, ردت الجارية إلى سيدها ومهر مثلها وفدى أولاده بمثلهم, وهم أحرار ورجع بذلك كله على الغاصب] وجملة ذلك أن الغاصب إذا باع الجارية, فبيعه فاسد لأنه يبيع مال غيره بغير إذنه وفيه رواية أخرى أنه يصح ويقف على إجازة المالك وقد ذكرنا ذلك في البيع وفيه رواية ثالثة, أن البيع يصح وينفذ لأن الغصب في الظاهر تتطاول مدته, فلو لم يصح تصرف الغاصب أفضى إلى الضرر بالمالك والمشتري لأن المالك لا يملك ثمنها والمشتري لا يملكها والتفريع على الرواية الأولى, والحكم في وطء المشتري كالحكم في وطء الغاصب إلا أن المشتري إذا ادعى الجهالة قبل منه, بخلاف الغاصب فإنه لا يقبل منه إلا بشرط ذكرناه ويجب رد الجارية إلى سيدها وللمالك مطالبة أيهما شاء بردها لأن الغاصب أخذها بغير حق, وقد قال النبي: ـ ﷺ ـ (على اليد ما أخذت حتى ترده) والمشتري أخذ مال غيره بغير حق أيضا فيدخل في عموم الخبر ولأن مال غيره في يده وهذا لا خلاف فيه بحمد الله تعالى ويلزم المشتري المهر لأنه وطئ جارية غيره بغير نكاح, وعليه أرش البكارة ونقص الولادة وإن ولدت منه فالولد حر لاعتقاده أنه يطأ مملوكته, فمنع ذلك انخلاق الولد رقيقا ويلحقه نسبه وعليه فداؤهم لأنه فوت رقهم على سيدهم باعتقاده حل الوطء وهذا الصحيح في المذهب, وعليه الأصحاب وقد نقل ابن منصور عن أحمد أن المشتري لا يلزمه فداء أولاده وليس للسيد بدلهم لأنهم كانوا في حال العلوق أحرارا, ولم يكن لهم قيمة حينئذ قال الخلال أحسبه قولا لأبي عبد الله أول والذي أذهب إليه أنه يفديهم وقد نقله ابن منصور أيضا وجعفر بن محمد, وهو قول أبي حنيفة والشافعي ويفديهم ببدلهم يوم الوضع وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجب يوم المطالبة لأن ولد المغصوبة لا يضمنه عنده إلا بالمنع وقبل المطالبة لم يحصل منع فلم يجب وقد ذكرنا فيما مضى, أنه يحدث مضمونا فيقوم يوم وضعه لأنه أول حال أمكن تقويمه واختلف أصحابنا فيما يفديهم به فنقل الخرقي ها هنا أنه يفديهم بمثلهم والظاهر أنه أراد بمثلهم في السن, والصفات والجنس والذكورية والأنوثية, وقد نص عليه أحمد وقال أبو بكر عبد العزيز: يفديهم بمثلهم في القيمة وعن أحمد رواية ثالثة أنه يفديهم بقيمتهم وهو قول أبي حنيفة والشافعي وهو أصح ـ إن شاء الله تعالى ـ لأن الحيوان ليس بمثلي فيضمن بقيمته كسائر المتقومات, ولأنه لو أتلفه ضمنه بقيمته وقد ذكرنا وجه هذه الأقوال في غير هذا الموضع وقول الخرقي: " رجع بذلك كله على الغاصب " يعني بالمهر وما فدى به الأولاد لأن المشتري دخل على أن يسلم له الأولاد وأن يتمكن من الوطء بغير عوض, فإذا لم يسلم له ذلك فقد غره البائع فرجع به عليه فأما الجارية إذا ردها لم يرجع ببدلها لأنها ملك المغصوب منه رجعت إليه, لكنه يرجع على الغاصب بالثمن الذي أخذه منه وإن كانت قد أقامت عنده مدة لمثلها أجر في تلك المدة فعليه أجرها وإن اغتصبها بكرا فعليه أرش بكارتها وإن نقصتها الولادة أو غيرها, فعليه أرش نقصها وإن تلفت في يده فعليه قيمتها وكل ضمان يجب على المشتري فللمغصوب منه أن يرجع به على من شاء منهما لأن يد الغاصب سبب يد المشتري وما وجب على الغاصب, من أجر المدة التي كانت في يده أو نقص حدث عنده فإنه يرجع به على الغاصب وحده لأن ذلك كان قبل يد المشتري فإذا طالب المالك المشتري بما وجب في يده, وأخذه منه فأراد المشتري الرجوع به على الغاصب نظرت فإن كان المشتري حين الشراء علم أنها مغصوبة, لم يرجع بشيء لأن موجب الضمان وجد في يده من غير تغرير وإن لم يعلم فذلك على ثلاثة أضرب ضرب لا يرجع به, وهو قيمتها إن تلفت في يده وأرش بكارتها وبدل جزء من أجزائها لأنه دخل مع البائع على أنه يكون ضامنا لذلك بالثمن, فإذا ضمنه لم يرجع به وضرب يرجع به وهو بدل الولد إذا ولدت منه لأنه دخل معه في العقد على أن لا يكون الولد مضمونا عليه ولم يحصل من جهته إتلاف, وإنما الشرع أتلفه بحكم بيع الغاصب منه وكذلك نقص الولادة وضرب اختلف فيه وهو مهر مثلها وأجر نفعها, فهل يرجع به على الغاصب؟ فيه روايتان إحداهما يرجع به وهو قول الخرقي لأنه دخل في العقد على أن يتلفه بغير عوض فإذا غرم عوضه رجع به, كبدل الولد ونقص الولادة وهذا أحد قولي الشافعي والثانية لا يرجع به, وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه غرم ما استوفى بدله فلا يرجع به كقيمة الجارية, وبدل أجزائها وهذا القول الثاني للشافعي وإن رجع بذلك كله على الغاصب فكل ما لو رجع به على المشتري لا يرجع به على الغاصب إذا رجع به على الغاصب رجع به الغاصب على المشتري وكل ما لو رجع به على المشتري رجع به المشتري على الغاصب إذا غرمه الغاصب لم يرجع به على المشتري ومتى ردها حاملا فماتت من الوضع, فإنها مضمونة على الواطئ لأن التلف بسبب من جهته.
فصل:
ومن استكره امرأة على الزنى فعليه الحد دونها لأنها معذورة وعليه مهرها حرة كانت أو أمة, فإن كانت حرة كان المهر لها وإن كانت أمة كان لسيدها وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يجب المهر لأنه وطء يتعلق به وجوب الحد, فلم يجب به المهر كما لو طاوعته ولنا أنه وطء في غير ملك, سقط فيه الحد من الموطوءة فإذا كان الواطئ من أهل الضمان في حقها وجب عليه مهرها كما لو وطئها بشبهة وأما المطاوعة, فإن كانت أمة وجب عليه مهرها لأنه حق لسيدها فلا يسقط برضاها وإن كانت حرة, لم يجب لها المهر لأن رضاها اقترن بالسبب الموجب فلم يوجب كما لو أذنته في قطع يدها, أو إتلاف جزء منها وروى عن أحمد رواية أخرى أن الثيب لا مهر لها وإن أكرهت نقلها ابن منصور وهو اختيار أبي بكر والصحيح الأول لأنها مكرهة على الوطء الحرام, فوجب لها المهر كالبكر ويجب أرش البكارة مع المهر, كما قدمنا. فصل: إذا أجر الغاصب المغصوب فالإجارة باطلة على إحدى الروايات, كالبيع ولمالكه تضمين أيهما شاء أجر مثلها فإن ضمن المستأجر, لم يرجع بذلك لأنه دخل في العقد على أنه يضمن المنفعة إلا أن يزيد أجر المثل على المسمى في العقد, فيرجع بالزيادة ويسقط عنه المسمى في العقد وإن كان دفعه إلى الغاصب رجع به وإن تلفت العين في يد المستأجر فلمالكها تغريم من شاء منهما قيمتها, فإن غرم المستأجر فله الرجوع بذلك على الغاصب لأنه دخل معه على أنه لا يضمن العين ولم يحصل له بدل في مقابلة ما غرم هذا إذا لم يعلم بالغصب, وإن علم لم يرجع على أحد لأنه دخل على بصيرة وحصل التلف في يده فاستقر الضمان عليه وإن غرم الغاصب الأجر والقيمة, رجع بالأجر على المستأجر على كل حال ويرجع بالقيمة إن كان المستأجر عالما بالغصب وإلا فلا وهذا قول الشافعي ومحمد بن الحسن في الفصل كله وحكي عن أبي حنيفة أن الأجر للغاصب دون صاحب الدار وهذا فاسد لأن الأجر عوض المنافع المملوكة لرب الدار, فلم يملكها الغاصب كعوض الأجزاء.
فصل:
وإن أودع المغصوب أو وكل رجلا في بيعه, ودفعه إليه فتلف في يده فللمالك تضمين أيهما شاء أما الغاصب فلأنه حال بين المالك وبين ملكه, وأثبت اليد العادية عليه والمستودع والوكيل لإثباتهما أيديهما على ملك معصوم بغير حق فإن غرم الغاصب وكانا غير عالمين بالغصب, استقر الضمان عليه ولم يرجع على أحد وإن غرمهما رجعا على الغاصب بما غرما من القيمة والأجر لأنهما دخلا على أن لا يضمنا شيئا من ذلك, ولم يحصل لهما بدل عما ضمنا وإن علما أنها مغصوبة استقر الضمان عليهما لأن التلف حصل تحت أيديهما من غير تغرير بهما فاستقر الضمان عليهما فإن غرما شيئا, لم يرجعا به وإن غرم الغاصب رجع عليهما لأن التلف حصل في أيديهما وإن جرحها الغاصب ثم أودعها, أو ردها إلى مالكها فتلفت بالجرح استقر الضمان على الغاصب بكل حال لأنه هو المتلف, فكان الضمان عليه كما لو باشرها بالإتلاف في يده.
