انتقل إلى المحتوى

الكيلانية/الصفحة الرابعة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل

ومن تأمل نصوص الإمام أحمد في هذا الباب وجدها من أسد الكلام وأتم البيان ووجد كل طائفة منتسبة إلى السنة قد تمسكت منها بما تمسكت ثم قد يخفى عليها من السنة في موضع آخر ما ظهر لبعضها فتنكره. ومنشأ النزاع بين أهل الأرض والاضطراب العظيم الذي لا يكاد ينضبط في هذا الباب يعود إلى أصلين . مسألة تكلم الله بالقرآن وسائر كلامه. ومسألة تكلم العباد بكلام الله. وسبب ذلك أن التكلم والتكليم له مراتب ودرجات وكذلك تبليغ المبلغ لكلام غيره له وجوه وصفات ومن الناس من يدرك من هذه الدرجات والصفات بعضها وربما لم يدرك إلا أدناها. ثم يكذب بأعلاها فيصيرون مؤمنين ببعض الرسالة كافرين ببعضها ويصير كل من الطائفتين مصدقة بما أدركته مكذبة بما مع الآخرين من الحق. وقد بين الله في كتابه وسنة رسوله ذلك فقال تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } وقال تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا } { ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما } وقال: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس }. ففي هذه الآية خص بالتكليم بعضهم وقد صرح في الآية الأخرى بأنه كلم موسى تكليما واستفاضت الآثار بتخصيص موسى بالتكليم فهذا التكليم الذي خص به موسى على نوح وعيسى ونحوهما ليس هو التكليم العام الذي قال فيه: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } فإن هذه الآية قد جمع فيها جميع درجات التكليم كما ذكر ذلك السلف. فروينا في كتاب الإبانة لأبي نصر السجزي وكتاب البيهقي وغيرهما عن عقبة قال: سئل ابن شهاب عن هذه الآية: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم } قال ابن شهاب: نزلت هذه الآية تعم من أوحى الله إليه من البشر. فكلام الله الذي كلم به موسى من وراء حجاب والوحي ما يوحي الله إلى النبي من أنبيائه عليهم السلام ليثبت الله عز وجل ما أراد من وحيه في قلب النبي ويكتبه وهو كلام الله ووحيه ومنه ما يكون بين الله وبين رسله ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولا يكتبونه لأحد ولا يأمرون بكتابته ولكنهم يحدثون به الناس حديثا ويبينونه لهم؛ لأن الله أمرهم أن يبينوه للناس ويبلغوهم إياه ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء ممن اصطفاه من ملائكته فيكلمون به أنبياءه من الناس ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء من الملائكة فيوحيه وحيا في قلب من يشاء من رسله. قلت: فالأول الوحي وهو الإعلام السريع الخفي: إما في اليقظة وإما في المنام فإن رؤيا الأنبياء وحي ورؤيا المؤمنين جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما ثبت ذلك عن النبي في الصحاح وقال عبادة بن الصامت - ويروى مرفوعا -: { رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام } وكذلك في اليقظة فقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: { قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر } وفي رواية في الصحيح مكلمون وقد قال تعالى: { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } وقال تعالى: { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه }. بل قد قال تعالى: { وأوحى في كل سماء أمرها } وقال تعالى: { وأوحى ربك إلى النحل } فهذا الوحي يكون لغير الأنبياء ويكون يقظة ومناما. وقد يكون بصوت هاتف يكون الصوت في نفس الإنسان ليس خارجا عن نفسه يقظة ومناما كما قد يكون النور الذي يراه أيضا في نفسه. فهذه الدرجة من الوحي التي تكون في نفسه من غير أن يسمع صوت ملك في أدنى المراتب وآخرها وهي أولها باعتبار السالك وهي التي أدركتها عقول الإلهيين من فلاسفة الإسلام الذين فيهم إسلام وصبوء فآمنوا ببعض صفات الأنبياء والرسل - وهو قدر مشترك بينهم وبين غيرهم - ولكن كفروا بالبعض فتجد بعض هؤلاء يزعم أن النبوة مكتسبة أو أنه قد استغنى عن الرسول أو أن غير الرسول قد يكون أفضل منه وقد يزعمون: أن كلام الله لموسى كان من هذا النمط وأنه إنما كلمه من سماء عقله وأن الصوت الذي سمعه كان في نفسه أو أنه سمع المعنى فائضا من العقل الفعال أو أن أحدهم قد يصل إلى مقام موسى. ومنهم من يزعم أنه يرتفع فوق موسى ويقولون: إن موسى سمع الكلام بواسطة ما في نفسه من الأصوات ونحن نسمعه مجردا عن ذلك. ومن هؤلاء من يزعم أن جبريل الذي نزل على محمد هو الخيال النوراني: الذي يتمثل في نفسه كما يتمثل في نفس النائم ويزعمون أن القرآن أخذه محمد عن هذا الخيال المسمى بجبريل عندهم؛ ولهذا قال ابن عربي صاحب الفصوص والفتوحات المكية : إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك: الذي يوحي به إلى الرسول. وزعم أن مقام النبوة دون الولاية وفوق الرسالة فإن محمدا - بزعمهم الكاذب - يأخذ عن هذا الخيال النفساني - الذي سماه ملكا - وهو يأخذ عن العقل المجرد الذي أخذ منه هذا الخيال. ثم هؤلاء لا يثبتون لله كلاما اتصف به في الحقيقة ولا يثبتون أنه قصد إفهام أحد بعينه؛ بل قد يقولون لا يعلم أحدا بعينه؛ إذ علمه