انتقل إلى المحتوى

الصفدية/1

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

سئل الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام بقية العصر قدوة الخلف تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبدالحليم ابن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبدالسلام بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه عن رجل مسلم يقول أن معجزات الأنبياء صلى الله عليهم وسلم قوى نفسانية أفتونا مأجورين

فأجاب الحمد لله رب العالمين هذا الكلام وهو قول القائل إن معجزات الأنبياء صلى الله عليهم وسلم قوى نفسانية باطل بل هو كفر يستتاب قائله ويبين له الحق فإن أصر على اعتقاده بعد قيام الحجة الشرعية عليه كفر وإذا أصر على إظهاره بعد الاستتابة قتل وهو من كلام طائفة من المتفلسفة والقرامطة الباطنية والإسماعيلية ونحوهم كابن سينا وأمثاله وأصحاب رسائل إخوان الصفا والعبيدين الذين كانوا بمصر من الحاكمية وأشباههم وهؤلاء كانوا يتظاهرون بالتشيع وهم في الباطن ملاحدة ويسمون القرامطة والباطنية وغير ذلك

وأهل بيت ابن سينا كانوا من أتباع هؤلاء وأبوه وجده من أهل دعوتهم وبسبب ذلك دخل في مذاهب الفلاسفة فإن هؤلاء يتظاهرون باتباع الملل ويدعون أن للملة باطنا يناقض ظاهرها ثم هم في هذه الدعوة على درجات فالواصلون منهم إلى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم مثل قرامطة البحرين أتباع الجنابي وأصحاب الألموت وسنان الذي كان بالشام وأمثالهم لا يعتقدون وجوب الصلوات الخمس ولا الزكاة ولا صيام شهر رمضان ولا حج البيت العتيق ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الخمر والميسر والزنا وغير ذلك ويزعمون أن هذه النصوص لها تأويل وباطن يخالف الظاهر المعلوم للمسلمين فالصلاة عندهم معرفة أسرارهم والصيام كتمان أسرارهم والحج زيارة شيوخهم وأمثال ذلك وقد يقولون أن هذه الفرائض تسقط عن الخاصة دون العامة وأما النصوص التي في المعاد وفي أسماء الله وصفاته وملائكته فدعواهم فيها أوسع وأكثر وقد دخل في كثير من أقوالهم في العلوم أو في العلوم والأعمال طائفة من المنتسبين إلى التصوف والكلام وكلام ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما من ملاحدة المتصوفة يرجع إلى قول هؤلاء وهؤلاء الملاحدة من المتفلسفة والقرامطة ومن وافقهم يقولون أن النبوة لها ثلاث خصائص من قامت به فهو نبي والنبوة عندهم لا تنقطع بل يبعث الله بعد كل نبي نبيا دائما وكثير منهم يقول أنها مكتسبة وكان السهروردي المقتول منهم يطلب أن يصير نبيا وكذلك ابن سبعين كان يطلب أن يصير نبيا وكانوا يعلمون من السحر والسيماء ما يضلون من يلبسون عليه الخاصة الأولى أن تكون له قوة قدسية وهي قوة الحدس بحيث يحصل له من العلم بسهولة ما لا يحصل لغيره إلا بكلفة شديدة وقد يعبرون عن ذلك بأنه يدرك الحد الأوسط من غير احتياج إلى ما يحتاج إليه من ليس مثله وحاصل الأمر أنه أذكى من غيره وأن العلم عليه أيسر منه على غيره الخاصة الثانية قوة التخييل والحس الباطن بحيث يتمثل له ما يعلمه في نفسه فيراه ويسمعه فيرى في نفسه صورا نورانية هي عندهم ملائكة الله ويسمع في نفسه أصواتا هي عندهم كلام الله من جنس ما يحصل للنائم في منامه ومن جنس ما يحصل لبعض أهل الرياضة ومن جنس ما يحصل لبعض الممرورين الذين يصرعون ويقولون إن ما أخبرت به الرسل من أمور الربوبية واليوم الآخر إنما هو تخييل وأمثال مضروبة لا أنه إخبار عن الحقائق على ما هي عليه الخاصة الثالثة أن تكون له قوة نفسانية يتصرف بها في هيولي العالم كما أن العائن له قوة نفسانية يؤثر بها في المعين ويزعمون أن خوارق العادات التي للأنبياء والأولياء هي من هذا النمط وأصل أمر هؤلاء أنهم لا يثبتون لصانع العالم مشيئة واختيارا وقدرة بها يقدر على تغيير العالم وتحويله من حال إلى حال بل وأئمتهم لا يثبتون علمه بتفاصيل أحوال العالم بل منهم من يقول لا يعلم شيئا ومنهم من يقول لا يعلم إلا نفسه ومنهم من يقول يعلم الجزئيات على وجه كلي وهذا اختيار ابن سينا وهو أجود أقوالهم مع تناقض هذا القول وفساده

فإن كل موجود في الخارج هو موجود معين جزئي والكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان ونفس الصانع موجود واجب معين ليس هو كليا وكذلك أيضا الصادر عنه كالأفلاك وكالعقول والنفوس التي يثبتونها فإن كان لا يعلم إلا كليا لم يعلم نفسه ولا الصادر عنه ولا الأفلاك وأيضا فلا يوجد إلا ما هو جزئي فإن كان لا يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات وهم يقولون أنه علة تامة مستلزمة للعالم والعالم متولد عنه تولدا لازما بحيث لا يمكن أن ينفك عنه لأن العلة التامة مستلزمة لمعلولها وقولهم أن النفوس والعقول معلولة له ومتولدة عنه أعظم كفرا من قول من قال من مشركي العرب أن الملائكة بنات الله قال الله تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون سورة الأنعام 100 وهؤلاء المتفلسفة يقولون العقل بمنزلة الذكر والنفس بمنزلة الأنثى وكلاهما متولد عن الله تعالى وأولئك كانوا يقولون أنه خلق الملائكة بمشيئته وقدرته وأنه هو رب السماوات والأرض وأما هؤلاء فيقولون أن العقول التي يسميها من يتظاهر بالإسلام منهم ملائكة يقولون أنها معلولة متولدة عن الله لم يخلقها بمشيئته وقدرته ويقولون أنها هي رب العالم فالعقل الأول أبدع كل ما سوى الله عندهم والثاني أبدع ما سوى الله وسوى العقل الأول حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر الفعال المتعلق بفلك القمر فيقولون أنه أبدع ما تحت الفلك فهو عندهم المبدع لما تحت السماء من هواء وسحاب وجبال وحيوان ونبات ومعدن ومنه يفيض الوحي والعلم على الأنبياء وغيرهم والخطاب الذي سمعه موسى إنما كان عندهم في نفسه لا في الخارج وهو فيض فاض عليه من هذا العقل الفعال ومنهم من يقول جبريل فلما كان أصل قولهم أن صانع العالم لا يمكنه تغيير العالم ولا له قدرة ولا اختيار في تصريفه من حال إلى حال جعلوا يريدون أن ينسبوا جميع الحوادث إلى أمور طبيعية ليطرد قولهم ويسلم عن التناقض وهو قول فاسد متناقض في نفسه وذلك أنا نشاهد الحوادث التي تحدث مثل حركات الكواكب وطلوع الشمس والقمر ومثل المطر والسحاب وهبوب الرياح وحدوث الحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك من الحوادث

فإذا كان أصل قولهم أن الصانع هو موجب بالذات وهو علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها لم يتأخر عنها شيء من معلولها فإن العلة التامة هي التي تستلزم معلولها والموجب بالذات هو الذي تكون ذاته مستلزمة لموجبه ومقتضاه فلا يجوز أن يتأخر عنه شيء من موجبه ومعلوله ولهذا قالوا بقدم العالم وهذا أعظم حججهم على قدم العالم قالوا لأن الحادث بعد أن لم يكن لا بد له من سبب حادث وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح ثم القول في ذلك السبب الحادث كالقول فيما قبله فيلزم التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء بل يلزم الدور الممتنع بخلاف التسلسل المتنازع فيه فإن وجود الحوادث دائما بلا ابتداء ولا انتهاء للناس من المسلمين وغيرهم فيه ثلاثة أقوال قيل يجوز مطلقا وهذا قول أئمة السنة والحديث وأساطين الفلاسفة لكن المسلمون وسائر أهل الملل وجمهور العقلاء من جميع الطوائف يقولون أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن وإن قال منهم من قال بدوام الحوادث شيئا بعد شيء وقيل لا يجوز لا في الماضي ولا في المستقبل وهو قول الجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف وقيل يجوز في المستقبل دون الماضي وهو قول أكثر أتباع جهم وأبي الهذيل من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم وأما تسلسل العلل أو الفاعلين أو ما هو من تمام الفاعل أو العلة الفاعلة فممتنع باتفاق العقلاء مثل أن يقال لفاعل العالم فاعل ولذلك الفاعل فاعل وهلم جرا فهذا التسلسل قد اتفق العقلاء على امتناعه وقد بسطنا الدلائل العقلية على امتناعه في غير هذا الموضع وكذلك إذا قيل الحادث لا بد له من سبب حادث وذلك السبب لا بد له من سبب حادث فإن هذا إذا أريد به الحادث المعين لزم التسلسل في تمام الفاعلية وإن أريد به نوع الحوادث لزم الدور الممتنع

