الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الزكاة/باب زكاة الذهب والفضة
لا خلاف في وجوب الزكاة في الذهب والفضة مع النصاب والحول ، ولهذا قال الماتن رح : إذا حال على أحدهما الحول ربع العشر وذلك لأن الكنوز أنفس المال يتضررون بإنفاق المقدار الكثير منها ، فمن حق زكاته أن يكون أخف الزكوات ، والذهب محمل على الفضة .
ونصاب الذهب عشرون ديناراً ، ونصاب الفضة مائتا درهم لحديث علي قال : قال رسول الله (ﷺ) : قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ، فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهماً درهماً ، وليس في تسعين ومائة شئ ، فإذا بلغت مائتين ففيهما خمسة دراهم أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي . وفي لفظ وليس فيما دون المائتين زكاة وفي إسناده مقال ، وقد حسنه ابن حجر ، ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه . وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة ، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وأخرجه أحمد والبخاري من حديث أبي سعيد . وأخرج أبو داود من حديث علي قال : إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم ، وليس عليك شئ . يعني في الذهب . حتى يكون لك عشرون ديناراً ، فإذا كانت لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار وفي إسناده مقال ولكنه حسنه الحافظ ابن حجر ، ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه كالحديث الأول . وقد وقع الإجماع على أن نصاب الفضة مائتا درهم ، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حبيب الأندلسي . والخمس الأواقي المذكورة في الحديث هي مائتا درهم ، لأن وزن كل أوقية أربعون درهماً . وذهب إلى أن نصاب الذهب عشرون ديناراً الجمهور . وقد روي عن الحسن وطاوس ما يخالف ذلك وهو مردود وذهب إلى إعتبار الحول الأكثر . وذهب ابن عباس وابن مسعود وداود إلى أنه يجب على المالك إذا استفاد نصاباً أن يزكيه في الحال تمسكاً بما دل على مطلق الوجوب وهو إهمال للقيد .
ولا شئ فيما دون ذلك قال في الحجة : وهل في الحلي زكاة ؟ الأحاديث فيه متعارضة ، وإطلاق الكنز عليه بعيد ، ومعنى الكنز حاصل ، والخروج من الإختلاف أحوط . وفي الموطأ كانت عائشة تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي فلا تخرج من حليهن الزكاة قال مالك : من كان عنده تبر أو حلي من ذهب أو فضة لا ينتفع به للبس ، فإن عليه فيه الزكاة في كل عام فيؤخذ ربع عشره ، إلا أن ينقص من وزن عشرين ديناراً عيناً أو مائتي درهم ، فإن نقص من ذلك فليس فيه زكاة ، وإنما تكون الزكاة إذا كان إنما يمسكه لغير اللبس ، فأما التبر والحلي المكسور الذي يريد أهله صلاحه ولبسه ، فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله ، فليس على أهله فيه زكاة . قال مالك : ليس في اللؤلؤ ولا في المسك ولا في العنبر زكاة . قلت : قال به الشافعي في أظهر قوليه وخصه بالمباح وأما المحظور كالأواني وكالسوار والخلخال للرجل فتجب فيه الزكاة بكل حال . وعند الحنفية تجب في الحلي إذا كان ذهب أو من فضة دون اللؤلؤ ونحوه .
ولا زكاة في غيرهما من الجواهر كالدر والياقوت ، والزمرد والألماس ، واللؤلؤ والمرجان ونحوها لعدم وجود دليل يدل على ذلك ، والبراءة الأصلية مستصحبة ، وقد تقدم في أول كتاب الزكاة ما يفيد هذا .
