انتقل إلى المحتوى

الرسالة الباهرة/الصفحة الثالثة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


  • قال أبو محمد رحمه الله : فهذا اعتقاد كل طائفة في صاحبها ، وأما الحقيقة في بيان الألفاظ التي سألوا عنها ، فالواجب قبل كل شيء أن يعلموا ما معنى الجلالة ، وما معنى الفضل ، وما معنى الورع ، وما معنى العلم ، وما معنى الفقه ، ونحن نحتسب الأجر من الله عز وجل في بيان ذلك بحول الله عز وجل ، فنقول وبالله عز وجل نتأيد :
  • أما الجلالة : فلا تخلو هذه اللفظة من أن تكون يُراد بها جلالة الحال في الدنيا ، أو جلالة الحال عند الله عز وجل ، ولا سبيل إلى وجه ثالث .

فأما جلالة الدنيا فبلا شك يَعلم كل ذي عقل أن جعفر بن سليمان ، وعبد الله بن ربيع الحارثي أميري المدينة ، ومحمد بن عبد العزيز قاضيها في زمان مالك كانوا أجل في الدنيا من مالك ؛ لأنه كان أمرهم عليه نافذاً .

وكذلك بلا شك كان موسى بن عيسى أمير الكوفة ، وابن أبي ليلى قاضيها في بعض أيام أبي حنيفة أجل في الدنيا من أبي حنيفة ؛ لأن أمرهما كان عليه نافذاً .

وكذلك كان السرّي بن الحكم ، ولهيعة بن عيسى أمير مصر وقاضيها في أيام الشافعي أجل في الدنيا من الشافعي ؛ لأن أمرهما كان عليه نافذاً .

وكذلك كان محمد بن عبد الله بن طاهر ، وإسماعيل بن إسحاق أمير بغداد وقاضيها في بعض أيام داود أجل في الدنيا من داود ؛ لأن أمرهما كان عليه نافذاً قبل أن يحميه الموفق بن إسماعيل ، إذ وقع بينهما ما قد عُرف .

قال أبو محمد رحمه الله : وهذه جلالة ليس فضيلة ، فإن كان يريد هذا القائل جلالة المرء بكثرة أتباعه ، فأتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد أكثر من أتباع أبي حنيفة ، وأتباع هشام بن الحكم رئيس الرافضة أكثر من أتباع الشافعي ، وأتباع عبد الله بن يزيد الإباضي أكثر من أتباع مالك ، وأتباع سليمان بن جرير الزبيدي أكثر من أتباع أحمد ، فصح أنه لا معنى لكثرة الأتباع ولا فضيلة في ذلك .

وقد كان الشافعي مدة أقلهم أتباعا ، ثم هو اليوم أكثرهم أتباعاً ، وكان للأوزاعي أتباع كثير ، ثم لم يبق له تابع ، فلو كانت كثرة الأتباع فضيلة لما ثبتت الفضائل على حال ، ولكانت تبطل وتزيد ، وهذا جنون ممن ظنه ؛ لأن الفضيلة مستقرة بموت المرء ، لا تنقص أبداً .

قال أبو محمد رحمه الله : وأما الجلالة عند الله عز وجل فأمر لا يعلمه أحد من ولد آدم اليوم ، ولا مذ مات النبي ص ، وإنما عُلم من الله ما جاء به الفضل فيمن جاء به من الصحابة رضي الله عنهم .

ومن قطع بغير نص على أن فلاناً أجل عند الله من فلان بظنه فهو فاسق كاذب على الله عز وجل ، عظيم الجرم ، ملعون من الله تعالى ، قال الله تعالى : { ألا لعنة الله على الظالمين } هود آية 71 .

ولا خلاف بين الأمة كلها في أن الكاذب على الله عز وجل والقائل عليه بظنه ظالم ، فهو ملعون بنص القرآن .

قال أبو محمد رحمه الله : وكذلك الفضل ، وإنما هو لمن أمرنا الله عز وجل أن نعظمه أكثر من تعظيمنا لغيره ، أو من كان أعلى درجة في الجنة من نظيره ، ولا معنى للفضل أصلاً غير هذا ، فمن ادعى أنه يدري أي هؤلاء القوم أعلى درجة في الجنة فهو فاسق كاذب على الله عز وجل .