وقصده عندهم إذا أثبتوه لم يثبتوه إلا كليا لا يعين أحدا بناء على أنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي. وقد يقرب أو يقرب من مذهبهم من قال باسترسال علمه على أعيان الأعراض وهذا الكلام - مع أنه كفر باتفاق المسلمين - فقد وقع في كثير منه من له فضل في الكلام والتصوف ونحو ذلك ولولا أني أكره التعيين في هذا الجواب لعينت أكابر من المتأخرين. وقد يكون الصوت الذي يسمعه خارجا عن نفسه من جهة الحق تعالى على لسان ملك من ملائكته أو غير ملك وهو الذي أدركته الجهمية من المعتزلة ونحوهم واعتقدوا أنه ليس لله تكليم إلا ذلك وهو لا يخرج عن قسم الوحي الذي هو أحد أقسام التكليم أو قسيم التكليم بالرسول. وهو القسم الثاني حيث قال تعالى: { أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } فهذا إيحاء الرسول. وهو غير الوحي الأول من الله الذي هو أحد أقسام التكليم العام. وإيحاء الرسول أيضا أنواع ففي الصحيحين { عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل النبي كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قالت عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا }. فأخبر أن نزول الملك عليه تارة يكون في الباطن بصوت مثل صلصلة الجرس. وتارة يكون متمثلا بصورة رجل يكلمه كما كان جبريل يأتي في صورة دحية الكلبي وكما تمثل لمريم بشرا سويا وكما جاءت الملائكة لإبراهيم وللوط في صورة الآدميين كما أخبر الله بذلك في غير موضع وقد سمى الله كلا النوعين إلقاء الملك وخطابه وحيا؛ لما في ذلك من الخفاء؛ فإنه إذا رآه يحتاج أن يعلم أنه ملك وإذا جاء في مثل صلصلة الجرس يحتاج إلى فهم ما في الصوت. والقسم الثالث التكليم من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام ولهذا سمى الله هذا نداء ونجاء فقال تعالى: { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا } وقال تعالى: { فلما أتاها نودي يا موسى } { إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى } { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } وهذا التكليم مختص ببعض الرسل كما قال تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله } وقال تعالى: { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } وقال بعد ذكر إيحائه إلى الأنبياء: { وكلم الله موسى تكليما } فمن جعل هذا من جنس الوحي الأول - كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ومن تكلم في التصوف على طريقهم كما في مشكاة الأنوار وكما في كتاب خلع النعلين وكما في كلام الاتحادية كصاحب الفصوص وأمثاله - فضلاله ومخالفته للكتاب والسنة والإجماع؛ بل وصريح المعقول من أبين الأمور. وكذلك من زعم: أن تكليم الله لموسى إنما هو من جنس الإلهام والوحي؛ وأن الواحد منا قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى - كما يوجد مثل ذلك في كلام طائفة من فروخ الجهمية الكلابية ونحوهم - فهذا أيضا من أعظم الناس ضلالا. وقد دل كتاب الله على أن اسم الوحي والكلام في كتاب الله فيهما عموم وخصوص. فإذا كان أحدهما عاما اندرج فيه الآخر كما اندرج الوحي في التكليم العام في هذه الآية واندرج التكليم في الوحي العام حيث قال تعالى: { فاستمع لما يوحى } وأما التكليم الخاص الكامل فلا يدخل فيه الوحي الخاص الخفي: الذي يشترك فيه الأنبياء وغيرهم كما أن الوحي المشترك الخاص لا يدخل فيه التكليم الخاص الكامل؛ كما قال تعالى لزكريا: { آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } ثم قال تعالى: { فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم } فالإيحاء ليس بتكليم ولا يناقض الكلام وقوله تعالى في الآية الأخرى: { ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } إن جعل معنى الاستثناء منقطعا اتفق معنى التكليم في الآيتين وإن جعل متصلا كان التكليم مثل التكليم في سورة الشورى وهو التكليم العام؛ وقد تبين أنه إنما كلم موسى تكليما خاصا كاملا بقوله: { منهم من كلم الله } مع العلم بأن الجميع أوحى إليهم وكلمهم التكليم العام وبأنه فرق بين تكليمه وبين الإيحاء إلى النبيين وكذا التكليم بالمصدر وبأنه جعل التكليم من وراء حجاب قسما غير إيحائه وبما تواتر عن النبي وأصحابه من تكليمه الخاص لموسى منه إليه وقد ثبت أنه كلمه بصوت سمعه موسى كما جاءت الآثار بذلك عن سلف الأمة وأئمتها موافقة لما دل عليه الكتاب والسنة. وغلطت هنا الطائفة الثالثة الكلابية. فاعتقدت أنه إنما أوحى إلى موسى عليه السلام معنى مجردا عن صوت. واختلفت هل يسمع ذلك؟ فقال بعضهم يسمع ذلك المعنى بلطيفة خلقها فيه قالوا: إن السمع والبصر والشم والذوق واللمس معان تتعلق بكل موجود كما قال ذلك الأشعري وطائفة وقال بعضهم لم يسمع موسى كلام الله فإنه عنده معنى والمعنى لا يسمع كما قال ذلك القاضي أبو بكر وطائفة. وهذا الذي أثبتوه في جنس الوحي العام الذي فرق الله عز وجل بينه وبين تكليمه لموسى عليه السلام حيث قال: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } إلى قوله: { وكلم الله موسى تكليما } وفرق بين إيحائه وبين تكليمه من وراء حجاب حيث قال: { إلا وحيا أو من وراء حجاب } وحيث فرق بين الرسول المكلم وغيره بقوله تعالى: { منهم من كلم الله }. لكن هؤلاء يثبتون أن لله كلاما هو معنى قائم بنفسه هو متكلم به وبهذا صاروا خيرا ممن لا يثبت له كلاما إلا ما أوحى في نفس النبي من المعنى؛ أو ما سمعه من الصوت المحدث ولكن لفرط ردهم على هؤلاء زعموا: أنه لا يكون كلاما لله بحال إلا ما قام به؛ فإنه لا يقوم به إلا المعنى. فأنكروا أن تكون الحروف كلام الله وأن يكون القرآن العربي كلام الله. وجاءت الطائفة الرابعة فردوا على هؤلاء دعواهم أن يكون الكلام مجرد المعنى فزعم بعضهم أن الكلام ليس إلا الحرف أو الصوت فقط وإن المعاني المجردة لا تسمى كلاما أصلا؛ وليس كذلك؛ بل الكلام المطلق اسم للمعاني والحروف جميعا وقد يسمى أحدهما كلاما مع التقييد كما يقول النحاة: الكلام اسم وفعل وحرف. فالمقسوم هنا اللفظ وكما قال الحسن البصري: ما زال أهل العلم يعودون بالتكلم على التفكر وبالتفكر على التدبر ويناطقون القلوب حتى نطقت. وكما قال الجنيد: التوحيد قول القلب والتوكل عمل القلب. فجعلوا للقلب نطقا وقوة كما جعل النبي للنفس حديثا في قوله: { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها } - ثم قال -: { ما لم تتكلم به أو تعمل به }. فعلم أن الكلام المطلق هو ما كان بالحروف المطابقة للمعنى وإن كان مع التقييد قد يقع بغير ذلك حتى إنهم قد يسمون كل إفهام ودلالة يقصدها الدال قولا سواء كانت باللفظ أو الإشارة أو العقد - عقد الأصابع - وقد يسمون أيضا الدلالة قولا وإن لم تكن بقصد من الدال مثل دلالة الجامدات كما يقولون: قالت: اتساع بطنه . وامتلأ الحوض وقال قطني قطني رويدا قد ملأت بطني وقالت له العينان سمعا وطاعة ويسمى هذا لسان الحال ودلالة الحال ومنه قولهم: سل الأرض من فجر أنهارك وسقى ثمارك وغرس أشجارك؟ فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا. ومنه قولهم: تخبرني العينان ما القلب كاتم ولا خير في الحياء والنظر الشزر ومنه قولهم: سألت الدار تخبرني عن الأحباب ما فعلوا فقالت لي أناخ القوم أياما وقد رحلوا وقد يسمى شهادة وقد زعم طائفة أن ما ذكر في القرآن من تسبيح المخلوقات هو من هذا الباب وهو دلالتها على الخالق تعالى؛ ولكن الصواب أن ثم تسبيحا آخر زائدا على ما فيها من الدلالة كما قد سبق في موضع آخر؛ لكن هذا كله يكون مع التقييد والقرينة؛ ولهذا يصح سلب الكلام والقول عن هذه الأشياء كما قال تعالى: { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } وقال تعالى: { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } وقال الخليل عليه السلام { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } وقال تعالى: { هذا يوم لا ينطقون } { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } وقال تعالى: { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } وقال تعالى: { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } وهذا معلوم بالضرورة والتواتر وهو سلب القول والكلام عن الحي الساكت والعاجز فكيف عن الموات وقد علم أن الله تعالى موصوف بغاية صفات الكمال وأن الرسل قد أثبتوا أنه متكلم بالكلام الكامل التام في غاية الكمال فمن لم يجعل كلامه إلا مجرد معنى أو مجرد حروف أو مجرد حروف وأصوات فما قدر الله حق قدره ومن لم يجعل كلامه إلا ما يقوم بغيره فقد سلبه الكمال وشبهه بالموات وكذلك من لم يجعله يتكلم بمشيئته أو جعله يتكلم بمشيئته وقدرته ولكن جعل الكلام من جملة المخلوقات وجعله يوصف بمخلوقاته أو جعله يتكلم بعد أن لم يكن متكلما فكل من هذه الأقوال وإن كان فيه إثبات بعض الحق ففيه رد لبعض الحق ونقص لما يستحقه الله من الكمال.

فصل

وكل من هؤلاء أدرك من درجات الكلام وأنواعه بعض الحق. وكذلك الأصل الثاني وهو تكلمنا بكلام الله؛ فإن الكتاب والسنة والإجماع دل على أن هذا الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله لا كلام غيره ولو قال أحد: إن حرفا منه أو معنى ليس هو من كلام الله أو أنه كلام غير الله وسمع ذلك منه النبي أو أحد من أصحابه لعلم بالاضطرار أنهم كانوا يقابلونه بما يقابلون أهل الجحود والضلال؛ بل قد أجمع الخلائق على نحو ذلك في كل كلام. فجميع الخلق الذين يعلمون أن قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل من شعر لبيد يعلمون أن هذا كلام لبيد وأن قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل هو من كلام امرئ القيس مع علمهم أنهم إنما سمعوها من غيره بصوت ذلك الغير فجاء المؤمنون ببعض الحق دون بعض فقالوا: ليس هذا أو لا نسمع إلا صوت العبد ولفظه؛ ثم قال النفاة : ولفظ العبد محدث وليس هو كلام الله فهذا المسموع محدث وليس هو كلام الله. وقالت المثبتة : بل هذا كلام الله وليس إلا لفظه أو صوته فيكون لفظه أو [ صوته ] كلام الله وكلام الله غير مخلوق أو قديم فيكون لفظه أو صوته غير مخلوق أو قديم. وكل من الفريقين قد علم الناس بالضرورة من دين الأمة؛ بل وبالعقل أنه مخطئ في بعض ما قاله مبتدع فيه؛ ولهذا أنكر الأئمة ذلك وإذا رجع أحدهم إلى فطرته وجد الفرق بين أن يشير إلى الكلام المسموع فيقال: هذا كلام زيد وبين أن يقول هذا صوت زيد ويجد فطرته تصدق بالأول وتكذب بالثاني قال الله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } وقال النبي { زينوا القرآن بأصواتكم } . وكل أحد يعلم بفطرته ما دل عليه الكتاب والسنة من أن الكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ؛ ولهذا قال الإمام أحمد لأبي طالب لما قرأ عليه: { قل هو الله أحد } وقال له: هذا غير مخلوق فحكى عنه أنه قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق قال له: أنا قلت لك لفظي غير مخلوق؟ قال: لا. ولكن قرأت عليك: { قل هو الله أحد } فقلت: هذا غير مخلوق. فبين أحمد الفرق بين أن يقول: هذا الكلام غير مخلوق أو يقول: لفظ هذا المتكلم غير مخلوق؛ لأن قوله لفظي مجمل يدخل فيه فعله ويدخل فيه صوته. فإذا قيل: لفظي أو تلاوتي أو قراءتي غير مخلوقة أو هي المتلو أشعر ذلك أن فعل العبد وصوته قديم وأن ما قام به من المعنى والصوت هو عين ما قام بالله من المعنى والصوت وإذا قال: لفظي بالقرآن أو تلاوتي للقرآن أو لفظ القرآن أو تلاوته مخلوقة أو التلاوة غير المتلو أو القراءة غير المقروء أفهم ذلك أن حروف القرآن ليست من كلام الله بحال وأن نصف القرآن كلام الله ونصفه كلام غيره وأفهم ذلك أن قراءة الله للقرآن مباينة لمقروئه وتلاوته للقرآن مباينة لمتلوه وأن قراءة العبد للقرآن مباينة لمقروء العبد وتلاوته له مباينة لمتلوه وأفهم ذلك أنما نزل إلينا ليس هو كلام الله؛ لأن المقروء والمتلو هو كلام الله والمغايرة عند هؤلاء تقتضي المباينة فما باين كلامه لم يكن كلاما له فلا يكون هذا الذي أنزله كلامه. ولما كان الكلام إنما يكون بحركة وفعل تنشأ عنه حروف ومعان صار الكلام يدخل في اسم الفعل والعمل: تارة باعتبار الحركة والفعل ويخرج عنه تارة باعتبار الحروف والمعاني؛ ولهذا يجيء في الكتاب والسنة قسما منه تارة كما في قوله تعالى { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة } وقسيما له أخرى كما في قوله تعالى { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه }. ولهذا تنازع العلماء فيما إذا حلف لا يعمل عملا في هذا المكان ولم يكن له نية ولا سبب يفيد هل يحنث بالكلام؟ على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره وذكروهما روايتين عن أحمد؛ ولهذا قال أبو محمد بن قتيبة في كتابه الذي ألفه في بيان اللفظ أن القراءة قرآن وعمل لا يتميز أحدهما عن الآخر فمن قال: إنها قرآن فهو صادق ومن حلف إنها عمل فهو بار وأخطأ من أطلق: أن القراءة مخلوقة وأخطأ من زعم أنها غير مخلوقة ونسبهما جميعا إلى قلة العلم وقصور الفهم؛ فإن هذه المسألة خفيت على الطائفتين لغموضها؛ فإن إحدى الطائفتين وجدت القراءة تسمى قرآنا فنفت الخلق عنها والأخرى وجدت القراءة فعلا يثاب صاحبه عليه فأثبتت حدوثه. قلت: والخطأ في هذا الأصل في طرفين كما أنه في الأصل الأول في طرفين. ففي الأصل الأول من قال: إنه ليس له كلام قائم به ومن قال: ليس كلامه إلا معنى مجرد أو صوت مجرد. وفي هذا الأصل من قال: كلامه لا يقوله غيره أو لا يسمع من غيره ومن قال: كلامه إذا أبلغه غيره وأداه فحاله كحاله إذا سمعه منه وتلاه بل كلامه يقوله: رسله وعباده ويتكلمون به ويتلونه ويقرءونه فهو كلامه حيث تصرف وحيث تلي وحيث كتب وكلامه ليس بمخلوق حيث تصرف؛ وهو مع هذا فليس حاله إذا قرأه العباد وكتبوه كحاله إذا قرأه الله وسمعوه منه ولا من يسمعه من القارئ بمنزلة موسى بن عمران الذي سمع كلام رب العالمين منه كما جاء في الحديث: { إذا سمع الخلائق القرآن يوم القيامة من الله فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك } بل ولا تلاوة الرسول وسمعه منه كتلاوة غيره وسمعه منه؛ بل ولا تلاوة بعض الناس والسماع منه كتلاوة بعض الناس والسماع منه وهو كلام الله تعالى الذي ليس بمخلوق في جميع أحواله وإن اختلفت أحواله. ومما يجب أن يعرف أن قول الله ورسوله والمؤمنين لما أنزله الله: هذا كلام الله؛ بل وقول الناس لما يسمعونه من كلام الناس: هذا كلام فلان كقولهم لمثل قوله: { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } هذا كلام رسول الله ولمثل قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل هذا شعر لبيد. فليس قولهم: هذا هو هذا؛ لأنه مساو له في النوع كما يقال: هذا السواد هو هذا السواد؛ فإن هذا يقولونه لما اتفق من الكلامين والعلمين؛ والقدرتين والشخصين. ويقولون في مثل ذلك: وقع الخاطر على الخاطر كوقع الحافر على الحافر. وفي الحقيقة فهو إنما هو مثله كما قال تعالى: { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } وهم يقولون: هذا هو هذا مع اتفاقهما في الصفات وقد يكون مع اختلافهما اختلافا غير مقصود كما أنهم يقولون للعين الواحدة إذا اختلفت صفتها هذه [ عين ] هذه ولا هو أيضا بمنزلة من تمثل بكلام لغيره سواء كان نظما أو نثرا مثل أن يتمثل الرجل بقول لغيره فيصير متكلما به متشبها بالمتكلم به أولا وهذا مثل أن نقول قولا قاله غيرنا موافقين لذلك القائل في صحة القول. ولهذا قال الفقهاء: إن من قال ما يوافق لفظ القرآن على وجه الذكر والدعاء مثل أن يقول عند ابتداء الفعل بسم الله وعند الأكل الحمد لله ونحو ذلك لم يكن قارئا وجاز له ذلك مع الجنابة ولهذا قال النبي { أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر } رواه مسلم. فجعلها أفضل الكلام بعد القرآن وأخبر أنها من القرآن فهي من القرآن. وإذا قالها على وجه الذكر لم يكن قارئا. لكن هذا الوجه قد يضاف فيه الكلام إلى الأول وإن لم يقصد الثاني تبليغ كلامه؛ لأنه هو الذي أنشأ الحقيقة ابتداء والثاني قالها احتذاء فإذا تمثل الرجل بقول الشاعر وإن لم يقصد تبليغ شعره: ألا كل شيء ما خلا الله باطل قيل له هذا كلام لبيد؛ لكن الثاني قد لا يقصد إلا أن يتكلم به ابتداء لاعتقاده صحة معناه. ومن هنا تنازع أهل العلم في حروف الهجاء وفي الأسماء المنزلة في القرآن وفي كلمات في القرآن إذا تمثل الرجل بها ولم يقصد بها القراءة هل يقال: ليست مخلوقة لأنها من القرآن؟ أو يقال: إذا لم يقصد بها القرآن وكلام الله فليست من كلام الله فتكون مخلوقة على قولين لأهل السنة. وأما الإنسان إذا قال ما هو كلام لغيره يقصد تبليغه وتأديته أو التكلم به معتقدا أنه إنما قصد التكلم بكلام غيره الذي هو الآمر بأمره. المخبر بخبره؛ المتكلم ابتداء بحروفه ومعانيه فهنا الكلام كلام الأول قطعا ليس كلاما للثاني بوجه من الوجوه وإنما وصل إلى الناس بواسطة الثاني. وليس للكلام نظير من كل وجه فيشتبه به وإنما هو أمر معقول بنفسه فإن كلام زيد المخلوق وإن كان قد عدم مثلا وعدم أيضا ما قام به من الصفة فإذا رواه عنه راو آخر وقلنا: هذا كلام زيد. فإنما نشير إلى الحقيقة التي ابتدأ بها زيد واتصف بها وهذه هي تلك بعينها: أعني الحقيقة الصورية؛ لا المادة؛ فإن الصوت المطلق بالنسبة إلى الحروف الصوتية المقطعة بمنزلة المادة والصورة وهو لم يكن كلاما للمتكلم الأول؛ لأجل الصوت المطلق الذي يشترك فيه صوت الآدميين والبهائم العجم والجمادات وإنما هو لأجل الصورة التي ألفها زيد مع تأليفه لمعانيها. ووجود هذه الصورة في المادتين ليس بمنزلة وجود الأنواع والأشخاص في الأعيان ولا بمنزلة وجود الأعراض في الجواهر ولا هو بمنزلة سائر الصور في موادها الجوهرية؛ بل هو حقيقة قائمة بنفسها وليس لكل حقيقة نظير مطابق من كل وجه. وإذا قالوا: هذا شعر لبيد فإنما يشيرون إلى اللفظ والمعنى جميعا. ثم مع هذا لو قال القائل: أنا أنشأت لفظ هذا الشعر أو هذا اللفظ من إنشائي أو لفظي بهذا الشعر من إنشائي لكذبه الناس كلهم وقالوا له: بل أنت رويته وأنشدته. أما أن تكون أحدثت لفظه أو هو محدث البارحة بلفظك؛ أو لفظك به محدث البارحة فكذب؛ لأن لفظ هذا الشعر موجود من دهر طويل وإن كنت أنت أديته بحركتك وصوتك فالحركة والصوت أمر طبيعي يشركك فيه الحيوان ناطقه وأعجمه فليس لك فيه حظ من حيث هو كلام ولا من حيث هو كلام ذلك الشاعر؛ إذ كونه كلاما أو كلاما لمتكلم هو مما يختص به المتكلم؛ إنما أديته بآلة يشركك فيها العجماوات والجمادات؛ لكن الحمد لله الذي جعل لك من العقل والتمييز ما تهتدي به ويسير به لسانك ولم يجعل ذلك للعجماوات؛ فجعل فعلك وصفتك تعينك على عقل الكلام والتكلم به ولم يجعل فعل العجم وصفتها كذلك. فإذا كان هذا في مخلوق بلغ كلام مخلوق مثله فكيف الظن بكلام الخالق جل جلاله الذي فضله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه فإن له شأنا آخر يختص به لا يشبه بتبليغ سائر الكلام كما أنه في نفسه لا يشبه سائر الكلام وليس له مثل يقدر عليه أحد من الخلق؛ بخلاف سائر ما يبلغ من كلام البشر؛ فإن مثله مقدور فلا يجوز إضافة هذا الكلام المسموع الذي هو القرآن إلى غير الله بوجه من الوجوه؛ إلا على سبيل التبليغ كقوله تعالى: { إنه لقول رسول كريم } والله سبحانه قد خاطبنا به بواسطة الرسول كما تقدم. وقد بسطت الكلام في هذه المواضع التي هي محارات العقول التي اضطربت فيها الخلائق في الموضع الذي يليق به؛ فإن هذا جواب فتيا لا يليق به إلا التنبيه على جمل الأمور وإثبات وجوب نسبة الكلام إلى من بدأ منه لفظه ومعناه دون من بلغه عنه وأداه وأنه كلام المتصف به مبتدئا حقيقة سواء سمع منه أو سمع ممن بلغه وأداه بفعله وصوته مع العلم بأن أفعال العباد وصفاتهم مخلوقة وأن قول الله ورسوله والمؤمنين: هذا كلام الله وما بين اللوحين كلام الله حقيقة لا ريب فيه وأن القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه ويحفظونه هو كلام الله تعالى وكلام الله حيث تصرف غير مخلوق. وأما ما اقترن بتبليغه وقراءته من أفعال العباد وصفاتهم فإنه مخلوق. لكن هذا الموضع فيه اشتباه وإشكال لا تحتمل تحريره وبسطه هذه الفتوى؛ لأن صاحبها مستوفز عجلان يريد أخذها؛ ولأن في ذلك من الدقة والغموض ما يحتاج إلى ذكر النصوص وبيان معانيها وضرب الأمثال التي توضح حقيقة الأمر وليس هذا موضعه. بل الذي يعلم من حيث الجملة أن الإمام أحمد والأئمة الكبار الذين لهم في الأمة لسان صدق عام لم يتنازعوا في شيء من هذا الباب؛ بل كان بعضهم أعظم علما به وقياما بواجبه من بعض. وقد غلط في بعض ذلك من أكابر الناس جماعات. وقد رد الإمام أحمد عامة البدع في هذا الباب هو والأئمة.