فصل:
وإن أعار العين المغصوبة فتلفت عند المستعير, فللمالك تضمين أيهما شاء أجرها وقيمتها فإن غرم المستعير مع علمه بالغصب لم يرجع على أحد, وإن غرم الغاصب رجع على المستعير وإن لم يكن علم بالغصب فغرمه لم يرجع بقيمة العين لأنه قبضها على أن تكون مضمونة عليه وهل يرجع بما غرم من الأجر؟ فيه وجهان أحدهما, يرجع لأنه دخل على أن المنافع له غير مضمونة عليه والثاني لا يرجع لأنه انتفع بها فقد استوفى بدل ما غرم, وكذلك الحكم فيما تلف من الأجزاء بالاستعمال وإذا كانت العين وقت القبض أكثر قيمة من يوم التلف فضمن الأكثر فينبغي أن يرجع بما بين القيمتين لأنه دخل على أنه لا يضمنه, ولم يستوف بدله فإن ردها المستعير على الغاصب فللمالك أن يضمنه أيضا لأنه فوت الملك على مالكه بتسليمه إلى غير مستحقه ويستقر الضمان على الغاصب إن حصل التلف في يديه وكذلك الحكم في المودع وغيره.
فصل:
وإن وهب المغصوب لعالم بالغصب, استقر الضمان على المتهب فمهما غرم من قيمة العين أو أجزائها لم يرجع به على أحد لأن التلف حصل في يديه, ولم يغره أحد وكذلك أجر مدة مقامه في يديه وأرش نقصه إن حصل وإن لم يعلم, فلصاحبها تضمين أيهما شاء فإن ضمن المتهب رجع على الواهب بقيمة العين والأجزاء لأنه غره وقال أبو حنيفة أيهما ضمن لم يرجع على الآخر ولنا أن المتهب دخل على أن تسلم له العين, فيجب أن يرجع بما غرم من قيمتها كقيمة الأولاد فإنه وافقنا على الرجوع بضمانه فأما الأجرة والمهر وأرش البكارة فهل يرجع به المتهب على الواهب؟ فيه وجهان وإن ضمنه الواهب, فهل يرجع به على المتهب؟ فيه وجهان.
فصل:
وتصرفات الغاصب كتصرفات الفضولي على ما ذكرنا من الروايتين إحداهما بطلانها والثانية, صحتها ووقوفها على إجازة المالك وذكر أبو الخطاب أن في تصرفات الغاصب الحكمية رواية أنها تقع صحيحة وسواء في ذلك العبادات, كالطهارة والصلاة والزكاة والحج أو العقود كالبيع والإجارة والنكاح وهذا ينبغي أن يتقيد في العقود بما لم يبطله المالك فأما ما اختار المالك إبطاله وأخذ المعقود عليه, فلم نعلم فيه خلافا وأما ما لم يدركه المالك فوجه التصحيح فيه أن الغاصب تطول مدته, وتكثر تصرفاته ففي القضاء ببطلانها ضرر كثير وربما عاد الضرر على المالك, فإن الحكم بصحتها يقتضي كون الربح للمالك والعوض بنمائه وزيادته له والحكم ببطلانه يمنع ذلك.
فصل:
وإذا غصب أثمانا فاتجر بها, أو عروضا فباعها واتجر بثمنها فقال أصحابنا: الربح للمالك والسلع المشتراة له وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب إن كان الشراء بعين المال فالربح للمالك قال الشريف: وعن أحمد أنه يتصدق به وإن اشتراه في ذمته, ثم نقد الأثمان فقال أبو الخطاب يحتمل أن يكون الربح للغاصب وهو قول أبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه لأنه اشترى لنفسه في ذمته فكان الشراء له, والربح له وعليه بدل المغصوب وهذا قياس قول الخرقي ويحتمل أن يكون الربح للمغصوب منه لأنه نماء ملكه فكان له كما لو اشترى له بعين المال وهذا ظاهر المذهب وإن حصل خسران, فهو على الغاصب لأنه نقص حصل في المغصوب وإن دفع المال إلى من يضارب به فالحكم في الربح على ما ذكرناه وليس على المالك من أجر العامل شيء لأنه لم يأذن له في العمل في ماله وأما الغاصب, فإن كان المضارب عالما بالغصب فلا أجر له لأنه متعد بالعمل ولم يغره أحد, وإن لم يعلم بالغصب فعلى الغاصب أجر مثله لأنه استعمله عملا بعوض لم يحصل له فلزمه أجره, كالعقد الفاسد.
مسألة:
قال: [ومن غصب شيئا ولم يقدر على رده لزمت الغاصب القيمة, فإن قدر عليه رده وأخذ القيمة] وجملته أن من غصب شيئا فعجز عن رده كعبد أبق, أو دابة شردت فللمغصوب منه المطالبة ببدله فإذا أخذه ملكه, ولم يملك الغاصب العين المغصوبة بل متى قدر عليها لزمه ردها ويسترد قيمتها التي أداها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة, ومالك: يخير المالك بين الصبر إلى إمكان ردها فيستردها وبين تضمينه إياها فيزول ملكه عنها وتصير ملكا للغاصب, لا يلزمه ردها إلا أن يكون دفع دون قيمتها بقوله مع يمينه لأن المالك ملك البدل فلا يبقى ملكه على المبدل, كالبيع ولأنه تضمين فيما ينتقل الملك فيه فنقله, كما لو خلط زيته بزيته ولنا أن المغصوب لا يصح تملكه بالبيع فلا يصح بالتضمين كالتالف, ولأنه غرم ما تعذر عليه رده بخروجه عن يده فلا يملكه بذلك كما لو كان المغصوب مدبرا, وليس هذا جمعا بين البدل والمبدل لأنه ملك القيمة لأجل الحيلولة لا على سبيل العوض ولهذا إذا رد المغصوب إليه, رد القيمة عليه ولا يشبه الزيت لأنه يجوز بيعه ولأن حق صاحبه انقطع عنه, لتعذر رده أبدا إذا ثبت هذا فإنه متى قدر على المغصوب رده ونماءه المنفصل والمتصل, وأجر مثله إلى حين دفع بدله وهل يلزمه أجره من حين دفع بدله إلى رده؟ فيه وجهان أصحهما لا يلزمه لأنه استحق الانتفاع ببدله الذي أقيم مقامه فلم يستحق الانتفاع به وبما قام مقامه, كسائر ما عداه والثاني له الأجر لأن العين باقية على ملكه والمنفعة له, ويجب على المالك رد ما أخذه بدلا عنه إلى الغاصب لأنه أخذه بالحيلولة وقد زالت فيجب رد ما أخذ من أجلها إن كان باقيا بعينه, ورد زيادته المتصلة كالسمن ونحوه لأنها تتبع في الفسوخ وهذا فسخ, ولا يلزم رد زيادته المنفصلة لأنها وجدت في ملكه ولا تتبع في الفسوخ فأشبهت زيادة المبيع المردود بعيب, وإن كان البدل تالفا رد مثله أو قيمته إن لم يكن من ذوات الأمثال.
فصل:
وإذا غصب شيئا ببلد فلقيه ببلد آخر, فطالبه به نظرت فإن كان أثمانا لزمه دفعها إليه لأن الأثمان قيم الأشياء, فلا يضر اختلاف قيمتها وإن كان غيرها وكان من المثليات وقيمته في البلدين واحدة أو كانت قيمته في بلد الغصب أكثر, لزمه أداء مثله لأنه لا ضرر عليه وكذلك إن كانت قيمته مختلفة إلا أنه لا مؤنة لحمله فله المطالبة بمثله لأنه أمكنه رد المثل من غير ضرر يلحقه وإن كان لحمله مؤنة وقيمته في البلد الذي غصبه فيه أقل, فليس عليه رده ولا رد مثله لأننا لا نكلفه مؤنة النقل إلى بلد لا يستحق تسليمه فيه وللمغصوب منه الخيرة بين الصبر إلى أن يستوفيه في بلده وبين المطالبة في الحال بقيمته في البلد الذي غصبه فيه لأنه تعذر رده ورد مثله وإن كان من المتقومات, فله المطالبة بقيمته في البلد الذي غصبه فيه ومتى قدر على رد العين المغصوبة ردها, واسترجع بدلها على ما ذكرناه في المسألة قبل هذا.
