الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم/الجزء الأول
► الغلاف | الجزء الأول | الجزء الثاني ◄ |
الحمد لله الذي أرسل محمدا ﷺ بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، ومعلما للأميين بلسان عربي مبين، وقال وهو أصدق القائلين: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أنه كما وصف ذاته الكريمة في كتابه المنير: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. وأنه منزه عن إجبار العباد، وأنه لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، وأنه لا يظلم العبيد، وأنه لا يخلف الوعد ولا الوعيد، وأنه المختص بصفات الكمال ونعوت الجلال، وأنه منزه عن الأشكال والأمثال.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب الكريم، المنعوت بالخلق العظيم، الموعود يوم القيامة مقاما محمودا، وحوضا مورودا، وشرفا مشهودا، وأصلي وأسلم صلاة دائمة النماء، تملأ الأرض والسماء وما بينهما، عليه وعلى آله الكرماء، الثقل المذكور مع القرآن، أئمة الإسلام وأركان الإيمان المتوجين بتاج: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} الشاهد بمناقبهم كتاب ذخائر العقبى، وعلى أصحابه حماة الإسلام، وليوث الصدام، وهداة الأنام، وأهل المشاهد العظام، أهل مكة والهجرتين، وطيبة والعقبتين، الذين أغناهم نص القرآن على فضلهم عن أخبار الآحاد والقياس، حيث قال تعالى [في خطابهم]: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}.
أما بعد، فإن الله لما اختار محمدا ﷺ رسولا أمينا، ومعلما مبينا، واختار له دينا قويما، وهداه صراطا مستقيما، ارتضاه لجميع البشر إماما، وجعله للشرائع النبوية ختاما، وأقسم في كتابه الكريم تبجيلا [له] وتعظيما، فقال عز قائلا كريما: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} ثم إنه عز وجل أثار أشواق العارفين إلى الاقتداء برسوله بكثرة الثناء عليهم في تنزيله، مثل قوله في التعظيم لهم والتبجيل: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل}. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، الشاهدة لمتبعيه بالطريقة القويمة.
فلما وعت هذه الآيات آذان العارفين، وتأملتها قلوب الصادقين، حرصوا على الاقتداء به في أفعاله، والاستماع منه في أقواله، فكانوا له أتبع من الظلم، وأطوع من النعل؛ فعلمهم أركان الإسلام وشرائعه وفرائضه ونوافله، وكان بهم رءوفا رحيما، وعلى تعليمهم حريصا أمينا، كما وصفه رب العالمين، حيث قال في كتابه المبين: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
فلم يزل عليه الصلاة والسلام يرشدهم إلى أفضل الأعمال، ويهديهم إلى أحسن الأخلاق، ويلزمهم ما فيه النجاة والفوز في الآخرة، والسلامة والغبطة في الدنيا، من لزوم الواجب [والمسنون، ومجانبة المكروه، وترك الفضول، فلم يترك خيرا قط إلا أمرهم به] ففعلوه، ودعاهم إليه فأجابوه، حتى لم يكن شيء في زمانه من أعمال البر متروكا، ولا منهجا من مناهج الخير إلا مسلوكا. فلما تم ما أراده الله تعالى برسوله من هداية أهل الإسلام، وبلغ إلى الأنام جميع ما عنده من الأحكام؛ من العقائد والآداب والحلال والحرام، أنزل الله في ذلك تنصيصا وتبيينا: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. فكمل الدين في ذلك الزمان، ووضحت الحجة والبرهان، ودحضت وساوس المشبهين، وانحسمت مواد المبطلين، إذ لا حجة على الله بعد الرسل لأحد من العالمين، بنص كتابه المبين.
هذا وإني لما رتبت رتوب الكعب في مجالسة العلماء السادة، وثبت ثبوت القطب في مجالس العلم والإفادة، ولم أزل منذ عرفت شمالي من يميني مشمرا في طلب معرفة ديني، أنتقل في رتبة الشيوخ من قدوة إلى قدوة، وأتوقل في مدارس العلم من ربوة إلى ربوة، ولم يزل يراعي بلطائف الفوائد نواطف، وبناني للطف المعارف قواطف: لم يكن حتما أن يرجع طرف نظري عن المعارف خاسئا حسيرا، ولم يجب قطعا أن يعود جناح طلبي للفوائد مهيضا كسيرا، ولم يكن بدعا أن تنسمت من أعطارها روائح، وتبصرت من أنوارها لوائح، أشربت قلبي محبة الحديث النبوي والعلم المصطفوي، وكنت ممن يرى الحظ الأسنى في خدمة علومه، وتمهيد ما تعفى من رسومه. ورأيت أولى ما اشتغلت به: ما تعين فرض كفايته بعد الارتفاع، وتضيق وقت القيام به بعد الاتساع، من الذب عنه، والمحاماة عليه، والحث على اتباعه والدعاء إليه. فإنه علم الصدر الأول، والذي عليه بعد القرآن المعول.
وهو لعلوم الإسلام أصل وأساس.
وهو المفسر للقرآن بشهادة: {لتبين للناس}.
وهو الذي قال الله فيه تصريحا: {إن هو إلا وحي يوحى}.
وهو الذي وصفه الصادق الأمين، بمماثلة القرآن المبين؛ حيث قال في التوبيخ لكل مترف إمعة: «إني أوتيت القرآن ومثله معه».
وهو العلم الذي لم يشارك القرآن سواه في الإجماع على كفر جاحد المعلوم من لفظه ومعناه.
وهو العلم الذي إذا تجاثت الخصوم للركب وتفاوتت العلوم في الرتب، أصمت مرنان 1 نوافله كل مناضل، وأصمت برهان معارفه كل فاضل.
وهو العلم الذي ورثه المصطفى المختار، والصحابة الأبرار، والتابعون الأخيار.
وهو العلم الفائضة بركاته على جميع أقاليم الإسلام، الباقية حسناته في أمة الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهو العلم الذي صانه الله عن عبارات الفلاسفة، وتقيدت عن سلوك مناهجه فهي راسفة في [الأغلال] آسفة.
وهو العلم الذي جلى للإسلام به في ميدان الحجة وصلى، وتجمل بديباج ملابسه من صام لله وصلى.
وهو العلم الفاصل حين تلجلج الألسنة بالخطاب، الشاهد له بالفضل رجوع عمر بن الخطاب.
وهو العلم الذي تفجرت منه بحار العلوم الفقهية، والأحكام الشرعية، وتزينت بجواهره التفاسير القرآنية، والشواهد النحوية، والدقائق الوعظية.
وهو العلم الذي يميز الله به الخبيث من الطيب، ولا يرغم إلا المبتدع المتريب.
وهو العلم الذي يسلك بصاحبه نهج السلامة، ويوصله إلى دار الكرامة، والسارب في رياض حدائقه، الشارب من حياض حقائقه، عالم بالسنة، ولابس من كل خوف جنة، وسالك منهاج الحق إلى الجنة.
وهو العلم الذي يرجع إليه الأصولي وإن برز في علمه، والفقيه وإن برز في ذكائه وفهمه، والنحوي وإن برز في تجويد لفظه، واللغوي وإن اتسع في حفظه، والواعظ المبصر والصوفي والمفسر، كلهم إليه راجعون، ولرياضه منتجعون.
ولنورد نبذة لطيفة ونكتة شريفة مما قيل فيه من أشعار الحكمة وكلمات أحبار هذه الأمة، ارتياحا إلى ذكر ممادحه والتذاذا بسطر فضائله.
فمن ذلك ما قال الحافظ الصوري:
قل لمن عاند الحديث وأضحى ** عائبا أهله ومن يدعيه
أبعلم تقول هذا أبن لي ** أم بجهل فالجهل خلق السفيه
أيعاب الذين هم حفظوا الدين ** من الترهات والتمويه
وإلى قولهم وما قد رووه ** راجع كل عالم وفقيه 2
ومن ذلك قول الحافظ الحميدي:
كتاب الله عز وجل قولي ** وما صحت به الآثار ديني
وما اتفق الجميع عليه بدءا ** وعودا فهو من حق يقين
فدع ما صد عن هذا وخذها ** تكن منها على عين اليقين
ومن ذلك قول أبي محمد هبة الله بن الحسن الشيرازي:
عليك بأصحاب الحديث فإنهم ** على منهج ما زال بالدين معلما
وما النور إلا في الحديث وأهله ** إذا ما دجى الليل البهيم وأظلما
فأعلى البرايا من إلى السنن اعتزى ** وأغوى البرايا من إلى البدع انتمى
ومن يترك الآثار ظل بسعيه 3 ** وهل يترك الآثار من كان مسلما
ومن ذلك قول العلامة مجد الدين محمد بن أحمد بن [الظهير] الإربلي:
إذا شئت أن تتوخى الهدى ** وأن تأتي الحق من بابه
فدع كل قول ومن قاله ** لقول النبي وأصحابه
فلم تنج من محادثات الأمور ** بغير الحديث وأربابه
ومن ذلك قول الحافظ أبي محمد علي بن أحمد الفارسي:
عليك كتاب الله لا تتعده ** ففيه هدى للزيغ ماح وقامع
وما سنه النبي محمد ** فقد خاب عاصيه وفاز المتابع
فخير الأمور السالفات على الهدى ** وشر الأمور المحدثات البدائع
ومن ذلك قول الحافظ أبي عبد الله الذهبي:
العلم قال الله قال رسوله ** إن صح والإجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالة ** بين النبي وبين رأي فقيه
ومن ذلك قول بعضهم: 4
دين النبي محمد آثار ** نعم المطية للفتى الأخبار
لا ترغبن عن الحديث وأهله ** فالرأي ليل والحديث نهار
ومما قلت في ذلك:
العلم ميراث النبي كذا أتى ** في النص، والعلماء هم وراثه
فإذا أردت حقيقة تدري بمن ** وراثه فكرت ما ميراثه
ما ورث المختار غير حديثه ** فينا، وذاك متاعه وأثاثه
فلنا الحديث وراثة نبوية ** ولكل محدِث بدعة إحداثه
ومما قلت في الرد على من كره تمسكي بالسنة:
يا لائمي كف عن لومي ومعتقدي ** قول النبي فهمي في تعرفه
فما قفوت سوى آثار منهجه ** ولا تلوث سوى آيات مصحفه
ففي المجازات أمضي نحو معلمه ** وفي المحاراة أبقى وسط موقفه
وإذا سعيت فسعي نحو كعبته ** وإن وقفت ففي وادي معرفه
وحق حبي له أني به كلف ** يغنيني الطبع فيه عن تكلفه
هذا الذي كثر العذال فيه فما ** تعجب القلب إلا من معنقه
يستأهل القلب ما يلقاه إن بقيت ** له علاقة توليع بمألفه
ومما قلت في ذلك القصيدة الطويلة التي أولها:
ظلت عواذله تروح وتغتدي ** وتعيد تعنيف المحب وتبتدي
يا صاحبي على الصبابة والهوى ** من منكما في حب أحمد مسعدي
حسبي بأني قد شهرت بحبه ** شرفا ببردته الجميلة أرتدي
لي باسمه وبحبه وبقربه ** ذمم عظام قد شددت بها يدي
ومحمد أوفى الخلائق ذمة ** فليبلغن بي الأماني في غد
يا قلب لا تستبعدن لقاءه ** ثق باللقاء، وبالوفاء فكأن قد
يا حبذا يوم القيامة شهرتي ** بين الخلائق في المقام الأحمد
بمحبتي سنن الشفيع وأنني ** فيها عصيت معنفي ومفندي
وتركت فيها جيرتي وعشيرتي ** ومكان أترابي وموضع مولدي
فلأشكون عليه شكوى موجع ** متظلم متجرم مستنجد
وأقول: أنجد صادقا في حبه ** من ينجد المظلوم إن لم تنجد
إني أحب محمدا فوق الورى ** وبه كما فعل الأوائل أقتدي
فقد انقضت خير القرون ولم يكن ** فيهم بغير محمد من يهتدي 5
هذا وإني لما تمسكت بعروة السنن الوثيقة وسلكت سنن الطريقة العتيقة، تناولتني الألسنة البذية من أعداء السنة النبوية ونسبوني إلى دعوى في العلم كبيرة وأمور غير ذلك كثيرة؛ حرصا على ألا يتبع ما دعوت إليه من العمل بسنة سيد المرسلين والخلفاء الراشدين والسلف الصالحين. فصبرت على الأذى، وعلمت أن الناس ما زالوا هكذا.
ما سلم الله من بريته ** ولا نبي الهدى، فكيف أنا! 6
إلا أنه لما اتسع الكلام وطال، واتسع مجال القيل والقال، جاءتني رسالة محبرة، واعتراضات محررة، مشتملة على الزواجر والعظات، والتنبيه بالكلم الموقظات، زعم صاحبها أنه من الناصحين المحبين، وأنه أدى به ما عليه لي من حق الأقربين، وأهلا بمن أهدى إلي النصيحة، فقد جاء الترغيب إلى ذلك في الأحاديث الصحيحة، وليس بضائر إن شاء الله ما يعرض في ذلك من الجدال، مهما وزن بميزان الاعتدال، لأنه حينئذ يدخل في السنن، ويتناوله أمر: {وجادلهم بالتي هي أحسن} وقد أجاد من قال وأحسن:
وجدال أهل العلم ليس بضائر ** ما بين غالبهم إلى المغلوب
بيد أنها لم تضع تاج المرح والاختيال، وتستعمل ميزان العدل في الاستدلال، بل خلطها من سيما المختالين بشوب، ومالت من التعنت في الحجاج إلى صوب، فجاءتني تمشي الخطراء، وتميس في محافل الخطراء، مفضوضة لم تختم، مشهورة لم تكتم. متبرجة قد كشفت حجابها، وطرحت نقابها، وطافت على الأكابر، وطاشت إلى الأصاغر، حتى مضت أيدي الابتذال نضارتها، وافتضت أفكار الرجال بكارتها، وإن خير النصائح الخفي، وخير النصاح الحفي، وخير الكتاب المختوم، وخير العتاب المكتوم.
ثم إني تأملت فصولها وتدبرت أصولها، فوجدتها مشتملة على القدح تارة فيما نقل عني من الكلام، وتارة في كثير من قواعد العلماء الأعلام، وتارة في سنة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام. فرأيت ما يخصني غير جدير بصرف العناية إليه، ولا كبير يستحق الإقبال بالجواب عليه. وأما ما يختص بالسنن النبوية والقواعد الإسلامية، مثل قدحه في صحة الرجوع إلى الآيات القرآنية والأخبار النبوية والآثار الصحابية ونحو ذلك من القواعد الأصولية، فإني رأيت القدح فيها ليس أمرا هينا، والذب عنها لازما متعينا، فتعرضت لجواب ما اشتملت عليه من نقض القواعد الكبار، التي قال بها الجلة من العلماء الأخيار، وجعلت الجواب متوسطا بين الإطناب والاختصار، وصدني عن التوسيع والتكثير، خشية التنفير والتأخير:
أما التنفير: فلأن التوسيع [يمل] الكاتب والمكتوب إليه، والمتطلع إلى رؤية الجواب والوقوف عليه، مع أن القليل يكفي المنصف، والكثير لا يكفي المتعسف، وضوء البرق المنير، يدل على النوء الغزير.
وأما التأخير: فلأن التوسيع يحتاج إلى تمهيد عرائس الأفكار، حتى تستكمل الزينة، ومطالعة نفائس الأسفار، الحافلة بالآثار المتينة، والأنظار الرصينة.
فهذا البحر وهو الزخار، يحتاج من السحب إلى مدد 7 والبدر وهو النوار، يفتقر من الشمس إلى يد. ومن أين يتأتى ذلك أو يتهيأ لي، وأنا في بواد خوالي، وجبال عوالي!
فحينا بطود تمطر السحب دونه ** أشم منيف بالغمام مؤزر
وحينا بشعب بطن واد كأنه ** حشا قلم تمسي به الطير تصفر
إذا التفت الساري به نحو قلة ** توهمها من طولها تتأخر
أجاور في أرجائه البوم والقطا ** فجيرتها للمرء أولي وأجدر
هنالك يصفو لي من العيش ورده ** وإلا فورد العيش رنق مكدر
فإن يبست ثم المراعي وأجدبت ** فروض العلا والعلم والدين أخضر
ولا عار أن ينجو كريم بنفسه ** ولكن عارا عجزه حين ينصر
فقد هاجر المختار قبلي وصحبه ** وفر إلى أرض النجاشي جعفر
ولما أنشأت هذا الجواب من هذه الجبال العالية، والبوادي الخالية، قصر باعي، وضاقت رباعي، فتمصصت من بلل ما عندي برضا، وما أكفى ذلك وأرضى، إذا كان ذلك طيبا محضا.
سامحا بالقليل من غير عذر ** ربما أقنع القليل وأرضى
ولكن هيهات لذلك! لا محيص لي عن أوفر نصيب من طف الصاع، ولا بد لي من الانخداع بداعية الطباع. وقد قصدت وجه الله تعالى في الذب عن السنن النبوية والقواعد الدينية، وليس يضرني وقوف أهل المعرفة على مالي من التقصير، ومعرفتهم أن باعي في هذا الميدان قصير، لاعترافي بأني لست من نقاد هذا الشأن، لا من فرسان هذا الميدان. لكني لم أجد من الأصحاب من تصدى لجواب هذه الرسالة، لما يجر إليه [ذلك] من سوء القالة، فتصديت لذلك من غير إحسان ولا إعجاب، ومن عدم الماء تيمم بالتراب، عالما بأني وإن كنت باري قوسها ونبالها، وعنترة فوارسها ونزالها، فلن يخلو كلامي من الخطأ عند الانتقاد، ولا يصفو جوابي من الكدر عند النقاد.
فالكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو: كلام الله الحكيم، وكلام من شهد بعصمته القرآن الكريم. وكل كلام بعد ذلك فله خطأ وصواب، وقشر ولباب. ولو أن العلماء رضي الله عنهم تركوا الذب عن الحق خوفا من كلام الخلق: لكانوا قد أضاعوا كثيرا وخافوا حقيرا.
وأكثر ما يخاف الخائض في ذلك أن يكل حسامه في معترك المناظرة وينبو، ويعثر جواده في مجال المحاجة ويكبو، فالأمر في ذلك قريب: إن أخطأ فمن الذي عصم، وإن خطئ فمن الذي ما وصم؟
والقاصد لوجه الله تعالى لا يخاف أن ينقد عليه خلل في كلامه، ولا يهاب أن يدل على بطلان قوله، بل يحب الحق من حيث أتاه، ويقبل الهدى ممن اهداه. بل المخاشنة بالحق والنصيحة، أحب إليه من المداهنة على الأقوال القبيحة، وصديقك من [صدقك]، لا من صدقك.
وفي نوابغ الحكمة: عليك بمن ينذر الإبسال والإبلاس، وإياك من يقول: لا باس ولا تاس.
ثم إن الجواب لما تم بحمد الله تعالى اشتمل على علوم كثيرة، وفوائد غزيرة، أثرية ونظرية، ودقيقة وجليلة، وجدلية وأدبية، وكلها رياض للعارفين نضرة، وفراديس عند المحققين مزهرة، لكني وضعته وأنا قوي النشاط، متوفر الداعي، ثائر الغيرة، فاستكثرت من الاحتجاج رغبة في قطع اللجاج.
فربما كانت المسألة في كتب العلماء رضي الله عنهم مذكورة غير محتج عليها بأكثر من حجة واحدة، فأحتج عليها بعشر حجج، وتارة بعشرين حجة، وتارة بثلاثين حجة، وكذلك قد يتعنت صاحب الرسالة، ويظهر العجب بما قاله، فأحب أن يظهر له ضعف اختياره، وعظيم اغتراره، فأستكثر من إيراد الإشكالات عليه، حتى يتضح له خروج الحق من يديه، فربما أوردت عليه في بعض المسائل أكثر من مئتي إشكال، على مقدار نصف ورقة من كتابه. ثم إني تأملت الكتاب بعد ذلك فوجدت ما فيه من التطويل والتدقيق يصرف الأكثرين عن التأمل له والتحقيق، لا سيما والباعث لداعية النشاط إلى معرفة مثل هذا إنما هو وجود من يعارض أهل السنة، ويورد على ضعفائهم الشبه الدقيقة، ومن عوفي من هذا ربما نفر عن مطالعة هذه الكتب نفرة الصحيح عن شرب الأدوية النافعة، وألم المكاوي الموجعة. فاختصرت منه هذا الكتاب، على أني لم أطنب في الأصل كل الإطناب لما قدمت من العذر عن ذلك، وتوعر تلك المسالك.
وقد اقتصرت في هذا المختصر على نصرة السنن النبوية، والذب عنها وعن أهلها من حملة الأخبار المصطفوية، سالكا من ذلك في محجة جلية، غير عويصة ولا خفية، وتركت التعمق في الدقائق، والتقحم في المضايق، رجاء أن ينتفع بهذا المختصر المبتدي والمنتهي، والأثري والنظري، وسميته: «الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ﷺ»، وجعلنا من جيران حماه المحرم.
وهذا حين الشروع في الجواب، والله الهادي إلى الصواب:
قال: معرفة الأخبار مبنية على معرفة عدالة الرواة [ومعرفة عدالتهم] في هذا الزمان مع كثرة الوسائط كالمعتذرة، ذكر هذا كثير من العلماء، منهم الغزالي والرازي. وإذا كان ذلك في زمانهم فهو في زماننا أصعب، وعلى طالبه أتعب، لازدياد الوسائط كثرة والعلوم دروسا وفترة. فإن قيل: نحن نقول بما قال الغزالي: إنا نكتفي بتعديل أئمة الحديث: كأحمد بن محمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ومحمد بن إسماعيل البخاري، فإن هؤلاء قد تكلموا في الرواة، وبينوا العدل ممن سواه. قلنا: هذا لا يصح لوجوه؛ أحدها: أنا إذا قبلنا تعديلهم فيمن كان متقدما، فما يكون فيمن بعدهم من الرواة؟ فإن اتصال رواية الحديث من وقتنا إلى مصنفي الكتب الصحاح كالبخاري ومسلم على وجه الصحة متعسر لأجل العدالة.
ثم خرج المعترض إلى ذكر شيء يتعلق بمسألة [المتأولين] فتركته، لأن الكلام عليها يأتي مستقلا كما فعل المعترض، فإنه أفردها.
أقول: الجواب على هذا المعترض يتبين بذكر وجوه:
الوجه الأول: طلب الحديث ومعرفته شرط في الاجتهاد، والاجتهاد فرض واجب على الأمة بلا خلاف، لكنه من فروض الكفايات التي تسقط بوجود من هو قائم بها وتتعين عند عدم ذلك. فإذا ثبت أنه فرض لزم أنه من الدين، وإذا لزم أنه من الدين لزم أنه غير متعسر ولا متعذر لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقول رسول الله ﷺ: «بعثت بالحنيفية السمحة».
والمعترض مقر بأن الله يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، ومقر أن الله يريد منا الاجتهاد ومعرفة الحديث الصحيح. فقوله إن معرفة الحديث متعسر يستلزم أن الله تعالى يريد منا المتعسر، بل لم يقنع حتى قال: إنه متعسر أو متعذر، واستلزم أن الله تعالى يريد منا المتعسر أو المتعذر.
فإن قال: إنما أردت بذلك مشقة، والمشقة تلازم التكاليف غالبا.
قلنا: مجرد المشقة لا يسمى عسرا في العرف العربي، فإن المشقة ملازمة لأكثر الأعمال الدنيوية والآخروية، وقد يشق على الإنسان قيامه من مجلسه إلى بيته، ونحو ذلك.
والعسر في عرف اللسان العربي مستعمل في الأمور العظيمة لا في كل أمر فيه مشقة، فإذا قيل: فلان في عسر، أفاد أنه في شدة عظيمة من مرض أو خوف أو فقر شديد أو غير ذلك، وقد يطلق على ما هو دون ذلك مع القرينة، فأما إذا تجرد الكلام عن القرينة، وقيل: إن فلانا في عسر، لم يسبق إلى الفهم أن معنى ذلك: أنه في قراءة في العلم، وتعليق للفوائد، ولو كان هذا عسرا لكان الجهاد [عسرا] والحج عسرا، والورع الشحيح عسرين اثنين، وعبادة الله كأنك تراه أعسر وأعسر، ولكانت الشريعة كلها أو أكثرها تشديدا وتعسيرا وتحريجا وتغليظا. وما بهذا نطق القرآن، ولا به جاء صاحب بيعة الرضوان. بل نفى الله الحرج عن الدين، ووصف الشريعة بالسهولة سيد المرسلين، وإنما الحرج في صدور المتعنتين.
فإن قيل: فإذا كانت الشريعة سهلة فما معنى: «حفت الجنة بالمكاره»، ولأي شيء مدح الله الصابرين، ووصى عباده بالصبر؟
قلنا: لأن النفوس الخبيثة تستعسر السهل من الخير لنفرتها عنه وعدم رياضتها عليه، لا لصعوبته في نفسه، ولهذا نجد أهل الصلاح يستسهلون كثيرا مما يستعسره غيرهم، فلو كان العسر في نفس الأمر المشروع لكان عسيرا على كل واحد، وفي كل حال.
وقد نص الله تعالى على هذا المعنى فقال في الصلاة: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} فدل على أن العسر والحرج لا يكون في أفعال الخير، وإنما يكون في النفوس السوء، قال الله تعالى: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} فمدار المشقة التي في الطاعات على الدواعي والصوارف، ولهذا ترى قاطع الصلاة يقوم نشيطا إلى أعمال كثيرة أشق من الصلاة.
وقد يكون العسر الموهوم في أعمال الخير من قساوة القلب، وكثرة الذنوب، وعدم الرياضة وملازمة البطالة، ألا ترى إلى ما في قيام الليل وإحيائه بالعبادة من المشقة على النفوس، وهو يسهل عليها سهره في كثير من الأحوال في العرسات والأسمار، والسروات في الأسفار.
فإذا عرفت هذا فاعلم أن من الناس من يحصل له من شدة الرغبة في العلم وسائر الفضائل ما يسهل عليه عسيرها، ويقرب إليه بعيدها، فلا معنى لتعسير الأمر الشرعي في نفسه، لأن ذلك يخالف كلام الله تعالى وكلام رسوله ﷺ.
واعلم أن من العقوق، لوم الخلي للمشوق، وفي هذا يقول أبو الطيب:
لا تعذل المشتاق في أشواقه ** حتى يكون حشاك في أحشائه
أما علمت أن حب المعالي، يرخص الغوالي، ويقوي ضعف الصدور على الصبر للعوالي. وربما بذلت الأرواح، لما هو أنفس منها من الأرباح. قال ابن الفارض:
بذلت له روحي لراحة قربه ** وغير عجيب بذلي الغال بالغالي
وفي المقالات للزمحشري: «عزة النفس وبعد الهمة، الموت الأحمر والخطوب المدلهمة. ولكن من عرف منهل الذل فعافه؛ استعذب نقيع العز وزعافه». وقد أجاد وأبدع من قال في هذا المعنى:
صحب الله راكبين إلى العز ** طريقا من المخافة وعرا
شربوا الموت في الكريهة حلوا ** خوف أن يشربوا من الضيم مرا
يا هذا! إن الدواعي تحرك القوى، وإن القلوب ليست بسوى. إن الإبل إذا كلت قواها، ونفخت في براها، أطربها السائق بحداها، فنفحت في سراها، فعللوها بحديث حاجر، ولتصنع الفلاة ما بدا لها. هذا وهي غليظة الطباع بهيمية، فكيف بأهل القلوب الروحانية؟ وأنشد الحجة في هذا المعنى في كتابه سر العالمين وكشف ما في الدارين:
انظر إلى الإبل اللوا ** تي هن أغلظ منك طبعا
تصغي إلى قول الحدا ** ة فتقطع الفلوات قطعا
فإياك والاستبعاد لكل ما عز عليك، والاستنكار لوجود ما خرج من يديك. طالب المعالي لا يعنو كمدا، ولا يهدأ أبدا. وكلما قيل له قف تسترح جزت المدى، قال: وهل نلت المدى؟
الوجه الثاني: إفراط المعترض على أهل السنة وطلبة الحديث في تعسير معرفته حتى قال: إن الأمر متعسر أو متعذر، وذلك يقتضي أنه شاك في تعذره غير قاطع بدخوله في حيز الممكنات. وقد بينت أن الاجتهاد من الفروض الدينية، والشعائر الإسلامية، وأنه رأس معارفه العزيزة، وعمود شرائطه الأكيدة، فيجب القطع بأنه غير متعذر؛ لأن المتعذر غير مطاق، والاجتهاد وطلب الحديث مشروع واجب، فلو أوجبه الله وهو متعذر لكان الله قد كلفنا ما لا نطيقه، وهذا يستلزم القول بتكليف ما لا يطاق، وهو مردود عند جماهير أهل المذاهب كلهم، وأما المعتزلة والزيدية فعندهم أن تجويزه كفر وخروج من الملة، إلا القليل منهم، فيقولون: تجويزه بدعة محرمة ومعصية ظاهرة، لا سيما ومذهب الزيدية أنه لا يجوز خلو الزمان عن عالم مجتهد جامع لشرائط الإمامة، فعلى أي المذاهب بنيت هذه الرسالة، وعلي أي الأسباب ركبت هذه الجهالة؟
الوجه الثالث: أن كلام هذا المعترض مستلزم لخلو الزمان من أهل المعرفة بالحديث ومن أهل الاجتهاد في العلم، بل قد صرح بذلك في غير موضع، وقد غفل عما يلزم في مذهبه من هذا، فإنه يلزم منه تعين وجوب طلب الاجتهاد وطلب علم الحديث على كل مكلف؛ لأن هذا حكم فرض الكفاية إذا لم يقم به البعض تعين الطلب على الجميع، فكان الواجب عليه على مقتضى تعسيره أن يقول: إن الزمان خال من المجتهدين، وأنه يتعين علينا القيام بما يجب من فريضته، ونحو ذلك من كلام العلماء العاملين.
وأما أنه يقر بخلو الزمان من القائم بهذه الفريضة، وينهى من اشتغل ببعض شرائطها: فهذا هو النهي عن المعروف، والوقوع في المحظور، نعوذ بالله منه.
وفي هذا الوجه والذي قبله خلاف، ومباحث لطيفة تركتها اختصارا، إذ المقصود إلزام الخصم ما يلتزمه على مقتضى مذهبه، وسوف تأتي الإشارة إلى عمدتها في (الوجه العاشر)، فخذه من هناك.
الوجه الرابع: أنه لا فرق فيما ذكره بين علم الحديث وسائر علوم الإسلام، ومصنفات العلماء الأعلام، بل كتب الحديث مختصة بصرف العناية من العلماء إلى سماعها وتصحيحها، وكتابة خطوطهم عليها شاهدة لمن قرأها بالسماع، ولا يوجد في شيء من كتب الإسلام مثل ما يوجد فيها من العناية العظيمة في هذا الشأن، حتى صار كأنه خصيصة لها دون غيرها، وذلك من العلماء رضي الله عنهم تعظيم لشعارها، ورفع لمنارها، وبيان لكونها أساس العلوم الإسلامية، وركن الفنون الدينية، فلا يخلو المعترض:
إما أن يخصها بتحريم إسناد ما فيها إلى أربابها دون سائر المصنفات؛ فهذا عكس المعقول، لأنها أقوى العلوم أثرا في هذا الشأن.
وإما أن يورد هذا الإشكال على جميع العلوم السمعية الظنية؛ فهذا إشكال يعم جميع أهل الإسلام [و] لا يخص حملة أخبار المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يلزم [منه] القدح في إسناد فقه الأئمة المتبوعين في الفروع إلى أهله فيحرم تقليدهم، مع أنه قد أنسد باب الاجتهاد بتعذر معرفة السنن النبوية، فيصبح أهل الإسلام في عمياء لا إمام ولا مأموم ولا منصوص ولا مفهوم.
وكذلك يحرم على الأصوليين والنحويين نقل ما في كتبهم من الأقاويل المنسوبة إلى قائلها، وكذلك يحرم على أهل السير والتاريخ، فما خص علم الحديث بالترسل على من أخذ في تعلمه وتعليمه والعمل به والدعاء إليه؟ وهلا وضع المعترض كتابا آخر [إلى] من أراد القراءة في فن من سائر الفنون؟
الوجه الخامس: أجمعت الأمة على جواز إسناد ما في الكتب الصحيحة إلى أهلها بعد سماعها على من يوثق به، والدليل على ذلك: أن العلماء ما زالوا ينسبون في مصنفاتهم الأحاديث إلى من أخرجها والأقاويل إلى من قالها، فيقولون في الحديث: أخرجه البخاري وأخرجه مسلم، وكذلك سائر مصنفي الحديث والفقه من غير نكير في هذا على الراوي عنهم، مع كثرة وقوع هذا منذ صنفت هذه الكتب إلى هذا التاريخ، وذلك قريب من خمسمائة سنة، ما علمنا أن أحدا من المسلمين حرم على من سمعها على الثقات أن ينسب ما وجد فيها إلى مصنفيها ولا شكك، ولا حرج في هذا.
حتى إن هذا المعترض زعم أن البخاري مبتدع، بل كافر! صانه الله عن ذلك! واحتج عليه بشيء نقله من صحيحه، يدل على أن البخاري يؤمن بالقدر، مع أن التكفير عند المعتزلة والزيدية لا يجوز إلا بنقل متواتر، فكيف يحتج على البخاري بما في صحيحه وهو عنده لا يصح بطريقة ظنية؟ مع أن صحيحه ما اشتمل على ما يلزمه ما توهمه.
وكذلك فإن هذا المعترض صنف تفسيرا نقله من تفاسير العلماء، فتراه يروي فيه عن البخاري [ومسلم].
بل أغرب من هذا أنه يقرأ كتب الحديث ويجيز روايتها عنه عن شيوخه عن أهلها، لكنه غضب من العمل بها وظهور التعظيم لها، وكل ما ذكرته يدل على انعقاد الإجماع على ما ذكرته. والله أعلم.
الوجه السادس: أن كلام هذا المعترض مبني على تحريم قبول المراسيل كلها، 8 وما أدرى لم بنى كلامه على هذا! وهو لا يدري ما اختيار خصمه ولا ما يختاره طالب علم الحديث؟
فجواز قبول المراسيل مذهب المالكية والمعتزلة والزيدية، ونص عليه منهم أبو طالب في كتاب المجزي والمنصور في كتاب صفوة الاختيار.
وروى أبو عمر بن عبد البر في أول كتاب التمهيد عن العلامة محمد بن جرير الطبري إجماع التابعين على ذلك.
ومذهب الشافعية قبول بعض المراسيل على تفصيل مذكور في كتب علوم الحديث والأصول، وهو المختار على تفصيل فيه، وهو قبول ما انجبر ضعفه لعلة الإرسال بجابر يقوي الظن بصحته، إما: بمعرفة حال من أرسله وأنه لا يرسل إلا عن ثقة كمراسيل ابن المسيب، وما جزم به البخاري من تعاليق الصحيح ولم يورده بصيغة التمريض 9 وما صنفه المتأخرون الحفاظ في كتب الأحكام 10 واقتصروا على نسبة الحديث إلى مخرجه من غير إسناد من المصنف إلى مخرج الحديث، وغير ذلك من المراسيل المعضودة بما يقويها.
بل مراسيل الصحابة والتابعين وأئمة الحديث المعروفين مقبولة إذا لم يعارضها مسند صحيح، إلا مرسل من عرف منهم بالإرسال عن الضعفاء، وأدلة وجوب قبول خبر الواحد تتناول ذلك.
وموضع بيان الحجة على جواز ذلك كتب الأصول، والمسألة نظرية لا يجوز الإنكار فيها على من ذهب إلى أحد المذاهب. ومن أحسن ما يحتج به [في ذلك] الإجماع على قبول اللغة والنحو مع بناء تفسير الحديث عليهما بغير إسناد صحيح على شرط أصحاب الحديث.
إذا عرفت هذا؛ فاعلم أن أقوى المراسيل ما أرسله العلماء من أحاديث هذه الكتب، وذلك لوجوه:
أولها: أن نسبة الكتاب إلى مصنفه معلومة في الجملة بالضرورة، فإنا نعلم بالضرورة أن محمد بن إسماعيل البخاري ألف كتابا في الحديث، وأنه هو الموجود في أيدي المحدثين، وإنما يقع الظن في تفاصيله، وما علمت جملته وظنت تفاصيله أقوى مما ظنت جملته وتفاصيله.
وثانيها: أن أهل الكذب والتحريف قد يئسوا من إدخال الكذب في هذه الكتب، فكما أنه لا يمكن أحدا أن يدخل على الفقهاء في المذاهب الأربعة غير مذاهب أئمتهم، فيدخل في المنهاج للنووي أن الشافعي لا يشترط النصاب في زكاة ما أخرجت الأرض، ويدخل على الحنفية مثل ذلك. وكذا لا يستطيع أحد أن يدخل على الزيدية في كتاب اللمع الذي هو مدرسهم مسألة للفقهاء وينسبها إلى أئمة الزيدية، ولا يستطيع أحد أن يدخل على النحاة في كتبهم المدروسة ما ليس فيها. فكذلك يتعذر أن يدخل في البخاري أحاديث الشهاب ونحوه ويمضي ذلك على الحفاظ، ولو تقدر ذلك في حق بعض الضعفاء لا نكشف الحق عن قريب، وكان ذلك المغرور غير مؤاخذ عند الله، بل لا بد أن يكون عاملا على بعض مذاهب العلماء غالبا، كما سيأتي بيان ذلك عند تذكر كثرة الطرق في الراوية، واتساع كثير من العلماء في ذلك واعتمادهم على العمل بالظن.
وثالثها: أن النسخ المختلفة تنزل منزلة الرواة المختلفين، فاتفاقها يدل على صحة ما فيها عن المصنف قطعا أو ظاهرا. فإنك إذا وجدت الحديث منسوبا إلى البخاري في نسخة نسخت باليمن، ووجدته منسوبا إليه في نسخة غربية أو شامية أو عراقية، ووجدت ذلك الحديث كذلك في شرح البخاري، ومصنفه كان في بلاد أخرى أو زمان آخر ووجدته في الكتب المستخرجة من كتب الحديث والمختصرة منها، فتجده في جامع الأصول لأبي السعادات ابن الأثير والمنتقى لعبد السلام، وأحكام عبد الحق، والإلمام للشيخ تقي الدين، ونحوها، وتجده في كتب الفقه البسيطة المشتملة على ذكر المذاهب والحجج. وتجده في شواهد الفقه المجردة مثل: شواهد المنهاج لابن النحوي، وشواهد التنبيه لابن كثير ونحوها، ونحو هذه الكتب قد توجد كلها ويوجد الحديث فيها، وقد يوجد كثير منها ويوجد الحديث في كثير منها. ولا شك أن الناظر فيها إن لم يستفد العلم الضروري باستحالة تواطؤ مصنفيها على محض الكذب والبهت؛ لأنه يستحيل اجتماعهم واتفاقهم على ذلك لتباعد أغراضهم وبلدانهم وأزمانهم ومذاهبهم، فأقل الأحوال أن ذلك يفيد من الظن ما يفيده الإسناد إلى المصنف مع السماع على الثقة ولكن بغير إسناد، فإذا كان الجم الغفير من الأئمة من فرق الإسلام قد نصوا على وجوب قبول المرسل، وادعى ابن جرير وغيره الإجماع على ذلك مع خلو المرسل عن مثل هذه القرائن، فكيف ينكر على من قبله مع مثل هذه القرائن الكثيرة؟ وإذا كان المعتبر في باب الرواية هو الظن المطلق كما يأتي تحقيقه عند كثير من أهل العلم، فكيف ينكر على من استند إلى مثل هذا الظن القوي؟
فإن قيل: إن أهل الحفظ والثقة قد يسندون عن معمرين 11 لا يعرفون الحديث، ولا يضبطونه؛ فكان هذا قدحا في رواية الحديث عنهم.
قلنا: أهل الحديث لا يعتمدون على أولئك المعمرين في جواز الرواية والعمل بالحديث، بل يعتمدون على من قرأ لهم، وعلى من أثبت طباق السماع لهم، وإنما احتاجوا إلى أولئك لأجل علو السند، ذكر معنى ذلك الذهبي في خطبة الميزان وقال: «إنه مبسوط في علوم الحديث»، وقال: «من المعلوم أنه لا بد من صون الراوي وستره».
وذكر ذلك كله زين الدين في كتابه في علوم الحديث والله أعلم.
الوجه السابع: أن أقصى ما في الباب أن يروي المحدث عن المجاهيل من المسلمين والمجاهيل من العلماء، فقد قال بذلك من أهل العلم المجمع على فضلهم ونبلهم من لا يحصى، فقد ذهب أئمة الحنفية إلى قبول المجهول من أهل الإسلام، وذهب إلى ذلك كثير من المعتزلة والزيدية، وهو أحد قولي المنصور بالله: ذكر ما يقتضي ذلك في كتابه هداية المسترشدين، وهو الذي ذكره عالم الزيدية ومصنفهم وعابدهم وثقتهم عبد الله بن زيد العنسي، ذكره في الدرر المنظومة بعبارة محتملة للرواية عن مذهب الزيدية كلهم، وهو الذي أشار إلى ترجيحه أبو طالب في كتاب جوامع الأدلة وتوقف فيه في كتاب: المجزي وذكر أنه محل نظر، وحكاه المنصور في الصفوة عن الشافعي.
فكيف تنكر أيها الزيدي ما ذهب إليه جلة من أئمة الزيدية ومحققيهم؟ على أن المحدث غني عن النزول إلى هذا الحد في الترخص، وأكثر ما يحتاج إليه في بعض الأحوال: الرواية عن المجهول مطلقا، وقول ابن عبد البر، وابن المواق معهم، فقد وافقوهما على قبول مجهول العلماء لأنه من جملة المجاهيل، لكنهما خالفاهم في قبول من عدا هذا الجنس، ولهما من الحجج على ما اختاراه ما يمكن الركون إليه والاعتماد عليه، لولا عدم الحاجة إلى ذلك، ومحبة الاحتياط بسلوك أوضح المسالك، وقد ذكرت في الأصل لهما حججا في ذلك، وطولت الكلام عليها، وأنا أذكرها في هذا المختصر وأحذف من التطويل فأقول:
يمكن أن يحتج لهما بحجج قرآنية وأثرية ونظرية:
أما القرآنية: فقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، فإطلاق هذا الأمر القرآني يدل وجوب سؤال العلماء إلا ما خصه الإجماع، وهو الفاسق المتعمد؛ وهذا نادر في العلماء، وإن اتفق ذلك من أحد منهم فهو معروف غير معتمد، وإنما يصدر منهم من المعاصي ما لم يجمع على [الجرح] به كما سيأتي قريبا.
وأما الأثرية؛ فقد ورد في ذلك آثار:
الأثر الأول: النبي ﷺ: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله». روي مرفوعا مسندا من طريق أبي هريرة وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبي أمامة وجابر بن سمرة.
واختلفوا في صحة إسناده وإرساله؛ فأسنده العقيلي عن أبي هريرة وابن عمرو بن العاص وقال: الإسناد أولى، وضعف إسناده زين الدين ابن العراقي، وقال ابن القطان: الإرسال أولى. وتوقف في ذلك الحافظ ابن النحوي الشافعي المصري. وقال ابن عدي: «رواه الثقات عن الوليد بن مسلم عن إبراهيم بن عبد الرحمن [ثنا] الثقة من أصحابنا أن رسول الله ﷺ قال..» وساقه. قال الذهبي: «رواه غير واحد من معان يعني ابن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري التابعي».
فالقوي صحة الحديث كما ذهب إلى ذلك إمام أهل الحديث أحمد بن حنبل، والعلامة الحافظ أبو عمر بن عبد البر، روى تصحيحه عن أحمد بن حنبل غير واحد وابن النحوي في البدر المنير والزين بن العراقي في التبصرة وقال: «ذكر الخلال في كتاب العلل أن أحمد سئل عنه فقيل له: كأنه كلام موضوع؟ فقال: لا، هو صحيح، فقيل له: ممن سمعته؟ قال: من غير واحد».
قلت: الظاهر صحته أو حسنه، فإنما علل بالإرسال، والاختلاف في معان.
أما الإرسال: فقد ارتفع بقول ابن عدي: إن الثقات رووه عن إبراهيم بن عبد الرحمن [ثنا] الثقة مع شهادة تلك الطرق المقدمة لإسناده، وإن كان زين الدين ضعفها؛ فالضعيف يستشهد به، وقد تكثر الطرق الضعيفة فيقوى المتن على حسب ذلك الضعف في القلة والكثرة، كما يعرف ذلك من عرف كلام أهل [هذا] العلم في مراتب التجريح والتعديل.
وأما معان؛ فقد قال أحمد: «لا بأس به» ووثقه ابن المديني، لكن لينه ابن معين والتليين لا يقتضي رد الحديث، بل يسقطه من مرتبة الصحة، ويجوز أن يكون حسنا لا سيما وهو من قبيل الجرح المطلق، وهو مردود مع التوثيق الراجح، وموقوف فيه مع انفراده.
وهذا الجرح المطلق معارض بما هو أرجح منه، وهو كلام أحمد وابن المديني فإنهما أرجح من ابن معين لأجل العدد، وإن كان مثلنا أقل من أن يرجح بينهم في المعرفة بالحديث، فأما الترجيح بالعدد فهو ظاهر، على أنه لم يصرح 12 بما يعارض كلاميهما.
فقد يقال فيمن يجب قبوله: «فيه لين»، وقد تطلق هذه العبارة في بعض رجال الصحيح، وإنما فائدتها: ترجيح من لم يقل فيه ذلك على [من] قيل فيه عند التعارض، كيف وقد وردت شواهد لحديث معان! فقد قال ابن عدي: «رواه الثقات عن إبراهيم بن عبد الرحمن» فالثقات جمع أقله ثلاثة، وقد رواه أحمد بن حنبل عن غير واحد، منهم مسكين، إلا أنه وهم في اسم إبراهيم بن عبد الرحمن، فقال: القاسم بن عبد الرحمن.
هذا كله من غير اعتبار الطرق المسندة التي أوردها ابن العراقي في التبصرة.
وأما إبراهيم بن عبد الرحمن؛ فقد قال ابن الأثير في أسد الغابة: إنه من الصحابة، وقد قيل: إنه ليس بصحابي.
لكن المثبت أولى من النافي، والزيادة من العدل مقبولة إذا لم تكن معلولة، وقال جماعة: تقبل وإن كانت معلولة ولم تضعف، بل قد قال الذهبي «ما علمته واهيا»، وحديثه مقبول عند طوائف من العلماء.
أما المحدثون؛ فلأن إمامهم أحمد بن حنبل يقبله، ولأن له قاعدة في تصحيح الأخبار معروفة 13 عندهم، ولا يظن بمثله أنه يقضي بصحته قبل تمهد قاعدة الصحة. وكذلك ابن عبد البر، وقد روى عنه غير واحد من الثقات فخرج عن مطلق الجهالة، ولأنه قد قال فيه الثقة: إنه صحابي.
وأما الحنفية؛ فإنهم يقبلون المجهول، كيف إذا كان تابعيا! كيف إذا قيل إنه صحابي.
وأما المالكية؛ فإنهم يقبلون المرسل.
واما الشافعية فإنهم يقبلون بعض المراسيل. وإذا جمعت طرق هذا كله وجدته أقرب إلى القبول على قواعدهم.
فهذه الوجوه مع تصحيح أحمد وابن عبد البر وترجيح العقيلي لإسناده مع سعة اطلاعهم وإمامتهم: تقضي بجواز التمسك به.
وأما ما اعترض به زين الدين على هذا الحديث من جهة المعنى، فإنه ضعيف.
فإنه قال: «لو كان خبرا لما وجد في حملة العلم من ليس بعدل، فوجب حمله على الأمر به».
والجواب: أن هذا غير لازم؛ لأنه يجوز تخصيص الأخبار كما يجوز تخصيص الأوامر، وذلك مستفيض في القرآن والسنة، ومنه: {وأوتيت من كل شيء}، وقد قال الله تعالى في أهل عصر النبي ﷺ: {كنتم خير أمة} مع صحة ارتداد جماعة منهم، كما ذكره أئمة الحديث في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام: «فأقول سحقا لمن بدل بعدي»، فلم يوجب ذلك تأويل الآية على الأمر، وسلب الصحابة رضي الله عنهم هذه الفضيلة العظمى.
والوجه في ذلك أن التخصيص كثير في الشريعة واللغة، حتى قال بعضهم: إن كل عموم في القرآن مخصوص إلا قوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم} وقوله: {وهو على كل شيء قدير}. وحتى قال بعض الأصوليين: إن ألفاظ العموم مشتركة بينه وبين الخصوص، بخلاف ورود الخبر بمعنى الأمر فإنه ليس في هذه المرتبة، وما كان أكثر وقوعا كان أرجح.
وأما قوله: إن ذلك قد جاء في بعض طرق [ابن] أبي حاتم، فمردود بضعفه وإعلاله لمخالفة جميع الرواة الثقات وغير الثقات.
الأثر الثاني: قوله ﷺ: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»، رواه جماعة من الصحابة عن النبي ﷺ، وهو صحيح صححه محمد بن إسماعيل البخاري وأبو عيسى الترمذي وغيرهما، وهو دليل على أن الله قد أراد الخير لأهل الفقه، ولا معنى لتخصيصهم بذلك إلا لوقوع ما أراده بهم، أما عند أهل السنة فظاهر، وأما عند المعتزلة فلتخصيصهم بالذكر، وأما الزيدية فقد احتجوا بمثله في قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}. وهذا الأثر يخص من فقه في دينه دون غيره من أهل العلم، والكلام فيمن يطلق عليه ذلك يتعلق بشروح الحديث.
الأثر الثالث: ما ورد في الصحيح من قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين، وسأل عن أعبد أهل الأرض، فدل عليه، [فسأله] فأفتاه ألا توبة له فقتله، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل عليه، فسأله فأفتاه بأن توبته مقبولة، وفيه: بأنه من أهل الخير.
فحكى رسول الله ﷺ قصته، ولم يحك فيها أنه بعد معرفة علم الرجل سأل عن عدالته، وقد اعتمد هذا الرجل على فتواه فيما يتعلق بالتوبة من أحكام تلك الشريعة من الدية وسقوط القود، وغير ذلك، والظاهر أنه لم يكن القود في شرعهم، 14 أو كان هناك مسقط للقود من كفر القاتل والمقتول أو غير ذلك، والله أعلم.
الأثر الرابع: وهو في الصحيح أيضا وذلك أن الله تعالى لما قال لموسى عليه السلام: «إن لنا عبدا هو أعلم منك» -يعني الخضر عليه السلام، سأل موسى من الله تعالى لقاء الخضر ليتعلم منه وسافر للقائه، ولم يرد في الحديث أنه سأل عن عدالته بعد أن أعلمه الله تعالى بعلمه، مع أن من الجائز أن يكون عظيم العلم غير عدل مثل: بلعام وغيره، و[لكنه] تجويز بعيد، قليل الاتفاق، نادر الوقوع، فلم يجب الاحتراز منه كما لا يجب الاحتراز من تعمد كذب الثقة، ولا من وهم الحافظ.
وفي بعض هذه الآثار ما لو انفرد كان في الاحتجاج به نظر، لكنها تقوى باجتماعها، وما قدمنا في شهادة القرآن لها، ولم يذكر ابن عبد البر منها إلا حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري المقدم.
وأما الاستدلال على ذلك من النظر فهو يظهر بذكر أنظار:
النظر الأول: أن الظاهر من حملة العلم أنهم مقيمون لأركان الإسلام الخمسة، مجتنبون لكبائر المعاصي، ولما يدل على الخسة، معظمون لحرمة الإسلام، لا يجترثون على الله تعالى بتعمد الكذب عليه.
والظاهر أيضا فيهم قلة الوهم بعد الاعتماد على الكتابة، وظهور العناية بالفن، فصاحب الفن الشهير به قليل الغلط فيه، وإن كان يغلط في غيره، على أن الوهم المقدوح به عند أهل الأصول شرطه أن يكون أكثر من الصواب أو مساويا له، على اختلاف بينهم في المساوي. وهذا الذي ذكروه نادر الوقوع في حق الشيوخ المتأخرين، ولا شك أن هذه الأمور أمارة العدالة المشترطة في الرواية التي يترجح معها ظن الصدق، وخوف المضرة بالمخالفة.