والدور نوعان أحدهما الدور القبلي السبقي فهذا ممتنع باتفاق العقلاء مثل أن يقال لا يكون هذا إلا بعد ذاك ولا يكون ذاك إلا بعد هذا فهذا ممتنع باتفاق العقلاء ونفس تصوره يكفي في العلم بامتناعه فإن الشيء لا يكون قبل كونه ولا يتأخر كونه عن كونه فلو قيل إن الشيء لا يوجد إلا بعد أن يوجد لكان هذا ممتنعا فكيف إذا قيل أنه لا يكون إلا بعد ذاك وقيل أيضا ذاك لا يكون إلا بعد هذا فإنه يلزم أن يكون قبل قبل نفسه وبعد بعد نفسه فلزم الدور الممتنع أربع مرات فإنه إذا قيل لا يكون هذا إلا بعد ذاك كان ذاك قبل هذا وإذا قيل لا يكون ذاك إلا بعد هذا كان هذا بعد ذاك لا قبله فيلزم أن لا يكون هذا إلا قبل ذاك الذي هو قبل هذا وأن لا يكون ذاك إلا قبل هذا الذي هو قبل ذاك فيكون ذاك قبل ذاك بمرتبتين ويكون هذا قبل هذا بمرتبتين فلهذا اتفق العقلاء على امتناع هذا وأما الدور المعي الاقتراني مثل أن يقال لا يكون هذا إلا مع ذاك لا قبله ولا بعده فهذا جائز كما إذا قيل لا تكون الأبوة إلا مع البنوة وقيل أن صفات الرب اللازمة له لا تكون إلا مع ذاته وعلمه مع حياته وقدرته مع علمه ونحو ذلك

فإذا قيل إن جنس الحوادث لا يحدث إلا بسبب حادث كان المعنى أنه لا يكون شيء من الحوادث حتى يكون حادث فلايكون حادث من الحوادث ألبتة حتى يسبقه حادث والسابق من الحوادث التي جعلت متأخرة عن هذا الحادث وجعلت الحوادث كلها بعده فيلزم أن يكون الشي قبل نفسه وأما إذا قيل لا يكون الحادث المعين حتى يكون حادث ثم ذلك الحادث لا يكون حتى يكون حادث فهذا على وجهين إن قيل لا يكون الحادث حتى يكون قبله حادث فهذا التسلسل في الآثار وفيه الأقوال الثلاثة للمسلمين وليس الخلاف في ذلك بين أهل الملل وغيرهم كما يظنه كثير من الناس بل نفس أهل الملل بل أئمة أهل الملل أهل السنة والحديث يجوزون هذا النزاع في كلمات الله وأفعاله فيقولون إن الرب لم يزل متكلما إذا شاء وكلمات الله دائمة قديمة النوع عندهم لم تزل ولا تزال أزلا وأبدا وقد بسط هذا وما يناسبه في موضع آخر وذكر بعض ما في ذلك من أقوال أئمة السنة والحديث وأما ما يذكره كثير من أهل الكلام عن أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أن الله لم يزل معطلا لا يتكلم ولا يفعل شيئا ثم حدث ما حدث من كلام ومفعولات بغير سبب حادث فهذا قول لم ينطق به شيء من كتب الله لا القرآن ولا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا نقل هذا عن أحد من انبياء الله ولا قاله أحد من الصحابة أصحاب نبينا ولا التابعين لهم بإحسان ولكن الذي نطقت به الكتب والرسل أن الله خالق كل شيء فما سوى الله من الأفلاك والملائكة وغير ذلك مخلوق ومحدث كائن بعد أن لم يكن مسبوق بعدم نفسه وليس مع الله شيء قديم بقدمه في العالم لا أفلاك ولا ملائكة سواء سميت عقولا ونفوسا أو لم تسم والحديث الذي في صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي أنه لما قدم عليه وقد اليمن قالوا جئناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر فقال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض قد ذكرنا ألفاظه وطرقه وذكرنا الحديث الآخر الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمرو عن النبي أنه قال قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء والحديث الآخر الذي رواه مسلم أيضا في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي أنه كان يقول أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر وذكرنا أن حديث عمران رواه البخاري في ثلاثة مواضع بثلاثة ألفاظ كان الله ولم يكن شيء قبله ورواه في موضع ولم يكن شيء معه ورواه في موضع آخر ولم يكن شيء غيره وأن المجلس كان واحدا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم إلا واحدا من الثلاث وقد ثبت أنه قال ليس قبلك شيء واللفطان الآخران رويا بالمعنى وبينا على كل تقدير أن مراد النبي جواب أهل اليمن عما سألوه من ابتداء خلق هذا العالم الذي خلق في ستة أيام وكان عرش الله على الماء قبل ذلك وقدر الله مقادير هذا العالم قبل أن يخلقه بخمسين ألف سنة والمقصود هنا أنه إذا قيل لا يكون حادث حتى يكون حادث فهذا على وجهين أحدهما أنه لا يكون حادث حتى يكون قبله حادث فهذا فيه نزاع مشهور والثاني أن يقال أنه لا يكون حادث حتى يكون معه حادث لامتناع حدوث الحادث بلا سبب حادث لأن الفاعل لا يفعل بعد أن لم يكن فاعلا إلا لحدوث سبب حادث فهذا يوجب أن القديم لا يصدر عنه حادث ألبتة لأنه متى حدث حادث بلا سبب حادث انتقضت القضية الكلية فيلزم أن لا يفعل البتة شيئا وإن فعل لزم ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح وهذه الحجة أعيت كثيرا من أهل الكلام والنظر حتى قال كثير منهم القادر يرجح أحد طرفي مقدوره بلا مرجح وكذلك قال الآخرون نفس الإرادة القديمة هي المرجحة لأحد المثلين على الآخر

ونحن ننبه على ما به يعلم فساد قولهم والجواب عن حجتهم وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضعه فيقال إذا كان الصانع قديما موجبا بالذات وعلته تامة أزلية لزم ألا يتأخر عنه شيء من موجبه ومعلوله كما ذكروا لأن المتأخر إن كان قد وجدت كلته التامة في الأزل لزم أن يكون أزليا لا يتأخر وإن لم يوجد فقد وجدت علته التامة بعد أن لم تكن سواء كان الحادث شرطا من شروط تمام العلة أو غير ذلك ثم القول في علة تلك العلة كالقول في العلة التي هي معلول هذه فيلزم ألا يكون لشيء من الحوادث علة تامة في الأزل وهذا لازم لقولهم لا محيد عنه فإن العلة التامة تستلزم معلولها فالحادث لا تكون علته تامة في الأزل فيلزم على ذلك ألا يكون شيء من الحوادث حادثا عن العلة التامة التي هي واجب الوجود وحينئذ فأما أن تكون الحوادث حادثة بنفسها وهذا معلوم الفساد بالضرورة وهم يسلمون فساده وإما أن تكون حادثة عن فاعل آخر غير الواجب الموجود بنفسه فله فاعل ثم ذلك الفاعل إن لم يكن واجب الوجود بنفسه فله فاعل والقول في حدوث الحوادث عنه كالقول في الأول وإن كان واجب الوجود بنفسه كان القول فيه كالقول في ذلك الواجب إن كان علة تامة لزم ألا يحدث عنه حادث وإن لم يكن علة تامة بطل قولهم بالموجب بالذات فتبين فساد قولهم على كل تقدير وغاية ما يقولون أنهم يقولون أن لك حادث مشروط بحادث قبله والحوادث معدات وشروط للفيض عن الواجب بذاته ويقولون أن حركة الفلك هي سبب الحوادث والتغييرات فيقال لهم هب أن الأمر كذلك فالحوادث المتعاقبة سواء كانت حركة متصلة أو غير ذلك إذا كانت لم تصدر إلا عن علة تامة لزم أن تكون مقارنة للعلة التامة فإن العلة التامة يجب أن يقارنها معلولها والموجب بذاته يقارنه موجبه حينئذ فلا يتأخر عنها معلولها فالمتأخر لا يكون معلولها فلا يكون شيء من الحوادث معلولا لها

