انتقل إلى المحتوى

الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب (1951)/الباب الثاني/ظهور الرهبانية وانتشارها

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل السابع

ظهور الرهبانية وانتشارها

أصلها: وعاش السيد نفسه عيشةَ فقرٍ وتيهٍ ومسكنةٍ. وعلَّم باقتراب النهاية. وأرسل تلاميذه ليكرزوا بملكوت الله. وأوصاهم ألا يحملوا شيئًا للطريق «لا عصًا ولا مزودًا ولا خبزًا ولا فضةً» وألا يكون للواحد منهم ثوبان1. وقام يعقوبُ بعده لا يأكلُ لحمًا ولا يَشرب خمرًا ولا يقتني سوى رداء واحد. وحضَّ الرسلُ المؤمنين على العفة والبتولية وأَجازوا الزواجَ لمن خشي العنت فقط2.

وجاء الاضطهاد في القرون الثلاثة الأولى، ففَرَّ عددٌ من المؤمنين إلى البراري والقفار، وعاشوا فيها عيشةَ البُؤْس والطهارة والتقوى3. واشتدت وطأةُ الحُكم وكثرت الضرائب وتثاقلت، فَتَاهَ الفلاحون وتركوا القرى والمزارع؛ محتجين على نظام المجتمع طالبين عيشةً جديدة، حتى إذا أَطَلَّ القرنُ الرابعُ وجاء قسطنطين وخلفاؤُهُ وتنفس المؤمنون تنفسة الراحة، لم يكد يغير ذلك شيئًا من طريقتهم الأولى؛ إذ أصبحوا يقولون بوجوب الانكفاء والابتعاد عن العالم والتأمل والتفكر الجدي بالقيم الروحية والبشرية.

أنطونيوس الكبير : (٢٥٠–٣٥٦) وأشهرُ الرهبان الأولين أنطونيوس الفلاح المصري الذي اعتكف على نفسه خمسة عشر عامًا، ثم انزوى في حصنٍ مهجورٍ عشرين عامًا، وذاع صيتُهُ في مصر فَالْتَفَّ حوله عددٌ من الزُّهَّد، وألحوا عليه بوجوب تنظيمهم، فأسس في السنة ٣٠٥ تعاونية رهبانية أجاز فيها ضروبًا من التَّنَسُّك وألوانًا متفاوتةً من شدة الوحدة والانفراد. هذا، وقد قام على حُدُود الصحراء في منطقة أسيوط عددٌ كبيرٌ من النساك الأنطونيانيين، جماعاتٍ وأفرادًا، وفي وادي النطرون في صحراء ليبية انعزل آخرون جماعاتٍ وأفرادًا أيضًا، ينسجون الكتَّان فيلبسونه ويبتعدون عن كل ما يَمُتُّ إلى الملذات بصلة، ويتعبدون منفردين في أيام الأسبوع مجتمعين في أيام السبوت والآحاد. واختلفت الطريقةُ الأنطونيانيةُ عن غيرها في أنها تركتْ للناسك الفرد الحريةَ التامة في انتقاء طريقته في التنسك.

باخوميوس القديس: (٢٩٠–٣٤٥) وتقبل النصرانية في هذا الوقت نفسه في طيبة مصر ناسكٌ مِن نُسَّاك سيرابيس، فقاده حُبُّهُ للتنسك والنساك أن يؤسس ما بين السنة ٣١٥ والسنة ٣٢٠ أُولى الرهبانيات المسيحية، وذلك في تبينية بالقرب من دندرة، واختلف أتباعُهُ عن أتباع أنطونيوس في أنهم عاشوا مجتمعين تحت سقفٍ واحدٍ وحول مائدة وكنيسة واحدة، وكان عليهم أن يقرءوا الكتاب ويصلُّوا ويعملوا عملًا مفيدًا، وازداد عددُهُم وكثرتْ مؤسساتُهُم، وانتشروا في صعيد مصر، وحذت مريمُ أخت باخوميوس حذو أخيها فأنشأتْ رهبانية للراهبات لم تختلف في نُظُمها عن رهبانية الرجال4.