النظر الثاني: أنه ثبت بالاجماع الظاهر جواز رجوع العامي في الفتوى إلى من رآه في المصر منتصبا للفتوى، ورأى المسلمين يأخذون عنه، وهذا كاف للعامي، مع أن العدالة شرط في المفتي، فدل على أن ظاهر العلماء العدالة، وأنه لا يجب البحث حتى يظهر.
وإنما قلنا: إن ذلك يكفي العامي لأن العامة ما زالوا على ذلك، ولم ينكر عليهم أحد من السلف والخلف، 15 ولو أن أحدا أوجب على العامي إذا دخل المصر يستفتي أن يختبر المفتي في سفره وحضره ورضاه وغضبه ونحو ذلك لخالف الإجماع، وقد نص على هذا جماعة من أهل الأصول، ذكرتهم في الأصل.
النظر الثالث: وجوب إجابة العامة للقاضي الذي على هذه الصفة وامتثال قضائه، مع اشتراط العدالة فيه.
النظر الرابع: أنه ظهر من طلبة العلم أنهم يسألون عن العارف بالفن، فإذا سمعوا به رحلوا إليه، وأخذوا [عنه] من أول المجالسة قبل طول الخبرة، وربما طالت المجالسة، وحصلت الخبرة فيما بعد، وربما تعجلت الفرقة قبل الخبرة، ومع استمرار وقوع هذا في جميع أقطار الإسلام لم نعلم أن أحدا من العلماء قال لمن فارقه قبل الخبرة: إنه لا يجوز لك العمل بما أخذت عني، ولا قال لمن جالسه في أول المجالسة: إنه لا يجوز لك الأخذ بما تأخذ عني حتى تطول المجالسة وتحصل الخبرة.
والمقصود بهذا النظر أن العمل بهذا كثير في قديم الزمان وحديثه؛ فإذا عمل به طالب الحديث لم ينسب إلى الشذوذ، وكذا إذا قيل: إن هذا مذهب ابن عبد البر، وابن المواق لم يتوهم أنهما شذا بهذا.
فإذا قيل: ليس كل طالب علم معلوما أنه يريد العمل، ولا كل طالب [أيضا] يظهر منه أنه يستجيز العمل قبل الخبرة، قلنا: ذلك صحيح. ولكن الأكثر يظهر ذلك منهم.
فإن قيل: كيف يستنبط من هذا النظر إجماع مع ظهور الخلاف؟ قلنا: يستنبط منه إجماع على عدم النكير 16 على من استجاز ذلك، لا على أن الكل من العلماء قائلون به.
النظر الخامس: أنه قد ظهر تفسير كثير من الكتاب والسنة بألفاظ لغوية ومعاني نحوية عن كثير من الأدباء من غير عناية بمعرفة أحوالهم في التوثيق، فإن التوثيق وإن وجد في بعضهم فلا يطرد في جميعهم، ألا ترى إلى إطباق الطوائف على الرجوع إلى «النهاية» لابن الأثير من غير تثبت في توثيقه.
ولو قدرنا معرفة بعض الخاصة لذلك فالأكثر على النقل منه من غير معرفة لثقة مؤلفه، حتى إن الزيدية يعتمدون على الرجوع إلى كتابه، مع أنه لو ثبت أنه عدل لما كفى ذلك، فإنه لم يشافه العرب، وينقل عنهم بغير واسطة، بل روى عن جماعة كثيرة من اللغويين كما أشار إليه في خطبة كتابه، بل كل واحد من اولئك الذين روى عنهم روى عن خلق أيضا، ألا ترى أنه يروي عن الزمخشري مع أن الزمحشري معتزلي حنفي والظاهر من الحنفية قبول المجهول، وهو ظاهر عن كثير من المعتزلة وغيرهم، كما ذلك مذكور في مصنفاتهم.
ومع أن الزمخشري وإن كان صالحا عند أهل الحديث في نفسه فهو عندهم داعية إلى الاعتزال، غير معروف بتحريم الرواية عن المجاهيل في الحديث، دع عنك اللغة، بل قد روى الموضوعات في كشافه في فضائل السور، مع الإطباق أنه من أئمة اللغة والعربية، والرجوع إلى مصنفاته في ذلك. وهذا يدل على ما ذهب إليه أبو عمر بن عبد البر من حمل كل صاحب علم معروف العناية فيه على السلامة في علمه حتى يتبين جرحه، 17 والله سبحانه وتعالى أعلم.
فإن قلت: هذه الحجج كلها مبنية على تحسين الظن بجملة العلماء، والقول بأن المجروح فيهم نادر، و[أنه] إذا كان نادرا فالحكم بالنادر تقديم للمرجوح على الراجح، وذلك قبيح وفاقا، لكن كون المجروح نادرا فيهم غير مسلم، فإن وقوع الغيبة منهم والحسد فيما بينهم والمنافسة في الدنيا كثير غير قليل.
قلت: الجواب عن ذلك أن نقول: أما قوله: إن المجروح فيهم كثير غير نادر؛ فهو بناء على أن كل من وقع منه معصية فهو مجروح، ومتى سلم له أن العدالة هي: ترك جميع الذنوب؛ فالسؤال واقع، ولكن هذا ممنوع بدليل القرآن والأثر والنظر والنقل.
أما القرآن: فما حكى الله تعالى عن ذنوب أنبيائه وأوليائه، ونزع الغل من صدور أهل الجنة، مع أن شهادة ذي الغل لا تقبل، وذكر ذلك على التفصيل يطول.
وأما الأثر: ففيه أخبار كثيرة، أذكر ما حضرني منها وهو اليسير:
الأثر الأول: قوله ﷺ: «من نوقش الحساب عذب» وهو صحيح الإسناد والاستناد.
الأثر الثاني: قوله ﷺ: «من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار» رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا. قال الحافظ ابن كثير: «إسناده حسن».
الأثر الثالث: ما ورد في تحريم قبول ذي الإحنة 18 في الشهادة على من هو له مبغض، وإن كانا مسلمين عدلين، فالإحنة على المسلم محرمة، وذو الإحنة مقبول على من ليس بينه وبينه إحنة؛ لأن مجرد دخول الإحنة، ووجود بعض العداوة لا يمنع من العدالة، ولهذا قال الله تعالى في صفة أهل الجنة: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} ولو كان صاحب الإحنة على أخيه مجروحا في حق كل أحد، لم يكن لتخصيص رده إذا شهد على من يبغضه معنى.
الأثر الرابع: الحديث الصحيح الذي فيه: «قاربوا وسددوا وأبشروا، ولن يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله تعالى» ونحو ذلك.
وأما النظر: فلأنا إذا تركنا شهادة من هذه صفته من المسلمين وطرحنا روايتهم وفتواهم ومصنفاتهم، واعتبرنا في الشهادة قول بعض المتعنتين في العدالة: إنها الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل لحظة، ونحو ذلك من التشديدات تعطلت المصالح والأحكام، وتضرر جميع أهل الإسلام، واختلفت 19 الأحوال، وضاعت الحقوق والأموال، ولم يجد المقلد من يروي له مذهب إمامه، ولا العامي من يفتيه، ولا الحاكم من يقيم له الشهادة، ولا وجد صاحب الولاية من يصلح للقضاء، ولا وجد أهل عقد النكاح من يشهد بينهم.
فإن أهل الورع الشحيح ورياضة النفوس على دقائق المراقبة أعز من العيوق 20 ملمسا، ومن الكبريت الأحمر وجودا، فإن وجدتهم لم تجدهم أهل التدريس والفتوى والشهادة بين أهل اللجاج والحضور عند أهل الخصومات، وإذا تأملت وجدت السالم من جميع المعاصي من أهل الفتوى والتدريس عديم الوجود.
فمن منهم الذي لا يسمع منه غيبة أحد، ولا يداهن على مثل ذلك [أحد]، ويصدع بمر الحق في كل موقف، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يتخلف عن إنكار منكر يجب إنكاره، ولا يتثاقل عن أداء واجب عليه لعدو، ولا يترخص إن وجب عليه عداوة صديق، ولا يلين بالمداهنة لأمير، ولا يتكبر على فقير.
ولسنا نعتقد أن أهل هذه الصفة غير موجودين، ولكن نعتقد أنهم غير كافين للمسلمين في التعليم والرواية والقضاء والشهادة، ومن أين لكل عاقد نكاح وبايع حق شاهدان كذلك؟ ومن أين لكل طالب علم من جميع طلبة الفنون، وكل طالب فتوى في جميع الأقطار من هو كذلك.
وأما النقل: فعن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلا، ولو كان كل مذنب عدلا لم نجد مجروحا، ولكن العدل من اجتنب الكبائر، وكانت محاسنه أكثر من مساويه، أو كما قال الشافعي.
وقد روى النووي في الروضة عن الشافعي هذا المعنى، ولم يحضرني لفظه ولا كتابه.
وروي عن أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: [إنه] يعمل بالحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب من الحديث الصحيح ما يدفعه، وعن أبي داود مثله. 21
ولهما حجة فيما روي عن علي رضي الله عنه من تحليف من اتهمه وقبول حديثه، وسيأتي بلفظه وأنه حسن الإسناد.
وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أكثر من هذا في هذا في المعنى المقصود.
وبالجملة؛ فإنه أجاز قبول المجاهيل، وحكم لهم باسم العدالة متى كانوا من أهل الإسلام. وقد جاء في كلام عمر رضي الله عنه له حجة، وهو قوله في كتابه إلى أبي موسى: «والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشهادات، إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة الزور» الحديث. رواه البيهقي عن معمر البصري عن أبي العوام عنه. وقال: «وهو كتاب معروف».
وأما كلام أصحاب المعترض: فقال عبد الله بن زيد، من علماء الزيدية في كتابه الدرر المنظومة في تفسير لفظ العدل: «ومعنى كونه عدلا: أن يكون مؤديا للواجبات مجتنبا للكبائر من المستقبحات».
قال شيخ الاعتزال أبو الحسين البصري في كتابه المعتمد في تفسير لفظة العدل: «وتعورف أيضا فيمن تقبل روايته عن النبي ﷺ، وهو من اجتنب الكبائر والكذب والمستخفات من المعاصي والمباحثات»، ومثل المستخفات من المعاصي بالتطفيف بحبة، والمستخفات من المباحات بالأكل على الطريق.
ومن المنقول في ذلك عن فضلاء السلف والخلف: ما اشتهر عنهم من وصفهم لأنفسهم بمقارفة الذنوب والوقوع في المعاصي.
فروى الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود-: «لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي اثنان، ولحثيتم على رأسي التراب، ولوددت أن الله غفر لي ذنبا من ذنوبي وأني دعيت: عبد الله بن روثة».
وروى الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد قال: أكثروا على عبد الله يوما فقال: «والله الذي لا إله غيره لو تعلمون [علمي] لحثيتم التراب على رأسي». قال الذهبي في النبلاء: «روي هذا من غير وجه عن ابن مسعود رضي الله عنه».
قلت: هذا وقد روى علقمة عن أبي الدرداء أنه قال: «إن الله أجار ابن مسعود من الشيطان على لسان نبيه».
وجاء من غير وجه عن النبي ﷺ، «لو كنت مؤمرا أحدا من غير مشورة لأمرت ابن أم عبد»، وجاء عنه عليه السلام: «اهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد» وقال عليه السلام: «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد» رواه الثوري وإسرائيل عن منصور. وأجمعت الأمة على صحة حديثه وجلالة قدره.
فإذا كان مثل هذا الصاحب الجليل يقسم بالله الذي لا إله إلا هو: لو يعلم الناس ذنوبه لحثوا على رأسه التراب، فكيف يشترط في العدل أن لا تبدو منه هفوة ولا يقع في معصية.
وأعظم من هذا سؤال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحذيفة، هل هو منافق؟ وقول حذيفة بعد تزكيته: لا أزكي بعدك أحدا. ولم يخف عمر رضي الله عنه من النفاق الذي هو الشك في الإسلام، فإنه يعلم براءة نفسه منه، بل نحن نعلم براءته رضي الله عنه [منه] بما شهد له به رسول الله ﷺ من الفضائل الكثيرة والمناقب الكبيرة، وإنما خاف رضي الله عنه من صغائر النفاق الذي هو: خلف الموعد وخيانة الأمانة والكذب في الحديث، فإن المؤمن الورع قد يدخل عليه من صغائر بعض هذه الخصال ما يدق ولا يتفطن له، وربما كان الغير أبصر بعيب الإنسان منه. وربما قصد عمر تنبيه ضعفاء المسلمين على تفقد أنفسهم، وجعل لهم بنفسه الكريمة أسوة حسنة حيث اتهمها على أمر عظيم. وقد كان عمر رضي الله عنه إماما في التقوى والمراقبة، شديد المناقشة لنفسه والمحاسبة، وقد قال لبعض الصحابة: كيف وجدتموني؟ [قالوا]: صالحا، ولو زغت لقومناك. فقال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا زغت قوموني. أو كما قالا.
فهذا كله -وأمثاله مما يطول ذكره- يرد على من يتعنت ويقدح على كثير من العلماء بأشياء يسيرة لا تدل على تجريهم على تعمد الكذب على رسول الله ﷺ، وقد قال الحاكم أبو عبد الله: «إنا نظرنا فوجدنا البخاري قد صنف كتابا في التاريخ، جمع أسامي من روى عنهم من زمان الصحابة إلى سنة خمسين، فبلغ عددهم قريبا من أربعين ألفا، إلى قوله: ثم جمعت من ظهر جرحه من جملة الأربعين الألف فبلغ مائتين وستة وعشرين، فليعلم طالب هذا العلم أن أكثر الرواة ثقات» انتهى.
والقصد بهذا كله الذب عن السنن ورواتها، وبيان أن من تشدد منهم فقد احتاط لنفسه والمسلمين، ومن ترخص منهم فقد عمل بمقتضى أدلة كثيرة ووافق في عمله غير واحد من جلة العلماء الأعلام وخيار أهل الإسلام.
الوجه الثامن: أن هذا الإشكال الذي أورده هذا المعترض لا يختص بأهل السنة ورواة الحديث، بل هو تشكيك في القواعد الإسلامية، وتشكيك على أهل الملة المحمدية، وذلك لأنهم أجمعوا على حسن الرجوع إلى الكتاب والسنة في جميع الأحوال [على الإطلاق] وأجمعوا على وجوب ذلك على بعض المكلفين في جميع الأحوال، وعلى جميع المكلفين في بعض الأحوال.
والمعترض بالغ في التشكيك على من أراد الرجوع إلى الكتاب والسنة، بحيث لو تصدى بعض الفلاسفة للتشكيك على المسلمين في الرجوع إلى كتاب ربهم الذي أنزل عليهم والاعتماد على سنة رسولهم الذي أرسل إليهم ما زاد على ما ذكره المعترض، فإنه تشكيك في صحة الأخبار النبوية، وتشكيك في جميع طرقها. فمنع القول بصحة حديث المحدثين، وأوجب معرفة الأسانيد وبراءة رواتها عن فسق التأويل، فمنع بذلك صحة قبول حديث المعتزلة والزيدية، فإن عامة حديثهم مرسل، ونصوا على قبول المتأولين ومن لم يقبل المتأولين منهم قبل مرسل من يقبلهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فإن كان لهم حديث مسند في بعض الكتب البسيطة فإن الإسناد يضر ولا ينفع، لأنه مع الإسناد لا يجوز قبول الحديث عند من يقبل المرسل، فتعين البحث عن السند، وليس لهم في علم الرجال مصنفات يمكن الرجوع إليها بحيث لا يكون فيها اعتماد على أهل الحديث، ولا من المعتزلة والزيدية الذين يقبلون أهل الحديث، فثبت أنه لا بد من الرجوع في علم الرجال إلى المحدثين.
لكن المعترض قد منع ذلك فلزمه طرح الحديث كله: حديث أهل الأثر، وحديث المعتزلة والزيدية، لأنه يمنع من قبول كل حديث احتمل أن في رواته فاسق تأويل مجرد احتمال، وقال: لا بد من تبرئة صحيحة، وسيأتي تحقيق هذا.
فثبت أن المعترض سد الطريق إلى معرفة السنة النبوية على الإطلاق، ثم إنه شكك في معرفة علم 22 الحديث على تقدير صحته، وذكر صعوبة 23 معرفة الناسخ والمنسوخ، [و] العام والخاص.
ثم إنه شكك في معرفة القرآن العظيم بما فيه من الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، ووقوف العمل بالعام على معرفة ما في السنة من المخصصات، مع أنه قد سد طريق معرفة السنة، فأشكل الأمر حينئذ، وبقي القرآن مع العرب بل مع النحاة كما هو مع العجم في عدم المعرفة بتفسيره وتحريم العمل بمعناه.
ثم إنه شكك في معرفة اللغة والعربية 24 اللتين هما عمود تفسير الكتاب والسنة، فمنع صحتهما عن اللغويين والنحويين، وصرح بأن اتصال الرواية الصحيحة بهم متعذر. هكذا أطلق القول بهذا، وجزم به، وقطعه عن الشك.
ثم إنه شكك في قبول النحويين واللغويين على على تسليم صحة الرواية عنهم فقال: «إن قبولها منهم على سبيل التقليد لهم»، ومنع من التفسير بهذا الوجه، وهذا ما لم يقل به أحد ممن يعتد به. وليت شعري كيف الاجتهاد في علم العربية؟ 25 وهل ثمة طريق إليها إلا قبول الثقات، مثل ما أنه لا معنى للاجتهاد والخروج من التقليد في قبول الحديث [إلا بقبول الثقات]، ومتى كان قبول الثقات في اللغة والحديث تقليدا محرما على المجتهد، فكيف السبيل إلى الاجتهاد! إلا أن يبعث الله الموتى من العرب فيشافهوا العالم باللغة، وكذلك يبعث النبي ﷺ حتى يأخذ العلماء الحديث عنه ويسلموا من تقليد الثقات. وقد انعقد إجماع المسلمين على وجوب قبول الثقات فيما لا يدخله النظر، وليس في ذلك تقليدا بل عمل بمقتضى الأدلة القاطعة الموجبة لقبول أخبار الآحاد، وهي محررة في موضعها من الفن الأصولي.
ولم يخالف في هذا إلا شرذمة يسيرة، وهم متكلمو بغداد من المعتزلة. والإجماع منعقد قبلهم وبعدهم على بطلان قولهم؛ فقد تبين بهذا أن المعترض شكك في رجوع المسلمين إلى القرآن العظيم والسنة النبوية، والله تعالى جعل الكتاب والسنة النبوية عصمة لهذه الأمة، ولم يجعلهما عصمة للقرن الأول ولا للثاني، فالمشكك في هذا يجب عليه أن ينظر في الجواب حتى على مذهب المعتزلة والزيدية، فليس هذا يخص أهل الحديث، [لكن في إيراد المعترض لهذا الإشكال عليهم أعظم شهادة لهم بأنهم أهل القرآن والحديث]، الذين يذبون عنهما ويحامون عليهما، والحمد لله والمنة.
الوجه التاسع: قال الله تعالى في وصف رسول الله ﷺ: {وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى} وقال فيما أوحاه إلى رسوله ﷺ: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، وهذا يقتضي أن شريعة رسول الله ﷺ لا تزال محفوظة، وسنته لا تبرح محروسة، فكيف ينكر هذا المعترض على أهل السنة، ويشوش قلوب الراغبين في حفظها، ويوعر الطريق على السالكين إلى معرفة معناها ولفظها؟
فإن قال: فإنه قد ورد على رفع العلم في آخر الزمان، وذلك في حديث ابن عمرو بن العاص: «إن الله لا يرفع العلم انتزاعا ينتزعه، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».
والجواب من وجهين:
الأول: أن هذا غير مذهب الزيدية والمعتزلة، فإنهم لا يجيزون خلو الزمان عن مجتهد.
الثاني: أن الحديث محمول على وقت مخصوص لم يأت بعد، وهو بعد نزول عيسى عليه السلام وموته وموت المهدي المبشر به، وذلك مبين في أحاديث صحيحة، وقد ورد في الصحيح: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال»، وهذا يفسر ذاك، لأنه خاص وذلك عام. ولا يمكن أن يكون ذلك الضلال العام مع وجود هذه الطائفة الموصوفة بالظهور على الحق، فدل على أنه بعد انقراض هذه الطائفة.
ولا يعترض على هذا بأدلة عصمة الأمة عن الضلالة لأنه يحتمل أن هذا يكون بعد موت الأمة، بل قد ورد معنى ذلك منصوصا في الحديث الصحيح الذي فيه: «إن الله يبعث ريحا ألين من الحرير، لا تترك أحدا ممن في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان إلا توفته» أو كما ورد، وذلك بعد ظهور المهدي ونزول عيسى، وأدلة المعتزلة على ما يخالف هذا عامة، وهذه الأدلة أخص فوجب المصير إليها.
الوجه العاشر: لو فرضنا -والعياذ بالله- خلو الزمان عن الحفاظ الثقات، والرواة الأثبات لما تعذر الرجوع إلى السنة العزيزة، وذلك لأن الكتب الصحيحة المتقنة موجودة في المدارس الإسلامية، والعمل بما في الكتب -التي عليها خطوط الثقات الحفاظ شاهدة بالصحة- جائز عند كثير من أهل العلم، وهو الذي يقوى في النظر ويظهر عليه الدليل، بل هو الذي أجمع على جوازه أصحاب رسول الله ﷺ كما سيأتي، والعجب من المعترض كيف غفل عن ذلك! وهو قول أئمة الزيدية والمعتزلة كما سيأتي، والعمل بهذا هو المعروف في علم الحديث بـالوجادة، وهو أحد أنواع علوم الحديث، وقد ذكرها ابن الصلاح في علوم الحديث وطول الكلام فيها، وحكى القول بوجوب العمل بها عن الإمام الشافعي، وطائفة من نظار أصحابه في [أصول] الفقه.
قال ابن الصلاح رحمه الله: «وما قطع به هو الذي لا يتجه غيره في الأعصار المتأخرة، فإنه لو توقف العمل فيها على الرواية لانسد باب العمل [بالمنقول] لتعذر شرط الرواية فيها على ما تقدم في النوع الأول».
قلت: الذي تقدم في النوع الأول أنه لا يجوز للمتأخرين تصحيح الحديث إذا لم ينص أحد من المتقدمين على صحته لعدم خلو الإسناد في هذه الأعصار ممن يعتمد على كتابه من غير تمييز لما فيه، هذا كلام ابن الصلاح، وقد خالفه النووي، وزين الدين بن العراقي، ذكر ذلك زين الدين في «تبصرته» وقال: «هو الذي عليه عمل أهل الحديث، فقد صحح غير واحد من المعاصرين لابن الصلاح وبعده أحاديث لم نجد لمن تقدمهم فيها تصحيحا كأبي الحسن بن القطان والضياء المقدسي والزكي عبد العظيم، ومن بعدهم.
قلت: فالأولى ألا يحتج على جواز العمل بالوجادة بما ذكره ابن الصلاح، ألا ترى أن الشافعي جوز العمل بها مع أن زمانه كان زمان إمكان العمل بغيرها، بل سوف يأتي أن الصحابة رضي الله عنهم عملوا بها، والدليل على ذلك حديث عمرو بن حزم، وقد ذكر طرقه الحافظ ابن كثير في «إرشاده»، وقال بعد ذكر الاختلاف في بعض طرقه: «وعلى كل تقدير؛ فهذا الكتاب متداول بين أئمة الإسلام قديما وحديثا، يعتمدون عليه، ويفزعون في مهمات هذا الشأن إليه، كما قال يعقوب بن سفيان: «لا أعلم في جمع الكتب كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم؛ كان الصحابة والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم».
وصح عن ابن المسيب أن عمر ترك رأيه ورجع إليه. قال ابن كثير: «رواه الشافعي و[النسائي] بإسناد صحيح إلى ابن المسيب».
ونحن نبين للمعترض أنه غفل عن مذاهب أسلافه في هذا فنقول:
ممن أجاز هذا ونص عليه من الزيدية والمعتزلة الإمام المنصور في كتاب صفوة الاختيار في أصول الفقة، [و] ادعى إجماع الصحابة على ذلك لرجوعهم إلى كتاب عمرو بن حزم، وصرح أنهم عولوا على مجرد الخط لما غلب على ظنهم صحته.
قلت: ظاهر كلام الحافظين يعقوب بن سفيان وابن كثير: دعوى إجماع الصدر الأول على قبول حديث عمرو بن حزم، وذلك يقتضي دعوى الإجماع على جواز العمل بالوجادة كما ذكره المنصور.
ومنهم: الإمام يحيى بن حمزة، فإنه ذكر في المعيار جواز العمل بذلك مع ظن الصحة، قال: «وهو قول أبي يوسف ومحمد، واختاره ابن الخطيب الرازي».
ولكن الإمام يحيى قال: «يجوز العمل بذلك دون الرواية، لأن العمل إنما مستنده الظن».
وقال الإمام محمد بن المطهر في كتاب عقود العقيان: «إن ذلك جائز عنده وعند والده، وأنه مستند للعمل والرواية، وحكاه عن الإمام أحمد بن سليمان والمنصور بالله». قال: ذكره المنصور بالله في الصفوة وغيرها.
وقال المحسن بن كرامة المعتزلي المعروف بالحاكم في شرح العيون: «إنه قول الشافعي وأبي يوسف، ومحمد، وأكثر العلماء: فيما وجد بخطه في كتابه وعلم أنه سمعه على الجملة ولا يعلم أنه سمعه مفصلا؛ [فإنه يجوز أن يرويه]».
لكنه قال في الاحتجاج: «إن الصحابة كانوا يروون من الكتب من غير نكير، وكان بعضهم يعمل على كتاب بعض، وكان عمر يكتب إلى عماله وقضاته فيعملون بذلك، وكذلك كتب النبي ﷺ.
وروى الشيخ أبو الحسين في كتاب المعتمد عن الصحابة مثل ذلك، ذكره محتجا به على جواز مثله. وقال عبد الله بن زيد في الدرر المنظومة: «لا خلاف أنه متى عرف خطه أو خط أستاذه، وعلم أنه لا يكتب إلا ما سمعه قبلت روايته، وإنما اختلفوا إذا ظن أنه خطه أو خط أستاذه فمذهبنا أنه تقبل روايته، وهو مذهب طائفة من العلماء»، واحتج بعمل النبي ﷺ بذلك، وكذلك الصحابة.
وبهذا الوجه العاشر نجيب على من يجيز خلو الزمان من المجتهدين مع بقاء الأمة على الهدى، محتجا بأن طلب الاجتهاد -وإن كان فرض كفاية- فقد سقط عنهم بموت العلماء، فلا يكونون مجتمعين على ضلالة، وكيف يصح هذا العذر وقد استنبط الأوائل العربية و[الأصلين] من غير شيوخ، فالحال في هذه الفنون واحدة. بل هي اليوم أيسر قطعا، كيف لا وقد قطع النقاد أعمارهم في فنون كثيرة في تسهيل صعبها وإيضاح غامضها وجمع متفرقها؟ وقد أمكن استنباطها قبل ذلك، فكيف بعده؟ وأما علوم السماع فهي أسهل العلوم على مريدها، وإنما تسهلت وتمهدت في هذه الأعصار الأخيرة. 26
وإذا كانت الصحابة عملت بالوجادة -مع قرب عهدهم- واحتاجت إلى ذلك فيكف بنا؟ وأما قول قطب الدين الشيرازي في شرح مختصر المنتهى: إنه يمكن أن يجاب بمنع كون التفقه في الدين فرضا مع إمكان معرفة العوام أحكام الشرع بالنقل المظنون عن العلماء السابقين، فهو ضعيف جدا؛ لإمكان وقوع حادثة غير منصوصة لمن تقدم، ووجود من لا يستجيز ويرى الفتوى بأقوال المجتهدين ولإمكان وجود مكلفين لا يستجيزون تقليد الميت، ولأن حديث ابن عمرو الصحيح يقتضي أن أهل الزمان الخالي عن العلماء ضالون، المفتي منهم والمستفتي، ولا شك أن المفتي المقلد لا يسمى عالما، فدل هذا على أن التقليد لو كان يقوم مقام العلم ما استحق المفتي أن يسمى مضلا والمستفتي مضلا، وقد سماها بذلك في الحديث الصحيح. 27 والله سبحانه أعلم.
الوجه الحادي عشر: لو صح ما ذكره المعترض -والعياذ بالله- من انطماس معالم العلم وتعفي رسوم الهدى، إلا تقليد العلماء رضي الله تعالى عنهم، يلزم من ذلك أن يبطل الطريق إلى جواز التقليد، لأن تقليدهم لا يجوز إلا بعد معرفة الدليل، والدليل لا بد أن يكون مستندا إلى معرفة الكتاب والسنة. وهذا ظاهر على أصول المعتزلة والزيدية، فإنهم قد شحنوا مصنفاتهم بتحريم الإقدام على ما لا يؤمن قبحه.
وأما أهل السنة قد نقل ابن الحاجب في مختصر المنتهى و[شراحه] ما يقتضي ذلك، ولم يذكروا فيه خلافا، ذكره ابن الحاجب في بيان حد التقليد والمقلد؛ وإنما قلنا: إن ذلك يستلزم بطلان التقليد لأن أدلته من النص والإجماع مترتبة على ذلك.
وبيانه أن الاستدلال بقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}. يحتاج إلى معرفة أنها غير منسوخة ولا مخصصة ولا معارضة، ويحتاج إلى معرفة معنى الآية، فهذان أمران:
أحدهما: معرفة أن الآية غير منسوخة ولا معارضة ولا مخصصة، وهذا ينبني على أن هنا سنة صحيحة، يخصص بها، وينسخ بمتواترها أو بها على قول، وعلى أن إلى معرفة تلك السنة [طريقا] يمكن معها معرفة ذلك.
وثانيهما: معرفة معنى الآية، ولا بد فيه من النظر في قواعد العربية واللغة، إذ ليس معلوما بالضرورة، فاحتاج الناظر في معنى الآية إلى أن يكون من أهل الاجتهاد.
فإن قلت: إن دلالتها على جواز التقليد جلية لا تحتاج إلى اجتهاد.
قلت: ليس كذلك، فإن في معناها غموضا واختلافا، والذي يدل على ذلك أن السؤال من الأفعال التي تعدى إلى مفعولين، تارة بواسطة حرف الجر مثل: سألت العالم عن الدليل، وتارة بغير واسطة مثل: سألت الأمير مالا، وسألت العالم دليلا. إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا بد من مسئول ومسئول عنه، فالمسئول مذكور في الآية، وهم أهل الذكر، والمسئول عنه محذوف، والقول بأن المسئول عنه هو: أقوال المجتهدين، من هذه الأمة مجردة عن الأدلة هو [مما] لا يدل عليه دليل، وهذا المسئول عنه المحذوف يحتمل أنه الأدلة، ويحتمل أنه المذاهب من غير أدلة، وقد قال بعض العلماء: هو السؤال عما أنزل الله تعالى، لقوله تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} فلما أمر بسؤال أهل الذكر، كان المفهوم أنه أمرنا بسؤالهم عما أمرنا باتباعه مما أنزله علينا من الشرائع.
وهذه [الأقوال] كلها مخالفة للمفهوم على قواعد العربية، والمختار: أن المراد: السؤال عن الرسل هل كانوا بشرا؟ لأن ذلك هو المذكور في أول الآية، والعرف العربي يقضي بأن ذلك هو المراد، والقرائن تسوق الفهم إليه.
فإنه تعالى لما قال: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر}. كان السابق إلى الأفهام؛ فاسألوهم عن كوننا ما أرسلنا إلا رجالا، كما لو قال القائل: واجهت اليوم الخليفة، وسل وزراءه، كان المفهوم واسألهم عن كوني واجهته. وهذا الذي ذكرت أنه المحذوف هو الذي اختاره الزمخشري في كشافه، ولكن لم يذكر الوجه في ذلك لجلائه عنده.
والعجب أن الأصوليين استدلوا بهذه الآية على جواز التقليد من غير بيان لوجه الدلالة، ولا ذكر لهذا [الإشكال] مع جلائه.
فإن قيل: إنها وإن نزلت على هذا السبب لم تقصر عليه عند الجمهور، فلذا لم يتعرض الأصوليين لذلك.
قلنا: ليس هذا من ذاك، فإن ذلك إنما يقال فيما لفظه عام وسببه خاص، وهذه الآية لفظها غير ظاهر لما فيه من الحذف، ومعناها خاص غير عام، فظهر الفرق.
وأما الاستدلال بالإجماع على جواز التقليد؛ فلا يصح أيضا مع فرض عدم المعرفة بالكتاب والسنة، لأن الأدلة على كون الإجماع حجة إنما هي ظواهر تحتاج في معرفة معناها إلى ثبوت اللغة والعربية، وبعد ذلك لا بد من معرفة عدم الناسخ والمعارض والمخصص، والمعترض على أهل الحديث قد منع من معرفة اللغة، وجزم بتعذر معرفتها، ومعاني الكتاب والسنة المستنبط منها جواز التقليد، وكون الإجماع حجة مما يفتقر إلى ثبوت اللغة والعربية، فإذا بطل معرفة تفسير القرآن، وبطلت طريق معرفة الأخبار، بطل أيضا ما هو فرع ذلك وهو جواز التقليد، فيلزم الخصم أن يبطل التكليف تقليدا واجتهادا على مقتضى [إشكاله].
الوجه الثاني عشر: أنه لو صح ما توهمه من بطلان معرفة الكتاب والسنة، وتعذر الطريق إلى ذلك؛ لزم أن الله تعالى قد قبض العلم بقبض العلماء، وأنه لم يبق عالما، وأن الناس قد اتخذوا رءوسا جهالا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، كما ورد ذلك في حديث ابن عمرو الثابت في الصحيحين وغيرهما، وإنما يلزم ذلك من كلام هذا المعترض على طلبة علم الحديث؛ لأن من ليس بعالم بالكتاب والسنة لا يستحق أن يسمى في الشرع عالما، وإن عرف جميع العلوم ماعدا الكتاب والسنة، وهذا ظاهر لا نعلم فيه نزاعا فنطول بذكر الحجة عليه، وقد صح عن رسول الله ﷺ أنها لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال، وأجمع أهل العلم على ذلك وإن اختلفوا في معناه، فثبت أن ما جاء في حديث ابن عمرو لم يأت وقته إلى الآن، وإلا لزم مع وجود هذه الطائفة الظاهرين على الحق: أن الله تعالى لم يبق عالما، وأن أهل الفتوى قد ضلوا في أنفسهم، وأضلوا العامة السائلين لهم، وذلك يستلزم ضلال المسلمين كلهم، وألا تبقى فيهم طائفة ظاهرة على الحق.
وفي هذا القدر كفاية في الجواب على تنفيره عن طلب الحديث والتفسير، وتوعيره لطريق ذلك، والتشكيك في دخوله في حيز الإمكان، والتشويش على من أراده من أهل الإيمان.
ويلحق بهذا تنبيهات 28 حسنة تعلق بالجواب على سؤاله، لكنه يليق إفرادها عن الأجوبة، لأن بعضها من قبيل تعليم الأدب وبعضها مما يحتمل المنازعة في كونه جوابا مقنعا، وجدلا قامعا، أو خطابا خطابيا، أو تنبيها أدبيا.
التنبيه الأول: المراجعة في أن طلب الحديث متيسر أو متعسر من الأساليب المبتدعة والأمور المتعسفة؛ لأن مقادير التسهل والتعسر غير منضبطة بحد، ولا واقفة على مقدار، ولا جارية على قياس، ولا يصح في [معرفة] مقاديرها برهان العقل، ولا نص الشرع ولا تعرف مقاديرها بكيل ولا وزن ولا مساحة ولا خرص، فإن من قال: إن طلب الحديث أو أن حفظ القرآن أو الفقه متيسر عليه أو متعسر، لم يعقد له مجلس المناظرة كما يعقد للمخالفين في العقائد، لأن الذي ادعاه أمر ممكن وهو يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.
وطلب العلم متسهل على ذكي القلب، صادق الرغبة، خلي البال من الأشغال، واجد الكتب المفيدة، والشيوخ المبرزين، والكفاية فيما يحتاج إليه، ونحو ذلك، وطلب العلم متعسر على من فقد هذه الأمور كلها، وبينهما في التسهل والتعسر درجات غير منحصرة ومراتب غير منضبطة، وبين الناس من التفاوت ما لا يمكن ضبطه ولا يتهيأ، وأين الثريا من الثرى؟
وجامد الطبع بليد الذهن، إذا سمع [من] يدعي سهولة ارتجال القصائد والخطب، وتحبير الرسائل والكتب؛ توهم أنه بمنزلة من يدعي إحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص، وكذلك الجبان الفشل إذا سمع [من] يدعي سهولة مقارعة الأقران ومنازلة الشجعان.
وكم عاصر أئمة العلم والنحاة والنظار وحفاظ الحديث من طالب للعلم مجتهد في تحصيله؛ فلم يبلغ مبلغهم ولا قارب شأوهم، وإنما تميز عن الأقران أفراد من الخلق، وخواص منحهم الله الفهم والفطنة وآتاهم الفقه والحكمة. وقد وقع التفاضل بين الصحابة رضي الله عنهم: فكان علي رضي الله عنه أقضاهم، ومعاذ أفقههم، وأبي أقرأهم، وأبو هريرة أحفظهم، والخلفاء أفضلهم، وزيد أفرضهم. بل قد فاضل الله تعالى بين الأنبياء عليهم السلام قال الله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} وقال تعالى: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما}، فهذا تفضيل في الفهم بين داود وسليمان عليهما السلام مع الاشتراك في النبوة، والتقارب ما بين الأبوة والبنوة. وكذلك قد فاضل الله بينهم فيما هو دون هذه المرتبة، وذلك في البيان والفصاحة وضوح العبارة، مثل ما نص الله عليه من إيتاء داود فصل الخطاب، ومثل قوله تعالى في الحكاية لقول موسى في أخيه عليهما السلام: {هو أفصح مني لسانا}.
وعموم التفاوت الذي يدور عليه وميزانه الذي يعتبر به في أغلب الأحوال هو التفاوت في صحة الفهم وصفاء الذهن واعتدال المزاج وسلامة الذوق ورجحان العقل واستعمال الإنصاف، فهذه الأشياء هي مبادئ المعارف ومباني الفضائل، ولأجلها يكون الرجل غنيا من غير مال، وعزيزا من غير عشيرة، ومهيبا من غير سلطان، إلى غير ذلك من الصفات الحميدة والنعون الجميلة، ومن ههنا حصل التفاوت الزائد، حتى عد ألف بواحد. ومما أنشدو في ذلك:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا ** لدى المجد حتى عد ألف بواحد
وقال ابن دريد في المعنى:
والناس ألف منهم كواحد ** وواحد كالألف إن أمر عنى
وأنشدوا في المعنى:
يا بني البعد في الطباع ** [لا] مع القرب في الصور
وفي الأخبار: «الناس كإبل مائة، لا تجد فيها راحلة».
وفي الأمثال العربية: «المرء بأصغريه».
بل في الحديث الصحيح عن رسول الله ﷺ: «رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».
وليس كل من حفظ الحديث كان كالبخاري، ولا كل من تفقه في الدين كان مثل الشافعي، ولا كل من قرأ النحو والمعاني صنف مثل الكشاف، ولا كل من درس الأصول والجدل ركب بحر الدقائق الرجاف.
وما كل دار أقفرت دار عزة ** ولا كل بيضاء الترائب زينب
فإذا نظرت إلى 29 المواهب الربانية لا تنتهي إلى حد، والعطايا اللدنية لا تقف على مقدار، لم يحسن من العاقل أن يقطع على الخلق بتعسير ما الله قادر على تيسيره، فيقنط بكلامه طامعا، ويتحجر من فضل الله واسعا، بل يخلي بين الناس وبين هممهم وطمعهم في فضل الله عليهم، حتى يصل كل أحد إلى ما قسمه الله تعالى له من الحظ في الفهم والعلم وسائر أعمال الخير، وهذا مما لا يفتقر إلى حجاج، لولا أهل المراء واللجاج. 30
التنبيه الثاني: التعرض لذكر المشاق التي في طلب العلم والحج والجهاد وسائر أعمال البر على سبيل التوعير لمسالكها، والإحالة لبلوغ مراتبها عكس ما جاءت به الشرائع، ودعت إليه الأنبياء عليهم السلام وكان عليه الأئمة والعلماء والوعاظ، وإنما السنة تيسير الأمور على من عسرت عليه، وتذكير القلوب الغافلة، وتنشيط النفوس الفاترة، ولهذا شرعت الخطب، وصنف الوعاظ أحاديث الرقائق، لتسهيل ما يصعب على النفوس وتقريب ما تباعد على أهل القصور.
وقد تكاثرت الأحاديث النبوية في الحث على ذلك، وكان عليه السلام إذا بعث سرية يقول لهم: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا». فالمعترض على أهل الحديث، المعسر لمعرفته، الموعر لطريقه، مرتق لمرتبة الفتيا، منتصب في منصب التعليم متمكن في مكان الدعاء إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، فما [باله] يعكس السنن، ويستن من البدعة في كل سنن؟ نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، ويعلمنا ما ينفعنا، ويوفقنا للاقتداء بسيدنا رسول الله محمد ﷺ.
التنبيه الثالث: فرع من فروع الشجرة النبوية على صاحبها السلام، ونشء من أهل بيته الكرام، تشوف إلى مرتبة العلم، وتشوق إلى التشبه بأهل الفضل، ورغب في اتباع سنة جده ﷺ، فلما شمتم بارقة جهده صيبة، و[شممتم] رائحة سعيه طيبة، وتوسمتم فيه للفائدة سمات، وتوهمتم أنه قارب وهيهات، تواترت عليه الرسائل، وتواردت عليه الدلائل، تفتره عن عمله، وتقنطه من أمله. من قد سبقكم إلى هذا من الخلفاء الراشدين والعلماء الهادين.
وإنما بلغنا أن أهل العلم يحبون من علت همته وظهرت فطنته، ويرغبونه بأنواع الترغيب، ويجعلون التصويب له مكان التثريب، فعكستم السنة بالتنفير عن الحديث، وخالفتم العادات القديم منها والحديث.
وإلى ههنا انتهى الجواب عن الجملة المتقدمة من كلامه، وهي الوجه الأول في إبطال الطريق إلى معرفة الحديث بتعذر الإسناد الصحيح منا إلى المصنفين من المحدثين، ويتعلق بتفاصيلها بحثان:
المبحث الأول: قال وفقه الله: «وذكر هذا كثير من العلماء -يعني تعسر معرفة الحديث- ومنهم الغزالي والرازي».
والجواب عليه: أنه قصد الاستئناس بكلام العلماء بإظهار الموافقة لهم، فهيهات! فإنه لا يوافقه على صرف الهمم عن طلب الحديث عالم، ومقصد من أشار إليه من العلماء الذين منهم الغزالي والرازي غير مقصد المعترض، فإنهم قصدوا سقوط البحث عن رجال الأسانيد في الأعصار الأخيرة كما أشار إليه ابن الصلاح، وخالفه النووي وغير واحد ممن تقدم ذكره، وهم مع ذلك مقرون ببقاء طريق المعرفة للحديث، والتعبد به علما وعملا.
والمعترض قصد تحريم العمل بالأخبار والمنع من التمسك بالسنن والآثار، وكلامهم عليه لا له، مع أن المعترض قد ناقض روايته هذه عن الغزالي بقوله بعد هذا: إن الغزالي قال: يكتفى بتعديل أئمة الحديث، فإنه أورد كلام الغزالي الآتي إشكالا على كلامه الأول الذي نسبه إلى الغزالي.
المبحث الثاني: ما قصدك بحكاية ما ذهبت إليه عن جماعة كثيرة من العلماء؟ إن أردت أنه حجة؛ فليس يخفى عليك فساد ذلك، وإن لم ترد أنه حجة؛ فقد أوردت الدعوى من غير دليل، وادعيت الحق من غير برهان، وهذا ما لا يعجز عنه مبطل.
قال: الثاني: 31 أن أولئك المعدلين معلومون بمثل هذا، ومجهولة براءتهم منه -يعني الجبر والتشبيه والإرجاء-.
أقول: إما أن يسند القول بهذه البدع إلى جميع معدلي حملة العلم النبوي أو إلى بعضهم؛ الأول: ممنوع، وبطلانه معلوم بالضرورة، ومدعيه لا يستحق المناظرة. والثاني: مسلم، ولا يضر تسليمه لوجهين:
أحدهما: أن نقول لهذا المعترض: هل بقي عندك حديث صحيح يمكن معرفته؟ فدلنا عليه واهدنا إليه، فإنما غرضنا اتباع السنة المروية عن الثقات بطريق صحيحة، وليس غرضنا مقصورا على ما في بعض الكتب، ولا على ما روى بعض الثقات. وإن كان المعترض يدعي تعذر معرفة السنة وانطماس معالم العلم كما مر في كلامه، فقد بينا الجواب عن ذلك فيما مضى، وبينا أن هذا إشكال على أهل الإسلام لا على حفاظ حديث النبي ﷺ.
وثانيهما: أن الثقات من أهل هذه البدع مقبولون في مذهب المورد للاعتراض، ومذهب المعترض عليه.
أما المورد للاعتراض؛ فسوف نبين عند الكلام على هذه المسألة نصوص أئمة مذهبه على القطع بأن قبولهم مجمع عليه من السلف، وأن أحدا منهم ما اعترض على من استجاز ذلك من الخلف.
وأما المعترض في نفسه فلا مذهب له ولا اختيار، لأن المسألة خلافية ظنية اجتهادية كما سيأتي، وقد نص على تعذر الاجتهاد في العلم، فثبت أنه لا مذهب إلا ما ذهب إليه أسلافه على مقتضى رسالته هذه. وأما أن قبولهم مذهب المعترض عليه؛ فلأنه روى ذلك عن نفسه، وكل راو عن نفسه فهو مصدق لها وعليها، ومع هذا كيف يصح هذا الإشكال، وعلى من يرد؟ وسوف يأتي في مسألة المتأولين، والكلام على قبولهم وردهم، وذكر أدلة الفريقين، ونقض كلام المعترض، ما يكفي ويشفي، فقد استوعبت الكلام في هذه المسألة، وبلغت في تحقيقه ما لم أسبق إليه، لله الحمد والمنة على ذلك.
وأقصى ما في الباب أن يتعذر الإسناد على شرط أهل [الصحيح]، فأين عقل المعترض عن مذاهب أسلافه، ومذهب المالكية في قبول المرسل؟ وما الذي يمنع طالب الحديث من القول بجوازه؟ وقد تقدمت الإشارة إلى الحجة عليه وصحة الإسناد إليه ولكن لا ضرورة تلجئ إلى ذلك ولله الحمد.
قال: الثالث: أن اتصال الرواية بكتب الجرح والتعديل متعسرة أو متعذرة على وجه العدالة الصحيحة.
أقول: المعترض -وفقه الله- متحير متردد، أهذه الأمور متعسرة أو متعذرة؟ فهو لا يزال يكرر الشك في ذلك، والشاك في تعذر أمر أو إمكانه، لا يصلح منه أن يعترض على من ادعى إمكان ذلك الأمر حتى يزول ما عنده من الشك في إمكانه، ويحصل له عنده علم يقين أنه غير ممكن، فإن قطع المعترض بتعذر ذلك سقط التكليف به، لأن التكليف لا يتعلق بما لا يطاق.
والعجب منه أنه خص كتب الجرح والتعديل بالتعذر أو التعسر! وهذا من قبيل القياس على مجرد الوجود، فإنه لما عسر ذلك عليه، وخرج من يديه، لبعده عن علماء هذا العلم الشريف، ظن أن ذلك لأمر يرجع إلى ذات الفن، فليحط علما أصلحه الله: أن تعسر سماع كتب الجرح والتعديل عليه عرضي لا ذاتي، فإن طلبة الحديث النبوي يحافظون على سماع كتبه، وشيوخها موجودون اليوم في جميع الأمصار الكبار من المملكة الإسلامية حرسها الله، فإن كنت محبا في العلم؛ فاطلبه حيث كان، وارحل في تحصيله وإن بعد المكان، ولا تقعد متكئا على أريكتك تقول: لا أعرف طريقا إلى حديث رسول الله ﷺ، ولا إلى تفسير كتاب الله عز وجل.
ولقد زدت على من ذم رسول الله ﷺ من المبتدعة الذين يقولون: لا نعرف إلا كتاب الله، فكيف من أنكر معرفة كتاب الله مع معرفة سنة رسول الله؟ نعوذ بالله. مع أن معرفة كتب الجرح والتعديل غير مشترطة فيما نص [على صحته] إمام مشهور بالحفظ والأمانة حتى يعارضه قول من هو أرجح منه أو مثله على ما هو مذكور في مواضعه، وإنما يحتاج إليها في معرفة كثير من أحاديث المسانيد التي لم يصحح مصنفوها كل ما رووا فيها، وقد جمع الحفاظ ما يحتاج إلى معرفته من أحاديث الأحكام والعقائد والقواعد، وتكلموا عليها، وكفوا المؤونة، فجزاهم الله عن المسلمين أفضل ما جزى المحسنين.
وكذلك من لم يقدح في حديث بالإرسال لم يرد عليه هذا الإشكال، وقد اشتمل الكلام هذا على رد كلامه في هذا الفصل بأربعة وجوه لم أتأملها إلا بعد سردها غير مفصلة فتأمله.
قال: الرابع: أن تعديل هؤلاء الأئمة من بينهم وبين الرسول إنما يقع على سبيل الإجمال غالبا، والتعديل الإجمالي إنما يصح من موافق في المذهب بعد كونه عارفا بوجوه الجرح والتعديل عدلا مرضيا، وقيل: لا يصح وإن كان المعدل كذلك بل لا بد من التفصيل، وقيل يصح الإجمال مطلقا وهو ضعيف.
أقول: ما أدري ما حمل المعترض على تجريد حكاية المذاهب في هذه المسألة، ودعوى التصحيح والتضعيف [المجردة] عن الأدلة، وهو يعلم ما في ذلك من الشين عند أهل هذا الشأن، وإنما يجب الإيمان بكلام الله تعالى وكلام رسوله ﷺ، فلو أنا عاملناه بمثل كلامه لسهل الجواب عليه بمجرد نسبة القول الضعيف إليه، فمجرد الدعوى لا يعجز عنها أحد، ولكن لا بد من الإشارة إلى الدليل على قوة ما ضعفه على سبيل الاختصار، فأقول: الجواب على ما ذكره من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه مسألة خلاف بين الأصوليين وبين المحدثين، فحكى فيها خمسة أقوال لأهل العلم: منهم من قبل الإطلاق في الجرح والتعديل معا، ومنهم من منعه فيهما معا، ومنهم: من فصل، واختلفوا على ثلاثة أقوال: منهم من قبل الأجمال في التعديل دون الجرح وهو اختيار الشافعي وجماعة، ومنهم من عكس هذا، وقال بعضهم: إن كان الجارح أو المعدل من أهل العلم قبل، وإلا لم يقبل، وأفاد صاحب الرسالة قولا سادسا وهو إن كان موافقا في الاعتقاد وكان من أهل العلم قبل وإلا لم يقبل. فإذا ثبت هذا الاختلاف الكبير في هذه المسألة؛ فلا معنى للإنكار على من ذهب إلى أحد هذه الأقوال، إذ ليس فيها ما يخالف الإجماع القطعي، بل ولا الظني، ولا ما يخالف النص المتواتر المعلوم معناه، بل ولا الآحادي المظنون معناه، فالتشعيب على طلبة علم السنة بذكر ذلك من جملة مبتدعات المعترض في [رسالته]، فإنه ابتكر فيها من منكرات الأساليب، وتعسفات أهل اللجاج، ما لم يسبقه إليه مبتدع، ولا سيما وقد أنكر المعترض في هذه المسألة القول المشهور، المعمول عليه عند الجمهور.
الوجه الثاني: وهو المعتمد في الجواب، وذلك أن المختار الصحيح الذي قامت عليه الأدلة، ومضى عليه عمل السلف والخلف هو: الاكتفاء في التعديل بالإطلاق، والدليل عليه وجوه:
أولها: أنا متى فرضنا أن المعدل ثقة مأمون، وأخبرنا خبرا جازما بعدالة رجل آخر فإنه يجب قبول قوله، لأنه خبر ثقة معروف بالعدالة، فوجب قبوله كسائر أخبار الثقات.