وقد كان في القرن الثاني والثالث فسّاق ومتأخرون في الفضل عمن بعدهم بلا شك ، وإنما الفضل فيمها على الأغلب ، لا إلى إنسان بعينه منهم البتة ، ولا جاء أيضاً نص عن الله تعالى ، ولا عن رسوله بالأمر لنا بتعظيم بعضهم أكثر من تعظيم الآخرين ، بل هم علماء من جملة العلماء غيرهم ، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم ، فسقط سؤالهم بمن أفضل ومن أجل .

  • وأما الورع : فهو اجتناب الشبهات ، ولقد كان أبو حنيفة وأحمد وداود من هذه المنزلة في الغاية القصوى ، وأما مالك والشافعي فكانا يأخذان من الأمراء ، وورث عنهما واستعملاه وأثريا منه ، وهما في ذلك أصوب ممن ترك الأخذ منهم ، وما يقدح هذا عندنا في ورعهما أصلاً ، ولقد كانوا رحمهم الله في غاية الورع .

وأما القطع بانهم أورع عند الله عز وجل فغيب لا يستجيز القطع به إلا فاسق ، وأورعهم في ظاهر أمرهم في الفتيا من كان أشدهم لمخالفة ما جاء في القرآن وما صح عن النبي ص ، وأبعدهم عن القطع برأيه ، وهذا أمر يعلمه كل ذي حس سليم ضرورة من جاهل أو عالم ، إلا من غالط عقله وكابر حسه .

وأما أيهم أعلم : فإن معنى العلم أن يكون عند المرء من رواية ذلك العلم وذكره لما عنده منه ، وثباته في أصول ذلك العلم الذي يختص به أكثر مما عند غيره من أهل ذلك العلم ، والذي كان عند أبي حنيفة من السنن فهو معروف محدود وهو قليل جداً ، وإنما أكثر معوّله على قياسه ورأيه واستحسانه ، كما روي عنه أنه قال : علمنا هذا رأي ، فمن أتى بخير منه أخذناه .

وأما الذي عند مالك فهو كله في موطئه ، قد جمعه وشيء يسير قد جمعه الرواة عنه مما ليس في الموطأ ، وذلك جزء صغير ، قد حُصِّل كل ذلك وضبط ، ولا يسع أحداً أن يظن به أنه كان عنده علم فكتمه ، وأحاديث صحاح فجحدها ، نعوذ بالله من ذلك ، فقد قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ، فنبذوه وراء ظهورهم } آل عمران 187 ، وقال تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم } البقرة آية 1590160.

قال أبو محمد رحمه الله : ولقد أساء الثناء عليه جداً من أدعى أنه كان عنده من العلم والسنن غير ما رواه الناس وغير ما بلغه إليهم من رواياته ، وكل ذلك لا يبلغ ألف حديث ومئتي حديث من مرسل ومسند .

وأما الشافعي رحمه الله فكان عنده موطأ مالك رحمه الله ، وحديث كثير عن سفيان بن عيينة ، وهذا كان أعلى ما عنده وأوثق ما لديه ، وخلط إلى ذلك ما لو تركه كان أولى به عن الرواة عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ونحو ذلك .

وأما أحمد بن حنبل فكان مقداره في جمع السنن وضبطها والوقوف على ذكرها المقدار المشهور الذي لا يجهله إلا جاهل لا يعتد به في أهل العلم ، فهو أعلم من كل من ذكرنا ، وأضبط ، وأشد إشرافاً على السنن التي هي العلم وبيان القرآن .

وأما داود فكان واسع الرواية جداً ، جامعاً للسنن غاية الجمع ، ضابطاً لها نهاية الضبط .

وقد ذكرنا أن كل من جمع من السنن الصحاح أكثر مما جمع غيره ، ومن أقوال العلماء أكثر مما عنده سواه ، وضبط ذلك بذكره وفهمه ، فهو أعلم بلا شك ببرهان ضرورة لا يقدر أحد على معارضته لما ذكرنا أن هذا هو معنى العلم لا ما سواه .

وأما الفتيا بالرأي فليس علماً ولا فضيلة ، ولا يعجز عنه أحد ، بل هو مذموم من الصحابة رضي الله عنهم ، ومن التابعون بعدهم ، وهم يُقرّون على أنفسهم بذلك :

  • فهذا ربيعة يقول للزهري : أنا أخبر الناس برأيي ، فإن شاؤوا أخذوه ، وإن شاؤوا ضربوا به الحائط .