مسألة:
قال: [ولو غصبها حاملا فولدت في يده, ثم مات الولد أخذها سيدها وقيمة ولدها أكثر ما كانت قيمته] الكلام في هذه المسألة في أمرين أحدهما, أنه إذا غصب حاملا من الحيوان أمة أو غيرها فالولد مضمون, كذلك لو غصب حائلا فحملت عنده وولدت, ضمن ولدها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يجب ضمان الولد في الصورتين لأنه ليس بمغصوب إذ الغصب فعل محظور ولم يوجد, فإن الموجود ثبوت اليد عليه وليس ذلك من فعله لأنه انبنى على وجود الولد ولا صنع له فيه ولنا, أن من ضمن خارج الوعاء ضمن ما فيه كالدرة في الصدفة والجوز, واللوز ولأنه مغصوب فيضمن كالأم فإن الولد إما أن يكون مودوعا في الأم, كالدرة في الحقة وإما أن يكون كأجزائها وفي كلا الموضعين, الاستيلاء على الظرف والاستيلاء على الجملة استيلاء على الجزء المطروق فإن أسقطته ميتا, لم يضمنه لأنه لا تعلم حياته ولكن يجب ما نقصت الأم عن كونها حاملا وأما إذا حدث الحمل, فقد سبق الكلام فيه الأمر الثاني أنه يلزمه رد الموجود من المغصوب وقيمة التالف فإن كانت قيمة التالف لا تختلف من حين الغصب إلى حين الرد, ردها وإن كانت تختلف نظرنا فإن كان اختلافهما لمعنى فيه, من كبر وصغر وسمن وهزال وتعلم ونسيان ونحو ذلك من المعاني التي تزيد بها القيمة وتنقص, فالواجب القيمة أكثر ما كانت لأنها مغصوبة في الحال التي زادت فيها والزيادة لمالكها مضمونة على الغاصب, على ما قررناه فيما مضى فإن كانت زائدة حين تلفها لزمته قيمتها حينئذ لأنه كان يلزمه ردها زائدة, فلزمته قيمتها كذلك وإن كانت زائدة قبل تلفها ثم نقصت عند تلفها, لزمه قيمتها حين كانت زائدة لأنه لو ردها ناقصة للزمه أرش نقصها وهو بدل الزيادة فإذا ضمن الزيادة مع ردها, ضمنها عند تلفها فإن كان اختلافها لتغير الأسعار لم يضمن الزيادة لأن نقصان القيمة لذلك لا يضمن مع رد العين, فلا يضمن عند تلفها وحمل القاضي قول الخرقي على ما إذا اختلفت القيمة لتغير الأسعار وهو مذهب الشافعي لأن أكثر القيمتين فيه للمغصوب منه فإذا تعذر ردها ضمنها كقيمته يوم التلف, وإنما سقطت القيمة مع رد العين والمذهب الأول لما ذكرنا وتفارق هذه الزيادة زيادة المعاني لأن تلك تضمن مع رد العين فكذلك مع تلفها, وهذه لا تضمن مع رد العين فكذلك مع تلفها وقولهم: إنها سقطت برد العين لا يصح لأنها لو وجبت لما سقطت بالرد كزيادة السمن والتعلم قال القاضي: ولم أجد عن أحمد رواية بأنها تضمن بأكثر القيمتين لتغير الأسعار فعلى هذا تضمن بقيمتها يوم التلف رواه الجماعة عن أحمد وعنه أنها تضمن بقيمتها يوم الغصب وهو قول أبي حنيفة ومالك, لأنه الوقت الذي أزال يده عنه فيه فيلزمه القيمة حينئذ كما لو أتلفه ولنا أن القيمة إنما تثبت في الذمة حين التلف لأن قبل ذلك كان الواجب رد العين دون قيمتها, فاعتبرت تلك الحالة كما لو لم تختلف قيمته وما ذكروه لا يصح لأن إمساك المغصوب غصب فإنه فعل يحرم عليه تركه في كل حال, وما روى عن أحمد من اعتبار القيمة بيوم الغصب فقال الخلال: جبن أحمد عنه كأنه رجع إلى قوله الأول.
فصل:
وإن كان المغصوب من المثليات فتلف وجب رد مثله فإن فقد المثل, وجبت قيمته يوم انقطاع المثل وقال القاضي: تجب قيمته يوم قبض البدل لأن الواجب المثل إلى حين قبض البدل بدليل أنه لو وجد المثل بعد فقده لكان الواجب هو دون القيمة وقال أبو حنيفة, ومالك وأكثر أصحاب الشافعي: تجب قيمته يوم المحاكمة لأن القيمة لم تنتقل إلى ذمته إلا حين حكم بها الحاكم ولنا أن القيمة وجبت في الذمة حين انقطاع المثل فاعتبرت القيمة حينئذ, كتلف المتقوم ودليل وجوبها حينئذ أنه يستحق طلبها واستيفاءها ويجب على الغاصب أداؤها, ولا ينفي وجوب المثل لأنه معجوز عنه والتكليف يستدعي الوسع ولأنه لا يستحق طلب المثل ولا استيفاءه, ولا يجب على الآخر أداؤه فلم يكن واجبا كحالة المحاكمة وأما إذا قدر على المثل بعد فقده فإنه يعود وجوبه لأنه الأصل قدر عليه قبل أداء البدل, فأشبه القدرة على الماء بعد التيمم ولهذا لو قدر عليه بعد المحاكمة وقبل الاستيفاء لاستحق المالك طلبه وأخذه وقد روي عن أحمد في رجل أخذ من رجل أرطالا من كذا وكذا: أعطاه على السعر يوم أخذه, لا يوم يحاسبه وكذلك روي عنه في حوائج البقال: عليه القيمة يوم الأخذ وهذا يدل على أن القيمة تعتبر يوم الغصب وقد ذكرنا ذلك في الفصل قبل هذا ويمكن التفريق بين هذا وبين الغصب من قبل أن من أخذه ها هنا بإذن مالكه ملكه وحل له التصرف فيه فتثبت قيمته يوم ملكه, ولم يتغير ما ثبت في ذمته بتغير قيمة ما أخذه لأنه ملكه والمغصوب ملك للمغصوب منه والواجب رده لا قيمته, وإنما تثبت قيمته في الذمة يوم تلفه أو انقطاع مثله فاعتبرت القيمة حينئذ, وتغيرت بتغيره قبل ذلك فأما إن كان المغصوب باقيا وتعذر رده فأوجبنا رد قيمته, فإنه يطالبه بقيمته يوم قبضها لأن القيمة لم تثبت في الذمة قبل ذلك ولهذا يتخير بين أخذها والمطالبة بها وبين الصبر إلى وقت إمكان الرد ومطالبة الغاصب بالسعي في رده, وإنما يأخذ القيمة لأجل الحيلولة بينه وبينه فيعتبر ما يقوم مقامه ولأن ملكه لم يزل عنه, بخلاف غيره.
مسألة:
قال: [وإذا كانت للمغصوب أجرة فعلى الغاصب رده وأجر مثله مدة مقامه في يديه] هذه المسألة تشتمل على حكمين أحدهما, وجوب رد المغصوب والثاني رد أجرته أما الأول فإن المغصوب متى كان باقيا وجب رده لقول رسول الله ـ ﷺ ـ : (على اليد ما أخذت حتى ترده) رواه أبو داود, وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن وروى عبد الله بن السائب بن يزيد, عن أبيه عن جده أن النبي ـ ﷺ ـ قال: (لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعبا جادا, ومن أخذ عصا أخيه فليردها) رواه أبو داود يعني أنه يقصد المزح مع صاحبه بأخذ متاعه وهو جاد في إدخال الغم والغيظ عليه ولأنه أزال يد المالك عن ملكه بغير حق فلزمه إعادتها وأجمع العلماء على وجوب رد المغصوب إذا كان باقيا بحاله لم يتغير, ولم يشتغل بغيره فإن غصب شيئا فبعده لزمه رده, وإن غرم عليه أضعاف قيمته لأنه جنى بتبعيده فكان ضرر ذلك عليه فإن قال الغاصب: خذ مني أجر رده وتسلمه مني ها هنا أو بذل له أكثر من قيمته ولا يسترده, لم يلزم المالك قبول ذلك لأنها معاوضة فلا يجبر عليها كالبيع وإن قال المالك: دعه لي في مكانه الذي نقلته إليه لم يملك الغاصب رده لأنه أسقط عنه حقا فسقط وإن لم يقبله كما لو أبرأه من دينه وإن قال: رده لي إلى بعض الطريق لزمه ذلك لأنه يلزمه جميع المسافة, فلزمه بعضها المطلوب وسقط عنه ما أسقطه وإن طلب منه حمله إلى مكان آخر في غير طريق الرد لم يلزم الغاصب ذلك, سواء كان أقرب من المكان الذي يلزمه رده إليه أو لم يكن لأنه معاوضة وإن قال: دعه في مكانه وأعطني أجر رده لم يجبر على إجابته لذلك ومهما اتفقا عليه من ذلك جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما.
فصل:
وإن غصب شيئا, فشغله بملكه كخيط خاط به ثوبا أو نحوه, أو حجرا بنى عليه نظرنا فإن بلى الخيط أو انكسر الحجر, أو كان مكانه خشبة فتلفت لم يأخذ برده ووجبت قيمته لأنه صار هالكا, فوجبت قيمته وإن كان باقيا بحاله لزمه رده وإن انتقض البناء, وتفصل الثوب وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: لا يجب رد الخشبة والحجر لأنه صار تابعا لملكه يستضر بقلعه فلم يلزم رده كما لو غصب خيطا فخاط به جرح عبده ولنا, أنه مغصوب أمكن رده ويحوز له فوجب كما لو بعد العين, ولا يشبه الخيط الذي يخاف على العبد من قلعه لأنه لا يجوز له رده لما في ضمنه من تلف الآدمي ولأن حاجته إلى ذلك تبيح أخذه ابتداء بخلاف البناء, وإن خاط بالخيط جرح حيوان فذلك على أقسام ثلاثة أحدها أن يخيط به جرح حيوان لا حرمة له, كالمرتد والخنزير والكلب العقور فيجب نزعه ورده لأنه لا يتضمن تفويت ذي حرمة فأشبه ما لو خاط به ثوبا والثاني, أن يخيط به جرح حيوان محترم لا يحل أكله كالآدمي, فإن خيف من نزعه الهلاك أو إبطاء برئه فلا يجب نزعه لأن الحيوان آكد حرمة من عين المال ولهذا يجوز له أخذ مال غيره ليحفظ حياته, وإتلاف المال لتبقيته وهو ما يأكله وكذلك الدواب التي لا يؤكل لحمها كالبغل والحمار الأهلي الثالث أن يخيط به جرح حيوان مأكول, فإن كان ملكا لغير الغاصب وخيف تلفه بقلعه لم يقلع لأن فيه إضرارا بصاحبه, ولا يزال الضرر بالضرر ولا يجب إتلاف مال من لم يجن صيانة لمال آخر وإن كان الحيوان للغاصب, فقال القاضي: لا يجب رده لأنه يمكن ذبح الحيوان والانتفاع بلحمه وذلك جائز وإن حصل فيه نقص على الغاصب, فليس ذلك بمانع من وجوب رد المغصوب كنقص البناء لرد الحجر المغصوب وقال أبو الخطاب: فيه وجهان أحدهما هذا والثاني, لا يجب قلعه لأن للحيوان حرمة في نفسه وقد (نهى النبي ـ ﷺ ـ عن ذبح الحيوان لغير مأكله) ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ويحتمل أن يفرق بين ما يعد للأكل من الحيوان كبهيمة الأنعام والدجاج وأكثر الطير, وبين ما لا يعد له كالخيل والطير المقصود صوته فالأول يجب ذبحه إذا توقف رد المغصوب عليه والثاني لا يجب لأن ذبحه إتلاف له, فجرى مجرى ما لا يؤكل لحمه ومتى أمكن رد الخيط من غير تلف الحيوان أو تلف بعض أعضائه أو ضرر كثير, وجب رده.