وثانيها: إما أن يترجح صدقه أو لا، إن لم يترجح لم يقبل، لكن هذا الفرض لا يقع إلا لعلة، وكلامنا في توثيقه إذا لم يكن معلوما بما يدل على وهمه، أو معارضا بأقوى منه، وإن ترجح صدقه وجب قبوله، وإلا لزم المساواة بين الراجح والمرجوح، وهو قبيح اتفاقا.
وثالثها: إن رد قوله تهمة له بالكذب والخيانة، أو بالتقصير والإقدام على ما لم يتقن حفظه، والفرض أنه عدل مأمون، وتهمة العدل المأمون بغير موجب محرمة، وما استلزم المحرم لا يكون مشروعا.
ورابعها: أن الله تعالى إنما اشترط في الشاهد أن يكون ذا عدل، وكذلك الراوي، مع أنه أصل، والمعدل له فرع، والفرع لا يكون أعظم من أصله، ولا آكد، فكما أن العدل في الشهادة والرواية لا يجب عليه التفصيل فيما يحتمله؛ فكذلك العدل لا يجب عليه ذلك في التعديل.
فإن قلت: وكيف يحتمل التفصيل في الشهادة والرواية؟
قلت: أما الشهادة فإذا شهد بالمال لزيد سئل عن سبب اعتقاده لملك زيد للمال، فربما استند اعتقاده لذلك إلى ما لا يدل على الملك من: خبر ثقة، أو بيع باطل، أو غير ذلك، وهذا يجوز على الشاهد الثقة إذا لم يكن فقيها، ولا مخالطا لأهل الفقه مخالطة كثيرة.
وأما الرواية فقد يجوز في راوي الحديث أنه رواه باللفظ أو بالمعنى، وقد يجوز فيمن روى بالمعنى أن يعتقد أنه روى بالمعنى مع الخطأ الذي يدق على كثير، ونحو ذلك مما يدل على قبول الثقة من غير تفصيل وإن احتمل التفصيل.
ومما يزيد ذلك وضوحا: أن كل دليل دل على وجوب قبول أقوال العدول بمجرد عدالتهم؛ فهو بعمومه يدل على قبولهم على الإطلاق، ويدخل في ذلك قبولهم في التعديل.
وخامسها: -وهو المعتمد- أن اشتراط التفصيل في التعديل يودي إلى ذكر اجتناب المعدل لجميع المحرمات، وتأديته لجميع الواجبات، على حسب مذهب المعدل في تفسير العدالة، فإن كان ممن يتشدد ذكر ذلك كله، وإن كان ممن يترخص ذكر اجتنابه لجميع الكبائر معددا لها، ولجميع معاصي الأدنياء الدالة على الخسة وقلة المبالاة بالدين، وذكر أداءه لجميع الواجبات التي يدل تركها على الجرح.
ومعلوم أن التعديل بهذه الصفة لم يكن قط، لا من معدلي حملة العلم، ولا من معدلي الشهود في الحقوق، فإن تعديد هذه الأشياء مما يفوت ذهن المعدل، ولو سئل ذلك ما استحضره، فإنه يحتاج إلى تأمل كثير، وجمع وتأليف، وقد عددت من ذلك في الأصل شيئا كثيرا فبلغ إلى بطلان عدالة العدول ويترتب على ذلك من المفاسد الدينية ما لا يقول به منصف.
فإن قيل: أقل من ذلك التفصيل يكفي، قلنا: إن كفى الإجمال في صورة ما، كفى قوله: ثقة، وإن لم يكف وجب ذلك التفصيل، فأما أن الإجمال يجوز في موضع دون موضع فهذا تحكم.
فإن قيل: إنما يشترط التفصيل من الفاسق والكافر المتأولين لأنه لا يؤمن أن يعدلا من يعتقد اعتقادهما، وهو غير عدل عند من لم يقبل المتأولين، وإنما أشار إلى هذا صاحب الرسالة.
فالجواب: أن لا معنى لهذا، لأن من يقبله فهو يقبله، [و] يقبل من عدله من المبتدعة، ومن لا يقبله فإنه لا يقبله. وإن فصل في التعديل؛ فالخلاف إنما هو في قبوله لا في قبول ما أطلقه من تعديله، وأما من لا يقبل بعض المبتدعة ويقبل بعضهم فإنه يشكل عليه تعديل المبتدع المقبول.
مثاله: مبتدع غير داعية عدل عند بعض أهل مذهبه، فيحتمل أن المعدل داعية إلى مذهبه، فإذا اتفق هذا ففيه احتمالان:
أحدهما: أن يقبل تعديل غير الداعية حتى يثبت أن المعدل داعية، لأن الأصل أنه غير داعية، وقد ورد التمسك بالأصل في الشريعة في يومي الشك وغير ذلك، وهو ظاهر إطلاق أهل القول بقبول التعديل الإجمالي.
وثانيهما: أن يقبل في عدالة من عدله في جميع الأمور إلا في كونه داعية فيبحث عن ذلك حتى يظن عدمه، ويؤخذ بتعديل المبتدع المقبول فيما عدا ذلك من شرائط العدالة والله أعلم.
وأما الجرح: فالقول باشتراط التعيين فيه أقرب، لأن الجارح إذا قال: فلان ليس ثقة، لأنه يشرب الخمر، أو غير ذلك كفى ذلك، ولم يلزمه تعديد جميع المعاصي فظهر الفرق.
قال: الخامس: أن هؤلاء الأئمة في الحديث يرون عدالة الصحابة جميعا، ويرى أكثرهم أن الصحابي من رأى النبي ﷺ مؤمنا به وإن لم تطل ولم يلزم، وهذان المذهبان باطلان، وببطلانهما يبطل كثير من الأخبار المخرجة في الصحاح. أما المذهب الأول: فلأن من حارب عليا عليه السلام مروح، ومن قعد عن نصرته كذلك، لأن النبي ﷺ قد قال: «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» وقال: «لا يبغضك إلا منافق شقي» وأقل أحوال هذا ألا تقبل روايته. وأما الثاني: فيلزمهم أن يكون الأعرابي الذي بال في مسجد رسول الله ﷺ عدلا بتعديل الله، ولا يحتاج إلى تعديل أحد، وكذلك كثير من رواتهم الذين هم من أعراب، أو يفدون عليه مرة واحدة كما جاء في حديث وفد تميم وأنزل الله تعالى فيه: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}، وكحديث وفد عبد القيس.
أقول: اشتمل كلامه في هذا الوجه على مسائل:
المسألة الأولى: القدح على المحدثين بقبول المجهول من الصحابة رضي الله عنهم، وقولهم: [إن] الجميع عدول بتعديل الله، والجواب عليه من وجوه:
الوجه الأول: أن الذاهب إلى هذا المذهب لا يستحق الإنكار؛ لأن هذا المذهب إن لم يكن هو الحق دون غيره؛ فلا أقل من أن يكون غير محرم ولا منكر، لأنه لا دليل قاطع على تحريمه، ومن ادعى شيئا من ذلك فليدل عليه.
والعجب من المعترض أنه خص المحدثين بهذا المذهب، وهو مذهب أكثر أهل الإسلام من المحدثين والفقهاء وغيرهم، بل هو مروي عن أصحاب رسول الله ﷺ، وهو مذهب مشهور مستفيض حتى في مذهب المعتزلة والزيدية.
أما المعتزلة: فرواه ابن الحاجب عنهم الجميع، لفظه: «قالت المعتزلة: الصحابة عدول إلا من حارب عليا». وذكروه أيضا في كتبهم، فممن ذكره منهم عالمهم وإمامهم بغير منازعة الشيخ أبو الحسن البصري في المعتمد، فإنه قال فيه ما لفظه: «واعلم أنه إذا ثبت اعتبار العدالة وغيرها من الشروط التي ذكرناها، وجب إن كان لها ظاهر أن يعتمد، وإلا لزم اختبارها، ولا شبهة أن في بعض الأزمان كزمن النبي ﷺ قد كانت العدالة منوطة بالإسلام، فكان الظاهر من المسلم كونه عدلا، ولهذا اقتصر النبي ﷺ في قبول خبر الأعرابي عن رؤية الهلال على ظاهر إسلامه، واقتصرت الصحابة على إسلام من كان يروي الأخبار من الأعراب».
وقال الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي في شرح العيون له ما لفظه: «إن أحوال المسلمين كانت أيام رسول الله ﷺ معلومة، وكانت مستقيمة مستغنية عن اعتبارها».
وأما الزيدية: فقد ثبت عن كثير منهم ما يدل على ذلك كما سنذكره، من ذلك قول الإمام الكبير المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان رضي الله عنه، فإنه قال في الرسالة الإمامية في الجواب على المسائل التهامية ما لفظه: «فأما ما ذكره المتكلم حاكيا عنا من تضعيف آراء الصحابة، فعندنا أنهم أشرف قدرا، وأعلى أمرا، وأرفع ذكرا من أن تكون آراؤهم ضعيفة، أو موازينهم في الشرف والدين خفيفة. فلو كان ذلك، لما اتبعوا رسول الله ﷺ، ومالوا عن إلف دين الآباء والأتراب و[القرباء] إلى أمر لم يسبق لهم به أنس، ولم يسمع له ذكر، شاق على القلوب، ثقيل على النفوس فهم خير الناس على عهد رسول الله ﷺ وبعده، فرضي الله عنهم، وجزاهم عن الإسلام خيرا» إلى قوله: «فهذا مذهبنا لم نخرجه غلطة، ولم نكتم سواه تقية. وكيف وموجبها زائل! ومن هو دوننا مكانة وقدرة يسب ويلعن، ويذم ويطعن، ونحن إلى الله سبحانه من فعله براء، وهذا ما يقضي به علم آبائنا منا إلى علي عليه السلام» إلى قوله: «وفي هذه الجهة من يرى محض الولاء بسب الصحابة رضي الله عنهم والبراءة منهم فتبرأ من رسول الله ﷺ من حيث لا يعلم.
إذا كنت لا أرمي وترمي كنانتي ** تصب جانحات النبل كشحي ومنكبي
انتهى ما أردنا نقله من كلام المنصور بالله وما فيه من نسبة مذهبه هذا إلى جميع آبائه رضي الله عنهم.
وفي كلامات المؤيد بالله يحيى بن حمزة رضي الله عنه في الذب عن الصحابة والثناء عليهم، ما هو أكثر من هذا، ولكن لم يحضرني تأليفه فأنقل ألفاظه في ذلك، وقد أفرد الكلام في ذلك وجوده في كتابه التحقيق وانتصر للذب عن الصحابة غاية الانتصار، وذكر مثل ذلك في كتابيه الشامل والانتصار.
وأما المنصور بالله فله في ذلك كلامات مختلفة، في أماكن من كتبه متفرقة. من ذلك كلامه في كتاب هداية المسترشدين، واحتجاجه بتأمير النبي ﷺ لعتاب بن أسيد ثاني يوم من إسلامه واكتفاؤه في أمره بمجرد الإسلام.
وفي الاستيعاب وغيره أنه أسلم يوم الفتح، وولاه النبي ﷺ حين خرج إلى حنين.
وفي الاحتجاج على العدالة بالولاية نظر، لكن المنصور بالله ذكر أنه ولاه على القضاء فيما حكى لي بعض أهل العلم. فعلى الجملة؛ فغرضنا حاصل بكلام المنصور، فإن القصد الاستشهاد به على ذهاب المنصور بالله إلى عدالة مجهول الصحابة، وفي هذا الاحتجاج ما يؤخذ له منه عدالة الصحابة كلهم رضي الله عنهم على أنه قد ثبت في كلام غير واحد من الزيدية: أنه يقبل المجهول من جميع المسلمين؛ الصحابة وغيرهم. كما قدمنا ذلك من كلام عبد الله بن زيد، والمنصور بالله، وأبي طالب، فخذه من مكانه المقدم. وذلك أيضا مشهور عن الحنفية وغيرهم. فمع هذا ما سبب إنكار هذا المعترض على المحدثين، وتخصيصهم برد هذا المذهب من بين سائر طوائف المسلمين؟ وهل هذا إلا محض الجهل أو التجاهل، وصريح التعنت والتحامل؟ والله المستعان.
الوجه الثاني: أن الشيخ أبا الحسن روى في المعتمد عن الصحابة أنهم اقتصروا على إسلام من كان يروي الأخبار من الأعراب، وهذا يفيد إجماع الصحابة على ذلك. والمعترض يعتقد عدالة الصحابة، وقبول خبره، وقد كان الرجل، على ما ذهب إليه، من أهل الديانة والأمانة، يعترف له بذلك أهل المعرفة بعلم الرجال من المحدثين كما ذكره الذهبي، وإنما الذي قدحوا به عليه كونه كان رأسا في الاعتزال داعية إلى القول به، وذلك كثير في الرواة الثقات المتفق على إخراج حديثهم في الصحيحين، وغيرهما كقتادة وغيره. وإذا ثبت ذلك؛ فكيف ينكر المعترض على المحدثين، مذهبا قد روى الثقة عنده أنه قول الصحابة، بل الذي روى أوسع من مذهب المحدثين فإنهم اقتصروا على قبول من رأى النبي ﷺ، وأبو الحسين روى قبول الصحابة لمن أسلم من الأعراب من غير تقييد لذلك برؤية النبي ﷺ.
وقال النواوي رضي الله عنه: إنه قول من يعتبر به من الأمة أو كما قال، ذكره في شرح مسلم وهذه العبارة تفيد دعوى الإجماع. وقد روى الحفاظ من فرسان علم الأثر ما يدل على كلام الشيخ أبي الحسين.
فمن ذلك: ما روى معمر البصري عن أبي العوام البصري قال: كتب عمر إلى موسى -وساق كتابه الطويل في القضاء- وفيه من كلام عمر رضي الله عنه: «والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشهادات، إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه شهادة الزور، أو ظنينا في ولاء أو دية. فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان» وساق بقية كتابه، رواه البيهقي هكذا، ثم قال: «وهذا [كتاب] معروف مشهور». وفيه ما يدل على مذهب المحدثين، وأن مذهبهم هذا مشهور في السلف والخلف.
وفي حديث شقيق [ابن سلمة] عن كتاب عمر رضي الله عنه: «لا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان [أنهما] أهلاه بالأمس» رواه الدارقطني والبيهقي، قال: «وهو أثر صحيح» ذكره ابن النحوي في البدر المنير والخلاصة. 32
ومن ذلك أثر علي رضي الله عنه وفيه: أنه كان يستحلف بعض الرواة [إذا اتهمه]، فإن حلف صدقه. وقد روى ذلك عنه من الزيدية الإمام المنصور محتجا به، وكذلك رواه الإمام أبو طالب وهو أيضا معروف عند حفاظ الحديث، رواه أبو عبد الله الذهبي في تذكرة الحفاظ وقال: «وهو حديث حسن». 33
وهو يدل على مثل مذهب المحدثين، لأن التهمة والتحليف لا يكون للمخبورين المأمونين. وإنما يكون لمن يجهل حاله فيقوى الظن بيمينه.
فإن قيل: هذا يدل على خلاف مذهب المحدثين، لأن المفهوم منه أنه لو لم يحلف له الراوي ما قبله.
والجواب: أن ذلك عير صحيح لوجهين:
أحدهما: أن المحدثين إنما يقولون بذلك في الصحابة الذين رأوا رسول الله ﷺ، وليس يعلم أن هذا منهم لجواز أن يكون من الأعراب.
وثانيهما: أنهم لا يقولون: [إنه] لا يجوز الوهم على الصحابي، إنما قالوا: إنه ثقة، والوهم جائز على الثقة، وعلي رضي الله عنه لم يتهم الراوي بتعمد الكذب؛ لأنه لو اتهمه بذلك لاتهمه بالفجور باليمين، ولم يصدقه إذا حلف، وإنما اتهمه بالتساهل في الرواية بالظن الغالب، فمع يمينه قوي ظنه بأنه متقن لما رواه حفظا. ومع امتناعه من اليمين يعرف أنه غير متقن ولا مستيقن، فتكون هذه علة في قبول حديثه.
ولا شك أن حديث الثقة قد يكون معلولا بأمر يوجب الوقف، ولهذا توقف النبي ﷺ في قبول حديث ذي اليدين حتى سأل، وتوقف عمر رضي الله عنه في قبول حديث فاطمة بنت قيس، وذلك مقرر في مواضعه من الأصول.
الوجه الثالث: أن الأدلة قد دلت على ما ذهب إليه أهل الحديث وغيرهم من قبول الصحابة رضي الله عنهم المعروف منهم بالعدالة والمجهول حاله. والأدلة على ذلك من الكتاب، والسنة، والنظر كثيرة، نذكر طرفا يسيرا [منها]:
أما الكتاب؛ فمثل قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}.
وأما السنة؛ ففي ذلك آثار كثيرة، نذكر منها نبذة يسيرة:
الأثر الأول: ما روى ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ قام فيهم فقال: «أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد»، الحديث رواه أحمد والترمذي. وقد رواه عن شعبة أبو داود الطيالسي، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر ابن سمرة، عن عمر، وله طرق أخر، وهو حديث مشهور جيد، قال ذلك الحافظ ابن كثير في إرشاده.
قلت: وفيه ما يدل على أنه أراد بأصحابه أهل زمانه، يفهم من قوله: «ثم الذين يلونهم»، فإنه جعل أهل زمانه طبقة، ثم الذين يلونهم، فلم يكن ليخرج من لم يره ممن أدرك زمانه، مع دخول من لم يره من التابعين الذين لم يدركوا زمانه.
الأثر الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال: إني رأيت الهلال -يعني رمضان- فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟» قال: نعم. فقال: «يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا» رواه أهل السنن، وابن حبان صاحب الصحيح والحاكم أبو عبد الله وقال: «حديث حسن صحيح».
وذكره الحاكم أبو سعد في شرح العيون واحتج به أبو الحسين في المعتمد واحتج به: عبد الله بن زيد العنسي.
الأثر الثالث: حديث أبي محذورة فإن رسول الله ﷺ علمه الأذان عقيب إسلامه، واتخذه مؤذنا من ذلك الوقت، وذلك يدل على عدالته من قبل الخبرة؛ لأن العدالة معتبرة في المؤذن [إذ] هو مخبر بدخول وقت الصلاة معتمد عليه في تأدية الفرائض وإجزائها.
الأثر الرابع: وهو أثر صحيح، ثابت في دواوين الإسلام، بل معلوم، متواتر النقل، وهو حجة قوية، وذلك: أن رسول الله ﷺ أرسل إلى اليمن عليا ومعاذا رضي الله عنهما، واليين قاضيين ومفتيين، ولا شك أن القضاء بين الناس، متركب على عدالة الشهود، ومعرفة الحاكم عدالتهم أو عدالة معدليهم، وهما غريبان في أرض اليمن، لا يعرفان عدالتهم، ولا يخبران أحوالهم، وهم لا يجدون شهودا على ما يجري بينهم من الخصومات إلا منهم، فلولا أن الظاهر العدالة في أهل الإسلام ذلك الزمان؛ وإلا لما كان إلى حكمهما بين أهل اليمن على الإطلاق سبيل.
وهذا يدل على عدالة أهل الإسلام ذلك الزمان، لا على عدالة من صحب النبي ﷺ دون غيره، وهذا أوسع من مذهب المحدثين، ولأمر ما أشار أبو الحسين إلى إجماع الصحابة عليه مع ذكاء أبي الحسين، فقد قال الذهبي -مع كراهته للمعتزلة- إنها كانت لأبي الحسين شهرة بالذكاء والديانة، فتأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم تعلم صحة ما قاله، وحسن استخراجه.
الأثر الخامس: ما ثبت عن علي رضي الله عنه أنه «كان يستحلف من اتهمه من الرواة، فإن حلف له صدقه» رواه الذهبي في تذكرة الحفاظ وحكم بحسنه.
وقد احتج به غير واحد من أئمة الزيدية -منهم الإمامان أبو طالب، والمنصور بالله- ووجه الحجة فيه: أن التحليف والتهمة إنما يكون لمجهول الحال، أو من هو شر منه من المخبورين بقلة أهل الإسلام في ذلك الزمان.
الأثر السادس: حديث الجارية السوداء راعية الغنم التي أراد رسول الله ﷺ أن يتعرف إيمانها، ويختبر إسلامها، فقال لها: «من ربك» فأشارت، أي: ربها الله. فقال لها: «من أنا؟» قال: رسول الله. قال عليه السلام: «هي مؤمنة»، والمؤمن مقبول. وقد وصف الله رسوله بتصديق المؤمنين في قوله تعالى: {ويؤمن للمؤمنين}.
وحديث الجارية هو ثابت في صحيح مسلم، رواه الشافعي عن مالك، ذكر ذلك ابن النحوي في البدر المنير والخلاصة.
الأثر السابع: حديث عقبة بن الحارث المتفق على صحته وفيه أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء وقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي ﷺ فأعرض عني، فتنحيت فذكرت ذلك له فقال: «وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما» هذا لفظ البخاري ومسلم.
وفي رواية الترمذي بإسناد حسن صحيح: «أنه زعم أنها كاذبة» وأن النبي ﷺ نهاه عنها، فدل على اعتبار قولها مع الجهالة وتكذيب المدعى عليه، ولو لم يعتبر قولها لم ينهه، ولا أمره بالطلاق، لعدم [تحقق] انفساخ النكاح، ولخيره بين الإمساك مع الكراهة، أو الطلاق [للحيطة]، فإن التفريق بين الزوجين من مؤكدات الأمور، وقد قال بمقتضى ذلك مع يمين المرأة: ابن عباس وأحمد وإسحاق، وإنما ترك العمل بظاهره بعض أهل العلم لتعلقه بحقوق المخلوقين التي ورد الشرع باعتبار الشهادة فيها.
فأما قبول الخبر النبوي في الأحكام؛ فمقبول من المرأة الصحابية وإن لم تعرف، بدليل هذا الحديث وغيره.
الأثر الثامن: أن الكافر كان يأتي النبي ﷺ فيسلم، فيأمره النبي ﷺ [أن يذهب] إلى [قومه] داعيا لهم إلى الإسلام ومعلما لهم ما علمه النبي ﷺ من شرائع الإسلام، وهذا موجود في السيرة، لكنها لم تحضرني فأنقله بلفظه.
ومثل هذا له شواهد كثيرة يعرفها من طالع السيرة النبوية، وفيه دلالة على عدالة الداخل في الإسلام، وإلا لوجب أن يبين له النبي ﷺ أنه لا يحل لقومه أن يتعلموا منه شيئا حتى يختبروه بعد إسلامه، وفي هذا الأثر وفي السابع إشارة إلى آثار كثيرة، والله أعلم.
وأما النظر: فلأن العدل من ظهر عليه من القرائن ما يدل على الديانة والأمانة دلالة ظنية. [إذ] لا طريق إلى العلم بالبواطن؛ وهذا ظاهر في الصحابة، فإنهم كما قال المنصور بالله: لولا ثقل موازينهم في الشرف والدين ما تبعوا رسول الله ﷺ، ومالوا عن إلف دين الآباء، والأتراب والقرباء إلى أمر شاق على القلوب، ثقيل على النفوس، لا سيما وهم في ذلك الزمان أهل الأنفة العظيمة والحمية الكبيرة، يرون أن يقتل جميعهم وتستأصل شأفتهم حذرا من أيسر عار يلم بساحتهم أو ينسب إلى قرابتهم، ولا أعظم عارا عليهم من الاعتراف بضلال الآباء، وكفرهم، وتفضيل الأنعام السائمة عليهم، فلولا صدقهم في الإسلام ومعرفتهم لصدق الرسول عليه السلام، ما لانت عرائكهم [لذلك] ولا سلكوا في مذللات المسالك.
ومما يدل على صحة ذلك ويوضحه: أن أكثرهم تساهلا في أمر الدين: من يتجاسر على الإقدام على الكبائر، لا سيما معصية الزنا، فقد علمنا أن جماعة من أهل الإسلام في ذلك العصر من رجال ونساء وقعوا في ذلك، فهم فيما يظهر لنا أكثر أهل ذلك الزمان تساهلا في الوقوع في المعاصي، وذلك دليل خفة الأمانة ونقصان الديانة، لكنا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا ما لا يفعله المتأخرين إلا أهل الورع الشحيح والخوف العظيم، ومن يضرب بصلاحه المثل، ويتقرب بحبه إلى الله عز وجل، وذلك أنهم بذلوا أرواحهم في مرضاة رب العالمين، وليس يفعل هذا إلا من يحق له منصب الإمامة في أهل التقوى واليقين، وذلك كثير في أخبارهم، مشهور الوقوع في زمانهم.
من ذلك حديث المرأة التي [زنت] فجاءت النبي ﷺ مقرة بذنبها، سائلة للنبي ﷺ أن يقيم الحد عليها، فجعل رسول الله ﷺ يستثبت في ذلك، فقالت: يا رسول الله، إني حبلى به، فأمر أن تمهل حتى تضع، فلما وضعت جاءت بالمولود وقالت: يا رسول الله هو هذا قد ولدته، فقال: «أرضعيه حتى يتم رضاعه»، فأرضعته حتى أتمت مدة الرضاع، ثم جاءت به في يده كسرة من خبز، فقالت: يا رسول الله! هو هذا يأكل الخبز، فأمر بها فرجمت. رواه الحافظ ابن كثير في إرشاده.
فانظر إلى عزم هذه الصحابية رضي الله عنها على أصعب قتلة على النفوس، وأوجع ميتة للقلوب، وبقاء عزمها على ذلك هذه المدة الطويلة، ومطالبتها في ذلك غير مكرهة ولا متوانية؛ وهذا أيضا وهي من النساء الموصوفات بنقصان العقول والأديان، فكيف برجالهم رضي الله عنهم.
ومن ذلك حديث الرجل الذي أتى إلى النبي ﷺ فأخبره أنه سرق، فأمر بقطع يده، فلما قطعت قال: الحمد لله الذي خلصني منك، أردت أن تدخليني النار، أو كما قال.
وحديث المجامع في رمضان.
وحديث ماعز بطوله.
وحديث الذي قال: إني أتيت امرأة فلم أترك شيئا مما يفعله الرجال بالنساء إلا أتيته، إلا أني لم أجامعها؛ وغير ذلك مما لا يحضرني الآن الإشارة إليه.
فأخبرني على الإنصاف: من في زماننا وقبل زماننا من أهل الديانة قد سار إلى الموت نشيطا، وأتى إلى ولاة الأمر مقرا بذنبه، مشتاقا إلى لقاء ربه، باذلا في مرضاة الله لروحه، ممكنا للولاة والقضاة من الحكم بقتله؟
وهذه الأشياء تنبه الغافل، وتقوي بصيرة العاقل. وإلا ففي قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} كفاية وغنية، مع ما عضدها من شهادة المصطفى عليه السلام بأنهم «خير القرون»، وبأن غيرهم «لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»، إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشريفة ومراتبهم المنيفة.
وقد ذكر ابن عبد البر في ديباجة الاستيعاب جملة شافية مما يدل على فضل أهل ذلك الزمان، [وذكر في ذلك أحاديث كثيرة].
منها الحديث الصحيح الشهير أنه «لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية» رواه من طرق كثيرة.
وروى الحديث المشهور من طريق أبي الزبير عن جابر مرفوعا: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ثم روى أن أهل الحديبية كانوا ألفا وأربع مائة، وأهل بيعة الرضوان ألفا وخمس مائة، وأهل بدر ثلاث مئة وبضعة عشر، وذكر الحديث: «ألا إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله» والحديث الذي فيه: «إن الله نظر إلى قلوب العباد فوجد قلوب أصحاب محمد خير قلوب العباد»، وأمثال ذلك.
وقد ظهر بهذه الجملة بيان قوة ما أنكره المعترض على أهل الحديث، وأنه مذهب العلماء الجلة، من أهل الملة، قوي المواد، منصور الأدلة. والحمد لله.
المسألة [الثانية]: مما اشتمل عليه كلامه إنكاره لقول أهل الحديث: إن الصحابي من رأى النبي ﷺ مؤمنا به، وقوله إن هذا باطل وأنه يبطل ببطلانه كثير من حديث الصحاح.
وقد تحامل المعترض على أهل الحديث في هذه المسألة، وأطلق عليها اسم الباطل الذي لا يطلق على أمثالها من المسائل الظنية المحتملة، والخلاف في هذه المسألة مشهور في الأصول وعلوم الحديث. وقد ذكر ابن الحاجب في مختصر المنتهى: أنها لفظية؛ لأن النزاع فيها راجع إلى من يصدق عليه إطلاق هذا القول، وهذا مدرك ظني لغوي، أو عرفي لا يدخله التأثيم، ويستحق اسم الباطل، وذلك يظهر بالكلام في فصلين:
الفصل الأول: في بيان ما يستغربه المعترض من تسمية يسير المخالطة: صحبة، وبيان ظهور ذلك في الكتاب والسنة والإجماع.
ولنقدم قبل ذلك مقدمة، وهي أن الصحبة في اللغة تطلق كثيرا في الشيئين إذا كان بينهما ملابسة، وسواء كانت كثيرة أو قليلة، حقيقية أو مجازية، وهذه المقدمة تبين ما نورده من كلام الله تعالى، وكلام رسوله ﷺ، وما أجمع على صحته من العبارات في هذا المعنى.
أما القرآن: فقال الله تعالى: {فقال لصاحبه وهو يحاوره} و{قال له صاحبه وهو يحاوره}، فقضى بالصحبة مع الاختلاف في الإسلام الموجب للعداوة لما جرى بينهما من الخطاب المتقدم، وقد أجمعت الأمة على اعتبار الإسلام في اسم الصحابي، وقد ثبت بالنص القرآني أن الله تعالى سمى الكافر صاحبا للمسلم، فيجب أن يكون اسم الصحابي عرفيا اصطلاحيا، ويكون لكل طائفة أن تصطلح فيه على عرف كما سيأتي تحقيقه.
وقال تعالى: {والصاحب بالجنب}. وهو المرافق في السفر، ولا شك أنه يدخل في إطلاق هذه الآية الملازم وغيره، ولو صحب الإنسان رجلا ساعة من نهار وسايره في بعض الأسفار لدخل في ذلك، لأنه يصدق أن يقول: صحبت فلانا في سفري ساعة من النهار، ولأن من قال ذلك لم ينكر عليه أهل اللغة، ولا يستهجنون كلامه.
وأما السنة؛ فكثير غير قليل، ومن أدلها على التوسعة العظيمة في هذا الباب ما ورد في الحديث الصحيح من قوله عليه السلام لعائشة رضي الله عنها: «إنكن صواحب يوسف»، 34 فانظر ما أبعد هذا السبب الذي سميت به النساء صواحب يوسف! وكيف يستنكر مع هذا أن يسمى من آمن برسول الله ﷺ ووصل إلى حضرته العزيزة وتشرف برؤية غرته الكريمة صاحبا له؟ ومن أنكر على من سمى هذا صاحبا لرسول الله ﷺ؛ فلينكر على رسول الله ﷺ حين سمى النساء كلهن صواحب يوسف.
ومن ذلك الحديث الذي أشير فيه على رسول الله ﷺ أن يقتل المنافق عبد الله بن أبي بن سلول فقال عليه السلام: «إني أكره أن يقال إن محمدا يقتل أصحابه» فسماه صاحبا مع العلم بالنفاق للملابسة الظاهرة، مع أن النفاق المعلوم يقتضي العداوة، ويمحو اسم الصحبة في الحقيقة العرفية، فهذا الذي ذكرته من تسميته في هذا الحديث صاحبا يحتمل في اللغة، وقد تقدم أول الفصل هذا، شاهده من القرآن العظيم في قوله تعالى: {فقال لصاحبه وهو يحاوره}. وليس في الآية احتمال آخر. وأما هذا الحديث فهو يحتمل احتمالا آخر تركته استغناء بهذا الاحتمال، بشهادة القرآن له.
ومما يدل على التوسع الكثير في اسم الصحبة: إطلاقها بين العقلاء والجمادات، كقوله تعالى: {يا صاحبي السجن}، ومثل تسمية ابن مسعود صاحب السواك وصاحب النعلين والوسادة.
وأما الإجماع: فلا خلاف بين الناس أن رسول الله ﷺ إذا لاقى المشركين في الحرب -فقتل ممن معه من المسلمين جماعة، ومن المشركين جماعة- أنه يقال: قتل من أصحاب محمد ﷺ كذا وكذا، ومن المشركين كذا وكذا. وبذا جرى عمل أهل السير والمؤرخين والرواة والأخباريين، وكذا يقولون في أيام صفين: قتل من أصحاب علي كذا، ومن أصحاب معاوية كذا، ولا يعنون بأصحاب علي من لازمه وأطال صحبته، بل من قاتل معه، ولو يوما أو ساعة، 35 وهذا شيء ظاهر لا يستحق من قال بمثله الإنكار، وهو من أحسن ما احتج به أهل الحديث على أن ما ذهبوا إليه حقيقة عرفية.
ومن ذلك أصحاب الشافعي، يطلق ذلك على من دخل في مذهبه وإن مات عقيب الدخول فيه من غير مهلة، وكذلك أصحاب الظاهر وأصحاب الرأي.
ومن التوسع في هذا الباب: تسمية النبي ﷺ صاحب الشفاعة قبل أن يشفع، وهذا أيضا مما لا يشترط فيه الإطالة، بل يسمى صاحب الشفاعة، وإن كانت في ساعة واحدة، وهذا كله دليل على التوسعة الكثيرة في إطلاق اسم الصحبة على أدنى ملابسة.
وبعد؛ فإنها لفظة لغوية ظنية، والاختلاف فيها كالاختلاف في الشفق، هل هو الحمرة أو البياض، أو مشترك بينهما، ونحو ذلك من الألفاظ اللغوية التي لا ينكر على من خالفها من أهل العلم.
وبعد؛ فقد قال غير واحد من العلماء: يجوز إثبات اللغة بالقياس، واختاره إمام الزيدية المنصور بالله في كتابه صفوة الاختيار، قال قطب الدين الشيرازي في شرح المنتهى: «إنه مذهب القاضي وابن سريج من الشافعية، وهو قول كثير من الفقهاء ومن أهل العربية» اهـ.
ولم يعلم أن أحدا شنع على من ذهب إلى ذلك ولا قبح عليه، فكيف بهذه المسألة المذكورة في الصحبة! وقد تقدم لها من الشواهد اللغوية ما أقل منه يشفي ويكفي، فلو قدرنا خلوها عن الشواهد اللغوية، ورجوع القائلين بها إلى الأمارات القياسية، لم يكن إلى تقبيح ذلك وقطع الخلاف فيه سبيل، ولا على القطع بإبطاله وإبطال ما ترتب عليه من الحديث دليل.
الفصل الثاني: في بيان المختار، والمختار: أن ما ذكره المحدثون جائز بالنظر إلى وضع اللغة وإما بالنظر إلى العرف.
وقد ذكر في هذا الموضع ثلاثة أشياء احتج بها ولم يعدها، فرأينا ذكرها في هذا الموضع:
الحجة الأولى: خبر الأعرابي الذي بال في مسجد رسول الله ﷺ، قال المعترض: يلزم أنه عدل.
والجواب من وجوه:
الأول: من أين صح للمعترض أنه كان في عصره ﷺ أعرابي بال في مسجده؟ فثبوت هذا مبني على صحة طرق الحديث وقد شك في تعذرها، فلو صحت طرق هذا بطل الشك، ومن البعيد أن يصح طريق هذا الحديث دون غيره، ومن المعلوم أن صحة البعض تستلزم بطلان الشك في استحالة الكل.
الوجه الثاني: أنا قد ذكرنا أن كل مسلم ممن عاصر النبي ﷺ فإنه عدل ما لم يعلم جرحه، وبينا الحجج على هذا، وأنه مذهب جلة علماء الإسلام، وبينا أنه مما ادعي فيه الإجماع. وهذا الأعرابي من جملة من دخل تحت عموم تلك الأدلة، فيسأل المعترض: ما الموجب لتخصيصه بالذكر؟ فإن الخصم ملتزم لعدالته، فيطالب بإبداء المانع منها.
فإن قال: إن بوله في المسجد يمنع العدالة لأنه محرم.
فالجواب عليه: أن الجرح بذلك غير صحيح لأنه لا دليل على أنه فعله وهو يعلم بالتحريم، ويقوي هذا أن النبي ﷺ منع من قطع درته، ونهى من نهاه وقال: «إن منكم منفرين»، ولو كان في فعله لارتكاب ما حرمه الله مجترئا معاندا لم يكن يستحق هذا الرفق العظيم، ولكان الأشبه أن يزجر عن الجرأة كما زجر السائل عن الضالة، الذي قال له رسول الله ﷺ: «لا وجدت» وإنما ذكرنا هذا الوجه لزيادة قوة الحجة على الخصم، وإلا فالأصل جهل الأعرابي بالتحريم والتمسك بالأصل كاف.
فإن قال المعترض: إن البول في المسجد يدل على الجرح من حيث إنه يدل على الخسة وقلة الحياء، إذ البول في حضرة الناس يدل على ذلك كالأكل في السوق.
قلنا: ليس كما توهم، فإن ما يدل على الخسة وقلة الحياء يختلف بحسب اختلاف عرف أهل بلد الفاعل لذلك وأهل زمانه، والأعراب في ذلك الزمان وفي غيره لا تستنكر ذلك في باديتها غالبا، وكل ما كان أهل الصيانة يفعلونه من المباحات في بلد أو زمان، لم يقدح في عدالة أحد من أهل تلك البلد وذلك الزمان، وقد كان رسول الله ﷺ يمشي في المدينة بغير رداء، ولا نعل، ولا قلنسوة، يعود المرضى كذلك في أقصى المدينة، ذكره ابن حزم في سيرته.
ومثل هذا في بعض الأمصار في هذه الأعصار المتأخرة مما لا يفعله بعض أهل الحياء، ومما يتكلم بعض الفقهاء في فاعله، لعرف مختص بهذه الأزمنة الأخيرة في الأمصار العظيمة، وإلا فمن أشد حياء من رسول الله ﷺ؟ فقد كان أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان لا يثبت بصره في وجه أحد لكثرة حيائه ﷺ، ولكن هذا الذي فعله كان عادتهم في ذلك العصر، وإنما الحياء يتولد من مخالفة العادة حتى إن الرجل الفقير المستمر على البذاذة 36 في الملبس، لو لبس في دفعة واحدة لباس الأكابر الذي لا يعتاده قط، وطاف به الأسواق، لكان معدودا من أهل المجون، وقلة الحياء لمجاهرة الناس بمخالفة العادة من غير تدريج، ولا التماس فضيلة، وكذلك قد ورد عنه عليه السلام أنه أخذ قطعة من لحم وجعل يلوكها في فيه وهو يمشي في السكة [أو] يمشي بين أصحابه أو نحو ذلك، ذكر معناه أبو داود، وقد أردف عليه السلام امرأة خلفه في بعض الغزوات، وربما كان [هذا] مما يتجنبه بعض أهل الحياء في بعض الأزمان والبلدان لاختلاف العرف.
والقصد الاحتجاج بأفعاله ﷺ على أنها ليست في ذلك الزمان مما يستحيى منه، لا على أنه كان يفعل ما يستحيى منه في زمانه عليه السلام، فتأمل ذلك ولا تغلط فيه، فإن الغلط فيه عظيم.
الوجه الثالث: لو قدرنا أن هذا مما يجرح به لكان مما يحتمل النظر والاختلاف، ولا يعاب على من جرح به ولا على من لم يجرح.
الوجه الرابع: سلمنا تسليم جدل أنه مجروح فنحب من المعترض أن يبين لنا أن أهل الصحاح رووا عن هذا الأعرابي، ويبين لنا كم رووا عنه لا سيما من أحاديث الأحكام، فإن الحاجة إلى معرفة ذلك ماسة.
الوجه الخامس: سلمنا أنهم رووا عنه وأنه مجروح، فما وجه الاحتجاج بذلك على الشك في [تعذر] معرفة السنن وبطلان العلم؟ وليس هذا يمنع من معرفة الحديث الصحيح، بل كلما كثر المجروحون قل الصحيح، وكلما قل سهل حفظه وأمكن ضبطه، والكلام من أصله إنما هو متعسر أو متعذر.
الحجة الثانية: وفد بني تميم.
قال المعترض: إنه يلزم قبول حديثهم، وقد قال الله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}.
والجواب من وجوه:
الأول: من أين صح أنها نزلت فيهم؟ وأنها نزلت بعد إسلامهم؟ والطريق إلى صحة ذلك عندك مشكوك في إمكانها وتعذرها كما في سائر الأخبار.
الثاني: من أين صح فيهم أن نداءهم له عليه السلام من وراء الحجرات كان بعد إسلامهم؟ وما المانع أن يكون قبله فيكون ذمهم على فعل فعلوه قبل الإسلام، فلا يستحقون الذم بعد الإسلام، فإن الإسلام يجب ما قبله من الكفر والكبائر، كيف ما لا يعلم أنه من ذلك؟ ونزول الآية بعد إسلامهم لا يصلح مانعا في ذلك كما نزل بعد التوبة على آدم عليه السلام قوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى}.
الثالث: أن قوله تعالى: {أكثرهم لا يعقلون} ليس على ظاهره، لوجهين: أحدهما: أنهم مكلفون، وشرط التكليف العقل. وثانيهما: أنه سبحانه وتعالى لا يذم ما لا يعقل كما لا يذم الأنعام لعدم العقل، إذ من لا عقل له لا ذنب له في عدم العقل، وإنما قال الله تعالى: {إن هم إلا كالأنعام} ذما للغافلين عن تدبر الآيات، لا ذما للأنعام السائمات.
إذا ثبت ذلك فالمراد ذمهم بالجفاوة وعدم الفهم للعوائد الحميدة، وآداب أهل الحياء والمروءة، وهذا ليس من الجرح في شيء، فإن لطف الأخلاق، والكيس في الأمور، ليس من شروط الرواية، لأن مبني الرواية على ظن الصدق، وأولئك الأعراب لا سيما ذلك الزمان كانوا من أبعد الناس عن الكذب، والظن لصدقهم قوي، لا سيما في الحديث عن الرسول ﷺ، ولا بد إن شاء الله تعالى من الإشارة إلى أن الكذب على الله ورسوله أبعد ما يجوز وقوع المسلم فيه من المعاصي في غالب الأحوال، إلا أعداء الله تعالى من الدجالين الكذابين خذلهم الله تعالى.
الوجه الرابع: أن صدور مثل هذه القوارع على جهة التأديب للجاهلين والإيقاظ للغافلين من الله تعالى أو من رسوله ﷺ لا يدل على فسقه وخروجه من ولاية الله تعالى، فقد نزل من الآيات القرآنية ما فيه تقريع لبعض الصالحين وتأديب لبعض الأنبياء والمرسلين. وقد قال الله تعالى لخيار المهاجرين والأنصار: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم}، وأنزل الله في الممتحنة في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وشدد فيها على من والى أعداء الله تعالى، ولم يكن ذلك جرحا في حاطب، فقد عذره رسول الله ﷺ ونهى عنه عمر رضي الله عنه، وقال له: «إنك لا تدري لعل الله اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». وقد ثبت في صحيح مسلم مرفوعا أن حاطبا يدخل الجنة رضي الله عنه.
وقد نزل الوعيد في رفع الأصوات عند رسول الله ﷺ، فأشفق بعض أصحابه رضي الله عنهم من ذلك وكان جهوري الصوت، ولم يكن شيء من ذلك جرحا في أحد من أولئك.
وقد أنزل الله تعالى سورة {عبس} في تأديب صفوته من خلقه ﷺ. وأنزل في أول أنبيائه آدم عليه السلام: {وعصى آدم ربه فغوى}. وقال رسول الله ﷺ لأبي ذر -الذي ورد فيه أنه «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة منه» -: «إنك امرؤ فيك جاهلية» قاله عليه السلام وقد سب امرأة. رواه البخاري.
وقد روي عن علي أنه قال لابن عباس رضي الله عنهم وقد راجعه في المتعة: «إنك امرؤ تائه»، ولم يدل شيء من ذلك على الجرح، فكذلك الآية.
الوجه الخامس: أن هذا يؤدي إلى جرح قبيلة من قبائل المسلمين، وهذا لا يصح عند أحد من أهل العلم، لأن العادة الغالبة تمنع من وجود [مثل ذلك]، ولهذا لم يقع إلى الآن من أول الإسلام.
الوجه السادس: سلمنا أن ذلك الجرح مانع من قبول الرواية، فإنما يستلزم ترك حديثهم، وترك حديثهم متيسر غير متعسر ولا متعذر، فما وجه الاحتجاج بذلك على تعسر معرفة الحديث وتعذرها إذا تركنا حديث وفد تميم؟
الحجة الثالثة: وفد عبد القيس، ولم أعلم وجه تخصيصهم بالذكر؛ فإنهم من جملة الأعراب، إلا أنه ارتد بعضهم بعد الإسلام.
والجواب على ما ذكره من وجوه:
الأول: أن إسلامهم يقتضي قبول حديثهم ما داموا مسلمين؛ وردتهم تقتضي رد حديثهم من حين ارتدوا، ولا مانع من ورود التعبد بهذا في العقل ولا في الشرع المنقول بالتواتر المعلوم بالضرورة معناه، بل قد بينا فيما تقدم قبول رسول الله ﷺ لمن أسلم عقيب إسلامه، والدليل عام لوفد عبد القيس ولغيرهم.
الثاني: إما أن يكون المعترض أنكر قبولهم لأن من أسلم لا يقبل حتى يخبر، أو لأنهم ارتدوا بعد الإسلام؟ إن كان الأول فلم خصهم بالذكر؟ ولم أنكر ذلك المذهب وقد بينا أنه قول الجمهور، وأنه بالأدلة الأثرية والنظرية منصور؟ أقصى ما في الباب: أنه لم يترجح للمعترض موافقة الجماهير من علماء الإسلام، لكن لا يحل له الإنكار عليهم.
وإن كان يوافق على أن قبول المسلمين ذلك الزمان قبل الاختبار مذهب صحيح، غير مدفوع ولا منكر، وإنما الذي أنكره قبول المسلم الذي يريد أن يرتد بعد إسلامه، فهذا لا يصح لأمرين:
أحدهما: أن العلم بأنه يريد أن يرتد من قبيل علم الغيب الذي استأثر الله به، وقد حكم علي رضي الله عنه بشهادة رجلين، ثم انكشف أنهما [شهدا زورا]، فلم يلزمه أحد بذلك محذورا.
وثانيهما: أن العدل المخبور إذا فسق بعد العدالة لم يقدح ذلك في شهادته وروايته قبل الفسق، وقد ثبت أن المسلمين في ذلك الزمان عدول عقيب إسلامهم، فإذا كفروا بعد العدالة لم يقدح كفرهم فيهم قبل أن يكفروا، ولا قال أحد بأن الكفر يقدح في الراوي قبل أن يكفر.
الثالث: سلمنا أن وفد عبد القيس مجاهيل أو مجاريح، فما لمعرفة الحديث والتعذر أو التعسر، وأحاديث الصحابة الكبار هي المتداولة في كتب الحديث والفقه والتفسير، وأحاديث الأعراب الجفاة غير معروفة إلا أن يكون شيئا نادرا، وعلى تقدير كثرتها فتركها لا يكون سببا لتعذر معرفة الحديث، ولا تعسرها، بل ذلك من أسباب السهولة كما بينا، وترك الكثير في السهولة مثل ترك اليسير، وإنما يختلف في ذلك حفظ الكثير واليسير، وتمييز أحاديث كبار الصحابة عن أحاديث جفاة الأعراب ممكن غير متعذر،
فرجال السنة قد صنفوا كتبا كثيرة في معرفة الصحابة وبينوا فيها من هو معروف العدالة من الأصحاب، ومن لا يعرف إلا بظاهر حاله من الأعراب، ومن له رواية عن النبي ﷺ ومن ليس له رواية، ومن أطال الصحبة، ومن لم يطلها، بل تعرضوا فيها لبيان السابق من المسبوق، والأفضل من المفضول، والأقضى والأحفظ والأذكى، بل هم بعد هذا يبرزون صفحة الإسناد للنقاد، ولا يكتمون شيئا مما قيل في رجال الحديث وعلله على سبيل الإرشاد، لمن يحب الترجيح في التقليد والاجتهاد.
وإنما يلزم اختلاط أحاديث ثقات الأصحاب بأحاديث جفاة الأعراب لو أرسلوا الأحاديث ولم يسندوها وقطعوها ولم يصلوها، فأين تعذر معرفة الحديث؟ وما معنى التشويش على طلبة الحديث بأن وفد عبد القيس ارتدوا؟ وإذا ارتد وفد عبد القيس فمه؟ أتبطل السنن، ويضيع العلم، ويلزم من ذلك ألا يصح حديث الثقات من أصحاب رسول الله ﷺ؟ ما هذا الكلام [المعتل والاستدلال] المختل؟
وهذا ذكر جلة الرواة من الصحابة رضي الله عنهم، رأيت ذكر أسمائهم ليعرف أن حديثهم هو الذي يدور عليه الفقه وينبني عليه العلم، وأن أحاديث جفاة الأعراب المجاهيل شيء يسير نادر على تقدير وقوعه، فيعلم أنه لم يبن على حديث جفاة الأعراب حكم شرعي، فإن اتفق ذلك ففي نادر الأحوال ممن يستجيز ذلك من أهل العلم من غير ضرورة إلى ذلك. فإنه لو لم يستجز الرواية عنهم كان له في القرآن وما صح من السنة والإجماع، وصحيح القياس غنية وكفاية.
