الديمقراطية في الإسلام/خاتمة
خاتمة
ننتهي من الصفحات المتقدمة إلى صورة مجملة للديموقراطية في الإسلام، ونرى بذلك أنها ديموقراطية خاصة بين الديموقراطية العملية والنظرية التي تطورت بها حوادث التاريخ، من أيام البداوة إلى أيامنا هذه في حضارتنا الحديثة.
ولا نسميها ديمقراطية خاصة؛ لأنها تضيق عن غيرها كما يضيق كل تخصيص بعد تعميم، ولكنها خاصة؛ لأنها تخالف الديمقراطيات الأخرى في نشأتها وغايتها، وتتسع بأصول الحكم حتى تخرج بها من الصبغة المحلية إلى الصبغة الإنسانية بل الكونية، فليس في عقيدة المسلم نظام بين السماوات والأرضين لا يستقر على هذا الأساس.
إله رحمن رحيم، يُجري الكون على سنن، ويحاسب الخلق ببلاغ ونذير، ولا يظلم أحدًا، وما هو بظلام للعبيد.
ونبي ليس بالمسيطر ولا بالمتجبر، ولكنه بشير ونذير، وليس له من الأمر شيء والأمر بينه وبين أمته على المشاورة ومكارم الأخلاق.
وإمام يطيع قبل أن يطاع، ويتولى الحكم من أيدي المحكومين.
وأمة هي المرجع في كل سلطة وكل سياسة، وكما تكونوا يولَ عليكم، فهي المسئولة عمن يسمونهم في عصرنا الحاضر بالمسئولين.
يس لأحد حق العسف والطغيان، وليس لأحد حق الفتنة والعصيان، ولهم حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل فيما يعلم وحسبما يستطيع.
لا سيادة لنسب، ولا سيادة لمال، ولا سيادة لعلم، ولا سيادة لإنسان ولا لطائفة من الناس، ولكنهم جميعًا بنية واحدة تأخذ حياتها من كل عضو وتمد كل عضو بحياته، وينتظم قوامها على التعاون والمؤازرة، لا على التنازع والملاحاة … وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ، وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.
والناس سواء حتى يؤخذ من القوي حق الضعيف، فإذا تفاوتت بهم الأقدار بعد ذلك فإنما يتفاوتون؛ ليكون أفضلهم أكبرهم في التبعة وأنفعهم للناس.
ديمقراطية خاصة؛ لأنها أعم من كل ديمقراطية عداها، قامت على حق الإنسان وتبعته أمام ربه وأمام ضميره، فحيثما وجد إنسان بين الناس فهو صاحب حق في هذه الديمقراطية، ولدته أمه به ولم تخوله إياه حنكة السياسة ولا تفضيل إدارة على إدارة في ولاية الشئون العامة، ولا احتيال من الأقوياء على الضعفاء لإقناعهم بالصبر والطاعة، ولم يأت مكافأة لقوم على عمل في الحرب أو في السلام، ولكنه هو الحق الذي تصدر منه الحقوق، ويدين به المخلوق لخالقه، ولا ينتظر فيه إذنًا من كبير ولا صكًّا متفقًا عليه بين الكبار والصغار.
ومن السهل على اللاغط المتحذلق أن يلغط بالفارق بين الحق المقرر والحق المعمول به في دنيا الناس، ولكن هذا السهل على اللاغطين لا يسهل على الذين يرجعون إلى تاريخ «دنيا الناس» وما تكسبه من تقرير الحقوق، فإن الشارع لا يعمل للإنسان عمله، ولكنه يقرر له حقه وحق غيره، ويعرفه بما هو مباح له وما هو محرم عليه، ونحن لا نطلب من الشارع أن يأخذ بأيدينا لنعمل أو يأخذ بأيدينا ليكفها عن العمل، ولكننا نطلب أن يبين لنا الحدود، ويفصل بين الحلال البين والحرام البين، وما من شك في غناء هذا البيان الذي لا غنى عنه لمجتمع من المجتمعات، فإن صعوبة العدوان لتعظم وتتضاعف حيث يعتدي المعتدي وهو يعلم والناس يعلمون أنه يقدم على فعل محظور، ولا صعوبة عليه حين يمتنع العلم بمواقع العدوان ومواقع الدفاع، كذلك تقوم الحجة لمن يعمل الواجب حين يوجبه على الناس بالشرع الذي يدينون به والحق الذي يسلمونه، ولا تقوم له حجة عليهم إذا بطلت بينه وبينهم سنة العرف وحدود الواجب والممنوع، وحسب الناظر إلى الحقائق أن ينظر إلى حالة الدنيا إذا ارتفع منها كل كلام عن الفرائض والمحرمات وعن الحقوق والواجبات، ثم يرى كم تخسر؟ وماذا يبقى لها من محصول التاريخ بعد زوال هذا الذي يسميه اللاغطون المتحذلقون بمجرد الكلام؟
على أن الاستخفاف بقوانين الأخلاق قد يسهل على الذين يتكلمون عن القوانين التي تفرضها القوة على أبدان المحكومين، ولكنهم لا يستسهلون هذا الاستخفاف حين يكون إلزام القوانين من قبل الضمير والوجدان، وعلى موجب العقيدة والإيمان كما تمليها الأديان؛ إذ هي ثمة تجري مع الإرادة في نفوس الحاكمين والمحكومين، ولا تجري بأمر الحاكم على كره من المحكوم.
إن أحق إنسان بأن يحرص على حريته لمن يعلم أنه مدين بها لخالقه ولضميره، ولا فضل فيها عليه لأحد من الناس، وإن أحق أمة أن تحرص على حريتها لهي الأمة التي تعلم أنها إذا اجتمعت لم تجتمع على ضلالة، وأنها هي مرجع الحقوق جميعًا، وأنها تريد فتكون إرادة الله حيث تريد.