الخصائص/باب في الحمل على الظاهر وإن أمكن أن يكون المراد غيره
الحمل على الظاهر باب في الحمل على الظاهر وإن أمكن أن يكون المراد غيره اعلم أن المذهب هو هذا الذي ذكرناه والعمل عليه والوصية به. فإذا شاهدت ظاهراً يكون مثله أصلاً أمضيت الحكم على ما شاهدته من حاله وإن أمكن أن تكون الحال في باطنه بخلافه ألا ترى أن سيبويه حمل سيداً على أنه مما عينه ياء فقال في تحقيره: سييد كديك ودييك وفيل وفييل. وذلك أن عين الفعل لا ينكر أن تكون ياء وقد وجدت في سيد ياء فهي في ظاهر أمرها إلى أن يرد ما يستنزل عن بادي حالها.
فإن قلت: فإنا لا نعرف في الكلام تركيب "س ي د" فهلا لما لم يجد ذلك حمل الكلمة على ما في الكلام مثله وهو ما عينه من هذا اللفظ واو وهو السواد والسودد ونحو ذلك قيل: هذا يدلك على قوة الظاهر عندهم وأنه إذا كان مما تحتمله القسمة وتنتظمه القضية حكم به وصار أصلاً على بابه. وليس يلزم إذا قاد الظاهر إلى إثبات حكم تقبله الأصول ولا تستنكره ألا يحكم به حتى يوجد له نظير. وذلك أن النظير -لعمري- مما يؤنس به فأما ألا تثبت الأحكام إلا به فلا، ألا ترى أنه قد أثبت في الكلام فعُلت تفعَل وهو كدت تكاد وإن لم يوجدنا غيره وأثبت بإنقحل باب "إنفعل" وإن لم يحك هو غيره وأثبت بسخاخين "فُعاعِيلا" وإن لم يأت بغيره.
فإن قلت: فإن "سيداً" مما يمكن أن يكون من باب ريح وديمة فهلا توقف عن الحكم بكون عينه ياء لأنه لا يأمن أن تكون واواً قيل: هذا الذي تقوله إنما تدعي فيه ألا يؤمن أن يكون من الواو وأما الظاهر فهو ما تراه. ولسنا ندع حاضراً له وجه من القياس لغائب مجوز ليس عليه دليل.
فإن قيل: كثرة عين الفعل واواً تقود إلى الحكم بذاك قيل: إنما يحكم بذاك مع عدم الظاهر فأما والظاهر معك فلا معدل عنه بك. لكن -لعمري- إن لم يكن معك ظاهراً احتجت إلى التعديل والحكم بالأليق والحمل على الأكثر. وذلك إذا كانت العين ألفاً مجهولة فحينئذ ما تحتاج إلى تعديل الأمر فتحمل على الأكثر. فلذلك قال في ألف "آءة": إنها بدل من واو. وكذلك ينبغي أن تكون ألف "الراء " لضرب من النبت وكذلك ألف "الصاب" لضرب من الشجر. فأما ألا يجيء من ذلك اللفظ نظير فتعلل بغير نافع ولا مجد ألا ترى أنك تجد من الأصول ما لم يتجاوز به موضع واحد كثيراً. من ذلك في الثلاثي حوشب وكوكب ودودري وأبنبم. فهذه ونحوها لا تفارق موضعاً واحداً ومع ذلك فالزوائد فيها لا تفارقها.
وعلى نحو مما جئنا به في "سيد" حمل سيبويه عيَّناً فأثبت به "فيعلاً" مما عينه ياء وقد كان يمكن أن يكون "فوعلاً" و "فعولاً" من لفظ العين ومعناها ولو حكم بأحد هذين المثالين لحمل على مألوف غير منكور "ألا ترى أن فوعلاً وفعولاً" لا مانع لكل واحد منهما أن يكون في المعتل كما يكون في الصحيح وأما "فيعل" -بفتح العين- مما عينه معتلة فعزيز ثم لم يمنعه عزه ذلك أن حكم به على "عين" وعدل عن أن يحمله على أحد المثالين اللذين كل واحد منهما لا مانع له من كونه في المعتل العين كونه في الصحيحها. وهذا أيضاً مما يبصرك بقوة الأخذ بالظاهر عندهم وأنه مكين القدم راسيها في أنفسهم.
وكذلك يوجب القياس فيما جاء من الممدود لا يعرف له تصرف ولا مانع من الحكم بجعل همزته أصلاً فينبغي حينئذ أن يعتقد فيها أنها أصلية. وكذلك همزة " قساء " فالقياس يقتضي اعتقاد كونها أصلاً اللهم إلا أن يكون "قساء" هو "قسى" في قوله:
فإن كان كذلك وجب أن يحكم بكون همزة " قساء " أنها بدل من حرف العلة الذي أبدلت منه ألف "قسى ". وأن يكون ياء أولى من أن يكون واواً لما ذكرناه في كتابنا في شرح المقصور والممدود ليعقوب بن السكيت.
فإن قلت: فلعل "قسى" هذا مبدل من "قساء" والهمزة فيه هي الأصل. قيل: هذا حمل على الشذوذ لأن إبدال الهمز شاذ والأول أقوى لأن إبدال حرف العلة همزة إذا وقع طرفاً بعد ألف زائدة هو الباب. وذكر محمد بن الحسن "أروى" في باب "أرو" فقلت لأبي علي: من أين له أن اللام واو وما يؤمنه أن تكون ياء فتكون من باب التقوى والرعوى فجنح إلى ما نحن عليه: من الأخذ بالظاهر وهو القول. فاعرف بما ذكرته قوة اعتقاد العرب في الحمل على الظاهر ما لم يمنع منه مانع. وأما حيوة والحيوان فيمنع من حمله على الظاهر أنا لا نعرف في الكلام ما عينه ياء ولامه واو فلا بد أن تكون الواو بدلاً من ياء لضرب من الاتساع مع استثقال التضعيف في الياء ولمعنى العلمية في حيوة. وإذا كانوا قد كرهوا تضعيف الياء مع الفصل حتى دعاهم ذلك إلى التغيير في حاحيت وهاهيت وعاعيت كان إبدال اللام في الحيوان -ليختلف الحرفان- أولى وأحجى.
فإن قلت: فهلا حملت الحيوان على ظاهره وإن لم يكن له نظير كما حملت سيداً على ظاهره وإن لم تعرف تركيب "س ي د" قيل: ما عينه ياء كثر وما عينه ياء ولامه واو مفقود أصلاً من الكلام. فلهذا أثبتنا سيداً ونفينا "ظاهر أمر" الحيوان.
وكذلك القول في نون عنتر وعنبر: ينبغي أن تكون أصلاً وإن كان قد جاء عنهم نحو عنبس وعنسل لأن أذنيك أخرجهما الاشتقاق. وأما عنتر وعنبر وخَنشَلت وحِنزَقر وحِنبَتر ونحو ذلك فلا اشتقاق يحكم له بكون شيء منه زائداً فلا بد من القضية بكونه كله أصلاً. فاعرف ذلك واكتف به بإذن الله تعالى.