وإذا أردت أن تعرف صدق هذا الكلام فأرنا المسائل التي احتج عليها الفقهاء والمحدثون بأحاديث الجفاة من الأعراب من غير عموم من القرآن، ولا شاهد من سائر الأدلة. وفي عدم ذلك أو ندرته ما يدلك على ما ذكرناه من أن جلة الرواة هم عيون الأصحاب لا جفاة الأعراب. فدع عنك هذه الشبه الضعيفة، والمسالك الوعرة. 37 وإما أن يكون من أهل العلم المجددين لما درس من آثاره، المجتهدين [في الرد على] من أراد خفض ما رفع الله من مناره، وإلا فبالله عليك أرحنا من تعفيتك لرسومه وتغييرك لوجوهه، فحديث رسول الله ﷺ ركن الشريعة المطهرة المحفوظة إلى يوم القيامة، وليس يضر أهل الإسلام جهالة بعض الأعراب، فلنا من حديثهم غنية بما رواه عيون الأصحاب مثل: الخلفاء الراشدين الأربعة المهديين رضي الله عنهم وسائر إخوانهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد جمعتهم في بيت واحد فقلت:
للمصطفى خير صحب نص أنهم ** في جنة الخلد نصا زادهم شرفا
هم طلحة وابن عوف والزبير مع ** أبي عبيدة والسعدان والخلفا
ومثل الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وأمهما سيدة النساء رضي الله عنهم، ومثل من لا يتسع لذكره هذا المختصر من نبلاء المهاجرين والأنصار، مثل عمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت، وخادم رسول الله ﷺ أنس بن مالك، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وحبر الأمة المفقه في الدين المعلم التأويل ابن عباس رضي الله عنهما، ووالده العباس وأخيه الفضل، وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وصاحب السواك عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر بن الخطاب والبراء بن عازب وأم سلمة أم المؤمنين، وأبي ذر الغفاري الذي نص رسول الله ﷺ: «أن السماء لم تظل أصدق لهجة منه» وعبد الله بن عمرو الذي أذن له عليه السلام بكتابة حديثه الشريف وكتب ما لم يكتبه غيره فاستكثر من طيب، وأبي أمامة الباهلي وحذيفة بن اليمان، والحافظ الكبير أبي هريرة الدوسي الذي قرأ له رسول الله ﷺ في نمرته ثم أمره فلفها فلم ينس شيئا مما سمعه منه ﷺ، وأبي أيوب الأنصاري وجابر بن سمرة الأنصاري وأبي بكرة مولى رسول الله ﷺ، وأسامة بن زيد مولاه عليه السلام، وأبي مسعود الأنصاري البدري، وعبد الله بن أبي أوفى وزيد بن ثابت وزيد بن خالد وأسماء بنت يزيد بن السكن وكعب بن مالك ورافع بن خديج وسلمة بن الأكوع،وميمونة أم المؤمنين، وزيد بن أرقم، وأبي رافع مولى النبي ﷺ، وعوف بن مالك، وعدي بن حاتم، وأم حبيبة أم المؤمنين، وحفصة أم المؤمنين، وأسماء بنت عميس، وجبير بن مطعم، وذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق، وواثلة بن الأسقع، وعقبة بن عامر الجهني، وشداد بن أوس الأنصاري، وعبد الله بن يزيد، والمقدام أبي كريمة، وكعب بن عجرة، وأم هانئ بنت أبي طالب، وأبي برزة، وأبي جحيفة، وبلال المؤذن، وجندب بن عبد الله بن سفيان، وعبد الله بن مغفل، والمقداد، ومعاوية بن حيدة، وسهل بن حنيف، وحكيم بن حزام، وأبي ثعلبة الخشني، وأم عطية، ومعقل بن يسار، وفاطمة بنت قيس، وعبد الله بن الزبير، وخباب بن الأرت، ومعاذ بن أنس، وصهيب، وأم الفضل بنت الحارث، وعثمان بن أبي العاص الثقفي، ويعلى بن أمية، [وعتبة بن عبد]، وأبي أسيد الساعدي، وعبد الله بن مالك بن بحينة، وأبي مالك الأشعري، وأبي حميد الساعدي، ويعلى بن مرة، وعبد الله بن جعفر، وأبي طلحة الأنصاري، وعبد الله بن سلام، وسهل بن أبي حثمة، وأبي المليح الهذلي، وأبي واقد الليثي، ورفاعة بن رافع، وعبد الله بن أنيس، وأوس بن أوس، وأم قيس بنت محصن، وعامر بن ربيعة، وقرة، والسائب، وسعد بن عبادة، والربيع بنت معوذ، وأبي بردة، وأبي شريح، وعبد الله بن جراد، والمسور بن مخرمة، وصفوان بن عسال، وسراقة بن مالك، وسبرة بن معبد الجهني، وتميم الداري، وعمرو بن حريث بن خولة الأزدي، وأسيد بن الحضير، والنواس بن سمعان الكلابي، وعبد الله بن [سرجس]، وعبد الله بن الحارث بن جزء، والصعب بن جثامة، وقيس بن سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة، ومالك بن الحويرث الليثي، وأبي لبابة بن [عبد المنذر]، وسليمان بن صرد، وخولة بنت حكيم، وعبد الرحمن بن شبل، وثابت بن الضحاك، وطلق بن علي، وعبد الرحمن بن سمرة، و[الحكم] بن عمير، وسفينة مولى رسول الله ﷺ، وكعب بن مرة، وأبي محذورة، وعروة بن مضرس، ومجمع بن جارية، ووابصة بن معبد الأسدي، وأبي اليسر، وأبي ليلى الأنصاري، ومعاوية بن الحكم، وحذيفة بن أسيد الغفاري، وسلمان بن عامر، وعروة البارقي، وأبي بصرة الغفاري، وعبد الرحمن بن أبزى، وعمرو بن سلمة، وسبيعة الأسلمية، وزينب بنت جحش أم المؤمنين، وضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وبسرة بنت صفوان، وصفية أم المؤمنين، وأم هاشم بنت حارثة الأنصارية، وأم كلثوم، وأم كرز، وأم سليم بنت ملحان، وأم معقل الأسدية.
وضعف هؤلاء، بل أكثر من ضعفهم ممن لو ذكرناهم على الاستقصاء لطال ذكرهم وطاب نشرهم، فطالعهم إن شئت في كتاب ابن عبد البر الاستيعاب وغيره من كتب معرفة الأصحاب، فمعرفتهم أحد أنواع علم الحديث كما ذكره المصنفون فيها كابن الصلاح وزين الدين العراقي، وغير واحد.
وقد ألفوا في معرفة الصحابة كتبا كثيرة.
فمنها الصحابة لابن حبان مختصر في مجلد.
ومعرفة الصحابة لابن منده، كتاب جليل، ولأبي موسى المديني عليه ذيل كبير.
ومنها الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني، جليل القدر.
ومنها معرفة الصحابة للعسكري.
ومنها كتاب أبي الحسن علي بن محمد بن الأثير [الجزري] المسمى بأسد الغابة في معرفة الصحابة وهو أجمع كتاب في هذا، جمع فيه بين كتاب ابن منده وذيل أبي موسى عليه وكتاب أبي نعيم والاستيعاب، وزاد من غيرها أسماء. واختصره جماعة، منهم الحافظ أبو عبد الله الذهبي في مختصر لطيف، وذيل عليه [زين الدين بعدة أسماء] لم تقع له. ومنهم الكاشغري.
وقد ذكروهم أيضا في تواريخ الإسلام، وكتب رجال الكتب الستة، وأنفس كتاب فيهم كتاب: عز الدين بن الأثير، وكتب الحافظين الكبيرين أبي الحجاج المزي وتلميذه أبي عبد الله الذهبي.
فبمعرفة هذه الكتب الحافلة أو بعضها يتميز لك الصحابي من الأعرابي، بل يتميز معرفة الفاضل من المفضول، والسابق من المسبوق. فقد بين علماء الحديث في كتب علوم الحديث على الإجمال وفي كتب معرفة الصحابة على التفصيل أنهم رضي الله عنهم ينقسمون إلى اثنتي عشرة طبقة:
الأولى: قدماء السابقين الذين أسلموا بمكة كالخلفاء الأربعة رضي الله عنهم.
الثانية: أصحاب دار الندوة.
الثالثة: مهاجرة الحبشة.
الرابعة: أصحاب العقبة الأولى.
الخامسة: أصحاب العقبة الثانية.
السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا إليه عليه السلام إلى قباء قبل أن يدخل المدينة.
السابعة: أهل بدر.
الثامنة: المهاجرين بين بدر والحديبية.
التاسعة: أهل بيعة الرضوان.
العاشرة: من هاجر بين الحديبية وفتح مكة.
الحادية عشرة: مسلمة الفتح.
الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله ﷺ يوم الفتح، وفي حجة الوداع وغيرهما.
قال ابن الصلاح: «ومنهم من زاد على ذلك».
وأما ابن سعد فجعلهم خمس طبقات فقط.
قال ابن عبد البر في خطبة الاستيعاب: «قال الله جل ذكره: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود}، إلى أن قال: وليس كذلك جميع من رآه وآمن به وسترى منازلهم من الدين والإيمان، والله تعالى قد فضل بعض النبيين على بعض، وكذلك سائر المسلمين، والحمد لله رب العالمين» تم مختصرا، وفيه ما يدل على معرفتهم بدقائق تفاصيل التفضيل، وتمييزهم للمشاهير عن المجاهيل.
فيا أيها المعترض على أهل السنة بأحاديث جفاة الأعراب، واختلاطها بأحاديث الأصحاب، خذ من أحاديث هؤلاء الأعلام ما صفا وطاب، وأجمع على الاعتماد عليه أولوا الألباب، ودع عنك التشكيك في صحة السنن والاتياب، والتردد في ثبوت الآثار والاضطراب، وليأمن خوفك من ضياع السنة والكتاب، ولتطب نفسك بحفظ ما ضمن حفظه رب الأرباب.
قال: المسألة الثانية: إن قيل: الصحيح من حديث الرسول ما أخرج البخاري ومسلم وأبو داود، وكذلك أصحاب الصحاح، وهي معروفة عند المحدثين والفقهاء، وفي بعضها خلاف. وأما ما روي في غير تلك الكتب فليس بصحيح -إلى قوله- أما هذا الفصل فزعم القائل به أن مؤلفي الصحاح أعرف الناس به، وقد تعرضوا لحصر الصحيح، فما لم يذكروه فليس بصحيح. إلى آخر ما ذكره في هذا المعنى.
أقول: كلام المعترض هنا لا يحتاج إلى جواب أكثر من تعريفه [بأنه] أفرط في الجهل ورمى أهل الحديث بما نصوا على البراءة منه نصوصا كثيرة متواترة، فممن نص على ذلك البخاري ومسلم:
أما البخاري فإنه اشتهر عنه أنه خرج صحيحه من مائة ألف حديث صحاح، مع أن صحيحه لا يشتمل إلا على قدر أربعة آلاف حديث من غير المكرر، وهذا في رواية الفربري، ورواية حماد بن شاكر دونها بمئتي حديث، ودون هذه بمئة حديث رواية إبراهيم بن معقل، فمن نص على أنه أخرج أربعة آلاف حديث من مئة ألف صحاح كيف ينسب إلى دعوى حصر الصحيح.
وأما مسلم؛ فروى النواوي عنه في شرح مسلم النص الصريح على أنه ما قصد حصر الصحيح، وكذا روى النواوي في الشرح إنكار ذلك على ابن وارة وأبي زرعة، وذكر الحاكم أبو عبد الله في خطبة المستدرك أن البخاري ومسلما ما ادعيا ذلك، وقد نص على ذلك علماء الحديث: منهم ابن الصلاح وزين الدين والحاكم وغيرهم، ولم يختلفوا في ذلك، وإنما اختلفوا في عدد أقسام الصحيح.
فالحاكم عد أقسامه عشرة، وجعل حديث البخاري ومسلم قسما منها، وابن الصلاح وزين الدين [جعلا] أقسام الصحيح سبعة أقسام، و[جعلا] حديث البخاري ومسلم ثلاثة أقسام: ما اتفقا عليه قسما، وما انفرد به كل واحد منهما قسما، وابن الأثير في الجامع تبع الحاكم في تقسيمه المذكور.
ولم يزل علماء الحديث وأئمته يستدركون على صاحبي الصحيح ما تركاه مما هو على شرطهما، ويحتجون بما حكم بصحته غيرهما، كالبرقاني وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم وعبد الغني المقدسي وعبد الحق وتقي الدين بن دقيق العيد وابن سيد الناس وأبي الحسن بن القطان والزكي عبد العظيم وغيرهم، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى تطويل، ومعلوم لا يفتقر إلى دليل.
وليس يصح في الأفهام شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل
قال: وأما الفصل الأول -وهو أن كل ما في هذه الكتب فهو صحيح- ففيه موضعان: الأول: في حكاية المذهب، والثاني: في الدليل. أما الأول فقد ذهب قوم إلى ذلك، وممن قال به ابن الصلاح وحكى عن إجماع الفقهاء أنهم أفتوا من حلف بطلاق امرأته إن لم يكن [ما] بين دفتي صحيح البخاري قاله رسول الله ﷺ أن امرأته لا تطلق. وليت شعري كيف كان هذا الإجماع؟ أكان بأن طاف هذا السائل جميع البقاع، أم بأن جمع له علماء الأمة في صعيد واحد وأذن فيهم بهذا السؤال، وأجابوه جميعا بأن امرأته له حلال؟ وأي إجماع صحيح بغير علماء أهل البيت الأطهار وشيعتهم الأخيار؟
أقول: الجواب على هذا الكلام يظهر بإيراد مباحث:
البحث الأول: أن المعترض روى عن ابن الصلاح وعن قوم مجاهيل القول بأن جميع ما في هذه الكتب صحيح، والظاهر أنه أراد بهذه الكتب الكتب الستة؛ لأن الرجل نص في كتابه علوم الحديث أن كتب السنن الأربعة يدخلها ما هو ضعيف، وإنما تكلم الرجل في صحة المسند من البخاري ومسلم دون التعاليق 38 كما سيأتي بيانه إن شاء الله، فالمعترض إن كان جهل الفرق بين الستة والاثنين، فليس من العقلاء، وإن كان حسب أن مثل هذا التجاهل يمضي على أهل الحديث فليس من الفطناء.
وأما القوم المجاهيل الذين نسب هذا المذهب الغريب إليهم: فإن كان يريد أنهم أهل الحديث؛ فنصوصهم على خلاف ذلك تشهد بتكذيب المعترض عليهم، وتكفي في تسويد وجه المعترض نسبة ذلك إليهم، فإنهم قد نصوا في كتب علوم الحديث، وذكر شروط الأئمة على خلاف ذلك، وإن كان يريد أن أولئك القوم من غير أهل الحديث؛ فما الموجب للاعتراض على أهل الحديث بذلك؟
البحث الثاني: أنه حكى عن ابن الصلاح: أنه الذي روى الإجماع على أن الحالف بصحة ما في البخاري لا تطلق زوجته، والذي روى الإجماع على ذلك هو الحافظ أبو نصر السجزي، وإنما روى ابن الصلاح ذلك عنه، وهذا يدل على عدم تثبت المعترض في النقل، وبناءه لكثير من كلامه على الوهم والجهل، ومن كان كذلك لا يصلح منه مناظرة الفطناء ومعارضة العلماء.
البحث الثالث: أنه أثبت في كلامه سائلا سأل الأمة، والرجل لم يقل إن أحدا سأل الأمة، وإنما قال: لو أن رجلا سأل الفقهاء، فلو كان يلزمه ثبوت ما بعد «لو» لزم مثله في قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، والمعترض من المتصدرين للتدريس في غوامض العربية؛ فكيف نسي أن «لو» تفيد امتناع الشيء لامتناع غيره؟
البحث الرابع: أن كلامه في القدح في الإجماع يلزمه زيادة شروط في صحة الإجماع لم يشترطها أحد.
أحدها: أنه يشترط في راوي الإجماع أن يطوف جميع البقاع، أو تجمع له الأمة 39 في صعيد واحد.
الثاني: أن يؤذن فيهم بالحادثة.
الثالث: أن يجيبوه جميعا، ولا يكون فيهم من سكت في تلك الحال، ثم أجاب بعد ذلك أو روى مذهبه بواسطة.
وهذا كله مجرد تشنيع لا يفيد، وتهويل لا يمضي.
البحث الخامس: أن المعترض قد ادعى في كتابه إجماعات كثيرة ولم يحصل فيها شيء من هذه الشرائط، وهذا من الحيف الذي لا يرتضيه أهل التمييز في المباحث العلمية.
البحث السادس: أنه روى عن ابن الصلاح في أول كلامه أنه ادعى إجماع الفقهاء، ثم ألزمه أن يجمع له جميع الأمة في صعيد، 40 ومن لم يفرق بين الأمة والفقهاء فليس بأهل لمراسلة العلماء، فإن الفقهاء لا تكون جزءا من ألف جزء من الأمة ولا ما يقارب ذلك.
البحث السابع: قال: وأي إجماع صحيح بغير أهل البيت وشيعتهم؟
قلنا: ومن أين يلزمه دخولهم؟ وأنت إنما رويت عنه دعوى إجماع الفقهاء، وأهل البيت عندكم لا يدخلون في ذلك عرفا ولا لغة، فإنكم تروون الخلاف بين أهل البيت والفقهاء، كما أن أهل البيت لا يدخلون في المحدثين وإن كانوا يعرفون الحديث ولا في القراء والنحاة ونحو ذلك، والفقهاء عندكم اسم مختص في العرف بأئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم.
البحث الثامن: أن الرجل ادعى إجماع العلماء لا إجماع الفقهاء، ولكن المعترض لا يدري ما ينقل ولا يعقل ما يقول.
البحث التاسع: من أين عرفت أن أهل عصر من علماء أهل البيت والشيعة لم يجمعوا على صحة حديث البخاري؟ وما آمنك أنهم قد أجمعوا على ذلك، وأنك جهلت إجماعهم عليه؟ ألا ترى أن كثيرا من علماء أهل البيت والشيعة ادعوا الإجماع على قبول أهل التأويل كما سيأتي ذكره، وأنت جهلت ذلك؟
وأقصى ما في الباب أنك طلبت فلم تجد، فليس عدم الوجدان يدل على عدم الوجود، وأنك وجدت في ذلك خلافا فليس ذلك يمنع من ثبوت الإجماع عند كثير من أهل العلم، وذلك حيث يكون المخالف من أهل عصر، والمجمعون أهل عصر آخر، لا سيما إذا كانوا متقدمين والمخالف بعدهم، ويكون المخالف شاذا نادرا، [أو] يكون ممن لا يعتد بخلافه، [أو] ينعقد الإجماع على رأسه لأحد الأسباب المذكورة في كتب الأصول.
ومع هذه الاحتمالات؛ كيف يحسن ممن يدعي الذكاء والمعرفة أن يعترض على من يدعي الإجماع؟ والاعتراض على هذا الوجه المقتضي لتقبيح الخلاف لا يحسن إلا فيما أدلته برهانية قطعية دون المسائل الخلافية الظنية.
البحث العاشر: أنك إما أن تقبح [التمسك] بالإجماع السكوتي وتحرم الاحتجاج له أو لا، إن حرمته وقبحته لزمك تأثيم أكثر الأمة والأئمة فإنهم يقولون بصحة الاحتجاج به، فقد ذكره الإمام المنصور بالله في الصفوة وغيره من أئمة الشيعة وعلمائهم، وكذلك سائر علماء الفرق، وأكثر الإجماعات المدعاة لا تكون إلا منه.
وإن كنت لا تنكر التمسك بالإجماع السكوتي، ولا تحرمه، فالظاهر من [أقوال] أئمة الزيدية من أهل البيت وشيعتهم؛ موافقة سائر العلماء من المحدثين والفقهاء وأهل السنة على ما ادعوه من صحة الصحيح من حديث هذه الكتب، وإنما قلنا: إن الظاهر إجماعهم على ذلك، لأن الاحتجاج بما صححه أهل هذه الكتب ظاهر في كتبهم، شائع بين علمائهم من غير نكير، فقد روى عنهم الإمام أحمد بن سليمان في كتابه أصول الأحكام على وجه يوجب القول بصحتها، فإنه صنف كتابه في أحاديث الأحكام، وصرح في خطبته بالرواية منها، ولم يميز حديثها من حديث أهل البيت، فتأمل ذلك.
وكذلك الإمام المنصور بالله في كثير من مصنفاته، منها كتاب العقد الثمين، ونص فيه على صحة أسانيدها.
وكذلك الأمير العلامة الحسين بن محمد في كتابه شفاء الأوام الذي لم يصنف أحد من الزيدية في الحديث مثله، فإنه صرح فيه بالرواية منها على سبيل الاحتجاج بحديثها، وكذلك صاحب الكشاف فإنه روى من صحيح مسلم وسماه: صحيحا. وفي تعليق اللمع الذي هو مدرس الزيدية أنه يكفي المجتهد في معرفة الحديث: الموطأ أو سنن أبي داود، ذكره الفقيه علي بن يحيى الوشلي في تعليقه، وكذلك قال القاضي العلامة عبد الله بن حسن الدواري في تعليقه على الخلاصة: إنه يكفي المجتهد أصول الأحكام، وأحد الكتب الصحيحة المشهورة، وكذا قال علامة الشيعة: علي بن عبد الله بن أبي الخير في تعليقه على الجوهرة: إنه يكفي المجتهد كتاب جامع لأكثر الأخبار الشرعية كـ سنن أبي داود وغيره.
فهذه كتب الزيدية المشهورة المتداولة بين علمائهم الأفاضل المدروسة على محققيهم الأواخر منهم والأوائل قد صرحوا فيها بما يقتضي صحة سنن أبي داود وأمثالها من كتب السنن، فكيف بصحيحي البخاري ومسلم؟ وشاع ذلك وذاع ولم ينكره منهم أحد، فكيف تنكر على مدعي الإجماع على صحة مسند حديث البخاري ومسلم، وتقدح فيه بمخالفة أهل البيت وشيعتهم؟
وأقصى ما في الباب: أن ينقل إنكار ذلك عن بعض الناس في بعض الأعصار، فذلك النقل في نفسه ظني نادر، واعتبار القدح بالنادر الظني في بعض الأعصار لا يقدح في إجماع أهل عصر آخر، فلا طريق إلى تكذيب مدعي هذا الإجماع على اعتبار كثير من أهل العلم في طريق الإجماع، وقد رأينا كثيرا من أهل العلم يثبتون الإجماع السكوتي بمثل هذا وبأقل من هذا.
البحث الحادي عشر: أن الظاهر إجماع الشيعة من الفقهاء أن من حلف بالطلاق على صحة أمر، وهو يظن صحته، ولم ينكشف بطلانه لم يحنث، لأن الأصل بقاء الزوجية، فلا تبطل بمجرد الاحتمال المرجوح، كما لو حلف بطلاقها إن خرجت من بيته، ولم يعلم خروجها، ولا علمت هي أنها خرجت، ولا ظنا ذلك فإنها لا تطلق.
ولهذا تأول النواوي تخصيص البخاري بذلك بأن المراد: أنه لا يحنث باطنا ولا ظاهرا، ولا يستحب له الاحتياط؛ لأن الأمة تلقته بالقبول فهو معلوم الصحة بطريق نظري، هذا تأويل النووي لمدعي الإجماع، وليس هذا اختياره، فإن اختياره واختيار المحققين: أن ما تلقته الأمة بالقبول يفيد الظن ما لم يتواتر، وقد حكى النواوي القول الأول عن ابن الصلاح ثم قال: «وخالف ابن الصلاح الأكثرون والمحققون».
قلت: حجة الجمهور أن الأمة إنما تلقت الحديث الصحيح بالقبول؛ لأنهم ظنوا صحته، والعمل بالظن واجب عليهم، والظن قد يخطئ.
قال ابن الصلاح: «وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويا، ثم بان لي أن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ».
قلت: فتبين أن موضع النزاع هو: أن ظن المعصوم هل يجوز أن يخطئ أم لا، وفيه دقة، ويلزم منه أن لا يكون الإجماع حجة في المسائل الظنية، والحجج من الجهتين ظنية، وقد بسطت القول فيها في العواصم وإنما قصدت عنا بيان ظهور ما أنكره المعترض من قول العلماء: إن الحالف بصحة البخاري لا يحنث، فنحب منه أن ينقل لنا مذاهب العلماء الذين قالوا بحنث الحالف، وطلاق زوجته، ويعين من قال بذلك من أهل العلم حتى يظهر المحق من المبطل.
وهذا الموضع يحتمل ذكر فوائد ذكرتها في الأصل منها ما ذكره النووي في شرح مسلم، ومنها ما لم يذكره، ثم اختصرتها لأنها لا [تتعلق] بنقض كلام المعترض.
قال: والذي يذهب إليه علماؤنا ويجري على أصولهم أن في أخبار هذه الكتب: الصحيح، والمعلول، والمردود، والمقبول.
أقول: الجواب: أن حديث هذه الكتب منقسم إلى أقسام:
أحدها: ما بينوا أنه صحيح وأجمعوا على صحته، وهذا القسم العمل بمقتضاه واجب بلا خلاف بينهم، وإنما اختلفوا في أنه هل يفيد العلم القاطع أو الظن الراجح على ما مضى. ومن نازع في الإجماع فلمدعي الإجماع أن يبحث عليه بأحد تلك الوجوه المتقدمة، وهذا القسم هو أرفع أقسام الصحيح السبعة على ما بينه العلماء في كتب علوم الحديث.
القسم الثاني: ما اختلفوا في صحته من أحاديث هذه الكتب، فيرجع فيه إلى كتب الجرح والتعديل، ثم يوزن عند التعارض بميزان الترجيح.
القسم الثالث: ما نص علماء الحديث أو أحدهم على ضعفه، ولم يعارضهم من يقول بصحته، فهذا لا يؤخذ به في الأحكام ويؤخذ به في الفضائل، فلا يخلو المعترض إما أن يريد أن المردود والمعلول في القسمين الأخيرين؛ فذلك مسلم ولا خلاف فيه، أو يريد أنه في القسم الأول؛ فذلك ممنوع، لأن المخالف إما أن يقر بورود التعبد بأخبار الآحاد، أو لا:
إن لم يقر بذلك فليس ينبغي أن يراجع في هذا المقام، لأنه فرع لذلك الأصل، ومن جحد الأصل لم يراجع في الفرع.
وإن أقر بورود التعبد بأخبار الآحاد والعمل فيها بأقوى الظنون فلا يخلو: إما أن يقر أن أهل كل فن أعرف به، وأن المرجع في كل فن إلى أهله أو لا؛ إن لم يعترف بذلك؛ فهو معاند غير مستحق للمناظرة؛ لأن المعلوم من الفرق الإسلامية على اختلاف طبقاتها: الاحتجاج في كل فن بكلام أهله، ولو لم يرجعوا إلى ذلك لبطلت العلوم، لأن غير أهل الفن إما ألا يتكلموا فيه بشيء البتة أو يتكلموا فيه بما لا يكفي ولا يشفي، ألا ترى أنك لو رجعت في تفسير غريب القرآن والسنة إلى القراء، وفي القراءات إلى أهل اللغة، وهي المعاني والبيان والنحو إلى أهل الحديث، وفي علم الإسناد وعلل الحديث إلى المتكلمين، وأمثال ذلك لبطلت العلوم، وانطمست منها المعالم والرسوم، وعكسنا المعقول، وخالفنا ما عليه أهل الإسلام.
وإن اعترف المعترض بالحق، وأقر أن كلام أهل كل فن مقدم في فنهم على غيرهم، معتمد فيه على تحقيقهم، فلا شك أنه قد اشتهر عند كل منصف ما لأهل الحديث من العناية التامة في معرفته، والبحث عن علله ورجاله وطرقه، والاختلاف الكثير الواقع بينهم كثير منه، الدال على عدم تقليد بعضهم في الحديث لبعض، وعدم المتابعة لمجرد العصبية، بحيث لو كانوا في القلة في حد يمكن تواطؤهم على التعصب؛ لوجب ترجيح كلامهم، وقبول قولهم في فنهم، كيف وهم من الكثرة في حد لا يمكن معه تواطؤهم على ذلك؛ لاختلاف أزمانهم وبلدانهم وأغراضهم وأديانهم! ومع ذلك فقد اشتهر عن أئمتهم القول بصحة مسند صحيحي البخاري ومسلم، وادعى غير واحد من ثقاتهم انعقاد الإجماع على ذلك؛ وخبر الثقة في رواية الإجماع واجب القبول، كما هو المنصور المصحح في موضعه من كتب الأصول.
وعلى تسليم أنه ليس بمقبول، وأن ذلك الإجماع غير صحيح؛ فلا أقل من أن يكون ما ادعي الإجماع على صحته قول جماهير نقاد علم الحديث، وأئمة فرسان علم الأثر، وهذا من أعظم وجوه التراجيح، بل أئمة علماء الأصول، والغواص على الدقائق والحقائق من أهل علوم المعقول، يقضون بوجوب الترجيح بأخف أمارة، وأخفى دلالة تثير أقل الظن، وتثمر يسير القوة، فكيف بما نقحه، وصححه إمام الحفاظ الثقات، والنقاد الأثبات: محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، وانتقياه من ألوف أحاديث صحاح، مع تواتر إمامتهما وأمانتهما ونقدهما ومعرفتهما، فلو لم يتابعهما غيرهما لكان الترجيح بهما كافيا، والتعويل على قولهما واجبا، كيف وقد خضعت لهما رقاب النقاد! وأطبق على تصحيح دعواهما أئمة علماء الإسناد.
فإن قلت: أليس قد اختلف في توثيق بعض رواتهما، وعلل بعض الحفاظ شيئا من حديثهما، وصنف الدارقطني في ذلك كتاب الاستدراكات والتتبع وصنف في ذلك أبو مسعود الدمشقي وأبو علي الغساني الجياني، فكيف يصح مع ذلك دعوى الإجماع؟
قلنا: قد ذكر العلماء في علوم الحديث، وشروح الصحاح جميع ذلك، واستوعبوا الجواب عليه وبينوا القول فيه، ولا بد من ذكر نكتة يسيرة من ذلك على قدر هذا المختصر. فأقول:
اعلم أن المختلف فيه من حديثهما هو اليسير، وليس في ذلك اليسير ما هو مردود بطريق قطعية ولا إجماعية، بل غاية ما فيه أنه لم ينعقد عليه الإجماع، وأنه لا يعترض على من عمل به، ولا على من توقف في صحته، وليس الاختلاف يدل على الضعف ولا يستلزمه، فقد اختلف في الراشدين الذين هم أفضل الصحابة، وكفرتهم طوائف الروافض والنواصب والخوارج، وسلم من التكفير والاختلاف من هو دون الخلفاء رضي الله عنهم من صغار الصحابة، فليس مجرد ذكر الاختلاف بضائر للثقات من رجال الصحيحين، ولا مشعر بضعف حديثهم، وإنما الحجة في الإجماع لا في الخلاف، والإجماع لم ينعقد على ضعف شيء فيهما، وإنما انعقد على صحتهما إلا ما لا نسبة له إلى ما فيهما من الصحيح، فإنه وقع فيه الاختلاف الذي هو ليس بحجة على الضعف ولا على الصحة، إذ لو دل على شيء لم يكن بأن يدل على الضعف أولى من أن يدل على الصحة، إذ كل منهما قد قال به قائل، بل يكون القائل بالصحة أولى لأنه مثبت، والمضعف للحديث إذا لم يبين سبب التضعيف ناف والمثبت أولى من النافي.
وقد ألف زين الدين كتابا في الجواب عن ذلك، وذكر النووي في شرح مسلم أنه قد أجاب عن ذلك أو عن أكثره في شرحه، على أن الأمر قريب في ذلك الخلاف، وهو ينحصر في نوعين:
النوع الأول: تعليل بعض أحاديثهما، ومثاله: أن يرفع الحديث بعض الثقات ويقفه الباقون، أو يسنده ويرسلوه، ونحو ذلك من العلل، وهذا النوع مما اختلف في القدح به، وأكثر علماء الأصول على أنه لا يقدح في صحة الحديث ولا في الراوي، وأكثر المحدثين على القدح به في الحديث إذا غلب على الظن وقوع الوهم فيه، وفي الراوي إذا أكثر من ذلك، ومذهب المعتزلة والزيدية: أنه لا يقدح بهذا النوع في الحديث ولا في الراوي.
ومثال ما وقع في البخاري منه: ما أخرجه البخاري عن الشعبي عن جابر مرفوعا: «لا تنكح المرأة على عمتها» هذا حديث رواته ثقات، لكن له علة وهي أن المشهور عن الشعبي أنه رواه عن أبي هريرة لا عن جابر، وقد خرجه البخاري كذلك أيضا، لكنه رأى أنه لا مانع من كون الشعبي يرويه عن جابر وأبي هريرة [معا]، فرواه [عنه] عنهما. والمحدثون يرون أنه لو كان يحفظه عنهما معا لرواه كذلك لتلامذته وطلبة العلم منه. ولمن يقبل ذلك أن يقول: يحتمل أنه ذكر تلك الطريق الثانية بعد نسيان، أو استفادها بعد جهل، أو تذكرها بسبب سؤال عنها، أو ذكرها بحسب الداعي إلى ذكرها أو نحو ذلك، فمع هذه التجويزات لا يحسن طرح مثل ذلك، فإن ترجح طرحه لأحد؛ فلا وجه للاعتراض على من قبله، فبان لك أن الأمر في مثل هذا قريب النظر إلى الحديث في نفسه. وكذلك النظر إلى راوي الحديث؛ لأنه إنما يدل على أن الثقة وهم في روايته، والوهم جائز على الثقات، ولا يقدح بمطلقه إجماعا، بل ادعى عبد الله بن زيد العنسي الإجماع على قبول من حفظه أكثر من وهمه، ذكره في الدرر المنظومة، وذلك هو المشهور في كتب الأصول، ولكن لم يصرحوا بدعوى الإجماع عليه.
وأما إذا استوى وهمه وحفظه فاختلفوا؛ فالمشهور رد حديثه ببطلان رجحان صدقه، ومنهم من قال: لا يجوز رد حديثه لأن الأدلة الموجبة لقبوله تعم هذه الصورة، واستواء حفظه ووهمه لا ينتهض مخصصا مانعا من العمل بالعام مسقطا للتكليف بقبوله، وممن اختار هذا من الزيدية: عبد الله بن زيد في الدرر، والإمام المنصور بالله في الصفوة وإنما أجمع العلماء على رد حديث من وهمه أكثر من إصابته.
وأما المحدثون: فهم أكثر الناس تشديدا في القدح بالوهم؛ لأنهم يقدحون به متى كثر، وإن لم يكن أكثر من الصواب. ولهذا تجد كثيرا من أئمة الجرح والتعديل يترددون في الراوي فيوثقونه مرة ويضعفونه أخرى، وذلك لأن دخول وهمه حيز الكثرة مما لا يوزن بميزان معلوم، وإنما يظن ويرجح فيه التحري والاجتهاد، فصار النظر فيه كنظر الفقهاء في الحوادث الظنية، فلذا يكون لابن معين في الراوي قولان: التوثيق والتضعيف، ونحو ذلك.
ومنهم من يغلو ويقدح بالوهم وإن لم يكثر، وإنما يقدح بهذا من قل فقهه وبصره بمعنى العدالة، والاحتراز عن الوهم غير ممكن، والعصمة مرتفعة عن العدول، بل العصمة لا تمنع من الوهم إلا في التبليغ، فقد وهم رسول الله ﷺ أنه صلى بعض الفرائض على الكمال، فقال له ذو اليدين: «أقصرت الصلاة أم سهوت يا رسول الله؟ فقال: كل ذلك لم يكن» الحديث، وهذا وهم، وبناء على ما اعتقده ﷺ، والحديث في الصحيح. وقال ﷺ: «رحم الله فلانا لقد أذكرني آية كنت أنسيتها» رواه [مسلم]، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في حق ابن عمر: «ما كذب ولكنه وهم». وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه نسي حديث التيمم الذي رواه عمار ولم يذكره بالتذكير مع أنه مما لا ينسى [مثله]، ونسي أيضا قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} حتى ذكره ذلك أبو بكر رضي الله عنه حين خطب بعد موت رسول الله ﷺ.
بل نص القرآن على جواز النسيان على أهل رتبة النبوة الذين هم أعلى طبقات البشر، فقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم}. أي: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته على سبيل السهو، ثم ينسخ الله ذلك، يعرف الله الأنبياء والرسل به، حتى لا تبطل العصمة به عن الخطأ في التبليغ. وقال سبحانه وتعالى في حق آدم عليه السلام: {فنسي ولم نجد له عزما}، ولو أردنا أن نستقصي ما ورد في هذا الباب لطال الكلام، والمقصود بهذا أن القدح على رواة الصحاح بالتهمة لهم بالوهم النادر مما لا يقتضي جرحهم، ولا يقدح في حديثهم.
النوع الثاني مما قدح به على البخاري ومسلم: الرواية عن بعض من اختلف في جرحه وتوثيقه، وقد ذكر النووي في شرح مسلم وذكر الجواب عنه بوجوه قد ذكرها أيضا ابن الصلاح:
أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده، ولا يقال: الجرح مقدم على التعديل؛ لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتا مفسرا بسبب، وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذلك، وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره: ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب. انتهى كلام النووي.
قلت: فإن قيل: أليس قد ثبت في علوم الحديث أن الجرح الذي لم يفسر سببه وإن لم يجرح به لكنه يوجب ريبة، فيجب التوقف عن قبول من قبل ذلك فيه، وعن رده؟
فالجواب: أن ذلك إنما يوجب الريبة في غير المشاهير بالعدالة والثقة، وأما من وثقه أهل الخبرة التامة من أئمة هذا الشأن؛ فإن الجرح المطلق لا يزيل ظن ثقته، ومن زال عنه ظن ثقته بالراوي كان له ترك حديثه، ولم يكن له الاعتراض على من قبله ممن لم يؤثر ذلك في ظنه لثقة الراوي وأمانته. ألا ترى أنهم قد اختلفوا [اختلافا] كثيرا في جرح حمزة بن حبيب أحد القراء السبعة، فلم يضره ذلك مع شدة الاختلاف فيه، 41 بل انعقد الإجماع بعد ذلك على قبوله وتوثيقه، وكذلك كثير ممن اختلف فيه من رواة البخاري ومسلم قد أجمع على قبوله وزال الخلاف، وأقل أحوال هذا الإجماع الظاهر أن يكون مرجحا، فإن العلماء يتمسكون في التراجيح بأشياء ضعيفة لا تقارب هذا في القوة والله أعلم.
وهذا من نفيس علوم الحديث ولطيف كلام أئمة أهل هذا الشأن. وممن ذكر هذا الجواب الإمام الحافظ زين الدين بن العراقي في تبصرته لكنه لم يستوفه. ومن لطيف علم هذا الباب: أن يعلم أن لفظة «كذاب» قد يطلقها كثير من المتعنتين في الجرح على من يهم ويخطئ في حديثه، وإن لم يتبين أنه تعمد ذلك، ولا تبين أن خطأه أكثر من صوابه ولا مثله، ومن طالع كتب الجرح والتعديل عرف ما ذكرته، وهذا يدل على أن هذا اللفظ من جملة الألفاظ المطلقة التي لم يفسر سببها، ولهذا أطلقه كثير من الثقات على جماعة من الرفعاء من أهل الصدق والأمانة، فاحذر أن تغتر بذلك في حق من قيل فيه من الثقات الرفعاء، فالكذب في الحقيقة اللغوية ينطلق على الوهم والعمد معا ويحتاج إلى التفسير، إلا أن يدل على التعمد قرينة صحيحة.
قال النووي رحمه الله تعالى: الثاني: أن يكون ذلك واقعا في المتابعات والشواهد، وقد اعتذر الحاكم أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصحيح، منهم: مطر الوراق، وبقية بن الوليد، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وعبد الله بن عمر العمري، والنعمان بن راشد، وأخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين.
قلت: وقد صرح مسلم بهذا كما يأتي في الوجه الرابع، وقد استخرجت مثل ذلك للبخاري من وجه صحيح وهو: أنه قد نص على تضعيف جماعة ثم روى عنهم في الصحيح، ذكر ذلك الذهبي في تراجمهم في الميزان، ولم يذكر أن البخاري أخرج حديثهم متابعة، فدل هذا على أن صاحبي الصحيح قد يخرجان من الطريق التي فيها ضعف، لوجود متابعات وشواهد، تجبر ذلك الضعف، وإن لم تورد تلك المتابعات والشواهد في الصحيحين قصدا للاختصار والتقريب على طلبة العلم، مع أن تلك المتابعات والشواهد معروفة في الكتب البسيطة والمسانيد الواسعة، وربما أشار بعض شراح الصحيحين إلى شيء منها.
قال النووي: الثالث: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه، باختلاط حدث عليه غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته، كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب، فذكر الحاكم أبو عبد الله: أنه اختلط بعد الخمسين ومئتين بعد خروج مسلم من مصر، وهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرزاق، وغيرهما ممن اختلط آخرا، ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك.
الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عند من رواية الثقات نازل فيقتصر على العالي، ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيا بمعرفة أهل الشأن في ذلك، وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصا -يعني مسلم- وهو خلاف حاله فيما رواه عن الثقات أولا ثم أتبعهم من دونهم متابعة، وكأن ذلك وقع منه بحسب حصول باعث النشاط وغيبته. روينا عن سعيد بن عمرو البرذعي أنه حضر أبا زرعة وذكر صحيح مسلم وإنكار أبي زرعة عليه روايته عن أسباط بن [نصر]، وقطن بن نسير، وأحمد بن عيسى المصري -إلى قوله- فقال: «إنما أدخلت من حديث أسباط، وقطن، أحمد: ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بالارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول، فأقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات-إلى قوله-: فهذا مقام وعر، وقد مهدته بواضح من القول لم أره مجتمعا في مؤلف ولله الحمد». انتهى كلام النووي رضي الله عنه، وفيه ما يدل على أنه لا يعترض على حفاظ الحديث إذا رووا حديثا عن بعض الضعفاء، وادعوا صحته حتى يعلم أنه لا جابر لذلك الضعف من الشواهد والمتابعات، ومعرفة هذا عزيزة لا تحصل إلا للأئمة الحفاظ، أهل الدربة التامة بهذا الشأن.
فقد رئي عند بعض الحفاظ الجزء النيف و[العشرين] من مسند أبي بكر الصديق لا تزيد على خمسين حديثا، أو لا تكون خمسين حديثا؟ فقال: إن الحديث يكون عندي من مئة طريق، أو قال: إذا لم يكن عندي من مائة طريق، فهو عندي يتيم أو نحو هذا، رواه الذهبي في التذكرة والميزان.
ومن الغرائب في هذا المعنى: أن كثيرا من أهل المعرفة بالحديث يذكرون أن حديث: «الأعمال بالنيات» حديث غريب ما رواه إلا عمر بن الخطاب، ممن نص على ذلك الحافظ أبو بكر أحمد بن عبد الخالق بن عمرو البزار في مسنده فإنه ذكر أنه لا يصح إلا من حديث عمر.
قال حافظ العصر ابن حجر: «وكأنه أراد بهذا اللفظ والسياق، وإلا فقد روينا معناه من حديث أنس وعبادة بن الصامت وأبي ذر وأبي الدرداء وأبي أمامة وصهيب وسهل بن سعد والنواس بن سمعان، وغيرهم، ورويناه بلفظ حديث عمر من حديث: علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وأنس وابن مسعود».
وأغرب من هذا أن الصلاح -مع إمامته وسعة معرفته- مثل ما ينفرد به الثقة من الزيادة في الحديث بما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر: «أن رسول الله ﷺ فرض زكاة الفطر من رمضان على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين» فذكر ابن الصلاح -وهو من أهل المعرفة بالحديث- أن مالكا تفرد بلفظ: «من المسلمين» في الحديث، وأن عبد الله بن عمر وأيوب وغيرهما رووا هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر بغير هذه الزيادة.
وقال زين الدين بن العراقي: «هذا المثال غير صحيح، فقد تابع مالكا على ذلك عمر بن نافع والضحاك بن عثمان ويونس بن يزيد وعبد الله بن عمر والمعلى بن إسماعيل وكثير بن فرقد، واختلف في زيادتها على عبيد الله بن عمر وأيوب».
وكذلك أبو عبد الله الذهبي فإنه قال في حديث أبي هريرة المرفوع: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به» الحديث، قال الذهبي في الميزان: «لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوا هذا الحديث من منكرات خالد بن مخلد» ذكره في ترجمته.
ورد ذلك على الذهبي ابن حجر العسقلاني، فقال: إن لحديث خالد هذا شواهد في الحديث، وروى له ثلاثة شواهد: أحدها: نحوه من حديث هشام الكناني عن أنس رضي الله عنه. وثانيها: ببعضه من حديث معاذ. وثالثها: نحوه من حديث عروة عن عائشة بإسناد لا بأس به. فهذا يدلك على أن الحكم على الحديث بالغرابة أو النكارة أو الشذوذ مقام وعر تدحض فيه أقدام أئمة الحفاظ فكيف بغيرهم، فينبغي من القاصر الاعتراف لأهل الإتقان بالإمامة والتقدم في علومهم، وكف [أكف] الاعتراض على إمامي المحدثين: البخاري ومسلم وأمثالهما، ومن وقف على قدح في بعض رواتهما أو تعليل لبعض حديثهما وكان ذلك من النادر الذي لم يتلق بالقبول؛ فالذي يقوى عندي وجوب العمل بذلك لأن القدح بذلك محتمل.
والثقة العارف إذا قال: إن الحديث صحيح [عنده] وجزم بذلك ولم يكن له في التصحيح قاعدة معلومة الفساد، وجب قبول حديثه بالأدلة العقلية والسمعية الدالة على قبول خبر الواحد، وليس ذلك بتقليد له، بل هو عمل بمقتضى ما أوجب الله تعالى من قبول أخبار الثقات، ولو كان مجرد الاحتمال يقدح لطرحنا جميع أحاديث الثقات لاحتمال الوهم والخطأ في الرواية بالمعنى، بل احتمال تعمد الكذب لا يمنع القبول مع ظن الصدق، وقد ثبت عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا اتهم الراوي حلفه، فإذا حلف له صدقه كما رواه الذهبي في تذكرته وحسنه، والإمامان المنصور في الصفوة وأبو طالب في المجزي.
فهذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مع سعة علمه وقرب عهده احتاج إلى الأخذ بحديث من يتهمه ولا تطيب نفسه بقبوله إلا بعد يمينه، فكيف بأهل القرن التاسع إذا تعنتوا في الرواة وقدحوا في حديث أئمة الأثر وتعرضوا لإبطال ما صححه كبار الحفاظ؟ أليس ذلك يؤدي إلى محو آثار العلم وسد أبواب الفقه وطمس معالم الدين؟
وقد قبل رسول الله ﷺ حديث الأعرابي في الشهادة على هلال رمضان كما صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس. وتواتر عن رسول الله ﷺ أنه بعث الرسل إلى الآفاق معلمين ومبلغين مع أن أهل الآفاق لم يكونوا قد خبروا رسله إليهم على طريقة المتعنتين في الخبرة، وعلم رسول الله ﷺ ذلك من المفتي والمستفتي، والراوي والمروي له، والقاضي والمقضي عليه، ولم ينكر شيئا من ذلك على أحد منهم. والعدالة شرط في صحة الفتيا والرواية والقضاء، وكذلك قد روى أبو الحسين في المعتمد عن أصحاب رسول الله ﷺ أنهم كانوا يقبلون أحاديث الأعراب، فرحم الله امرءا ترك التعمق في الأمور، واقتدى برسول الله ﷺ، وبأصحابه خير أمة أخرجت للناس رضي الله عنهم أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال: والضابط في ذلك: أن ما صححه أئمتنا من ذلك فهو صحيح، وما ردوه أو طعنوا في رواته فهو مردود، مثل: خبر الرؤية عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله، وإنما كان ما ردوه وجرحوا رواته مردودا، ومن جرحوه مجروحا لوجهين: أحدهما: أن أئمتنا عدول لصحة اعتقادهم، واستقامة أعمالهم، والقطع أنه إذا جرح الراوي جماعة عدول، فإن جرحهم مقبول؛ لأن الجارح مقدم على المعدل. الثاني: أنها إذا تعارضت رواية العدل الذي ليس على بدعة ورواية المبتدع قدمت رواية العدل الذي ليس على بدعة، وهذا مجمع عليه.
أقول: الجواب على هذه الجملة يظهر بذكر وجوه جملية ووجوه تفصيلية.
أما الجملية:
فالأول منها أن نقول: ما مرادك بالأئمة هنا؟ هل الجميع أو البعض منهم؟ إن أردت البعض فقولهم ليس بحجة، لا عند الزيدية، ولا عند أهل الحديث، وإنما هم من جملة الثقات الذين يجوز عند جميع المسلمين أن تعارض رواياتهم برواية من هو مثلهم أو فوقهم في الحفظ والصدق، فإن كل ثقة يجوز وجود من هو مثله أو فوقه في باب الرواية، ولم نعلم أحدا من مصنفي الزيدية والمعتزلة جعل الخلافة، ولا نسب فاطمة رضي الله عنها من أسباب الترجيح في الرواية، على أن في ولد فاطمة رضي الله عنها الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي، كما أن فيهم الزيدي والإمامي، وقد بينا من قبل اختصاص أحاديث البخاري ومسلم بوجه من وجوه الترجيح لا يوجد في غيرهما، وهو تلقي الأمة لأحاديثهما بالقبول، وبينا أن أهل البيت وأئمة الزيدية من جملة من تلقى أحاديثهما بالقبول.
وإن أردت الكل من الأئمة فما أردت أيضا بتخصيصهم بالذكر؟ هل توهمت أنهم هم جميع أهل البيت حتى ينعقد بإجماعهم إجماع أهل البيت؟ فهذا وهم فاحش، فلم يقل أحد إن أهل البيت هم الخلفاء دون غيرهم، على أن القول بأن إجماع أهل البيت حجة مسألة خلاف بين أهل البيت، فإن فيهم من لا يقول بذلك -أعني الزيدية منهم- أما سائر الفرق فظاهر، فهؤلاء المعتزلة أقرب الفرق إلى الزيدية يخالف أكثرهم في هذه المسألة.
أقصى ما في الباب: أن إجماعهم حجة قاطعة، لكنا قد بينا من قبل أنهم مجمعون على صحة أحاديث كتب السنة التي صححها أئمة الحديث، وبينا أنهم يعولون في أحاديث الأحكام عليها ويفزعون في مهمات حوادث الشريعة إليها، وأن ذلك مستمر شائع ذائع في ديارهم من غير ظهور نكير، وهذه إحدى طرق الإجماع، أقصى ما في الباب أن ينازع في صحة كتب الحديث، وهذا القدر -أعني أن فيهم من يقول بذلك- معلوم لا يمكن إنكاره، ومع ذلك بطل عليك إجماعهم، ولم تكن في الاحتجاج ببعضهم أولى من خصمك في الاحتجاج [بمن] خالف من قلدته ونازع من تابعته.
الوجه الثاني: أن قولك بالرجوع في الحديث وتصحيحه وتضعيفه ورده وتعليله إلى أئمة الزيدية يحتاج إلى تمهيد قاعدة، وهي: أن يكون أئمة الزيدية قد صنفوا في معرفة صحيح الحديث، ومعلومه، ومقبوله، ومردوده ما يكفي أهل الاجتهاد من أهل الإسلام، والمعلوم خلاف ذلك، فإن من أهل الاجتهاد من لا يقبل المرسل، ومنهم من لا يقبل [ما] وقفه الأكثرون ورفعه بعض الثقات؛ أو وصله وقطعوه، أو أسنده وأرسلوه، ومعرفة هذا يحتاج إلى تأليف في العلل، والذي كتب العلل هم علماء الحديث: كالدارقطني وغيره، وليس لأئمة الزيدية في ذلك تصنيف البتة، ومن لم يفرد للعلل تأليفا من المحدثين ذكرها في تأليفه في الحديث كما يصنع أبو داود والنسائي وغيرهما، بخلاف من جمع الحديث من الزيدية فإنه لا يتعرض لذلك، وكذلك المجتهد يحتاج عند تعارض الأحاديث إلى معرفة الراجح بكثرة الرواة أو زيادة معدليهم أو كون بعضهم مجمعا عليه وبعضهم مختلفا فيه، وهذا يحتاج إلى معرفة فنين عظيمين:
أحدهما: معرفة طرق الحديث، وهو فن واسع لا نعرف للزيدية فيه تأليفا، وقد تعرض لذلك جماعة من أهل المسانيد والصحاح والسنن من المحدثين، وجمع الحافظ الماسرجسي في ذلك المسند الكبير الذي فرغ في قدر ثلاث مئة مجلد كبار، واختصر الحفاظ منهم أحاديث الأحكام وجردوها من هذه المؤلفات الواسعة، وذكروا ما يجب معرفته من وجوه الترجيح على أخصر ما يمكن تسهيلا على الأمة وتمهيدا لقواعد الملة.
الفن الثاني: علم الجرح والتعديل، وما فيه من تعريف مراتب الثقات والضعفاء الذين لا يتم ترجيح حديث بعضهم على بعض إلا بعد معرفته، وهو علم واسع صنف الحفاظ فيه الكتب الواسعة الحافلة. حتى جمع الفلكي فيه كتابا فرغ في ألف جزء، ثم لم يزل الحفاظ يهذبونه ويختصرون ما لا بد من معرفته حتى انضبط ذلك بعد الانتشار الكثير في مقدار الخمسة المجلدات أو ما يقاربها، وليس للزيدية في هذا الفن تأليف البتة.
وهذه علوم جليلة لا بد من معرفتها عند من يعتقد وجوب معرفتها من أهل الاجتهاد. فقول المعترض: إن الواجب هو الرجوع إلى أئمة الزيدية في علوم الحديث قول مغفل! لا يعرف أن ذلك مستحيل في حق أكثر أهل العلم الذين يشترطون في علوم الاجتهاد ما لم تقم به الزيدية! وإنما هذا مثل قول من يقول: إنه يجب الرجوع في علم الطب إلى الأحاديث النبوية والآثار الصحابية ولا يجوز تعديها إلى غيرها، ومثل من يقول: إنه يجب الرجوع في علوم الأدب إلى أئمة الزهادة وأقطاب أهل الرياضة.