باسيليوس الكبير: (٣٢٩–٣٧٩) وشاع أمرُ الترهُّب في فلسطين وسورية ولبنان، ثم في آسية الصغرى، وأشهر من قال به في هذه الأقطار وأشدهم تأثيرًا وأكثرهم أتباعًا؛ باسيليوس الكبير أسقف قيصرية قبدوقية، وكان قد بدأ الترهُّب في بلاده فشغف به وزار سورية ولبنان وفلسطين ومصر في السنة ٣٥٧، وتفقد شئون الرهبان والنساك فيها فأعجبه نظام باخوميوس، فَلَمَّا عاد إلى آسية الصغرى وكانت السنة ٣٦٠ عزم على التَّرَهُّب فاختار البونط وأنشأ فيه ديرًا بالقُرْب من قيصرية الجديدة، فوضع نظام الرهبانية الباسيلية وأَصَرَّ فيها على الطاعة زيادةً على الفقر والعفة، واشتهر أتباعُهُ بأعمالهم الزراعية وباهتمامهم بتربية اليتامى وتعليم الصبيان.

وكان باسيليوس الكبير قد تلقى الفلسفة والكتابة والخطابة على يد ليبانيوس الفيلسوف الأنطاكي وفي الإسكندرية وآثينة، وجمع إلى ذلك ذكاءَ الفؤاد وقوة الحجة وفصاحة الكلام، وكان قد رافق غريغوريوس الثاولوغوس في سني الدارسة وأَحَبَّهُ، فنشأتْ بينهما صداقةٌ قويةٌ، تعاونا فيها على خدمة الكنيسة، ووافق عصره أن كانت الأرثوذكسية مضطهدة فانتصر لها قولًا وكتابةً وألف رسائل عدة لا يزال معظمُها معروفًا، ولا نزال حتى يومنا هذا نُردد كلماته وأفكاره في خدمة القداس في آحاد الصوم الكبير ويومي الخميس والسبت العظيمين وفي بارامون الميلاد وبارامون الظهور الإلهي، وفي يوم عيده الخامس من كانون الثاني.

وقد كان لهذا كله أثرٌ كبيرٌ في نفوس المؤمنين فكَثُرَ الإقبالُ على الترهُّب، وشاعت طريقة باسيليوس في جميع الأقطار الشرقية، وفي اليونان والبلقان وروسية5.

مار مارون: (؟–٤١٠) وآثر المؤمنون في سورية ولبنان وفلسطين الترهب الفردي على الجمَّاعي، فتركوا المدن والقرى وانتثروا في السهول والوديان وعلى قِمم التلال يتأملون ويبتهلون ويعملون، وكان من أشهر هؤلاء في القرن الرابع مار مارون، ولا نعرف بالضبط سَنَةَ ولادته ولا المكان الذي وُلد فيه ولا محل تنسكه، ولكننا نعلم علم اليقين أنه عاش وعمل في سورية الشمالية في النصف الثاني من القرن الرابع. ويرى الأب لامنس اليسوعيُّ أن مار مارون عاش ومات في القورسيَّة، وقورس عاصمة منطقة القورسيَّة كانت تقع على مسيرة يومين من أنطاكية وعلى نحو سبعين كيلومترًا من حلب إلى شماليها الغربي، ويميل المطران بطرس ديب إلى القول بأن مار مارون تنسك على جبل في منطقة أبامية «قلعة المضيق» من سورية الثانية.

وأقدم ما نعود إليه في تاريخ مار مارون رسالة وجهها إليه يوحنا الذهبي الفم من منفاه في مدينة كوكيسوس في جبال طوروس في السنة ٤٠٤ أو ٤٠٥، وهي الرسالةُ السادسةُ والثلاثون من رسائل هذا القديس6، وفيها مودة ومحبة واستفسار عن الصحة والسلامة ورجاء إلى مار مارون أن يصلي من أجل الذهبي الفم، فلا شائبة إذن تشوبُ عقيدة مار مارون، وهو بالتالي أرثوذكسي كاثوليكي نيقاوي.