فصل:
وإن غصب فصيلا فأدخله داره فكبر ولم يخرج من الباب, أو خشبة وأدخلها داره ثم بنى الباب ضيقا لا يخرج منه إلا بنقضه, وجب نقضه ورد الفصيل والخشبة كما ينقض البناء لرد الساجة, فإن كان حصوله في الدار بغير تفريط من صاحب الدار نقض الباب وضمانه على صاحب الفصيل لأنه لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب الدار وأما الخشبة فإن كان كسرها أكثر ضررا من نقض الباب, فهي كالفصيل وإن كان أقل كسرت ويحتمل في الفصيل مثل هذا, فإنه متى كان ذبحه أقل ضررا ذبح وأخرج لحمه لأنه في معنى الخشبة وإن كان حصوله في الدار بعدوان من صاحبه, كرجل غصب دارا فأدخلها فصيلا أو خشبة أو تعدى على إنسان, فأدخل داره فرسا ونحوها كسرت الخشبة وذبح الحيوان, وإن زاد ضرره على نقض البناء لأن سبب هذا الضرر عدوانه فيجعل عليه دون غيره ولو باع دارا فيها خوابي لا تخرج إلا بنقض الباب أو خزائن أو حيوان, وكان نقض الباب أقل ضررا من بقاء ذلك في الدار أو تفصيله أو ذبح الحيوان نقض, وكان إصلاحه على البائع لأنه لتخليص ماله وإن كان أكثر ضررا لم ينقض لأنه لا فائدة فيه, ويصطلحان على ذلك إما بأن يشتريه مشترى الدار أو غير ذلك.
فصل:
[وإن غصب جوهرة فابتلعتها بهيمة] فقال أصحابنا: حكمها حكم الخيط الذي خاط به جرحها ويحتمل أن الجوهرة متى كانت أكثر من قيمة الحيوان ذبح الحيوان, وردت إلى مالكها وضمان الحيوان على الغاصب إلا أن يكون الحيوان آدميا وفارق الخيط لأنه في الغالب أقل قيمة من الحيوان, والجوهرة أكثر قيمة ففي ذبح الحيوان رعاية حق المالك برد عين ماله إليه ورعاية حق الغاصب بتقليل الضمان عليه وإن ابتلعت شاة رجل جوهرة آخر غير مغصوبة, ولم يمكن إخراجها إلا بذبح الشاة ذبحت إذا كان ضرر ذبحها أقل وكان ضمان نقصها على صاحب الجوهرة لأنه لتخليص ماله, إلا أن يكون التفريط من صاحب الشاة بكون يده عليها فلا شيء على صاحب الجوهرة لأن التفريط من صاحب الشاة, فالضرر عليه وإن أدخلت رأسها في قمقم فلم يمكن إخراجه إلا بذبحها وكان الضرر في ذبحها أقل, ذبحت وإن كان الضرر في كسر القمقم أقل كسر القمقم وإن كان التفريط من صاحب الشاة, فالضمان عليه وإن كان التفريط من صاحب القمقم بأن وضعه في الطريق, فالضمان عليه وإن لم يكن منهما تفريط فالضمان على صاحب الشاة إن كسر القمقم لأنه كسر لتخليص شاته, وإن ذبحت الشاة فالضمان على صاحب القمقم لأنه لتخليص قمقمه فإن قال من عليه الضمان منهما: أنا أتلف مالي, ولا أغرم شيئا للآخر فله ذلك لأن إتلاف مال الآخر إنما كان لحقه وسلامة ماله وتخليصه فإذا رضي بتلفه, لم يجز إتلاف غيره وإن قال: لا أتلف مالي ولا أغرم شيئا لم نمكنه من إتلاف مال صاحبه, لكن صاحب القمقم لا يجبر على شيء لأن القمقم لا حرمة له فلا يجبر صاحبه على تخليصه وأما صاحب الشاة فلا يحل له تركها لما فيه من تعذيب الحيوان, فيقال له: إما أن تذبح الشاة لتريحها من العذاب وإما أن تغرم القمقم لصاحبه إذا كان كسره أقل ضررا, ويخلصها لأن ذلك من ضرورة إبقائها أو تخليصها من العذاب فلزمه كعلفها وإن كان الحيوان غير مأكول احتمل أن يكون حكمه حكم المأكول فيما ذكرنا واحتمل أن يكسر القمقم وهو قول أصحابنا لأنه لا نفع في ذبحه, ولا هو مشروع وقد (نهى النبي ـ ﷺ ـ عن ذبح الحيوان لغير مأكله) ويحتمل أن يجري مجرى المأكول في أنه متى كان قتله أقل ضررا وكانت الجناية من صاحبه, قتل لأن حرمته معارضة لحرمة الآدمي الذي يتلف ماله والنهي عن ذبحه معارض بالنهي عن إضاعة المال وفي كسر القمقم مع كثرة قيمته إضاعة للمال والله أعلم.
فصل:
وإن غصب دينارا, فوقع في محبرته أو أخذ دينار غيره فسها فوقع في محبرته, كسرت ورد الدينار كما ينقض البناء لرد الساجة, وكذلك إن كان درهما أو أقل منه وإن وقع من غير فعله كسرت لرد الدينار إن أحب صاحبه, والضمان عليه لأنه لتخليص ماله وإن غصب دينارا فوقع في محبرة آخر بفعل الغاصب أو بغير فعله كسرت لرده, وعلى الغاصب ضمان المحبرة لأنه السبب في كسرها وإن كان كسرها أكثر ضررا من تبقية الواقع فيها ضمنه الغاصب ولم تكسر وإن رمى إنسان ديناره في محبرة غيره عدوانا, فأبى صاحب المحبرة كسرها لم يجبر عليه لأن صاحبه تعدى برميه فيها فلم يجبر صاحبها على إتلاف ماله لإزالة ضرر عدوانه عن نفسه, وعلى الغاصب نقص المحبرة بوقوع الدينار فيها ويحتمل أن يجبر على كسرها لرد عين مال الغاصب ويضمن الغاصب قيمتها, كما لو غرس في أرض غيره ملك حفر الأرض بغير إذن المالك لأخذ غرسه ويضمن نقصها بالحفر وعلى كلا الوجهين, لو كسرها الغاصب قهرا لم يلزمه أكثر من قيمتها.
فصل:
وإن غصب لوحا فرقع به سفينة, فإن كانت على الساحل لزم قلعه ورده وإن كانت في لجة البحر, واللوح في أعلاها بحيث لا تغرق بقلعه لزم قلعه, وإن خيف غرقها بقلعه لم يقلع حتى تخرج إلى الساحل ولصاحب اللوح طلب قيمته, فإذا أمكن رد اللوح استرجعه ورد القيمة كما لو غصب عبدا فأبق وقال أبو الخطاب: إن كان فيها حيوان له حرمة, أو مال لغير الغاصب لم يقلع كالخيط وإن كان فيها مال للغاصب, أو لا مال فيها ففيها وجهان أحدهما لا يقلع والثاني: يقلع في الحال لأنه أمكن رد المغصوب, فلزم وإن أدى إلى تلف المال كرد الساجة المبني عليها ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ولنا أنه أمكن رد المغصوب من غير إتلاف, فلم يجز الإتلاف كما لو كان فيها مال غيره وفارق الساجة في البناء فإنه لا يمكن ردها من غير إتلاف.
فصل:
وإذا غصب شيئا, فخلطه بما يمكن تمييزه منه كحنطة بشعير أو سمسم أو صغار الحب بكباره, أو زبيب أسود بأحمر لزمه تمييزه ورده, وأجر المميز عليه وإن لم يمكن تمييز جميعه وجب تمييزه ما أمكن, وإن لم يمكن تمييزه فهو على خمسة أضرب أحدها أن يخلطه بمثله من جنسه, كزيت بزيت أو حنطة بمثلها أو دقيق بمثله, أو دنانير أو دراهم بمثلها فقال ابن حامد: يلزمه مثل المغصوب منه وهو ظاهر كلام أحمد لأنه نص على أنه يكون شريكا به إذا خلطه بغير الجنس فيكون تنبيها على ما إذا خلطه بجنسه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي, إلا في الدقيق فإنه تجب قيمته لأنه عندهم ليس بمثلي وقال القاضي: قياس المذهب أنه يلزمه مثله إن شاء منه, وإن شاء من غيره لأنه تعذر عليه رد عين ماله بالخلط فأشبه ما لو تلف لأنه لا يتميز له شيء من ماله ولنا أنه قدر على دفع بعض ماله إليه, مع رد المثل في الباقي فلم ينتقل إلى المثل في الجميع كما لو غصب صانعا, فتلف نصفه وذلك لأنه إذا دفع إليه منه فقد دفع إليه بعض ماله وبدل الباقي, فكان أولى من دفعه من غيره الضرب الثاني والثالث والرابع أن يخلطه بخير منه أو دونه, أو بغير جنسه فظاهر كلام أحمد أنهما شريكان يباع الجميع, ويدفع إلى كل واحد منهما قدر حقه لأنه قال في رواية أبي الحارث في رجل له رطل زيت وآخر له رطل شيرج اختلطا: يباع الدهن كله, ويعطي كل واحد منهما قدر حصته وذلك لأننا إذا فعلنا ذلك أوصلنا إلى كل واحد منهما عين ماله وإذا أمكن الرجوع إلى عين المال, لم يرجع إلى البدل وإن نقص المغصوب عن قيمته منفردا فعلى الغاصب ضمان النقص لأنه حصل بفعله وقال القاضي: قياس المذهب أنه يلزم الغاصب مثله لأنه صار بالخلط مستهلكا وكذلك لو اشترى زيتا فخلطه بزيته, ثم أفلس صار البائع كبعض الغرماء ولأنه تعذر عليه الوصول إلى عين ماله, فكان له بدله كما لو كان تالفا ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ما إذا اختلطا من غير غصب فأما المغصوب, فقد وجد من الغاصب ما منع المالك من أخذ حقه من المثليات مميزا فلزمه مثله كما لو أتلفه, إلا بأن خلطه بخير منه وبذل لصاحبه مثل حقه منه لزمه قبوله لأنه أوصل إليه بعض حقه بعينه وتبرع بالزيادة في مثل الباقي وإن خلطه بأدون منه, فرضي المالك بأخذ قدر حقه منه لزم الغاصب بذله لأنه أمكنه رد بعض المغصوب ورد مثل الباقي من غير ضرر وقيل: لا يلزم الغاصب ذلك لأن حقه انتقل إلى الذمة فلم يجبر على غير مال, وإن بذله للمغصوب منه فأباه لم يجبر على قبوله لأنه دون حقه وإن تراضيا بذلك جاز, وكان المالك متبرعا بترك بعض حقه وإن اتفقا على أن يأخذ أكثر من حقه من الرديء أو دون حقه من الجيد لم يجز لأنه ربا لأنه يأخذ الزائد في القدر عوضا عن الجودة وإن كان بالعكس, فرضي بأخذ دون حقه من الرديء أو سمح الغاصب فدفع أكثر من حقه من الجيد جاز لأنه لا مقابل للزيادة, وإنما هي تبرع مجرد وإن خلطه بغير جنسه فتراضيا على أن يأخذ أكثر من قدر حقه أو أقل جاز لأنه بدله من غير جنسه, فلا تحرم الزيادة بينهما الضرب الخامس أن يخلطه بما لا قيمة له كزيت خلطه بماء, أو لبن شابه بماء فإن أمكن تخليصه خلصه ورد نقصه وإن لم يمكن تخليصه, أو كان ذلك يفسده رجع عليه بمثله لأنه صار كالهالك وإن لم يفسده رده ورد نقصه وإن احتيج في تخليصه إلى غرامة لزم الغاصب ذلك لأنه بسببه ولأصحاب الشافعي في هذا الفصل نحو ما ذكرنا. فصل: وإن غصب ثوبا فصبغه, لم يخل من ثلاثة أقسام: أحدها أن يصبغه بصبغ له والثاني أن يصبغه بصبغ للمغصوب منه الثالث, أن يصبغه بصبغ لغيرهما والأول لا يخلو من ثلاثة أحوال أحدها أن يكون الثوب والصبغ بحالهما لم تزد قيمتهما ولم تنقص, مثل إن كانت قيمة كل واحد منهما خمسة فصارت قيمتهما بعد الصبغ عشرة فهما شريكان لأن الصبغ عين مال له قيمة, فإن تراضيا بتركه لهما جاز وإن باعاه, فثمنه بينهما نصفين الحال الثاني إذا زادت قيمتهما فصارا يساويان عشرين, نظرت فإن كان ذلك لزيادة الثياب في السوق كانت الزيادة لصاحب الثوب وإن كانت لزيادة الصبغ في السوق, فالزيادة لصاحبه وإن كانت لزيادتهما معا فهي بينهما على حسب زيادة كل واحد منهما, فإن تساويا في الزيادة في السوق تساوى صاحباهما فيهما وإن زاد أحدهما ثمانية والآخر اثنين, فهي بينهما كذلك وإن زاد بالعمل فالزيادة بينهما لأن عمل الغاصب زاد به في الثوب والصبغ, وما عمله في المغصوب للمغصوب منه إذا كان أثرا وزيادة مال الغاصب له وإن نقصت القيمة لتغير الأسعار لم يضمنه الغاصب لما تقدم وإن نقص لأجل العمل, فهو على الغاصب لأنه بتعديه فإذا صار قيمة الثوب مصبوغا خمسة فهو كله لمالكه, ولا شيء للغاصب لأن النقص حصل بعدوانه فكان عليه وإن صارت قيمته سبعة صار الثوب بينهما, لصاحبه خمسة أسباعه ولصاحب الصبغ سبعاه وإن زادت قيمة الثوب في السوق فصار يساوي سبعة, ونقص الصبغ فصار يساوي ثلاثة وكانت قيمة الثوب مصبوغا عشرة, فهو بينهما لصاحب الثوب سبعة ولصاحب الصبغ ثلاثة وإن ساوى اثنى عشر, قسمت بينهما لصاحب الثوب نصفها وخمسها وللغاصب خمسها وعشرها, وإن انعكس الحال فصار الثوب يساوي في السوق ثلاثة والصبغ سبعة انعكست القسمة, فصار لصاحب الصبغ ها هنا ما كان لصاحب الثوب في التي قبلها ولصاحب الثوب مثل ما كان لصاحب الصبغ لأن زيادة السعر لا تضمن فإن أراد الغاصب قلع الصبغ فقال أصحابنا: له ذلك, سواء أضر بالثوب أو لم يضر به ويضمن نقص الثوب إن نقص وبهذا قال الشافعي لأنه عين ماله فملك أخذه, كما لو غرس في أرض غيره ولم يفرق أصحابنا بين ما يهلك صبغه بالقلع وبين ما لا يهلك وينبغي أن يقال: ما يهلك بالقلع لا يملك قلعه لأنه سفه وظاهر كلام الخرقي أنه لا يمكن من قلعه إذا تضرر الثوب بقلعه لأنه قال في المشتري إذا بنى أو غرس في الأرض المشفوعة: فله أخذه إذا لم يكن في أخذه ضرر وقال أبو حنيفة: ليس له أخذه لأن فيه ضررا بالثوب المغصوب, فلم يمكن منه كقطع خرقة منه وفارق قلع الغرس لأن الضرر قليل يحصل به نفع قلع العروق من الأرض وإن اختار المغصوب منه قلع الصبغ, ففيه وجهان أحدهما يملك إجبار الغاصب عليه كما يملك إجباره على قلع شجره من أرضه, وذلك لأنه شغل ملكه بملكه على وجه أمكن تخليصه فلزمه تخليصه وإن استضر الغاصب, كقلع الشجر وعلى الغاصب ضمان نقص الثوب وأجر القلع, كما يضمن ذلك في الأرض والثاني لا يملك إجباره عليه ولا يمكن من قلعه لأن الصبغ يهلك بالاستخراج, وقد أمكن وصول الحق إلى مستحقه بدونه بالبيع فلم يجبر على قلعه كقلع الزرع من الأرض, وفارق الشجر فإنه لا يتلف بالقلع قال القاضي: هذا ظاهر كلام أحمد ولعله أخذ ذلك من قول أحمد في الزرع, وهذا مخالف للزرع لأن له غاية ينتهي إليها ولصاحب الأرض أخذه بنفقته فلا يمتنع عليه استرجاع أرضه في الحال, بخلاف الصبغ فإنه لا نهاية له إلا تلف الثوب فهو أشبه بالشجر في الأرض ولا يختص وجوب القلع في الشجر بما لا يتلف, فإنه يجبر على قلع ما يتلف وما لا يتلف ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإن بذل رب الثوب قيمة الصبغ للغاصب ليملكه لم يجبر على قبوله لأنه إجبار على بيع ماله فلم يجبر عليه, كما لو بذل له قيمة الغراس ويحتمل أن يجبر على ذلك إذا لم يقلعه قياسا على الشجر والبناء في الأرض المشفوعة, والعارية وفي الأرض المغصوبة إذا لم يقلعه الغاصب ولأنه أمر يرتفع به النزاع, ويتخلص به أحدهما من صاحبه من غير ضرر فأجبر عليه كما ذكرنا وإن بذل الغاصب قيمة الثوب لصاحبه ليملكه, لم يجبر على ذلك كما لو بذل صاحب الغراس قيمة الأرض لمالكها في هذه المواضع وإن وهب الغاصب الصبغ لمالك الثوب فهل يلزمه قبوله؟ على وجهين: أحدهما, يلزمه لأن الصبغ صار من صفات العين فهو كزيادة الصفة في المسلم فيه الثاني لا يجبر لأن الصبغ عين يمكن إفرادها, فلم يجبر على قبولها وظاهر كلام الخرقي أنه يجبر لأنه قال في الصداق: إذا كان ثوبا فصبغه فبذلت له نصفه مصبوغا لزمه قبوله وإن أراد المالك بيع الثوب, وأبى الغاصب فله بيعه لأنه ملكه فلا يملك الغاصب منعه من بيع ملكه بعدوانه وإن أراد الغاصب بيعه, لم يجبر المالك على بيعه لأنه متعد فلم يستحق إزالة ملك صاحب الثوب عنه بعدوانه ويحتمل أن يجبر ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه القسم الثاني أن يغصب ثوبا وصبغا من واحد, فيصبغه به فإن لم تزد قيمتهما ولم تنقص ردهما ولا شيء عليه وإن زادت القيمة فهي للمالك, ولا شيء للغاصب ولأنه إنما له في الصبغ أثر لا عين وإن نقصت بالصبغ فعلى الغاصب ضمان النقص لأنه بتعديه وإن نقص لتغير الأسعار لم يضمنه القسم الثالث أن يغصب ثوب رجل وصبغ آخر, فيصبغه به فإن كانت القيمتان بحالهما فهما شريكان بقدر مالهما, وإن زادت فالزيادة لهما وإن نقصت بالصبغ, فالضمان على الغاصب ويكون النقص من صاحب الصبغ لأنه تبدد في الثوب ويرجع به على الغاصب, وإن نقص لنقص سعر الثياب أو سعر الصبغ أو لنقص سعرهما, لم يضمنه الغاصب وكان نقص مال كل واحد منهما من صاحبه وإن أراد صاحب الصبغ قلعه أو أراد ذلك صاحب الثوب, فحكمهما حكم ما لو صبغه الغاصب بصبغ من عنده على ما مر بيانه وإن غصب عسلا ونشاء وعقده حلواء, فحكمه حكم ما لو غصب ثوبا فصبغه على ما ذكر فيه الحكم الثاني أنه متى كان للمغصوب أجر, فعلى الغاصب أجر مثله مدة مقامه في يديه سواء استوفى المنافع أو تركها تذهب هذا هو المعروف في المذهب نص عليه أحمد في رواية الأثرم وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يضمن المنافع وهو الذي نصره أصحاب مالك وقد روى محمد بن الحكم, عن أحمد في من غصب دارا فسكنها عشرين سنة: لا أجترئ أن أقول عليه سكنى ما سكن وهذا يدل على توقفه عن إيجاب الأجر إلا أن أبا بكر قال: هذا قول قديم لأن محمد بن الحكم مات قبل أبي عبد الله بعشرين سنة واحتج من لم يوجب الأجر, بقول النبي ـ ﷺ ـ : (الخراج بالضمان) وضمانها على الغاصب ولأنه استوفى منفعة بغير عقد ولا شبهة ملك فلم يضمنها, كما لو زنى بامرأة مطاوعة ولنا أن كل ما ضمنه بالإتلاف في العقد الفاسد جاز أن يضمنه بمجرد الإتلاف, كالأعيان ولأنه أتلف متقوما فوجب ضمانه, كالأعيان أو نقول: مال متقوم مغصوب فوجب ضمانه كالعين فأما الخبر, فوارد في البيع ولا يدخل فيه الغاصب لأنه لا يجوز له الانتفاع بالمغصوب بالإجماع ولا يشبه الزنى لأنها رضيت بإتلاف منافعها بغير عوض ولا عقد يقتضي العوض, فكان بمنزلة من أعاره داره ولو أكرهها عليه لزمه مهرها والخلاف في ما له منافع تستباح بعقد الإجارة كالعقار والثياب والدواب ونحوها, فأما الغنم والشجر والطير ونحوها فلا شيء فيها لأنه لا منافع لها يستحق بها عوض ولو غصب جارية ولم يطأها ومضت عليها مدة تمكن الوطء فيها, لم يضمن مهرها لأن منافع البضع لا تتلف إلا بالاستيفاء بخلاف غيرها ولأنها لا تقدر بزمن, فيكون مضى الزمان بتلفها بخلاف المنفعة.