ولقد ذكر إمام الحرمين الجويني في كتاب البرهان أنه لا يجوز لأحد التزام مذهب أحد من علماء الصحابة رضي الله عنهم، وقال شارح البرهان: «إن العلة في ذلك كون الصحابة رضي الله عنهم ليس لهم نصوص على الحوادث تكفي الملتزم لمذهب أحدهم كأئمة الفقه المتبوعين»، فكذلك أئمة الزيدية ليس لهم من التأليف في علم الحديث ما يكفي المجتهدين، فما للمعترض والتعرض لانتقاص المحدثين الذين قاموا بما قعد عنه غيرهم من علوم الدين، وهذا أمر يعرفه من له أدنى تمييز، وإنما أتي المعترض في انتقاض المحدثين من قلة الإنصاف ومحبة الاعتساف، ولله در من قال:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ** من اللوم، أو سدوا المكان الذي سدوا
الوجه الثالث: أنا لو رجعنا إلى تصانيف الزيدية في الحديث، لكنا قد رجعنا إلى أضعف مما استضعفت وأنكر مما استنكرت، وذلك لأن المصنفين من الزيدية في الحديث ليس إلا القاضي زيد، والإمام أحمد بن سليمان، والأمير الحسين، والإمام يحيى بن حمزة، هؤلاء الذين توجد تصانيفهم في أيدي الزيدية في نجد اليمن.
أما القاضي زيد فقد ادعى في شرحه الذي يروي فيه الحديث إجماع الأمة على قبول خبر أهل الأهواء.
وأما الإمام أحمد بن سليمان فقد صرح في خطبة كتابه بالنقل من كتب المحدثين، بل ذكر أن جميع كتابه، من كتب مسموعة، وكتب غير مسموعة، ولم يميز ما رواه من الكتب المسموعة، مع أن كتابه عمدة عند علماء الزيدية معتمد عند المجتهدين منهم.
وأما الأمير الحسين فينقل من كتب المحدثين، وهما معا ينقلان من كتاب القاضي زيد، وكل كتبهم خالية عن الإسناد وعن بيان من خرج الحديث من الأئمة.
وأما الإمام يحيى بن حمزة فينقل عنهم الجميع، وعن جميع أهل التأويل ويصرح بذلك. 42
وأما من لم يصنف في الحديث من أئمة الزيدية ولكن توجد الأحاديث في كتبه؛ فمنهم من صرح بقبول أهل الأهواء: فساقهم وكفارهم كالمؤيد بالله، مع إجماع الزيدية على قبول ما أرسله، بل قال المؤيد بالله: إن الظاهر من قول أصحابنا قبول شهادة كفار التأويل بلفظة (أصحابنا)، وهذا يقتضي روايته لذلك عن جميع [علماء] الزيدية؛ وهو مجمع على ثقته عند الزيدية فوجب قبول روايته، [وهي] تقتضي أن الرجوع إلى حديث الزيدية مشكل على من لا يقبل حديث كفار التأويل. وكذلك المنصور بالله عليه السلام فإنه قال في المهذب ما لفظه: «وقد ذكر أهل التحصيل من العلماء جواز قبول أخبار المخالفين في الاعتقادات. وروى عنهم المحققون بغير مناكرة». هذا لفظه، وهو رواية منه عن أهل التحصيل، وقد ادعى الإجماع على قبول فساق التأويل في كتاب الصفوة، وكذلك الإمام يحيى بن حمزة، والفقيه عبد الله بن زيد ادعيا الإجماع على قبول فساق التأويل، ودعواهم الإجماع يفيد روايتهم لذلك عن أسلافهم.
وأما الهادي والقاسم عليهما السلام فقد اختلفوا عليهما في ذلك، فرواية هؤلاء تفيد أنهما يذهبان إلى ذلك، وكذا رواية أبي مضر عنهما، وتخريج المؤيد بالله عليه السلام لهما وأحد تخريجي أبي طالب، وهو يقتضي أن ذلك مذهبهما، وهو أرجح من أحد تخريجي أبي طالب ورواية أبي جعفر، لأن هؤلاء أكثر [وأخير]، ولأن عمل الهادي عليه السلام في الأحكام يوافق ذلك، فإنه روى عن المخالفين، بل عن ضعفاء المخالفين، فروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وروى عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده.
وعلى الجملة؛ فالزيدية إن لم يقبلوا كفار التأويل وفساقه قبلوا مرسل من يقبلهم من أئمتهم، وإن لم يقبلوا المجهول قبلوا مرسل من يقبله. ولا يعرف فيهم من يحترس من هذا البتة. وهذا يدل على أن حديثهم في مرتبة لم يقبلها إلا من جمع بين قبول المراسيل بل المقاطيع، وقبول المجاهيل، وقبول الكفار والفساق من أهل التأويل فكيف يقال مع هذا: إن الرجوع إلى حديثهم أولى من الرجوع إلى حديث أئمة الأثر ونقاده الذين أفنوا أعمارهم في معرفة ثقاته، وجمع متفرقاته، وبيان صحاحه من مستضعفاته، فتكثرت بهم فوائده، وتمهدت بهم قواعده، وتقيدت أوابده.
وهل هذا إلا مثل إنكار الشعوبية لفضل علماء العربية، بل هو أقبح منه بدرجات عديدة ومسافات بعيدة، لأن الآثار النبوية هي ركن الإيمان وأخت القرآن، وهي شعار الفقه والدثار، وعليها في أمور الإسلام المدار.
وأما الوجوه التفصيلية: فقد اشتمل كلامه على مسائل:
المسألة الأولى: مثل المردود من كتب المحدثين بحديث جرير بن عبد الله البجلي في الرؤيةK وهذا من الإغراب الكثير والجهل العظيم> فإن المحدثين يروون في الرؤية أحاديث كثيرة تزيد على ثمانين حديثا عن خلق كثير من الصحابة أكثر من ثلاثين صحابيا. منهم: أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو موسى وعدي بن حاتم وأنس بن مالك وجرير بن عبد الله، وكل هؤلاء أحاديثهم متفق عليها مخرجة في صحيح البخاري ومسلم معا، وفي غيرهما من كتب الحديث. ومنهم: بريدة بن الحصيب وأبو رزين العقيلي وجابر بن عبد الله وأبو أمامة وزيد بن ثابت وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعمارة بن رويبة وأبو بكر الصديق وعائشة أم المؤمنين وسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن العباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وكعب بن عجرة وفضالة بن عبيد والزبير بن العوام ولقيط بن صبرة وعمر بن ثابت الأنصاري وعبد الله بن بريدة وأبو برزة الأسلمي وأبو الدرداء وأبو ثعلبة الخشني وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب.
وروى حديث الرؤية علماء الحديث كلهم في جميع دواوين الإسلام من طرق كثيرة، حتى رووه من طريق زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وفي الصحيحين منها ثلاثة عشر حديثا، اتفقا منها على ثمانية أحاديث، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة أحاديث، ولولا خوف التطويل لذكرت ما في كتب السنن، وقد استوفاها شيخنا الحافظ النفيس العلوي اليمني أدام الله علوه في كتابه الأربعين. وذكر كثيرا منها الحافظ الكبير البارع الشهير بابن قيم الجوزية في كتابه حادي الأرواح إلى دار الأفراح وغيرهما.
فاعتقاد المعترض أن حديث الرؤية مروي من طريق جرير بن عبد الله فقط وأن جريرا مطعون فيه بما لم يصح، من تخريب علي رضي الله عنه لداره، بل بما لو صح 43 لم يكن قادحا على مذهب المحدثين ولا مذهب الزيدية، أما [المحدثون] فظاهر، وأما الزيدية فلأن المتأولين عندهم مقبولون، وإن لم يكونوا من أصحاب رسول الله ﷺ، فإذا كانوا أصحابه كانوا أولى بالقبول لأن صحبة رسول الله ﷺ من أسباب الزيادة لا من أسباب النقص، فثبت بهذا أنه قدح بما لا يقدح به [في مذهبه، ولا] في مذهب خصمه، وأنه باعتقاده لانفراد جرير بالحديث في مرتبة ينبغي أن يرحم صاحبها، لما هو عليه من البعد عن المعرفة والتعاطي للرد على من لم يحط من علمه بشيء يعتد به، فالله المستعان.
وهذا كله من تعرضه لما لا يحسنه ودخوله فيما لا يعرفه، فإن علم الحديث علم جليل القدر غزير البحر، والخوض مع نقاده بغير البصيرة يؤدي إلى التخبط في مثل هذه الجهالة والتورط في مثل هذه الضلالة، وإنما الذي كان يحسنه هذا المعترض أن ينقل من [تعليق] الخلاصة كلام المعتزلة في الدليل على استحالة رؤية الله تعالى في جهة، وأن الدليل العقلي يوجب تأويل ما ورد من السمع بخلافه، ويقف على هذا الحد ولا يتعرض بعده لأحد. 44
المسألة الثانية: قال: والقطع أنه إذا جرح الراوي جماعة عدول فإن جرحهم مقبول؛ لأن الجارح يقدم على المعدل.
قلت: هذا القطع الذي ذكره قطع بغير تقدير، ولا هدى ولا كتاب منير؛ لأن المسألة ظنية لا قطعية، وخلافية لا إجماعية، بل الواجب التفصيل في الجرح: فإن كان مطلقا غير مفسر السبب، فالجرح به مختلف فيه، والصحيح عند المحققين: أنه لا يجرح [به] لاختلاف الناس في الأسباب التي يجرح بها، وتفسير جماعة من الثقات ما أطلقوه من الجرح بأمور لا يوافقون على الجرح بها.
وأما إن كان الجرح مفسر السبب، فإما أن يعارضه تعديل جامع لشرائط المعارضة، مثل أن يقول [الجارح: إن الراوي] ترك صلاة الظهر يوم كذا في تاريخ كذا، ويقول المعدل: إنه صلى تلك الصلاة في ذلك التاريخ. أو يقول المعدل: إنه كان في ذلك الوقت نائما أو مغلوبا على اختياره أو صغيرا غير مكلف أو معدوما غير مخلوق أو غائبا عن حضرة الجارح، أو نحو ذلك؛ فهنا يجب الرجوع إلى الترجيح أيضا، ولا يجب قبول الجرح مطلقا لا قطعا ولا ظنا.
وأما إن لم يعارض الجرح توثيق معارضة حقيقية خاصة، ولكن معارضة عامة، مثل أن يقول الجارح: إن الراوي كان ممن يخل بالصلاة ويتناول المسكر، ويقول المعدل: إنه ثقة مأمون ونحو ذلك، فلا يخلو: إما أن تكون عدالة الراوي معلومة بالتواتر مثل: مالك والشافعي ومسلم والبخاري، وسائر الأئمة الحفاظ، فإنه لا يقبل جرحهم بما يعلم نزاهتهم عنه، ولو كان ذلك مقبولا لكان الزنادقة يجدون السبيل إلى إبطال جميع السنن المأثورة بأن يتعبد بعضهم ويظهر الصلاح حتى يبلغ إلى حد يجب في ظاهر الشرع قبوله، ثم يجرح الصحابة رضي الله عنهم فيرمي عمار بن ياسر يإدمان شرب المسكر، وسلمان الفارسي بالسرقة لما فوق النصاب، وأبا ذر بقطع الصلاة، وأبي بن كعب بفطر رمضان، وأمثال هذا في أئمة التابعين وسائر أئمة المسلمين في كل عصر، فإن من جوز هذا فليس بأهل للمراجعة، ولا جدير بالمناظرة، وكثيرا ما يقول أئمة الجرح والتعديل في أهل هذه الطبقة: فلان «لا يسأل عن مثله» 45 فإن تكلموا فيهم بتوثيق، أو تليين، أو نحو ذلك؛ فإنما يعنون به التعريف بمقدار حفظهم، وأنهم في العليا من مراتب الحفظ أو الوسطى.
وأما إن كانت عدالة الراوي مظنونة غير معلومة؛ فظاهر كلام الأصوليين تقديم الجرح المفسر وقبوله من غير تفصيل، وتعليلهم بالرجحان يقتضي أن ذلك يختلف بحسب اختلاف القرائن والأسباب المرجحة لأحد الأمرين، وهذا هو القوي عندي، ولا نضر [للنظار] يخالفه.
فنقول: لا يخلو إما أن تكون عدالة الراوي أرجح من عدالة الجارح له أو مثلها أو دونها، إن كانت عدالة الراوي أرجح وأشهر من عدالة الجارح؛ لم نقبل الجرح؛ لأنا إنما نقبل الجرح من الثقة لرجحان صدقه على كذبه، ولأجل حمله على السلامة، وفي هذه الصورة كذبه أرجح من صدقه، وفي حمله على السلامة إساءة الظن بمن هو خير منه وأوثق وأعدل وأصلح. وأكثر ما يقول أئمة هذا الشأن في أهل هذه الطبقة إذا سئلوا عنهم: أنا أسأل عن فلان، بل هو يسأل عني.
وأما إن كان مثله في العدالة، فيجب الوقف لتعارض أمارتي صدق الجارح وكذبه، فإن عدالة الجارح أمارة صدقه، وعدالة المجروح أمارة كذبه، وهما على سواء، وليس أحدهما بالحمل على السلامة أولى من الآخر، فإن انضم إلى عدالة المجروح معدل كان وجها لترجيح عدالته.
وأما إن كانت عدالة الراوي أضعف من عدالة الجارح، فإن الجرح هنا يقبل إلا أن تقتضي القرائن والعادة والحال من العداوة ونحوها أن الجارح واهم في جرحه أو كاذب، 46 فإن القرائن قد يعل بها حديث الثقة وإن كان معينا مثبتا، ويسميه المحدثون: معللا، وقالوا في تفسير العلة التي يعل بها حديث الثقة: «هي عبارة عن أسباب خفية غامضة طرأت علىالحديث، فأثرت فيه، أي قدحت في صحته، وتدرك العلة بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك يهتدي الناقد بها إلى اطلاع على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك بحيث غلب على ظنه ذلك فأمضاه وحكم به، أو تردد في ذلك فوقف وأحجم عن الحكم بصحة الحديث، فإن لم يغلب على ظنه التعليل بذلك فظاهر الحديث المعل السلامة من العلة» هذا كلامهم بلفظه.
فأي فرق يجده الناظر المنصف بين إعلال رواية الثقة بحديث معين، وإعلال رواية الثقة بجرح معين في رجل معين، بل العلل العارضة بين الجارح والمجروح أكثر من العلل العارضة بين الراوي والحديث، لما يقع بين الناس في العادة من العداوة إما لأجل الاختلاف في المذاهب أو في غير ذلك، فهذه حجة قوية مأخوذة من نصوص أئمة الحديث.
وأما الحجة على ذلك من أنظار علماء الأصول فهي أن نقول: الجرح المبين السبب إنما قدم على التعديل لأنه أرجح، إذ كان القريب في المعقول أن الجارح يطلع على ما لم يطلع عليه المعدل، وفي قبوله حمل الجارح والمعدل على السلامة معا، ولم يقل أحد: إن الجرح مقدم لمناسبة طبيعية ذاتية بين اسم الجرح الذي حروفه الجيم والراء والحاء المهملة، وبين صدق من ادعاه، وحينئذ يظهر أن العبرة بالرجحان الذي هو ثمرة الترجيح، وإنما هذا الذي أوجب تقديم الجرح في بعض الصور، وهو نوع من الترجيح أوجب الرجحان، فإذا انقلب الرجحان في بعض الصور إلى جنبة التعديل، وقامت على ذلك القرائن وترجح ذلك في ظن الناظر في التعارض: فإما أن يوجبوا عليه أن يقضي بالراجح عنده؛ فذاك الذي نقول، أو يوجبوا عليه العمل بالمرجوح عنده؛ فذلك خلاف المعقول والمنقول.
فتأمل هذا الكلام فإنه مفيد مانع من المسارعة إلى قبول الجرح من غير بصيرة، وإياك والاغترار بقول الأصوليين: إن الجرح المفسر مقدم، فإن الرجال ما أرادوا إلا تلك الصورة التي نظروا فيها إلى تجردها عن جميع الأمور إلا الجرح المفسر والتعديل الجملي، وهذه الصورة لم يخالف فيها، وهم أعقل من أن يطردوا هذا القول لما يلزمهم من جرح أئمة الصحابة والتابعين بقول من أظهر الصلاح من الزنادقة ليتوصل إلى ذلك وأمثاله من مكايد الدين.
فإن قلت: إنما تخصص عموم كلامهم في هذه الصورة؛ لأنها تؤدي إلى تقديم المظنون على المعلوم لو لم يتأول كلامهم، بل خبر الثقة حين صادم المعلوم لا يسمى مظنونا بل كذبا.
قلنا: وكذلك الصور التي ذكرناها يجوز تخصيصها؛ لأنها من قبيل تقديم الموهوم المرجوح على المظنون الراجح، وقد علم من قواعدهم أن ذلك لا يجوز فقواعدهم هي المخصصة لعموم كلامهم، على أن مخالفتهم بالدليل جائزة غير ممنوعة، وقد اتضح الدليل على ما أخبرته، وبان بالإجماع بطلان قطع المعترض على أن الجرح مقدم مطلقا ولله الحمد.
المسألة [الثالثة]: قال: الثاني أنه إذا تعارض رواية العدل الذي ليس على بدعة ورواية المبتدع، قدمت رواية العدل الذي ليس على بدعة، وهذا مجمع عليه.
والجواب عليه من وجوه:
أحدها: منع الإجماع الذي ادعاه بشهرة الخلاف، فقد أجمع أئمة الحديث على تقديم الحديث الصحيح على الحديث الحسن مع إخراجهم لأحاديث كثير من أهل البدع في الصحيح، بل في أرفع مراتب الصحيح وهو المتفق عليه المتلقى بالقبول من حديث الصحيحين، فحديث أولئك المبتدعة الذين اتفق الشيخان على تصحيح حديثهم مقدم عند التعارض على حديث كثير من أهل العقيدة الصالحة الذين نزلوا عن مرتبة أولئك المبتدعة في الحفظ والإتقان.
وقد نص الإمام المنصور بالله من أئمة الزيدية في الاحتجاج على قبول الخوارج الموارق من الإسلام: أن قبول من يرى أن الكذب كفر أولى من قبول من لا يرى ذلك، وهذا نص على ما ذكرناه، وذكر مثل ذلك أحمد بن الحسن الرصاص في جوهرة الأصول، والحاكم في شرح العيون، ولم ينكر ذلك أحد من أهل التعاليق على الجوهرة، بل ادعى المنصور الإجماع من الصحابة على خلاف ما ذكره المعترض فقال: «إن اعتماد أحدهم على ما يرويه عمن خالفه كاعتماده على ما يرويه عمن يوافقه»، وكذلك أبو طالب حكى في المجزي: أن الفقهاء ادعوا العلم بإجماع الصحابة على التسوية بين الكل من أهل التنزه عما يوجب الجرح من أفعال الجوارح في قبول شهادته وحديثه، مع العلم باختلافهم في المذاهب. فهذه ألفاظ تدل على دعوى الإجماع على نقيض ما ذكره المعترض، وهي ثابتة من طريق أوثق أئمة الزيدية، وسوف تأتي هذه المسألة عند ذكر قبول أهل التأويل، وأذكر فيها الكلام مستوفى هنالك إن شاء الله تعالى، فقد ادعاها في ذلك الموضع وهو بها أخص.
الوجه الثاني: أنا قد بينا أن الزيدية أحوج الناس إلى قبول المبتدعة، وأن مدار حديثهم على ما يخالفهم، وأن كثيرا من أئمتهم نصوا على قبول كفار التأويل وادعوا الإجماع على ذلك، وأن بقية الزيدية يقبلون مراسيل أولئك الأئمة؛ كالمنصور، والمؤيد، والإمام يحيى بن حمزة، والقاضي زيد، وعبد الله بن زيد وغيرهم.
الوجه الثالث: أن أهل الحديث لو سلموا لك هذه المقدمة -وهي أن حديث غير المبتدع مقدم على حديث المبتدع- لم تكن منتجة لمقصودك حتى يضم إليها مقدمة أخرى، وهي: أن أهل الحديث هم المبتدعة، ولا شك أن هذه المقدمة التي تركتها غير ضرورية، وقد أجمع أهل البرهان على أن إحدى المقدمتين لا تحذف إلا لجلائها وعدم التنازع فيها، فكيف تركت محل النزاع مع دعواك أنك أوحد أهل الزمان في علم البرهان، وليس كونك من أهل الحق يصلح عذرا لك من إظهار البراهين قال الله تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.
قال: لأن رواية غيرهم لا تخلو من ضعف، وإنما تقبل عند عدم المعارض -يعني رواية غير أئمة الزيدية-.
أقول: هذا قصر للعدالة على أئمة الزيدية الذين ادعوا الخلافة، 47 وهذا غلو لم يسبق إليه، بل هذيان لا يعول عليه، ولو كان ما ذكره صحيحا لوجب في الشهود أن يكونوا أئمة، وهذا يؤدي إلى وجوب أربعة أئمة في شهادة الزنا، وإمامين في الشهادة على الأموال، وهذا خرق للإجماع، بل خلع لجلباب الحياء من الله تعالى.
قال: «لأنها رواية عمن لا تعلم عدالته ونزاهته من فسق التأويل».
أقول: هذه دعوى للجهل بعدالة الرواة، فإما أن يدعي الجهل لنفسه أو يدعيه على العلماء، إن كان الأول فمسلم، ولا يضر تسليمه لأن الإقرار بما يدخل النقص على المقر دون غيره صحيح وفاقا؟ وإن كان الثاني فغير مسلم لأن الدعوى على الغير تحتاج إلى بينة صحيحة أو إقرار من المدعي عليه، وكل ذلك غير حاصل في هذه الدعوى، أما الرواية عن أهل التأويل فقد [أجازها] أكثر العلماء وادعوا الإجماع من الصحابة وغيرهم على ذلك، واحتجوا بحجج كثيرة يأتي بعضها في موضعه إن شاء الله تعالى، ومن لم يقبلها من أهل العلم لم يتمسك بحديث حتى يعرف براءة رواته من ذلك، ولا اعتراض على من قبلهم، ولا على من لا يقبلهم.
والعجب من المعترض يقدح على المحدثين بعدم علمهم بنزاهة رواتهم عن فسق التأويل، وقد بينا نصوص أئمة الزيدية على قبول كفار التأويل، بل على أن قبولهم مجمع عليه، وبينا أن من لم يقبلهم من الزيدية قبل مرسل من قبلهم، فإنه لا يعلم أن في الزيدية من لا يقبل حديث: المنصور، والمؤيد، والقاضي زيد، وعبد الله بن زيد، ويحيى بن حمزة، ونحوهم ممن صرح بقبول أهل التأويل، وادعى الإجماع على جوازه كما سيأتي مفصلا محققا إن شاء الله تعالى.
قال: «هذا إذا كان الناظر في الحديث مجتهدا، أما إذا كان غير بالغ رتبة الاجتهاد فليس له أن يرجح بهذا الحديث قولا ويجعله مختاره وإن كان الحديث نصا في ظاهر الحال، لأن الترجيح بالخبر إنما هو بعد كونه صحيحا عن الرسول، ولا يكون صحيحا حتى يكون راويه عدلا، والعدالة غير حاصلة كما سنذكره».
أقول: نفي العدالة عن رواة حديث الكتب الصحيحة جهل مفرط لم يقل به أحد من الزيدية ولا من السنية، فقد بينا إجماع أهل السنة على وجوب القبول لها، وإنما يتعلل هذا المعترض لمخالفتهم لمذهبه، وقد بينا نصوص أئمة الزيدية على قبول مخالفيهم في الاعتقاد، ونقل مصنفيهم في الحديث من كتب أئمة الحديث، ومجرد المباهتة بإنكار الجليات، وجحد المعلومات لا يطفئ نور الحق، ولا ينور دخان الباطل، بل يتميز به المنصف من المتعسف، والعارف من الجاهل.
وبمثل هذه الدعاوى المعلومة الفساد، يفضح الله المستترين من أهل العناد، الذين يظهرون للعباد أنهم دعاة إلى السداد، وأدلة على الرشاد، والقول بانتفاء عدالة رواة السنن النبوية، والآثار المصطفوية واللغة العربية، مما لا يقول به مسلم، وقد بينا فيما تقدم أن مثل هذا لا يصلح إيراده ونصرته إلا من أعداء الإسلام خذلهم الله تعالى، وأن صاحب هذه الرسالة حام على بطلان التكليف فأبطل الطريق إلى الثقة بالحديث واللغة والنحو والتفسير، وببطلان هذه العلوم أو بعضها يبطل الاجتهاد والتقليد.
أما الاجتهاد: فظاهر، وأما التقليد فلما شرحناه أولا، ودللنا عليه كون جواز التقليد مأخوذا من هذه العلوم ومبنيا على هذه القواعد.
قال: «ولأنه لا يرجح بالخبر حتى يعلم أنه غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بما هو أقوى منه من إجماع أو غيره».
أقول: هذا الذي ذكره لا يجب على المجتهد عند جماهير علماء الإسلام، كما ذلك مقرر في علم الأصول، وأنه لا سبيل إلى العلم بعدم المعارض والناسخ والمخصص، وإنما اختلف العلماء في وجوب الظن لعدم هذه الأمور في حق المجتهد فقط، ولا أعلم أن أحدا شرط ذلك في ترجيح المقلد، [وإنما اختلف العلماء في وجوب الترجيح على المقلد] بما يفيد الظن، ولم يختلفوا في جواز ذلك وحسنه، وإنما اختلفوا في وجوبه مع اتفاقهم على أنه زيادة في التحري. فلا يخلو المعترض؛ إما أن يقر أن الترجيح بخبر الثقة يفيد الظن أو لا، إن قال: إنه لا يفيد الظن؛ فذلك ممنوع؛ لأن الظن يحصل بخبر الثقة من غير توقف على العلم بعدم المعارض والناسخ والمخصص، و[وجوب] الظن عند خبر الثقة ضروري، ولو كان ظن صحة الحديث النبوي يتوقف على ذلك لتوقف الظن على ذلك في سائر أخبار الثقات، وكان يجب إذا أخبرنا ثقة بوقوع المطر، أو نفع دواء، أو غير ذلك أن لا نظن صحته حتى يطلب المعارض والمخصص، بل يلزم إذا أفتى المفتي أن لا تقبل فتواه حتى يطلب معارضها من غيره فلا يوجد، وكذلك يلزم ألا يعتد بأذان المؤذن حتى يطلب المعارض، وكذلك إذا شهد الشاهدان.
وإما أن يسلم أن الظن يحصل بخبر الثقة قبل طلب المعارض ونحوه؛ فالدليل على وجوب الترجيح به من وجوه:
الوجه الأول: أن مخالفته قبل طلب المعارض وغيره مع ظن صحته تقتضي الإقدام على ما يظن أنه حرام وأن مضرة العقاب واقعة عليه، وتجنب الحرام المظنون واجب سمعا، وتجنب المضرة المظنونة واجب عقلا.
الوجه الثاني: أن الدليل على وجوب العمل بخبر الواحد قائم قبل طلب هذه الأمور، وقبل ظن عدمها كما هو قائم بعد ذلك.
الوجه الثالث: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما سئل عن سهم الجدة؛ فأخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة، لم يطلب المعارض والناسخ ونحو ذلك. وكذلك عمر بن الخطاب لما أخبره عبد الرحمن بقوله ﷺ في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» عمل به ولم يطلب المعارض والناسخ ونحوه، وشاع ذلك وذاع ولم ينكر فكان إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم.
الوجه الرابع: أن رسول الله ﷺ قال لمعاذ في حديثه المشهور: «بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله ﷺ» الحديث. وفيه ما يدل على تقرير معاذ على ما ذكره، ولم يذكر فيه طلب المعارض والناسخ بعد وجود الحكم في الكتاب أو السنة، وكان طلب ذلك في حياة رسول الله ﷺ أولى بالوجوب؛ لأنه يطلب من النبي ﷺ وذلك طلب مفيد لليقين.
وحديث معاذ هذا وإن كان في إسناده مقال عند بعض أهل الحديث، فقد قواه غير واحد، منهم القاضي أبو بكر بن العربي المالكي والحافظ ابن كثير الشافعي وذكر أنه جمع جزءا في شواهده وطرقه وقال: «هو حديث حسن مشهور اعتمد عليه أئمة الإسلام في إثبات أصل القياس»، وكذلك علماء المعتزلة والزيدية احتجوا به، بل قال الأمير الحسين في شفاء الأوام: إنه حديث معلوم.
فإن قلت: فهذه الوجوه تقتضي أن البحث عن المعارض والناسخ والخاص غير واجب في حق المجتهد.
قلت: هو كذلك، وهو اختيار الفخر الرازي وحكاه في المحصول عن غيره، وفي المسألة خلاف مشهور، فإن دل دليل على دفع هذه الوجوه، ووجوب البحث على المجتهد، وجب تقرير ذلك حيث دل دليل في حق المجتهد دون المقلد، وإن لم يدل دليل، فالحق أحق أن يتبع، والداعي إليه أجدر أن يسمع.
قال: «ولأن الترجيح بالأخبار اجتهاد، لأنه يفتقر إلى أصعب علوم الاجتهاد وهو معرفة الناسخ من المنسوخ، وغير ذلك، والغرض أن هذا الناظر مقلد».
أقول: هذا الاحتجاج ضعيف بمرة، لأنه لا رابطة عقلية بين الاجتهاد وأصعب علومه، إذ ليس بعض شرائط الشيء إذا تصعب كان هو ذلك الشيء المشروط، ألا ترى أنه لا يقال: "إن الطهور في الماء البارد في البلاد الباردة هو الصلاة لأنه أصعب شروطها" إلا على وجه مجازي لا يعتد بمثله في مواضع التحليل والتحريم، فكذلك معرفة الناسخ والمنسوخ لا يقال فيها إنها اجتهاد لأنه أصعب علوم الاجتهاد. على أن تمثيله لأصعب علوم الاجتهاد بمعرفة الناسخ والمنسوخ جهل مفرط؛ لأن معرفة ذلك يسيرة، فإن النسخ قليل في الشريعة بالنظر إلى التخصيص، وما يدخله ضرب من التعارض، وقد جمع كثير من العلماء المنسوخ في مختصرات يسيرة.
وجملة ما أجمع العلماء على نسخه: استقبال بيت المقدس، والكلام في الصلاة، وحكم المسبوق، وترك الصلاة في الخوف، وصلاة الجمعة قبل الخطبة، والصلاة على المنافقين، وتحريم زيارة القبور على الرجال، وجواز الاستغفار للكفار بعد موتهم على الكفر، ووجوب صوم عاشوراء، والسحور بين طلوع الفجر وشروق الشمس على خلاف شاذ في تفسير الفجر، وجواز لحوم الحمر الأهلية، ورجعة المطلقة أبدا، واعتداد المتوفى عنها حولا، وجواز شرب الخمر، وتحريم الأكل والنكاح ليلا في رمضان، والتخيير فيه بين الصوم والكفارة، وتحريم الجهاد بالسيف للكفار، وتحريم قتال آمي البيت الحرام منهم، ووجوب قيام الليل على غير النبي ﷺ، واعتبار العشر الرضعات في تحريم الرضاع، وتحريم كتابة غير القرآن، ووجوب الوصية للأقربين، والتوارث بغير القرابة، وحبس الزانيين حتى يموتا، ووجوب قتال المسلم لعشرة. وأجمع المسلمون على أن الرباعية من الصلوات لا تصلى ركعتين وإن كانت [كذلك] في الأصل، لكنهم اختلفوا في الزيادة في العبادة هل هي نسخ، على قولين، وأجمعوا على وجوب الحجاب للنساء، فإن كان جواز تركه من قبل على أصل الإباحة؛ فليس من المنسوخ في شيء، وإن كان ترخيصا شرعيا ناسخا لشرع متقدم فهو منسوخ، والأول أقرب، وفيما ذكرناه ما لم يجمع على ثبوته أولا مثل اعتبار العشر الرضعات، ولكن أجمعوا الآن على عدم اعتباره، فهو عند من ثبت عنده في حكم المجمع على نسخه.
وفي المنسوخ ما اشتهر نسخه ولم أعلم فيه خلافا، ولا نقل الإجماع فيه [من يوثق] به فيما أعلم، وذلك في: نسخ الأمر بالفرع، وقتل شارب الخمر في الرابعة، والأمر بأذى الزانين، وتحريم كنز الذهب والفضة بعد إخراج الزكاة، وتحريم قتال الكفار والبغاة في الأشهر الحرم، وجواز التنفيل قبل القسم، ولبس خواتيم الذهب، والأمر بقتل الكلاب إلا الأسود، وجواز المثلة.
وفي المنسوخ ما اشتهر نسخه وذهب إليه المشاهير 48 وشذ المخالف فيه، وذلك مثل نسخ: «الماء من الماء»، والوضوء مما مست النار، والتطبيق في الركوع، والأمر بضرب النساء مطلقا، وموقف الإمام بين الاثنين، والقول بأنه لا ربا إلا النسيئة، ووجوب حقوق في المال غير الزكاة، والأمر بالعتيرة -وهي ذبيحة في رجب- ومتعة النساء، وتحريم لحم الأضحية بعد ثلاث، والرضاع بعد الحولين، وعدم وجوب الشياه في زكاة البقر على تفصيل فيه، وشذ المخالف في جواز لبس الحرير للرجال مدعيا نسخ التحريم، والمخالف في المسح على الخفين مدعيا لنسخه شذ في الصدر الأول، ثم كثر القائل به من الشيعة.
وشاع الخلاف في نسخ تحريم استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وفي ترك الوضوء من مس الذكر، وفي متعة الحج، وفي طهارة جلود الميتة بالدبغ، وفي التيمم إلى المناكب وصح نسخه، وفي جواز مسح القدمين في الصلاة، وفي جواز إقامة غير المؤذن، وفي قطع المار للصلاة، وفي الصلاة إلى التصاوير، ووضع اليدين قبل الركبتين، والجهر بالتسمية، وفي ثبوت القنوت، وفي القراءة خلف الإمام، وأفضلية الإسفار بالصبح، وصلاة المأموم جالسا إذا صلى الإمام كذلك، وسجود السهو بعد السلام، والقيام للجنائز، ونسخ عدد تكبير صلاة الجنازة إلى أربع، والنهي عن الجلوس حتى توضع الجنازة، وفساد صوم المصبح جنبا والجمهور على صحته، وفساد صوم المحتجم، ونسخ إباحة الفطر في السفر إلى وجوبه والجمهور على خلافه، ونسخ النهي عن شرب النبيذ في الآنية المسرعة بالتخمير، كالدباء، والإناء المطلي ولم يقل بعدم النسخ فيه إلا أحمد بن حنبل وأتباعه.
واختلفوا في نسخ قوله تعالى في الممتحنة: {فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا}. لاختلافهم في معناها على ما هو مقرر في كتب التفسير، والنهي عن الرقى، وعن القران في التمر، وعن قول ما شاء الله وشاء فلان، والاشتراط في الحج، وابتداء الكفار بالقتال في الحرم، وشهادة غير المسلمين في السفر عند الحاجة إلى ذلك، وتحريم لحوم الخيل، وجواز المزارعة، والإذن للمتوفى عنها في النقلة أيام عدتها وصح نسخه، وقتل المسلم بالذمي، والتحريق بالنار في غير الحرب، واستيفاء القصاص قبل اندمال الجرح، وجلد المحصن قبل الرجم، وحكم الزاني بأمة امرأته، ووجوب الهجرة من دار الكفر، والدعوة قبل القتال، وجواز قتل النساء الكافرات، وقتل ولدان الكفار، والنهي عن الاستعانة بالمشركين، وأخذ السلب بغير بينة، وجواز الحلف بغير الله، وقبول هداية الكفار، والنهي عن البول قائما، ووجوب الغسل يوم الجمعة.
فهذه تسعة وتسعون حكما أجمع أهل العلم على حكم سبعة وعشرين منها، واشتهر النسخ من غير خلاف نعرفه في ثمانية أحكام، وشذ المخالف في نسخ ثلاثة عشر حكما، وشذ القائل بنسخ حكمين، واشتهر الخلاف منها في ثمانية وأربعين حكما؛ أكثرها أو كثير منها لم يجمع فيه شرائط النسخ بل يكون من العموم والخصوص أو التعارض الذي يرجع فيه إلى الترجيح.
وأحسن كتاب صنف في ناسخ الحديث ومنسوخه كتاب الاعتبار للحافظ الحازمي، وهو مبسوط كثير الفوائد، وليس يخرج منه إلا منسوخ القرآن الكريم، وكثير منه معلوم ضرورة لا يحتاج إلى ذكر، مثل نسخ شرب الخمر واستقبال بيت المقدس، ونحو ذلك.
وقد صنف الإمام محمد بن المطهر كتاب عقود العقيان في الناسخ والمنسوخ من القرآن، وطول تطويلا مخرجا عن المقصود بعيدا عن ملاءمة الاقتصار على موضوع الكتاب. 49
فإذا عرفت أن هذا الذي ذكرناه هو كل المنسوخ أو جله لا يفوت منه إلا ما لا يعصم البشر عن نسيان مثله، فكيف يقال إنه أصعب علوم الاجتهاد، وأن معرفته اجتهاد؟ ومن المعلوم لكل منصف أن تعلم مثل هذا أسهل من تعلم كتاب الصلاة في كثير من الكتب الفقهية التقليدية، وقد تعرض المتعلمون من الطلبة لمعرفة علم العربية وكثير من العلوم الدقيقة؛ فلم يعلم من أحد من أهل العلم أنه قنطهم من بلوغ المقصود في تلك الفنون؛ فكيف إلى معرفة مختصر لطيف في الناسخ والمنسوخ. وهذا محض المخالفة لقول رسول الله ﷺ: «يسروا ولا تعسروا» فنسأل الله الهداية، ونعوذ به من الغواية.
قال: «فكيف يستنتج العقيم ويستفتى من ليس بعليم»
أقول: الجواب على هذا من وجوه:
الوجه الأول: إما أن يشير بهذا الكلام إلى الاستهزاء والسخرية بمن أجاز للمميز من القراء المقلدين، أو أوجب عليه أن [يبحث عن] الأدلة ويعرف نصوص السنة ثم يقلد الأرجح من العلماء، أو يأخذ بما وافق النصوص النبوية التي حكم لها نقاد العلماء بالصحة وعدم النسخ والتخصيص والمعارضة، أو يشير بهذا الكلام إلى السخرية بمن قال بتجزئ الاجتهاد، وأن المطلع على أدلة المسألة، وجميع ما قيل فيها يصير مجتهدا فيها، يلزمه العمل باجتهاده، وكل واحدة من هاتين المسألتين صحيحة القواعد، نص عليها من جلة العلماء غير واحد، والساخر من الذاهب إليهما من علماء الملة الإسلامية متعد لحدود القوارع القرآنية، قال الله تعالى: {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم} ونحن نذكر كل واحدة من هاتين المسألتين ليظهر للناظر أنه ليس في شيء منهما ما يوجب السخرية والاستهزاء بمن ذهب إليهما، أو عول عليهما:
المسألة الأولى: في وجوب الترجيح أو جوازه في حق المميز من طلبة العلم لا سيما طلبة علم الحديث النبوي، فهذه مسألة قد ذكرها غير واحد من العلماء، وقد حكاه في مختصر المنتهى عن أحمد بن حنبل، وابن سريج، وحكاه القطب الشيرازي في الشرح عنهما، وعن القفال، وأبي حامد الغزالي، وجماعة من الفقهاء والأصوليين وهو الذي اختاره المنصور بالله، واحتج على وجوبه في كتاب صفوة الاختيار، وهو ظاهر حكاية عبد الله بن زيد العنسي عن الزيدية في كتاب الدرر، وهو الذي نص عليه المؤيد بالله في كتابه الزيادات فقال ما لفظه: «فصل فيما يجب على العامي والمستفتي، وما يكون الاشتغال به أولى من العلوم: عندي أن التنقير والبحث واجب على العامي، فإن كان ممن له رشد وثبت له وجه القوة بين المسألتين أخذ بأقواهما عنده، وإن لم يكن له رشد فلا بد أن ينظر إلى الترجيح بين العلماء ويطلب ذلك» إلى آخر كلامه.
وقال الإمام الداعي يحيى بن المحسن ما لفظه: «من انتهى في العلم إلى حالة يمكنه معها الترجيح بين الأقوال وجب عليه استعمال نظره في الترجيح، وإن لم يبلغ درجة الاجتهاد».
وذكر النووي في شرح المهذب: أنه صح عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: «إذا صح الحديث فاعملوا به ودعوا مذهبي»، قال النووي في شرح المهذب: «وورد هذا المعنى عنه بألفاظ مختلفة». وهذا يدل على ما قلناه، لأن قول الشافعي هذا لا يجوز أن يوجه إلى المجتهدين لأنهم غير عاملين بمذهبه، سواء صح الحديث أو لم يصح، ولأنهم غير محتاجين إلى مثل هذا التعليم، وإنما وصى بهذا ملتزمي مذهبه إشفاقا منه رضي الله عنه على أصحابه ومتبعيه من الوقوع في العصبية [له و] تقديم قوله على ما صح عن رسول الله ﷺ، وهذا يدل على تعظيمه رضي الله عنه للسنن النبوية ومحبته لتقديم العمل بها على الآراء القياسية والأنظار المبنية على كثير من الأمارات العقلية.
وذكر النووي رحمه الله أن كثيرا من علماء الشافعية عملوا على مقتضى هذه القاعدة في مسائل كثيرة، منها اختيار التأذين بالصلاة خير من النوم فإن قول الشافعي الجديد أن ذلك ليس بسنة، لكنهم خالفوه لما صح الحديث في ذلك.
وكذلك الحافظ عماد الدين المعروف بابن كثير ذكر مثل ذلك في كتاب إرشاد الفقيه إلى أدلة التنبيه في مسألة تحريم الزكاة على موالي بني هاشم [وبني المطلب]، وقدم الحديث على مذهب الشافعي، وحكى مثل ذلك عن النواوي رحمه الله، وهو الذي اختاره الإمام العلامة شيخ الإمام النووي: عز الدين بن عبد السلام الشافعي 50 الذي قال النووي في شرح المهذب في ترجمته: إنهم اتفقوا على براعته في العلوم كلها، وعلى أمانته وديانته أو كما قال، ذكر ذلك عز الدين ابن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام.
وأجمع كلام في هذا رأيته كلام الإمام النواوي في شرح المهذب وهو هذا بلفظه، قال رحمه الله تعالى: «صح عن الشافعي رحمه الله أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ﷺ فقولوا بالسنة ودعوا قولي. وروي عنه: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وروي عنه هذا المعنى بألفاظ مختلفة، وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب، واشتراط التحلل من الإحرام بعذر المرض، وغيرهما مما هو معروف. وممن أفتى بالحديث البويطي والداركي ونص عليه الكيا الطبري، واستعمله من أصحابنا المحدثين: البيهقي وآخرون.
وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشافعي بخلافه عملوا بالحديث وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث. ولم يتفق ذلك إلا نادرا لما نقل عن الشافعي. وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أن كل من رأى حديثا صحيحا، قال: هذا مذهب الشافعي بظاهره، 51 وإنما هو فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه، وشرطه: أن يغلب على ظنه أن الشافعي لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته، وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قل من يتصف به. وإنما اشترطوا ما ذكرناه لأن الشافعي ترك العمل بظاهر أحاديث علمها ورآها، لكن قام الدليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تأويلها أو نحو ذلك.
قال ابن الصلاح: ليس العمل بظاهر ما قاله الشافعي، فليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل بما رآه حجة من الحديث. وممن سلك هذا المسلك أبو الوليد موسى بن [أبي] الجارود - ممن صحب الشافعي- قال: صح حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم له» فأقول: قال الشافعي: أفطر الحاجم والمحجوم. فردوا ذلك عن أبي الوليد لأن الشافعي تركه مع علمه بصحته لكونه منسوخا عنده، وبين نسخه.
قال أبو عمرو بن الصلاح -فيمن وجد حديثا يخالف مذهبه-: نظر إن كان من أهل الاجتهاد فيه مطلقا أو في ذلك الباب أو المسألة كان له العمل به، وإن لم يكن وشق عليه مخالفة الحديث بعد البحث عنه ولم يجد جوابا شافيا فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل، ويكون هذا [عذرا] في ترك مذهب إمامه. وما قاله متعين». انتهى ما حكاه النووي رحمه الله تعالى في هذا. ونقلت من خط شيخنا الحافظ العلامة شيح الحرمين الشريفين جمال الدين كعبة الطالبين: محمد بن عبد الله بن ظهيرة رضي الله عنه في ذلك عجبا عجيبا، وكان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وسلك في ذلك أسلوبا غريبا حتى إن أكبر أصحابه أبا يعقوب يوسف بن يحيى البويطي كشط يوما شيئا من كتابه، فقيل له في ذلك؟ فقال: هذا صاحبنا أوصانا به، وحكى رضي الله عنه بإسناد إلى الربيع بن سليمان أنه قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول -وسأله رجل عن مسألة- فقال: روي عن النبي ﷺ أنه قال كذا وكذا. فقال له السائل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟ فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال: ويحك! أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله ﷺ شيئا [و] لم أقل به؟ نعم على الرأس والعين. وفي رواية فقال الشافعي: تراني في بيعة أو كنسية؟ تراني على زي الكفار؟ هو ذا تراني في مسجد المسلمين على زي المسلمين مستقبل قبلتهم أروي حديثا عن النبي ﷺ ولا أقول به؟» وذكر شيخنا ابن ظهيرة -أمتع الله المستفيدين ببقائه- تفصيل ما أجمله العلامة النووي من ألفاظ الشافعي ونقل ذلك كله من طريق أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الحاكم، وقد تركت التطويل بترك 52 جميع ذلك؛ لشهرته عند جميع أهل المعرفة من أصحاب الشافعي رضي الله عنهم.
وأما الدليل على ما اختاره هؤلاء العلماء الأعلام فوجوه:
أحدها: أنه لو جاز للمقلد أن يتخير عند الاختلاف ما يشاء من غير ترجيح لكان مخيرا بين التحليل والتحريم، إن شاء حل الشيء، وإن شاء حرم، وإن شاء أوجب، وإن شاء حرم ثم حل أو أحل ثم حرم بغير دليل ولا ضابط، وهذا ممنوع؛ لأنه يؤدي إلى تمكن العوام من سقوط جميع التكاليف الظنية الخلافية والإجماعية، أما الخلافية، فظاهر، وأما الإجماعية الظنية؛ فلأن في العلماء من يقول: إن الإجماع المنقول بالآحاد لا يجب العمل به فيقلدون من قال بهذا، وحينئذ لا يجب عليهم إلا الضروريات من الدين أو من الإجماع، لكن الضروريات من الإجماع هي الضروريات من الدين، فحينئد لا يجب عليهم إلا المعلوم ضرورة من الدين، بل هذا القول يؤدي إلى جواز تقليد من يقول: إن التقليد غير جائز، وتقليد من يقول: إن الاجتهاد غير واجب، إما لأن في الناس من هو قائم بفرضه، أو لأنه قد عدم العلماء فتعذر التعليم وسقط الوجوب.
فإن قيل: ليس له أن يقلد من يقول بسقوط التقليد، وسقوط الاجتهاد، وإنما يجوز له تقليد أحدهما؛ لأن المسقط للتقليد يقول بوجوب الاجتهاد، والمسقط للاجتهاد يوجب التقليد.
قلنا: قد قال بجواز مثل هذه الصورة في التقليد بعض العلماء، فإذا [جاز] التقليد مطلقا جاز مثل هذا التقليد، وهذا كله يؤدي إلى تمكن العامي من عدم وجوب الرجوع إلى العلماء. لكن المعلوم وجوب ذلك على العوام من إجماع الصحابة؛ فبطل ما أدى إلى مخالفة إجماعهم.
الوجه الثاني: أن الأدلة على جواز التقليد غير عامة لهذه الصورة ولا متناولة لها، أما قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}. فلما تقدم، وأما إجماع الصحابة على تقرير العوام على التقليد فلأنه إجماع فعلي لا لفظي، والأفعال لا عموم لها، وهذه الصورة لم تقع في زمانهم ولم تشتهر ويجمعوا على جوازها، فإنه لم يعلم أن أحدا من طلبة العلم في زمنهم قلد في مسألة يحفظ فيها حديثا صحيحا مخالفا لما هو عليه، وأنهم علموا [بذلك] كلهم وأجازوه، ولا علم أن عاميا اختلف عليه عالمان فقلد المفضول منهما وعلموا بذلك وأجازوه.
الوجه الثالث: أن كلامنا إنما هو فيمن اعتقد وجوب الترجيح، ومن اعتقد ذلك وجب عليه بالإجماع، ولم يكن لأحد أن يعترضه، بل من أمره بمخالفة ما يجب عنده فقد عصى الله تعالى وأمره بمعصيته نسأل الله السلامة.
الوجه الرابع: أن كلامنا أيضا إنما هو في الذي يوجب العمل بالترجيح بعد أن عرف الراجح، وحصل له الرجحان الذي لا يمكن دفعه، بسماعه للأحاديث الصحيحة، ووقوفه على كلام الحفاظ، وأهل المعرفة التامة والاطلاع الواسع، ونصهم على صحة الحديث، وعدم وجود ما يدفع العمل به، فأخبرني على الانصاف؛ ما الموجب لترك العمل بمقتضى الحديث؟ هل كونه مخالفا لبعض العلماء؟ فقد صار العمل به موافقا لبعضهم، وترك العمل به مخالفا لبعضهم أيضا. [أو] الموجب لتركه كونه راجحا مظنونا، وكون ترك العمل به ضعيفا مرجوحا؟ فهذا عكس المعقول والمنقول، فاعجب من سخرية المعترض بمتبع السنن، والسائر من الحق في مثل هذا السنن. ويستشهد لهذا بولاد العقيم، وإعراضه عما يجب لحملة علم السنة من التعظيم. يا هذا! إن الملائكة تفرش أجنحتها تعظيما لطالب العلم ولمن احتقرت من طلاب السنة، وتكريما لمن أهنت من سالكي طريق الجنة.
وإذا الأكابر عظمتك فلا تبل ** بمطاعن الأوزاع والأخياف 53
المسالة الثانية: أن طالب الحديث والنحو وسائر الفنون يجوز أن يكون مجتهدا في مسألة معينة أو في فن معين، وإن كان غير مجتهد في غير ذلك، وهذا هو قول الأكثر، كذا قال قطب الدين الشيرازي في شرح مختصر المنتهى وحكى فيه عن الغزالي أنه قال: «وليس الاجتهاد عندي [منصبا] لا يتجزأ، بل يجوز أن ينال العالم منصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون البعض» انتهى.
وحجة الجمهور على ذلك: أن طالب العلم قد يعرف في بعض المسائل جميع ما يتعلق بها، وما يعرفه المجتهد العام في ذلك، وقول المخالفين يجوز أن يكون فيما لم يعلم ما يتعلق بذلك ضعيف، لأن مجرد التجويز المرجوح لا يمنع الاجتهاد، إذ كل مجتهد يجوز ذلك [في حقه] وإن اجتهد في جميع العلوم، لكن النادر لا عبرة به.
وقد أجاب قطب الدين بهذا وقال: «الكلام مفروض فيما إذا كانت جميع الأمارات المتعلقة بتلك المسألة حاصلة في ظن الفقيه عن مجتهد بأن يوقفه على الكلام عليها، أو الكلام مفروض بعد تحرير الأئمة للأمارات، وتخصيص كل بعض من الأمارات ببعض المسائل، وجمع كل إلى جنسه». فهذه حجة الجمهور.
وأما مسألتنا فإنما هي فيمن ذهب إلى مذهب الجمهور، واعتقد صحته، ثم إنه بعد البحث الكثير في مصنفات العلماء التي [حرروا فيها] الأدلة على الأبواب، وذكروا الخلاف والحجج على الإنصاف والاستيفاء، ثم ترجح له بعض المذاهب لموافقة النصوص الصحيحة، وخاف أن يكون قد صار مجتهدا في تلك المسألة، وإن لم يكن مجتهدا فمقلدا مرجحا، ولم يكن في دماغه من دخان العصبية ما يوجب اتباع المفضول، والعمل بالمرجوح الذي هو خلاف الأولى عند جميع العلماء، وإنما اختلفوا في وجوبه لا في جوازه ولا في استحبابه.
أما من قال بتجزئ الاجتهاد؛ فظاهر، وأما من منعه؛ فإنه يقول بجوازه لمن اعتقد جوازه، لأن المسألة ظنية خلافية، لا قاطع فيها، ولا مانع من العمل بها، فالمستهزئ بالعامل بهذا، الساخر منه، المشبه لعلمه بما لا يستقيم من استنتاج العقيم، منتظم في سلك الذين: {كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون، وما أرسلوا عليهم حافظين}.