وإذا قالوا حدوث الأول أعدها لإحداث الثاني قيل لهم القول في حدوث الحادث الأول كالقول في حدوث الحادث الثاني فالحادث الأول الذي هو شرط الثاني لا يجوز أن يكون صادرا عن علة تامة أزلية بل لا تكون العلة التامة له إلا حادثة سواء كان الحادث كلها أو بعض أجزائها وشروطها وهذا مما يعترفون به مع أنه حق بين فحينئذ لا يكون لشيء من الحوادث علة تامة أزلية فإذا كان المبدأ الأول الذي هو صانع العالم علة تامة أزلية وليس لشيء من الحوادث عالة تامة أزلية لم يكن شيء من الحوادث صدر عنه فلا يكون لشيء من الحوادث فاعل ولا محدث وهذا غاية الجهل والتعطيل والسفسطة وهم يعترفون بفساده فإذا قالوا هذا الحادث المعين اليومي إنما تمت شروط اقتضائه وأحداثه التي بها صارت علته تامة في هذا الوقت المعين فإن العلة إذا تمت لم يتأخر عنها معلولها قيل لهم فيلزم أن يكون تمام العلة التامة لما يحدث في اليوم المعين إنما حدث ذلك اليوم ثم تمام العلة أيضا حادث في اليوم المعين فيلزم أن تكون علته أو تمام علته حادثا في اليوم المعين وهلم جرا فيلزم أن يكون كل حادث إنما صارت علته تامة عند حدوثه فيلزم من ذلك بطلان قولهم من وجوه أحدها أنه إذا لم يكن لشيء من الحوادث علة تامة أزلية بل إنما صارت له علة تامة عند حدوثه بلط قولهم فإنه إذا لم يكن لشيء من الحوادث علة تامة أزلية لم يكن شيء من الحوادث صادرا عن الموجب بالذات الذي هو علة تامة أزلية فعلم أن المحدث للحوادث ليس علة تامة لمعلولة في الأزل وهو المطلوب وهذا الموضع إذا تدبره من يفهمه ويفهم مذهبهم علم أنه يبين فساد قولهم بالضرورة وكلما غيرت العبارات الدالة عليه زاد بيانا وقوة فدعواهم أن المبدع الموجب بالذت علة تامة أزلية مع كون الحوادث المتعاقبة صدرت عنه جمع بين النقيضين إذ العلة التامة يقارنها معلولها ولا يتأخر عنها وسواء قيل أن الفلك صدر عنه بلا واسطة كما تقوله طائفة منهم أو قيل صدر عنه بواسطة العقل الأول كما يقوله طائفة أخرى فهم يقولون أن المحرك للفلك هو النفس بما يتجدد لها من التصورات والإرادات الشوقية فيقال هذه الأمور الحادثة سواء كانت هي الحركات أو الإرادات أو التصورات لا بد لها من أمر محدث لها والعلة التامة الأزلية المستلزمة لمعلولها في الأزل التي توجبه بذاتها يقارنها معلولها الذي هو موجبها ومقتضاها في الأزل فلا يكون شيء من هذه الحركات والإرادات والتصورات معلولا لها لأنها حادثة ولا تكون موجبة له ولا فاعلة ولا محدثة لامتناع صدور الحوادث عن علة تامة أزلية وهذا مما يتبين به بطلان قولهم في قدم العالم ويتبين أن كل ما سوى الله تعالى حادث بعد أن لم يكن فإن القديم المعلول لا يصدر إلا عن موجب بذاته أزلي الإيجاب وهو العلة التامة الأزلية التي تستلزم معلولها في الأزل فلو كان في العالم ما هو قديم لزم ثبوت العلة التامة الأزلية لكن ثبوت هذه ممتنع لأنه حينئذ يلزم ألا يكون للحوادث فاعل لا لوسط ولا بغير وسط لأن الحوادث لا تحدث عن علة تامة لها أزلية فكل ما سوى الله لا بد أن يقارن شيئا من الحوادث أو تحدث فيه الحوادث وكل ما قارن شيئا من الحوادث أو حدثت فيه الحوادث يمتنع أن يصدر عن علة تامة أزلية إذ يمتنع صدوره دون الحوادث عن الفاعل لأنه لا بد للحوادث من الفاعل فإثبات قدم شيء من العالم يستلزم إثبات علة قديمة له وإثبات العلة القديمة توجب كون الحوادث لا فاعل لها سواء قيل أن تلك العلة القديمة صدر عنها ما قارنته الحوادث أو صدر عنها ما حدثت فيه الحوادث فإنه على التقديرين يلزم كون الحوادث لا فاعل لها لامتناع صدور الحوادث عن العلة التامة الازلية وإذا كان قدم شيء من العالم يستلزم إثبات العلة التامة القديمة وإثبات ذلك يستلزم كون الحوادث لا فاعل لها وهذا اللازم باطل بالضرورة فالملزوم أيضا باطل والملزوم قدم شيء من العالم فإذا كان الملزوم باطلا فنقيضه حق وهو أنه ليس من العالم شيء قديم الوجه الثاني أن قولهم هذا يستلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى وهم يسلمون فساد ذلك وفساده معلوم بالادلة اليقينية كما قد بسطناه في غير هذا الموضع ونبهنا على أن المعلولات كلها ممكنة ليس فيها ما يقتضي وجودها وتقدير أمور غير متناهية ليس فيها ما يقتضي وجودها بمنزلة تقدير أمور متناهية معدومة أو ممتنعة فإذا قدر علل لا تتناهى وهي معلولات كان ذلك بمنزلة تقدير أمور معدومة لا تتناهى فلا يكون فيها ما هو موجود والمعدوم يمتنع أن يكون مبدعا أو فاعلا للموجود ولا حاجة إلى الإطناب في هذا فإنه متفق عليه بين العقلاء لكن بعض المتأخرين أورد على هذا شبهات قد بينا فسادها في غير هذا الموضع كما أورد ذلك الآمدي والأبهري وغيرهما

ومن الناس من ظن أن الكلام في تناهي المؤثرات بمنزلة الكلام في تناهي الآثار كما ظن ذلك طائفة من أهل الكلام والجدل ثم من هؤلاء من قال فإذا كان تناهى الآثار لا يقوم دليل على فساده فكذلك تتناهى العلل

وهذا مما سلكه أبو حامد في الرد علىالفلاسفة في تهافت الفلاسفة وجعل قولهم بتجويز حوادث لا أول لها يقتضي تجويز علل لا تتناهى

وكثير من أهل الكلام من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية والكرامية ومن وافقهم من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية لما سووا بين النوعين اعتمدوا في نفس التسلسل في المؤثرات والآثار على طرق معروفة قد أفسدها كثير منهم حتى أن الرجل من هؤلاء يذكر بعض هذه الطرق في كتاب ويفسدها في كتاب آخر كما يفعله أبو عبدالله بن الخطيب ونحوه فيقرر في كتاب الأربعين ونحوه طرقا في إبطال حوادث لا تتناهى ويبطلها في مثل كتاب المباحث المشرقية وأمثاله ولهذا بين أبو الحسن الآمدي فساد عامة هذه الطرق واعتمد طريقة أضعف من غيرها وكذلك أبو الثناء الأرموي أفسد في لباب الأربعين عامة ما قيل في هذا الباب وهذا كله مبسوط في موضعه والمقصود هنا أن التسلسل في المؤثرات باطل باتفاق العقلاء وأما الاعتراض المذكور فهو أنهم قالوا إذا كان كل من المؤثرات ممكنا فلم لا يجوز ألا تكون الجملة ممكنة على قول من يقول أن كل واحد من الحوادث محدث والنوع القديم متسلسل فإن حكم الجملة إما أن يكون مثل حكم الأفراد وأما ألا يكون فإن كان مثل حكمها لزم حدوث نوع الحوادث وهذا هو الذي يقوله كثير من أهل الكلام وعليه اعتمد أبو الحسين البصري وأمثاله وقالوا إذا كان كل واحد من الزنج أسود فالجميع سود

لكن نقض ذلك المعارضون لهم بأن الواحد من العشرة ليس هو عشرة والواحد من أجزاء القبة والبيت ليس هو قبة ولا بيتا وبعض الإنسان ليس هو إنسان فقال هؤلاء الذين أشكل عليهم بطلان تسلسل المؤثرات كالآمدي والأبهري فحينئذ يجوز أن يكون كل واحد من العلل ممكنا والجملة ليست ممكنة فصارت هذه المباحث المتعلقة بأصول الدين والعلم مضطربة عند أئمة الفلاسفة والمتكلمين وفصل الخطاب في هذا الباب أن نقول انضمام الفرد إلى غيره إما أن يوجب ثبوت أمر يخالف حكم تلك الأفراد وإما ألا يوجب فإن لم يوجب ثبوت أمر يخالف حكم الأفراد كان حكم المجموع حكم الأفراد وإن أوجب ثبوت أمر يخالف حكم الأفراد لم يجب أن يكون حكم المجموع حكم الأفراد مثال الأول المعدوم مع المعدوم فإن انضمام أحدهما إلى الآخر لا يخرجه عن أن يكون معدوما وكذلك انضمام الواجب إلى الواجب والممكن إلى الممكن وكذلك انضمام الموجود إلى الموجود لا يخرجه عن أن يكون موجودا اللهم إلا إذا كانا يتضادان