فأول ما ابتدع الجهمية القول بخلق القرآن ونفي الصفات فأنكرها من كان في ذلك الوقت من التابعين ثم تابعي التابعين ومن بعدهم من الأئمة وكفروا قائلها. ثم ابتدع بعض أهل الحديث والكلام الذين ناظروا الجهمية: القول بأن القرآن المنزل مخلوق أو أنه ليس بكلام الله أو أنه ليس في المصاحف ولا في الصدور وأنكر بعضهم أن تكون حروف القرآن كلام الله أو أن يكون الله تكلم بالصوت وأنكر الإمام أحمد وأئمة وقته ذلك. وقابلهم قوم من أهل الكلام والحديث؛ فزعموا أن ألفاظ العباد وأصوات العباد غير مخلوقة أو ادعوا أن بعض أفعال العباد أو صفاتهم غير مخلوقة أو أن ما يسمع من الناس من القرآن هو مثل ما يسمع من الله تعالى من كل وجه ونحو ذلك. فأنكر الإمام أحمد وعامة أئمة وقته وأصحابه وغيرهم من العلماء ذلك. وإنكار جميع هذه البدع وردها موجود عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة في الكتب الثابتة مثل كتاب السنة للخلال والإبانة لابن بطة وكتب المحنة التي رواها حنبل وصالح وكتاب السنة لعبد الله بن أحمد والسنة للالكائي والسنة لابن أبي حاتم وما شاء الله من الكتب. فأما الرد على الجهمية القائلين بنفي الصفات وخلق القرآن ففي كلام التابعين وتابعيهم والأئمة المشاهير من ذلك شيء كثير وفي مسألة القرآن من ذلك آثار كثيرة جدا. مثل ما روى ابن أبي حاتم وابن شاهين واللالكائي وغيرهم من غير وجه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قيل له يوم صفين: حكمت رجلين فقال: ما حكمت مخلوقا ما حكمت إلا القرآن وعن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال: اللهم رب القرآن اغفر له فوثب إليه ابن عباس فقال له: مه القرآن منه. وفي رواية: القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود. وعن عبد الله بن مسعود قال: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية كفارة فمن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع. ومن المستفيض عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار - وربما وقفه بعضهم على سفيان والأول هو المشهور - قال: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ومشايخ عمرو من لقي عمرو من الصحابة والتابعين. وعن علي بن الحسين زين العابدين وابنه جعفر بن محمد: ليس القرآن بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله. ومثل هذا مأثور عن الحسن البصري وأيوب السختياني وحماد بن أبي سليمان وابن أبي ليلى وأبي حنيفة وابن أبي ذئب وابن الماجشون والأوزاعي والشافعي وأبي بكر بن عياش وهشيم وعلي بن عاصم وعبد الله بن المبارك وأبي إسحاق الفزاري ووكيع بن الجراح والوليد بن مسلم وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ومعاذ بن معاذ وأبي يوسف ومحمد والإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وبشر بن الحارث ومعروف الكرخي وأبي عبيد القاسم بن سلام وأبي ثور والبخاري ومسلم وأبي زرعة وأبي حاتم ومن لا يحصى كثرة. قال أبو القاسم اللالكائي - وقد سمى علماء القرون الفاضلة ومن يليهم الذين نقل عنهم في كتابه أن القرآن كلام الله غير مخلوق - فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفسا من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين - سوى الصحابة - على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتمذهبوا بمذاهبهم ولو اشتغلت بنقل قول المحدثين لبلغت أسماؤهم ألوفا كثيرة فنقلت عن هؤلاء عصرا بعد عصر لا ينكر عليهم المنكر ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه. قال: ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال: القرآن مخلوق الجعد بن درهم ثم الجهم بن صفوان وكلاهما قتله المسلمون. وممن أفتى بقتل هؤلاء: مالك بن أنس ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وسفيان بن عيينة وأبو جعفر المنصور الخليفة ومعمر بن سليمان ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومعاذ بن معاذ ووكيع بن الجراح وأبوه وعبد الله بن داود الخريبي وبشر بن الوليد - صاحب أبي يوسف - وأبو مصعب الزهري وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو ثور وأحمد بن حنبل وغير هؤلاء من الأئمة.

وكذلك ذم الواقفة وتضليلهم - الذين لا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق - مأثور عن جمهور هؤلاء الأئمة مثل ابن الماجشون وأبي مصعب ووكيع بن الجراح وأبي الوليد وأبي الوليد الجارودي صاحب الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق بن راهويه ومن لا يحصي عدده إلا الله.

