الله و الشاعر
المظهر
الله و الشاعر
لا تفزعي يا أرض: لا تفرقي
من شبح تحت الدّجى عابر
ما هو إلاّ آدميّ شقي
سمّوه بين النّاس بالشاعر
حنانك الآن فلا تنكري
سبيله في ليلك العابس
و لا تضلّيه و لا تنفري
من ذلك المستصرخ البائس
مدّي لعينيه الرّحاب الفساح
و رقرقي الأضواء في جفنه
و أمسكي يا أرض عصف الرّياح
و الرّاعد المنصب في أذنه
أتسمعين الآن في صوته
تهدّج الأنّات من قلبه؟
و تقرأين الآن في صمته
تمرّد الرّوح على ربّه؟
و في وقفة الذّاهل ألقى عصاه
مولّي الجبهة شطر الفضاء
كاّنما يرقى الدّجى ناظره
يستشفّا ما وراء السّماء
يسقط ضوء البرق في لمحه
على جبين بارد شاحب
و يستثير البرد في لفحه
نارا تلظّى من فم ناضب
أنت له يا أرض أمّ رؤوم
فأشهدي الكون على شقوته
وردّدي شكواه بين النّجوم
فهو ابنك الإنسان في حيرته
ما هو إلاّ صوتك المرسل
وروحك المستعبد المرهق
قد آده الدّهر بما يحمل
فجاء عن آلامه ينطق
طغى الأسى الدّاوي على صوته
يا للصّدى من قلبه الناطق
مضى يبثّ الدّهر في خفته
شكاية الخلق إلى الخلق إلى الخالق
لا تعدني يا ربّ في محنتي
ما أنا إلاّ آدميّ شقي
طردتني بالأمس من جنّتي
فاغفر لهذا الغاضب المحنق
حنانك اللّهم لا تغضب
أنت الجميل الصّفح جمّ الحنان
ما كنت في شكواي بالمذنب
و منك يا ربّ أخذت الأمان
ما أنا بالزّاري و لا الحاقد
لكنّني الشّاكي شقاء البشر
أفنيت عمري في الأسى الخالد
فجئت أستوحيك لطف القدر
تمرّدت روحي على هيكلي
و هيكل الجسم كما تعلم
ذاك الضّعيف الرّأي لم يفعل
إلاّ بما يوحي إليه الدّم!
يعرق حدّ السّيف من لحمه
و يحطم الصّفوان بنيانه
و ينخر الجرثوم في عظمه
و منه ينمي القبر ديدانه
ما هو إلا كومة من هباء
تمحقه اللّمسة من غضبتك
فكيف يثني الرّوح عمّا تشاء؟
و كيف يقوى؟ و هي من قدرتك؟
روحك في روحي تبثّ الحياة
نزلت دنياي على فجرها
فإن جفاها ذات يوم سناه
لاذت بليل الموت في قبرها
و مثلما قدّرتها صوّرتها
فروحك الصّوت و روحي الصّدى
طبيعة في الخلق ركبتها
و ما أري لي في بناه يدا!
لكنّما روحك من جوهر
صافي و روحي ما صفت جوهرا!
أو لا؟ فما للخير لم يثمر
فيها؟ و ما للشّر قد أثمرا؟
تقول روحي إنّها ملهمة
فهي لما قدّرته متبعة
مقودة في سيرها مرغمة
و إن تراءت حرّة طيّعة
قيّدتها بالجسم في عالم
تضجّ بالشّهوة فيه الجسوم
كلاهما في حبه الآثم
لم يصح من سكراه وهو الملوم
تبدي به الأجسام سحر الحياة
في معرض يجلو غريب الفنون
نواعس الأجفان حوّ الشّفاه
شديدة الإغراء شتّى الفتون!
و لم أكن أوّل مغرى بما
أغرت به حوّاء آدما
إرث تمشّى في دمي منهما
ميراثه ينتظم العالما!
فأنت قدّرت عليّ الشّقاء
من حيث قدّرت عليّ النّعيم
و ما أرى!! هل في غد لي ثواء
بالخلد؟ م مثواي نار الجحيم؟
ما أثمت روحي و لا أجرمت
و لا طغى جسمي و لا استهترا
عناصر الروح بما ألهمت
أوحت إلى الجسم فما قصّرا
كلاهما لم يعد تصويره
ما كان إلاّ مثلما كوّنا
كم حاولا بالأمس تغييره
فاستكبر الطّبع و ما أذعنا
أمنذري أنت بيو الحساب؟
و لائمي أنت على ما جرى؟
رحماك: مايؤضيك هذا العذاب
لطيّع لم يعص ما قدّرا!!
ما كنت إلاّ مثلما ركّبت
غرئزي، ما شئت لا ما أشاء
فلتجزها اليوم بما قدّمت
و إن تكن ممّا جنته براء!
