اللغة العربية كائن حي/الألفاظ العلمية
العصر العباسي
نريد بالالفاظ العلمية ما اقتضاه نقل كتب العلم، والفلسفة الى اللغة العربية في العصر العباسي من الالفاظ الجديدة، لتأدية ما جدّ من المعاني، مما لم يكن له مثيل في لسان العرب، كالمصطلحات الطبية، والكيماوية، والفلسفية، والطبيعية، والرياضية، والفلكية، والمنطقية، وما ألحق بذلك من مصطلحات علم الكلام، والتصوّف، ونحوهما.
وشأن أهل العصر العباسي في نقل تلك العلوم من اليونانية، والفارسية، والهندية، وغيرها، مثل شأننا في نقل علوم هذا العصر من الفرنسية، والانجليزية، والالمانية، وغيرها.. بل هم كانوا أحوج منا الى اقتباس الالفاظ الاعجمية، وتنويع المعاني العربية لاستغنائها عن كثير من ذلك، بما وصل الينا مما اقتبسوه ونوّعوه من تلك الالفاظ.
ولم تقتصر تلك النهضة العلمية على تنويع الالفاظ وتبديلها، ولكنها احدثت تنويعا في التعبير يسهل علينا تصوّره لكثرته في نهضتنا هذه مما سنذكره في حينه.. فالتغيير الذي أصاب اللغة العربية بنقل كتب العلم، والفلسفة قسمان: احدهما في المفردات، والآخر في التراكيب. والتغيير اللفظي إما بتنوّع الالفاظ العربية، أو باقتباس ألفاظ أعجمية.
الالفاظ العلمية العربية
هي ألفاظ عربية تنوّعت معانيها، للدلالة على ما حدث من المعاني الجديدة العلمية، والفلسفية، التي تنوّعت من قبل للدلالة على المعاني الشرعية، واللغوية، والادبية في صدر الاسلام.
واول تلك الالفاظ، أسماء العلوم التي نقلت الى لساننا او حدثت فيه على أثر ذلك، كالطبيعيات، والالهيات، والرياضيات، والمنطق، والهيئة، والجبر، والمقابلة، ونحو ذلك، مع ما في كل علم من الاصطلاحات الخاصة به، وهي كثيرة جدا.. اليك أمثلة منها:
1- الالفاظ الطبية
فالألفاظ الطبية العربية لم يكن منها في الجاهلية الا مفردات قليلة، كالحجامة، والكيّ، ونحوهما.. فحدث منها ما يدل على فنون الطب: كالكحالة، والصيدلة، والتشريح، والجراحة، والتوليد، ومنها ما يختص بـاصطلاحات كل فن: كأسماء الرطوبات، والأمزجة، والاختلاط من الحار، والبارد، والجاف، واليابس، والسوداء، والصفراء، والبلغم، والنبض، والتخمة، والانذار، والهضم، والبحران، والمشاركات.
وأسماء الأدوية: كالمسخنات، والمبردات، والمرطبات، والمجففات، والمسهلات، والتطولات، والمخدرات، والاستفراغات، والسعوطات، والادهان، والمراهم، والأطلية.
والكلمات الدالة على أثر تلك الادوية، مثل: ملطف، ومحلل، ومنضج، ومخشن، وهاضم، وكاسر الرياح، ومخمر، ومحكك، ومقرح، وأكّال، ولاذع، ومفتت، ومعفن، وكاو، ومبرد، ومقو، ومخدر، ومرطب، وعاصر، وقابض، ومسهل، ومدر، ومعرق، ومزلق، ومملس، وترياق، وغير ذلك.
ومن الالفاظ الجراحية: الفسخ، والهتك، والوثي، والرض، والخلع، والفتق، وتفرق الاتصال، ومفارقة الوضع، والجبار، وغيره. ناهيك عن أسماء الأمراض أو أعراضها: كالصداع، والكابوس، والصرع، والتشنج، واللقوة، والرعشة، والاختلاج، والسرطان، والسلاق، والشترة، والشرناق، والخانوق، والذبحة، والربو، وذات الجنب، وذات الرئة، والجهر، والضمور، والخفقان، والغثيان، واليرقان، والاستسقاء، والدبيلة، والاسهال، والزجير، والسحج، والسدد، والهيضة، والبواسير، ونحو ذلك.. مما لا يمكن حصره.
ومن اوصاف الامراض انواع الحميات: كالمزمنة، والحادة، والمختلطة، والغب، والمطبقة، والربع، والدق، وغيرها.. غير الألفاظ التشريحية: كأسماء الاوعية الدموية، ورطوبات العين، وسائر الاعضاء الباطنة التي لم يكن العرب يعرفونها.
ولاكثر الالفاظ الطبية العربية معان لغوية، عرفها العرب قبل عصر العلم.. فلما احتاجوا الى المعاني الجديدة استعملوا من تلك الالفاظ ما يقرب معناه من المعنى المقصود.
