الخصائص/باب في التقديرين المختلفين لمعنيين مختلفين
هذا في كلام العرب كثير فاش والقياس له قابل مسوغ. فمن ذلك قولهم: مررت بزيد وما كان نحوه مما يلحق من حروف الجر معونة لتعدي الفعل. فمن وجه يعتقد في الباء أنها بعض الفعل من حيث كانت معدية وموصلة له. كما أن همزة النقل في " أفعلت " وتكرير العين في " فعلت " يأتيان لنقل الفعل وتعديته نحو قام وأقمته وقومته وسار وأسرته وسيرته. فلما كان حرف الجر الموصل للفعل معاقباً لأحد شيئين كل واحد منهما مصوغ في نفس المثال جرى مجراهما في كونه جزءاً من الفعل أو كالجزء منه. فهذا وجه اعتداده كبعض الفعل. وأما وجه اعتداده كجزء من الاسم فمن حيث كان مع ما جره في موضع نصب وهذا يقضي له بكونه جزءاً مما بعده أو كالجزء منه ألا تراك تعطف على مجموعهما بالنصب كما تعطف على الجزء الواحد في نحو قولك: ضربت زيداً وعمراً وذلك قولك: مررت بزيد وعمراً ورغبت فيك وجعفراً ونظرت إليك وسعيداً أفلا ترى إلى حرف الجر الموصل للفعل كيف ووجه جوازه من قبل القياس أنك إنما تستنكر اجتماع تقديرين مختلفين لمعنيين متفقين وذلك كأن تروم أن تدل على قوة اتصال حرف الجر بالفعل فتعتده تارة كالبعض له والأخرى كالبعض للاسم. فهذا ما لا يجوز مثله لأنه لا يكون كونه كبعض الاسم دليلاً على شدة امتزاجه بالفعل لكن لما اختلف المعنيان جاز أن يختلف التقديران فاعرف ذلك فإنه مما يقبله القياس ولا يدفعه. ومثل ذلك قولهم: " لا أبا لك " فههنا تقديران مختلفان لمعنيين مختلفين. وذلك أن ثبات الألف في " أبا " من " لا أبا لك " دليل الإضافة فهذا وجه. ووجه آخر أن ثبات اللام وعمل " لا " في هذا الاسم يوجب التنكير والفصل. فثبات الألف دليل الإضافة والتعريف ووجود اللام دليل الفصل والتنكير. وليس هذا في الفساد والاستحالة بمنزلة فساد تحقير مثال الكثرة الذي جاء فساده من قبل تدافع حاليه. وذلك أن وجود ياء التحقير يقتضي كونه دليلاً على القلة وكونه مثالاً موضوعاً للكثرة دليل على الكثرة وهذا يجب منه أن يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد قليلاً كثيراً. وهذا ما لا يجوز لأحد اعتقاده. وليس كذلك تقديرك الباء في نحو: مررت بزيد تارة كبعض الاسم وأخرى كبعض الفعل من قبل أن هذه إنما هي صناعة لفظية يسوغ معها تنقل الحال وتغيرها فأما المعاني فأمر ضيق ومذهب مستصعب ألا تراك إذا سئلت عن زيد من قولنا: قام زيد سميته فاعلاً وإن سئلت عن زيد من قولنا: زيد قام سميته مبتدأ لا فاعلاً وإن كان فاعلاً في المعنى. وذلك أنك سلكت طريق صنعة اللفظ فاختلفت السمة فأما المعنى فواحد. فقد ترى إلى سعة طريق اللفظ وضيق طريق المعنى. فإن قلت: فأنت إذا قلت في " لا أبا لك " إن الألف تؤذن بالإضافة والتعريف واللام تؤذن بالفصل والتنكير فقد جمعت على الشيء الواحد في الوقت الواحد معنيين ضدين وهما التعريف والتنكير وهذان - كما ترى - متدافعان. قيل: الفرق بين الموضعين واضح وذلك أن قولهم: " لا أبا لك " كلام جرى مجرى المثل وذلك أنك إذا قلت هذا فإنك لا تنفي في الحقيقة أباه وإنما تخرجه مخرج الدعاء أي أنت عندي ممن يستحق أن يدعى عليه بفقد أبيه. كذا فسره أبو