و فيم تجزى، و هي لم تأثم؟
ألست أنت الصّائغ الطّابعا؟
ألم تسمها قبل بالميسم
؟
ألم تصغها عنصرا عنصرا؟
من أين؟ ما علمي؟ و أنت العليم!
جبلتها يوم جبلت الثّرى
من عالم الذّر و دنيا السّديم
الخير و الشّر بها توأمان
و الحبّ و الشّهوة في طبعها
حوّاء و الشّيطان لا يبرحان
يساقطان السّحر في سمعها
تشكّكت نفسي بما تنتهي
إليه دنياه و ماذا يكون!
مضت فما آبت بما تشتهي
من حيرة الفكر و هجس الظّنون!
رأت إساري في قيود ثقال
بين يديّ ذي مرّة يبسمون
يسوقهم في فلوات اللّيال
في بطش جبّارين لا يرحمون
إن ضجّ في الأغلال منهم طليح
أخرسه السّوط الذي يرهف
و إن هوى للأرض منهم جريح
أنهضه في قيده يرسف!
يا ويحهم ما عرفوا موئلا
من قسوة الدّهر و حور القضاء
يا أرض ما كنت لنا منزلا
ما أنت إلاّ موبق الأبرياء!!
أفي سبيل العيش هذا الصّراع؟
أم في سبيل الخاد و الآخره؟
و هؤلاء البائسون الجياع
تطحنهم تلك الرّحى الدّائره؟؟
ما ذنب هذا العالم الثّائر؟
إن حاول الإفلات من آسره؟
ما كان في ميلاده الغابر
أسعد حالا منه في حاضره!!
ما كان لو لم تنز آلامه
بالماجن الرّوح و لا الهائم
لو جرت بالصّفو أيّامه
ما كان بالزّاري و النّاقم
رأى بعينيه المصير الرّهيب
و كيف غال النّاس من قبله
و كلّ يوم للمنايا عصيب
يسوقهم للموت من حوله!
فحقّر الدّنيا و أزرى بها
و قال: مالي أنكر الواقعا؟
فلتسعد النّفس بأنخابها
من قبل أن تلقى الغد الرّائعا!
أيصبح الإنسان هذا الرّميم؟
و الجيفة الملقاة نهب التّراب؟
أيستحيل الكونهذا الهشيم
و الظّلمة الجاثم فيها الخراب؟
لمن إذا ابتدع تلك العقول؟
أفي الرّدى تدرك ما فاتها؟؟
أم غد تثوي بتلك الطّلول
و يستحق الدّهر يواقيتها؟؟
و آسفا للعالم البائد
ليس له ممّا يرى مهرب
على رنين النجل الحاصد
مضى يغنّي... و هو لا يطرب!!
فدعه ينسى بعض ما حمّلا
من نكد الدّنيا و ضنك الحياه
و أوله العطف الذي أمّلا
فإنهأولى بعطف الإله!
ماهي إلاّ لحظات قصار
تمرّ مثل الومض في عينيه
فإن مضى اللّيل و جاء النّهار
عاوده الخالد من حزنه!
و ما أتى الغيّ ليعصي الإله
يوما، و لا كان به مغرما
لك لينسى شقوات الحياه
و سرّها المستغلق المبهما!
يا للشّقيّ القلب كم سامه
توهّم النّعمة ما لا يطيق
يريد أن يقنع أوهامه
بأنه ذاك الخليّ الطّليق
هأنذا أرفع آلامه
إلى سماء المنقذ الأعظم
إنا الذي ترسل أنغامه
قيثارة القلب، و ناي الفم
من عبراتي صغت هذا المقال
و من لهيب الرّوح هذا القلم
ملأت منه صفحات اللّيال
فضمّنت كلّ معاني الألم
أنا الذي قدّست أحزانه
الشّاعر الباكي شقاء المبشر
فجّرت بالرّحمة ألحانه
فاملأ بها يا ربّ قلب القدر ّ
ما الشّاعر الفنّان في كونه
إلاّ يد الرّحمة من ربّه
معزّي العالم في حزنه
و حامل الآلام عن قلبه
عزاؤه شهر به أهزج
في نغم مستعذب ساحر
ما يحزن العالم أو يبهج
إلاّ على قيثارة الشّاعر
يا ربّ ما اشقيتني في الوجود
إلاّ بقلبي: ليته لم يكن
في المثل الأعلى و حبّ الخلود
حمّلته العبء الذي لم يهن
خلقته قلبا رقيق الشّغاف
يهيم بالنّور و يهوى الجمال
حلت له النّجوى و لذّ الطّواف
بعالم الحسن و دنيا الخيال
بعثته طيرا خفوق الجناح
على جنان ذات ظلّ و ماء
أطلقته فيها قبيل الصّباح
و قلت: غنّ الأرض لحن السّماء
فهام في آفاقها الواسعة
النّور يهفو حوله و النّدى
مصفّقا للضّحوة الساطعة
و منشدا ما شاء أن ينشدا
أن جاء صيف أو تجلّى ربيع
حيّاه منه عبقريّ الغناء
و كم خريف من نشيد بديع
تظلّ ترويه ليال الشّتاء
قيتارة تصدر في فنّها
عن عالم السّحر و دنيا الخفاء
على الصّدى الحائر من لحنها
يستيقظ الفجر و يغفو المساء
مشت على الأنغام أمواجها
و الأرض قيد النّشوة المسكره
كأنّما ترقص أحلامها
في ليلة شرقيّة مقمره!
