الصواعق المرسلة/الفصل السابع
هذا فصل بديع لمن تأمله يعلم به أن المتأولين لم يستفيدوا بتأويلهم إلا تعطيل حقائق النصوص والتلاعب بها وانتهاك حرمتها وأنهم لم يتخلصوا مما ظنوه محذورا بل هو لازم لهم فيما فروا إليه كلزومه فيما فروا منه بل قد يقعون فيما هو أعظم محذورا كحال الذين تأولوا نصوص العلو والفوقية والاستواء فرارا من التحيز والحصر ثم قالوا هو في كل مكان بذاته فنزهوه عن استوائه على عرشه ومباينته لخلقه وجعلوه في أجواف البيوت والآبار والأواني والأمكنة التي يرغب عن ذكرها فهؤلاء قدماء الجهمية فلما علم متأخروهم فساد ذلك قالوا ليس وراء العالم ولا فوق العرش إلا العدم المحض وليس هناك رب يعبد ولا إله يصلى له ويسجد ولا هو أيضا في العالم فجعلوا نسبته إلى العرش كنسبته إلى أخس مكان تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
وكذلك فعل الذين نفوا القدر السابق تنزيها لله عن مشيئة القبائح وخلقها ونسبوه إلى أن يكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون ولا يقدر على أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا ولا يقلب قلب العاصي إلى الطاعة ولا المطيع إلى المعصية.
وكذلك الذين نزهوه عن أفعاله وقيامها به وجعلوه كالجماد الذي لا يقوم به فعل وكذلك الذين نزهوه عن الكلام القائم به بقدرته ومشيئته وجعلوه كالأبكم الذي لا يقدر أن يتكلم وكذلك الذين نزهوه عن صفات كماله وشبهوه بالناقص الفاقد لها أو بالمعدوم وهذه حال كل مبطل معطل لما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله.
والمقصود أن المتأول يفر من أمر فيقع في نظيره.
مثاله إذا تأول المحبة والرحمة والرضى والغضب والمقت بالإرادة قيل له يلزمك في الإرادة ما لزمك في هذه الصفات كما تقدم تقريره. وإذا تأمل الوجه بالذات قيل له فيلزمك في الذات ما لزمك في الوجه فإن لفظ الذات يقع على القديم والمحدث كما يقع لفظ الوجه على القديم والمحدث وإذا تأول لفظ اليد بالقدرة فالقدرة يوصف بها الخالق والمخلوق فإن فررت من اليد لأنها تكون للمخلوق ففر من القدرة لأنه يوصف بها وإذا تأول السمع والبصر بالعلم فرارا من التشبيه لزمه ما فر منه في العلم وإذا تأول الفوقية بفوقية القهر لزمه فيها ما فر منه من فوقية الذات فإن القاهر من اتصف بالقوة والغلبة ولا يعقل هذا إلا جسما فإن أثبته العقل غير جسم لم يعجز عن إثبات فوقية الذات لغير جسم.
وكذلك من تأول الإصبع بالقدرة فإن القدرة أيضا صفة قائمة بالموصوف وعرض من أعراضه ففر من صفة إلى صفة وكذلك من تأول الضحك بالرضى والرضى بالإرادة إنما فر من صفة إلى صفة فهلا أقر النصوص على ما هي عليه ولم ينتهك حرمتها إذ كان التأويل لا يخرجه مما فر منه فإن المتأول إما أن يذكر معنى ثبوتيا أو يتأول اللفظ بما هو عدم محض فإن تأوله بمعنى ثبوتي كائنا ما كان لزمه فيه نظير ما فر منه فإن قال أنا أثبت ذلك المعنى على وجه لا يستلزم تشبيها. قيل له فهلا أثبت المعنى الذي تأولته على وجه لا يستلزم تشبيها.
فإن قال ذلك أمر لا يعقل. قيل له فكيف عقلته في المعنى الذي أثبته وأنت وسائر أهل الأرض إنما تفهم المعاني الغائبة بما تفهمها به في الشاهد ولولا ذلك لما عقلت أنت ولا أحد شيئا غائبا البتة فما أبديته في التأويل إن كان له نظير في الشاهد لزمك التشبيه وإن لم يكن له نظير لم يمكنك تعقله البتة وإن أولت النص بالعدم عطلته فأنت في تأويلك بين التعطيل والتشبيه مع جنايتك على النص وانتهاكك حرمته فهلا عظمت قدره وحفظت حرمته وأقررته وأمررته مع نفي التشبيه والتخلص من التعطيل وبالله التوفيق.