انتقل إلى المحتوى

العقد الفريد/الجزء الأول/4

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

حفظ الأسرار

وقالوا: سرك من دمك فانظر أين تريقه. يعنون أنه ربما كان في إفشائه سفك دمك. وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: ولا تفش سرك إلا إليك فإن لكل نصيح نصيحا فإني رأيت غواة الرجا ل لا يتركون أديماً صحيحا وقالت الحكماء: ما كنت كاتمه من عدوك فلا تطلع عليه صديقك. وقال عمرو بن العاص: ما استودعت رجلاً سراً فأفشاه فلمته لأني كنت أضيق صدراً منه حين استودعته إياه حتى أفشاه. وقال الشاعر: إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه فصدر الذي يستودع السر أضيق قيل لأعرابي: كيف كتمانك للسر أجحد المخبر وأحلف للمستخبر. وقيل لآخر: كيف كتمانك للسر قال: ما قلبي له إلا قبر. وقال المأمون: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملوك وإفشاء السر والتعرض للحرم. وقال الوليد بن عتبة لأبيه: إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً ولا أراه يطوي عنك أفلا أحدثك به قال: لا يا بني إنه من كتم سره كان الخيار له ومن أفشاه كان الخيار عليه فلا تكن مملوكاً بعد أن كنت مالكاً. وفي كتاب التاج. أن بعض ملوك العجم استشار وزيريه فقال أحدهما: لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحد إلا خالياً به فإنه أموت للسر وأحزم للرأي وأجدر بالسلامة وأعفى لبعضنا من غائلة بعض. فإن إفشاء السر إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين وإفشائه إلى ثلاثة كإفشائه إلى جماعة لأن الواحد رهن بما أفشي والثاني مطلق عنه بذلك الرهن والثالث علاوة فيه فإذا كان السر عند واجد كان أحرى أن لا يظهره رغبة ورهبة وإن كان اثنين دخلت على الملك الشبهة. واتسعت على الرجلين المعاريض فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد وإن اتهمهما اتهم بريئاً بجناية مجرم وإن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما ولا ذنب له وعن الآخر ولا حجة معه. ومن أحسن ما قالت الشعراء في السر قول عمر بن أبي ربيعة: فقالت وأرخت جانب الستر إنما معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي فقلت لها ما بي لهم من ترقب ولكن سرى ليس يحمله مثلي وقال أبو محجن الثقفي: قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرض وأكتم السر فيه ضربة العنق وقال الحطيئة يهجو: أغربالاً إذا استودعت سراً وكانونا على المتحدثينا الإذن قال زياد لحاجبه عجلان: كيف تأذن للناس قال: على البيوتات ثم على الأسنان ثم على الآداب. قال فمن تؤخر قال: من لا يعبأ الله بهم. قال: ومن هم قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف وكسوة الصيف في الشتاء. وكان سعيد بن عتبة بن حصين إذا حضر باب أحد من السلاطين جلس جانباً فقيل له: إنك لتباعد من الآذن جهدك. قال: لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب ثم قال: وإن مسيري في البلاد ومنزلي هو المنزل الأقصى إذا لم أقرب ولست وإن أدنيت يوماً ببائع خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب وقد عده قوم تجارة رابح ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي وقال آخر: ونحن جلوس ساكنون رزانة وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا وقف الأحنف بن قيس ومحمد بن الأشعث بباب معاوية فأذن للأحنف ثم أذن لابن الأشعث فأسرع في مشيته حتى تقدم الأحنف ودخل قبله. فلما رآه معاوية غمه ذلك وأحنقه فالتفت إليه فقال: والله إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله. وإنا كما نلي أموركم كذلك نلي آدابكم ولا يزيد متزيد في خطوه إلا لنقص يجده من نفسه. وقال هشام الرقاشي: أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة وفي العتاب حياة بين أقوام قدمت قبلي رجالاً ما يكون لهم في الحق أن يلجوا الأبواب قدامى لو عد قوم وقوم كنت أقربهم قربى وأبعدهم من منزل الذام حتى جعلت إذا ما حاجة عرضت بباب قصرك أدلوها بأقوام قيل لمعاوية: إن آذنك يقدم معارفه في الإذن على وجوه الناس. قال: وما عليه إن المعرفة لتنفع في الكلب العقور والسبع الهصور والجمل الصؤول فكيف في رجل حسيب ذي كرم ودين وقالت الحكماء: لا يواظب أحد على باب السلطان فيلقي عن نفسه الأنفة ويحمل الأذى ويكظم وقالوا: من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له. وقال الشاعر: كم من فتىً قصرت في الرزق خطوته أصبته بسهام الرزق قد فلجا إن الأمور إذا انسدت مسالكها فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا لا تيأسن - وإن طالت مطالبة إذا استعنت بصبر - أن ترى فرجا أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا ونظر رجل إلى روح بن حاتم واقفاً في الشمس عند باب المنصور فقال له: قد طال وقوفك في الشمس فقال: ليطول وقوفي في الظل. ونظر آخر إلى الحسن بن عبد الحميد يزاحم الناس على باب محمد بن سليمان فقال له: أمثلك يرضى بهذا فقال: أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ولا يكرم النفس الذي لا يهينها وفي كتاب للهند: إن السلطان لا يقرب الناس لقرب آبائهم ولا يبعدهم لبعدهم ولكن ينظر ما عند كل رجل منهم فيقرب البعيد لنفعه ويبعد القريب لضره وشبهوا ذلك بالجرذ الذي هو في البيت مجاور فمن أجل ضره نفي والبازي الذي هو وحشي فمن أجعل نفعه اقتني. استأذن رجل على النبي وهو في بيت فقال: أألج فقال النبي لخادمه: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان وقل له يقول: السلام عليكم أأدخل. وقال النبي : الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع. وقال النبي عليه السلام الأولى أذن والثانية مؤامرة والثالثة عزمة إما أن يأذنوا وإما أن يرجع. الحجاب قال زياد لحاجبه: يا عجلان إني وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع: هذا المنادى إلى الله في الصلاة والفلاح لا تحجبه عني فلا سلطان لك عليه وطارق الليل لا تحجبه فشر ما جاء به ولو كان في تلك الساعة ورسول الثغر فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي وإن كنت في لحافي وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد. ووقف أبو سفيان بباب عثمان بن عفان وقد اشتغل ببعض مصالح المسلمين فحجبه. فقال له رجل وأراد أن يغريه: يا أبا سفيان ما كنت أرى أن تقف بباب مضري فيحجبك. فقال أبو سفيان: لا عدمت من قومي من أقف ببابه فيحجبني. استأذن أبو الدرداء على معاوية فحجبه فقال: من يغش أبواب الملوك يقم ويقعد ومن يجد وقال محمود الوراق: شاد الملوك قصورهم فتحصنوا من كل طالب حاجة أو راغب غالوا بأبواب الحديد لعزها وتنوقوا في قبح وجه الحاجب فإذا تلطف للدخول عليهم راج تلقوه بوعد كاذب فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن بادي الضراعة طالباً من طالب سعيد بن مسلم قال: كنت واليا بإرمينية فغبر أبو هفان أياما ببابي ولا أعلم به فلما وصل إلي مثل قائماً بين السماطين وقال: والله إني لأعرف أقواماً لو علموا أن سف التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم إيثاراً للتنزه عن عيش رقيق الحواشي. أما والله إني لبعيد الوثبة بطيء العطفة. إن الله ما يثنيني عنك إلا ما يصرفك عني ولأن أكون مقلاً مقرباً أحب إلي من أكون مكثراً مبعداً. والله ما نسأل عملاً لا نضبطه ولا مالاً ونحن أكثر منه. وهذت الأمر الذي قد صار إليك وفي يديك كان في يد غيرك قبلك فأمسوا والله حديثاً إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فتجنب إلى عباد الله وبغضهم موصول ببغضه لأنهم شهداء الله على خلقه ورقباؤه على من اعوج عن سبيله. أبو مسهر قال: أتيت أبا جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان فحجبت فكتبت إليه: وقد علمت بأني لم أرد و - لا والله - ما رد إلا العلم والأدب فأجابني محمد بن عبد الله بن عبد كان فقال: لو كنت كافأت بالحسنى لقلت كما قال ابن أوس وفيما قاله أدب: ليس الحجاب بمقص عنك أي أملاً إن السماء ترجى حين تحتجب وقف بباب محمد بن منصور رجل من خاصته فحجب عنه فكتب إليه: علي أي باب أطلب الإذن بعد ما حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه وقف أبو العتاهية إلى باب بعض الهاشميين فطلب الإذن فقيل له: تكون لك عودة فقال: لئن عدت بعد اليوم إني لظالم سأصرف وجهي حيث تبغى المكارم متى يظفر الغادي إليك بحاجة ونصفك محجوب ونصفك نائم ونظير هذا المعنى للعتابي حيث يقول: قد أتيناك للسلام مراراً غير من منا بذاك المزار فإذا أنت في استتارك باللي - ل على مثل حالنا بالنهار وقف رجل بباب أبي دلف فأقام حيناً لا يصل إليه فتلطف برقعة أوصلها إليه وكتب فيها: إذا كان الكريم له حجاب فما فضل الكريم على الليئم إذا كان الكريم قليل مال ولم يعذر تعلل بالحجاب وأبواب الملوك محجبات فلا تستعظمن حجاب بابي وقال حبيب الطائي في الحجاب: سأترك هذا الباب ما دام إذنه على ما أرى حتى يلين قليلا فما خاب من لم يأته متعمداً ولا فاز من قد نال منه وصولا ولا جعلت أرزاقنا بيد امرئ حمى بابه من أن ينال دخولا إذا لم نجد للإذن عندك موضعاً وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا وأنشد أبو بكر بن العطار: مالك قد حلت عن وفائك واس - تبدلت يا عمرو شيمة كدره لستم ترجون للحساب ولا يوم تكون السماء منفطره قد كان وجهي لديك معرفة فاليوم أضحى بابا من النكرة وقال غيره: أتيتك للتسليم لا أنني امرؤ أردت بإتيانيك أسباب نائلك وقال أبو نواس الحسن بن هانئ: أيها الراكب المغذ إلى الفض - ل ترفق فدون فضل حجاب ونعم هبك قد وصلت إلى الفض - ل فهل في يديك إلا التراب وقال آخر وهو محمد البغدادي: حجابك من مهابته عسير وخيرك في تزيده يسير خرجت كما دخلت إليك إلا غبار طار في خفي كثير وقال آخر وهو العتابي: حجابك ليس يشبهه حجاب وخيرك دون مطلبه السحاب ونومك نوم من ورد المنايا فليس له إلى الدنيا إياب وقال غيره: أنا بالباب واقف منذ أصبح - ت على السرج ممسكاً بعناني وبعين البواب كل الذي بي ويراني كأنه لا يراني وقال غيره: إذا ما أتيناه في حاجة رفعنا الرقاع له بالقصب وقال أبو بشير: حجبني بعض كتاب العسكر فكتبت إليه: إن من لم يرفعه الإذن لم يضعه الحجاب. وأنا أرفعك عن هذه المنزلة وأرغب بقدرك عن هذه الخليفة وكل من قام منزلك عظم قدره أو صغر وحاول حجاب الخليفة أمكنه. فتأمل هذه الحال وانظر إليها بعين الفهم ترها في أقبح صورة وأدنى منزلة. وقد قلت في ذلك: إذا كنت تأتي المرء تعظم حقه ويجهل منك الحق فالهجر أوسع وفي الناس أبدال وفي الهجر راحة وفي الناس عمن لا يواتيك مقنع وإن امرأ يرضى الهوان لنفسه حري بجدع الأنف والأنف أسنع وقال آخر: يا أبا موسى وأنت فتى ماجد حلو ضرائبه كن على منهاج معرفة إن وجه المرء حاجبه فيه تبدو محاسنه وبه تبدو معايبه وأنشد حسين الجمل - وبكر إلى باب سليمان بن وهب فحجبه الحاجب وأدخل ابن سعوة وحمدويه - قال: لا ولا عن طعامه التافه النز - ر الذي حوله لطام بنيه بل حجبنا به عن الخسف والمس - خ وذاك التبريق والتمويه فجزى الله حاجباً لك فظاً كل خير عنا إذا يجزيه فلقد سرني دخول أبي سع - وة دوني وبعده حمدويه إن ذبحي نذالة قد تأتى من صباحي بقبح تلك الوجوه وقال أحمد بن محمد البغدادي في الحسن بن وهب الكاتب: ومستنب عن الحسن بن وهب وعما فيه من كرم وخير أتاني كي أخبره بعلمي فقلت له سقطت على الخبير هو الرجل المهذب غير أني أراه كثير إرخاء الستور وأكثر ما يغنيه فتاه حسين حين يخلو للسرور: ولولا الريح أسمع أهل حجر صليل البيض تقرع بالذكور ومن قولنا في هذا المعنى: ما بال بابك محروساً ببواب يحميه من طارق يأتي ومنتاب ووقف حبيب بن أوس الطائي بباب مالك بن طوق فحجب عنه. فكتب إليه يقول: قل لا بن طوق رحى سعد إذ طحنت نوائب الدهر أعلاها وأسفلها: أصبحت حاتمها جوداً وأحنفها حلماً وكيسها علماً ودغفلها ما لي أرى القتبة البيضاء مقفلة دوني وقد طالما استفحت مقفلها أظنها جنة الفردوس معرضة وليس لي عمل زاك فأدخلها

باب من الوفاء والغدر

قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب حين أيقن بزوال ملكه: قد احتجت إلى أن تصير مع عدوي وتظهر الغدر بي فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابك تدعوهم إلى حسن الظن بك فإن استطعت أن تنفعني في حياتي وإلا لم تعجز عن نفع حرمي بعد موتي. فقال عبد الحميد: إن الذي أمرت به أنفع الأشياء لك وأقبحها بي وما عندي غير الصبر معك حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك. وأنشأ يقول: أسر وفاء ثم أظهر غدرة فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره أبو الحسن المدائني قال: لما قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد بعد ما صالحه وكتب إليه أماناً وأشهد شهوداً قال عبد الملك بن مروان لرجل كان يستشيره ويصدر عن رأيه إذا ضاق به الأمر: ما رأيك في الذي كان مني قال: أمر قد فات دركه. قال: لتقولن. قال: حزم لو قتلته وحييت. قال: أو لست بحي فقال: ليس بحي من أوقف نفسه موقفاً لا يوثق له بعهد ولا بعقد. قال عبد الملك: كلام لو سبق سماعه فعلى لأمسكت. المدائني قال: لما كتب أبو جعفر أمان ابن هبيرة واختلف فيه الشهود أربعين يوماً ركب في رجال معه حتى دخل على المنصور فقال له: يا أمير المؤمنين إن دولتكم هذه جديدة فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرارتها لتسرع محبتكم إلى قلوبهم ويعذب ذكركم على ألسنتهم وما زلت منتظراً لهذه الدعوة. فأمر أبو جعفر برفع الستر بينه وبينه فنظر إلى وجهه وباسطه بالقول حتى اطمأن قلبه. فلما خرج قال أبو جعفر لأصحابه. عجبا لمن يأمرني بقتل مثل هذا! ثم قتله بعد ذلك غدراً. وقال أبو جعفر لسلم بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم قال سلم: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " قال حسبك الله أبا أمية. قال أبو عمرو بن العلاء: كان بنو سعد بن تميم أغدر العرب وكانوا يسمون الغدر في الجاهلية: كيسان فقال فيهم الشاعر: إذا كنت في سعد وخالك منهم غريباً فلا يغررك خالك من سعد إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد الولاية والعزل قال النبي : ستحرصون على الإمارة ثم تكون حسرة وندامة فنعمت وقال المغيرة بن شعبة: أحب الإمارة لثلاث وأكرهها لثلاث أحبها لرفع الأولياء ووضع الأعداء واسترخاص الأشياء. وأكرهها لروعة البريد وموت العزل وشماتة الأعداء. وقال ولد ابن شبرمة القاضي: كنت جالساً مع أبي قبل أن يلي القضاء فمر به طارق بن أبي زياد في موكب نبيل وهو وإلى البصرة فلما رآه أبي تنفس الصعداء وقال: أراها وإن كانت تحب كأنها سحابة صيف عن قريب تقشع ثم قال: اللهم لي ديني ولهم دنياهم. فلما ابتلى بالقضاء قلت له يا أبت أتذكر يوم طارق قال: يا بني إنهم يجدون خلفاً من أبيك وإن أباك حط في أهوائهم وأكل من حلوائهم. قيل لعبد الله بن الحسن: إن فلاناً غيرته الولاية قال: من ولي ولاية يراها أكبر منه تغير لها ومن ولى ولاية يرى نفسه أكبر منها لم يتغير لها. ولما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه المغيرة بن شعبة عن كتابة أبي موسى قال له: أعن عجز أم خيانة يا أمير المؤمنين قال: لا عن واحدة منهما ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على العامة. وكتب زياد إلى معاوية: قد أخذت العراق بيميني وبقيت شمالي فارغة يعرض له بالحجاز - فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم اكفنا شمال زياد. فخرجت في ولقي عمر بن الخطاب أبا هريرة فقال له: ألا تعمل قال: لا أريد العمل. قال: قد طلب العمل من هو خير منك يوسف عليه الصلاة والسلام. قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. المدائني قال: كان بلال بن أبي بردة ملازماً لباب خالد بن عبد الله القسري فكان لا يركب خالد إلا رآه في موكبه فبرم به فقال لرجل من الشرط: إئت ذلك الرجل صاحب العمامة السوداء فقل له: يقول لك الأمير: ما لزومك بابي وموكبي! إني لا أوليك ولاية أبداً. فأتاه الرسول فأبلغه. فقال له بلال: هل أنت مبلغ عني الأمير كما بلغتني عنه قال: نعم. قال: قل له: والله لئن وليتني لا عزلتني. فأبلغه ذلك. فقال خالد: قاتله الله! إنه ليعد من نفسه بكفاية. فدعاه فولاه. وأراد عمر ابن الخطاب أن يستعمل رجلاً فبادر الرجل فطلب منه العمل. فقال له عمر: والله لقد كنت أردتك لذلك ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه. وطلب العباس عم النبي من النبي ولاية فقال له: يا عم نفس تحييها خير من ولاية لا تحصيها. وطلب رجل من أصحاب النبي فقال له: إنا لا نستعين على عملنا بمن يريده. وقال زياد لأصحابه: من أغبط الناس عيشا قالوا: الأمير وأصحابه. قال: كلا إن لأعواد المنبر لهيبة ولقرع لجام البريد لفزعة. ولكن أغبط الناس عيشا رجل له دار يجري عليه كراؤها وزوجة قد وافقته في كفاف من عيشه لا يعرفنا ولا نعرفه فإن عرفنا وعرفناه أفسدنا عليه آخرته ودنياه. وكتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية حين كبر وخاف أن يستبدل به: أما بعد فقد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وسفهني سفهاء قريش فرأى أمير المؤمنين في عمله موفق. فكتب إليه معاوية: أما ما ذكرت من كبر سنك فأنت أكلت شبابك وأما ما ذكرت من اقتراب أجلك فإني لو أستطيع دفع المنية لدفعتها عن آل أبي سفيان وأما ما ذكرت من سفهاء قريش فحلماؤها أحلوك ذاك المحل وأما ما ذكرت من أمر العمل فضح رويداً يدرك الهيجا حمل وهذا مثل للعرب وقد وقع تفسيره في كتاب الأمثال. فلما انتهى الكتاب إلى المغيرة كتب إليه يستأذنه في القدوم عليه فأذن له فخرج وخرجنا معه. فلما دخل عليه قال له: يا مغيرة كبرت سنك ورق عظمك ولم يبق منك شيء ولا أراني إلا مستبدلاً بك. قال المحدث عنه: فانصرف إلينا ونحن نرى الكآبة في وجهه فأخبرنا بما كان من أمره قلنا له: فما تريد أن تصنع قال: ستعلمون ذلك. فأتى معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين إن الأنفس ليغدى عليها ويراح ولست في زمن أبي بكر ولا عمر فلو نصبت لنا علما من بعدك نصير إليه فإني قد كنت دعوت أهل العراق إلى بيعة يزيد. فقال: يا أبا محمد انصرف إلى عملك ورم هذا الأمر لابن أخيك. فأقبلنا تركض على النجب فالتفت فقال: والله لقد وضعت رجله في ركاب طويل ألقى عليه أمة محمد .