ومثال الثاني أبعاض الإنسان وغيره من الحيوان وأبعاض الدار والبيت والمدينة ونحو ذلك فإن انضمام بعض ذلك إلى بعض يوجب للمجموع أن يصير حيوانا وبيتا ومدينة وكذلك آحاد العشرة والألف بالانضمام تصير عشرة وألفا وكذلك غير ذلك من المركبات فإنه بالاجتماع يحصل له من التركيب ما لا يحصل بالأفراد وكذلك أجزاء الطويل والدائم والممتد والكبير والعظيم ونحو ذلك فإنه لا يسمى طويلا ولا دائما ولا ممتدا ولا كبيرا ولا عظيما إلا إذا اجتمعت تلك الأجزاء فبالاجتماع يتغير حكم الأفراد إذا تبين ذلك فإذا قدر مؤثرات ممكنة ليس لها من أنفسها وجود ولكن كل منها يحتاج إلى مؤثر لم تكن بانضمام بعضها إلى بعض تخرج عن أن تكون ممكنة مفتقرة إلى غيرها بل كلما كثرت زاد الافتقار والحاجة كما أنه كلما ضم المعدوم إلى المعدوم كثر المعدوم فإذا قدر علل لا تتناهى كل منها معلول أو فاعلون لا يتناهون كل منهم مفعول فهذه كلها مؤثرات أبدعها غيرها وكل منها ممكن بنفسه محتاج إلى غيره قد أبدعه غيره ليس فيها ما هو موجود بنفسه فإذا قدر عدم تناهيها كان ذلك تكثيرا للحاجة والافتقار إلى الموجود بنفسه وتكثيرا للممكنات التي هي معدومة بنفسها لا توجد إلا بموجود غيرها فكثرتها وعدم تناهيها لا يخرج شيئا منها عن أن يكون ممكنا مفتقرا إلى غيره وأنه إذا لم يكن له مبدع كان معدوما بل المجموع مفتقر إلى كل من الأفراد وإذا كان كل من الأفراد ممكنا فالمجموع المتوقف على كل من الأفراد أولى أن يكون ممكنا فتبين بذلك امتناع وجود علل ومعلولات لا تتناهى وهو امتناع أرباب كل منهم مربوب أو فاعلين كل منهم مفعول ومؤثرين كل منهم أثر فيه غيره فهذا جميعه مما يعلم امتناعه بالضرورة بعد التصور التام كما اتفق عليه عامة العقلاء وذلك مما بيبن أن جميع الممكنات والحوادث لها مبدع موجود بنفسه خارج عنها كلها وهذا بخلاف دوام الحوادث وتسلسلها في الماضي أو المستقبل فإن الواحد منها إذا لم يكن دائما باقيا متصلا لم يلزم ألا يكون النوع دائما باقيا متصلا لأن انضمام الواحد إلى غيره يوجب الكثرة التي لا توجد في الواحد والدائم الباقي المديد الطويل الكثير لا يستلزم أن يكون كل واحد من أفراده دائما طويلا مديدا كثيرا فهذا تنبيه على الفرق بين النوعين وإذا كان كذلك فنقول قولهم بقدم العالم يستلزم التسلسل في المؤثرات وذلك فاسد بالضرورة والاتفاق وهم يسلمون امتناع تسلسل المؤثرات لكن الذين يقولونه هنا يقولون التسلسل إنما هو حاصل في شروط العلية لا في ذات العلة

فيقال لهم إذا كان هذا الحادث موقوفا على شرط العلة الذي هو تمامها وعند حصول تمام العلة يجب مقارنة ذلك المعلول له لا يجوز تأخره عنه فكل حادث يجب أن يقارنه تمام علة الحادث والكلام في تمام علية الحادث كالكلام في الحادث فيلزم تسلسل تمامات العلل وأن يكون تمام علة كل معلول مقارنا لذلك المعلول فإذن كل حادث إنما تمت علته عند حدوثه وذلك التمام إنما تمت علة حدوثه عند حدوثه أيضا فيلزم تسلسل تمامات لا فاعل لها ولا فرق بين تسلسل علل هي معلولات لا فاعل لها وبين تسلسل تمامات علل هي معلولات لا فاعل لها وأيضا فإن هذه التمامات المتسلسلة لا يجوز أن تكون صادرة عن العلة التامة الأزلية فإن ذلك يستلزم أن تكون مقارنة لتلك العلة ولا يجوز أن تكون العلة الأزلية علة تامة لواحد منها معين وذلك شرط في الثاني لأنه يتعين لها مبدأ معين وما من واحد إلا وقبله آخر فلا يتعين شيء منها دون الآخر ولا يكون شيء منها علة تامة لحوادث متعاقبة مع كون العلة ثابتة على حال واحدة لأن حدوث المتغير عن علة تامة لا تتغير ممتنع فإذا لم يكن لها محدث سوى العلة التامة الأزلية والعلة التامة الأزلية لا يجوز أن يصدر عنها حادث فيلزم ألا يكون للحوادث محدث وأبو عبدالله الرازي قد نبه على هذا لكن لم يوضحه إيضاحا تاما فاعترض عليه الأرموي حيث لم يفهم حقيقة هذا الإلزام فظن الفرق بين حدوث شروط العلة وحدوث ذات العلة وهذا الفرق إنما يصح إذا كان هناك سبب يقتضي حدوث شروط العلة غير العلة حتى يقال تأثيرها موقوف على حدوث شروط أخر تحدث بسبب غيرها فأما إذا كان لا مقتضى للحوادث إلا ذات العلة التي فرض أنها تامة لا يتخلف عنها معلولها لم يكن اقتضاؤها موقوفا على شرط غيرها فيجب أن يقارنها معلولها فلا يحدث عنها حادث

واعلم أن هذا هو عمدتهم في قدم العالم وقد تبين أنه مناقض لما قالوه وأنه مبطل لقولهم فإن أصل قولهم أن المؤثر في العالم يجب أن يكون تاما فلا يتخلف عنه أثره وهذا بعينه يمنع أن يكون محدثا لشيء من الحوادث بشرط أو بغير شرط

والرازي أجاب بأن هذه الحجة تستلزم التسلسل في العلل وهو باطل فاعترض عليه الأرموي في لباب الأربعين

قال الرازي في الأربعين احتج القائلون بالقدم بوجوه أولها لا شك أن الممكنات تنتهي في سلسلة الحاجة إلى واجب الوجود فنقول كل ما لا بد منه في كونه تعالى مؤثرا في إيجاده إما أن يقال أنه كان حاصلا في الأزل أو ما كان حاصلا في الأزل فإن كان كل ما لا بد منه في المؤثرية حاصلا في الأزل فإما أن يجب مع حصوله حصول الأثر أو لا يجب فإن وجب لزم من دوامه دوام الأثر وإن لم يجب كان وجوده مع عدم تلك الآثار جائزا فلنفرض ذاته مع مجموع الأمور المعتبرة في المؤثرية تارة مع وجود تلك الآثار وتارة مع عدمها فاختصاص ذلك الوقت بالوجود دون الوقت الآخر إما أن يختص بأمر ما لأجله كان هو أولى بوجود ذلك الأثر وإما ألا يكون كذلك فإن كان الأول كان ذلك المخصص معتبرا في المؤثرية وهو ما كان حاصلا قبل ذلك فإن كان ما لا بد منه في المؤثرية ما كان حاصلا في الأزل وكنا قد فرضنا حاصلا قبل ذلك هذا خلف وإن كان الثاني كان ذلك ترجيحا لأحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر من غير مرجح أصلا وهو محال هذا إذا قلنا كل ما لا بد منه في المؤثرية كان حاصلا في الأزل أما إذا قلنا بأن كل ذلك ما كان حاصلا في الأزل فحدوثه فيما لا يزال بعد أن لم يكن إما أن يفتقر إلى مؤثر أو لا يفتقر فإن لم يفتقر فقد حدث الممكن لا عن مرجح وإن افتقر نقلنا الكلام إلى كيفية إحداث تلك الأمور ويلزم التسلسل وهو محال

قال الرازي هذا هو العمدة الكبرى للقوم ثم ذكر أجوبة طوائف من أهل الكلام عن ذلك بأن قوما قالوا المرجح هو الإرادة وقيل المرجح هو العلم وقيل المرجح اختصاص وقت الأحداث بحكمه خفية وقيل إحداث العالم في الأزل محال لأن الإحداث جعله موجودا بعد أن كان معدوما وذلك يقتضي سبق العدم والأزل عبارة عن نفي المسبوقية بالغير فكان الجمع بينهما بمحال