أقول : ليس من الورع ولا من الفقه ، أن يوجب الإنسان على العباد ما لم يوجبه الله عليهم ، بل ذلك من الغلو المحض ، والإستدلال بمثل خذ من أموالهم صدقة يستلزم وجوب الزكاة في كل جنس من أجناس ما يصدق عليه إسم المال ، ومنه الحديد والنحاس والرصاص والثياب والفراش والحجر والمدر ، وكل ما يقال له مال على فرض أنه ليس من أموال التجارة ، ولم يقل بذلك أحد من المسلمين ، وليس ذلك لورود أدلة تخصص الأموال المذكورة من عموم خذ من أموالهم حتى يقول قائل أنها تجب زكاة ما لم يخصه دليل لبقائه تحت العموم ، بل الذي شرع الله فيه الزكاة من أموال عباده ، هو أموال مخصوصة وأجناس معلومة ، ولم يوجب عليها الزكاة في غيرها ، فالواجب حمل الإضافة في الآية الكريمة على العهد لما تقرر في علم الأصول والنحو والبيان ، أن الإضافة تنقسم إلى الأقسام التي تنقسم إليها اللام ، ومن جملة أقسام اللام العهد ، بل قال المحقق الرضي : إنه الاصل في اللام . إذا تقرر هذا فالجواهر ، واللآليء ، والدر ، والياقوت ، والزمرد ، والعقيق ، واليسر ، وسائر ما له نفاسة وإرتفاع قيمة ، لا وجه لإيجاب الزكاة فيه ، والتعليل للوجوب بمجرد النفاسة ليس عليه آثارة من علم ، ولو كان ذلك صحيحاً لكان في المصنوعات من الحديد ، كالسيوف والبنادق ونحوها ما هو أنفس وأعلى ثمناً ، ويلحق بذلك الصين ، والبلور ، واليشم ، وما يتعسر الإحاطة به من الأشياء التي فيها نفاسة وللناس إليها رغبة ، فما أحسن الأنصاف والوقوف على الحد الذي رسمه الشارع ، وإراحة الناس من هذه التكاليف التي ما أنزل الله بها من سلطان على أن الآية التي أوقعت كثيراً من الناس في إيجاب الزكاة فيما لم يوجبه الله وهي خذ من أموالهم قد ذكر أئمة التفسير أنها في صدقة النفل وليست في صدقة الفرض التي نحن بصددها .
وأموال التجارة لما قدمنا من عدم قيام دليل يدل على ذلك ، وقد كانت التجارة في عصره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قائمة في أنواع مما يتجر به ، ولم ينقل عنه ما يفيد ذلك . وأما ما أخرجه أبو داود والدارقطني والبزار من حديث جابر بن سمرة قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يأمرنا بأن نخرج الزكاة فيما نعد فقال ابن حجر في التلخيص : إن في إسناده جهالة ، وأما ما رواه الحاكم والدارقطني عن عمران مرفوعاً بلفظ في الإبل صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته بالزاي المعجمة فقد ضعف الحافظ في الفتح جميع طرقه ، وقال في واحدة منها : هذا إسناد لا بأس به ، ولا يخفاك أن مثل هذا لا تقوم به الحجة لا سيما في التكاليف التي تعم بها البلوى ، على أنه قد قال ابن دقيق العيد : أن الذي رآه في المستدرك في هذا الحديث البر بضم الباء الموحدة وبالراء المهملة . قال : والدارقطني رواه بالزاي لكن من طريق ضعيفة ، وهذا مما يوجب الإحتمال فلا يتم الإستدلال ، فلو فرضنا أن الحاكم قد صحح إسناد هذا الحديث كما قال المحلى في شرح المنهاج ، لكان مجرد الإحتمال مسقطاً للإستدلال . فكيف إذا قد عورض ذلك التصحيح بتضعيف الحفاظ لما صححه الحاكم مع تأخر عصرهم عنه وإستدراكهم عليه . ويؤيد عدم الوجوب ما ثبت عنه (ﷺ) في الصحيح من حديث أبي هريرة ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه وظاهر ذلك عدم وجوب الزكاة في جميع الأحوال . وقد نقل ابن المنذر الإجماع على زكاة التجارة ، وهذا النقل ليس بصحيح ، فأول من يخالف في ذلك الظاهرية وهم فرقة من فرق الإسلام .