من قلبه أسلست أوتارها
فقلبه يخفق في كفّه
يشدو فتملي النّفس أسرارها
عليه فهي اللّحن من عزفه
ذات صباح طار لا يمهل
و الأرض سكرى من عبير الزهور
حلى حصاها رنّم الجدول
و في روابيها تغني الطّيور
ما كان يدري قبل أن ينظرا
ما خبأته النّظرة العاجلة
ما أبدع الحلم الذي صوّرا
لو لم تشبه اليقظة القاتلة!
مرّ بنهر دافق سلسبيل
تهفو القمارى حوله شادية
في ضفّتيه باسقات النّخيل
ترعى الشّياه تحتها ثاغية
فهاجت النّظرة ممّا رأى
في قلبه السّحر و في عينيه
الكون يبدو وادعا هانئا
كانّه الفردوس في أمنه
فظلّ في التفكير مستغرقا
من فتنة الدّنيا و من سحرها
ما كان إلاّ ريثما حدّقا
حتى جلت دنياه عن سحرها
رأى بعينيه الذي لم يره
الذّئب و الشّاة، و حرب البقاء
ما عرف القتل و لا أبصره
و لا رأى من قبل لون الدّماء!
ما هي إلا صرخات الفزع
و صيحة المقتول و القاتل
قد انقضى الأمر كأن لم يقع
و ضاع صوت الحقّ في الباطل
و بعد ساعات يولّي النّهار
و يقبل اللّيل و ما يعلم!
سيلبث السّر وراء السّتار
و يختفي الشّلو و يمحي الدمّ
فروّع الشاعر ممّا رآه
و هام في الأرض على وجهه
أين ترى يا أرض يلقي عصاه؟
و أيّ واد ضلّ في تيهه؟
حتى إذا شارف ظلّ الشّجر
في روضة غنّاء ريا الأديم
قد ضحطت للنّور فيها الزّهر
و صفّقت أوراقها للنّسيم
إختار في الظّل له مقعدا
قي ربوة فاتنة ساحرة
أذاب فيها الشّفق العسجدا
و ناسمتها النّفحة العاطرة
بينما يملّي العين من سحرها
إذ أبصر الصّلّ بها مطرقا
قد انتحى الأطيار في و كرها
فسامها من نابه مبقا
هل سمعت أذناك قصف الرّعود
في صخب البحر و عصف الرّياح؟
هل أبصرت عيناك ركض الجنود
في فزع الموت و هول الكفاح
إن كنت لم تبصر و لم تسمع
فقف إلى ميدانها الأعظم
ما بين ميلادك و المصرع
ما بين نابي ذلك الأرقم!!
جريمة الغدر و سفك الدّم
جريمة لم يخل منها مكان
يا لجّة كلّ إليها ظمي
قد جاز طوفانك شمّ القنان!
من علّم الثعبان هذا الختال؟
و الحيوان الغدر من علّمه؟
يا أرض هذا الوحي من عالمك
الماء و الطين به يشهدان
جنيت يا أرض على آدمك
إذ سمته بالأمس هجر الجنان!
أكلّ واد طرقته خطاه
طالعه من الرّدى الكامن؟
حتى إذا ضاقت عليه السبل
و عزّ في الأرض عليه المقام
أوى إلى كهف بسفح الجبل
عساه يقضي ليله في سلام
ما كان إلاّ حلما كاذبا
أفاق منه مسطير الجنان
البحر يرغي تحته صاخبا
و الشّهب نار و الدّياجي دخان
الأرض من أقطارها راجفة
كأنّما طاف عليها المنون
تضجّ في أرجائها العاصفة
كأنّما النّاس بها يحشرون!
ثمّ استقرّ العالم الثّائر
و أقبل النّور وولّى الظّلام
وا عجبا ممّا يرى الشّعر
كأنما أمسى بوادي الحمام!