الوجه الثاني في الجواب: أن المعترض قد ارتكب ما استقبح، وانتهك ما استعظم، فإنه ضعف القول بوضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، وضعف القول بالتأمين فيها أيضا وأخذ يرجح مذهبه بما روى من الأخبار، انتصارا لمذهبه المختار، هذا مع اعترافه أنه من المقلدين، وغلوه في القول بعدم المجتهدين، فما باله أنتج وهو عقيم، وأفتى وليس بعليم! وقد قال الحكيم:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم
الوجه الثالث: أن نقول: ما مرادك بهذا الإنتاج؟ هل إنتاج الاستدلال العام في جميع المسائل التي لا تصح إلا من المجتهدين في علوم الدين، أو إنتاج الترجيح لبعض المسائل التي ذهب خصمك إلى جوازه من المقلدين كما هو مذهب الأكثرين؟ إن كان الأول؛ فليس فيه نزاع، وإن كان الثاني؛ فليس يبطل بمجرد الأسجاع. فهلم الدليل، وتنح عن التعويل على مجرد التهويل.
الوجه الرابع: أن نقول: ما قصدك بذكر استنتاج العقيم، واستفتاء من ليس بعليم؟ هل قصدك مجرد السجع في الكلام، أو الإفحام للخصم والإلزام؟ إن كان الأول؛ فالبلغاء لا يستطيبون من الأسجاع مواردها، متى كانت [تنقص من المذاهب] قواعدها، فإنها لا تصلح إلا زينة للحجج الصحيحة، فمتى أفسدتها كانت عند البلغاء قبيحة، لكن سجعك هذا يهدم قواعدك، ويخالف مقاصدك؛ لأنك الذي أجزت للمقلد العقيم أن يفتي وليس بعليم، وفي نصرة هذا المذهب أنشأت هذه الرسالة؛ وأعدت وأبديت في نصرة هذه المقالة.
وأما إن كان المعترض قال ذلك الكلام على سبيل الإفحام لخصمه والإلزام؛ فقد عاد الإلزام أيضا إليه، وخرج الاحتجاج من يديه، لأنه الذي قضى بفقد المجتهدين، وحكم بمرتبة الفتيا للمقلدين، وأنتج العقيم، وخبط من المناقضة في ليل بهيم، فبطلت حجته واضمحلت، وجاء المثل: «رمتني بدائها وانسلت».
ومن العجائب: أن المعترض متصدر للفتوى والتدريس والمناظرة والتصنيف، وهو معترف بالجهل، مدع لخلو العالم من أهل العلم، منكر على من يرى جواز الترجيح بالأخبار، مقتد في ذلك بالجلة من العلماء الأخيار، زاعما أن ذلك يؤدي إلى إنتاج العقيم وفتوى من ليس بعليم، مصدرا لكلامه بكيف الإنكارية، مصورا لذلك في أبعد صور المحالات العادية وهو ولاد العقيم الذي لا يصح ولا يستقيم! وهذا يقتضي أنه العقيم الولود، والظئر الودود، فكيف يعيب خصمه بما هو فيه، ويلزمه من المحالات ما هو بالحقيقة مدعيه؟ وما ذاك إلا أنه غفل عن كون هذه من عيوبه، وتوهم أنه من عيوب خصومه، فباح به أشد البواح، وأكثر عليهم من الصياح.
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ** بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
قال: فأما أن يكون له في كل مسألة أن يرجح ويخرج عن مذهب من كان قلده؛ فالصحيح أن عليه التزام مذهب إمام معين، ذكره المنصور بالله والشيخ الحسن بن محمد والشيخ أحمد بن محمد، واحتج لهم بوجوه: أحدها بالإجماع، وهو أنه لا يعلم أحد من المقلدين يتردد بين مذاهب علماء الإسلام المتقدمين منهم والمتأخرين، ففي مسألة يقلد أبا بكر، وفي أخرى عمر، وفي ثالثة ابن عباس، وفي رابعة ابن مسعود، وهلم جرا، ولا من يكون مقلدا لطاووس، وعطاء، والحسن، والشعبي، ولابن المسيب، ولغيرهم ممن كان وراءهم، يقلد في كل مسألة إماما، ولا من يكون حنفيا في مسألة، شافعيا في أخرى، مالكيا حنبليا هادويا ناصريا، هذا ما وقع، ولا علم به، ولو وقع زماننا لأنكره الناس.
أقول: ضعف كلام المعترض في هذا التفصيل يتبين بذكر أنظار:
النظر الأول: أن المعترض جاوز حد العادة في الغلو حتى ادعى الإجماع على ما المعلوم انعقاد الإجماع على نقيضه، وذلك أنه ادعى الإجماع على التزام مذهب [إمام] معين في زمن الصحابة والتابعين، واحتج على ذلك بأنه لم يعلم أن أحدا كان يقلد أبا بكر في مسألة، وعمر في ثانية، وابن عباس في ثالثة، وابن مسعود في رابعة، هكذا قال بغير حياء من أهل العلم، والمعلوم أن العامة ما كانت في زمن الصحابة متحزبة أحزابا متفرقة في التقليد فرقا بكرية، وعمرية، ومسعودية، وعباسية، كما أشار إليه، وإلا فأخبرنا من الإمام في زمن الصحابة [الذي] لم تكن العامة تستفتي سواه ولا ترجع إلى غيره.
فإن قلت: إنك تلتزم هذا وتصر على أنه لم يكن في زمن الصحابة إلا مفت واحد، فقد أنكرت الضرورة، ولم يكن [لمناظرتك] صورة، فقد نقلت الفتيا عن أكثر من مائة نفس من الصحابة، ذكرهم غير واحد من العلماء، منهم: الحافظ أبو محمد بن حزم، والشيخ أحمد بن محمد في كتاب الشجرة. وتعيينهم وكمية عددهم، وإن نقلت بالآحاد فكثرتهم في الجملة معلومة بالضرورة، وأما إن أقر بما هو معلوم من أن العامة لم يكونوا ملتزمين لمذهب صحابي واحدو وأن الصحابة لم يكونوا مقتصرين على فتوى مفت واحد، فليت شعري أي البواطل تركب؟ هل القول بأن كل مفت من الصحابة كان له أتباع؟ فهذا يفضي في تشعب مذاهبهم إلى غاية الاتساع، فيكون العامة في زمنهم أكثر من مئة فرقة على عدد المفتين، أو ترتكب القول بإلزام العامة لمذاهب جماعة مخصوصين، فهذا مثل دعوى الروافض للاختصاص بالعلم بالنص على اثني عشر إماما منصوصين.
والجواب عليهم الجميع: أن أهل العلم يشاركون لكم في معرفة الآثار، والبحث عن السير والأخبار، ولم يعرفوا من هذا شيئا، ولا عرفوا فيه علما ولا ظنا، ولا يصح أن يوحي إليكم ذلك من دون الناس، فما سبب الانفراد بهذا العلم والاختصاص؟
وبالجملة فالمعلوم ضرورة أن العامي في زمن الصحابة كان يفزع في الفتوى إلى من شاء منهم، من غير نكير في ذلك، وهذا من الأمور المعلومة، وقد احتج بذلك ابن الحاجب في مختصر المنتهى على أن الالتزام لا يجب وادعى القطع بوقوعه، وكذلك الشيخ أبو الحسن احتج في المعتمد بإجماع الصحابة على عدم الالتزام، قال قطب الدين في شرح كلام ابن الحاجب ما لفظه: «احتج المصنف بالإجماع على الجواز بوقوعه -أي بوقوع المتنازع فيه في زمن الصحابة وغيرهم- من غير إنكار من [أحد] ولو كان ذلك منكرا لأنكر، ولم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين الإنكار ولا الحجر على المستفتي في تقليد إمام واحد.
فإن قلت: فهذا الإجماع يقتضي أنه لا يجب الترجيح، وأنت قد ذكرت أنه يجب.
قلت: إنما ذكرت أنه يجب حين يختلف أهل الفتوى على العامي فيزول ظنه لصدق المفتي وصحة فتواه، وهذه الصورة التي أوجبت فيها الترجيح، لم يظهر وقوعها في زمنهم، فكيف الإجماع عليها؟ وإنما كان العامي في زمنهم يسأل أحدهم وهو لا يعلم أن الآخر يخالفه، فإذا سمع الفتوى ظن صحتها، وطابت نفسه بها، وكأنما سمعها من رسول الله ﷺ، وهذا هو المعروف من أحوال العامة وأكثرهم، فإنهم لا يعلمون أن المفتي قد يفتي برأي منه يخالف فيه من هو أعرف منه، وأنما يعتقد أكثرهم أن الفتوى إنما هي بنصوص واضحة من صاحب الشريعة، فلا يدخل في حكمهم من عرف مراتب الضعف والقوة في مآخذ أهل الفتوى إذا سمع الخلاف، وتعارضت عليه الأقوال، ووقع في حيرة الشك، وظلمة التعارض، فإنه يجب على هذا الرجوع إلى النظر في الأمارات والمرجحات حتى يلوح له ما تطيب به نفس من رجحان ما هو عليه، وصحة ما يذهب إليه لقول رسول الله ﷺ: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ولما قدمنا من الأدلة في ذلك، وسوف يأتي مزيد بيان لوجه الاحتجاج بهذا الحديث، وبيان معناه في مسألة قبول أهل التأويل إن شاء الله تعالى.
النظر الثاني: أن المعترض قال في احتجاجه ما لفظه: «إنه لم يعلم أحد من المقلدين يتردد بين مذاهب علماء الإسلام»، وهذا منه احتجاج بإجماع العامة، وليس يعتبر بهم في الإجماع مع المجتهدين فكيف بهم منفردين؟ وفي الحديث الصحيح المتفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: «إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعا، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». فهذا الحديث يقتضي أن العامة قد يجتمعون على الضلال والإضلال، ولا يكون إجماعهم حجة يعصم من الضلال.
النظر الثالث: أنا لو سلمنا أن إجماعهم حجة لما دل على مذهبه، لأنه فعل لا قول، وفعل الأمة دليل على الجواز لا على الوجوب، لأنهم إنما عصموا عن الحرام لا عن المباح، فلا مانع من أن يكون فعلهم مباحا، فلو قدرنا أنهم التزموا مذهبا لكان ذلك دليلا على جواز ذلك لا على وجوبه، ونحن لا ننازعك في جواز ذلك وجواز خلافه، وإنما نازعناك في مسألة مخصوصة لم ينقل أن الأمة أجمعت فيها بعينها إجماعا قوليا ولا فعليا، فبان بهذه الأنظار أنه وهم ثلاثة أوهام:
أحدها: أن الأمة أجمعت على الالتزام، والإجماع إنما انعقد على عدم الالتزام.
وثانيها: أن إجماع العامة حجة.
وثالثها: أن الإجماع الفعلي دليل الوجوب، فلو أنه احتج بتقرير العلماء للعامة لكان أقرب له، وإن كان لا يسلم من وهمين، فوهمان خير من ثلاثة.
"وبعض الشر أهون من بعض"
النظر الرابع: ادعى أن التنقل ما وقع في المذاهب البتة، وأن أحدا من المقلدين ما علم أنه كان شافعيا في مسألة حنفيا في أخرى.
وهذا الكلام يدل على أحد أمرين: إما على شدة تغفيله، وأنه لا يدري ما يقول وإما على كثرة جرأته وقلة مبالاته، وذلك أنه لا يعلم أن أحدا من المقلدين ما عمل بغير مذهب إمامه قط إلا الله سبحانه وتعالى، لأن الإحاطة بأعمال المقلدين متعذرة مع انتشارهم في أقطار الإسلام شرقا وغربا وشاما ويمنا، ومع وجود المتساهلين منهم وجود الفساق المصرحين.
وليت شعري ما يقول هذا المعترض؟ هل يقطع بأن أحدا من المقلدين ما زنى ولا سرق، ولا أربى ولا فسق؟ فهذا عناد عظيم، وبهتان مبين، أو يقر بذلك، فكيف قطع بأنهم لا يفعلون ولا أحد منهم ما هو جائز عند كثير من علماء الإسلام؟ ومن أين علم عصمتهم عن هذا الذي لم يقل أحد من الأمة: إن فاعله مستحلا له يفسق ولا يعصي؟ والمعلوم خلاف ما ذكره من كثير من العامة، بل من كثير من أهل التمييز، بل قد قدمنا كلام غير واحد من العلماء في وجوب ذلك على أهل التمييز، ونص بعضهم على جوازه، منهم: المؤيد والداعي من أئمة الزيدية، وعز الدين بن عبد السلام والنواوي وابن الصلاح من أئمة الشافعية، بل بينا أن كلام الإمام الشافعي يقتضي ذلك كما تقدم.
وأما قول المعترض: إنه لا يوجد أحد من المقلدين من يكون هادويا في مسألة، ناصريا في مسألة؛ فأعجب من هذا كله! وهو غفلة كبيرة، أو جحد للضرورة، فإن العمل بمذهب الناصر في أن الطلاق البدعي لا يقع؛ ظاهر مشهور في نجد واليمن من بلاد الزيدية، والعمل به معلوم فيما بينهم من المفتين والمستفتين من غير التزام لمذهب الناصر، وإنكار هذا خلع لعروة المراعاة [كعادات] أهل العناد، وغلو لم يبلغه أحد من أهل اللجاج.
النظر الخامس: قال المعترض: ولو وقع هذا في زماننا لأنكره الناس. وهذا عجيب أيضا! لأنه إما أن يريد أن هذه إجماعية، وهو الظاهر من كلامه، فهذا لا يصح لوجوه:
أحدها: أنه واقع ولم ينكره الناس كما قدمته.
وثانيها: أن قوله: لو وقع لأنكره الناس؛ دعوى على الناس، بل دعوى لعلم الغيب بما يكون من الناس في المستقبل.
وثالثها: أنا في علة من كيفية العلم بإجماع العلماء فكيف بإجماع الناس؟
ورابعها: أنه قد حكم بالجهل على أهل زماننا، فمع ذلك كيف يحتج بإجماعهم، وليس يحتج إلا بإجماع العلماء؟
قال: الوجه الثاني: أنه لا يتميز على هذا الوجه المجتهد من المقلد، فإنه إذا رجح في كل مسألة، وعمل يما يترجح [له]؛ فهذا شأن المجتهدين، وكونه قد قال به قائل شرط في حق المجتهدين أيضا.
أقول: هذا الوجه أضعف مما قبله؛ والقول بالترجيح لا يؤدي إلى ما ذكره من عدم الفرق بين المجتهد والمقلد، فالفرق بينهما واضح، وهو أن المقلد ليس له أن يستقل بقول لم يسبق إليه، وإنما هو تبع لغيره، وقد رام المعترض أن يبطل هذا الفرق فركب الصعب الذلول، وخالف المعقول والمنقول، والتزم أنه لا يحل الاجتهاد لمجتهد حتى يسبقه غيره إلى اختياره، وهذا معلوم البطلان لوجوه:
أحدها: أنه يلزم بطلان اجتهاد خير الأمة من الصدر الأول الذين ابتكروا الكلام في الحوادث، وسبقوا إلى الاجتهاد في المسائل.
وثانيها: أنه يلزم أن الحادثة إذا حدثت وليس فيها نص لمن تقدم من العلماء لزم العمل فيها بغير اجتهاد ولا تقليد، لأن شرط كل واحد من الاجتهاد والتقليد موافقة نص متقدم، وقد عدم هذا الشرط فيلزم من ذلك سقوط التكليف في هذا الحكم والعمل بالإباحة، أو تكليف ما لا يطاق من موافقة مراد الله تعالى من غير اجتهاد ولا تقليد، وعلى هذا يكون ترك حفظ أقوال العلماء المتقدمين أولى؛ ليبطل التكليف، ويأمن الوقوع في المعصية فيما لم ينصوا عليه، وهذا شيء لم يسبق هذا المعترض إليه.
الوجه الثالث: أن الأمة مجمعة قديما وحديثا على أنه لا يشترط في الاجتهاد ما ذكره، وإنما اشترط العلماء عدم مصادمة الإجماع القطعي، واختلفوا في الظني إذا لم يعارض بما هو أرجح منه، على ما هو مقرر في علم الأصول.
قال: «الموضع الثاني في الدليل على أن في أخبار هذه الكتب المسماة بالصحاح ما هو غير صحيح» إلى آخر ما ذكره في الموضع الثاني.
أقول: كلامه في هذا الفصل مشتمل على أمرين:
أحدهما: الطعن في صحة حديث الصحاح بما فيه من حديث المحاربين لعلي رضي الله عنه.
وثانيهما: الطعن على أهل الحديث بمذاهب نسبها إليهم، وإنما لم أورد كلامه في هذا الفصل بلفظه، لأنه تقدم شيء منه وتقدم الجواب عليه، وسوف يأتي أيضا كثير منه في الكلام على المتأولين، ويأتي الجواب عليه هنالك إن شاء الله تعالى.
وقد رأيت أن اقتصر على ذكر أوهام وهمها في هذا الفصل لا يخلو ذكرها من فائدة، معرضا عما في سائر هذا الفصل من الأوهام التي لا يفيد ذكرها ولا يهم أمرها، فإن مجرد التعرض للاعتراض من غير فائدة مما ليس تحته طائل، ولا يستكثر من ذكره فاضل. وقد أخرت الكلام في البغاة على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى المسألة الثالثة ليكون الكلام في أهل التأويل، وما يتعلق بهم في موضع واحد، فإن ذلك أحسن ترتيبا وأكثر تقريبا. وهذا بيان ما وهم فيه المعترض على أهل السنة حرسها الله تعالى:
الوهم الأول: زعم صاحب الرسالة أن أهل الحديث يجيزون الكبائر في الأنبياء عليهم السلام، ولكنه سماهم بغير اسمهم؛ فأفرط بذلك في وصمهم، فأقول:
لا غرو إن أوذي أهل التقى ** كل إمام بالأذى قد بلي
ما سلم الصديق من رافض ** ولا نجا من ناصبي علي
يأيها الرامي لهم في دجى ** تعارض الشك بأمر جلي
بأنجم من علم أعلامهم ** تعارض الشك بأمر جلي
من ذلك ما ذكره القاضي الإمام العلامة عياض بن موسى اليحصبي المالكي في كتابه الشفا في التعريف بحقوق المصطفى ﷺ، فإنه أجاد الكلام في هذه المسألة، وليس يتسع هذا المختصر لذكر جملة شافية مما ذكره؛ فإنه نوع الكلام في هذا المعنى وذكر الأقوال، والحجج، والتأويل حتى بلغ كلامه في هذا قدر [ستين] ورقة بخط وسط، أو يزيد قليلا بحسب اختلاف خطوط النسخ وأوراقها، ومن كلامه فيه ما لفظه: «أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات، ومستند الجمهور في ذلك الإجماع هو مذهب القاضي أبي بكر، ومنعها غيره بدليل العقل مع الإجماع، وهو قول الكافة، واختاره الأستاذ أبو اسحاق. وكذلك لا خلاف أنهم معصومون من كتمان الرسالة والتقصير في التبليغ».
وذكر الإجماع على عصمتهم عن الصغيرة التي تؤدي إلى إزالة الحشمة وتسقط المروءة وتوجب الخساسة. ثم قال: «بل يلحق بهذا ما كان من قبيل المباح فأدى إلى مثل ذلك مما يزري بصاحبه، وينفر القلوب عنه». ثم ذكر القاضي الخلاف في عصمتهم قبل النبوة حتى قال: «والصحيح تنزيههم من كل عيب، وعصمتهم من كل ما يوجب الريب». وذكر أيضا قبل هذا عصمة الأنبياء عليهم السلام من الصغائر واختاره واحتج عليه.
وقال الفخر الرازي في محصوله ما لفظه: «والذي نقول به: إنه لم يقع منهم ذنب على سبيل القصد، لا صغير ولا كبير، وأما السهو فقد يقع منهم بشرط أن يذكروه في الحال، وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهوا. وقد سبقت هذه المسألة في علم الكلام، ومن أراد الاستقصاء فعليه بكتابنا في عصمة الأنبياء والله تعالى أعلم».
وقال الإمام الحافظ أبو زكريا النووي في كتاب الروضة: «إن الأنبياء عليهم السلام معصومون من تعمد الذنوب؛ صغيرها وكبيرها» هذا معنى كلامه، ولم يحضرني لفظه.
وقال ابن الحاجب في مختصر المنتهى: «الإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام، والإجماع على عصمتهم من الكبائر وصغائر الخسة».
وقال أبو عبد الله الذهبي في النبلاء وقد ذكر ما معناه: تنزيه رسول الله ﷺ من الأكل مما ذبح على النصب قبل النبوة، فقال ما لفظه: «ومازال المصطفى محفوظا محروسا قبل الوحي وبعده، ولو احتمل جواز ذلك، فبالضرورة ندري أنه كان يأكل ذبائح قريش قبل الوحي، وكان ذلك على الإباحة، وإنما توصف ذبائحهم بالتحريم بعد نزول الآية، كما أن الخمرة كانت على الإباحة إلى أن نزل تحريمها بالمدينة بعد يوم أحد. والذي لا ريب فيه أنه كان معصوما قبل الوحي وبعده، وقبل التشريع من: الزنا قطعا، ومن الخيانة، والغدر، والكذب، والسكر، والسجود لوثن والاستسقام بالأزلام، ومن الرذائل، والسفه، وبذاء اللسان، وكشف العورة، ولم يكن يطوف عريانا، ولا يقف يوم عرفة مع قومه بمزدلفة، بل كان يقف بعرفة». انتهى الكلام الحافظ الذهبي.
فهذا ما تيسر لي من نقل نصوصهم وقت تعليق هذا الجواب، مع البعد من ديارهم، وعدم التمكن من الاستمداد من سائر مصنفاتهم، ومن الأخذ عن محققي علمائهم، وقد بان بهذا أن جلة أئمتهم نصوا في كتبهم المتداولة بينهم على عصمة الأنبياء من تعمد الصغيرة، وهذا هو المنصوص لعياض في كتاب الشفاء، وللرازي في المحصول، وللنواوي في الروضة، فبان بهذا أنهم أكثر تنزيها للأنبياء عليهم السلام من المعتزلة والزيدية، لأن مذهبهم تجويز تعمد الصغائر على الأنبياء عليهم السلام، إلا [البغدادية من المعتزلة] فإنهم يمنعون ذلك، لأن كل عمد كبيرة عندهم لا لتنزيه الأنبياء من تعمد الصغيرة، وإنما أتي صاحب الرسالة في رميهم بهذه الضلالة من سببين:
السبب الأول: أنه رأى هذا المذهب منسوبا إلى الحشوية فظن أن المحدثين هم الحشوية كما قد سماهم بذلك في رسالته، وليس عليه في مجرد الجهل ذنب، فأكثر عامة المسلمين لا يدرون من الحشوية ولا يعرفون أن هذه النسبة غير مرضية، وإنما الذنب الرجم بالظنون الكاذبة، والخوض مع أهل العلم بغير معرفة. ومن كان له أدنى تمييز عرف أن نقاد الحديث وأئمة الأثر أعداء الحشوية، وأكره الناس لهذه الطائفة الغوية، فإن الحشوية إنما سموا بذلك لأنهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن رسول الله ﷺ، أي يدخلونها فيها وليست منها، رواه النفيس العلوي عن نشوان بن سعيد الحميري، وذكر ولده محمد بن نشوان في كتابه ضياء الحلوم ما يدل على ذلك فقال: «إن الحشوية سموا بذلك لكثرة قبولهم الأخبار من غير إنكار».
فإذا عرفت هذا تبين لك أن المحدثين [هم] الذين اختصوا بالذب عن السنن النبوية والمعارف الأثرية، وحموا حماها من أكاذيب الحشوية، وصنفوا كتب الموضوعات، وناقشوا في دقائق الأوهام حفاظ الثقات، وعملوا في ذلك أعمالا عظيمة، وقطعوا فيها أعمارا طويلة، وقسموا الكلام فيه في أربعة فصول: 54
أحدها: معرفة العلل.
وثانيها: معرفة الرجال.
وثالثها: معرفة علوم الحديث.
ورابعها: معرفة الحديث وطرقه.
واشتملت هذه الفنون من المعارف النبوية والقواعد العلمية على ما يضطر كل عارف إلى أنهم أتم الخلق عناية بحماية علم الحديث على التبديل والتحريف، وأنهم الجهابذة النقاد بعلم المتن والإسناد، فإنهم الذين بينوا أنواع الحديث التي اختلف في قبولها أهل العلم، مثل: التدليس والإعضال، والاضطراب والإعلال، والنكارة والإرسال، والوصل والقطع، والوقف والرفع، وغير ذلك من علوم الحديث الغزيرة، وفوائده العزيزة، ولأمر ما سارت تصانيفهم فيه مسير الكواكب، وانتفع بكلامهم فيه الولي الصادق، والعدو المناصب، والمتهم لهم بحشو الأحاديث واختلاق الأباطيل في الحديث لا يكون من أهل العقول التامة، دع عنك أهل المعارف الخاصة.
وذلك لأنه لا خفاء على العاقل أن أئمة الفن لا يكونون هم المتهمين فيه، إذ لو كان كذلك لبطل العلم بالمرة، فإنا لو اتهمنا النحاة في النحو، واللغويين في اللغة، والفقهاء في الفقه، والأطباء في الطب؛ لم يتعلم جاهل، ولا تداوى مريض، فياهذا! من للحديث إذا ترك أهله؟ فلو عدمت تآليفهم فيه وتحقيقهم لألفاظه ومعانيه؛ لأظلمت الدنيا على طالبه، وأوحشت المسالك على مريده.
بل يا هذا، فكر لم سموا أهل الحديث؛ ولم [سمي] أهل الكلام بذلك، وكذلك أهل النحو وسائر الفنون؟ فإن كان أهل الحديث عندك سموا بذلك مع عدم معرفتهم بذلك، وكذبهم فيه، فهلا جوزت مثل ذلك في سائر الفنون، بل في سائر أهل الصناعات، بل في جميع أهل الأسماء المشتقات، فيجوز أن يسمى الفقيه نحويا، والمتكلم عروضيا، والغني فقيرا، والصغير كبيرا، وهذا ما لا يقول به عاقل، ولا يرتضيه أحد من أهل الباطل.
ومن أحب أن يعرف حق المحدثين واجتهادهم [في التحري للمسلمين]، فليطالع تآليف نقادهم في الرجال والعلل والأحكام، مثل: ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي والتهذيب للمزي والعلل للدارقطني وعلوم الحديث لابن الصلاح وزين الدين العراقي، وغير ذلك، ثم ليطالع بعد ذلك كتب الصحاح والسنن لاحظا لما فيها من اختيار أصح الأسانيد، والإشارة إلى مهمات ما يتعلق بالأحاديث: من العلل القادحة والمرجحات الواضحة، ثم ليوازن بينها وبين مصنفات سائر الفرق في الحديث، يجد الفرق بين التصانيف واضحا، والبون بين الرجال نازحا.
ومن موازين الإنصاف العادلة وأدلة الأوصاف الفاضلة: أنك تراهم يضعفون الضعيف من فضائل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ويصدعون بالحق في ذلك، وكذلك يضعفون ما يدل على مذهبهم متى كان ضعيفا، ويضعفون كثيرا من علمائهم إذا كانوا ضعفاء، نصيحة منهم للمسلمين، واحتياطا في أمور الدين.
وهذه إشارة مختصرة على قدر هذا المختصر، دعا إلى ذكرها تعريف من أنكر الجليات، ودافع ما هو كالمعارف الأوليات، إذ من المعلوم أن أهل الحديث اسم لمن عني به، وانقطع في طلبه، كما قال بعضهم:
إن علم الحديث علم رجال ** تركوا الابتداع للاتباع
فإذا جن ليلهم كتبوه ** وإذا أصبحوا غدوا للسماع
فهؤلاء هم من أهل الحديث من أي مذهب كانوا، وكذلك أهل العربية وأهل اللغة، فإن أهل كل فن هم أهل المعرفة فيه وتحقيق ألفاظه ومعانيه. وقد ذكر أئمة الحديث ما يقتضي ذلك، فإنهم مجمعون على أن أبا عبد الله الحاكم بن البيع من أئمة الحديث مع معرفتهم أنه من الشيعة. وقد ذكروا في كتب الرجال كثيرا من أئمة الحديث ورواة الصحيح منسوبا إلى البدع. وبهذا تزداد أقوال المعترض بطلانا في نسبة المحدثين إلى الحشوية، ويظهر أنه قد نسب إلى الحشو جماعة من أهل مذهبه 55 وسائر الفرق، بل نسبة ذلك إلى خير الفرق، فإن المتمسكين بالآثار النبوية هم خير الفرق الإسلامية، لأنهم أشبه الخلق خلقا وسيرة وعقيدة برسول الله ﷺ.
والمحدث إن كان مراعيا للسنة، مجانبا للبدعة، ملاحظا لما كان عليه السلف، فهو جدير بإجماع من يعتد به على صحة ما هو عليه وقوة ما استند إليه.
وإن كان من بعض الفرق المبتدعة؛ فهو خير تلك الفرقة، وأشبههم خلقا وسيرة برسول الله ﷺ، وهذا هو الغالب، ولا عبرة بالنادر ولا بمن ليس من أهل الديانة، فنسبة خير الفرق إلى شر فرقة تلقيبهم بأخس لقب؛ من التهافت في مهاوي الضلال، والخبط في تيه الوبال.
ويلحق بهذا فائدة تزيد ما ذكرناه تحقيقا وتزيد أئمة الحديث توثيقا، وهي أن المشهورين بتجويز الكذب في الحديث من الحشوية الطائفة المسماة بالكرامية، وقد أطلق الرازي نسبة هذا إلى الكرامية، وحققه الإمام أبو بكر محمد بن منصور السمعاني فنسبه إلى بعضهم فيما لا يتعلق بالأحكام مما يتعلق بالترغيب والترهيب. والمحدثون براء من هذه الطائفة، وقد تكلموا عليهم في غير كتاب. فممن تكلم عليهم الذهبي في ميزان الاعتدال، فإنه قال في ترجمة ابن كرام شيخ هذه الطائفة ما لفظه: «محمد بن كرام العابد المتكلم ساقط الحديث على بدعته، أكثر عن أحمد الجويباري، ومحمد بن تميم السعدي، وكانا كذابين. قال ابن حبان: خذل حتى التقط من المذاهب أرداها، ومن الأحاديث أوهاها. وقال أبو العباس: شهدت البخاري، ودفع إليه كتاب من ابن كرام يسأله عن أحاديث منها: الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعا: «الإيمان لا يزيد ولا ينقص»، فكتب البخاري على ظهر كتابه: من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد، والحبس الطويل. وقال ابن حبان: جعل ابن كرام الإيمان قولا بلا معرفة. وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه».
قال شيخ أهل الحديث ابن الذهبي: «هذا منافق محض في الدرك الأسفل من النار، فأيش ينفع ابن كرام أن يسميه مؤمنا؟»
قال الذهبي: «وقد سجن ابن كرام لبدعته بنيسابور ثمانية أعوام. وقد سقت أخباره في تاريخي الكبير» انتهى كلامه.
فيا من لا يفرق بين الحشوي والمحدث! انظر إلى نصوص أئمة الحفاظ في إنكار مذهب ابن كرام في رواية الأحاديث الواهية، وفي القول بالإرجاء، وقد نص البخاري على أن راوي الحديث المقدم الذي هو حجة المرجئة يستوجب الضرب الشديد، والحبس الطويل، وعن قريب تأتي نسبتك للإرجاء إلى المحدثين، وقل لي من الذي حبس ابن كرام في نيسابور على بدعته؟ ولمن كانت الشوكة في نيسابور في ذلك العصر وهو بعد المئتين؟
فإن قلت: إنك إنما سميت المحدثين بالحشوية لكون الحشوية من فرقهم، والجامع لهم ردهم لمذهب الشيعة والمعتزلة.
قلت: هذا ليس مما تعذر به، فإن المنصور بالله روى عن المطرفية وهم من فرق الزيدية أنهم يستجيزون الكذب في الحديث في نصرة ما اعتقدوه حقا، وذكر أنهم صرحوا له بذلك في المناظرة، وقد صح عنهم من البدع ما هو شر من ذلك. وكذلك الحسينية قد صح تواتر أنهم يفضلون الحسين بن القاسم على رسول الله ﷺ، وهم من فرق الزيدية. والزيدية يكفرون هاتين الطائفتين، فكما لم يلزم الزيدية شيء من تلك البدع لقول بعض جهلتهم بها، مع إنكارهم على من قالها؛ فكذلك لا يلزم أهل الحديث كل بدعة قيلت في بلادهم أو قالها من وافقهم في بعض عقائدهم، فزن الأشياء بالموازين العلمية وتعرف من الحشوية، واحذر أن تكون من هذه الفرقة الغوية، لقبول الكثير من الأحاديث الفرية، المدسوسة في الأحاديث المروية.
السبب الثاني: أن الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة لا يسمون أنبياء حقيقة، ولا تثبت لهم أحكام النبوة، ألا ترى أن كلامهم وأفعالهم قبل النبوة ليست بحجة، وأمرهم قبلها لا يقتضي الوجوب، والشاك في حكمهم 56 قبلها لا يكفر، وذلك لأن حكمهم قبل النبوة حكم سائر المسلمين، فلما كان الأمر كذلك، ولم يرد في حكمهم قبل النبوة نص يرجع إليه، ولا إجماع يعتمد عليه ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني، وكثير من الأشعرية وكثير من المعتزلة: إلى أنه لا دليل قاطع يدل على عصمتهم عليهم السلام قبل النبوة، مع اعترافهم أن الأنبياء عليهم السلام [كانوا] قبل النبوة في أرفع مراتب الفضل والكمال لكن قالوا: إن ذلك كان منهم كما كان من أفاضل المسلمين من غير دليل قاطع يدل على العصمة. وهذا القول -مع بعد أهل الحديث عنه لتعلقه بعلم الكلام الذي لا يخوضون فيه- قول بعيد عما اجترأ المعترض بنسبته إلى أهل الحديث لوجهين:
الوجه الأول: أن من جوز على الأنبياء عليهم السلام شيئا قبل النبوة لم يجز أن ينسب إليه القول بذلك بعد النبوة، ولو ساغ ذلك لجاز أن ينسب إلى المعتزلة والزيدية أن كلام الأنبياء غير حجة، والإيمان بهم غير واجب، لأن هذا هو حكم الأنبياء عندهم قبل النبوة، بل كان يلزم أن يجوز نسبة هذا إلى جميع المسلمين.
الوجه الثاني: أن هؤلاء الذين جوزوا هذا من متكلمي المعتزلة والأشعرية لم يقولوا بوقوعه، بل هم معترفون أن الواقع خلافه، وأن الأنبياء عليهم السلام كانوا قبل النبوة وبعدها من أعظم الخلق أمانة، وأحسنهم ديانة، وأطيبهم أعرافا، وأكرمهم أخلاقا.
وفرق بين القول بأن الأنبياء قبل النبوة كانوا من الفضلاء الصالحين، لكنهم كانوا غير معصومين، وبين القول بأنهم كانوا قبل النبوة غير معصومين، ولا صالحين، فإن القول بعدم العصمة مع الاعتراف بالفضل والصلاح لا يستلزم الاستهانة، ألا ترى أن جميع الأئمة والأولياء عند الجميع غير معصومين من الكبائر، مع أنهم عندنا في أعلى مراتب الصلاح، فليس يلحق: إبراهيم بن أدهم، وأويسا القرني، أمثالهم نقص ولا استهانة منا حين لم نعتقد عصمتهم.
وليس يظهر للخلاف فائدة تحقيقية، ولكن تقديرية، وهو أنه لو فرض وقوع كبيرة من بعض الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة لوجب الكفر [بنبوتهم] عند أكثر المعتزلة، ولم يجب عند الأشعرية، وكثير من المعتزلة، وهذا لا يلزم القائلين بعدم العصمة للأنبياء قبل النبوة كفرا أبدا، لأنهم آمنوا بالأنبياء سواء كانوا معصومين قبل النبوة أو لا، وأما القائلون بالقطع بعصمة الأنبياءقبل النبوة؛ فعلى تقدير أن الأنبياء غير معصومين قبل النبوة، فقد كفروا بهم كفرا مشروطا، ففي قولهم كفر مشروط بشرط لا يقع عندهم، وفي قول الفريق الأول إيمان مقطوع، فما سبب التشنيع عليهم، والتقبيح لمذهبهم، مع عدم مخالفة النصوص الشرعية والأدلة العقلية الضرورية، وعدم الإجماع على هذه المسألة الخفية النظرية؟
والمختار أن الأنبياء عليهم السلام معصومون قبل النبوة بدلائل ظنية وبعدها بدلائل قطعية، بهذا يحصل الإيمان المقطوع ونسلم من الكفر المشروط، مع مراعاة بذل الجهد في تعظيم جناب النبوة، وتوفير أهلها، وإطلاق القول بعصمتهم قبلها وبعدها، وأما تفصيل الأدلة على ذلك؛ فذكره يخرجنا عن المقصود، وله موضع غير هذا.
الوهم الثاني: قال المعترض: إن هؤلاء الحشوية -وعنى بهم أهل الحديث- يجوزون الكبائر على الأنبياء، ولا يجوزونها على الصحابة.
واحتج على ذلك بأشياء؛ منها ما نذكره هنا، ومنها ما نذكره في مسائل التأويل إن شاء الله تعالى. فمما نذكره هنا أنه احتج على ذلك بأن المحدثين احتجوا في الكتب الصحيحة بحديث الوليد بن عقبة.
والجواب عليه في ذلك: أن ما ذكره غير صحيح عنهم، فلم يقولوا بعصمة أحد من من الصحابة فمن دونهم غير النبي ﷺ، وإنما الشيعة هم الذين قالوا بعصمة غير رسول الله ﷺ ممن بعده، فمنهم: من اقتصر على عصمة أمير المؤمنين علي وفاطمة والحسنين رضي الله عنهم، ومنهم: من زاد على ذلك، فالإمامية قالت: بعصمة اثني عشر إماما، وفي الزيدية من زاد على ذلك، وقال بعصمة كل إمام من أئمة الزيدية، وهو إمام علوم الزيدية المجمع عندهم على علمه وفضله السيد الإمام أبو العباس الحسني روى ذلك عنه غير واحد من علماء الزيدية، منهم: الفقيه العلامة عبد الله بن زيد في كتابه المحجبة البيضاء، وذلك مشهور عن أبي العباس. وقد اضطره هذا القول إلى القول بأن أئمة الزيدية لم يختلفوا في الفروع، ولما كان الاختلاف بينهم في الفروع معلوما ألجأه الجمع بين مذهبه وبين اختلافهم إلى تأويل اختلافهم، فصنف في ذلك كتابه المعروف بالتلفيق وهو كتاب معروف، قد وقفت عليه، مضمونه تأويل اختلافهم على وجه يوجب الاتفاق، وذلك خلاف ما عليه جميع الزيدية؛ فإنهم يذهبون إلى أن وقوع الخلاف بين الأئمة معلوم ضرورة، وقالت الزيدية: إن عصمة علي وفاطمة والحسنين رضي الله عنهم أعظم من عصمة الأنبياء عليهم السلام لأن الصغائر عندهم تجوز على الأنبياء، ولا تجوز على المذكورين من أهل البيت رضي الله عنهم، لأنها لو وقعت منهم لم يعلم بها، مع أن أقوالهم وأفعالهم حجج في الشرائع!، والأنبياء عليهم السلام إن وقعت منهم الصغائر بينها الله تعالى، فهذه أقوال الشيعة مصرحة بعصمة غير الأنبياء منصوصة في مصنفاتهم.
وأما أهل الحديث فما قالوا بشيء من ذلك، بل قصروا العصمة على النبوة، وإنما قالوا بعدالة الصحابة في الظاهر كما نص على ذلك الفخر الرازي في محصوله، وكما سيظهر ذلك من نصوص غير واحد منهم، ولم يقل أحد من أهل السنة بعصمة أحد من الصحابة في الباطن والظاهر، وكم بين القول بالعدالة في الظاهر، والقول بالعصمة في الباطن والظاهر! فإن كان المعترض يزعم أنهم نصوا على العصمة، فهو كذاب أشر غير جدير بالمناظرة، وإن كان يزعم أن نصوصهم على عدالة الصحابة في الظاهر تقتضي العصمة؛ فكذلك نصوص الزيدية على عدالة العدول من أئمتهم، وسائر المسلمين وكان يلزمه أن تقتضي عصمتهم.
وأما احتجاجه على ما ادعى على المحدثين بروايتهم لحديث الوليد بن عقبة وإدخالهم لحديثه في الكتب الصحيحة؛ فذلك لجهل المعترض بالكتب الصحيحة، وبنصوص أئمة الحديث على فسق الوليد نصوصا صريحة.
قال إمام أهل الحديث أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب في معرفة الصحابة -وقد ذكر الوليد- ما لفظه: «له أخبار فيها نكارة وشناعة تقطع على سوء حاله وقبح فعاله».
وحكى عن أبي عبيدة والأصمعي وابن الكلبي وغيرهم أنهم كانوا يقولون: كان الوليد شريب خمر فاسقا.
وقال ابن عبد البر -بعد ذكر هذه الأمور-: «إن الوليد لم يرو سنة يحتاج فيها إليه». قال: «وأخباره في شربه الخمر ومنادمته لأهلها كثيرة مشهورة، يسمج بنا ذكرها هاهنا، ونذكر منها طرفا».
ثم ذكر أنه صلى الفجر بأهل الكوفة أربع ركعات ثم قال: أزيدكم؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم، فقال الحطيئة [في ذلك]:
تكلم في الصلاة وزاد فيها ** علانية وجاهر بالنفاق
ومج الخمر في ستر المصلى ** ونادى الجميع إلى افتراق
أزيدكم على أن تخمدوني ** فما لكم ومالي من خلاق
وقال أيضا:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ** أن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد تمت صلاتهم ** أأزيدكم سكرا وما يدري
فأبوا أبا وهب ولو أذنوا ** لقرنت بين الشفع والوتر
كفوا عنانك إذ جريت ولو ** تركوا عنانك لم تزل تجري
قال أبو عمر بن عبد البر: «وقوله: أزيدكم -إذ صلى الصبح أربعا- مشهور من رواية الثقات، من نقل أهل الحديث، وأهل الأخبار». ثم ذكر ما روي من أنه تعصب عليه قوم من أهل الكوفة بغيا وحسدا وشهدوا زورا أنه تقيأ الخمر، وذكر القصة، ثم قال: «هذا لا يصح عند أهل الحديث، ولا له عند أهل العلم أصل»، يعني أن قوما شهدوا عليه بذلك زورا.
ثم ذكر الروايات الصحيحة عند أهل الحديث في ذلك، وذكر القصة التي في صحيح مسلم وغيره وقيام الشهادة العادلة على شربه، وأمر علي وعثمان رضي الله عنهما بجلده.
وكذلك ذكر الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي في كتاب النبلاء أن الوليد كان يشرب الخمر وحد على شربها، وروى من شعره فيها، قال: وهو الذي صلى بأصحابه الفجر أربعا وهو سكران، ثم التفت إليهم، وقال: أزيدكم، وقال لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه: أنا أحد منك سنانا، وأذرب لسانا، وأشجع منك جنانا، فقال له: اسكت، فإنما أنت فاسق، فنزلت {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون}. رواه الذهبي وقال: «إسناد قوي».
وقال إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل: إن رسول الله ﷺ امتنع أن يمس الوليد أو يدعو له، ومنع بركة رسول الله ﷺ لسابق علمه فيه، ذكر هذا الإمام أحمد حين روى الآتي ذكره.
وذكر الواحدي في أسباب النزول في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} أنه الوليد ولم يذكر غيره. وروى حديثين في الاستدلال على أنه الوليد، ومثله ذكره في وسيط الواحدي، وعين المعاني، وتفسير القرطبي وتفسير عبد الصمد الحنفي، وتفسير ابن الجوزي ومفاتيح الفخر الرازي لم يذكروا سواه مع توسع بعضهم في النقل.
وقال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب ما لفظه: «ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن هذه الآية نزلت في الوليد، وروى إمام المحدثين مسلم بن الحجاج في صحيحه الذي اتفق أهل الحديث على صحته أن الوليد شرب الخمر، وقامت الشهادة عليه بذلك عند عثمان رضي الله عنه، فأمر عثمان عليا رضي الله عنه بحد الوليد، فأمر علي عبد الله بن جعفر بذلك فحده، وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال له علي: جلد رسول الله ﷺ أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر رضي الله عنه ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي.
قال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب: «وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر محمد بن علي قال: جلد علي الوليد في الخمر أربعين، قال أبو عمر: أضاف الجلد إلى علي لأنه الآمر به كما مر».
فانظر ما في هذه القصة من عدل الصحابة رضي الله عنهم. أما عثمان فأمر بجلد الوليد مع أنه أخوه لأمه، ولم يقنع بجلده حتى جلده بيد علي رضي الله عنه، لأنه عدو الوليد، وبينهما ما قدمنا، فهذا إنصاف عثمان لعلي رضي الله عنهما. وأما علي رضي الله عنه فلأنه لم يغتنم الفرصة في عدوه، ويتشفى في جلده بيده، ويستوفي الحد ثمانين، بل أمر عبد الله بن جعفر بحد الوليد، ومنعه من الزيادة على أربعين مع تصريحه أن الثمانين عنده سنة. فرضي الله عنهم وأرضاهم، فلقد كانوا {خير أمة أخرجت للناس} كما وصفهم الله تعالى.
فيا أيها المدعي على أهل البيت أنهم يقولون بعصمة الصحابة أجمعين، ويفضلونهم على الأنبياء والمرسلين، كيف تصنع بجحد هذه النصوص البينة والأدلة النيرة! وكيف تجترئ معها على رمي المحدثين بأنهم لا يجيزون الكبائر على أحد ممن رأى رسول الله ﷺ وأنهم يقولون: إن الصحابي إذا فعل المعصية الظاهرة عدوها صغيرة، فالوليد بن عقبة صحابي بإجماعهم، أمالك يا هذا حياء يكفك عن مثل هذه الأكاذيب الواضحة والأباطيل الفاضحة؟ وإنما قال المحدثون: إن الصحابة عدول في الظاهر كما قدمنا ليخرج من ذلك من فعل الكبائر من غير تأويل كالوليد بن عقبة، وإنما ذكروا أن الصحابة كلهم عدول على الإطلاق؛ لأن ذلك هو الكثير، وليس يخرج منه إلا النادر اليسير، فالفاسق الذي لم يظهر التأويل في ذلك الصدر كالشعرة السوداء في الثور الأبيض.
وأما القول بعصمة كل من رأى النبي ﷺ أو بعدالة من تعمد الكبائر من أهل ذلك العصر؛ فلم يقل بذلك أحد منهم قولا صريحا، وإن كان عموم كلام بعضهم يقتضيه فالنص الصريح يخصص اللفظ العام.
وقد ذكر النواوي رحمه الله في شرح مسلم وغيره من أهل الشروح والتاريخ أنه ارتد عن الإسلام جماعة ممن يطلق عليه اسم الصحبة. وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب جماعة جرحهم وبين كلام أئمة الحديث فيهم. منهم الوليد وقد مر كلام الأئمة فيه، ومنهم بسر بن أرطأة ذكره ابن عبد البر وذكر ما له من الأفعال القبيحة، وقال فيه: «قال أبو الحسن الدارقطني: بسر بن أرطأة له صحبة، ولم يكن له استقامة بعد النبي ﷺ وهو الذي قتل طفلين لعبيد الله بن العباس».
وأنشد ابن عبد البر لأمهما عائشة بنت عبد المدان:
ها من أحس بني اللذين هما ** كالدرتين تشطى عنهما الصدف
ها من أحس بني اللذين هما ** سمعي وعقلي فقلبي اليوم مختطف
حدثت بسرا وما صدقت ما زعموا ** من قتلهم ومن الإثم الذي اقترفوا
أنحى على ودجي ابني مرهفة ** مشحوذة وكذاك الإثم يقترف
قال ابن عبد البر: «ثم وسوست؛ فكانت تقف في الموسم تنشد هذا الشعر، وتهيم على وجهها».
قال: «وكان ابن معين يقول فيه: إنه رجل سوء».
قال أبو عمر بن عبد البر: «وذلك لأمور عظام ركبها في الإسلام»، وذكر أنه أغار على همدان، وقتل وسبى نساءهم فكن أول مسلمات سبين في الإسلام.
ولما ذكر هذا أبو عمر استشعر سؤال سائل يرد عليه، فإنه قدم في أول الكتاب أن الصحابة كلهم عدول، وهذا يناقض ذلك؛ فأراد أن يرفع هذا الإشكال بتخصيص من شذ عن الصحابة، وخالف ما كانوا عليه من الديانة أو الدخول في الفتن مع التأويل والتحري، فروى ابن البر في هذا الموضع حديث ابن عباس مرفوعا: «إنكم محشورون إلى الله عز وجل»، وذكر الحديث وفيه: «فأقول يا رب أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك». قال أبو عمر: والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا قد تقصيتها في ذكر الحوض في باب: خبيب من كتاب التمهيد والحمد لله تعالى». انتهى لفظه.
وقد نقم بعض أهل الحديث على ابن عبد البر تعرضه في الاستيعاب لذكر ما شجر بين الصحابة، ولم يريدوا نقم هذا الجنس، إنما نقموا ذكر ما شجر بينهم مما وقع بين أهل الفضل على سبيل التأويل الذي لا يقدح به في رواية الحديث. أما ارتكاب الكبائر عمدا؛ فذكره واجب لأجل الجرح به فاعلم ذلك.
قلت: هذا مع أن ابن عبد البر ذكر في خطبة الاستيعاب أن الصحابة كلهم عدول بتعديل الله تعالى، وهذا يدل على أنهم أرادوا بعدالة الصحابة ما قدمته من عدالتهم [و] عدم الاعتداد بالنادر.
فإن قلت: فما الفرق بين مذهب الشيعة وأهل الحديث في الصحابة؟
قلت: من وجوه:
الأول: في الخلافة وهو معروف.
والثاني: أن أهل الحديث يحملون من أظهر التأويل من الصحابة على أنه متأول.
الثالث: أن أهل الحديث لا يكرهون العاصي من الصحابة، وإنما يكرهون معصيته، ويحبونه لإسلامه وصحبته، ويترحمون عليه ويرضون عنه، ويذكرون ما له من الفضائل؛ ولا يسبونه ولا يؤذونه، وتفصيل المقاصد والحجج مما لا يتسع له هذا الموضع.
وللزيدية مثل ذلك بل أكثر منه في حق الحسين بن القاسم ومن ينتسب إليهم.
وللمعتزلة مثل ذلك في حق ابن الزيات والصاحب الكافي ونحوهما لمن يميل إلى مذهبهم.
وأما قول المعترض: إن أهل الكتب الستة رووا عن الوليد؛ فجهل وغلط. وأما قوله: إن أبا داود روى عنه؛ فروى عنه حديثا واحدا بعد أن رواه من ست طرق؛ وقد روى أبو داود أنه شرب الخمر وحد عليها، فكيف تكون روايته عنه مع هذا كله تعديلا له؟ فالرواية من غير متابع ولا شاهد ولا جرح للراوي ليست تعديلا؛ كيف مع جرحه ومع ذكره بعد غيره على سبيل الاستشهاد؟
وأنا أذكر الحديث الذي رواه عنه وطرقه وسبب استشهاده بحديث الوليد، فأقول:
بوب أبو داود بابا في كراهية الخلوق للرجال، وذكر ما ورد في ذلك، واستوفى الطرق، ولم يقتصر على الطرق الصحيحة.
وروى عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: قدمت أهلي وقد تشققت يداي فخلقوني بزعفران، فغدوت على النبي ﷺ، فسلمت عليه، فلم يرد علي ولم يرحب بي، وقال: «اذهب فاغسل هذا عنك» فذهبت فغسلته، ثم جئت [وقد بقي علي منه ردع فسلمت، فلم يرد علي، ولم يرحب بي، وقال: «اذهب فاغسل هذا عنك» فذهبت فغسلته، ثم جئت] فسلمت عليه، فسلم علي، ورحب بي، وقال: «إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير، ولا المضمخ بالزعفران، ولا الجنب [قال:] ورخص للجنب إذا نام أو أكل أو شرب أن يتوضأ».