2- الالفاظ الرياضية
ويقال نحو ذلك في الالفاظ الكيماوية، والرياضية، والفلكية، وسائر العلوم الطبيعية، مما يضيق هذا المقام عن استيفائه، وقد يلزم لاصطلاحات كل علم كتاب بذاته.
فمن امثلة الالفاظ الفلكية، اكثر اسماء الابراج، والافلاك، والمصطلحات الفلكية، والازياج، وما يلحق ذلك، كالرصد، والتعديل، والتقويم، والخسوف، والكسوف.
ومن الالفاظ الرياضية في الهندسة، والحساب، والجبر، ما لا يحصى، كالمماس، والمخروط، والمثلث، والمربع، وغير ذلك
3- الالفاظ الفلسفية والمنطقية والكلامية
واما الفلسفة والمنطق، فاصطلاحاتهما تفوق الحصر.. ومن العلوم التي اقتضاها التمدن الاسلامي بعد نقل الفلسفة والمنطق الى لسان العرب، علم الكلام والتصوف مع التوسع في الفقه والاصول. وقد كان لهذه العلوم تاثير كبير في اللغة العربية، فتنوعت الفاظها، واحدث فيها الفاظا جديدة:
وذلك كقولهم: الكون، والظهور، والقدم، والحدوث، والاثبات، والنفي، والحركة، والسكون، والمماسة، والمباينة، والوجود، والعدم، والطفرة، والاجسام، والاعراض، والتعديل، والتحرير، والمصاف، من اصطلاحات علم الكلام. والهاجس، والمريد، والمراد، والسالك، والمسافر، والسطح، والقطب، والهيبة، والانس، والبقاء، والعناء، والشاهد، والفترة، والمجاهدة، من اصطلاحات التصوف.
وقد تكاثرت الاصطلاحات الكلامية والصوفية والفقهية والاصولية حتى صارت تعد بالالوف، فاضطروا الى وضع المعجمات الخاصة لتفسيرها، وشرح ما اكتسبته من المعاني المختلفة باختلاف تلك العلوم.
ومن اشهر تلك المعجمات كتاب التعريفات لـالجرجاني في نيف ومائة صفحة وكشاف اصطلاحات الفنون لـالتهانوي في نحو ألفي صفحة كبيرة و كليات ابي البقاء في اربعمائة صفحة واصطلاحات الصوفية الواردة في الفتوحات المكية وغيرها. فاذا ذكروا لفظا أرادوا معناه اللغوي، ثم معناه الاصطلاحي في الفقه او الكلام او التصوف او الاصول مع ما يناسب ذلك من المعاني الرياضية او الطبيعية او النحوية.. وقد يغفلون المعنى اللغوي على الاطلاق.
فيقول الجرجاني في لفظ "القياس" مثلا: "القياس في اللغة عبارة عن التقدير، يقال: قست النعل اذ قدرته وسويته، وهو عبارة عن رد الشيء الى نظيره, وفي الشريعة عبارة عن المعنى المستنبط من النص لتعدية الحكم من النصوص عليه الى غيره، وهو الجمع بين الاصل والفرع في الحكم. وفي المنطق قول مؤلف من قضايا اذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، كقولنا العالم متغير وكل متغير حادث، فانه قول مركب من قضيتين.. اذا سلمنا لزم عنهما لذاتهما العالم حادث هذا عند المنطقيين. وعند اهل الاصول، القياس ابانة مثل حكم المذكورين بمثل علته في الآخر واختيار لفظ الابانة دون الاثبات، لان القياس مظهر للحكم لا مثبت، وذكر مثل هذا الحكم ومثل العلة احتراز عن لزوم القول بانتقال الاوصاف واختيار لفظ المذكورين ليشمل القياس بين الموجودين والمعدومين" ثم ميز الجرجاني بين انواع القياس بالفاظ تلحق به، كالقياس الجلي والخفي والاستثنائي والاقترابي وقياس المساواة، لكل منها معنى اصطلاحي خاص.
وفي الاصطلاحات الصوفية: "الهاجس" يعبرون به عن الخاطر الاول، وهو الخاطر الرباني، وهو لا يخطئ ابدا.. وقد يسميه سهل السبب الاول ونقر الخاطر، فاذا تحقق في النفس سموه ارادة، فاذا تردد الثالثة سموه همة، وفي الرابعة سموه عزما، وعند التوجه الى القلب ان كان خاطر فعل سموه قصدا، ومع الشروع في الفعل سموه نية. و"المريد" هو التجرد عن ارادتهع، وقال ابو حامد: "هو الذي فتح له باب الاسماء ودخل في جملة المتوصلين الى الله بالاسم. و"المراد" عبارة عن المجذوب عن ارادته مع تهيىء الامور له. فجاوز الرسوم كلها والمقامات من غير مكابدة. و"السالك" هو الذي مشى على المقامات بحاله، لا نعلمه فكان العلم له عينا. و"المسافر" هو الذي سافر بفكره في المعقولات والاعتبارات.. فعبر عن عدوة الدنيا الى عدوة القصوى. و"السفر" عبارة عن القلب، اذا اخذ في التوجه الى الحق تعالى بالذكر.. وقس على ذلك.