فصل:
إذا غصب طعاما فأطعمه غيره, فللمالك تضمين أيهما شاء لأن الغاصب حال بينه وبين ماله والآكل أتلف مال غيره بغير إذنه وقبضه عن يد ضامنه بغير إذن مالكه, فإن كان الآكل عالما بالغصب استقر الضمان عليه لكونه أتلف مال غيره بغير إذن عالما من غير تغرير فإذا ضمن الغاصب, رجع عليه وإن ضمن الآكل لم يرجع على أحد وإن لم يعلم الآكل بالغصب نظرنا فإن كان الغاصب قال له: كله, فإنه طعامي استقر الضمان عليه لاعترافه بأن الضمان باق عليه وأنه لا يلزم الآكل شيء وإن لم يقل ذلك ففيه روايتان إحداهما, يستقر الضمان على الآكل وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الجديد لأنه ضمن ما أتلف فلم يرجع به على أحد والثانية, يستقر الضمان على الغاصب لأنه غر الآكل وأطعمه على أنه لا يضمنه وهذا ظاهر كلام الخرقي لقوله في المشتري للأمة: يرجع بالمهر وكل ما غرم على الغاصب وأيهما استقر عليه الضمان فغرمه لم يرجع على أحد, فإن غرمه صاحبه رجع عليه وإن أطعم المغصوب لمالكه فأكله عالما أنه طعامه, برئ الغاصب وإن لم يعلم وقال له الغاصب: كله فإنه طعامي استقر الضمان على الغاصب لما ذكرنا, وإن كانت له بينة بأنه طعام المغصوب منه وإن لم يقل ذلك بل قدمه إليه وقال: كله, أو قال: قد وهبتك إياه أو سكت فظاهر كلام أحمد أنه لا يبرأ لأنه قال في رواية الأثرم في رجل, له قبل رجل تبعة فأوصلها إليه على سبيل صدقة أو هدية فلم يعلم, فقال: كيف هذا؟ هذا يرى أنه هدية يقول له: هذا لك عندي وهذا يدل على أنه لا يبرأ ها هنا بأكل المالك طعامه بطريق الأولى لأنه ثم رد إليه يده وسلطانه وها هنا بالتقديم إليه لم تعد إليه اليد والسلطان فإنه لا يتمكن من التصرف فيه بكل ما يريد, من أخذه وبيعه والصدقة به فلم يبرأ الغاصب كما لو علفه لدوابه, ويتخرج أن يبرأ بناء على ما مضى إذا أطعمه لغير مالكه فإنه يستقر الضمان على الآكل في إحدى الروايتين فيبرأ ها هنا بطريق الأولى وهذا مذهب أبي حنيفة وإن وهب المغصوب لمالكه, أو أهداه إليه فالصحيح أنه يبرأ لأنه قد سلمه إليه تسليما صحيحا تاما وزالت يد الغاصب, وكلام أحمد في رواية الأثرم وارد فيما إذا أعطاه عوض حقه على سبيل الهدية, فأخذه المالك على هذا الوجه لا على سبيل العوض فلم تثبت المعاوضة, ومسألتنا فيما إذا رد إليه عين ماله وأعاد يده التي أزالها وإن باعه إياه وسلمه إليه, برئ من الضمان لأنه قبضه بالابتياع والابتياع يوجب الضمان وإن أقرضه إياه برئ أيضا لذلك وإن أعاره إياه, برئ أيضا لأن العارية توجب الضمان وإن أودعه إياه أو آجره إياه أو رهنه, أو أسلمه عنده ليقصره أو يعلمه لم يبرأ من الضمان إلا أن يكون عالما بالحال لأنه لم يعد إليه سلطانه, إنما قبضه على أنه أمانة وقال بعض أصحابنا: يبرأ لأنه عاد إلى يده وسلطانه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والأول أولى فإنه لو أباحه إياه فأكله لم يبرأ فهاهنا أولى.
فصل:
إذا اختلف المالك والغاصب في قيمة المغصوب, ولا بينة لأحدهما فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته فلا يلزمه, ما لم يقم عليه به حجة كما لو ادعى عليه دينا فأقر ببعضه وكذلك إن قال المالك: كان كاتبا أو له صناعة فأنكر الغاصب, فالقول قوله كذلك فإن شهدت له البينة بالصفة ثبتت وإن قال الغاصب: كانت فيه سلعة أو أصبع زائدة, أو عيب فأنكر المالك فالقول قوله لأن الأصل عدم ذلك والقول قول الغاصب في قيمته على كل حال وإن اختلفا بعد زيادة قيمة المغصوب في وقت زيادته, فقال المالك: زادت قبل تلفه وقال الغاصب: إنما زادت قيمة المتاع بعد تلفه فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته وإن شاهدنا العبد معيبا فقال الغاصب: كان معيبا قبل غصبه وقال المالك: تعيب عندك فالقول قول الغاصب لأنه غارم ولأن الظاهر أن صفة العبد لم تتغير وإن غصبه خمرا, ثم قال صاحبه: تخلل عندك وأنكر الغاصب فالقول قوله لأن الأصل بقاؤه على ما كان وبراءة الذمة وإن اختلفا في رد المغصوب, أو رد مثله أو قيمته فالقول قول المالك لأن الأصل عدم ذلك واشتغال الذمة به وإن اختلفا في تلفه, فادعاه الغاصب وأنكره المالك فالقول قول الغاصب لأنه أعلم بذلك, وتتعذر إقامة البينة عليه فإذا حلف فللمالك المطالبة ببدله لأنه تعذر رد العين فلزم بدلها, كما لو غصب عبدا فأبق وقيل: ليس له المطالبة بالبدل لأنه لا يدعيه وإن قال: غصبت مني حديثا فقال: بل عتيقا فالقول قول الغاصب لأن الأصل عدم وجوب الحديث وللمالك المطالبة بالعتيق لأنه دون حقه.
فصل:
وإذا باع عبدا فادعى إنسان على البائع أنه غصبه العبد, وأقام بذلك بينة انتقض البيع ورجع المشتري على البائع بثمنه, وإن لم تكن بينة فأقر البائع والمشتري بذلك فهو كما لو قامت به بينة وإن أقر البائع وحده, لم يقبل في حق المشتري لأنه لا يقبل إقراره في حق غيره ولزمت البائع قيمته لأنه حال بينه وبين ملكه ويقر العبد في يد المشتري لأنه ملكه في الظاهر, وللبائع إحلافه ثم إن كان البائع لم يقبض الثمن فليس له مطالبة المشتري به لأنه لا يدعيه ويحتمل أن يملك مطالبته بأقل الأمرين من الثمن أو قيمة العبد لأنه يدعي القيمة على المشتري, والمشتري يقر له بالثمن فقد اتفقا على استحقاق أقل الأمرين فوجب ولا يضر اختلافهما في السبب بعد اتفاقهما على حكمه, كما لو قال: عليك ألف من ثمن البيع فقال: بل ألف من قرض وإن كان قد قبض الثمن فليس للمشتري استرجاعه لأنه لا يدعيه ومتى عاد العبد إلى البائع بفسخ أو غيره وجب عليه رده على مدعيه, وله استرجاع ما أخذ منه وإن كان إقرار البائع في مدة الخيار له انفسخ البيع لأنه يملك فسخه فقبل إقراره بما يفسخه وإن أقر المشتري وحده, لزمه رد العبد ولم يقبل إقراره على البائع ولا يملك الرجوع عليه بالثمن إن كان قبضه, ويلزمه دفعه إليه إن كان لم يقبضه وإن أقام المشتري بينة بما أقر به قبلت وله الرجوع بالثمن وإن أقام البائع بينة, إذا كان هو المقر نظرنا فإن كان في حال البيع قال: بعتك عبدي هذا أو ملكي هذا لم تقبل بينته لأنه يكذبها وتكذبه وإن لم يكن قال ذلك قبلت لأنه يبيع ملكه وغير ملكه وإن أقام المدعي البينة, سمعت ولا تقبل شهادة البائع له لأنه يجربها إلى نفسه نفعا وإن أنكراه جميعا فله إحلافهما إن لم تكن له بينة قال أحمد, في رجل يجد سرقته بعينها عند إنسان قال: هو ملكه يأخذه, أذهب إلى حديث سمرة عن رسول الله ـ ﷺ ـ : (من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به, ويتبع المبتاع من باعه) رواه هشيم عن موسى بن السائب عن قتادة, عن الحسن عن سمرة وموسى بن السائب ثقة.