قال أبو محمد رحمه الله : ولعمري إن شيئاً يكون سامعه بالخيار في أن يضرب به الحائط ، فحق أن يتعجل ضرب الحائط به ، وأن لا يفتي به في الدين ، ولا يخبر به عن الله عز وجل .

  • فهذا مالك يقول عند موته : وددت أني ضُربت لكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطاً على أنه لا صبر لي على السياط .

قال أبو محمد رحمه الله : ولعمري إن ما ندم عليه صاحبه هذه الندامة عند الموت ، فإن القاطع به في دماء المسلمين وفروجهم وأموالهم وأبشارهم ودينهم لمخذول .

  • وهذا ابن القاسم يقول : لا تُباع كتب الرأي ؛ لأننا لا ندري أحق هي أم باطل .

قال أبو محمد رحمه الله : ولعمري إن ما لم يقطع على جواز بيع كتبه ولم يدر أحق هي أم باطل لبعيد عن أن تجوز الفتيا به في الإسلام ، أو أن يخبر به عن الله تعالى .

  • وهذا سحنون يقول : ما ندري ما هذا الرأي ، سفكت به الدماء واستحلت به الفروج .

قال أبو محمد رحمه الله : فإن كان لا يدري ما هو فالذي أخذه عنه أبعد من أن يدريه لو نصحوا أنفسهم . هذه أحكام ظاهرة الصدق لا ينكرها إلا ذو حمية يأنف أن يهتضم دنياه وتبطل اشرعته ، : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } الشعراء آية 227 .

  • وأما الشافعي فإنه لا يجيز الرأي أصلاً ، وهذا أحمد وإسحق بن راهويه وسائر المتقدمين والمتأخرين من أصحاب الحديث ، وأما داود فأمره في إبطاله أشهر من أن يتكلف ذكره .

ولا فرق بين رأي مالك وأبي حنيفة ورأي الاوزاعي ورأي سفيان ورأي ابن أبي ليلى ، ورأي ابن شبرمة ، ورأي الحسن بن حي ، ورأي عثمان البتي ، ورأي الليث ، وكل ذلك رأي ، لا فضل لبعضه على بعض ، وكل هؤلاء مجتهد مأجور ، وكل من قلّد واحداً منهم مخطئ ملوّم غير معذور .

فإذ هذه صفة الرأي بإجماع الأمة كلها ، وإنما هو حكم بالظن ، وتخرّص في الدين ، فليس يستحق المكثُر منه ومن القول به صفة العلم ؛ لأنه ليس علماً ، ولا حفظه من العلم بسبيل ، وإنما هو اشتغال بالباطل عن الحق ، وباب من كسب المال ، ووجة من التسوّق والترؤس على الجيران ، وعند الحكام فقط ، وصناعة من صناعات المتأجِّر ، وقد خاب وخسر من جعل هذا عُرضة من دينه ، نعوذ بالله من الخذلان .

وإنما العلم ما ذكرنا من المعرفة بأحكام القرآن ، وما صح عن رسول الله ، ومعرفة ثقات الناقلين للسنن ، وما أجمع عليه المسلمون ، وما اختلفوا فيه ، فهذا هو العلم ، وحامله هو العالم لا ما سوى ذلك .

وأعلى الناس منزلة في العلم فالصحابة رضي الله عنهم ، فإن الصاحب ولو لم يكن عنده إلا حديث واحد أخذه عن رسول الله فهو عند ذلك الصاحب حق يقين من عند الله تعالى ؛ لأنه أخذه ممن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وممن لا يخطئ في شيء من الديانة أصلاً ، فهو عند ذلك الصاحب كالقرآن في صحة وروده من عند الله عز وجل في وجوب الطاعة له ، ثم التابعون ، فإنهم أخذوا السنن التي هي العلم عمن شهد الله له بالعدالة كلهم ، إذ يقول الله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا } إلى قوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } الفتح آية 29 ، وقال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، وكلاً وعد الله الحسنى } الحديد آية 10 ، وقال تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } الأنبياء آية 101 ن إلى قوله تعالى : { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } الأنبياء آية 103 ، وقال تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريباً } الفتح آية 18 .