وقيل أن العالم قبل ذلك ما كان ممكنا بل ممتنعا ثم انقلب ممكنا ذلك في الوقت وقيل أن القادر المختار يمكنه أن يرجح أحد المقدورين على الآخر من غير مرجح ثم بين فساد هذه الأجوبة جملة فإن حاصلها أن كل ما لا بد منه في إيجاد العالم ما كان حاصلا في الأزل وبين فسادها على وجه التفصيل بما لا حاجة إلى ذكره هنا ثم قال والجواب أن نقول إن صح ما ذكرتم يلزم أن لا يحصل في العالم شيء من التغيرات لأنه يلزم من دوام واجب الوجود أزلا وأبدا دوام المعلول الأول ومن دوام المعلول الأول دوام المعلول الثاني وهلم جرا إلى آخر المراتب فيلزم ألا يحصل في العالم شيء من التغيرات وأنه خلاف الحس

قال فإن قال قائل لم لا يجوز أن يقال واجب الوجود عام الفيض إلا أن حدوث الأثر عنه يتوقف على استعداد القوابل وحصول هذه الاستعدادات المختلفة في القوابل يتوقف على الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية وكل واحد منها مسبوق بآخر لا إلى أول فلهذا السبب حدث التغير في هذا العالم قال والجواب أنا نقول العرض المعين إذا حدث في هذا العالم فإما أن يفتقر في حدوثه إلى سبب أو لا يفتقر فإن لم يفتقر فقد حدث الممكن لا عن سبب وهو باطل بالاتفاق وإذا افتقر إلى سبب فذلك السبب إن كان حادثا كان الكلام في كيفية حدوثه كما في الأول فيفضي إلى وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة واحدة وهو محال وإن كان السبب قديما فقد أسندتم إلى المؤثر القديم أثرا محدثا وإذا عقلتم ذلك فلم لا يجوز في كل العالم مثل ذلك

قال الأرموي معترضا على هذا الجواب ولقائل أن يقول إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شروطه فإن عنيت به السبب الفاعل لم يلزم من حدوث العرض المعين حدوثه بل إما حدوثه أو حدوث بعض الشرائط وحدوث الشرائط والمعدات الغير المتناهية على التعاقب جائز عندهم

قال بل الجواب الباهر عنه أنه لا يلزم ذلك من حدوث العالم الجسماني لجواز أن يوجد في الأزل عقل أو نفس يصدر عنها تصورات متعاقبة كل واحد منها بعد ما يليه حتى تنتهي إلى تصور خاص يكون شرطا لفيضان العالم الجسماني عن المبدأ القديم

قلت هذا الجواب الذي أجاب به الأرموي أخذه من المطالب العالية للرازي فإنه ذكر هذا الجواب فيه وهذا الجواب باطل متناقض في نفسه فإنه يتضمن وجود حوادث لا أول لها والمتكلمون الذين أثبتوا حدوث الأجسام إنما أثبتوه بناء على امتناع حوادث لا أول لها فإن كان هذا الأصل صحيحا بطل الجواب المذكور ولزم حدوث النفوس التي تقوم بها تصورات متعاقبة لأنها حوادث لا أول لها وإن كان حوادث لا أول لها جائزا كما ذكره في الجواب الباهر بطل دليل المتكلمين على حدوث الأجسام وحينئذ فلا فرق بين أن يقال القديم هو النفس أو جسم وأيضا فهذا الجواب باطل من وجه آخر وهو أن النفوس عند من يثبتها من المتفلسفة لا تفارق الأجسام بل النفس عندهم لا بد أن تكون متعلقة بالجسم تعلق التدبير والتصريف وقد تنازعوا في النفس الفلكية هل هي جوهر أو عرض وأكثرهم يقولون هي عرض ولكن ابن سينا وطائفة رجحوا أنها جوهر فإذا كان وجود النفس التي تقوم بها التصورات المتعاقبة مشروطا بوجود الجسم بطل هذا الجواب وأما العقول فتلك مفارقة لا تدبر الأجسام ولا يقوم بها عندهم شيء من الحوادث لا متعاقبا ولا غير متعاقب وأيضا فهذا الجواب يتضمن شيئين جواز حوادث لا أول لها بناء على أن التسلسل الممتنع إنما هو في المؤثرات لا في الآثار والشروط وهذه مسألة نظرية لا تناقض أصول الإسلام ويتضمن أيضا إثبات العقول والنفوس وأنها قديمة أزلية وأن المخلوق المحدث إنما هو الأجسام دون العقول والنفوس وهذا ليس من دين أحد من أهل الملل وهو مبني على إثبات العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة وأنها ليست أجساما وكلامهم في ذلك في غاية الفساد في العقل كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع

وإنما غلط في هذا لأن الشهرستاني والرازي والآمدي ونحوهم من المتأخرين ظنوا أن المتكلمين ليس لهم دليل ينفي وجود هذه الأمور وأنهم لم يذكروا على نفيها دليلا وليس الأمر كما ذكره هؤلاء بل قد صرح النظار كإمام الحرمين وأبي الوفاء بن عقيل ومن قبلهم كالقاضي أبي بكر وأبي الحسن الأشعري وأبي علي وأبي هاشم الجبائي وأبي الحسين البصري ومحمد بن كرام وابن الهيصم وهشام بن الحكم وغيرهم أن إثبات ذلك معلوم الفساد بضرورة العقل وإن إثبات ما لا يشار إليه ولا يقوم بما يشار إليه معلوم الفساد بضرور العقل إما مطلقا عند طائفة وإما في الممكنات عند طائفة وهذا مبسوط في موضعه ولو أن الأرموي قال هذا في واجب الوجود نفسه لكان ذلك أقرب إلى دين المرسلين فإن ذلك يمكن معه القول بأن كل ما سوى الله سبحانه وتعالى مخلوق محدث غايته أنه يلزم قيام الأفعال المتعاقبة بالواجب نفسه وهذا قول أئمة أهل الحديث وجمهورهم وطوائف من أهل الكلام وقول أساطين الفلاسفة القدماء فهو قول أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة ففي الجملة هذا فيه نزاع بين أهل الملل فيمكن مع القول به موافقة الأنبياء بخلاف ما ذكره

وأيضا فقد بين الرازي والآمدي ضعف ادلة نفاة ذلك وذكر الرازي أن ذلك لازم لعامة الطوائف ثم قرر هو ذلك بطريقة هي أيضا في غاية الضعف كما قد بسط هذا كله في غير هذا الموضع وإذا كان كذلك فالواجب الذي هو أصح في الشرع والعقل أولى من الجواب الذي هو أفسد في الشرع والعقل فهذا الكلام على جواب الأرموي وأما جواب الرازي وإلزامه لهم فصحيح كما ذكره ولكن لم يقرره ويبينه تبيينا يشفي الغليل فلهذا لم يفهم الأرموي حقيقة هذا الجواب وذلك أنه إذا كان المؤثر التام أزليا لزم من دوامه دوام أثاره فيلزم أن لا يحدث شيء وهو خلاف الحس وهذا الجواب وحده كاف إذا تصوره الإنسان فإنه إذا قيل بأن المؤثر التام أزلي وأنه يستلزم آثاره امتنع حدوث شيء من الآثار فيلزم أن لا يحدث شيء لأن حدوث الحوادث بلا محدث ممتنع وحدوثها عن المؤثر التام ممتنع وأما السؤال الذي أورده فيجاب عنه بما ذكره وبغير ما ذكره وذلك أن قول القائل أن المؤثر دائم الفيض ولكن حدوث الأثر عنه متوقف على حدوث الاستعداد والشرائط إنما يمكن قوله في الأثر الذي يتوقف على اثنين كالإحراق من النار المتوقف على استعداد المحل فلا تحرق الياقوت والسمندل ونحو ذلك وكالشمس التي يتوقف فيض شعاعها على محل قابل وذلك المحل ليس صادرا عنها وكما قالوه فيما يفيض عن العقل الفعال المتوقف على حدوث امتزاجات حاصلة بحركة الأفلاك وحركة الأفلاك التي فوق فلك القمر لا تتوقف على فيض العقل الفعال فهذا الذي ذكروه من توقف الفيض على استعداد القوابل إنما يمكن أن يقال إذا كان ذلك الاستعداد ليس هو من فيض ذلك الموجب وهذا لا يصح في الواجب الوجود الذي هو المبدع لكل ما سواه فإنه هو الفاعل للإستعدادات والشرائط كما هو الفاعل لما يفيض عليها فلا شريك له في الفعل والإبداع أصلا فإذا قال القائل إن واجب الوجود عام الفيض إلا أن حدوث الأثر عنده يتوقف على استعداد القوابل قيل لهم فاستعداد القوابل هو أيضا مما فاض عنه فيتمنع أن يقال هو عام الفيض لكل ممكن إذ لو كان كذلك لكانت الممكنات كلها أزلية وإذا قيل فلم تأخر عنه فيض الحادث فقيل لتأخر الاستعداد