وروى عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يقبل الله صلاة رجل في جسده شيء من الخلوق».
وروى عن أنس أنه قال: «نهى رسول الله ﷺ عن التزعفر». وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي والنسائي في سننهما.
وروى عن أنس أيضا من طريق أخرى أن رجلا دخل على النبي ﷺ وعليه أثر صفرة، وكان النبي ﷺ قل ما يواجه رجلا في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال: «لو أمرتم هذا أن يغسل [هذا عنه]». وهذا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي أيضا.
وروى عن عمار من غير الطريق الأولى أن رسول الله ﷺ قال: «ثلاثة لا تقربهم الملائكة جيفة الكافر والمتمضخ بالخلوق والجنب إلا أن يتوضأ».
ثم بعد هذه الطرق إلا طريق أنس الأخيرة روى عن الوليد أنه قال: «لما فتح نبي الله ﷺ مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم بالبركة ويمسح رءوسهم، قال: فجيء بي إليه وأنا مخلق فلم يمسني من أجل الخلوق» هكذا رواه أبو داود.
وقد روي عن أحمد بن حنبل أن رسول الله ﷺ لم يمسه ولم يدع له بالبركة؛ ومنع بركة رسول الله ﷺ لسابق علمه فيه.
وروى أحمد بن حنبل هذا الحديث وزاد فيه: أن الوليد سلح يومئذ وتقذره رسول الله ﷺ.
وأقول: إن النقاد من علماء الحديث قد قدحوا في هذا الحديث مع الذي فيه من القدح بفسق الوليد، وقالوا: إنه لا يصح لوجوه:
الأول: أنه قد ثبت أن رسول الله ﷺ بعثه ساعيا إلى بني المصطلق في القصة المشهورة، وليس يصح فيمن بعث رسولا إلى بين المصطلق أن يكون يوم الفتح صبيا صغيرا.
الوجه الثاني: أن زوجته شكته إلى رسول الله ﷺ، ولم يعش رسول الله ﷺ بعد الفتح إلا يسيرا فمتى كانت هذه الزوجة؟
الوجه الثالث: أنه قدم في فداء من أسر يوم بدر.
الوجه الرابع: أن الزبير وغيره ذكروا أن الوليد هذا وعمارة ابني عقبة خرجا ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة، قالوا: وهجرتها كانت في الهدنة بين النبي ﷺ وبين أهل مكة.
فإن قلت: فكيف غفل أبو داود عن هذا مع حفظه وجلالته؟
قلت: فيه احتمالان.
أحدهما: وهو القريب، أن يكون رأى في الحديث أمرين:
أحدهما: أن قريشا أتوا بصبيانهم إلى رسول الله ﷺ، ليدعو لهم بالبركة ويمسح برؤوسهم، وأنه أتى بالوليد فلم يمسه، من غير تاريخ القصة، وهذا محتمل لا دليل على بطلانه، ويكون أبو داود يعرف أصل الحديث من غير طريق الوليد.
ويقوي هذا وجوه: أحدهما: أن أحمد بن حنبل تكلم في وجه امتناع النبي ﷺ من مس الوليد وأنه منع من بركته لسابق علمه فيه، وهذا يدل على معرفة أحمد بأصل الحديث لأنه من أعرف الناس بالحديث بالإجماع.
وثانيهما: أن في الحديث أمورا لم تثبت في رواية الوليد، مثل ما روى أحمد بن حنبل من كونه عليه السلام لم يدع له بالبركة، ولكون الوليد سلح يومئذ، وتقذره رسول الله ﷺ، وهذا يدل على أن الحديث معروف من غير طريق الوليد، ويقويه: أن الحاكم أبا أحمد الكرابيسي ذكر أن راوي هذا الحديث الذي رواه أبو داود خولف في إسناده، فدل على أن له راويا غير من ذكر أبو داود، وأن للحديث أصلا، وأنه قد ثبت عن أبي داود أنه لا يورد في سننه جميع ما يعرف من طرق الحديث كيلا يطول ذلك على المتعلمين.
وثالثها: أن هذا الحديث من مثالب الوليد، ومناقصه، فالظن يقوي في صدقه فيه، ولعل أبا داود إنما رواه عنه لهذه النكتة، فإن شهادة الإنسان على نفسه بما يدخل عليه النقص من أقوى الشهادات، ولقد استشعر هذا الوليد فاعتذر بأنه إنما لم يمسه لأجل الخلوق، وهذا العذر ضعيف لوجوه:
أولها: أنه امتنع من الدعاء له وهو صغير لا ذنب له في استعمال الخلوق، ولا يستحق الزجر كما فعل مع عمار.
وثانيها: أن جسده كله لم يكن مضمخا بالخلوق.
وثالثها: أن رسول الله ﷺ لم يخبره أنه امتنع لذلك، فذلك من قبيل رجم الظنون.
إذا عرفت هذا فاعلم أن المنكر في الحديث إنما هو تاريخه في يوم الفتح لا متنه، فإذا صح المتن لم يكن بطلان التاريخ قادحا فيه. ألا ترى أنه يصح موت جماعة من الملوك وغيرهم، ويصح وقوع حوادث في العالم، ويختلف في تاريخها ويظهر غلط المؤرخ، ولا يستلزم ذلك القول بأن أولئك الملوك لم يموتوا، ولا أن تلك الحوادث لم تقع، ويقوي هذا الاحتمال: أن راوي الحديث عن الوليد بهذا التاريخ كان رديء الحفظ قليل الإتقان، فلعله الذي وهم في ذكر يوم الفتح، وهذا الراوي هو: عبد الله أبو موسى الهمداني، وفيه كلام من وجهين:
أحدهما: أنهم تكلموا فيه، قال الحافظ عبد العظيم: «[قالوا]: أبو موسى هذا مجهول» وقال الحافظ الذهبي: «لم يرو عنه إلا ثابت بن الحجاج فقط». وقال جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج: لا يصح حديثه. وقال الحاكم أبو أحمد الكرابيسي: وليس يعرف أبو موسى الهمداني، ولا عبد الله الهمداني، وقد خولف في هذا الإسناد، وهذا حديث مضطرب الإسناد.
الوجه الثاني: أن الحديث مروي عن عبد الله الهمداني وعن أبي موسى الهمداني، وقد اختلفوا فقيل: هو رجل واحد، قال ذلك أبو القاسم الدمشقي الحافظ، وقال ابن أبي خيثمة: أبو موسى الهمداني اسمه عبد الله، وقيل هما اثنان، قاله البخاري، قال: وعبد الله الهمداني روى الحديث عن أبي موسى الهمداني وهذا هو الظاهر لتقدم البخاري في الحفظ، ولأنه مثبت، ولأن احتجاج ابن أبي خيثمة بأن اسم أبي موسى عبد الله لا يمنع من ذلك، ولعل ذلك هو متمسك أبي القاسم الدمشقي، ورواية عبد الله عن أبي موسى -كما ذكره البخاري- ترفع الإشكال، وظاهر كلام الذهبي أنهما واحد. فالله أعلم.
وهذا هو الاحتمال الأول وهو: أن أبا داود روى الحديث لثبوت متنه، وإن كان لا يخفى عليه بطلان تاريخه الذي جاء في هذا الطريق.
الاحتمال الثاني: أن يكون أنسي هذا وإن كان لا يجهله، فقد يسهو العالم عما يعرف، كما يسهو في صلاته ولا يعرف عدد ركعاتها، والسهو غير الجهل بلا مرية، وقد يتفق ذلك لكثير من أئمة الفنون كلها في مسائل جلية يخطئون فيها على سبيل السهو دون الجهل، والله سبحانه أعلم.
فإن قلت: فلم روى أبو داود هذا الحديث مع ما فيه من المطاعن؟
قلت: لأنه قد رواه بإسناد نظيف صحيح، من طريق أنس كما رواه مسلم كذلك، ثم قوى تلك الطريق بذكر جملة مما ورد في الباب مما هو ضعيف أو مختلف فيه، كما هو عادة الحفاظ، وليس الاضطراب الكثير في الحديث إلا من أجل تاريخه. وغرض أبي داود منه لا يتعلق بتاريخه، إنما يتعلق بمتنه، وليس في متنه مطعن إلا من وجهين محتملين:
أحدهما: من أجل الوليد، وقد بينا أنه لا يتهم فيه فهو من مثالبه، وإنما رواه ليعتذر عنه، وقد بينا بطلان عذره، وقد نص أحمد بن حنبل على عكس عذره، ولو استطاع الوليد لكتمه.
وثانيهما: من أجل عبد الله الهمداني، وقد بينا فيما تقدم أنه لم ينفرد بهذا المتن فقد تقوى أبو داود بهذا المتن، فإن خبر الفاسق قد يثمر الظن لا سيما في إقراره على نفسه بما ينقصه، وقد ضم هذا أبو داود إلى أمثاله مما فيه احتمال قريب، فرواه من [طرق] قد أشرنا إليها.
ففي الطريق الأول: عطاء الخرساني، وقد أخرج له مسلم متابعة ووثقه جماعة، منهم: يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، والعجلي، ويعقوب بن شيبة، وأبو حاتم الرازي على تعنته وغيرهم. وقال الذهبي: كان من خيار العلماء، وذكر في الميزان أنه كان يهم، فروى عن ابن المسيب حديث الذي جامع أهله في رمضان على غير ما رواه ابن المسيب فكذبه فيما روى عنه [من] ذلك، فذكره العقيلي لهذا في الضعفاء، وكذلك ضعفه البخاري لأجل وهمه، وكان من عباد الله [الصالحين] لكنه يهم. وقال ابن حبان في الضعفاء: «أصله من بلخ وعداده في البصريين، وإنما قيل له الخراساني، لأنه دخل خراسان، وأقام بها مدة طويلة، وكان من خيار عباد الله غير أنه كان رديء الحفظ، كثير الوهم، يخطيء ولا يعلم، فلما كثر ذلك في روايته بطل الاحتجاج به».
قال الذهبي: «فهذا القول من ابن حبان فيه نظر، ولا سيما قوله: وإنما قيل له الخراساني، فيا هذا! أي حاجة بك إلى هذه [الدورة]؟ أليست بلخ من أمهات مدن خراسان بلا خلاف؟» انتهى كلام الذهبي.
الطريق الثانية: عن عمار، فيها رجل [مجهول] غير مسمى.
الطريق الثالثة: عنه أيضا معللة بالانقطاع بين الحسن البصري وعمار.
الطريق الرابعة: عن أبي موسى، وفيها أبو جعفر الرازي عيسى بن ماهان، وقيل: ابن عبد الله بن ماهان، قال الذهبي: صالح الحديث، ثم روى [فيه] الاختلاف. قال الحافظ عبد العظيم: «قد اختلف فيه قول ابن المديني، وابن معين، وأحمد بن حنبل، فقال ابن المديني مرة: ثقة، وقال مرة: كان يخلط، وقال أحمد مرة: ليس بقوي، وقال مرة: صالح حديث. وقال ابن معين مرة: ثقة [وقال مرة:] يكتب حديثه، إلا أنه يخطئ، وقال أبو زرعة الرازي: يهم كثيرا. وقال الفلاس: سيء الحفظ».
قلت: مجموع كلامهم يدل على أنه صدوق يخطئ ويهم؛ فلهذا اضطربوا في توثيقه، لأن معرفة حد الوهم الذي يجب معه ترك الصدوق دقيقة اجتهادية، يكون فيها للحافظ قولان، كما يكون للفقيه قولان في دقيق مسائل الفقه.
الطريق الخامسة: عن أنس، وفيها سلم العلوي وفيه كلام، قال أبو داود: وليس [هو] علوي النسب، كان ينظر في النجوم وشهد عند عدي بن أرطأة على رؤية الهلال فلم يجز شهادته. وقال يحيى بن معين: ثقة، وقال مرة: ضعيف. وقال ابن عدي: لم يكن من أولاد علي بن أبي طالب إلا أن فريقا بالبصرة كانوا يسمون بني علي فنسب هذا إليه». وقال ابن حبان: «كان شعبة يحمل عليه، ويقول: كان سلم العلوي يرى الهلال قبل الناس بيومين، منكر الحديث [على قلته] لا يحتج به إذا وافق الثقات فكيف إذا انفرد».
الطريق السادسة: طريق الوليد بن عقبة، وقد مر الكلام على ما فيها من المطاعن. فإذا عرفت ما في هذه الطريق من الاختلاف، والضعف؛ عرفت أن أبا داود أراد التقوي بإيراد جميعها بعد أن اعتمد على الطريق الصحيحة.
الطريق السابعة: التي خرج فيها حديث أنس الصحيح الذي أخرجه مسلم وغيره، وقد ذكرت فيما تقدم: أن الحفاظ يروون عن بعض الضعفاء والمجاريح على جهة المتابعة، فربما يرى ذلك من لم يعرف طريقتهم [فيظن] أن القوم يرون عدالة الفساق المصرحين، وما على الحفاظ إذا جهل بعض الناس ما عرفوا، وقصر في الحفظ عما بلغوا، والذي يقتضيه الأدب والتمييز: تواضع الإنسان لمن هو أعرف منه بالفن، فإن شاركه في المعرفة، ولاح له وجه يقتضي المخالفة، ولم يجد ما يدفعه، تكلم بأدب وعمل بما يعلم ولا حرج، والله أعلم.
الوهم الثالث: احتج المعترض على قبول المحدثين للمجاريح وتصحيح حديثهم بأنهم رووا في الصحيح عن مروان بن الحكم. قال: وقد طرده ولعنه رسول الله ﷺ. فأخطأ المعترض في مواضع:
أما الموضع الأول: فإنه وهم أن رسول الله ﷺ طرد مروان، والذي طرده هو أبوه الحكم، وكان مروان حينئذ طفلا صغيرا بالإجماع، لكن أباه الحكم نقله معه إلى الطائف، وكان يوم وفاة رسول الله ﷺ ابن ثمان سنين أو نحوها في قول الإمام مالك، وأكثر الأقوال تقارب هذا، ذكره أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب.
فهذا يدل على أن رسول الله ﷺ توفي قبل أن يبلغ مروان التكليف، ويستحق العقوبة بالتطريد، وهذا أمر معلوم عند أهل التاريخ.
قال الذهبي في النبلاء -وقد ذكر الحكم-: «نفاه النبي ﷺ إلى الطائف لكونه حكاه في مشيته وفي بعض حركاته، فسبه وطرده»، وروى في ترجمته عن النبي ﷺ قوله: «ما لي أريت بني الحكم ينزون على منبري نزو القردة» رواه العلاء بإسنادة إلى النبي ﷺ، ولم يحضرني الآن ما قال الذهبي بعد هذا.
وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب أن رسول الله ﷺ طرده من المدينة فنزل الطائف، وأنه عليه السلام كان إذا مشى يتكفأ، وكان الحكم يحكيه، فالتفت إليه النبي ﷺ يوما فرآه يفعل ذلك فقال: «فكذلك فلتكن»، فكان الحكم متخلجا يرتعش، فعير عبد الرحمن [بن حسان] بن ثابت مروان بن الحكم بذلك؛ فقال يهجوه:
إن اللعين أبوك فارم عظامه ** إن ترم ترم مخلجا مجنونا
يمشي خميص البطن من عمل التقى ** ويظل من عمل الخبيث بيطنا
قال ابن عبد البر: فأما قوله: إن اللعين أبوك، فروي عن عائشة من طرق ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره، أنها قالت لمروان: أما أنت [يا] مروان، فأشهد أن رسول الله ﷺ لعن أباك وأنت في صلبه. وروى بإسناده عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: «يدخل عليكم رجل لعين» فدخل الحكم بن أبي العاص.
ففي هذا ما يشهد بمعرفة المحدثين بحال طريد رسول الله ﷺ.
الموضع الثاني: وهم أن الحكم عند المحدثين من جملة المعصومين المفضلين على الأنبياء والمرسلين، وقد تبين بذكر نصوصهم فيه ما يكذب من اجترأ على هذا الإفك العظيم.
الموضع الثالث: وهم أن طريد رسول الله ﷺ من جملة رجال الصحيح، وليس كذلك؛ فليس في الكتب الستة رواية عنه البتة، وجملة من فيها من اسمه الحكم: ثلاثة وعشرون رجلا، ليس فيهم الحكم بن [أبي] العاص.
الموضع الرابع: وهم أن مروان بن الحكم عند المحدثين من أهل التقوى والصلاح، واحتج بروايتهم عنه على أنهم يقبلون الفساق والمجاريح، ويعتقدون عدالته لإخراج حديثه في الصحيح، وليس كذلك فإنهم لا يجهلون ماله من الأفعال القبيحة، والمعاصي الموبقة، وأنا أورد من كلامهم فيه ما يدل على ذلك.
قال الذهبي في ميزان الاعتدال في نقد الرجال ما لفظه: «مروان بن الحكم، له أعمال موبقة، نسأل الله السلامة، رمى طلحة بسهم، وفعل وفعل».
وذكره الذهبي في النبلاء وساق من أخباره حتى قال ما لفظه: «وحضر الوقعة يوم الجمل فقتل طلحة ونجا فليته ما نجا». هذا لفظ الذهبي.
فلو كان عنده من أهل التقوى والصلاح ما تمنى له الهلاك وكره له النجاة، وقد نص في الميزان على أن له أعمالا موبقة، وهذا تصريح بالتفسيق.
وروى الذهبي في النبلاء عن الحسين بن علي رضي الله عنهما أنه قال لمروان: والله لقد لعنك رسول الله ﷺ وأنت في صلب أبيك.
ولم يذكره الذهبي بخير، وإنما ذكره بالمكر والدهاء.
وروى الذهبي في النبلاء أن مروان هو الذي قتل طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنه، ذكر ذلك في ترجمة طلحة.
وقال أبو محمد بن حزم في أسماء الخلفاء في ذكر خلافة ابن الزبير وقد ذكر بعض مساوئ مروان: «وهو أول من شق عصا المسلمين بلا تأويل ولا شبهة، وقتل النعمان بن بشير أول مولود في الإسلام في الأنصار صاحب رسول الله ﷺ»، وذكر أنه خرج على ابن الزبير بعد أن بايعه على الطاعة.
وقال أبو السعادات بن الأثير في كتاب النهاية في حرف الفاء مع الضاد: «قالت عائشة لمروان: أنت فضض من لعنة الله، أي: قطعة وطائفة منها. ورواه بعضهم فظاظة من لعنة الله، بظائين، وهو من الفظيظ وهو ماء الكرش. وأنكره الخطابي. وقال الزمخشري: افتظظت الكرش: اعتصرت ماءها، كأنه عصارة من اللعنة، أو فعالة من الفظيظ: ماء الفحل، أي: قطعة من اللعنة» انتهى بلفظه من نهاية ابن الأثير.
وممن ذكر مروان: أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب ولم يذكره بديانة ولا وصفه بخير، بل روى عن علي رضي الله عنه أنه نظر إليه يوما فقال: ويلك وويل أمة محمد منك، ومن بنيك إذا شابت ذراعك.
قال ابن عبد البر: وكان يقال له: خيط باطل، وفي ذلك يقول أخوه عبد الرحمن بن الحكم لما بويع لمروان بالإمارة:
فوالله ما أدري وأني لسائل ** حليلة مضروب القفا كيف يصنع
لحا الله قوما ملكوا خيط باطل ** على الناس يعطي من يشاء ويمنع
وكان أخوه عبد الرحمن شاعرا محسنا، وكان لا يرى رأي مروان، وإنما قال له: مضروب القفا؛ لأنه ضرب يوم الدار على قفاه فخر لفيه، ومما قال فيه أخوه عبد الرحمن:
وهبت نصيبي فيك يا مرو كله ** لعمرو بن مروان الطويل وخالد
فكل ابن أم زائد غير ناقص ** وأنت ابن أم ناقص غير زائد
وأنشد ابن عبد البر لغير أخيه في هجوه شيئا تركته لأنه قد أقذع فيه، وذكر أنه لم ير النبي ﷺ ورواه عن البخاري.
فهذه جملة تدل على معرفتهم بحاله، وخبرتهم بسوء فعاله. وأما روايتهم عنه بعد هذا؛ فلا تدل على تعديله عندهم في أمر دينه بالإجماع، وإنما اختلف العلماء في الرواية من غير تصريح بالجرح؛ هل تدل على توثيق المروي عنه، مع أن المختار أنها لا تدل على ذلك، كما ذكره ابن الصلاح في علوم الحديث. وذكره يحيى بن حمزة في المعيار.
وقد روى زين العابدين علي بن الحسين وعروة بن الزبير عن مروان، ولم يدل ذلك عن عدالته عندهما، ولا اعترض بذلك أحد عليهما، وكذلك رواية المحدثين عنه.
فإن قلت: فلم رووا عنه؟ قلت: على سبيل التقوي والاستشهاد، مع الاعتماد على غيره كما ذكرنا ذلك في الرواية عن الوليد، فقد يفيد خبر الفاسق الظن، وكلما أفاد الظن حسن وأوجب إيراده ليستعمل في الترجيح عند التعارض، سيما وقد قال عروة بن الزبير: إن مروان لم يكن يتهم في الحديث، فدل على أنه صدوق يصلح خبره للاستشهاد والترجيح عند التعارض، ولا يعتمد عليه إذا انفرد، وقد بينا في جواب كلام هذا المعترض في الفصل الأول من المسألة الثانية أن صاحبي الصحيح قد يخرجان حديث من هذه صفته لوجود شواهد ومتابعات لم يتسع كتابهما لذكرها مع قصد الاختصار، وروينا ذلك عن مسلم تنصيصا، وعن البخاري تخريجا صحيحا، فخذه من موضعه.
ويدل على ذلك أن أحاديث مروان التي رووها عنه في الكتب الستة 57 أحاديث مشهورة عن الثقات. ومن هنا قال عروة بن الزبير: لم يكن يتهم في الحديث. مع أنها يسيرة:
فمنها حديث قصة الحديبية. وحديث وفد هوزان. وقصة سهيل بن عمرو. وهذه رواها البخاري عنه مقرونا بالمسور بن مخرمة مع شهرتها أو تواترها عند أهل العلم بالسير.
ومنها سبب النزول في قوله تعالى: {غير أولي الضرر}. وقد رواها معه قبيصة بن ذؤيب.
ومنها قراءة رسول الله ﷺ بالأعراف في صلاة المغرب، وقد روي هذا عن عائشة بإسناد صحيح في النسائي.
ومنها أثر موقوف عن عثمان في فضل الزبير، وهذا لا بأس به فإنهم يتسامحون في أحاديث الفضائل.
ومنها قصة عثمان وعلي رضي الله عنهما في اختلافهما في متعة الحج، وهي مشهورة من غير طريقه.
ومنها حديثه في صلاة الخوف، وقد رواه عروة بن الزبير.
وبالجملة؛ فلم يرو مروان في الكتب الستة إلا عن ستة: علي وعثمان رضي الله عنهما وزيد بن ثابت وأبي هريرة وبسرة وعبد الرحمن بن الأسود. وقد ذكرت جميع من روى عنهم ههنا إلا عبد الرحمن بن الأسود، فلم أظفر بروايته عنه وقت تعليق هذا الكتاب لبعدي عن أهل الحديث، وعدم وجود مصنفاتهم الحافلة. وسوف ألحق ذلك إن شاء الله تعالى، فإن عاق الموت فالمنة لمن أفاد ذلك.
وأما قول مروان في عبد الرحمن بن أبي بكر: هذا الذي نزلت فيه: {والذي قال لوالديه أف لكما}. فما أظن البخاري أورده إلا لبيان أثر عائشة الذي ردت به عليه، وإلا فهذا مرسل عند البخاري، فإنه نص على أن مروان لم ير النبي ﷺ. مع أنه ليس تحته حكم شرعي. وأما عبد الرحمن بن الصديق رضي الله تعالى عنهما فما يضره ذلك على تقدير صحته فقد كان مشركا بلا ريب، ولكنه أسلم وآمن، والإسلام يجب ما قبله، وقد كان لأفاضل الصحابة قبل الإسلام أفعال لا حاجة لذكر شيء منها، وإنما هذا من جملة قبائح مروان. فالله المستعان.
واعلم أنه لا يصح أن يعترض على المحدثين حتى يعلم أنهم رووا عن مروان حديثا في الحلال والحرام، وحكموا بصحته، ولا طريق له عن سواه في الكتب الستة، ولا في غيرها. وبعد العلم بهذا يعترض عليهم بأنهم خالفوا قواعدهم فقط. وأما مخالفة الإجماع فلا يصح الاعتراض عليهم بذلك، لوجه ليس هذا موضع ذكره.
ويلحق بهذا فائدة ينبغي ذكرها، وذلك أنه قل ما عرض ذكر الحكم ومروان بن الحكم إلا وعرض في الخاطر ذكر ما فعله عثمان رضي الله عنه من إيواء الحكم إلى المدينة بعد تطريد رسول الله ﷺ له عنها، فالسني يحب معرفة وجه ذلك، وغيره يحب التعرض بذلك للقدح في عثمان رضي الله عنه، فأحببت أن أذكر الوجه في ذلك فأقول: قد خاض الناس في ذلك خوضا كثيرا قديما وحديثا، ولم يحضرني وقت كتابة هذا الجواب شيء من هذه الكتب المذكور ذلك فيها فأنقل ما قال العلماء في ذلك، ولا حفظت في ذلك ما يقنع، إلا ما ذكره الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي المتشيع في كتابه شرح العيون فإنه ذكر فيه: أن رسول الله ﷺ أذن في ذلك لعثمان رضي الله عنه، وهذا الجواب مقنع إن صح الحديث، لكني لم أعرف صحته. فأما المعتزلة والشيعة من الزيدية وغيرهم؛ فيلزمهم قبوله، وترك الاعتراض على عثمان بذلك، لأن راوي الحديث عندهم من المشاهير بالفقه والعلم وصحة العقيدة، إلا فيما يقدح به من الاختلاف في فروع الكلام وما لا يخرج من الولاية.
وأما دلالة الجواب المقنع عند النقاد فهو ما ألقاه الله تعالى على خاطري في ذلك فأقول: غير خاف على من [له] أنس بقواعد العلماء أن أفعال النبي ﷺ عند المحققين لا تدل بنفسها على الوجوب ولا على الندب، وإنما تدل على الإباحة، وذلك لأنه عليه السلام كان يفعل المباح والمندوب والواجب، وإنما القدر المقطوع به أنه لم يكن يفعل المعاصي المحرمة، فإن فعل شيئا من الصغائر سهوا لم يقر عليه، وبين الله تعالى ذلك لئلا يبطل الاحتجاج بأفعاله.
قال المحققون: فإذا فعل رسول الله ﷺ فعلا نظرنا هل دلت القرائن على أنه فعل ذلك متقربا [به] إلى الله تعالى أو لا، فإن لم تدل على ذلك القرائن، لم يستحب التأسي فيه، وكان [ما] فعله على الإباحة: من شاء فعله، ومن شاء تركه. واحتجوا على ذلك بحجج يطول ذكرها وتقريرها.
منها: قوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا}. فلم يوجب على المؤمنين نكاح أزواج أدعيائهم.
وثانيها: حديث: «لم خلعتم نعالكم»، فأنكر الاقتداء قبل معرفة وجه فعله، وقول بعضهم إنه أقرهم على استدلالهم غير مسلم، بل رد عليهم: «إن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا»، والحديث صحيح على شرط مسلم، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
وثالثها: أنه عليه السلام لما صلى بهم خمسا فتابعوه، فقال لهم: «إنه لو حدث أمر لأنبأتكم به» أو كما قال، رواه البخاري ومسلم، ولفظهما «إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به».
ورابعها: إقراره ﷺ لعمر بن الخطاب على خلاف رأيه في قصة أسرى بدر وقوله لعمر: «لقد عرض علي عذاب أصحابك» الحديث، وذلك لأن رسول الله ﷺ لم يأمره بالموافقة ويوجبها عليه.
وخامسها: أن بعض أفعاله عليه السلام غير واجب إجماعا وما كان بعضه غير واجب لم يدل كل فرد منه على الوجوب.
وسادسها: أنه عليه السلام لو فعل شيئا معتقدا لإباحته، أو ناويا للتنفل به، وفعلناه معتقدين بوجوبه ملزمين للعامة فعله وتحريم تركه لم يصدق علينا التأسي الذي أمرنا به، ولكنا إلى مخالفته أقرب منا إلى الاقتداء به، ولهذا أمثلة كثيرة:
منها أنه لا يستحب لنا الطلاق، ولا يجب علينا مع أنه ﷺ قد طلق حفصة، مع أن الطلاق أبغض المباح إلى الله.
وكذلك قد ترك القسم لسودة لما كبرت ووهبت نصيبها لعائشة. فدل على إباحة مثل ذلك دون استحبابه أو وجوبه.
وكذلك قد أمر بالاقتصاص له في مرضه ممن لده، ولا يدل ذلك على استحباب القصاص وكراهة العفو، لأنه عليه السلام لم يقصد التقرب بهذه الأفعال، ولا دلت على ذلك القرائن.
فإذا تقرر ذلك؛ فاعلم أنه لا يدل دليل على أنه عليه السلام طرد الحكم معتقدا لوجوب ذلك عليه وعلى أمته. بل الظاهر خلاف ذلك لوجوه:
الأول: أنه عليه السلام لم يوجب ذلك ولا أمر به، والبيان واجب عليه.
الثاني: أنه لم يطرده من دار الإسلام، بل طرده من جواره فقط، وتركه في الطائف مع المسلمين، وأمره عليه السلام نافذ في الطائف.
الثالث: أنه لم يخبر أهل الطائف أنه يحرم عليهم مجاورة الحكم ويجب عليهم نفيه، وهم مسلمون ممتثلون لأوامره. وتقريره أحد الحجج.
الرابع: أنه لو وجب نفيه لم يكن إلا لأجل فسقه أو كفره، ولا ذنب أكبر من الكفر. وقد ترك عليه السلام المنافقين واليهود في جواره، وأجمعت الأمة على جواز إقرار اليهود بين المسلمين إلا في جزيرة العرب.
فإن قلت: لم نفاه عليه السلام؟
قلت: تعين الوجه في ذلك لم يلزم، والظاهر أنه نفاه لأحد أمرين أو مجموعهما.
أحدهما: أنه كان يظهر أسرار رسول الله ﷺ، وهذا قد زال في وقت عثمان.
ثانيهما: أنه كان يمشي مثل رسول الله ﷺ مستهزئا، نعوذ بالله.
فإن قلت: فكيف وصله عثمان، وآواه مع ذلك؟
قلت: لأنه من رحامته الماسة، فهو عمه صنو أبيه، وقد أمر الله بصلة الأرحام وإن كانوا مشركين، قال الله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا}، ولم يكن [للحكم] من الحق على رسول الله ﷺ ما يوجب الصبر عليه، وقد يختلف التكليف في ذلك. ألا ترى أن رسول الله ﷺ كره النظر إلى وحشي قاتل حمزة، ولم يستلزم ذلك أن يستحب لأولاد وحشي وزوجته، وسائر أرحامه أن يقطعوا ما أمر الله بوصله من رحامته. وهذه كراهية طبيعية لأنه عليه السلام لم يكره النظر إلى من تاب من الشرك، مع أنه أعظم الذنوب. وقد قال عليه السلام: «اللهم إني آسف كما يأسف بنو آدم» الحديث، وليس من رق لرحم من أرحامه ممن غضب عليه رسول الله ﷺ يعد مخالفا له عليه السلام. فقد رق العباس عم رسول الله ﷺ لقريش في قصة الفتح، وخاف أن تستأصل شأفتهم، فسار الليل إليهم وأخبر أبا سفيان بخبر رسول الله ﷺ، وجاء به، وأقره رسول الله ﷺ على ذلك. وقد كان عثمان شفيقا رحيما، وقد فعل مثل هذا في حياة رسول الله ﷺ؛ فلم ينكر عليه، وذلك أنه شفع بوم الفتح في أخيه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد أن أمر النبي ﷺ بقتله، وقد عفا علي عليه السلام عن مروان بن الحكم يوم الجمل وقال: أدركتني عليه رحم ماسة، 58، بل قد قال نوح عليه السلام: {رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق}، مع أنه الذي قال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا}. فما خص ولده إلا لرحامته.
وأما صلة عثمان للحكم ولغيره من قرابته بالأموال الكثيرة، فلا شك أنه ابتلي بقرابة سوء، فكان يتألفهم. وله حجة واضحة في فعل رسول الله ﷺ يوم حنين وإعطائه المنافقين دون المؤمنين. فإن مئة ناقة لواحد من المنافقين في زمانه عليه السلام أكثر مما أعطاهم عثمان بالنظر إلى زمانه، فإن الأموال في زمانه كانت قد كثرت كثرة عظيمة.
الوهم الرابع: قال في الاحتجاج على أن المحدثين يروون في الصحيح عن فساق التصريح ما لفظه: «ومنهم المغيرة بن شعبة زنى». [هكذا] رماه بالزنا!
والجواب عليه في هذا هو النص المحكم القرآني. قال الله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} قال تعالى: {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} وقال الله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. فإن كان [قد] توهم أن ذلك قد صح ولم يبق فيه شك، فليس الأمر كذلك. فلو صح الزنا من المغيرة لحده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولو صح عنه ولم يحده عمر لأنكر ذلك الصحابة رضي الله عنهم. فكيف يقتحم المعترض هذه المهواة العظيمة، ونسي ما عظم الله من شأنها، فإنه تعالى لم يجعل إليها سبيلا إلا بعد كمال نصاب الشهادة، فقد كان الرجل يأتي إلى النبي ﷺ فيقر بالزنا ويعترف بالفاحشة فيعرض عنه رسول الله ﷺ ويتطلب له العذر بعد الإقرار، ويقول: لعلك لمست، لعلك قبلت؟ حتى لا يجد سبيلا إلى الشك ولا طريقا إلى الاحتمال. وهذا المعترض على أهل السنة عكس ما يلزم من الاقتداء برسول الله ﷺ ورمى بالزنا من غير ثبوته ولا إقامة شهادة ولا حكاية عن شاهد مع نقصان نصاب الشهادة ودعوى المغيرة للبراءة بل للزوجية كما يأتي.
الوهم الخامس: قال: «فإن يعتد بشهادة هؤلاء في الجرح لا في الحد؛ فالمغيرة مجروح وإن لم يعتد بشهادتهم، فأبو بكرة قاذف وصاحباه، ولا يروي عن واحد منهم الرواة».
والجواب: أنه توهم أن الشهادة على الزنا إذا لم يتم نصابها كانت قذفا، فلا يخلو إما أن يريد: أن ذلك على سبيل القطع أو الظن، فإن قال على سبيل الظن؛ فذلك مسلم ولا يضر تسليمه، أما أنه مسلم؛ فلأن أدلة المسألة ظنية، وهي خلافية بين العلماء.
قال في: نهاية المجتهد: والشهود عند مالك، وكذا عند الشافعي إذا كانوا أقل من أربعة قذفة؛ وعند غيره ليسوا قذفة، فجعل القول بأنهم غير قذفة؛ هو قول الأكثرين من الفقهاء، وكلام الفقهاء في المسألة معروف لا حاجة إلى التطويل بذكره.
وقال الحاكم المعتزلي في شرح العيون، ما لفظه «ألا ترى أن من شهد بالزنا لا يؤثر حاله، ومن قذف بالزنا أثر»؟ فنص على الفرق بين الشهادة والقذف، والظاهر أن المعترض حفظ من أصحابه في مذاكرة الفقه: أن الشاهد قاذف إذا لم تكمل الشهادة، فقلدهم في ذلك، وظن أن هذا يقتضي القدح على من خالف في هذه المسألة، وقبل الشاهد، ووثقه وإن لم يتم نصاب الشهادة، وليس الأمر كما توهم، فإنه لو لزم القدح بمسائل الخلاف الفقهية لزم جرح جميع المخالفين، بل الذي ذهب إليه أصحاب المعترض أن الشاهد قاذف عندهم؛ فلا يقبلونه لمذهبهم فيه، ولا يعترضون على من قبله وينسبونه إلى [قبول] الفسقة، وتعديل الكذبة، كما لا يلزم ذلك في سائر مسائل الخلاف الخلاف في شروط الشاهد والراوي.
وأما إن قال المعترض: إنه قاذف على سبيل القطع؛ فهذا غير مسلم لأن المسألة شرعية ظنية لا عقلية، وليس فيها نص قاطع متواتر اللفظ، معلوم المعنى، غير محتمل للتخصيص والنسخ والمعارضة، ولم يبق إلا القياس، ولا يصح أن يكون قاطعا مطلقا، وإن سلمنا أنه يكون قاطعا في بعض المواضع فلا يصح ذلك ههنا لوجدان الفروق المانعة من ذلك، فإن بين الشاهد والقاذف فروقا كثيرة لا يصح معها القطع، ألا ترى أنه يشترط في الشاهد العدالة، ولا يشترط في القاذف، ويشترط العدد المخصوص في الشهادة ولا يجب في القذف أن يكون القذفة أربعة، وإذا قذف أربعة رجلا بالزنا، وجب عليهم إقامة الشهادة، ولو كانت الشهادة قذفا؛ لكان القذف من الشهادة، ولو كان منها لتم نصابها بقذف أربعة ولم يجب عليهم إقامة شهادة، فثبت بهذا أن الشاهد غير قاذف، وأن المسألة ظنية، إلا من ذهب إلى ذلك فإنه يعمل بمقتضى مذهبه، من غير اعتقاد جرح، ولا اعتراض على من لم يوافقه في المذهب، على أن جرح القاذف الجاهل بتحريم القذف أو الموافق بإقامة الشهادة مما يخالف القياس، فلا يقاس الشاهد في مثل هذه الصورة على النص الوارد فيه، على القول المنصور في الأصول.
الوهم السادس: توهم المعترض أنه هؤلاء الشهود الثلاثة إذا لم يكونوا قاذفين وجب جرح المغيرة بالزنا الذي أخبروا به، وظن أنه لا مخرج من هذا السؤال، وليس الأمر كما توهم، بل يجوز أن يصدقوا فيما شهدوا به من نكاح المغيرة لامرأة لم يعلموا أنها له زوجة، ويجوز مع ذلك أن لا يجرح بذلك المغيرة لتجويز غلطهم في الشهادة، فقد روى ابن النحوي في البدر المنير: أن المغيرة ادعى في تلك المرأة التي رموه بها أنها له زوجة، قال: وكان يرى نكاح السر، وروي أنه كان يتبسم عند شهادتهم، فقيل له: في ذلك؟ فقال: إني أعجب مما أريد أن أفعله بعد شهادتهم، فقيل: وما تفعل؟ قال: أقيم البينة أنها زوجتي. ذكره في البدر المنير وذكر أنه كان كثير الزواجة وأنه أحصن بثلاثمائة امرأة.
وأما ما ذكره المعترض من أجل دخول المغيرة في الفتن فسيأتي الكلام على ذلك في (المسألة الثالثة) عند ذكر أهل التأويل، واختلاف الناس في أحكامهم، وقد أثنى صاحب الرسالة على أبي بكرة بالديانة والتحري، وهو كما وصف لكن على غير قاعدته، فإنه قد جرح من قعد عن نصرة علي رضي الله عنه فدل ذلك على جهله بحال أبي بكرة، وعدم معرفته بتشدده في تحريم قتال أهل القبلة، حتى حرم المدافعة [عن] النفس، وكان ينكر على المتقاتلين من الطائفتين، ولكنه متأول متحر للصواب، وفعله -كما قال علي في فعل ابن عمر- إن كان حسنا إنه لعظيم، وإن كان ذنبا إنه لصغير. رواه الذهبي.
الوهم السابع، قال: «ومنهم أبو موسى الأشعري، نزع عليا عليه السلام الذي ولاه الله ورسوله، إنه على الله لجريء، وأقام معاوية بن أبي سفيان القدري».
والجواب: أن هذا وهم فاحش لا يجهله من له أدنى تمييز، فإن أبا موسى لم يقم معاوية بل خلعه، وكان يريد أن يقيم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وكان قد واطأ عمرو بن العاص على ذلك على ما هو مبسوط في كتاب التاريخ.
وقد اشتهر في كتب التاريخ أن معاوية كتب إلى أبي موسى: «أما بعد، فإن عمرو بن العاص قد بايعني على ما أريد، وأقسم بالله لئن بايعتني على الذي بايعني لأستعملن أحد ابنيك على الكوفة والآخر على البصرة، ولا يغلق دونك باب ولا تقضى دونك حاجة، وقد كتبت إليك بخطي فاكتب إلي بخط يدك» فكتب إليه: «أما بعد فإنك كتبت إلي في جسيم الأمة، فماذا أقول لربي إذ ما قدمت عليه، ليس لي في ما عرضت حاجة».
وهذا يدل على براءته من الجرأة على الله التي اجترأ المعترض على الله في غيبته بها. فقد كان متعبدا متزهدا صواما قواما، وقد تولى البصرة فلم يخرج منها إلا بست مئة درهم، وكان خراجها عشرة آلاف ألف أربعمائة ألف. روى ذلك الذهبي في النبلاء. وروى فيه عن الشعبي [عن شقيق] عن حذيفة أنه تكلم في أبي موسى بكلام يقتضي بأنه منافق. ثم قال: «في الشعبي تشيع يسير». انتهى. وقد قال الشعبي: حدثناهم بغضب أصحاب محمد فاتخذوه دينا.
وعندي أن هذا لا يصدق، فإنه معارض بما هو أصح منه بل بما هو معلوم الصحة. وذلك أن حذيفة وإن كان صاحب العلم بالمنافقين، فبغير شك أنه إنما أخذ العلم بذلك من رسول الله ﷺ، لكن رسول الله ﷺ ولى أبا موسى على اليمن مصدقا وقاضيا، وكان يفتي وقضي في بلدة رسول الله ﷺ، في زمنه ﷺ، وفي أيام الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وكانت حال المنافقين أحقر من ذلك، فلم يكن رسول الله ﷺ ليولي القضاء منافقا ويقره على الفتيا، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم فهذا أمر معلوم بالضرورة، ولا يعارض بحديث مظنون، ومن الأحاديث المظنونة في الثناء على أبي موسى ما رواه مالك بن مغول وغيره، عن أبي بريدة، عن أبيه بريدة عنه ﷺ أنه قال في أبي موسى: «إنه مؤمن منيب» لما قال له بريدة: أتراه يرائي؟ قال عليه السلام: «بل مؤمن منيب». ولو كان منافقا لاغتنم الفرصة حين حكمه علي، ومال إلى الدنيا وتابع من أعطاه منها، ولم ينظر للمسلمين. ولو كان كذلك؛ لما اختار عبد الله بن عمر للخلافة، فإن عبد الله من أئمة التقوى ومعادن الزهادة في الدنيا. والمنافق إنما يحب أهل الفسق والجرأة.
وأيضا فإن أبا موسى استمر على العبادة والاجتهاد في المدة الطويلة من أول إسلامه إلى أن انقضت خلافة الخلفاء رضي الله عنهم، والمنافق ينجم نفاقه، ولا تستمر له [الاستقامة] على الديانة. ولما قرب موته اجتهد في العبادة اجتهادا شديدا، فقيل له: لو أمسكت ورفقت بنفسك؟ فقال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها، أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك.
ثم إنه من السابقين إلي الإسلام قبل ظهوره، والمتحملين لمشقة الهجرة، وترك المال الوطن، وقد قرن الله الخروج من الديار بقتل الأنفس، وليس في المنافقين من أسلم من غير تقية، فكيف يتصور أن يسلم في أرض بعيدة عن رسول الله ﷺ ثم يظهر فيها الإسلام، ثم يهاجر إلى مثلها. فإنه من مهاجرة الحبشة، فمن يرائي بذلك، وإلى أي غرض يتوصل؟ فقبح الله من يجترئ على الله ببهت أصحاب رسول الله ﷺ، فإن كان صدر من حذيفة شيء من ذلك فلعله تأول في ذلك وغلط فيه، وربما أخذ ذلك من قول رسول الله ﷺ في الإمام علي رضي الله عنه: «لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق». وأخذ بغضه لعلي رضي الله عنه من تخلفه عنه، وهذا كله ضعيف، فإن التخلف لا يدل على البغض، ولا يستلزم استخراج النفاق، فقد تخلف عنه من أعيان الصحابة مثل: ابن عمر، وعمران بن حصين، -الذي كانت الملائكة تسلم عليه- وأبي سعيد الخدري، وأسامة بن زيد حب رسول الله ﷺ، وهو الذي قال لعلي رضي الله عنه: والله لو كنت شدق الأسد ما تخلفت عنك، ولكني أقسمت لرسول الله ﷺ لا قاتلت بعده أحدا ممن يشهد أن لا إله إلا الله.
على أن بغض علي رضي الله عنه إنما كان علامة للنفاق في أول الإسلام، فإن المنافقين كانوا يبغضون من كان فيه قوة على الحرب لكراهتهم لقوة الإسلام، ولذلك جاء في الحديث أيضا: «أن بغض الأنصار علامة النفاق» لهذا المعنى، وكذلك حبهم وحب علي كان في ذلك الزمان علامة الإيمان لهذا المعنى، فأما في الأعصار المتأخرة عن أول الإسلام فلا يدل على ذلك، فإن الخوارج يبغضون عليا ويكفرونه مع الإجماع على أنهم غير منافقين، وإن كان ذنبهم عظيما، ومروقهم من الإسلام منصوصا، والباطنية يحبونه مع الإجماع على كفرهم، وكذلك الروافض يحبونه مع ضلالهم وفسوقهم نعوذ بالله! فهذا ونحوه مما يحتمل أن يستند الصحابي إلى مثله في مثل هذه الأمور -إن صحت- أولى من خرق الإجماع، وهدم القواعد الكبار لملاحظة [ظاهر] حديث أحسن أحواله أنه مظنون.
وقد قصدت وجه الله تعالى في الذب عن هذا الصحابي المعتمد في نقل كثير من الشريعة المطهرة لما رأيت الحافظ الذهبي روى ذلك، ولم يقدح في إسناده بما ينفع، وقد أحسن الشعبي رحمه الله في قوله: حدثناهم بغضب أصحاب محمد فاتخذوه دينا. فإنه يحتمل صدور مثل ذلك عند الغضب بأدني شبهة.
وفي الحديث الصحيح: «اللهم إني بشر آسف كما يأسف بنو آدم فمن دعوت عليه أو سببته وليس لذلك بأهل فاجعلها له رحمة وزكاة» أو كما ورد، فهذا رسول الله ﷺ، كيف غيره؟ وقد كان بين أبي موسى وعلي شيء كبرته الروافض والشيعة.
وقد روى بعض أهل البيت من الزيدية أن أبا موسى اعتذر إلى علي رضي الله عنه ورضي علي عليه السلام عنه ونرجو صحة ذلك إن شاء الله، ومثل هذه الرواية يحسن الأخذ بها وإن كانت مرسلة، فإنه لا بأس بالأخذ بالمرسل في مثل هذا. على أن المالكية وغيرهم يقبلونه في أحاديث الأحكام. بل ادعى العلامة محمد بن جرير إجماع التابعين على ذلك، رواه عنه ابن عبد البر في تمهيده.
الوهم التاسع: ذكر المعترض أن التشبيه مستفيض عن الإمام أحمد بن حنبل، وأنه روى عنه ذلك علماء الزيدية وعلماء المجبرة، وعنى بالمجبرة الأشعرية وأهل الحديث.
والجواب عنه من وجوه:
الأول: أن نقول: إما أن يقصد بذلك القدح في حديثه، أو تكفيره؛ إن كان الأول لم يصح لأمور:
الأمر الأول: أنه مجمع على قبوله في الحديث، وقد قدمنا الدليل على ذلك حيث ذكرنا الإجماع على صحة حديث البخاري ومسلم، فإنه أوثق رواتهما، بل إمام مصنفيهما، بل إليه المرجع في توثيق ثقاتهما.
الأمر الثاني: أنه مجمع على الاعتداد بخلافه، وعدم انعقاد الإجماع على رأسه، وذلك فرع على ثقته وأمانته، وقد شحنت الزيدية كتبها بمذاهبه، واشتغل أهل العلم منهم بحفظ أقواله، ولو كان مجروحا غير مقبول لم يحسن ذلك منهم لما فيه من إيهام الخطأ، بل قد اشتهرت الرواية لأحاديثه واختيارته عند جميع أهل السنة والبدعة، والروافض والشيعة، وفيهم من هو من أعدائه، والفضل ما شهدت به الأعداء، فلولا علمه وحفظه، ما حفظت مذاهبه، وقبلت روايته، مع العجم والعرب في الشرق والغرب. "*كأنه علم في رأسه نار*" كما قالت الخنساء في صخر، وما ذلك لكونه مشبها كما زعم المعترض، بل لكونه إماما جليلا، وعلما طويلا، وقد أحسن من قال: "*لأمر ما يسود من يسود*"
وأما كلام المتكلمين فيه فهو زيادة في فضله، ودليل على جرأة المتكلم وجهله. وما يضر الإمام أحمد كلام من يتكلم عليه، وعلى خير أصحاب رسول الله ﷺ من الخلفاء الراشدين وكبراء المسلمين.
لم تدر تغلب وائل أهجوتها ** أم بلت حيث تناطح البحران
الأمر الثالث: معارضة تلك الروايات بإجماع أهل التاريخ من أهل الحديث على براءة الإمام أحمد من التشبيه، وقد روى الذهبي في ميزانه عن بعض من وثق تصريح الإمام أحمد في ذلك بما لا مزيد عليه، وقد بالغ ابن الجوزي وابن قدامة المقدسي الحنبليان المحدثان في تنزيه الإمام أحمد عن ذلك. قال الشيخ أحمد بن عمر الأنصاري: بل لم يشتهر أحد من الحنابلة بذلك، ولم يعرف عنه إلا أنه يوجد في كلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية شيء من ذلك لم يبلغ رتبة التصريح، ذكره في كتابه مغني المحدث في الأسفار عن حمل الأسفار في آخر ذكر أسانيد مسند أحمد.
قلت: وما أظن بعض الحنابلة ينجو من ذلك، ولكن حكم البعض لا يلزم الكل بالضرورة، وقد [اشتملت] كتب الرجال على القدح بذلك على من قاله دون غيره، {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ولله الحمد.
وأما إن أراد المعترض التوصل بذلك إلى تكفيره رضي الله عنه فهذا لا يصح لأمور أيضا:
منها: ما تقدم من الإجماع على الاعتداد بأقواله، وعدم انعقاد الإجماع على رأسه، وليت شعري إذا كان [عند] المعترض بهذه المنزلة فما باله يملي على طلبة العلم الشريف مذاهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه وهلا أملى عليهم مذاهب الباطنية، وقولهم: إن للأنثى مثل حظ الذكر، ونحو ذلك؟
ومنها: أن التكفير من المسائل القطعية، يحتاج مدعيه إلى التواتر الصحيح في الطرفين والوسط، والمعترض إنما ادعى الاستفاضة، وليس الاستفاضة تستلزم التواتر، بل ولا تستلزم الصحة، فقد يستفيض الأمر في الأخير بعد غرابته أو نكارته أو وضعه في أول الأمر، وقد اشتهرت أحاديث الكتب الستة وغيرها في الزمن الأخير، وبلغ رواتها [أكثر] من عدد التواتر.
ومنها: أن العدد الكثير قد يغلطون في رواية المذاهب، وإن لم يتعمدوا الكذب فلا يحصل العلم بخبرهم، لأن شرط التواتر الكثرة المفيدة للعلم، وذلك لا يكون إلا إذا أخبروا عن علم ضروري دون ما أخبروا به عن ظن أو استدلال، لكنه يحتمل في المخبرين عن الإمام أحمد أنهم ألزموه ذلك بطرق نظرية استدلالية، فلا يفيد خبرهم التواتر وإن كثروا، ألا ترى أن الشيعة تعظم المعتزلة، وتوثقهم مع أن المعتزلة على كثرتهم قد أجمعوا على دعوى العلم القاطع بإجماع الصحابة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، والشيعة في هذا المقام لا يعتقدون صدق المعتزلة ولا أن خبرهم مع أهل السنة يفيد تواتر النقل بصحة [هذا] الإجماع المدعى، فما بال نقل النقلة للتشبيه عن الإمام أحمد لما استفاض وجب الأخذ به؟ وأما استفاضة إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر فلا يؤخذ بها؟
فكل ما اعتذر به الشيعي هناك فالحنبلي والسني يعتذر عن أحمد بمثله هنا.