فصل:
وإن كان المشتري أعتق العبد, فأقرا جميعا لم يقبل ذلك وكان العبد حرا لأنه قد تعلق به حق لغيرهما, فإن وافقهما العبد فقال القاضي: لا يقبل أيضا لأن الحرية يتعلق بها حق الله تعالى ولهذا لو شهد شاهدان بالعتق, مع اتفاق السيد والعبد على الرق سمعت شهادتهما ولو قال رجل: أنا حر ثم أقر بالرق, لم يقبل إقراره وهذا مذهب الشافعي ويحتمل أن يبطل العتق إذا اتفقوا كلهم ويعود العبد إلى المدعي لأنه مجهول النسب أقر بالرق لمن يدعيه, فصح كما لو لم يعتقه المشتري ومتى حكمنا بالحرية فللمالك تضمين أيهما شاء قيمته يوم عتقه, ثم إن ضمن البائع رجع على المشتري لأنه أتلفه وإن رجع على المشتري, لم يرجع على البائع إلا بالثمن لأن التلف حصل منه فاستقر الضمان عليه وإن مات العبد وخلف مالا فهو للمدعي لاتفاقهم على أنه له وإنما منعنا رد العبد إليه, لتعلق حق الحرية به إلا أن يخلف وارثا فيأخذه ولا يثبت الولاء عليه لأحد لأنه لا يدعيه أحد وإن صدق المشتري البائع وحده, رجع عليه بقيمته ولم يرجع المشتري بالثمن وبقية الأقسام على ما مضى.
فصل:
وإذا باع عبدا أو وهبه ثم ادعى إني فعلت ذلك قبل أن أملكه, وقد ملكته الآن بميراث أو هبة من مالكه فيلزمك رده على لأن البيع الأول والهبة باطلان وإن أقام بذلك بينة نظرت فإن كان قال حين البيع والهبة: هذا ملكي أو بعتك ملكي هذا أو كان في ضمنه إقرار بأنه ملكه نحو أن يقول: قبضت ثمن ملكي أو قبضته ونحو ذلك, لم تقبل البينة لأنه مكذب لها وهي تكذبه وإن لم يكن كذلك, قبلت الشهادة لأن الإنسان يبيع ويهب ملكه وغير ملكه.
مسألة:
قال: [من أتلف لذمي خمرا أو خنزيرا فلا غرم عليه وينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه] وجملة ذلك أنه لا يجب ضمان الخمر والخنزير, سواء كان متلفه مسلما أو ذميا لمسلم أو ذمي نص عليه أحمد في رواية أبي الحارث في الرجل يهريق مسكرا لمسلم, أو لذمي خمرا فلا ضمان عليه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك: يجب ضمانهما إذا أتلفهما على ذمي قال أبو حنيفة: إن كان مسلما بالقيمة, وإن كان ذميا بالمثل لأن عقد الذمة إذا عصم عينا قومها كنفس الآدمي وقد عصم خمر الذمي, بدليل أن المسلم يمنع من إتلافها فيجب أن يقومها ولأنها مال لهم يتمولونها, بدليل ما روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن عامله كتب إليه: إن أهل الذمة يمرون بالعاشر ومعهم الخمور فكتب إليه عمر: ولوهم بيعها وخذوا منهم عشر ثمنها وإذا كانت مالا لهم وجب ضمانها, كسائر أموالهم ولنا أن جابرا النبي ـ ﷺ ـ قال: روى (ألا إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) متفق على صحته وما حرم بيعه لا لحرمته, لم تجب قيمته كالميتة ولأن ما لم يكن مضمونا في حق المسلم, لم يكن مضمونا في حق الذمي كالمرتد ولأنها غير متقومة, فلا تضمن كالميتة ودليل أنها غير متقومة في حق المسلم, فكذلك في حق الذمي فإن تحريمها ثبت في حقهما وخطاب النواهي يتوجه إليهما, فما ثبت في حق أحدهما ثبت في حق الآخر ولا نسلم أنها معصومة بل متى أظهرت حلت إراقتها, ثم لو عصمها ما لزم تقويمها فإن نساء أهل الحرب وصبيانهم معصومون غير متقومين وقولهم: إنها مال عندهم ينتقض بالعبد المرتد فإنه مال عندهم وأما حديث عمر فمحمول على أنه أراد ترك التعرض لهم, وإنما أمر بأخذ عشر أثمانها لأنهم إذا تبايعوا وتقابضوا حكمنا لهم بالملك ولم ننقضه وتسميتها أثمانا مجاز, كما سمى الله تعالى ثمن يوسف ثمنا فقال: {وشروه بثمن بخس} [يوسف: 20]. وأما قول الخرقي: وينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه فلأن كل ما اعتقدوا حله في دينهم, مما لا أذى للمسلمين فيه من الكفر وشرب الخمر واتخاذه, ونكاح ذوات المحارم لا يجوز لنا التعرض لهم فيه إذا لم يظهروه, لأننا التزمنا إقرارهم عليه في دارنا فلا نعرض لهم فيما التزمنا تركه وما أظهروه من ذلك, تعين إنكاره عليهم فإن كان خمرا جازت إراقته وإن أظهروا صليبا أو طنبورا جاز كسره, وإن أظهروا كفرهم أدبوا على ذلك ويمنعون من إظهار ما يحرم على المسلمين.
فصل:
وإن غصب من ذمي خمرا لزمه ردها لأنه يقر على شربها وإن غصبها من مسلم, لم يلزم ردها ووجبت إراقتها (لأن أبا طلحة سأل رسول الله ـ ﷺ ـ عن أيتام ورثوا خمرا فأمره بإراقتها) وإن أتلفها أو تلفت عنده, لم يلزمه ضمانها لأن ابن عباس روى عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال: (إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه) ولأن ما حرم الانتفاع به لم يجب ضمانه كالميتة والدم, فإن أمسكها في يده حتى صارت خلا لزم ردها على صاحبها لأنها صارت خلا على حكم ملكه, فلزم ردها إليه فإن تلفت ضمنها له لأنها مال للمغصوب منه تلف في يد الغاصب, وإن أراقها فجمعها إنسان فتخللت عنده لم يلزمه رد الخل لأنه أخذها بعد إتلافها, وزوال اليد عنها. فصل: وإن غصب كلبا يجوز اقتناؤه وجب رده لأنه يجوز الانتفاع به واقتناؤه فأشبه المال وإن أتلفه, لم يغرمه وإن حبسه مدة لم يلزمه أجر لأنه لا تجوز إجارته. وإن غصب جلد ميتة فهل يلزمه رده؟ على وجهين, بناء على الروايتين في طهارته بالدبغ فمن قال بطهارته أوجب رده لأنه يمكن إصلاحه, فهو كالثوب النجس ومن قال: لا يطهر لم يوجب رده لأنه لا سبيل إلى إصلاحه فإن أتلفه أو أتلف ميتة بجلدها لم يضمنه لأنه لا قيمة له, بدليل أنه لا يحل بيعه وإن دبغه الغاصب لزم رده إن قلنا بطهارته لأنه كالخمر إذا تخللت ويحتمل أن لا يجب رده لأنه صار مالا بفعله بخلاف الخمر, وإن قلنا: لا يطهر لم يجب رده لأنه لا يباح الانتفاع به ويحتمل أن يجب رده إذا قلنا: يباح الانتفاع به في اليابسات لأنه نجس يباح الانتفاع به أشبه الكلب, وكذلك قبل الدبغ.
فصل:
وإن كسر صليبا أو مزمارا أو طنبورا, أو صنما لم يضمنه وقال الشافعي: إن كان ذلك إذا فصل يصلح لنفع مباح وإذا كسر لم يصلح لنفع مباح لزمه ما بين قيمته مفصلا ومكسورا لأنه أتلف بالكسر ما له قيمة, وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه ضمانه وقال أبو حنيفة: يضمن ولنا أنه لا يحل بيعه, فلم يضمنه كالميتة والدليل على أنه لا يحل بيعه قول النبي ـ ﷺ ـ (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) متفق عليه وقال النبي ـ ﷺ ـ : (بعثت بمحق القينات والمعازف).
فصل:
وإن كسر آنية ذهب أو فضة, لم يضمنها لأن اتخاذها محرم وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنه يضمن فإن مهنا نقل عنه في من هشم على غيره إبريقا فضة: عليه قيمته, يصوغه كما كان قيل له: أليس قد (نهى النبي ـ ﷺ ـ عن اتخاذها؟) فسكت والصحيح أنه لا ضمان عليه نص عليه في رواية المروذي فيمن كسر إبريق فضة: لا ضمان عليه لأنه أتلف ما ليس بمباح فلم يضمنه كالميتة ورواية مهنا تدل على أنه رجع عن قوله ذلك لكونه سكت حين ذكر السائل تحريمه, ولأن في هذه الرواية أنه قال: يصوغه ولا يحل له صياغته فكيف يجب ذلك.
فصل:
وإن كسر آنية الخمر, ففيها روايتان إحداهما يضمنها لأنها مال يمكن الانتفاع به ويحل بيعه, فيضمنها كما لو لم يكن فيها خمر ولأن جعل الخمر فيها لا يقتضي سقوط ضمانها, كالبيت الذي جعل مخزنا للخمر والثانية لا تضمن لما روى الإمام أحمد في " مسنده ": حدثنا أبو بكر بن أبي مريم, عن ضمرة بن حبيب قال: قال عبد الله بن عمر: (أمرني رسول الله ـ ﷺ ـ أن آتيه بمدية وهي الشفرة, فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها, وقال: اغد على بها ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام, فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته كلها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي, ويعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته, ففعلت فلم أترك في أسواقها زقا إلا شققته) وروي عن أنس قال: كنت أسقي أبا طلحة, وأبي بن كعب وأبا عبيدة شرابا من فضيخ, فأتانا آت فقال: إن الخمر قد حرمت فقال: أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الدنان فاكسرها وهذا يدل على سقوط حرمتها وإباحة إتلافها, فلا يضمنها كسائر المباحات.