باب من أحكام القضاء

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إذا كان في القضاء خمس خصال فقد كمل: علم بما كان قبله ونزاهة عن الطمع وحلم على الخصم واقتداء بالأئمة ومشاورة أهل العلم والرأي. وقال عمر بن عبد العزيز: إذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم له حتى يأتي خصمه فلعله قد فقئت عيناه جميعاً. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية كتاباً في القضاء يقول فيه: إذ تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة وإدناء الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه. وتعاهد الغريب فإنك إن لم تتعاهده ترك حقه ورجع إلى أهله وإنما ضيع حقه من لم يرفق به. وآس بين الناس في لحظك وطرفك وعليك بالصلح بين الناس ما لم يتبين لك فصل القضاء. العتبي قال: تنازع إبراهيم بن المهدي هو وبختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن أبي داود القاضي في مجلس الحكم في عقار بناحية السواد فزرى عليه ابن المهدي وأغلظ له بين يدي أحمد بن أبي داود. فأحفظه ذلك فقال: بإبراهيم إذا نازعت أحداً في مجلس الحكم فلا أعلمن أنك رفعت عليه صوتاً ولا أشرت إليه بيد وليكن قصدك أمماً وطريقك نهجاً وريحك ساكنة. ووف مجالس الحكومة حقوقها من التوقير والتعظيم والتوجه إلى الواجب فإن ذلك أشبه بك وأشكل لمذهبك في محتدك وعظم خاطرك. ولا تعجل فرب عجلة تهب ريثاً والله يعصمك من الزلل وخطل القول والعمل ويتم نعمته عليك ما أتمها على أبوك من قبل إن ربك حكيم عليم. قال إبراهيم: أصلحك الله أمرت بسداد وحضضت على رشاد ولست بعائد إلى ما يلثم مروءتي عندك ويسقطني من عينك ويخرجني عن مقدار الواجب إلى الاعتذار فها أنذا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقر بذنبه باخع بجرمه فإن الغضب لا يزال يستفز بمودة فيردني مثلك بحلمه وقد رهبت حقي من هذا العقار لبختيشوع فليت ذلك يقوم بأرش الجناية ولن يتلف مال أفاد موعظة. وبالله التوفيق. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري - رواها ابن عيينة -: أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلى إليك الخصم فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراماً أو حرم حلالاً. ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع عنه فإن الحق قديم والرجوع إليه خير من التمادي على الباطل. الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما لم يبلغك به كتاب الله ولا سنة نبيه واعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك ثم اعمد إلى أحبها عند الله ورسوله وأشبهها بالحق واجعل للمدعي أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا وجهت عليه القضاء فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر. والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو قرابة أو نسب فإن الله عز وجل ولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالبينات والأيمان. ثم إياك والتأذي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحقوق التي يوجب الله عز وجل بها الأجر ويحسن بها الذخر فإنه من تخلص نيته فيما بينه وبين الله ولو على نفسه يكفيه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين للناس بما يعلم الله خلافه منه هتك الله ستره. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم فاحذر أن تدركني وإياك عمياء مجهولة وضغائن محمولة وأهواء متبعة ودنيا مؤثرة. أقم الحدود واجلس للمظالم ولو ساعة من النهار وأخف الفساق واجعلهم يداً يداً ورجلاً رجلاً وإذا كانت بين القبائل ثائرة فنادوا: يا لفلان فإنما تلك نجوى من الشيطان فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله عز وجل وتكون دعواتهم إلى الله والإسلام. واستدم النعمة بالشكر والطاعة بالتألف والمقدرة بالعفو والنصرة بالتواضع والمحبة للناس وبلغني أن ضبة تنادي: يا لضبة. وإني والله ما أعلم أن ضبة ساق الله بها خيراً قط ولا صرف بها شراً. فإذا جاءك كتابي هذا فأنهكهم عقوبة حتى يفرقوا إن لم يفقهوا وألصق بغيلان بن خرشة من بينهم. وعد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وباشر أمورهم بنفسك وافتح لهم بابك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله قد جعلك أثقلهم حملاً. وقد بلغ أمير المؤمنين أنه فشت لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها فإياك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة همها في السمن والسمن حتفها. واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته وأشقى الناس من يشقى به الناس والسلام. أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يغزو قوماً في البحر فكتب إليه عمرو بن العاص وهو عامله على مصر: يا أمير المؤمنين إن البحر خلق عظيم يركبه خلق صغير دود على عود. فقال الشعبي قال: كنت جالساً عند شريح إذ دخلت عليه امرأة تشتكي زوجها وهو غائب وتبكي بكاء شديداً. فقلت: أصلحك الله ما أراها إلا مظلومة. قال: وما علمك قلت: لبكائها. قال: لا تفعل فإن أخوة يوسف جاءوا آباءهم عشاء يبكون وهم له