قيل وما الموجب لتأخر الاستعداد فإذا قيل لتأخر استعداد آخر وقول الأرموي أنه يجوز عندهم حدوث الشرائط والمعدات الفائضة بسببها ليس هو مؤثرا تاما في الأزل لها ولا مؤثرا لها فيما لا يزال لأن المؤثر التام الأزلي لا يتأخر عنه شيء من أثره وتأخر الآثار مشاهد معاين وقول الأرموي أنه يجوز عندهم حدوث الشرائط والمعدات الغير المتناهية على التعاقب لا ينفعهم بل ذلك مما يستلزم فساد قولهم بقدم شيء من العالم فإنه إذا جاز تسلسل الحوادث والآثار امتنع أن يكون علة تامة في الأزل لشيء منها لأن ذلك يستلزم وجود هذه الحوادث في الأزل وذلك جمع بين النقيضين ويمتنع أن تحدث عنه بعد ذلك لأنها لا تحدث حتى يحدث عنه ما يجعله علة تامة لها وحدوث شيء من الحوادث عن العلة المستلزمة لمعلولها في الأزل ممتنع لكن لو قالوا إن الرب سبحانه وتعالى ليس فعله تاما في الأزل بل هو يحدث كل ما سواه شيئا بعد شيء كان هذا موافقا لأصلهم في جواز تعاقب الحوادث ولكنه مبطل لقدم شيء بعينه من العالم لا الفلك ولا غيره وحجتهم في القدم مبنية على أنه مؤثر تام في الأزل فقد ثبت أنه ليس مؤثرا تاما لها ولم يثبت أنه مؤثر تام لغيرها فبطلت حجتهم فلم يبق معهم ما يثبت علة تامة في الأزل وهذا يبطل حجتهم لو لم يثبت امتناع علة تامة في الأزل فكيف إذا ثبت امتناع ذلك فإنه يوجب امتناع قدم شيء من العالم

وأيضا فإذا لم يكن مؤثرا تاما في الأزل للحوادث فتأثيره بعد أن لم يكن مؤثرا أن توقف على غيره لزم أن يكون مبدع العالم مفتقرا في الإبداع إلى غيره ثم ذلك الغير إن كان واجبا لزم إثبات واجبين فاعلين وهذا ممتنع بالاتفاق مع أنه لا يستلزم قدم العالم ثم إن كان كل منهما مستقلا بالفعل لزم أن يكون كل منهما مبدعا لكله فيلزم أن يكون هذا فاعلا لكله وهذا فاعلا لكله وذلك جمع بين النقيضين وإن لم يكن أحدهما مستقلا بالفعل لزم احتياجه إلى الآخر وافتقاره إليه فيكون كونه فاعلا وقادرا موقوفا على الآخر وذلك يستلزم ألا يكون هذا فاعلا قادرا إلا بهذا وإلا يكون هذا قاعى فاعلا قادرا إلا بهذا فيلزم الدور المعي القبلي فلا يكون واحد منهما فاعلا قادرا وهذا كله مما يسلمه جميع الناس وهو مبسوط في غير هذا الموضع فلا حاجة إلى الإطناب فيه وإن كان ذلك الغير ممكنا كان مفعولا مصنوعا له فتوقف فعله عليه توقف على ما هو من مفعولاته ومصنوعاته والقول في فعله لذلك الممكن كالقول في فعله لغيره فلا بد أن يكون فعله لا يتوقف على غيره وإن قيل إن تأثيره بعد أن لم يكن لا يتوقف على غيره لزم الترجيح بلا مرجح والحدوث بلا سبب وهذا ممتنع عندهم وبتقدير صحته فإنه يمكن حدوث الحوادث حينئذ بعد أن لم تكن حادثة على هذا التقدير فيبطل قولهم بقدم العالم فتبين أنه يمتنع مع حدوث الحوادث أن يكون مؤثرا تاما في الأزل وإذا قيل أحداثه للثاني مشروط بالأول وهلم جرا قيل فليس هو وقت حدوث حادث واحد مؤثرا تاما بل في كل وقت لا بد من حادث به يتم كونه مؤثرا تاما وإذا لم يكن في وقت من الأوقات مؤثرا تاما امتنع ثبوت المؤثر التام الذي لا يتوقف تأثيره على حدوث حادث وإذا بطل المؤثر التام بطل القول بقدم العالم وإيضاح هذا بالكلام على نص كلامهم قالوا لم لا يجوز أن يقال إن واجب الوجود عام الفيض إلا أن حدوث الأثر عنه يتوقف على استعداد القوابل وحصول هذه الإستعدادات المختلفة في القوابل يتوقف على الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية وكل حادث منها مسبوق بآخر لا إلى أول فلهذا السبب حدث التغير في العالم فيقال لهم إذا كان حدوث الأثر عنده يتوقف على استعداد القوابل وحصول الإستعدادات متوقف علىالحركات والاتصالات فهذه الحركات والاتصالات هي أيضا حادثة كما أن الإستعدادات أيضا حادثة والقول في حدوث هذه الحوادث كالقول فيما يفيض على القوابل السفلية فإن الجميع حادث وحجتهم تستلزم ألا يحدث شيء لأن المؤثر التام دائم أزلا وأبدا فيلزم دوام آثاره أزلا وأبدا وألا يتأخر عنه شيء من آثاره فإذا قيل الحادث الثاني مشروط بالأول قيل فالكلام في حدوث الأول فكل من هذه الحوادث لا يجوز أن يصدر عن المؤثر التام الأزلي إذ لو كان كذلك لكان قديما معه وكل من هذه الحوادث يجب أن يحدث مؤثره أو تمام مؤثره وليس في المؤثر التام الأزلي سبب يقتضي حدوث شيء أصلا عندهم فيلزم ألا يكون لشيء من الحوادث سبب منه وإذا قيل حركة الفلك هي سبب الحوادث قيل فحركة الفلك يمتنع صدورها عن مؤثر تام لا يقوم به شيء من الحوادث لأن ذلك يستلزم تأخر المعلول عن علته التامة وتأخر موجب الشيء ومقتضاه عن المقتضي الموجب التام فالكلام في حدوث حركة الفلك كالكلام في غيرها وهذا الموضع من فهمه علم ضرورة بطلان مذهب القوم وأن حقيقة قولهم أن الحركات والحوادث حادثة بلا فاعل لها ولا سبب يقتضي حدوثها فإن أثبتوا في الفاعل الأول أفعالا تقوم به شيئا بعد شيء وقالوا تلك هي سبب التغيرات كان هذا موافقة على إمكان إحداث العالم وغيره وبطل أصل قولهم وأما الإلزام الذي ذكره الرازي في الأربعين فصحيح

أيضا فإنه قال العرض المعين إما أن يفتقر في حدوثه إلى سبب أو لا يفتقر والثاني باطل بالاتفاق وإذا افتقر فالسبب إن كان حادثا لزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة واحدة وإن كان قديما لزم جواز صدور الحوادث عن القديم وهو يبطل حجتهم وأما اعتراض الأرموي بقوله إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه فيقال له هب أن الأمر كذلك فإذا عنى بحدوثه حدوث السبب التام وحدوثه لا يقف على حدوث الفاعل بل يكفي حدوث بعض الشرائط فأي جواب لهم في هذا وقوله حدوث بعض الشرائط والمعدات الغير متناهية على التعاقب جائز عندهم فيقال له فهب أنه جائز عندهم فجوازه عندهم لا يدل على صحة مذهبهم ولا على إمكانه ولا على بطلان ما ذكره بل حدوث الشرائط والمعدات باطل بما به بطل حدوث العلة التامة وذلك أن تلك الشروط والمعدات الحادثة لا بد لها من محدث وإذا قلت حدوثه موقوف على تمام حدوث التأثير

قيل الكلام في حدوث تمام تلك التأثيرات كالقول في كل من هذه الحوادث إن كان المقتضي لحدوثه حادثا لزم تسلسل العلل وإن كان قديما لزم حدوث الحوادث عن القديم وإن قيل المقتضي لحدوثه هو القديم بشرط الحادث قيل هذا مع قولكم إن القديم مؤثر تام باطل لأن المؤثر التام لا يحدث عنه شيء فلا يحدث عنه شيء من الشروط وأيضا فالعلة يجب أن تكون مقارنة لمعلولها عندكم لا متقدمة عليه ولا متأخرة عنه وإذا كان القديم مؤثرا في الثاني بشرط حدوث الأول كانت العلة متقدمة على المعلول وبهذا احتج الرازي فإنه قال كل حادث يجب أن تكون علته التامة موجودة عند وجوده وإن كان بعض أجزائها متقدما فإذا جعلتم كل حادث جزءا من المؤثر في الآخر أو شرطا فيه وجزء العلة وشرطها هو من تمام العلة التامة لزم وجود هذه الشروط الحادثة عند حدوث كل حادث فيلزم وجود الحوادث المتعاقبة معا وهذا ممتنع ففي الجملة قولهم إن العلة التامة يقارنها معلولها وإن الاول علة تامة يستلزم أن الأول لم يحدث عنه شيء ويستلزم أن يكون تمام علة كل حادث إنما يحصل عند حصوله فلا يكون تمام علته متقدما عليه وهذا يناقض قولهم إن الحادث الأول شرط في تمام علة الثاني فإن الأول متقدم علىالثاني والمتقدم على الشيء لا يكن جزءا من علته التامة

