انتقل إلى المحتوى

القواعد الأربع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
القواعد الأربع



بسم الله الرحمن الرحيم

أسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يتولّاك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك مباركا أينما كنت، وأن يجعلك ممن إذا أُعطى شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.

اعلم - أرشدك الله لطاعته - أن الحنيفيّة ملّة إبراهيم: أن تعبد الله وحده مخلصا له الدين، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ}. 1

فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته، فاعلم أن العبادة لا تسمّى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمّى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت كالحدث إذا دخل في الطهارة، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}

فإذا عرفت أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل، وصار صاحبه من الخالدين في النار؛ عرفت أن أهم ما عليك معرفة ذلك، لعلّ الله أن يخلصك وينجيك من هذه الشبكة، وهي الشرك بالله، الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّ اللَهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وذلك بمعرفة أربع قواعد، ذكرها الله تعالى في كتابه.

القاعدة الأولى: أن تعلم أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله مقرّون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبّر، وأن ذلك لم يدخلهم في الإسلام، والدليل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}.

القاعدة الثانية: أنهم يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة، فدليل القربة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَهِ زُلْفَى إِنَّ اللَهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}.

ودليل الشفاعة قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.

والشفاعة شفاعتان: شفاعةٌ منفيّةٌ، وشفاعةٌ مثبتةٌ.

فالشفاعة المنفية: ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَالِمُونَ}. 2

والشفاعة المثبتة: هي التي تُطلَب من الله، والشافع مكرم بالشفاعة، والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله بعد الإذن كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلّا بِإِذْنِهِ}، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلّا لِمَنِ ارْتَضَى}، {قُلْ لِلَّهِ الشَفَاعَةُ جَمِيعًا}. 3

والقاعدة الثالثة: أن النبي ظهر في أناس متفرقين في عبادتهم، منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد الشمس والقمر. وقاتلهم رسول الله ولم يفرّق بينهم، والدليل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.

ودليل الشمس والقمر قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَيْلُ وَالنَهَارُ وَالشَمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.

ودليل الملائكة قوله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَبِيِّينَ أَرْبَابًا}. 4

ودليل الأنبياء قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلّامُ الْغُيُوبِ}.

ودليل الصالحين قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَه}. 5

ودليل بالأشجار والأحجار قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَالِثَةَ الْأُخْرَى}.

وحديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرةٍ فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله : "الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، لتركبن سنن من كان قبلكم" أي: النصارى واليهود. رواه الترمذي.

القاعدة الرابعة: إن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين، لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركو زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة، والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.


هامش

  1. قال ابن كثير في تفسيره: "أي: إنّما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لحتياجي إليهم".
  2. قال الحافظ عماد الدين المشهور بابن كثير في تفسير هذه الآية: "يأمر الله تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير ليدخروا ثواب ذلك عند ربّهم ومليكهم، وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا، من قبل أن يأتي يوم - يعني: يوم القيامة -، لا بيعٌ فيه ولا خلّةٌ ولا شفاعةٌ، أي: لا يباع أحد من نفسه، ولا يفادى بمال لو بذله، ولو جاء بملءِ الأرض ذهبا، ولا تنفعه خلّة أحد - يعني: صداقته، بل ولا نسابته، كما قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}، ولا شفاعة أي: ولا تنفعهم شفاعةُ الشافعين. وقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَالِمُونَ} مبتدأ محصور في خبر، أي: ولا ظالمٌ أظلم ممّن وافى الله يومئذ كافرًا. وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَالِمُونَ} ولم يقل والظالمون هم الكافرون" والله أعلم.
  3. أي: لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عند الله تعالى إلا بإذنه له في الشفاعة، لعظمته تعالى وجلاله وكبريائه، كما في حديث الشفاعة: "آتي تحت العرش، فأخرّ ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تُشفّع. قال: فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة" والله أعلم
  4. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "أي: ولا يأمركم بعبادة أحدٍ غير الله لا نبي مرسل ولا ملك مقرَّب، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون أي: لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله، ومن دعا إلى عبادة غير الله، فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، وقوله أربابا أي: آلهةً من دون الله" والله أعلم.
  5. روى البخاري بسنده عن عبد الله في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ} الآية، قال: "ناس من الجنّ كانوا يُعْبَدُون فأسلموا"، وعن ابن مسعود قال: "نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجنّ فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فنزلت هذه الآية".