انتقل إلى المحتوى

العقيدة الحموية الكبرى/الصفحة السادسة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


وكذلك قال أبو المعالي الجويني في كتابه الرسالة النظامية :

اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر؛ فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب. فقال: والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقيدة: اتباع سلف الأمة والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الأمة وهو حجة متبعة وهو مستند معظم الشريعة. وقد درج صحب رسول الله على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها - وهم صفوة الإسلام والمستقلون بأعباء الشريعة وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها - فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما: لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل: كان ذلك هو الوجه المتبع فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب تعالى؛ فليجر آية الاستواء والمجيء. وقوله { لما خلقت بيدي } { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } وقوله: { تجري بأعيننا } وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه. قلت: وليعلم السائل أن الغرض من هذا الجواب ذكر ألفاظ بعض الأئمة الذين نقلوا مذهب السلف في هذا الباب؛ وليس كل من ذكرنا شيئا من قوله - من المتكلمين وغيرهم - يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره؛ ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به؛ وكان معاذ بن جبل يقول في كلامه المشهور عنه؛ الذي رواه أبو داود في سننه: اقبلوا الحق من كل من جاء به؛ وإن كان كافرا - أو قال فاجرا - واحذروا زيغة الحكيم. قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نوراز أو قال كلاما هذا معناه.

فأما تقرير ذلك بالدليل وإماطة ما يعرض من الشبه وتحقيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرد به من اليقين ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المهامه فما تتسع له هذه الفتوى وقد كتبت شيئا من ذلك قبل هذا وخاطبت ببعض ذلك بعض من يجالسنا وربما أكتب - إن شاء الله - في ذلك ما يحصل به المقصود. وجماع الأمر في ذلك: أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه وقصد اتباع الحق وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته. ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة؛ مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: { وهو معكم أين ما كنتم }. وقوله : « إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه » ونحو ذلك فإن هذا غلط. وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى: { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير }. فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي في حديث الأوعال: « والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه ». وذلك أن كلمة « مع في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة؛ من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال؛ فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى. فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا. ويقال: هذا المتاع معي لمجاعته لك؛ وإن كان فوق رأسك. فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة. ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال: { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها } إلى قوله: { وهو معكم أين ما كنتم }. دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم؛ شهيد عليكم ومهيمن عالم بكم. وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. وكذلك في قوله: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } إلى قوله: { هو معهم أين ما كانوا } الآية. ولما قال النبي لصاحبه في الغار: { لا تحزن إن الله معنا } كان هذا أيضا حقا على ظاهره ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد. وكذلك قوله تعالى: { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } وكذلك قوله لموسى وهارون: { إنني معكما أسمع وأرى }. هنا المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد. وقد يدخل على صبي من يخيفه فيبكي فيشرف عليه أبوه من فوق السقف فيقول: لا تخف؛ أنا معك أو أنا هنا؛ أو أنا حاضر ونحو ذلك. ينبهه على المعية الموجبة بحكم الحال دفع المكروه؛ ففرق بين معنى المعية وبين مقتضاها؛ وربما صار مقتضاها من معناها. فيختلف باختلاف المواضع. فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أمورا لا يقتضيها في الموضع الآخر؛ فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها - وإن امتاز كل موضع بخاصية - فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها. ونظيرها من بعض الوجوه الربوبية والعبودية فإنهما وإن اشتركتا في أصل الربوبية والعبودية فلما قال: { برب العالمين } { رب موسى وهارون } كانت ربوبية موسى وهارون لها اختصاص زائد على الربوبية العامة للخلق؛ فإن من أعطاه الله من الكمال أكثر مما أعطى غيره فقد ربه ورباه ربوبية وتربية أكمل من غيره. وكذلك قوله: { عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا } و { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا }.