والإنسان وإن كان يقطع المسافة الثانية بشرط قطع الأولى فليس هو علة تامة للأولى ولا للآخرة والعلة التامة في حدوث قطع الثانية إنما وجد مع الثانية وهو الإرادة الجازمة والقدرة التامة التي لم تحصل إلا بعد قطع الأولى فإذا قالوا مثل هذا في الواجب لزم تجدد الإرادات له وهذا قول حذاقهم من الأولين والآخرين كالأساطين الذين كانوا قبل أرسطو طاليس أو كثير من الأساطين وكأبي البركات صاحب المعتبر وغيره فإنه قال القول بكون الرب تعالى مؤثرا في هذا العالم لا يمكن إلا مع هذا القول قال والتنزيه عن التنزيه واجب والإجلال عن هذا الإجلال متعين

وهذا القول يبطل حجتهم في قدم العالم ويبين أنه فاعل بمشيئته وقدرته أفعالا متعاقبة شيئا بعد شيء فهذا أحد الجوابين عن اعتراض الأرموي

الجواب الثاني أن قوله للرازي إما ان تعني بالسبب السبب التام وإما أن تعني به الفاعل فيقول له لا حاجة بي إلى هذا التقسيم فإن حجتي صحيحة مع الإعراض عن هذا التقسيم والناس منهم من يقول إن الحوادث لا توجد إلا بسبب تام يستلزم حدوثها كما هو قول أكثر الناس من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم وأكثر هؤلاء يقولون المرجح مع ذلك هو الفاعل القادر المختار الذي تستلزم قدرته وإرادته للحادث وجود ذلك الحادث فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذا مذهب أهل السنة المثبتين للقدر القائلين بحدوث العالم ومن هؤلاء من يقول بل نفس ذاته موجبة للمكنات بدون ذلك وهذا قول الفلاسفة الدهرية الإلهية وقولهم يستلزم ألا يحدث شيء من الحوادث وهذا الموجب الذي فرضوه لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان كالواحد الذي فرضوه أيضا وقالوا إنه لا يصدر عنه إلا واحد

ومن الناس من يقول بل يكفي في حدوثها الفاعل القادر الذي يمكنه الفعل والترك الذي يفعل على سبيل الاختيار وأنه بقدرته فقط أو بقدرته ومشيئته أو بقدرته وداعيه يرجح أحدهما بلا مرجح ومنهم من يفرق بين القادر والموجب فيقول المؤثر الموجب لا يؤثر إلا إذا كان تاما مستلزما لأثره وأما القادر فيمكنه التأثير على سبيل الجواز

والمقصود هنا أن ما ذكره الرازي يصح على جميع هذه التقديرات فبأي شيء فسر المفسر المؤثر أمكن صحة جوابه وذلك أن هذا الحادث المعين كالإنسان والفرس والثمرة وغيرها مما يحدث كل يوم لا بد له من مؤثر فذلك المؤثر إن كان حادثا كان الكلام في سبب حدوثه كالكلام في الأول فيلزم إثبات مؤثرات لا تتناهى كل منها مؤثر في الآخر وإن شئت قلت يلزم إثبات علل ومعلولات لا تتناهى دفعة واحدة وإن شئت قلت يلزم إثبات فاعلين مفعولين وإن شئت قلت يلزم إثبات خالقين مخلوقين لا يتناهون وإن شئت قلت يلزم إثبات أسباب ومسببات لا تتناهى فعلى كل تقدير إذا كان هذا حادثا لزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى دفعة واحدة وإنما قال دفعة واحدة لأن التقدير أن فاعل هذا المحدث محدث أيضا لا قديم فإن قيل فهل لا يجوز أن يكون فاعل هذا محدثا قبله وفاعل هذا محدثا قبله وهلم جرا

قيل لأن الفاعل يجب أن يكون موجودا عند وجود الفعل ويمتنع بعد عدم الفاعل وجود الفعل وكذلك العلة والسبب لا بد أن يكون موجودا عند وجود المعلول والسبب لا يكون موجودا قبله ولو قدر أن لكل فاعل فاعلا قبله محدثا كان هذا أيضا ممتنعا فهذا ممتنع سواء قيل أن الأسباب الفاعلة موجودة معا أو متعاقبة لكنه لما كان الدليل قد قام على أن العلة يجب وجودها عند وجود المعلول لا قبله ذكر هذا اللازم وإذا أردت أن تتبين امتناع ذلك على التقديرين قلت هذا يقتضي ثبوت علل ومعلولات محدثة لا نهاية لها وذلك ممتنع سواء فرضت مجتمعة أو متعاقبة لأن كل واحد منها ليس له وجود من نفسه فلا يستحق من نفسه إلا العدم فإذا كانت كلها محدثة مفعولة مصنوعة امتنع مع عدم الفاعل الصانع وجود شيء منها بمنزلة تعاقب المعدومات والممتنعات وهذا لكونه معلوما متفقا عليه مبسوطا في موضع آخر لم نبسطه هنا فإنه يعلم بضرورة العقل امتناع حوادث بلا محدث قديم لها

والمقصود أن الرازي يقول كل ما يحدث في العالم يمتنع أن يحدث بلا محدث ويمتنع أن يكون كل محدث أحدثه محدث آخر فوجب أن يكون المحدث لكل حادث هو فاعل قديم وهذا يناقض قولهم فإنه برهان باهر على أن المحدثات يمكن بل يجب صدورها عن القديم وإذا صدرت عن القديم لم يكن القديم علة تامة لشيء منها إذ لو كان كذلك لقارنها فبطل قولهم بالعلة التامة وهو المطلوب لكن ليس في هذا الجواب ما يبطل وجود حوادث لا أول لها بل يجوز أن يقال إحداث القديم الأول مشروط بالثاني ولكن على هذا التقديرين لا يلزم قدم شيء من العالم بل يجوز أن يكون كل منه حادثا وإن كان مشروطا بحادث قبله لا سيما إذا كان الحادث فعل الفاعل سبحانه وتعالى وهذا الذي ذكره الرازي وغيره إلزام لهم لكن ليس فيه حل الشبهة ولا بيان فسادها ونحن نبين فسادها على أصولهم وعلى أصول المسلمين وذلك أن الحجة مبناها على أنه لا بد أن يكون في الأزل مؤثر تام لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح أو التسلسل هكذا أطلق كثير منهم الحجة ولفظ التسلسل يراد به التسلسل المتنازع فيه ويراد به التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء بل والدور فإنه إذا لم يكن في الأزل مؤثر تام ثم صار مؤثرا تاما لزم حدوث تمام التأثير وهذا يتضمن حدوث الحادث بلا فاعل ولهذا عبر ابن سينا وغيره عن هذا بأن قالوا كل ما فعل بعد أن لم يكن فاعلا فلا بد له من حدوث أمر إما علم وإما قصد وإما إرادة وإما زوال مانع وإما أمر آخر وإلا فإذا قدر أنه كما كان وكان لا يحدث عنه شيء فالآن لا يحدث عنه شيء وقد حدثت الحوادث فهذا خلف