وأنفعُ المراجع الأولية ما جاء عن مار مارون في تاريخ التنسك والنساك لثيودوريطس أسقف قورس (٤٢٣–٤٥٨) الذي وُلد في أنطاكية قبل وفاة مار مارون بسبع عشرة سنة (٣٩٣) وعرف يعقوب الناسك أشهر تلاميذ مار مارون7.

ويُستدل من كلام ثيودوريطس وغيره أن مار مارون قصد في النصف الثاني من القرن الرابع إلى قمة أحد المرتفعات في القورسيَّة؛ يرتاد الخلوة والطمأنينة، فكرَّس هيكلًا وثنيًّا كان قد «خصص للأبالسة منذ القديم» واستعمله في عبادة الإله الواحد، وأنه كان يقضي أيامه ولياليه تحت قُبة السماء متعبدًا، وأنه كان يلجأُ إلى خيمةٍ صغيرةٍ اصطنعها من جُلُود الماعز؛ لِيتقيَ فيها شرَّ العواصف والبرد. ولم يكن مار مارون يكتفي في تَقَشُّفه «بالأصوام والصلوات المستطيلة، والليالي الساهرة في ذكر الله وإطالة الركوع والسجود، والتأملات في كمالات الله ومناجاته، وحبس الجسد في منطقة محدودة، وقهره باللباس الخشن والمسوح الشعرية، وتحريم الجلوس أحيانًا، ومنع النوم ليالي بكاملها والانصراف إلى وعظ الزوَّار وإرشادهم»؛ بل كان يَزيد عليها ما ابتكرته حكمته فيوازن بين النعمة والأعمال، ويؤكد ثيودوريطس أَنَّ الله منح مارون موهبةَ الشفاء وأن الناس تقاطرتْ إليه أفواجًا وأنه لم يكتف بشفاء أمراض الجسد بل كان يشفي بعضًا من البخل وآخرين من الغضب ويُعلِّم غيرهم العدلَ، وينهى عن استباحة المحرمات ويوقظ من غفلة التواني.

ومما يجدر ذِكْرُهُ لهذه المناسبة أن مار مارون اجتذب تلامذة عديدين رجالًا ونساءً، وأن هؤلاء التفُّوا حوله في صوامعَ قريبةٍ، يهتدون بإرشاداته في مجاهل حياتهم النسكية، فلَمَّا تَوَفَّاهُ الله في السنة ٤١٠ نشأت أخويةٌ مارونيةٌ تعمل بما علَّم به هذا الناسك المجاهد8.


  1. لوقا، ٩: ٣.
  2. كورونثوس الأولى، ٧: ٨-٩.
  3. Sozom. I, 12, 11.
  4. Winlok, H. E., The Monasteries of the Wadi’n Natrun, 1932; Lefort,
    L. Th., La Règle de St. Pachome, (Museon, XL, 1927).
  5. Clarke, W. K. L. St. Basil the Great; Murphy, Sister, St. Basil and Monasticism.
  6. Chrysostom, John, Epistolae, (Patrologia Graeca, LII), (Paris, 1862).
    Jeannin, M. A., Oeuvres Complètes de St. Jean Chrysostome, (Paris, 1887).
  7. Theodoret, Historia Ecclesiastica, (Paris, 1911).
  8. وأفضل ما يُرجع إليه من المؤلَّفات الحديثة في مار مارون: بحث الأب لامنس في انتشار الموارنة في لبنان في الجزء الثاني من كتاب تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من الآثار (بيروت، ١٩٠٣)، ولباب البراهين للمطران يوسف دريان (القاهرة، ١٩١٢)، والكنيسة المارونية للمطران بطرس ديب (باريس، ١٩٣٢)، ومحاضرة الأستاذ فؤاد أفرام البستاني عن مار مارون في مجلة الندوة، ج٢، عدد ٥ و٦، حزيران ١٩٤٨.