بدت له الأرض كقبر عفا
إلاّ بقايا رمّة أو حجر
قد أصبح القاع بها صفصفا
فما عليها من حياة أثر
مررت بالبلدان مستعبرا
أبكي الحاضرات و أرثي الفنون
أنقاضها تملأ وجه الثرى
و كنّ بالأمس مثار الفتون
أتى على اليابس و الأخضر
الموج و النّوء و سيل الحمم
يا رحمة الله اهبطي و انظري
ما حصد الموت ودكّ العدم!!
أيستحق النّاس هذا العقاب؟
أم حانت الساعة من نقمتك!
ما احتملوا يا ربّ هذا العذاب
إلا رجاء الغوث من رحمتك؟
أما ترى منفرجات الشفاه
عن آخر الصّيحات من رعبها؟
ما زال فيها من معاني الحياه
إيماءة الشّكوى إلى ربّها!
و هذه الأعين نهب العفاء
في رقدة الموت كأن لم تنم
محدقات في نواحي السّماء
تشهدها هذا الأسى و الألم!
و هذه الأيدي تحوط الصّدور
كأنّها في موقف للصّلاة
لم تنس في نزع الحياة الغرور
ضراعة ترسمها للإله!
ما عرفوا من صعقات الرّدى
إلاّك من غوث و من منجد
و لا سرى في الأرض منهم صدى
إلا و دوّى باسمك الأمجد!
أعبرة تذكرها كلّ حين
للعالم الذّاكر إمّا نسي؟
أم ضربات قاسيات تلين
بهنّ قلب الفظّ و الأشرس؟
أم موجة الطّهر التي تغسل
مآثم الكون و تمحو أذاه
يا ربّ ضقنا بالذي نحمل
فحسبنا آلامنا في الحياة!!
ألم تطهّر ذلك العالما
من كل عاص أو غويّ جموح؟
ما غادر الموج به قائما
يوم احتوى الأعلام طوفان نوح!
إذا فما للناسَضلّو الهدى؟
و أخطؤا اليوم سبيل الرّشاد؟
لعلّ نوحا أخطأ المقصدا
فأغرق الخير و نجّى الفساد!!
يا ليته لما دعا بابنه
و حالت الأمواج أنّ يسمعا
لجّ عليه القلب في حزنه
فلم يرى الجوديّ لمّا دعاّ!!
يا أرض ولى عهد نوح وزال
فمن لك اليوم بطوفانه؟
مسكينة تطوين بحر اللّيال
قد عزّك المرسى بشطئانه!
إلام تطوين عباب السنين
شوقا إلى فردوسك الضّائع؟
غرّرت يا ارض بما تحملين
فاستيقظي من حلمك الخادع
و ابقبي كما أنت على موّجه
تمزق الأنواء منك الّشراعا
يقذفك التّيار في لجذه
عشواء لا يهديك فيه شعاع
سلي القداسات و أربابها
ضراعة تصغي إليها السّماء
أو فاطرقي في البثّ أبوابها
لعلها ترفع عنك الشّقاء؟
يا أيّها الغادون الرّائحون
في شعب الأرض و ليل الهموم
تمسون أشتاتا كما تصبحون
و الشمس حيرى فوقكم و النّجوم!
مدّوا لها الأيدي و ولّوا الجباه
و أرسلوها صيحة واحده
قولوا لها: يا من شهدت الحياه
من أين تلك النّظرة الجامدة؟
من أين تلك النّظرة الهادئة؟
أم أنت يا أعين لا تبصرين؟!
أم هكذا أوحى إليك القضاء
فما عرفت الحزن و الأدمعا؟
يا أيها النّاس اضرعوا للسّماء
قد آن أن تصغي و أنّ تشفعا!
هاتوا الأزاهير و هاتوا الغصون
و كلّ ما يحلو و ما يجمل
قد آن أن تفضّوا بما تشعرون
فاشعلوا النار بها أشعلوا!!
أو فاملأوا من زهرها اليانع
مجامر النّار و ألقوا البخور
و صعّدوا في ذلة الضّارع
أنفاسكم نشوى بتلك العطور
أحبب بها من أنّة عاطرة
في مسمع الأفلاك إذ تصعد
أصداؤها الرّفافة الحئرة
في وجهها الآفاق لا توصد!!
يا أرض ناديت فلم تسمعي
أنكرت صوتي و هو من قلبك
لا تفرقي مني و لا تفزعي
من شاعر شاك إلىربّك
أيّتها المحزونة الباكية
لا تيأسي من رحمة المنقذ
لعل من آلامك الطّاغية
إذا دعوت الله من منفذ ّ!
فابتهلي لله، و استغفري
وكفّري عنك بنار الألم
و قدّمي التوبة، و استمطري
بين يديه عبرات النّدم!!