علي وكذلك هو لمتأمله ألاترى أنه قد أنشد توكيداً لما رآه من هذا المعنى فيه قوله: وتترك أخرى فردة لا أخا لها ولم يقل: لا أخت لها ولكن لما جرى هذا الكلام على أفواههم " لا أبا لك " " ولا أخا لك " قيل مع المؤنث على حد ما يكون عليه مع المذكر فجرى هذا نحواً من قولهم لكل أحد من ذكر وأنثى واثنين وجماعة " الصيف ضيعت اللبن " على التأنيث لأنه كذا جرى أوله وإذا كان الأمر كذلك علم أن قولهم " لا أبا لك " إنما فيه تعادي ظاهره " واجتماع " صورتي الفصل والوصل والتعريف والتنكير لفظاً لا معنى. وإذا آل الأمر إلى ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه من تنافر قضيتي اللفظ في نحو: مررت بزيد وإذا أردت بذلك أن تدل على شدة اتصال حرف الجر بالفعل وحده دون الاسم ونحن إنما عقدنا فساد الأمر وصلاحه على المعنى كأن يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد قليلاً كثيراً. وهذا ما لايدعيه مدع ولا يرضاه - مذهباً لنفسه - راض. ويؤكد عندك خروج هذا الكلام مخرج المثل كثرته في الشعر وأنه يقال لمن له أب ولمن ليس له أب. فهذا الكلام دعاء في المعنى لا محالة وإن كان في اللفظ خبراً. ولو كان دعاء مصرحاً وأمراً معنياً لما جاز أن يقال لمن لا أب له لأنه إذا كان لا أب له لم يجز أن يدعى عليه بما هو فيه لا محالة ألا ترى أنك لا تقول للأعمى: أعماه الله ولا للفقير: أفقره الله وهذا ظاهر باد. وقد مر به الطائي الكبير فقال: نعمة الله فيك لا أسال الل ه إليها نعمى سوى أن تدوما ولو اني فعلت كنت كمن يس أله وهو قائم أن يقوما فكما لا تقول لمن لا أب له: أفقدك الله أباك كذلك يعلم أن قولهم لمن لا أب له: " لا أبا لك " لا حقيقة لمعناه مطابقة للفظه وإنما هي خارجة مخرج المثل على ما فسره أبو علي. قال عنترة: فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي أني امرؤ سأموت إن لم أقتل وقال: ألق الصحيفة لا أبا لك إنه يخشى عليك من الحباء النقرس وقال: أبالموت الذي لا بد أني ملاق لا أباك تخوفيني أراد: لا أبا لك فحذف اللام من جاري عرف الكلام. وقال جرير: يا تيم تيم عدي لا أبا لكم لا يلقينكم في سوأة عمر وهذا أقوى دليل على كون هذا القول مثلاً لا حقيقة ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون للتيم كلها أب واحد ولكن معناه: كلكم أهل للدعاء عليه والإغلاظ له. وقال الحطيئة: أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا فإن قلت: فقد أثبت الحطيئة في هذا البيت ما نفيته أنت في البيت الذي قبله وذلك أنه قال " لأبيكم " فجعل للجماعة أباً واحداً وأنت قلت هناك: إنه لا يكون لجماعة تيم أب واحد فالجواب عن هذا من موضعين: أحدهما ما قدمناه من أنه لا يريد حقيقة الأب وإنما غرضه الدعاء مرسلاً ففحش بذكر الأب على ما مضى. والآخر أنه قد يجوز أن يكون أراد بقوله " لأبيكم " الجمع أي لا أبا لآبائكم. يريد الدعاء على آبائهم من حيث ذكرها فجاء به جمعاً مصححاً على قولك: أب وأبون وأبين قال: فلما تبيَّنَّ أصواتنا بكين وفدَّيننا بالأبينا وعليه قول الآخر - أنشدناه -: فمن يك سائلاً عني فإني بمكة مولدي وبها ربيت وقد شنئت