ظالمون. وكان الحسن بن أبي الحسن لا يرى أن يرد شهادة رجل مسلم إلا أن يحرجه المشهود عليه. فأقبل إليه رجل فقال: يا أبا سعيد إن إياساً رد شهادتي. فقام معه الحسن إليه فقال: يا أبا وائلة لم رددت شهادة هذا المسلم وقد قال رسول الله من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا فقال: يا أبا سعيد إن الله عز وجل يقول: " ممن ترضون من الشهداء " وهذا ممن لا يرضى. ودخل الأشعث بن قيس على شريح القاضي في مجلس الحكومة فقال: مرحباً وأهلاً بشيخنا وسيدنا وأجلسه معه. فبينما هو جالس عنده إذ دخل رجل يتظلم من الأشعث فقال له شريح: قم فاجلس مجلس الخصم وكلم صاحبك. قال: بل أكلمه من مجلسي. فقال له: لتقومن أو لآمرن من يقيمك. فقال له الأشعث: لشد ما ارتفعت! قال: فهل رأيت ذلك ضرك قال: لا. قال: فأراك تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها على نفسك. وأقبل وكيع بن أبي سعود صاحب خراسان ليشهد عند إياس بشهادة فقال: مرحباً وأهلاً بأبي مطرف وأجلسه معه ثم قال له: ما جاء بك قال: لأشهد لفلان. فقال: مالك وللشهادة إنما يشهد الموالي والتجار والسوقة. قال: صدقت وانصرف من عنده. فقيل له: خدعك إنه لا يقبل شهادتك. قال: لو علمت ذلك لعلوته بالقضيب. دخل عدي بن أرطأة على شريح فقال: أين أنت أصلحك الله قال: بينك وبين الحائط. قال: إني رجل من أهل الشام. قال: نائي الدار سحيق المزار. قال: قد تزوجت عندكم. قال: بالرفاء والبنين قال: وولد لي غلام. قال: ليهنئك الفارس. قال: وأردت أن أرحلها. قال: الرجل أحق بأهله قال: وشرطت لها دارها قال: الشرط أملك. قال فاحكم الآن بيننا. قال: قد فعلت قال: على من قضيت قال: على ابن أمك. قال: بشهادة من قال: بشهادة ابن أخت خالتك. يريد إقراره على نفسه. سفيان الثوري قال: جاء رجل يخاصم إلى شريح في سنور قال: بينتك. قال: ما أجد بينة في سنور ولدت عندنا. قال شريح: فاذهبوا بها إلى أمها فأرسلوها فإن استقرت واستمرت ودرت فهي سنورك وإن هي اقشعرت وازبأرت وهرت فليست بسنورك. سفيان الثوري قال: جاء رجل إلى شريح فقال: ما تقول في شاة تأكل الدبى قال: لبن طيب وعلف مجان. ودخل رجل على الشعبي في مجلس القضاء ومعه امرأته وهي من أجمل النساء فاختصما إليه فأدلت المرأة بحجتها وقربت بينتها. فقال الشعبي للزوج: هل عندك من مدفع فأنشأ يقول: فتن الشعبي لما رفع الطرف إليها فتنته بدلال وبخطي حاجبيها قال للجلواز قرب - ها وأحضر شاهديها فقضى جوراً على الخص - م ولم يقض عليها قال الشعبي: فدخلت على عبد الملك بن مروان فلما نظر إلي تبسم وقال: فتن الشعبي لم رفع الطرف إليها ثم قال: ما فعلت بقائل هذه الأبيات قلت: أوجعته ضرباً يا أمير المؤمنين بما انتهك من حرمتي في مجلس الحكومة وبما افترى به علي. قال: أحسنت.

كتاب الفريدة في الحروب ومدار أمرها

قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله قد مضى قولنا في السلطان وتعظيمه وما على الرعية من لزوم طاعته وإدامة نصيحته وما على السلطان من العدل في رعيته والرفق بأهل مملكته. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الحروب ومدار أمرها وقود الجيوش وتدبيرها وما على المدبر لها من إعمال الخدعة وانتهاز الفرصة والتماس الغرة وإذكاء العيون وإفشاء الطلائع واجتناب المضايق وطول تجربته لها و لمقاساة الحروب ومعاناة الجيوش وعلمه أن لا درع كالصبر ولا حصن كاليقين. ثم نذكر كرم الإقدام ومحمود عاقبته ولؤم الفرار ومذموم مغبته. والله المعين.

صفة الحرب

الحرب رحى ثقالها الصبر وقطبها المكر ومدارها الاجتهاد وثقافها الأناة وزمامها الحذر ولكل شيء من هذه ثمرة فثمرة الصبر التأييد وثمرة المكر الظفر وثمرة الاجتهاد والتوفيق وثمرة الأناة اليمن وثمرة الحذر السلامة. ولكل مقام مقال ولكل زمان رجال والحرب بين الناس سجال والرأي فيها أبلغ من القتال. قال عمرو بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن معد يكرب: صف لنا الحرب قال: مرة المذاق إذا كشفت عن ساق من صبر فيها عرف ومن نكل عنها تلف ثم أنشأ يقول: الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا حميت وشب ضرامها عادت عجوزاً ذات خليل شمطاء جزت رأسها وتنكرت مكروهة للثم والتقبيل وقيل لعنترة الفوارس: صف لنا الحرب. فقال: أولها شكوى وأوسطها نجوى وآخرها بلوى. وقال الكميت: والناس في الحرب شتى وهي مقبلة ويستوون إذا ما أدبر القبل كل بأمسيها طب مولية والعاملون بذي غدويها قلل وقال نصر بن سياد صاحب خراسان يصف الحرب ومبتدا أمرها: أرى خلل الرماد جمر فيوشك أن يكون له ضرام فإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام فقلت من التعجب ليت شعري أأيقاظ أمية أم نيام وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام: الشر حلو أوله: مر آخره. والعرب تقول: الحرب غشوم لأنها تنال غير الجاني وقال حبيب: والحرب تركب رأسها في مشهد عدل السفيه به بألف حليم في ساعة لو أن لقماناً بها وهو الحكيم لكان غير حكيم وقال أكثم بن صيفي حكيم العرب: لا حلم لمن لا سفيه له. ونحو هذا قول الأحنف بن قيس: ما قل سفهاء قوم قط إلا ذلوا. وقال: لأن يطيعني سفهاء قومي أحب إلي من أن يطيعني