ومنها: أنه قد ثبت بالتواتر أن الحافظ ابن الجوزي من أئمة الحنابلة، وليس في ذلك نزاع، ولا شك أن تصانيفه في المواعظ وتواليفه في الرقائق مدرس فضلائهم، وتحفة علمائهم، فبها يتواعظون ويخطبون، وعليها في جميع أحوالهم يعتمدون.
وقد ذكر ابن الجوزي في كتبه هذه ما يقتضي نزاهتهم عن هذه العقيدة، وأنا أورد من كلامه في ذلك ما يشهد بصحة ما ذكرته، فمن ذلك قوله في كتاب المدهش في قوله تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}. قال ابن الجوزي: «أول: ليس له مبتدأ، آخر: جل عن منتهى، يثبته العقل [ولا يدركه] الحس. كل مخلوق محصور بحد مأسور في سور قطر. والخالق بائن مباين يعرف بعدم مألوف [التعريف] ارتفعت لعدم الشبه والشبه، إنما يقع الإشكال في وصف من له أشكال. وإنما تضرب الأمثال، لمن له أمثال. وأما من لم يزل ولا يزال فما للحس معه مجال. عظمته عظمت عن نيل كف الخيال، كيف يقال: كيف، والكيف في حقه محال؟ أنى تتخايله الأوهام وهي صنعته، كيف تحده العقول وهي فعله، كيف تحويه الأماكن وهي وضعه؟ انقطع سير الفكر، وقف سلوك الذهن، بطلت إشارة الوهم، عجز لطف الوصف، عشيت عين العقل، خرس لسان الحس، لا طول للقدم في طور القدم. عز المرقى فيئس المرتقي، بحر لا يتمكن منه عائص. ليل لا يبصر فيه للعين كوكب.
مرام شط [مرمى] العقل فيه ** فدون مداه بيد لا تبيد
جادة التسليم سليمة. وادي النقل بلاقع. انزل عن علو غلو التشبيه، ولا تعل قلل أباطيل التعليل، فالوادي بين الجبلين. ما عرفه من كيفه، ولا وحده من مثله، ولا عبده من شبهه. المشبه أغشى والمعطل أعمى، مما يتزه عنه مم! فيما يجب نفيه فيم؟ جل وجوب وجوده عن رجم «لعل»، سبق الزمان فلا يقال: كان، أبرز عرائس الموجودات من كن «كن»، بث الحكم فلم يعارض «بلم» تعالى عن بعضية «من»، وتقدس عن ظرفية «في»، وتنزه عن شبه «كأن وتعظم عن نقص «لو أن» وعز عن عيب «إلا أن» وسما كماله عن تدارك «لكن».
وقال ابن الجوزي في كتاب اللطف في وصف الله تعالى: «لا من الظاهر فهم له شبح، ولا من الباطن تعطل له وصف. خرست في حضرة القدس صولة «لم»، وكفت لهيبة الحق كف «كيف» وعشيت لجلال العز عين الفكر. فأقدام الطلب واقفة على جمر التسليم. إلى قوله: «المشبه ملوث بدم التجسيم، والمعطل نجس بسرجين الجحود، ونصيب المحق لبن خالص هو التنزيه» إلى قوله: «تفكروا في آلاء الله، لا تتفكروا في الله. إذا استقبل الرمد الريح فقد تعرض لزيادة الرمد» انتهى كلامه.
وفيه مع نفي التجسيم والتشبيه تلويح إلى ذم تعطيل ذات الله جل جلاله عما وصفها به في كتابه الكريم. فلهم مذهب بين مذهبين؛ وإليه أشار بقوله: فالوادي بين الجبلين. وبقوله: ونصيب المحق لبن خالص هو التنزيه، بل ظاهر عبارته أن المشبه خير من المعطل، وتفسير هذا، وذكر الأدلة فيه والرد على المبتدعة يحتمل تأليفا مستقلا، وليس هذا من مقاصد هذا الكتاب، وإنما القصد فيه تنزيه الإمام أحمد عن التشبيه الذي وصمه به المعترض.
ولنورد في هذا المقام كلام النووي في حكاية مذهب أهل الحديث، وغيرهم من جماهير أهل السنة، قال النووي في شرح مسلم -وقد ذكر حديث «يوم يكشف عن ساق»: «اعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات وآيات الصفات قولين: أحدهما -وهو مذهب معظم السلف أو كلهم-: أنه لا يتكلم في معناها، بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنه منزه عن التجسيم وعن سائر صفات المخلوقين. وهذا القول هو مذهب جماعة المتكلمين، واختاره جماعة من محققيهم وهو أسلم. والقول الثاني: وهو مذهب معظم المتكلمين أنها تتأول، وإنما يسوغ تأويلها للعارف بلسان العرب وقواعد الأصول والفروع ذي رياضة في العلم» انتهى كلام النووي.
وهو ظاهر في تنزيه الفقهاء من التجسيم، وأحمد بإجماعهم من أئمتهم وجلتهم، فلو كان مجسما ما كان عندهم بهذه المنزلة، ألا ترى أن النووي لم يعد قول المجسمة في أقوال أهل العلم، وقصر أقوال العلماء على قولين، وأحمد عنده من العلماء بغير شك.
فإن قلت: وما التجسيم؟ قلت: هو إثبات الجسم لله تعالى. قال الإمام يحيى بن حمزة في كتاب التحقيق في التكفير والتفسيق: «وعن الخليل بن أحمد في كتاب العين أنه قال: «الجسم البدن وجميع أعضائه من الناس والدواب ونحو ذلك مما عظم في الخلقة، وأنشد الخليل:
وأجسم من عاد جسوم رجالهم ** وأكثر إن عدوا عديدا من الترب
انتهى كلام الإمام يحيى بن حمزة.
وقال في مجمل اللغة لأبي [الحسين] أحمد بن فارس بن زكرياء: «الجسم كل شخص مدرك. كذا رأيته في كتاب ابن دريد. وكل عظيم الجسم جسيم وجسام، والجثمان الشخص». وفي المجم» وفي كتاب الخليل أن الجسد لا يقال لغير الإنسان من [خلق] الأرض. وفي كتاب الضياء لمحمد بن نشوان الحميري: الجسم كل شخص مدرك. لكنه فسر الشخص بالجسم، فدار كلامه ولم يظهر مقصده. وأما التشبيه فهو أخص من التجسيم لاختلاف عرف أهل اللغة العربية وأهل الاصطلاح العرفي، وقد تكلم الأصوليون على ذلك في مسألة نفي المساواة وما هي تقتضي، والله سبحانه أعلم.
الوهم العاشر: قال: «وقد نسب إلى الشافعي القول بالرؤية، فطرق عليه الاحتمال، لأن الرؤية إنما تكون بكيف أو بلا كيف، والكيفية تجسيم لا محالة».
أقول: قد توهم المعترض أن إسلام الإمام الشافعي رضي الله عنه مشكوك فيه، وأراد أن يقرب كفره وخروجه من الإسلام، فلم يزد على أن تعرض لأن يبوء بالكفر، وعرض نفسه للتكذيب والخسر، فأما الإمام الشافعي فهو أرفع من أن ينقصه كلام سفيه، رشح إناؤه بما فيه.
ما يضر البحر أمسى زاخرا ** أن رمى فيه سفيه بحجر
ومن جلالة الشافعي رضي الله عنه أن كل طائفة من المعتزلة وأهل السنة تدعيه وتتشرف أن تكون من متبعيه، فيا هذا، ما لك وهذه الحماقة؟ أليس شيوخ المعتزلة مفصحين بدعوى موافقتهم للشافعي في العقيدة؟ أليس قاضي قضاتهم عبد الجبار وأمثاله من جملة خدام أقواله القديمة والجديدة؟ فهم في الفروع غير مستنكفين من التشرف بالنسبة إليه ولا مستكبرين من التعويل في التقليد عليه، وهم في العقيدة مدعون لموافقته داعون إلى عقيدته، وكفى ما ذكره عالمهم الكبير أبو سعد المحسن بن كرامة الشهير بالحاكم في كتابه شرح العيون.
وأما التعرض لتكفيره -صانه الله من ذكر ذلك- لكون القول بالرؤية روي عنه، فهذه علة يلزم المعتل بها تكفير كثير من أئمة الإسلام، وجلة علمائه الأعلام، فقد رويت الرؤية من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، عن إمام الجميع علي بن أبي طالب، وإمام المعتزلة وأهل السنة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وعن ابن عباس، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة، عبد الله بن عمر بن الخطاب، وفضالة بن عبيد، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وكعب الأحبار.
ومن التابعين وغيرهم: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، وسعيد ابن جبير، وطاووس، وهشام بن حسان، والقاضي شريك [و] ابن أبي نمر، وعبد الله بن المبارك، وأئمة المذاهب الأربعة، والأوزاعي، وإسحق بن راهويه، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وقتيبة بن سعيد، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وغيرهم، فكل هؤلاء روي عنهم القول بالرؤية، فإن كان كل من روي عنه ذلك لزم الشك في إسلامه، والطرح لمذهبه، وروايته؛ لزم المعترض التشكيك في إسلام عصابة الإسلام، وركن الإيمان: الصحابة والتابعين لهم بإحسان، الذين أطبق السلف والخلف عن الاقتداء بهم، والقبول لقولهم، والانتفاع بمعارفهم ومذاهبهم.
وإن كان المعترض يكذب الرواة لذلك عنهم أو يتأول معنى ذلك، وإن صح صدوره منهم، فهلا فعل في حق الإمام الشافعي مثل ذلك! وسلك به في الحمل على السلامة أوضح المسالك؟
الوهم الحادي عشر: وهم هذا المعترض أنه يمكنه التشكيك في علم أبي حنيفة رضي الله عنه، واعتل في ذلك بأنه قد رمي بالقصور في علمي العربية والحديث، أما العربية؛ فلقوله: بأبا قبيس، وأما الحديث؛ فلأنه كان يروي عن المضعفين وما ذلك إلا لقلة علمه بالحديث» انتهى كلامه.
وكان قد قدمه قبل هذا الموضع في المسألة الأولى: لكني أحببت أن أجمع الذب عن أئمة الإسلام الأربعة في موضع واحد فأقول:
لا يخلو إما أن ينكر صدور الفتوى عنه رضي الله عنه، وينكر نقل الخلف والسلف لمذاهبه في الفقه، أو يقر بذلك، إن أنكره أنكر الضرورة، ولم تكن لمناظرته صورة، وإن لم ينكره فهو يدل على اجتهاده، ولنا في الاستدلال به على ذلك مسالك:
المسلك الأول: أنه ثبت بالتواتر فضله وعدالته، وتقواه وأمانته، فلو أفتى بغير علم وتأهل لذلك وليس له بأهل لكان جرحا في عدالته، وقدحا في ديانته وأمانته، ووصما في عقله ومروءته، لأن تعاطي الإنسان ما لا يحسنه، ودعواه لمعرفة ما لا يعرفه، من عادات السفهاء، ومن لا حياء له ولا مروءة من أهل الخسة والدناءة، ووجوه مناقبه مصونة عن ابتذالها وتسويدها بهذه الوصمة القبيحة، والبدعة 59 الشنيعة.
المسلك الثاني: أن رواية العلماء لمذاهبه، وتدوينها في كتب الهداية، وخزائن الإسلام؛ تدل على أنهم قد عرفوا اجتهاده لأنه لا يحل لهم رواية مذهبه إلا بعد المعرفة بعلمه لأن إيهام ذلك من غير معرفة محرم، لما يتركب عليه من الأحكام الشرعية المجمع عليها، كانخرام إجماع أهل عصره بخلافه، والمختلف فيها. كانخرام إجماع من بعده بخلافه، وجواز تقليده بعد موته.
المسلك الثالث: أن نقول: الإجماع منعقد على اجتهاده، فإن خالف في ذلك مخالف فقد انعقد الإجماع بعد موته، وإنما قلنا بذلك لأن أقواله متداولة بين العلماء الأعلام، سائرة في مملكة الإسلام، في الشرق والغرب واليمن والشام، من عصر التابعين من سنة خمسين ومائة إلى يوم الناس هذا وهو أول المائة التاسعة بعد الهجرة، لا ينكر على من يرويها ولا على من يعتمد عليها، والمسلمون بين عامل عليها، وساكت عن الإنكار على من يعمل عليها، وهذه الطريقة [هي] التي يثبت بمثلها دعوى الإجماع في أكثر المواضع.
المسلك الرابع: أنه قد نص كثير من الأئمة والعلماء على أن أحد الطرق الدالة على اجتهاد العالم هي: انتصابه للفتيا، ورجوع عامة المسلمين إليه من غير نكير من العلماء والفضلاء، وموضع نصوص العلماء على ذلك في علم أصول الفقه، وهناك يذكر الدليل على أن ذلك كاف في معرفة اجتهاد العالم وجواز تقليده.
وممن ذكر ذلك من أئمة الزيدية، وشيوخ المعتزلة المنصور بالله في كتابه الصفوة وأبو الحسين البصري في كتابه المعتمد، وهذا في سكوت سائر العلماء عن النكير على المفتي، فكيف بسكوت ركن الإسلام من عصابة التابعين، ونبلاء سادات المسلمين [الذين] هم من خير القرون بنص سيد المرسلين، فقد كان الإمام أبو حنيفة معاصرا لذلك الطراز الأول كما سيأتي، وقد تطابق الفريقان من أهل السنة والاعتزال، على التعظيم لأبي حنيفة والإجلال؛ أما أهل السنة: فذلك أظهر من الشمس، وأوضح من أن يدخل فيه اللبس.
وليس يصح في الأفهام شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل
وأما المعتزلة: فقد تشرفوا بالانتساب إليه، والتعويل في التقليد عليه، كأبي علي، وولده أبي هاشم من متقدميهم، وأبي الحسين البصري، والزمخشري من متأخريهم، 60 وهم وإن قدرنا دعواهم الاجتهاد، والخروج من التقليد، فذلك إنما كان بعد طلبهم العلم وطول المدة، وهم قبل ذلك وفي خلال ذلك معترفون باتباع أقواله، وبعد ذلك لم يستنكفوا من الانتساب إلى اسمه والمتابعة في المعارف لرسمه، وفي كلام علامتهم الزمخشري: «وتد الله الأرض بالأعلام المنيفة، كما وطد الحنيفية بعلوم أبي حنيفة. الأئمة الجلة الحنفية، أزمة الملة الحنيفية، الجود والحلم حاتمي وأحنفي، والدين والعلم حنيفي وحنفي».
وقد عقد الحاكم أبو سعد فصلا في فضل أبي حنيفة، وعلمه ذكره في كتابه سفينة العلوم، وقد أطبق أهل التاريخ على تعظيمه، وأفرد بعضهم سيرته رضي الله عنه في كتاب سماه شقائق النعمان في مناقب النعمان: ولو كان الإمام أبو حنيفة جاهلا ومن حلية العلم عاطلا ما تطابقت جبال العلم من الحنفية على الاشتغال بمذاهبه، كالقاضي أبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، والطحاوي، وأبي الحسن الكرخي، وأمثالهم وأضعافهم، فعلماء الطائفة الحنفية في الهند والشام ومصر واليمن والجزيرة والحرمين والعراقين منذ مئة وخمسين من الهجرة إلى هذا التاريخ يزيد على ستمائة سنة، فهم ألوف لا ينحصرون، وعوالم لا يحصون من أهل العلم والفتوى، والورع والتقوى، فكيف يجترئ هذا المعترض، ويجوز عليهم أنهم تطابقوا على الاستناد إلى عامي جاهل لا يعرف أن الباء تجر ما بعدها، ولا يدري ما يخرج من رأسه من حديث رسول الله ﷺ؟ ما هذا إلا كلام عامي أو أعمى، يخبط من الجهل في ظلما.
وهبك تقول هذا الصبح ليل ** أيعمى العالمون عن الضياء
وأما ما قدح به على الإمام أبي حنيفة من عدم العلم باللغة العربية فلا شك أن هذا كلام متحامل، متنكب عن سبيل المحامل، فقد كان الإمام أبو حنيفة من أهل اللسان القويمة واللغة الفصيحة.
وليس بنحوي يلوك لسانه ** ولكن سيلقي يقول فيعرب
وذلك لأنه أدرك زمان العرب، واستقامة اللسان، فعاصر جريرا والفرزدق، ورأى أنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ مرتين، وقد توفي أنس بن مالك سنة ثلاث وتسعين من الهجرة، 61 والظاهر أن أبا حنيفة ما رآه وهو في المهد، بل رآه بعد التمييز، يدل على ذلك أن أبا حنيفة كان من المعمرين، وتأخرت وفاته إلى سنة خمسين ومائة، وقد جاوز التسعين 62 من العمر، وهذا يقتضي أنه بلغ الحلم، وأدرك بعد موت رسول الله ﷺ بقدر الثمانين [سنة] لأنه عليه السلام توفي بعد مضي عشر من الهجرة، وهذا يدل على تقدم أبي حنيفة وإدراكه زمان العرب، وهو أقدم الأئمة وأكبرهم سنا، فهذا مالك على تقدمه توفي بعده بنحو ثلاثين سنة، ولا شك أن تغير اللسان في ذلك الزمان كان يسيرا، وأنه لم يشتغل في ذلك الزمان بعلم اللغة وفن الأدب أحد من مشاهير العلماء المتبوعين المعتمد عليهم في التقليد، لعدم مسيس الحاجة إلى ذلك في ذلك العصر كما أشار إلى ذلك أبو السعادات ابن الأثير في ديباجة كتابه النهاية، وكما لا يخفي ذلك على من له أنس بعلم التاريخ، فلو أوجبنا قراءة علم العربية في ذلك الزمان على المجتهد لم نقتصر على أبي حنيفة، ولزم أن لا يصح احتجاج علماء العربية بأشعار جرير والفرزدق، وهذا ما لم يقل به أحد، وإنما اختل اللسان الاختلال الكثير في حق بعض الناس بعد ذلك العصر، وقد سلم من تغير اللسان من لم يخالط العجم في الأمصار من خلص العرب، وأدرك الزمخشري كثيرا منهم ممن لزم البادية، وأكثر ما أسرع التغير إلى العامة ومن لا تمييز له، وقد قال الأمير العالم الحسين بن محمد في كتاب شفاء الأوام: إن الإمام يحيى بن الحسين رضي الله عنه كان عربي اللسان حجازي اللغة من غير قراءة، وروى [علامة الشيعة] علي بن عبد الله بن أبي الخير أنه قرأ في العربية أربعين يوما، وهذا وهو توفي على رأس ثلاث مائة من الهجرة.
وأما سنة ثمانين من الهجرة، فليس أحد من أهل التمييز يعتقد أن أهل العلم في ذلك الزمان كانوا لا يتمكنون من معرفة معاني كلام الله ورسوله إلا بعد قراءة في علم العربية، ولو كان ذلك منهم لنقل ذلك، وعرف شيوخ التابعين فيه، وليت شعري من كان شيخ علقمة بن قيس، وأبي مسلم الخولاني، ومسروق [بن] الأجدع، وجبير بن نفير، وكعب الأحبار، أو من كان شيوخ من بعدهم من التابعين؟ كالحسن، وأبي الشعثاء، وزين العابدين، وإبراهيم التيمي، والنخعي، وسعيد بن جبير، وطاووس، وعطاء والشعبي ومجاهد، وأضرابهم، فما خص أبا حنيفة بوجوب تعلم العربية، وفي أي المصنفات البسيطة يقرأ في ذلك الزمان؟
وأما قوله: "بأبا قبيس" فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أن هذا يحتاج إلى طرق صحيحة، والمعترض قد شدد في نسبة الصحاح إلى أهلها مع اشتهار سماعها، والمحافظة على ضبطها، فكيف بمثل هذا؟
الثاني: أنه إن ثبت بطرق صحيحة، فإنه لم يشتهر، ولم يصح مثل شهرة صدور الفتيا، ودعوى الاجتهاد عن الإمام أبي حنيفة، وقد تواتر علمه وفضله، وأجمع عليه، وليس يقدح في المعلوم بالمظنون، بل بما لا يستحق أن يسمى مظنونا.
الثالث: أنا لو قدرنا أن ذلك صح عنه بطريق معلومة لم يقدح به لأنه ليس بلحن بل هو لغة صحيحة، حكاها الفراء عن بعض العرب وأنشد:
إن أباها وأبا أباها ** قد بلغا في المجد غايتاها
الرابع: سلمنا أن هذا لحن لا وجه له، فإنه لا يدل على عدم المعرفة، فإن كثيرا من علماء العربية يتكلم بلسان العامة ويتعمد النطق باللحن، بل قد يتكلم العربي بالعجمية ولا يقدح ذلك في عربيته، وعلى الجملة؛ فكيف ما دارت المسألة فإن ذلك لا يدل على قصور الإمام أبي حنيفة، بل يدل على غفلة المعترض به وتغفيله، وجرأته على وصم هذا الإمام الجليل وتجهيله.
وأما قدحه عليه بالرواية عن المضعفين، وقوله: إن ذلك ليس إلا لقلة معرفته بالحديث؛ فهو وهم فاحش، لا يتكلم به منصف.
والجواب على ذلك يتبين بذكر محامل:
المحمل الأول: أنه قد علم من مذهب أبي حنيفة رحمه الله إنه يقبل المجهول، وإلى ذلك ذهب كثير من العلماء كما قدمناه، ولا شك أنهم إنما يقبلونه حيث لايعارضه حديث الثقة المعلوم العدالة، لأن الترجيح بزيادة الثقة والحفظ عند التعارض أمر مجمع عليه، ولا شك أن الغالب على حملة العلم النبوي في ذلك الزمان العدالة، ويشهد لذلك الحديث الثابت المشهور: «خيركم القرن الذي أنا فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم؛ ثم يفشو الكذب من بعد»، وقد تقدم الكلام على الحديث، وقد كان علي رضي الله عنه يتهم بعض الرواة فيستحلفه ثم يقبله، وهذا إنما يكون في حديث من فيه جهالة أو نحوها، ولذا لم يستحلف المقداد لما أخبره بحكم المذي، وقد روى الحافظ ابن كثير في جزء جمعه في أحاديث السباق عن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان يرى العمل بالحديث الذي فيه ضعف إذا لم يكن في الباب حديث صحيح يدفعه، وأنه روى في المسند أحاديث كثيرة من هذا القبيل، وذلك على سبيل الاحتياط من غير جهل بضعف الحديث، ولا بمقادير الضعف، وما يحرم معه قبول الحديث بالإجماع، وما فيه خلاف.
وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده: إن أبا داود يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال. انتهى. وفي هذا شهادة واضحة على أن رواية الحديث الضعيف لا تستلزم الجهل بالحديث، فأحمد وأبو داود من أئمة علم الأثر بلا مدافعة، وهذا الحديث الضعيف الذي ذكروه، ليس حديث الكذابين، ولا الفساق المصرحين، فذلك عندهم لا يستحق اسم الضعف، وإنما يقال فيه: إنه باطل، أو موضوع، أو ساقط، أو متروك، أو نحو ذلك، وإنما الضعيف حديث الراوي الصدوق الذي ليس بحافظ، أو المعلول بالاختلاف في رفعه وإسناده، والمضطرب اضطرابا يسيرا، أو نحو ذلك مما اختلف العلماء في التعليل للحديث به، أو الجرح للراوي به، ولا تظهر قوة في دليل ردة، ولا دليل قبوله، وأكثر التضعيف إنما يكون من جهة الحفظ، وعند الأصوليين: أنه لا يقدح به حتى يكون الخطأ راجحا على الصواب، أو مساويا له، وفي المساوي خلاف عندهم، وقد تقدم ذكر هذه المسألة، وهي مقررة في كتب علوم الحديث وكتب الأصول، فعلى هذا الوجه تكون رواية الإمام أبي حنيفة عن بعض الضعفاء مذهبا واختيارا، لا جهلا واغترارا.
المحمل الثاني: أن يكون ضعف أولئك الرواة الذين روى عنهم مختلفا فيه، ويكون مذهبه وجوب قبول حديثهم، وعدم الاعتداد بذلك التضعيف؛ إما لكونه غير مفسر لسبب، أو لأجل مذهب، أو غير ذلك، وقد جرى ذلك لغير واحد من العلماء والحفاظ، بل لم يسلم من ذلك صاحبا الصحيح كما قدمنا ذلك، وكذلك أئمة العلم.
هذا الإمام الشافعي رضي الله عنه أكثر من الرواية عن إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي ووثقه، وقد خالفه الأكثرون في ذلك. وقال ابن عبد البر في تمهيده: أجمعوا على تجريح ابن أبي يحيى، إلا الشافعي.
قلت: أما الإجماع على تجريحه فليس بمسلم، فقد وافق الشافعي على توثيقه أربعة من كبار الحفاظ وهم: ابن جريج، وحمدان بن محمد الأصبهاني، وابن عدي، وابن عقدة، 63 وقال الذهبي في التذكرة: «لم يكن ابن أبي يحيى في وزن من يضع الحديث» انتهى، ولكن تضعيفه قول الجماهير. وهو المصحح عند أئمة الحديث من الشافعية كالنووي والذهبي وابن كثير وابن النحوي وغيرهم. وكذلك روى الشافعي عن أبي خالد الزنجي المكي، وهو مختلف في توثيقه، وكذلك الإمام أحمد يروي عن جماعة مختلف فيهم كما تقدم، وكذلك القاسم بن إبراهيم، ويحيى بن الحسين الهادي رضي الله عنهم قد رويا عن ابن أبي أويس، وهو مختلف فيه، 64 وقد ذكر أهل علم الرجال ذلك الاختلاف، وبينوا في علوم الحديث ما يقبل من الجرح والتعديل، ومراتبهما، وكيفية العمل عند تعارضهما.
المحمل الثالث: أن يكون إنما روى عن أولئك الضعفاء على سبيل المتابعة والاستشهاد، وقد اعتمد على غير حديثهم من عموم آية أو حديث أو قياس أو استدلال.
مثل ما صنع مالك في الرواية عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري، قال ابن عبد البر في «تمهيده»: كان مجمعا على تجريحه، ولم يرو عنه مالك إلا حديثا واحدا معروفا من غير طريقه وهو حديث: وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وقد رواه مالك في الموطأ من طريق صحيحة من رواية أبي حازم التابعي الجليل عن سهل بن [سعد] الصحابي رضي الله عنه.
وكذلك القاسم بن إبراهيم، وحفيده يحيى بن الحسين من أئمة الزيدية قد أكثر من رواية أحاديث الأحكام، والاحتجاج عليها من حديث ابن أبي ضميرة وأهل الرواية متفقون على تجريحه، والقدح في روايته. 65
وكذلك قد روى شعبة على جلالته وتشدده 66 عن أبان بن أبي عياش مع قول شعبة فيه: لأن أشرب من بول حمار حتى أروى أحب إلي من أن أقول: حدثنا أبان بن أبي عياش، رواه شعيب بن جرير عنه، وروى ابن إدريس وغيره عن شعبه أنه قال: لأن يزني الرجل خير من أن يروي عن إبان.
فإن قلت: فكيف روى عنه مع اعتقاده تحريمها؟
قلت: إنما أراد تحريم ذلك على من لا يعرف الحديث الباطل من غيره، وتحريم رواية العارف عن المتروكين في حضرة من لا يعرف واجب، فإن الثوري نهى عن الرواية عن بعض المتروكين، فقيل له: ألست تروي عنه؟ فقال: إني أروي ما أعرف. 67
وهذا من لطيف علم الحديث. وقد قدمنا عن مسلم أنه ربما أخرج الإسناد الضعيف لعلوه واقتصر عليه، وترك إيراد الإسناد الصحيح لنزوله، ومعرفة أهل الشأن له، روى ذلك النووي عن مسلم تنصيصا كما تقدم، وفيه دلالة على أن رواية العالم لحديث الرجل الضعيف لا تدل على جهله بضعفه. وكذلك البخاري قد ضعف هو بعض من روى عنه في الصحيح، ذكر ذلك الذهبي في الميزان، وهذا يدل على أنه لم يعتمد على ذلك الراوي الذي ضعفه، لولا شواهد لحديثه ومتابعات. وهذا من لطيف علم الحديث، ولذا قال الإمام النووي: «إن من صحح حديثا على شرط مسلم لكون راويه من رواة صحيح مسلم فقد وهم في ذلك».
المحمل الرابع: أن تكون رواية الإمام أبي حنيفة من قبيل تدوين ما بلغه من الحديث صحيحه وضعيفه، كما هو عادة كثير من مصنفي الحفاظ أهل السنن والمسانيد، وغرضهم بذلك حفظ الحديث للأمة لينظر في توابعه وشواهده، فإن صح منه شيء عمل به وإن بطل شيء حذر من العمل به، وإن احتمل شيء الخلاف كان للناظر من العلماء أن يعمل فيه باجتهاده.
وفي الرواية المشهورة عن البخاري أنه كان حفظ ثلاث مئة ألف حديث، منها: مئتا ألف غير صحاح.
وقال إسحاق بن راهويه: أحفظ مكان مئة ألف حديث كأني أنظر إليها، وأحفظ سبعين ألف حديث صحيحة عن ظهر قلبي، وأحفظ أربعة آلاف حديث مزورة. فقيل له في ذلك؟ فقال: لأجل إذا مر بي منها حديث في الأحاديث الصحيحة فليته فليا.
المحمل الخامس: أن يكون كثير من الأحاديث المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة ضعيفة من قبيل ما روي عنه، لا من جهته ولا من جهة شيوخه ومن فوقهم، كما في كثير من الأحاديث المنسوبة إلى جعفر الصادق، وكثير من الثقات.
فقد روى الذهبي في الميزان عن الحافظ ابن حبان: أن أبا بن جعفر وضع على أبي حنيفة أكثر من ثلاث مائة حديث، ما حدث بها أبو حنيفة قط، رواه الذهبي في ترجمة أبا بن جعفر.
إذا عرفت هذا؛ فاعلم أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه طلب العلم بعد أن أسن. وقد كان الحافظ المشهور بالعناية في هذا الشأن إذا كبر وأسن [تناقص] حفظه، فلهذا لم يكن في الحفظ في أرفع المراتب، وكذلك غيره من الأئمة، فقد كان الإمام أحمد بن حنبل أوسع الأئمة الأربعة معرفة بالحديث وحفظا له، ولم يكن ذلك عيبا فيهم ولا قدحا في اجتهادهم، وقد كان حديث ابن المسيب ومحمد بن سيرين وإبرهيم النخعي أصح وأقوى من حديث عطاء والحسن البصري وأبي قلابة، وأبي العالية. وكان ابن المسيب أصح الجماعة حديثا من غير قدح في علم من هو دونه.
ولهذا السبب تكلم بعض الحفاظ في حديث الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه فظن بعض الجهال أن ذلك يقتضي القدح في اجتهاده، وإمامته، وليس كذلك، فغاية ما في الباب أن غيره أحفظ منه، وذلك لا يستلزم أن غيره أفضل منه ولا أعلم منه على الإطلاق، فقد كان أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن أعلمهم ولا أفقههم ولا أفضلهم، وقد كان معاذ أفقههم، وزيد أفرضهم، وعلي أقضاهم، وأبي أقرأهم، والخلفاء أفضلهم.
وبعد؛ فالمناقب مواهب يهب الله منها ما يشاء لمن يشاء، وقد أشار الذهبي إلى الاعتذار عن ذكر الإمام أبي حنيفة وأمثاله، وإلى أنه لا قدح عليه بما ذكر فيه من الاختلاف، فقال في خطبة الميزان: «وكذا لا أذكر من الأئمة المتبوعين في الفروع أحدا لجلالتهم في الإسلام وعظمتهم في النفوس، فإن ذكرت أحدا منهم فأذكره على الإنصاف، وما يضره ذلك عند الله ولا عند الناس، إنما يضر الإنسان الكذب والإصرار على كثرة الخطأ والتجري على تدليس الباطل، فإنه خيانة وجناية، فالمرء المسلم يطبع على كل شيء إلا الخيانة والكذب». انتهى كلامه.
فانظر كيف تأدب أبو عبد الله الذهبي وذكر جلالة الأئمة المتبوعين في الإسلام، ونص على أن ذكرهم في كتب الجرح والتعديل لا يضرهم عند الله ولا عند الناس. وهكذا فليكن ذكر العالم لمن هو أعلم منه؛ بأدب، وتواضع، وتعظيم، وتوقير، جعلنا الله ممن عرف قدر الأئمة، وعصمنا من مخالفة إجماع الأمة.
وبهذه الجملة تم كشف عوار هاتين الشبهتين الضعيفتين في علم إمام أكثر أهل الإسلام، الذي أجمع على إمامته العلماء الأعلام. وقد أحببت التقرب إلى الله تعالى، والتشرف بخدمة مناقبه العزيزة، والذب عن معارفه الغزيرة، بذكر هذه الأحرف الحقيرة اليسيرة، ولم أقصد التعريف بمجهول من فضائله، ولا الرفع لمخفوض من مناقبه، فهو من ذلك أرفع مكانا، وأجل شأنا.
والشمس في صادع أنوارها ** غنية عن صفة الواصف
هامش
- ↑ المرنان: القوس. «القاموس»
- ↑ شرف أصحاب الحديث
- ↑ في هامش (أ) و (ي): «ضلل سعيه» في نسخة.
- ↑ شرف أصحاب الحديث وجامع بيان العلم وفضله
- ↑ في (ي): «يقتدي»
- ↑ في هامش الأصل و (ي): «قبله: وليس يخلو الزمان من شغل ** فيه ولا من خيانة وخنا»
- ↑ في هامشها: «إلى مد، كذا المحفوظ، وهو المناسب للسجع، وهو بمعنى المدد. أفاده العلامة محمد بن الحسين العمري» اهـ. وفي (س): «مد».
- ↑ في هامش (أ) و (ي) كتب ما نصه: «والمراسيل يلزم المعترض ألا تقبل أيضا؛ لأنه لا بد فيها من راو، وهو المرسل، وراو أرسل عنه، ولا بد عدالتهما، وهو على رأيه متعسر أو متعذر. وظاهر عبارة المصنف رحمه الله أنه لا يرد عليه ما ذكر من الإيرادات إذا قال بقبول المرسل، وليس كذلك، فتأمل. تمت من خط السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله»
- ↑ في هامش (أ) و (ي): «لا حاجة إليه بعد قوله: جزم به. تمت السيد محمد الأمير رحمه الله».
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «كأنه يريد مثلا، وإلا فإن الذي الذي جمعه ابن الأثير في جامع الأصول ومن نقل منه، ومن اختصره، وإن كان عاما للأحكام وغيرها حكمه ومراده أن وجود الحديث في هذه الكتب التي ينسب فيها الحديث إلى مخرجه من غير إسناد من المصنف إلى مخرج الحديث، جابر للمرسل إذا وجد فيها! تمت. السيد الأمير».
- ↑ في (ي): «مغمورين»، وهو كذلك في نسخة كما في هامش (أ).
- ↑ أي: ابن معين، من هامش الأصل.
- ↑ كان في (أ) و (ي): «مردودة» ثم أصلحت إلى «معروفة» ورمز لها بـ «ظ». ثم شرح في هامش (ي) قوله: «مردودة»: «مراد بقوله: «مردودة» أنه اشترط امورا غير ما قاله الأكثر، فينظر، لأن اللفظ في نسخة [..] من جملة اشتراطه: عدم ذكر حديث من الواقفية» اهـ.
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «قلت: أخرج البيهقي في السنن عن أبي العالية: أن الدية لم تحل لأهل التوراة، إنما هو قصاص أو عفو ليس غيره، فجعل لهذه الأمة القود والدية والعفو. ومثله أخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والبخاري، والبيهقي في السنن عن ابن عباس مثله. فقول المصنف: «الظاهر أنه لم يكن القود في شرعهم» يتم إن كان قاتل المئة من النصارى، تمت من خط البدر الأمير» اهـ.
- ↑ في هامش (أ) و (ي) كتب ما نصه: «هذا استدلال بعدم النكير على العامي، فهو من الاستدلال بالإجماع السكوتي، ولا يخفى أن المسألة خلافية، كما ذكره في الوجه السابع، وقد علم أنه لا نكير في الخلافيات، فلا يتم هذا الدليل، تمت من خط البدر الأمير رحمه الله». ثم علق عليه العلامة محمد بن عبد الملك الآنسي بقوله: «هذا فرع يقرر أنه لا نكير في مختلف فيه، وفيه مناقشة كبيرة حتى للمحشي رحمه الله، وأيضا هو فرع كون المسألة خلافية في ذلك الزمان، وقد تقدم لمن الاستدلال له حكاية إجماع التابعين على ذلك، فهو لا يسلم كونها خلافية في ذلك العصر، فلا يتم مناقشة المحشي. وكثيرا ما تراهم في كتب الأصول يستدلون بمثل هذه الإجماعات على ما يختارونه في مسائله الخلافية فانظره. تمت القاضي العلامة محمد بن عبد الملك الآنسي رحمه الله».
- ↑ في هامش (أ) و (ي) كتب: «الإجماع على عدم النكير هو مفاد كون المسألة خلافية. تمت البدر الأمير رحمه الله».
- ↑ في هامش (أ)، و (ي) ما نصه: «قلت: أو تبين الكذب فيما نقله، كأحاديث فضائل السور، ولا يقدح في الزمخشري أنه رواها، ويحمل على السلامة بأنه لم يعلم وضعها. وهو حنفي المذهب يقبل المراسيل، وقد تكون فيها المجاهيل. تمت السيد محمد الأمير رحمه الله» اهـ.
- ↑ الإحنة: الحقد والغضب. «القاموس»
- ↑ في هامش (ي) إشارة إلى أنه من نسخة: «واختلت»، وكذا في (س).
- ↑ العيوق: نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن، يتلو الثريا لا يتقدمها. «القاموس»
- ↑ رسالة أبي داود إلى أهل مكة
- ↑ في هامش الأصل: «في نسخة معنى»،
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «لم يتقدم له ذكر هذا، وكذلك ما بعده، ولكنه لازم من كلامه، وقد صرح به في رسالته، وإنما لم يسق لفظه هنا. ولفظه: «الاجتهاد مبني على أصول، منها: معرفة صحيح الأخبار، ومنها: معرفة التفسير المحتاج إليه من الكتاب والسنة، ومنها: معرفة الناسخ والمنسوخ، ومنها: رسوخ في العلم أي رسوخ، وكل منها صعب شديد مدركه بعيد». ثم أخذ في الاستدلال على هذه الدعاوى، ثم قال في أئمة اللغة: إن عدالتهم غير ثابتة، ولأن اتصال الرواية الصحيحة بهم متعذرة، هذا لفظه. تمت من خط القاضي العلامة محمد بن عبد الملك الآنسي».
- ↑ في هامش (أ) كتب بعد العربية: «والقواعد النحوية ظ».
- ↑ في هامش (أ) و (ي): «في نسخة: لغة العرب».
- ↑ في هامش (أ) و (ي) كتب ما نصه: «قوله: في هذه الأعصار الأخيرة؛ لأن الأولين ما كان يجتمع لهم الحديث إلا بالرحلة في السماع، ثم صنفت المسانيد المطولة بشواهدها ومتابعات حديثها، فجاء من بعدهم فحذفوا الشواهد والمتابعات وأتوا بالأسانيد، فجاء من بعدهم فحذفوا الأسانيد واكتفوا بنسبة الحديث إلى أمهاته، فجاء من بعدهم فحذفوا حتى الصلاة على النبي ﷺ وذكره، وجعلوها متونا، واكتفوا بالرموز، كما فعل السيوطي. وهذا الغاية في التقريب، ذكر نحوه صاحب المنار المقبلي رحمه الله تعالى. ومنهم من أفرد الصحيح، ومنهم من جمع الأطراف، ومنهم من جمع الحديث وبين صحيحه وسقيمه، كصاحب التخليص وغيره. تمت مولانا العلامة أحمد بن عبد الله الجنداري رحمه الله»
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «هذا بناء على أن المقلد يصدق عليه اسم الجهالة المذكور في الحديث، والظاهر خلافه، فإن فقهاء المذاهب في كل قرن يفتون العوام بمذاهب أئمتهم، والإجماع أنهم ليسوا هم المرادين بالحديث، فتعين أن يكون المراد بالجهال هم الذين لا يميزون بين الحرام من الحلال لا اجتهادا ولا تقليدا. من أنظار سيدي العلامة هاشم بن يحيى الشامي رحمه الله تعالى. قلت: لا يخلو إما أن يقال: لا يفتوا بمذاهب أئمتهم وهو عندهم أرجح من خلافه، فليسوا بمقلدين، وإن أفتوا وهو عندهم مرجوح فهم جهال بل أعظم فتأمل. تمت. شيخنا حفظه الله» يعني: أحمد بن عبد الله الجنداري.
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «هذه التنبيهات الآتية نبذة يسيرة من إحدى وعشرين تنبيها، وسردها المؤلف رحمه الله في العواصم، فيها فوائد ونفائس لا توجد في غيرها، وقدمها في العواصم لا كما هنا. تمت من خط القاضي العلامة محمد بن عبد الملك الآنسي رحمه الله».
- ↑ في هامش (أ) و (ي): «فإذا تقرر أن» في نسخة بدلا من المثبت.
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: من التنبيهات التي في العواصم ما لفظه: التنبيه العشرون: أنه أيده الله إما أن يكون يعتقد في نفسه أنه مجتهد أو لا، إن كان يعتقد ذلك في نفسه؛ فقد زال تعذر الاجتهاد وبقي تعسره ولكن يسره له، أو صبره على طلبه حتى ناله، يهب لغيره مثل ما وهب له، وما كان عطاء ربك محظورا. وإن لم يكن مجتهدا فهو لا يعرف الاجتهاد، فلا يصح منه الحكم عليه بتعذر ولا بتعسر، ولا سهولة ولا تيسر ولا نفي ولا إثبات. وفي هذا مباحث طويلة قد جمعتها في رسالة مفردة وبعضها أو كلها لا يخفى على الذكي مع التأمل. انتهى من العواصم.
- ↑ في هامش (ي) ما نصه: «أي من وجوه عدم صحة الاكتفاء بتعديل أئمة الحديث. تمت السيد محمد الأمير رحمه الله».
- ↑ في هامش (ي): «وأخرجه الإمام المرشد بالله في أماليه».
- ↑ في هامش (ي): و[أخرجه] الإمام المتوكل أحمد بن سليمان في الحقائق، والحسين بن القاسم في الغاية وشرحه».
- ↑ في هامش (أ) ما نصه: «هو من التشبيه البليغ، أي: كصواحب يوسف، ولعل مراد المصنف بتسمية النساء اللاتي قطعن أيديهن صواحب يوسف، مع أنه لم يكن منهن إلا رؤيته وتقطيع أيديهن، والله أعلم. تمت. أفاده القاضي العلامة محمد بن عبد الملك الآنسي رحمه الله».
- ↑ في هامش (أ) ما نصه: «بل وإن لم يره ولا حضر الواقعة فإنه يقال: قتل من أصحاب السلطان كذا، ولم يحضر ولا رأى من قتل من جنده. تمت السيد الإمام محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله تعالى».
- ↑ «البذاذة رثاثة الهيئة. يقال: بذ الهيئة وباذ الهيئة: أي رث اللبسة» النهاية لابن الأثير
- ↑ كتب في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «فأما، كذا في نسخه، وينظر أين جوابه وما قابله؟ ولعله بالفاء، وجواب أما محذوف، أي: فذاك، ومقابلها قوله: وإلا فبالله عليك.. إلخ. تمت. أفاده العلامة محمد بن عبد الملك الآنسي رحمه الله».
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «بل نص ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث: أن في البخاري ما ليس بصحيح. قال: «إن كون ذلك فيه معلوم، وذكر من ذلك حديث: «الفخذ عورة»، وحديث «الله أحق أن يستحى منه» فإن هذا ونحوه ليس من شرطه، ولهذا لم يروه الحميدي في جمعه بين الصحيحين، فاعلم ذلك فإنه مهم خاف» انتهى بلفظه. تمت السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير».
- ↑ في هامش (ي): «أي علماء الأمة».
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «لم يقل بهذا المعترض فينظر! وأما العلماء والفقهاء؛ فمن النقل بالمعنى، فالأولى حذف هذا البحث السادس إذ لا يرد منه على المعترض شيء، فالله أعلم. تمت القاضي العلامة محمد بن عبد الملك الآنسي رحمه الله».
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «ولم يجرح حمزة أحد إلا في قراءته، فكرهها يزيد بن هارون وغيره، قال في الميزان: «ثم انعقد الإجماع على صحة قراءة حمزة، ومنهم من قال: إنه سيء الحفظ، أما فضله فإجماع، وزهده وعبادته رحمه الله تعالى». تمت. شيخنا العلامة أحمد بن عبد الله لجنداري رحمه الله».
- ↑ في هامش (ي) ما نصه: «هذا يفهم أن المصنف عليه السلام لم يطلع على شرح التجريد والنصف الأول منه بالأسانيد، وأكثره من طريق الطحاوي، وهو أمثل كتاب ولكن النصف الأخير مرسل محذوف الأسانيد ويروي عن أبي داود، وصاحب كتاب المختصر، تمت شيخنا حفظه الله» أي الجنداري. ونحوه في هامش (أ).
- ↑ في هامش (ي) ما نصه: «بل لم يصح لأنه رجع جرير إلى أمير المؤمنين، ثم رجع بلاده، ولم يسر إلى معاوية إلا بإرساله عليه السلام، ذكره ابن أبي الحديد وغيره» تمت.
- ↑ في هامش (ي) ما نصه: «لم ينفرد المعترض بدعوى تفرد جرير، بل أهل الكلام في كتبهم من الأصحاب ادعوا ذلك! والضرورة ترده بأدنى مطالعة بما ذكره السيد [وما أنكرتم] أنه انفرد به جرير وتبعه من بعده، وهي من الخرافات، يعلمها من له أدنى التفات، لأن حديث الرؤية في صحيفة علي بن موسى الرضى في حديث الزيارة، وفي أمالي المرشد بالله في موضعين؛ في صوم رجب، وفي التصفية للإمام يحيى وغيرهم، تمت شيخنا حفظه الله آمين» اهـ.
- ↑ في هامش (أ) ما نصه: «كما قال ابن حبان في موسى ين جعفر الكاظم عليه السلام، وصاحب الميزان في الصادق» اهـ.
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «قال مولانا العلامة أحمد بن عبد الله الجنداري رحمه الله: تفصيل المصنف رحمه الله هو الظاهر من كلام أهل الفن، ومثال جرح من هو أعدل وأشهر: ما حكاه في الإكمال عن رجل أنه دخل على مروان بن معاوية فرأى معه كراسة فيها: فلان كذا، وفلان كذا، ووكيع رافضي، قال: فقلت له: وكيع أفضل منك، وأعدل! قال: فما قال لي شيئا، ولو قال؛ لثار عليه أهل البيت. وكذلك كلام ابن خراش في أبي سلمة التبوذكي. وقال أحمد: من تكلم في حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام. ولم يقبلوا رواية الحسين بن فهم في يحيى بن معين، ولا ما قيل في ثابت البناني وشعبة. ومثال مماثلة الجارح للمجروح: كلام أبي نعيم في ابن منده، وكلام ابن منده في أبي نعيم، أما كلام ابن مردويه في الطبراني؛ فرجع عنه ابن مردويه. ومثال كلام في أرجح: مالك بن أنس في محمد بن إسحق، والشافعي في الواقدي، والأعمش في جابر الجعفي، والشعبي في الحارث، ومن أصحابنا من يفضل الحارث عليه، لكن ذلك مقتضى كلام أهل الفن. تمت. قال في الميزان: «ما يقع بين الأقران لا يقبل بعضهم على بعض، قال: وما علمت عصرا خلا من ذلك!» تمت.
- ↑ في هامش (أ) و (ي) كتب: «الذي يظهر أنه ما عنى بالأئمة الخلفاء، بل علماء الزيدية، كما يقول القائل: أئمة الحديث، وأئمة الأصول. تمت شيخنا حفظه الله» اهـ.
- ↑ في (ي): «الجماهير»، وفي هامشها: في نسخة «المشاهير».
- ↑ في هامش (أ) و (ي): «لكنه اختصره في نصف حجمه أو أقل».
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «قوله: شيخ النواوي فيه نظر، فما عرف للنواوي عليه تلمذة. تمت» اهـ.
- ↑ في هامش (ي) ما نصه: «وقد ذكر ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى هذا في العمدة: إنه صح رفع اليدين في القيام من الركعتين الأوليين، ثم قال: فالأولى عندي أن يقال: إنه صح في الحديث ولا يقال: إنه مذهب الشافعي. فراجعه. شيخنا حفظه الله وبارك في أيامه» اهـ.
- ↑ في (ت)، وهامش (ي): «بذكر»، في نسخة.
- ↑ في هامش (أ) و (ي): «ومنه قيل للناس أخياف، أي: مختلفون» اهـ.
- ↑ في هامش النسختين: «فنون» في نسخة، وكذا في (س).
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «قوله: من أهل مذهبه. يعني: من الشيعة ومن الزيدية، كسفيان الثوري. قال السيد أبو طالب: كان سفيان زيديا، [أبو] نعيم الفضل بن دكين، ووكيع بن الجراح، عدهما الحاكم من الزيدية، وكأبناء شيبة، ذكرهم السيد صارم الدين من الشيعة وذكر جملة وافرة من المحدثين شيعة. وكابن عقدة، وابن خراش من الزيدية و [..] وغيرهم. تمت مولانا العلامة صفي الإسلام أحمد بن عبد الله الجنداري رحمه الله تعالى ورضي عنه» اهـ.
- ↑ في نسخة: «صدقهم»، كذا في هامش (أ) و (ي).
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «أما مسلم فلم يرو عن مروان شيئا، بل أورد حديث اختلاف علي وعثمان من طريق سعيد بن المسيب، ولم يرو عنه البتة. تمت. شيخنا العلامة أحمد بن عبد الله الجنداري رضي الله عنه» اهـ.
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «هذا رواه الذهبي في النبلاء بهذا اللفظ، وما إخاله إلا مفترى. تمت. من إفادة البدر المنير محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله» اهـ.
- ↑ في نسخة «المذمة» كذا في هامش (أ) وفي (س).
- ↑ في هامش (أ) و (ي): «بل قيل أكثر من هذا، وأن كل معتزلي حنفي إلا قاضي القضاة. تمت» مولانا أحمد بن عبد الله.
- ↑ في هامش (ي) ما نصه: «أو قريب من هذا، وذكر العيني وغيره: أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى رأى ستة من الصحابة، واختلفوا في الأخذ عنهم».
- ↑ في (ي) و (س) وهامش (أ)، والعواصم: (2 86): «التسعين»، وفي (أ) و (ت): «السبعين».
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «أما الشافعي وابن الأصبهاني؛ فصرحا بتوثيقه، وأما ابن عدي وابن عقدة؛ فغاية ما قالا: لم نجد له حديثا منكرا، ولم يصرح عنهما في الميزان بغير هذا، تمت شيخنا أحمد بن عبد الله رحمه الله».
- ↑ في هامش (أ) و (ي) ما نصه: «ابن أبي أويس فيه مقال منجبر».
- ↑ في هامش (ي) ما نصه: «هو الحسين بن عبد الله بن ضميرة، ذكره المصنف رحمه الله في تنقيحه قال: «وكذلك عن أبي خالد الواسطي، وروى السيد أبو طالب عن ابن الأشعث، وأبو عبد الله الجرجاني، عن أبي الدنيا الأشج» انتهى. قلت: هذا شيء كثير، من اطلع على كتب المتأخرين وجدها مشحونة بالرواية عمن دب ودرج، هذا المرشد بالله على جلالته روى عن ميسرة الأكول، ونوح الجامع، وإسحاق بن بشر، وكم أعد، فانظره! شيخنا حفظه الله».
- ↑ في هامش (ي) ما نصه: «كان شعبة يشدد في أبان جدا، فقيل له: لم كتبت عنه؟ فقال: من ذا يصبر عن ذا؟ يعني: حديث القنوت، ولم يرو عنه غيره، تمت شيخنا»
- ↑ في هامش (ي) ما نصه: «يعني ما يعرف أنه حديث، وفي رواية عن سفيان أنه قال: أنا أعرف صدقه من كذبه. تمت شيخنا حفظه الله».