أقول : وأما الإستدلال بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأما خالد فقد حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله فلا تقوم به الحجة ، إلا إذا كانت المطالبة بزكاة ذلك الذي حبسه مع كونه للتجارة ، فعرفهم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنها قد صارت محبسة ، وأنه لا زكاة فيها بعد التحبيس وليس الأمر كذلك ، بل الظاهر أنهم لما أخبروا النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بأن خالداً إمتنع من الزكاة رد عليهم بذلك ، والمراد أن من بلغ في التقرب إلى الله إلى هذا الحد ، وهو تحبيس أدراعه وأعتده يبعد كل البعد أن يمتنع من تأدية ما أوجبه الله عليه من زكاة التجارة . وأما الإستدلال بقول عمر ، فهو ممن لا يقول بجحية قول الصحابي ، ولكنه إذا وافق قوله الصحابي ما يعتقده ، ضم إليه دعوى الإجماع السكوتي مجازفة . إذا تقرر هذا علمت أنه لا دليل يدل على وجوب زكاة التجارة ، والبراءة الأصلية مستصحبة حتى يقوم دليل ينقل عنها . وأما ما حكاه ابن المنذر من الإجماع على زكاة التجارة ، فلا أدري كيف تجاسر على هذا ، ولو سلمناه قامت به حجة ، إلا على من يقول بحجية الإجماع ، وقد عرفت ما هو الصواب في هذا الباب في كتابنا حصول المأمول من علم الأصول . وقد حقق الماتن رح المقام في كتابه إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول فليراجع .
والمستغلات كالدور التي يكريها مالكها ، وكذلك الدواب ونحوها لعدم الدليل كما قدمنا ، وأيضاً حديث ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه يتناول هذه الحالة ، أعني حالة إستغلالهما بالكراء لهما ، وإن كان لاحاجة إلى الإستدلال بل القيام مقام المنع يكفي .
أقول : هذه المسألة من غرائب العلماء التي ينبغي أن تكون مغفورة بإعتبار ما لهم من المناقب ، فإن إيجاب الزكاة فيما ليس من الأموال التي تجب فيها الزكاة بالإتفاق كالدور ، والعقار ، والدواب ونحوها بمجرد تأجيرها بأجرة من دون تجارة في أعيانها مما لم يسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، فضلاً أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنة ، وقد كانوا يستأجرون ويؤجرون ويقبضون الأجرة من دورهم وضياعهم ودوابهم ، ولم يحظر ببال أحدهم أنه يخرج في رأس الحول ربع عشر قيمة داره أو عقاره أو دوابه ، وانقرضوا وهم في راحة من هذا التكليف الشاق حتى كان آخر القرن الثالث من أهل المائة الثالثة ، فقال بذلك من قال بدون دليل ، إلا مجرد القياس على أموال التجارة ، وقد عرفت الكلام في الأصل * فكيف يقوم الظل والعود أعوج * مع أن هذا القياس في نفسه مختل بوجوه . منها : وجود الفارق بين الأصل والفرع ، فإن الإنتفاع بالمنفعة ليس كالإنتفاع بالعين . وأما العمومات التي أوردوها فهي عن الدلالة على المطلوب بمراحل ، والأمر أوضح من أن تستغرق الأوقات في إبطاله ودفعه . وأما ما زعموه من أن الموجب أولى من المسقط ، فذلك على عدم تسليمه ، إنما هو بعد الإتفاق على أن الموجب والمسقط إجتمعا في أمر قد قضى الشرع بالوجوب في أصله ، والأمر ههنا بالعكس ، فإن الشرع لم يوجب في أعيان الدور والعقار التي هي أصل الإستغلال شيئاً ، ثم أين هذا الموجب وماهو