فإن العبد تارة يعني به المعبد فيعم الخلق كما في قوله: { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } وتارة يعني به العابد فيخص؛ ثم يختلفون فمن كان أعبد علما وحالا كانت عبوديته أكمل؛ فكانت الإضافة في حقه أكمل مع أنها حقيقة في جميع المواضع. ومثل هذه الألفاظ يسميها بعض الناس مشككة لتشكك المستمع فيها هل هي من قبيل الأسماء المتواطئة أو من قبيل المشتركة في اللفظ فقط والمحققون يعلمون أنها ليست خارجة عن جنس المتواطئة؛ إذ واضع اللغة إنما وضع اللفظ بإزاء القدر المشترك وإن كانت نوعا مختصا من المتواطئة فلا بأس بتخصيصها بلفظ. ومن علم أن المعية " تضاف إلى كل نوع من أنواع المخلوقات - كإضافة الربوبية مثلا - وأن الاستواء على الشيء ليس إلا للعرش وأن الله يوصف بالعلو والفوقية الحقيقية ولا يوصف بالسفول ولا بالتحتية قط لا حقيقة ولا مجازا: علم أن القرآن على ما هو عليه من غير تحريف. ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه فهو كاذب - إن نقله عن غيره - وضال - إن اعتقده في ربه - وما سمعنا أحدا يفهم هذا من اللفظ ولا رأينا أحدا نقله عن واحد ولو سئل سائر المسلمين هل تفهمون من قول الله ورسوله " إن الله في السماء " إن السماء تحويه لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا. وإذا كان الأمر هكذا: فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئا محالا لا يفهمه الناس منه ثم يريد أن يتأوله؛ بل عند الناس " أن الله في السماء " " وهو على العرش " واحد؛ إذ السماء إنما يراد به العلو فالمعنى أن الله في العلو لا في السفل وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وتعالى وسع السموات والأرض وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقا يحصره ويحويه؟ وقد قال سبحانه: { ولأصلبنكم في جذوع النخل } وقال: { فسيروا في الأرض } بمعنى « على ونحو ذلك وهو كلام عربي حقيقة لا مجازا وهذا يعلمه من عرف حقائق معاني الحروف وأنها متواطئة في الغالب لا مشتركة. وكذلك قوله : « إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه فلا يبصق قبل وجهه » الحديث. حق على ظاهره وهو سبحانه فوق العرش وهو قبل وجه المصلي؛ بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات. فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه. وقد ضرب النبي المثل بذلك - ولله المثل الأعلى ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه؛ لا تشبيه الخالق بالمخلوق - فقال النبي : « ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟ فقال النبي : سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله هذا القمر كلكم يراه مخليا به وهو آية من آيات الله؛ فالله أكبر » أو كما قال النبي . وقال: « إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر » فشبه الرؤية بالرؤية وإن لم يكن المرئي مشابها للمرئي فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه كل يراه فوقه قبل وجهه؛ كما يرى الشمس والقمر ولا منافاة أصلا. ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله: يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد. واعلم أن من المتأخرين من يقول: مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد وهذا اللفظ مجمل فإن قوله: ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين؛ مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلي أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه وإن الله معنا ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك فلا شك أن هذا غير مراد.

ومن قال: إن مذهب السلف أن هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث فإن هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع. اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار معذورا في هذا الإطلاق. فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس وهو من الأمور النسبية. وكان أحسن من هذا أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر أن هذا ليس هو الظاهر حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظا ومعنى.

وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله: الظاهر غير مراد عندهم أن المعاني التي تظهر من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته ولا يختص بصفة المخلوقين بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازا ذهنيا أو جوازا خارجيا غير مراد فهذا قد أخطأ فيما نقله عن السلف أو تعمد الكذب؛ فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل - لا نصا ولا ظاهرا - أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة. وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف ويقولون إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف - بمعنى أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله سبحانه وتعالى - ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إلى ذلك ويقولون: الفرق بين الطريقين أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره. وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف: أما في كثير من الصفات فقطعا: مثل أن الله تعالى فوق العرش فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم - الذي لم يحك هنا عشره - علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك. والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم يدل - لا نصا ولا ظاهرا ولا بالقرائن - على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر؛ بل الذي رأيته أن كثيرا من كلامهم يدل - إما نصا وإما ظاهرا - على تقرير جنس هذه الصفات ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة؛ بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة؛ وما رأيت أحدا منهم نفاها. وإنما ينفون التشبيه وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه؛ مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضا؛ كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها. وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا: هذا جهمي معطل؛ وهذا كثير جدا في كلامهم فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئا من الصفات مشبها - كذبا منهم وافتراء - حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك حتى قال ثمامة بن الأشرس من رؤساء الجهمية: ثلاثة من الأنبياء مشبهة؛ موسى حيث قال: { إن هي إلا فتنتك } وعيسى حيث قال: { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } ومحمد حيث قال: « ينزل ربنا ».