حلماؤهم. وقال: أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار. وقال النابغة الجعدي: ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا وأنشد هذا الشعر للنبي فلما انتهى إلى هذا البيت قال له النبي صلى وقال النابغة الذبياني يصف الحرب: تبدو كواكبه والشمس طالعة لا النور نور ولا الإظلام إظلام يريد بقوله: " تبدو كواكبه والشمس طالعة " شدة الهول والكرب كما تقول العامة: أريته النجوم وسط النهار. قال الفرزدق: " أريك نجوم الليل والشمس حية " وقال طرفة بن العبد: " وتريك النجم يجري بالظهر " وإليه ذهب جرير في قوله: والشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا يقول: الشمس طالعة وليست بكاسفة نجوم الليل لشدة الغم والكرب الذي فيه الناس. ومن قولنا في صفة الحرب: ومغبر السماء إذا تجلى يغادر أرضه كالأرجوان وكل مشطب المتنين صاف كلون الملح منصلت يماني كأن نهاره ظلماء ليل كواكبه من السمر اللذان وفي صفة المعترك: ومعترك تهز به المنايا ذكور الهند في أيدي ذكور لوامع يبصر الأعمى سناها ويعمي دونها طرف البصير وخافقة الذرائب قد أنافت على حمراء ذات شباً طرير تحوم حولها عقبان موت تخطفت القلوب من الصدور بيوم راح في سربال ليل فما عرف الأصيل من البكور وعين الشمس ترنو في قتام رنو البكر من بين الستور فكم قصرت من عمر طويل به وأطلت من عمر قصير العمل في الحرب قيل لأكثم بن صيفي: صف لنا العمل في الحرب. قال: أقلوا الخلاف على أمرائكم فلا جماعة لمن اختلف عليه. واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل فتثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين ورب وقال شبيب الحروري: الليل يكفيك الجبان ونصف الشجاع. وكان إذا أمسى يقول لأصحابه: أتاكم المدد يعني الليل. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل وسمعت منازعة أصحابها وكثرة صياحهم: المنازعة في الحرب خور والصياح فيها فشل وما برأيي خرجت مع هؤلاء. وقال عتبة بن ربيعة لأصحابه يوم بدر لما رأى عسكر رسول الله : أما ترونهم خرساً لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الحيات. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من أكثر النظر في العواقب لم يشجع. وقال النعمان بن مقرن لأصحابه عند لقاء العدو: إني هاز لكم الراية فليصلح كل رجل منكم من شأنه وليشد على نفسه وفرسه ثم إني هازها لكم الثانية فلينظر كل رجل منكم موقع سهمه وموضع عدوه ومكان فرصته ثم إني هازها لكم الثالثة وحامل فاحملوا على اسم الله. وللنعمان بن مقرن هذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه - إذ تكاملت عنده الحشود وتطلع الصحابة إلى التقدم عليها -: لأقلدن أعنتها رجلاً يكون عداء لأول أسنة يلقاها. فقلدها النعمان بن مقرن. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: انتهزوا الفرصة فإنها تمر مر السحاب ولا تطلبوا أثراً بعد عين. وقال بعض الحكماء: انتهز الفرصة فإنها خلسة وثب عند رأس الأمر ولا تثب عند ذنبه. وإياك والعجز فإنه أذل مركب والشفيع المهين فإنه والله أضعف وسيلة. وخرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم فأهمه ذلك فقيل له: ما يهمك منهم! وجه إليهم وكيع بن أبي سود فإنه يكفيكم. فقال: لا إن وكيعاً رجل به كبر يحتقر أعداءه ومن كان هكذا قلت مبالاته بأعدائه فلم يحترس منهم فيجد عدوه غرة منه. وسئل بعض الملوك عن وثائق الحزم في القتال فقال: مخاتلة العدو عن الريف وإعداد العيون على الرصد وإعطاء المبلغين أمانا على مستأمن ولا تشدهنك الغنيمة عن المحاذرة. وفي بعض كتب العجم: أن حكيماً سئل أشد الأمور تدريباً للجنود وشحذاً لها فقال: تعود القتال وكثرته وأن يكون لها مواد من ورائها. وقال عمرو بن العاص لمعاوية: والله ما أدري يا أمير المؤمنين أشجاع أنت أم جبان فقال معاوية: شجاع إذا ما أمكنتني فرصة وإن لم تكن لي فرصة فجبان قال هدبة العذري: ولا أتمنى الشر والشر تاركي ولكن متى أحمل على الشر أركب ولست بمفراح إذا الدهر سرني ولا جازع من صرفه المتقلب الصبر والإقدام في الحرب جمعت الله تبارك وتعالى تدبير الحرب كلها في آيتين من كتابه فقال: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ". وتقول العرب: إن الشجاعة وقاية والجبن مقتلة. واعتبر من ذلك أن من يقتل مدبراً أكثر ممن يقتل مقبلاً ولذلك قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لخالد بن الوليد: احرص على الموت توهب لك الحياة. والعرب تقول: الشجاع موقى والجبان ملقى. وقال أعرابي: الله نخلف ما أتلف الناس والدهر متلف ما جمعوا وكم من منية علتها طلب الحياة وحياة سببها التعرض للموت. وكان خالد بن الوليد يسير في الصفوف يذمر الناس ويقول: يا أهل الإسلام إن الصبر عز وإن الفشل عجز وإن مع الصبر النصر. وكتب أنو شروان إلى مرازبته عليكم بأهل الشجاعة والسخاء فإنهم أهل حسن الظن بالله. وقال حسان بن ثابت: ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما وقال العلوي في هذا المعنى: محرمة أكفال خيلى على القنا ودامية لباتها ونحورها حرام على أرماحنا طعن مدبر وتغرق منها في الصدور صدورها وكانوا يتمادحون بالموت