وإنما لزم هذا المحذور من فرض ذات معطلة عن الفعل وإذا كان هذا الفرض باطلا فنقيضه حق والتسلسل المذكور هنا هو التسلسل في الفاعل وهو في تمام كونه فاعلا ويلزم الدور أيضا لأنه لا يصير فاعلا إلا بعد أن يصير فاعلا وهذا كما يقال يمتنع أن يكون لفاعل العالم فاعل وللفاعل فاعل ويمتنع أن يكون هو فاعل نفسه لكن هنا الكلام فيما به يتم كونه فاعلا فإذا قيل لم يكن مؤثرا تاما ثم صار مؤثرا فلا بد من حدوث تمام التأثير أو الترجيح بلا مرجح فإنه إذا لم يكن المؤثر التام ثابتا في الازل فحدوث الحوادث عنه إن لم يتوقف على حدوث سبب لزم الترجيح بلا مرجح وإن توقف على حدوث سبب لزم الترجيح بلا مرجح وإن توقف على حدوث سبب فالقول فيه كالقول في الأول ويلزم التسلسل فمضمون الحجة إما أن يكون المؤثر التام ثابتا في الأزل وإما أن يلزم الترجيح بلا مرجح وإما أن يلزم التسلسل والدور الممتنع فلا بد من أحد هذه الأمور الثلاثة ولهذا كان كثير من أهل الكلام يختار الترجيح بلا مرجح بناء على أن القادر المريد يرجح بقدرته أو بالقدرة والداعي أو أن الإرادة نفسها ترجح أحد المثلين على الآخر وبهذا الجواب أجابهم جمهور المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافق هؤلاء من أصحاب الأئمة الأربعة وهو أحد جوابي الغزالي في تهافت الفلاسفة وبه أجاب الآمدي وغيره لكن جمهور العقلاء يقولون إن فساد هذا معلوم بالضرورة وكذلك بين الرازي على لسان الفلاسفة فساد هذا الجواب فيقال للفلاسفة هذه الحجة باطلة على أصلكم ومتناقضة وذلك أن غاية هذه الحجة أنه إذا لم يكن المؤثر تاما في الأزل لزم التسلسل والتسلسل جائز عندكم فإذا كان التسلسل جائزا فلم لا يجوز ألا يكون المؤثر في شيء معين تاما في الأزل ولكن تأثيره في كل حادث مشروط بحادث قبله لا إلى غاية وتكون جميع مفعولاته محدثه ومعلوم أن هذا مقتضي هذه الحجة والرازي وغيره غفلوا عن هذا الجواب لأنهم يعتقدون بطلان التسلسل فأخذوا في الحجة مسلما لما قالوا في آخر الحجة ويلزم التسلسل وهو محال وإنما هو محال مطلقا عند من يقول بامتناع حوادث لا أول لها من أهل الكلام وليس هو ممتنعا مطلقا عند الفلاسفة بل ولا عند أئمة أهل الملل كالسلف والأئمة الذين يقولون إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ويقولون إن الفعل من لوازم الحياه فإن كل حي فعال بل يصرح غير واحد منهم بأن كل حي متحرك كما صرح بهذه المعاني من صرح بها من أئمة السلف والسنة والحديث فلو أن هؤلاء المتكلمين قالوا للفلاسفة وهب أن هذا يستلزم التسلسل فالتسلسل جائز عندكم فالحجة باطلة على أصلكم لتبين فساد الحجة على أصل الفلاسفة لكن الفلاسفة تقول للمتكلمين التسلسل اللازم هو تسلسل في أصل التأثير وهو في تمام كون المؤثر مؤثرا وهذا متفق على امتناعه كالتسلسل في نفس المؤثر

وفصل الخطاب أن لفظ التأثير والفعل والإبداع ونحو ذلك يراد به في حق الله تأثيره في كل ما سواه وهو إبداعه لكل ما سواه ويراد به التأثير في شيء معين وهو خلقه لذلك المعين ويراد به مطلق التأثير وهو كونه مؤثرا في شيء ما فإذا أريد بالتأثير إبداعه لكل شيء في الأزل فهذا ممتنع بضرورة الحس والعقل فإن الحوادث مشهودة وأيضا فكون الشيء مبدعا أزليا ممتنع وإن أريد به التأثير في شيء معين فمعلوم أيضا أن مثل هذا التأثير حادث بحدوث أثره فإحداث الأثر المعين لا يكون إلا حادثا

وإن أريد بالتأثير مطلق الفعل وهو كونه فاعلا في الجملة فيقال للفلاسفة بحثكم إنما ينفي نقيض هذا وهو أنه يمتنع أن يفعل بعد أن لا يكون فاعلا لشيء لا يمتنع أن يكون فاعلا لشيء بعد أن كان فاعلا لشيء آخر ولا يوجب كونه في الأزل مؤثرا تاما بمعنى أنه مستلزم لآثاره في الأزل بل يوجب أنه لم يزل موصوفا بمطلق الفاعلية لا أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن وهذا إذا صح دل على أنه لم يزل محدثا لشيء بعد شيء لم يدل على أن مفعوله المعين قديم أزلي معه فإنهم قالوا فعله معه في الأزل لأنه مؤثر تام في الأزل والمؤثر التام يستلزم أثره فلا يتخلف عنه فعله لأنه لو لم يكن مؤثرا تاما ثم صار تاما فإن لم يحدث شيء لزم الترجيح بلا مرجح

وإن حدث شيء فذلك الحادث لا بد له من سبب حادث فيلزم التسلسل وقولهم لو لم يكن مؤثرا تاما ثم صار تاما إنما يستلزم التسلسل في الآثار لا في المؤثرات لأنه يمكن أن تقوم به إرادات وتصورات متعاقبة متسلسلة وهذا التسلسل جائز عندهم ثم عند اجتماع متأخرها مع متقدمها تحدث الآثار وهذا الجواب أجاب به طائفة منهم الأبهري وهو أجود من الجواب الذي سماه الرازي الباهر وأبو البركات وغيره يسلمون صحة هذا وابن سينا وأمثاله ليس لهم ما ينفون به هذا إلا ما ينفون به الصفات وقولهم في نفي الصفات في غاية الفساد وأيضا فيقال الذي دل على امتناع التسلسل في تمام التأثير هو التأثير المطلق وذلك لا يدل على قدم شيء من العالم وقد يقول الفلاسفة للمتكلمين فهذا لازم على أصلكم فإذا قالوا لهم ذلك أمكن أن يجاب عن هؤلاء المتكلمين بأن التسلسل إما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا بطل قولكم بقدم العالم ودوام حركة الفلك وإذا بطل قولكم بطلت الحجة الدالة عليه بطريق الأولى فإن القول الباطل لا يكون عليه دليل صحيح وإن كان التسلسل ممكنا بطلت هذه الحجة فثبت بطلان هذه الحجة على التقديرين فإن قيل أبو علي بن الهيثم وابن سينا والسهروردي وأمثالهم إنما ذكروا هذه الحجة على من يثبت ذاتا معطلة عن الفعل لم تفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب فقالوا نحن نعلم بضرورة العقل أن الحادث بدون سبب حادث محال فإذا قلت حدث بسبب حادث فالقول في الأول كالقول في الثاني فيلزم حدوث الحادث بلا سبب وأيضا فإن الحجة مبنية على امتناع التسلسل في المؤثرات وهذا متفق على امتناعه بين العقلاء قيل أولا الحجة المذكورة لا تتضمن لا هذا ولا هذا وإنما هي مبنية على امتناع التسلسل في الآثار الصادرة عن الواجب الوجود والفلاسفة تجوز هذا وحقيقة الأمر أن هؤلاء المتفلسفة أدعوا قدم الأفلاك وغيرها من الأمور المعينة ومنازعوهم قالوا بل نوع الفعل والمفعول ممتنع في الأزل فاحتج أولئك بامتناع أن يصير فاعلا من لم يكن فاعلا بدون سبب حادث والحدث لا يحدث إلا بفاعل ولا فاعل فكان تقدير الكلام لا يكون فاعلا حتى يصير فاعلا ولا يصير فاعلا حتى يصير فاعلا وهذا دور من وجه وتسلسل من وجه وهو تسلسل في نفس كونه فاعلا فهو من التسلسل في المؤثرات لكنه دور في شيء واحد وتسلسل في شيء واحد مثل أن يقال هذا لا يكون حتى يكون ولا يكون حتى يكون فإنه اعتبار نفسه شيء واحد وباعتبار تعدد الأكوان دور وتسلسل في أمور ثم إن جعل الكون الثالث هو الأول كان دورا وإن جعله غيره كان تسلسلا ولذلك إذا قيل لا يفعل حتى يفعل ولا يفعل حتى يفعل إن جعل الثالث هو الأول كان دورا وإن جعل غيره كان تسلسلا فهذا ممتنع بلا ريب وأما إذا قيل لا يفعل فعلا حتى يفعل فعلا آخر لم يكن نوع الفاعلية حادثا بل أعيانها وهذا فيه النزاع المشهور والفلاسفة تجوز مثل هذا وهو لا يستلزم قدم شيء من العالم ولا يلزم أن يكون تأثيره في شيء معين أزليا وقيل ثانيا أما كلام ابن سينا وأخوانه فباطل من وجهين أحدهما أن يقال له قولك يستلزم حدوث الحوادث بلا محدث لها فجواز حدوثها عن مؤثر قديم بلا سبب حادث إن كان باطلا فقولكم أبطل منه وإن كان قولكم ممكنا فهذا أولى بالإمكان فالقول الذي فررتم إليه شر من القول الذي فررتم منه إذ قولكم يتضمن أن المؤثر التام الأزلي صدرت عنه الحوادث بلا حدوث شيء فيه ولا منه مع كون المؤثر التام لا يتخلف عنه شيء من مفعولاته


الصفدية لابن تيمية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16