الالفاظ العلمية الاعجمية
حينما قام العرب بتعريب العلوم، نقلوا من اصطلاحاتها الى لسانهم ما استطاعوا نقله، ونوّعوا الالفاظ على مقتضى المراد كما تقدم. وما لم يستطيعوا تعريبه، نقلوه بلفظه الى لسانهم.. وأكثر ما يكون ذلك في أسماء العقاقير، والأمراض، او الأدوات، او المصنوعات التي لم يكن لها شبيه في بلادهم.
فمما اقتبسوه من أسماء العقاقير: الافسنتبن، والبقدونس، والزيزفون، والسقمونيا، والقنطاريون، والمصطكي من اللغة اليونانية.
والبابونج،والبورق، والبنج، وخيار شمبر، والراتينج، والزرجون، والزرنيخ، والزاج، والسرقين، والاسفيداج، والشاهترج، والشيرج، والمرداسنج من اللغة الفارسية.
ومن أسماء الامراض ونحوها من الاستعمالات الطبية: القولنج، والترياق، والكيموس، والكيلوس، وقيفال، ولومان، وملنخوليا من اليونانية...وسرسام، ومارستان من الفارسية.
ومن المصنوعات والادوات: الاصطرلاب، والقيراط، والانبيق، والصابون من اليونانية.. والبركار، والبوتقة، والجنزار، والدسكرة، والاسطوانة من الفارسية.
ومن الاصطلاحات الفلسفية ونحوها: الهيولي، والاسطقس، والفلسفة، والطلسم، والمغنطيس، والاقليم، والقاموس، والقانون من اليونانية.. غير ما اقتبسوه من اللغة الهندية، وأكثره من أسماء العقاقير ونحوها.
فترى مما تقدّم ان اهل تلك النهضة لم يكونوا يستنكفون من اقتباس الالفاظ الاعجمية، ولم يتعبوا انفسهم في وضع الفاظ عربية لتأدية المعاني التي نقلوها عن الاعاجم.. بل كانوا كثيرا ما يستخدمون للمعنى الواحد لفظين من لغتين أعجميتين. فالسرسام مثلا اسم فارسي لورم دماغ حجاب الدماغ، استعمله العرب للدلالة على هذا المرض.. ولما ترجموا الطب من لغة اليونان استخدموا اسمه اليوناني وهو "قرانيطس" ولو استنكفوا من استخدام الالفاظ الاعجمية لاستغنوا عن اللفظين جميعا.
التراكيب الاعجمية في اللغة العربية
هذا مطلب بعيد الاطراف، يستغرق درسا طويلا وبحثا عميقا، لا يأذن بهما المقام.. فنكتفي بالتنبيه اليه، ونأتي ببعض الامثلة لتأييد قولنا. لكننا بالقياس على ما دخل اللغة العربية من التراكيب الاجنبية في أثناء نهضتنا الاخيرة، بما نقلناه من علوم الافرنج الى لساننا، نقطع بحدوث مثل ذلك في النهضة العباسية، ونقلة العلم يومئذ من غير اهل اللسان العربي..
على اننا لو فحصنا لغة ذلك العصر، وقابلنا بين عبارة كتب الطب، والفلسفة. وعبارة كتب الادب، لرأينا الفرق بينهما واضحا. واذا دققنا النظر في سبب ذلك الفرق رأينا عبارة اصحاب الفلسفة تمتاز بأمور، هي سبب ضعفها وركاكتها منها:
1- استخدام فعل الكون بكثرة على نحو ما يستعمله هلل اللغات الافرنجية.
2- كثرة الجمل المعترضة الشائعة عندهم.
3- الاكثار من استعمال الفعل المجهول.
4- استعمال ضمير الغائب "هو" بين المبتدأ والخبر حيث يمكن الاستغناء عنه.
5- ادخال الالف والنون قبل ياء المتكلم في بعض الصفات، كقولهم رحاني، نفساني، وباقلاني، ونحو ذلك، مما هو مألوف في اللغات الآرية ولا يستحسن في اللسان العربي.
ومن التعبيرات التي اقتبسها العرب من اللغة اليونانية، ما لم يكن لهم مندوحة عنها ولا بأس منها:
1- تركيب الالفاظ مع لا النافية، وادخال "أل" التعريف عليها، كقولهم اللانهاية، واللاادارية، واللاضرورة.
2- صوغ الاسم من الحروف او الضمير، مثل قولهم اللمية، والكيفية، والكمية، والهوية.
3- نقل الالفاظ من الوصفية الى الاسمية، كقولهم المائية، والمنضجة، والخاصة.
ومن هذا القبيل، اقتباساتهم بعض التعبيرات الفارسية الادارية مثل قولهم "صاحب الشرطة" و"صاحب الستار" وهو تعبير فارسي.