قال أبو محمد رحمه الله : فمن أخذ العلم عمن شهد الله تعالى لهم بالجنة قطعاً وبالعدالة ، وبأنه تعالى رضي عنهم ، وعلم الله ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ، فقد صحت لهم العصمة من تعمد الفسوق ، إذ لا يجتمع الفسوق والسكينة في قلب واحد ، فهو أعلى درجة في العلم وأثبت قدماً فيه ، وأولى باسمه ، فمن أخذه من بعدهم ممن لا يقطعون له بالعدالة ، ولا بصحة غيبه ، ولا بعدالته عند الله عز وجل ، ولا يَتنُ عن معتقده ممن ليس فيه إلا حسن الظن به فقط ، والله أعلم بباطنه ، وهذه صفة التابعين وكل من دونهم ، فلا يجوز أن يكون أعلم من صاحب بوجه من الوجوه .

وجائز أن يكون أعلم من تابع ؛ لأن التابع لا يقطع بصدقه ، ولا بصحة نقله ، ولا بعدالته عند الله عز وجل ، كما نقطع نحن وهم بعدالة الصاحب عند لله عز وجل وبصدقه ؛ لأن العدل عند الله لا يكون إلا صادقاً بلا شك ، لا سيما مع قوله تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم } إلى قوله عز وجل : { إنك رؤوف رحيم } الحشر آية 8-10 ، فشهد الله لهم بالصدق والفلاح .

قال أبو محمد رحمه الله : فهذه درجة العلم ، وإذ معنى العلم هو ما ذكرنا ضرورة أن يكون أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن عن رسول الله ص ، وأضبطهم لها ، وأذكرهم لمعانيها ، وأدراهم بصحتها ، وبما أجمع عليه مما اختلفوا فيه .

وما نعلم هذه الصفة بعد الصحابة رضي الله عنهم أتم منها في محمد بن نصر المروزي ، فلو قال قائل : إنه ليس لرسول الله حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر ما بَعُد عن الصدق .

  • وأما معنى الفقه فهو التنبه لما في الآية من القرآن ، ولما في الحديث الصحيح عن رسول الله من الأحكام ، وهذه درجة يعطيها الله عز وجل لمن يشاء من عباده ، قال رسول الله  : ( رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) وقال  : ( رب مبلغ أوعى من سامع ) أو كما قال .

قال أبو محمد رحمه الله : فصح بهذا أنه قد يكون في المتأخرين من هو أفقه من كثير من المتقدمين ، وهذا نفس كلامه .

قال أبو محمد رحمه الله : ومن قرأ كتب العلماء والفقهاء والسالفين والخالفين من المذكورين وغيرهم وقف يقيناً على الأفقه منهم ، ولا سبيل إلى يعرف ذلك من افتصر على رأي رجل منهم دون غيره ؛ لأنه يحكم بما لا يدري فيما لا يدري ، وهذا جور لا يحل .

وأفقههم أشدهم اتباعاً لأحكام القرآن وأحكام الحديث الصحيح عن رسول الله ، وأبعدهم عن رأيه والقطع بظنه ، وعن التقليد لمعلمهم دون غيرهم ، فمالك وأبو حنيفة متقاربان في هذا المعنى ، وإن كان مالك أضبط للحديث وأحفظ منه ، وأصح حديثاً وأتقن له ، وأبو حنيفة أطرد للقياس على ما عنده من ذلك ، وأكثر منه في التحكم بالآراء .

وأحقهم بصفة الفقه داود بن علي ؛ لأنه لا يفارق السنن والإجماع أصلاً ، ولا يقول برأيه البتة ، ولا يقلد أحداً ، ثم أحمد بن حنبل وهو قليل الفتيا لشدة توقيه وتورعه على صفة علمه بالسنن وأقوال الصحابة والتابعين ، ثم الشافعي فإنه أول من انتقد الأقوال المختلظة ، وميز السنة من غيابة الرأي ، وعلم استخراج البرهان من غيضة الاستحسان ، ونهى عن التعصب للمعلمين ، وعن الحمية للبلدان ، ودعا إلى اتباع صحيح الحديث عن رسول الله حيث كان ، فالمؤمنون إخوة ، وأكرمهم عند الله أتقاهم ، وإنما فضل المرء بنفسه ، وأشار إلى كيف يأتي القرآن مع السنن ، والخاص مع العام من الآي والسنن ، فصار له بذلك فضل عظيم وسبق رفيع ، واستبان بهذه المناهج التي نهج دقة ذهنه وقوة خاطره وحدة فهمه وتقرب .