فصل:
ولا يثبت الغصب فيما ليس بمال كالحر فإنه لا يضمن بالغصب, إنما يضمن بالإتلاف وإن أخذ حرا فحبسه فمات عنده لم يضمنه لأنه ليس بمال وإن استعمله مكرها, لزمه أجر مثله لأنه استوفى منافعه وهي متقومة فلزمه ضمانها كمنافع العبد وإن حبسه مدة لمثلها أجر, ففيه وجهان أحدهما يلزمه أجر تلك المدة لأنه فوت منفعته وهي مال يجوز أخذ العوض عنها, فضمنت بالغصب كمنافع العبد والثاني لا يلزمه لأنها تابعة لما لا يصح غصبه, فأشبهت ثيابه إذا بليت عليه وأطرافه ولأنها تلفت تحت يديه فلم يجب ضمانها كما ذكرنا ولو منعه العمل من غير حبس, لم يضمن منافعه وجها واحدا لأنه لو فعل ذلك بالعبد لم يضمن منافعه فالحر أولى ولو حبس الحر وعليه ثياب, لم يلزمه ضمانها لأنها تابعة لما لم تثبت اليد عليه في الغصب وسواء كان كبيرا أو صغيرا وهذا كله مذهب أبي حنيفة والشافعي.
فصل:
وأم الولد مضمونة بالغصب وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف, ومحمد وقال أبو حنيفة: لا تضمن لأن أم الولد لا تجري مجرى المال بدليل أنه لا يتعلق بها حق الغرماء فأشبهت الحر ولنا, أن ما يضمن بالقيمة يضمن بالغصب كالقن, ولأنها مملوكة فأشبهت المدبرة وفارقت الحرة فإنها ليست مملوكة, ولا تضمن بالقيمة.
فصل:
وإذا فتح قفصا عن طائر فطار أو حل دابة فذهبت ضمنها وبه قال مالك وقال أبو حنيفة, والشافعي: لا ضمان عليه إلا أن يكون أهاجهما حتى ذهبا وقال أصحاب الشافعي: إن وقفا بعد الفتح والحل ثم ذهبا, لم يضمنهما وإن ذهبا عقيب ذلك ففيه قولان واحتجا بأن لهما اختيارا, وقد وجدت منهما المباشرة ومن الفاتح سبب غير ملجئ فإذا اجتمعا لم يتعلق الضمان بالسبب, كما لو حفر بئرا فجاء عبد لإنسان فرمى نفسه فيها ولنا أنه ذهب بسبب فعله, فلزمه الضمان كما لو نفره أو ذهب عقيب فتحه وحله, والمباشرة إنما حصلت ممن لا يمكن إحالة الحكم عليه فيسقط كما لو نفر الطائر, وأهاج الدابة أو أشلى كلبا على صبي فقتله أو أطلق نارا في متاع إنسان, فإن للنار فعلا لكن لما لم يمكن إحالة الحكم عليها كان وجوده كعدمه, ولأن الطائر وسائر الصيد من طبعه النفور وإنما يبقى بالمانع فإذا أزيل المانع ذهب بطبعه, فكان ضمانه على من أزال المانع كمن قطع علاقة قنديل فوقع فانكسر وهكذا لو حل قيد عبد فذهب, أو أسر فأفلت وإن فتح القفص وحل الفرس فبقيا واقفين, فجاء إنسان فنفرهما فذهبا فالضمان على منفرهما لأن سببه أخص فاختص الضمان به, كالدافع مع الحافر وإن وقع طائر إنسان على جدار فنفره إنسان فطار, لم يضمنه لأن تنفيره لم يكن سبب فواته فإنه كان ممتنعا قبل ذلك وإن رماه فقتله ضمنه وإن كان في داره لأنه كان يمكنه تنفيره بغير قتله وكذلك لو مر الطائر في هواء داره, فرماه فقتله ضمنه لأنه لا يملك منع الطائر من هواء داره فهو كما لو رماه في هواء دار غيره.
فصل:
ولو حل زقا فيه مائع, فاندفق ضمنه سواء خرج في الحال, أو خرج قليلا قليلا أو خرج منه شيء بل أسفله فسقط أو ثقل أحد جانبيه فلم يزل يميل قليلا قليلا حتى سقط, أو سقط بريح أو بزلزلة الأرض أو كان جامدا فذاب بشمس لأنه تلف بسبب فعله وقال القاضي: لا يضمن إذا سقط بريح أو زلزلة, ويضمن فيما سوى ذلك وهو قول أصحاب الشافعي ولهم فيما إذا ذاب بالشمس وجهان واحتجوا بأن فعله غير ملجئ والمعنى الحادث مباشرة, فلم يتعلق الضمان بفعله كما لو دفعه إنسان ولنا أن فعله سبب تلفه ولم يتخلل بينهما ما يمكن إحالة الحكم عليه, فوجب عليه الضمان كما لو خرج عقيب فعله أو مال قليلا قليلا, وكما لو جرح إنسانا فأصابه الحر أو البرد فسرت الجناية فإنه يضمن وأما إن دفعه إنسان, فإن المتخلل بينهما مباشرة يمكن الإحالة عليها بخلاف مسألتنا ولو كان جامدا فأدنى منه آخر نارا, فأذابه فسال فالضمان على من أذابه لأن سببه أخص لكون التلف يعقبه, فأشبه المنفر مع فاتح القفص وقال بعض الشافعية: لا ضمان على واحد منهما كسارقين نقب أحدهما وأخرج الآخر المتاع وهذا فاسد لأن مدنى النار ألجأه إلى الخروج فضمنه, كما لو كان واقفا فدفعه والمسألة حجة عليه فإن الضمان على مخرج المتاع من الحرز والقطع حد لا يجب إلا بهتك الحرز وأخذ المال جميعا ثم إن الحد يدرأ بالشبهات, بخلاف الضمان ولو أذابه أحدهما أولا ثم فتح الثاني رأسه فاندفق, فالضمان على الثاني لأن التلف تعقبه وإن فتح زقا مستعلى الرأس فخرج بعض ما فيه واستمر خروجه قليلا قليلا, فجاء آخر فنكسه فاندفق فضمان ما خرج بعد التنكيس على المنكس, وما قبله على الفاتح لأن فعل الثاني أخص كالجارح والذابح.
فصل:
وإن حل رباط سفينة فذهبت أو غرقت فعليه قيمتها, سواء تعقب فعله أو تراخى والخلاف فيها كالخلاف في الطائر في القفص.
فصل:
وإذا أوقد في ملكه نارا أو في موات فطارت شرارة إلى دار جاره فأحرقتها, أو سقى أرضه فنزل الماء إلى أرض جاره فغرقها لم يضمن إذا كان فعل ما جرت به العادة من غير تفريط لأنه غير متعد ولأنها سراية فعل مباح, فلم يضمن كسراية القود وفارق من حل زقا فاندفق لأنه متعد بحله, ولأن الغالب خروج المائع من الزق المفتوح وليس الغالب سراية هذا الفعل المعتاد إلى تلف مال غيره وإن كان ذلك بتفريط منه بأن أجج نارا تسري في العادة لكثرتها, أو في ريح شديدة تحملها أو فتح ماء كثيرا يتعدى أو فتح الماء في أرض غيره, أو أوقد في دار غيره ضمن ما تلف به وإن سرى إلى غير الدار التي أوقد فيها والأرض التي فتح الماء فيها لأنها سراية عدوان, أشبهت سراية الجرح الذي تعدى به وإن أوقد نارا فأيبست أغصان شجرة غيره ضمنها لأن ذلك لا يكون إلا من نار كثيرة إلا أن تكون الأغصان في هوائه, فلا يضمنها لأن دخولها عليه غير مستحق فلا يمنع من التصرف في داره لحرمتها وهذا الفصل مذهب الشافعي فيه كما ذكرنا سواء.
فصل:
وإن ألقت الريح إلى داره ثوب غيره لزمه حفظه لأنه أمانة حصلت تحت يده, فلزمه حفظه كاللقطة وإن لم يعرف صاحبه فهو لقطة تثبت فيه أحكامها وإن عرف صاحبه, لزمه إعلامه فإن لم يفعل ضمنه لأنه أمسك مال غيره بغير إذنه من غير تعريف فصار كالغاصب وإن سقط طائر في داره, لم يلزمه حفظه ولا إعلام صاحبه لأنه محفوظ بنفسه وإن دخل برجه فأغلق عليه الباب ناويا إمساكه لنفسه, ضمنه لأنه أمسك مال غيره لنفسه فهو كالغاصب وإلا فلا ضمان عليه لأنه يتصرف في برجه كيف شاء, فلا يضمن مال غيره بتلفه ضمنا لتصرفه الذي لم يتعد فيه.
فصل:
إذا أكلت بهيمة حشيش قوم ويد صاحبها عليها, لكونه معها ضمن وإن لم يكن معها, لم يضمن ما أكلته وإذا استعار من رجل بهيمته فأتلفت شيئا وهي في يد المستعير فضمانه على المستعير, سواء أتلفت شيئا لمالكها أو لغيره لأن ضمانه يجب باليد واليد للمستعير وإن كانت البهيمة في يد الراعي فأتلفت زرعا, فالضمان على الراعي دون صاحبها لأن إتلافها للزرع في النهار لا يضمن إلا بثبوت اليد عليها واليد للراعي دون المالك فكان الضمان عليه, كالمستعير وإن كان الزرع للمالك فإن كان ليلا ضمن أيضا لأن ضمان اليد أقوى بدليل أنه يضمن به في الليل والنهار جميعا.
فصل:
إذا شهد بالغصب شاهدان, فشهد أحدهما أنه غصبه يوم الخميس وشهد آخر أنه غصبه يوم الجمعة لم تتم البينة, وله أن يحلف مع أحدهما وإن شهد أحدهما أنه أقر بالغصب يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر بغصبه يوم الجمعة ثبتت البينة لأن الإقرار وإن اختلف رجع إلى أمر واحد وإن شهد أنه أقر أنه غصبه يوم الخميس وشهد الآخر أنه غصبه يوم الجمعة, لم تثبت البينة أيضا وإن شهد له واحد وحلف معه ثبت الغصب, فلو كان الغاصب حلف بالطلاق أنه لم يغصبه لم نوقع طلاقه لأن الشاهد واليمين بينة في المال لا في الطلاق والله أعلم.