وحتى إن جل المعتزلة تدخل عامة الأئمة: مثل مالك وأصحابه والثوري وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم في قسم المشبهة. وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءا سماه: تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب أهل السنة بلقب افتراه - يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد - كما أن المشركين كانوا يلقبون النبي بألقاب افتروها. فالروافض تسميهم نواصب والقدرية يسمونهم مجبرة والمرجئة تسميهم شكاكا والجهمية تسميهم مشبهة وأهل الكلام يسمونهم حشوية ونوابت وغثاء وغثرا إلى أمثال ذلك. كما كانت قريش تسمي النبي تارة مجنونا وتارة شاعرا وتارة كاهنا وتارة مفتريا. قالوا فهذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله وأصحابه اعتقادا واقتصادا وقولا وعملا؛ فكما أن المنحرفين عنه يسمونهم بأسماء مذمومة مكذوبة - وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة - فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات؛ باطنا وظاهرا. وأما الذين وافقوه ببواطنهم وعجزوا عن إقامة الظواهر والذين وافقوه بظواهرهم وعجزوا عن تحقيق البواطن والذين وافقوه ظاهرا وباطنا بحسب الإمكان: فلا بد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصا يذمونهم به ويسمونهم بأسماء مكذوبة - وإن اعتقدوا صدقها - كقول الرافضي: من لم يبغض أبا بكر - رضي الله عنه - وعمر: فقد أبغض عليا؛ لأنه لا ولاية لعلي إلا بالبراءة منهما ثم يجعل من أحب أبا بكر وعمر ناصبيا؛ بناء على هذه الملازمة الباطلة التي اعتقدها صحيحة أو عاند فيها وهو الغالب. وكقول القدري: من اعتقد أن الله أراد الكائنات وخلق أفعال العباد: فقد سلب من العباد الاختيار والقدرة وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا قدرة. وكقول الجهمي: من قال إن الله فوق العرش: فقد زعم أنه محصور وأنه جسم مركب محدود وأنه مشابه لخلقه. وكقول الجهمية المعتزلة: من قال إن لله علما وقدرة فقد زعم أنه جسم مركب وأنه مشبه؛ لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجوهر متحيز وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد ومن قال ذلك فهو مشبه لأن الأجسام متماثلة. ومن حكى عن الناس المقالات وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة - بناء على عقيدته التي هم مخالفون له فيها - فهو وربه والله من ورائه بالمرصاد ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.

وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة. قسمان يقولان: تجري على ظواهرها. و قسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها. و قسمان يسكتون. أما الأولون فقسمان:

أحدهما من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين فهؤلاء المشبهة ومذهبهم باطل أنكره السلف وإليهم يتوجه الرد بالحق.

الثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك؛ على ظاهرها اللائق بجلال الله؛ فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث وإما عرض قائم به. فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك: في حق العبد أعراض؛ والوجه واليد والعين في حقه أجسام فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما وقدرة وكلاما ومشيئة - وإن لم يكن ذلك عرضا؛ يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين - جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين. وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف وعليه يدل كلام جمهورهم وكلام الباقين لا يخالفه؛ وهو أمر واضح فإن الصفات كالذات. فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات فصفاته ثابتة حقيقية من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات. فمن قال: لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودين. قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين؛ ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته؛ فمن لم يفهم من صفات الرب - الذي ليس كمثله شيء - إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه. وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي كيف استوى أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا أو كيف يداه ونحو ذلك فقل له: كيف هو في ذاته؟ فإذا قال لك لا يعلم ما هو إلا هو وكنه الباري تعالى غير معلوم للبشر. فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف؛ فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك. بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء وقد أخبر الله تعالى: أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وأخبر النبي : أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من خلق الله كذلك فما ظنك بالخالق سبحانه وتعالى. وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها؛ أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى؟ مع أنا نقطع بأن الروح في البدن وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء؛ وأنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومن وافقهم - حيث نفوا عنها الصعود والنزول والاتصال بالبدن والانفصال عنه وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص؛ فيكونون قد أخطئوا في اللفظ وأنى لهم بذلك. ولا نقول إنها مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلا؛ أو صفة من صفات البدن والحياة وأنها مختلفة الأجساد ومساوية لسائر الأجساد في الحد والحقيقة كما يقول طوائف من أهل الكلام بل نتيقن أن الروح عين موجودة غير البدن؛ وأنها ليست مماثلة له؛ وهي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازا؛ فإذا كان مذهبنا في حقيقة الروح وصفاتها بين المعطلة والممثلة: فكيف الظن بصفات رب العالمين؟. وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها؛ أعني الذين يقولون: ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط وأن الله لا صفة له ثبوتية؛ بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وإما مركبة منهما أو يثبتون بعض الصفات - وهي الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر - أو يثبتون الأحوال دون الصفات ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين. فهؤلاء قسمان:

قسم يتأولونها ويعينون المراد مثل قولهم: استوى بمعنى استولى؛ أو بمعنى علو المكانة والقدر أو بمعنى ظهور نوره للعرش؛ أو بمعنى انتهاء الخلق إليه؛ إلى غير ذلك من معاني المتكلمين.

وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها؛ لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه.

وأما القسمان الواقفان: - فقوم يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله؛ ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك. وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم. وقوم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات. فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها.

والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها؛ القطع بالطريقة الثابتة كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله - سبحانه وتعالى - فوق عرشه ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك؛ دلالة لا تحتمل النقيض؛ وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن « عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا قام يصلي من الليل قال: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » وفي رواية لأبي داود: « أنه كان يكبر في صلاته ثم يقول ذلك ». فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين: انفتح له طريق الهدى؛ ثم إن كان قد خبر نهايات أقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب؛ وعرف أن غالب ما يزعمونه برهانا هو شبهة ورأى أن غالب ما يعتمدونه يؤول إلى دعوى لا حقيقة لها؛ أو شبهة مركبة من قياس فاسد؛ أو قضية كلية لا تصح إلا جزئية؛ أو دعوى إجماع لا حقيقة له؛ أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة.

ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة عمن لم يعرف اصطلاحهم - أوهمت الغر ما يوهمه السراب للعطشان - ازداد إيمانا وعلما بما جاء به الكتاب والسنة فإن " الضد يظهر حسنه الضد " وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيما وبقدره أعرف إذا هدي إليه. فأما المتوسطون من المتكلمين فيخاف عليهم ما لا يخاف على من لم يدخل فيه وعلى من قد أنهاه نهايته فإن من لم يدخل فيه فهو في عافية ومن أنهاه فقد عرف الغاية فما بقي يخاف من شيء آخر فإذا ظهر له الحق وهو عطشان إليه قبله وأما المتوسط فيتوهم بما يتلقاه من المقالات المأخوذة تقليدا لمعظمة هؤلاء. وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم ونصف متفقه ونصف متطبب ونصف نحوي هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان وهذا يفسد الأبدان وهذا يفسد اللسان. ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب { لفي قول مختلف } { يؤفك عنه من أفك }: يعلم الذكي منهم والعاقل: أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة وأن حجته ليست ببينة وإنما هي كما قيل فيها: - حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور ويعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه حيث قال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر - والحيرة مستولية عليهم والشيطان مستحوذ عليهم - رحمتهم وترفقت بهم؛ أوتوا ذكاء وما أوتوا ذكاء وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة { فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون }. ومن كان عليما بهذه الأمور: تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه وذموا أهله وعابوهم وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعدا.

فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم

صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين.

والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على محمد خاتم النبيين

وآله وصحبه أجمعين.


العقيدة الحموية الكبرى لابن تيمية
الصفحة الأولى | الصفحة الثانية | الصفحة الثالثة | الصفحة الرابعة | الصفحة الخامسة | الصفحة السادسة