ثم سلك أحمد رحمه الله هذه الطريق ، وأربى على الشافعي بكثرة استعماله للسنن الثابتة ، وشدة ضبطه للروايات الصحاح ، ثم تلاهما داود رحمه الله ، فأكمل تلك الفضيلة ، وتمم تلك الحسنة ، وأوضح أن القرآن وكلام رسول الله وأفعاله وإقراره وإجماع العلماء كلهم قد استوعبت هذه الوجوه جميع الشرائع ونوازل الأحكام كلها ، أولها عن آخرها ، وأنه لا يشذ عنها شيء من أمور الدين أصلاً ، وأن كل ما يسأل عنه السائلون فيه وجود حكمه فيها تبيان ونص لا يحتاج ولا يُفتقر إلى قول أحد من الناس ، وأن كل ذلك منصوص عليه باسمه وحكمه ، محكم له غير ناقص ولا محذوف البيان ، وأن الله تعالى لن يُحوج مع القرآن والسنة والإجماع إلى تكلف قياس ، ولا تعسف رأي ، ولا حكم بظن ، ولا إحداث لشرع ، ثم اتبع هذه الجملة تفصيلها ووفي في وعده في تفسيرها ، وبين ذلك بياناً كافياً ، فكانت له بذلك درجة موفورة ، وذخيرة الله عز وجل بها ، وذخرها له ، لحق بها المتقدمين ، وأثر على المتاخرين ، وأحيا ما دثر من أعمال الصحابة والتابعين لهم رضي الله عنهم أجمعين في اتباع السنن والقرآن فقط ، وأبان فساد الخبط في الدين من الأخذ بما في مسئلة من القرآن ، وترك ما فيها من صحيح الحديث ، وفي أختها بصحيح الحديث ، وترك ما فيها من القرآن وفي أختها بتقليد قائل ، وترك ما فيها من القرآن والسنة وفي أختهن بقياس ، وترك ما فيها من قرآن وحديث وقول قائل وفي أختهن بما استحسنه المفتي ، وترك ما فيها من نص أو قياس أو قول سلف ، فاقتنى الأجر في أهل الحق والإنصاف ، وأقام الحق على الشذوذ والخلاف ، وحوى بذلك خصل الجواد إذا استولى على الأمد ، وحصل على قصب السبق ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

وإن كان قد أخطأ في كثير من فتاويه فالعصمة من الخطأ ليست لأحد من الناس بعد رسول الله ، ولكن له بالتنبيه على ما ذكرنا منزلة رفيعة ، ومحلة عالية ، ويستحق بذلك التقدم في الفقه ، وليس ذلك بموجب تقليده ، لما ذكرنا من أنه لم يُعصم من الخطأ بعد رسول الله أحد من الناس ، ولا يحل أن يقلد من يخطئ ، وإن أصاب في كثير ، ولقد كان للشافعي من التمكن في ترتيب القياس ما ليس لأحد من القائلين به التاركين له النصوص من القرآن والسنة ، ولكن ليس ذلك عندنا من فضائله بل هو من وهلاته .

  • وأما الحفظ فهو ضبط ألفاظ الأحاديث ، وتثقيف سوادها في الذكر ، والمعرفة بأسانيدها ، وهذه صفة حفاظ الحديث كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وابن عفرة والدار قطني والعقيلي والحاكم ونظرائهم ، فهؤلاء في هذه الطريقة فوق هؤلاء المذكورين إلا أحمد ، فإنه في الحفظ نظير هؤلاء ، وبالله تعالى التوفيق .

فهذا أسعدكم الله بطاعته حقيقة الجواب فيما سألتم عنه بالبرهان الواضح ، والدليل اللائح ، لا بالتعصب ولا باتباع الهوى ، ونعوذ بالله من ذلك ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه وسلم تسليماً كثيراً . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

انتهت الرسالة

قال ناسخ المخطوطة في نهاية الكتاب  : وصادف الفراغ يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شهر صفر سنة ثلاث وستين وسبع مئة ، وكتبه أفقر عباده إلى رحمته ومغفرته ارقطاي بن رجب عفا الله عنه ، وعن سائر المسلمين أجمعين ، والحمد لله رب العالمين ، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .


الرسالة الباهرة

مقدمة المؤلف | الصفحة الأولى | الصفحة الثانية | الصفحة الثالثة