قعصا ويتهاجون بالموت على الفراش ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه وأول من قال ذلك النبي عليه الصلاة والسلام. وخطب عبد الله بن الزبير الناس لما بلغه قتل مصعب أخيه فقال: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه. إنا والله لا نموت حتفاً ولكن نموت قعصاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف. وإن يقتل مصعب فإن في آل الزبير خلفاً منه. وقال السموأل بن عادياء: ما مات منا سيد حتف أنفه ولا طل منا حيث كان قتيل تسيل على حد الظبات نفوسنا وليس على غير السيوف تسيل وقال آخر: وقال الشنفرى: فلا تدفنوني إن دفني محرم عليكم ولكن خامري أم عامر إذا حملت رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري هنالك لا أبغي حياة تسرني سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر قوله: خامري أم عامر هي الضبع. يعني بقوله: إذا قتلتموني فلا تدفنوني ولكن ألقوني إلى التي يقال لها: خامري أم عامر وهي الضبع وهذا اللفظ بعيد من المعنى. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - وقيل له: أتقتل أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشي في إزار ورداء - فقال: أبالموت تخوفوني! فوالله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط علي. وقال لابنه الحسن عليهما السلام: لا تدعون أحداً إلى المبارزة وإن دعيت إليها فأجب فإن الداعي إليها باغ والباغي مصروع. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: بقية السيف أنمى عدداً وأطيب ولداً. يريد أن السيف إذا أسرع في أهل بيت كثر عددهم ونمى ولدهم. ومما يستدل به على صدق قوله: ما عمل السيف في آل الزبير وآل أبي طالب وما كثر من وقال أبو دلف العجلي: إني امرؤ عودني مهرى ركوب الغلس يحمدني سيفي كما يحمد كري فرسي سيفي بليلي قبسي وفي نهاري أنسى وقال محمد بن عبد الله بن طاهر صاحب خراسان: لست لربحان ولا راح ولا على الجار بنباح فإن أردت الآن موقفاً فبين أسياف وأرماح ترى فتى تحت ظلال القنا يقبض أرواحاً بأرواح وقال أشهب بن رميلة: أسود شرى لاقت أسود خفية تساقوا على حرد دماء الأساود وقيل للمهلب بن أبي صفرة: ما أعجب ما رأيت في حرب الأزارقة قال: فتى كان يخرج إلينا منهم في كل غداة فيقف فيقول: وسائلة بالغيب عني ولو درت مقارعتي الأبطال طال نحيبها إذا ما التقينا كنت أول فارس يجود بنفس أثقلتها ذنوبها وقال هشام بن عبد الملك لأخيه مسلمة: يا أبا سعيد هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو قال: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه علي حيلي ولم يغشني ذعر قط سلبني رأيي. قال هشام: صدقت هذه والله البسالة. وقيل لعنترة: كم كنتم يوم الفروق قال: كنا مائة لم نكثر فنتكل ولم نقل فنذل. وكان يزيد بن المهلب يتمثل كثيراً في الحرب بقول حصين بن الحمام: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما وقالت الخنساء: نهين النفوس وبذل النفو س يوم الكريهة أبقى لها وقيل لعباد بن الحصين - وكان من أشد أهل البصرة -: في أي عدة كنت تريد أن تلقى عدوك قال: في أجل مستأخر: وكان مما يتمثل به معاوية رضي الله عنه يوم صفين. أبت لي شيمتي وأبى بلائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإقدامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي ونظير هذا قول قطري بن الفجاءة: وقولي كلما جشأت لنفسي من الأبطال ويحك لا تراعي فإنك لو سألت حياة يوم سوى الأجل الذي لك لم تطاعي وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج كل يوم بصفين حتى يقف بين الصفين ويقول: أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أو يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجي الحذر ومثله قول جرير: قل للجبان إذا تأخر سرجه هل أنت من شرك المنية ناجي وهذا البيت في شعره الذي أوله: " هاج الهوى لفؤادك المهتاج " ومدح فيه الحجاج فلما أنشده: " قل للجبان إذا تأخر سرجه " قال: جرأت علي الناس يا بن اللخناء. قال: والله ما ألقيت لها بالاً أيها الأمير إلا وقتي هذا.


العقد الفريد - الجزء الأول لابن عبد ربه
العقد الفريد/الجزء الأول/1 | العقد الفريد/الجزء الأول/2 | العقد الفريد/الجزء الأول/3 | العقد الفريد/الجزء الأول/4 | العقد الفريد/الجزء الأول/5 | العقد الفريد/الجزء الأول/6 | العقد الفريد/الجزء الأول/7 | العقد الفريد/الجزء الأول/8 | العقد الفريد/الجزء الأول/9 | العقد الفريد/الجزء الأول/10 | العقد الفريد/الجزء الأول/11 | العقد الفريد/الجزء الأول/12 | العقد الفريد/الجزء الأول/13 | العقد الفريد/الجزء الأول/14 | العقد الفريد/الجزء الأول/15 | العقد الفريد/الجزء الأول/16 | العقد الفريد/الجزء الأول/17 | العقد الفريد/الجزء الأول/18 | العقد الفريد/الجزء الأول/19 | العقد الفريد/الجزء الأول/20 | العقد الفريد/الجزء الأول/21 | العقد الفريد/الجزء الأول/22 | العقد الفريد/الجزء الأول/23 | العقد الفريد/الجزء الأول/24 | العقد الفريد/الجزء الأول/25 | العقد الفريد/الجزء الأول/26 | العقد الفريد/الجزء الأول/27 | العقد الفريد/الجزء الأول/28