انتقل إلى المحتوى

الكتاب الأخضر/الفصل الثالث/الألحان والفنون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


إن الإنسان لا يزال متأخراً مادام عاجزاً عن التعبير بلغة واحدة .. وإلى أن يحقق الإنسان تلك الأمنية الإنسانية - والتي تبدو مستحيلة - سيبقى التعبير عن الفرح والحزن وعن الخير والشر ، وعن الجمال والقبح ، وعن الراحة والشقاء ، والفناء والخلود ، والحب والبغض .. وعن الألوان والأحاسيس والأذواق والمزاج - سيبقى التعبير عن كل هذه الأشياء بنفس اللغة التي يتكلم بها كل شعب تلقائيـاً .. بل سيبقى السلوك حسب رد الفعل الناشئ من الإحسـاس الذي تخلقه اللغة في فهم صاحبها . إن تعلّم لغة واحدة مهما كانت ليس هو الحل في الوقت الحاضر .. إن هذه المسألة ستستمر حتما بدون حل إلى أن تمر عملية وحدة اللغـة بـعدة أحقاب وأجيال ، بشرط أن ينتهي عامل الوراثة من هذه الأجيال نتيجة مرور زمن كاف لذلك، إذ إن إحساس وذوق ومزاج الأجداد والآباء هو الذي يشكل إحساس وذوق ومزاج الأبناء والأحفاد . فإذا كان أولئك الأجداد يعبرون بلغات مختلفة ، والأحفاد يعبرون بلغة واحدة ، فإن هؤلاء الأحفاد لا يحسون ذوق بعضهم بعضا حتى وهم يتكلمون بلغة واحدة ..إن وحدة الذوق تلك لا تتحقق إلاَ بعد أن تصنع اللغة الجديدة ذوق وإحساس الأجيال المتوارثة من بعضها بعضاً . إذا كانت جماعة من الناس تلبس اللون الأبيض في حالة الحزن ، وجماعة أخرى تلبس الأسود في نفس الحالة فإن إحساس كل جماعة سيتكيف حسب ذينك اللونين .. أي واحدة تكره الأسود، والأخرى تحبه، والعكس بالعكس . وهذا الإحساس له تأثير مادي على الخلايا وعلى كل الذرات وحركتها في الجسم .. وبهذا سينتقل هذا التكيف بالوراثة ، فيكره الوريث اللون الذي يكرهه مورثه تلقائياً نتيجة وراثته لإحساس مورثه ، وهكذا الشعوب لا تنسجم إلا مع فنونها وتراثها ، ولا تنسجم مع فنون غيرها بسبب عامل الوراثة حتى ولو كانت هذه الشعوب المختلفة تراثاً تتكلم حالياً لغة واحدة . بل إن هذا الاختلاف يظهر ولو كان في حده الأدنى حتى بين جماعات الشعب الواحد. إن تعلم لغة واحدة ليس مشكلة .. وإن فهم فنـون الغير نتيجة معرفة لغتـه ليس مشكلة أيضاً .. ولكن المشكلة هي استحالة التكيف الوجداني الحقيقي مع لغة الغير . وهذا سيبقى مستحيلاً إلى أن ينتهي أثر الوراثة في جسم الإنسان المتحول إلى اللغة الواحدة . إن البشرية مازالت حقاً متأخرة مادام الإنسان لا يتكلم مع أخيه الإنسان لغة واحدة موروثة وليست متعلمة .. ومع هذا فإن بلوغ البشرية تلك الغاية يبقى مسألة وقت ما لم تنتكس الحضارة .