وأما البدعة الثانية - المتعلقة بالقرآن المنزل تلاوة العباد له - وهي مسألة اللفظية فقد أنكر بدعة اللفظية الذين يقولون: إن تلاوة القرآن وقراءته واللفظ به مخلوق أئمة زمانهم جعلوهم من الجهمية وبينوا أن قولهم: يقتضي القول بخلق القرآن وفي كثير من كلامهم تكفيرهم. وكذلك من يقول: إن هذا القرآن ليس هو كلام الله وإنما هو حكاية عنه أو عبارة عنه أو أنه ليس في المصحف والصدور إلا كما أن الله ورسوله في المصاحف والصدور ونحو ذلك وهذا محفوظ عن الإمام أحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي مصعب الزهري وأبي ثور وأبي الوليد الجارودي ومحمد بن بشار ويعقوب بن إبراهيم الدورقي ومحمد بن يحيى بن أبي عمرو العدني ومحمد بن يحيى الذهلي ومحمد بن أسلم الطوسي وعدد كثير لا يحصيهم إلا الله من أئمة الإسلام وهداته. وكذلك أنكر بدعة اللفظية المثبتة - الذين يقولون: إن لفظ العباد أو صوت العباد به غير مخلوق أو يقولون إن التلاوة التي هي فعل العبد وصوته غير مخلوقة - الأئمة الذين بلغتهم هذه البدعة: مثل الإمام أحمد بن حنبل وأبي عبد الله البخاري صاحب الصحيح وأبي بكر المروذي أخص أصحاب الإمام أحمد بن حنبل به وأخذ في ذلك أجوبة علماء الإسلام إذ ذاك: ببغداد والبصرة والكوفة والحرمين والشام وخراسان وغيرهم: مثل عبد الوهاب الوراق وأبي بكر الأثرم ومحمد بن بشار بندار وأبي الحسين علي بن مسلم الطوسي ويعقوب الدورقي ومحمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الله المخرمي الحافظ ومحمد بن إسحاق الصاغاني والعباس بن محمد الدوري وعلي بن داود القنطري ومثنى بن جامع الأنباري وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ومحمد بن يحيى الأزدي والحسن بن عبد العزيز الجروي وعبد الكريم بن الهيثم العاقولي وأبي موسى بن أبي علقمة النفروني وغيره من علماء المدينة ومحمد بن عبد الرحمن المقري وأبي الوليد بن أبي الجارود وأحمد بن محمد بن القاسم بن أبي مرة وغيرهم من أهل مكة وأحمد بن سنان الواسطي وعلي بن حرب الموصلي ومن شاء الله تعالى من أئمة أهل السنة وأهل الحديث من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل وغيرهم ينكرون على من يجعل لفظ العبد بالقرآن أو صوته به أو غير ذلك من صفات العباد المتعلقة بالقرآن غير مخلوقة ويأمرون بعقوبته بالهجر وغيره وقد جمع بعض كلامهم في ذلك أبو بكر الخلال في كتاب السنة ومن المشهور في كتاب صريح السنة لمحمد بن جرير الطبري وهو متواتر عنه لما ذكر الكلام في أبواب السنة قال: وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفا إلا عمن في قوله الشفاء والعفاء وفي اتباعه الرشد والهدى ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى: أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول اللفظية جهمية يقول الله: { حتى يسمع كلام الله } ممن يسمع؟ قال ابن جرير: وسمعت جماعة من أصحابنا - لا أحفظ أسماءهم - يحكون عنه أنه كان يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع. قال ابن جرير: ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله إذ لم يكن لنا إمام نأتم به سواه وفيه الكفاية والمقنع وهو الإمام المتبع. وقال أبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل في كتاب المحنة تناهى إلي أن أبا طالب حكى عن أبي أنه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق فأخبرت أبي بذلك فقال: من أخبرك فقلت: فلان فقال: ابعث إلى أبي طالب فوجهت إليه فجاء وجاء فوران فقال له أبي: أنا قلت لك: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وغضب وجعل يرتعد فقال له: قرأت عليك { قل هو الله أحد } فقلت لي: هذا ليس بمخلوق قال له: فلم حكيت عني أني قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وبلغني: أنك وضعت ذلك في كتابك وكتبت به إلى قوم فإن كان في كتابك فامحه أشد المحو واكتب إلى القوم الذين كتبت إليهم: أني لم أقل هذا وغضب وأقبل عليه فقال: تحكي عني ما لم أقل لك؟ فجعل فوران يعتذر له وانصرف من عنده وهو مرعوب فعاد أبو طالب فذكر أنه حك ذلك من كتابه وأنه كتب إلى القوم يخبرهم؟ أنه وهم على أبي عبد الله في الحكاية. قال الفضل بن زياد: كنت أنا والبستي عند أبي طالب قال: فأخرج إلينا كتابه وقد ضرب على المسألة وقال: كان الخطأ من قبلي وأنا أستغفر الله وإنما قرأت على أبي عبد الله القرآن فقال: هذا غير مخلوق كان الوهم من قبلي يا أبا العباس وقال الخلال في: السنة حدثنا المروزي قال لي أبو عبد الله قد غيظ قلبي على ابن شداد قلت: أي شيء حكى عنك؟ قال: حكى عني في اللفظ فبلغ ابن شداد أن أبا عبد الله قد أنكر عليه فجاءنا حمدون بن شداد بالرقعة فيها مسائل فأدخلتها على أبي عبد الله فنظر فرأى فيها: أن لفظي بالقرآن غير مخلوق - مع مسائل فيها - فقال أبو عبد الله: فيها كلام ما تكلمت به فقام من الدهليز فدخل فأخرج المحبرة والقلم وضرب أبو عبد الله على موضع: لفظي بالقرآن غير مخلوق وكتب أبو عبد الله بخطه بين السطرين: القرآن حيث تصرف غير مخلوق. وقال: ما سمعت أحدا تكلم في هذا بشيء وأنكر على من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق. وقال الخلال في كتاب السنة : أخبرني زكريا بن الفرج الوراق قال حدثنا أبو محمد فوران قال جاءني صالح - وأبو بكر المروذي عندي - فدعاني إلى أبي عبد الله وقال: إنه قد بلغ أبي أن أبا طالب قد حكى عنه أنه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق فقمت إليه فتبعني صالح فدار صالح من بابه فدخلنا على أبي عبد الله فإذا أبو عبد الله غضبان شديد الغضب بين الغضب في وجهه فقال لأبي بكر: اذهب فجئني بأبي طالب فجاء أبو طالب وجعلت أسكن أبا عبد الله قبل مجيء أبي طالب وأقول: له حرمة فقعد بين يديه - وهو متغير اللون - فقال له أبو عبد الله: حكيت عني أني قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ فقال: إنما حكيت عن نفسي فقال: لا تحك هذا عنك ولا عني فما سمعت عالما يقول هذا - أو العلماء شك فوران - وقال له: القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف فقلت لأبي طالب - وأبو عبد الله يسمع - إن كنت حكيت هذا لأحد فاذهب حتى تخبره أن أبا عبد الله نهى عن هذا؟ فخرج أبو طالب فأخبر غير واحد - بنهي أبي عبد الله - منهم أبو بكر بن زنجويه والفضل بن زياد القطان وحمدان بن علي الوراق وأبو عبيد وأبو عامر وكتب أبو طالب بخطه إلى أهل نصيبين - بعد موت أبي عبد الله - يخبرهم أن أبا عبد الله نهى أن يقال: لفظي بالقرآن غير مخلوق وجاءني أبو طالب بكتابه وقد ضرب على المسألة من كتابه قال زكريا بن الفرج: فمضيت إلى عبد الوهاب الوراق فأخذ الرقعة فقرأها فقال لي: من أخبرك بهذا عن أحمد فقلت له: فوران بن محمد فقال: الثقة المأمون على أحمد قال زكريا: وكان قبل ذلك قد أخبر أبو بكر المروذي عبد الوهاب فصار عند عبد الوهاب شاهدان. قال زكريا وسمعت عبد الوهاب قال: من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق يهجر ولا يكلم ويحذر عنه وكان قبل ذلك قال: هو مبتدع. وروى الخلال عن أبي الحارث قال سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله يا أبا عبد الله أليس نقول: القرآن كلام الله ليس بمخلوق بمعنى من المعاني وعلى كل حال وجهة؟ فقال أبو عبد الله: نعم. واستيعاب هذا يطول. وكذلك في كلام الإمام أحمد وأئمة أصحابه وغيرهم من إضافة صوت العبد بالقرآن إليه ما يطول كما جاء الحديث النبوي بذلك: مثل قول النبي { زينوا القرآن بأصواتكم } وقوله: { لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته } فذكر الخلال في ( كتاب القرآن عن إسحاق بن إبراهيم قال قال لي أبو عبد الله يوما - وكنت سألته عنه -: تدري ما معنى من لم يتغن بالقرآن؟ قلت: لا. قال: هو الرجل يرفع صوته فهذا معناه إذا رفع صوته فقد تغنى به وعن منصور بن صالح أنه قال لأبيه: يرفع صوته بالقرآن بالليل؟ قال: نعم إن شاء رفعه ثم ذكر حديث أم هانئ: { كنت أسمع قراءة النبي وأنا على عريش من الليل } وعن صالح بن أحمد أنه قال لأبيه: { زينوا القرآن بأصواتكم } فقال: التزيين أن تحسنه. وعن الفضل بن زياد قال سمعت أبا عبد الله يسأل عن القراءة: فقال يحسنه بصوته من غير تكلف وقال أبو بكر الأثرم سألت أبا عبد الله عن القراءة بالألحان؟ فقال: كل شيء محدث؛ فإنه لا يعجبني إلا أن يكون صوت الرجل لا يتكلفه قال القاضي أبو يعلى فيما علقه بخطه على جامع الخلال : هذا يدل من كلامه على أن صوت القارئ ليس هو الصوت القديم؛ لأنه أضافه إلى القارئ الذي هو طبعه من غير أن يتعلم الألحان. وأما ما في كلام أحمد والأئمة من إنكارهم على من يقول إن هذا القرآن مخلوق وإن القراءة مخلوقة وتعظيمهم لقول من يقول: إنه ليس في الصدور قرآن ولا في المصاحف قرآن وزعم من زعم أن من قال ذلك فقد قال بقول النصارى والحلولية فإنكار أحمد وغيره هذه المقالات كثير شائع موجود في كتب كثيرة ولم تكن هذه الفتيا محتاجة إلى تقرير هذا الأصل فلم يحتج إلى تفصيل الكلام فيه؛ بخلاف الأصل الآخر وقد ذكرنا من ذلك ما يسره الله في غير هذا الموضع ولو ذكرت ما في كلام أحمد وأئمة أصحابه وغيرهم: من الرد على من يقول: لفظ العبد أو صوته غير مخلوق أو يقول: إن الصوت المسموع من القاري قديم لطال. وهذا أبو نصر السجزي قد صنف الإبانة المشهور وهو من أعظم القائلين: بأن التلاوة هي المتلو واللفظ بالقرآن هو القرآن وهو غير مخلوق وأنكر ما سوى ذلك عن أحمد ومع هذا فقد قال: فإن اعترض خصومنا فقالوا: أنتم وإن قلتم: القراءة قرآن وكلام الله فلا تطلقون أن الصوت المسموع من القاري صوت الله؛ بل تنسبونه إلى القاري وإذا لم يمكنكم إطلاق ذلك دل على أنه غير القرآن قال أبو نصر: فالجواب أن اعتصامنا في هذا الباب بظاهر الشرع وقولنا في القراءة والصوت غير مختلف وإذا قرأ القارئ القرآن لا يقول: إن هذه قراءة الله ولا يجيز ذلك بوجه: بل ينسب القراءة إلى القارئ توسعا لوجود التحويل منه وإنما يقول إن قراءة القاري قرآن وقد ثبت ذلك في الشرع باتفاق الكل؛ فإن الأشعري مع مخالفته لنا يقول: المسموع من القاري قرآن وقد بينا: أن التمييز بين القراءة والقرآن في هذا الموضع الذي اختلفنا فيه غير ممكن وكذلك يقول: إن الصوت المسموع من قارئ القرآن قراءة وقرآن والشرع يوجب ما قلناه لا أعلم خلافا بين المسلمين في ذلك.


الكيلانية لابن تيمية
الصفحة الأولى | الصفحة الثانية | الصفحة الثالثة | الصفحة الرابعة | الصفحة الخامسة | الصفحة السادسة