بها الآباء قبلي فما شنئت أبي ولا شنيت أي ما شنئت آبائي. فهذا شيء عرض ولنعد. ومن ذلك قولهم: مختار ومعتاد ونحو ذلك فهذا يحمل تقديرين مختلفين لمعنيين مختلفين. وذلك أنه إن كان اسم الفاعل فأصله مختير ومعتوِد كمقتطع بكسر العين. وإن كان مفعولاً فأصله مختيَر ومعتوَد كمقتطَع. ف " مختار " من قولك: أنت مختار للثياب أي مستجيد لها أصله مختير. ومختار من قولك: هذا ثوب مختار أصله مختير. فهذان تقديران مختلفان لمعنيين. وإنما كان يكون هذا منكراً لو كان تقدير فتح العين وكسرها لمعنى واحد فأما وهما لمعنيين فسائغ حسن. وكذلك ما كان من المضعف في هذا الشرج من الكلام نحو قولك: هذا رجل معتد للمجد ونحوه فهذا هو اسم الفاعل وأصله معتدد بكسر العين وهذا رجل معتد أي منظور إليه فهذا مفتعل بفتح العين وأصله معتدد كقولك: هذا معنىً معنىٌ معتبر أي ليس بصغير متحقر. وكذلك هذا جوز معتد فهذا أيضاً اسم المفعول وأصله معتدد كمقتسم ومقتطع. ونظائر هذا وما قبله كثيرة فاشية. ومن ذلك قولهم: كساء وقضاء ونحوه أعللت اللام لأنك لم تعتد بالألف حاجزاً لسكونها وقلبتها أيضاً لسكونها وسكون الألف قبلها فاعتددتها من وجه ولم تعتددها من آخر. ومن ذلك أيضاً قولهم: أيهم تضرب يقم زيد. ف " أيهم " من حيث كانت جازمة ل " تضرب " يجب أن تكون مقدمة عليها ومن حيث كانت منصوبة ب " تضرب " يجب أن تكون في الرتبة مؤخرة عنها فلم يمتنع أن يقع هذان التقديران على اختلافهما من حيث كان هذا إنما هو عمل صناعي لفظي. لو كان التعادي والتخالف في المعنى لفسد " ولم " يجز. وأيضاً فإن حقيقة الجزم إنما هو لحرف الجزاء المقدر المراد لا ل " أي " " فإذا " كان كذلك كان الأمر أقرب مأخذاً وألين ملمساً.
باب في تدريج اللغة
وذلك أن يشبه شيء شيئاً من موضع فيمضى حكمه على حكم الأول ثم يرقى منه إلى غيره. فمن ذلك قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين " ولو " جالسهما جميعاً لكان مصيباً مطيعاً لا مخالفاً وإن كانت " أو " إنما هي في أصل وضعها لأحد الشيئين. وإنما جاز ذلك في هذا الموضع لا لشيء رجع إلى نفس " أو " بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى " أو ". وذلك لإنه قد عرف أنه إنما رغب في مجالسة الحسن لما لمجالسه في ذلك من الحظ وهذه الحال موجودة في مجالسة ابن سيرين أيضاً وكأنه قال: جالس هذا الضرب من الناس. وعلى ذلك جرى النهي في هذا الطرز من القول في قول الله سبحانه {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} وكأنه - والله أعلم - قال: لا تطع هذا الضرب من الناس. ثم إنه لما رأى " أو " في هذا الموضع قد جرت مجرى الواو تدرج من ذلك إلى غيره فأجراها مجرى الواو في موضع عار من هذه القرينة التي سوغته استعمال " أو " في معنى الواو ألا تراه كيف قال: وسواء وسيان لا يستعمل إلا بالواو. وعليه قول الآخر: فسيَّان حرب أو تبوءوا بمثله وقد يقبل الضيم الذليل المسير أي فسيَّان حرب وبواؤكم بمثله كما أن معنى الأول: فكان سيان ألا يسرحوا نعما وأن يسرحوه بها. وهذا واضح. ومن ذلك قولهم: صبية وصبيان قلبت الواو من صبوان وصبوة في التقدير - لأنه من صبوت - لانكسار الصاد قبلها وضعف الباء أن تعتد حاجزاً لسكونها. وقد ذكرنا ذلك. فلما ألف هذا واستمر تدرجوا منه إلى أن أقروا قلب الواو ياء بحاله وإن زالت الكسرة وذلك قولهم أيضاً: صبيان وصبية " وقد " كان يجب - لما زالت الكسرة - أن تعود الياء واواً إلى أصلها لكنهم أقروا الياء بحالها لاعتيادهم إياها حتى صارت كأنها كانت أصلاً. وحسن ذلك لهم شيء آخر وهو أن القلب في صبية وصبيان إنما كان استحساناً وإيثاراً لا عن وجوب علة ولا قوة قياس فلما لم تتمكن علة القلب ورأوا اللفظ بياء قوي عندهم إقرار الياء بحالها لأن السبب الأول إلى قلبها لم يكن قوياً ولا مما يعتاد في مثله أن يكون مؤثراً. ومن ذلك قولهم في الاستثبات عمن قال ضربت رجلاً: منا ومررت برجل مني وعندي رجل: منو فلما شاع هذا ونحوه عنهم تدرجوا منه إلى أن قالوا: ضرب منٌ منا كقولك: ومن ذلك قولهم: أبيض لياح وهو من الواو لأنه ببياضه ما يلوح للناظر. فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها وليس ذلك عن قوة علة إنما هو للجنوح إلى خفة الياء مع أدنى سبب وهو التطرق إليها بالكسرة طلباً للاستخفاف لا عن وجوب قياس ألا ترى أن هذا الضرب من الأسماء التي ليست جمعاً كرباض وحياض ولا مصدراً جارياً على فعل معتل كقيام وصيام إنما يأتي مصححاً نحو: خوان وصوان غير أنهم لميلهم عن الواو إلى الياء ما أقنعوا أنفسهم في لياح في قلبهم إياه إلى الياء بتلك الكسرة قبلها وإن كانت ليس مما يؤثر حقيقة التأثير مثلها ولأنهم شبهوه لفظاً إما بالمصدر كحيال وصيال وإما بالجمع كسوط وسياط ونوط ونياط. نعم وقد فعلوا مثل هذا سواء في موضع آخر. وذلك قول بعضهم في صوان: صيان وفي صوار: صيار فلما ساغ ذلك من حيث أرينا أو كاد تدرجوا منه إلى أن فتحوا فاء لياح ثم أقروا الياء بحالها وإن كانت الكسرة قبلها قد زايلتها وذلك قولهم فيه: لياح. وشجعه على ذلك شيئاً أن قلب الواو ياء في لياح لم يكن عن قوة ولا استحكام علة وإنما هو لإيثار الأخف على الأثقل فاستمر على ذلك وتدرج منه إلى أن أقر الياء بحالها مع الفتح إذ كان قلبها مع الكسر أيضاً ليس بحقيقة موجب. قال: وكما أن القلب مع الكسر لم يكن عن صحة عمل وإنما هو لتخفيف مؤثر فكذلك أقلب أيضاً مع الفتح وإن لم يكن موجباً غير أن الكسر هنا على ضعفه أدعى إلى القلب من الفتح فلذلك جعلنا ذاك تدرجاً عنه إليه ولم نسو بينهما فيه. فاعرف ذلك. وقريب من ذلك قول الشاعر: ولقد رأيتك بالقوادم مرة وعلي من سدف العشي رياح قياسه رواح لأنه فعال من راح يروح لكنه لما كثر قلب هذه الواو في تصريف هذه الكلمة ياء - نحو ريح ورياح ومريح ومستريح - وكانت الياء أيضاً عليهم أخف وإليهم أحب تدرجوا من ذلك إلى أن قلبوها في رياح وإن زالت الكسرة التي كانت قلبتها في تلك الأماكن. ومن ذلك قلبهم الذال دالاً في " ادكر " وما تصرف منه نحو يدكر ومدكر وادكار وغير ذلك: تدرجوا من هذا إلى غيره بأن قلبوها دالاً في غير بناء افتعل فقال ابن مقبل: من بعض ما يعتري قلبي من الدكر ومن ذلك قولهم: الطنة - بالطاء - في الظنة وذلك في اعتيادهم اطن ومطن واطنان كما جاءت الدكر على الأكثر. ومن ذلك حذفهم الفاء - على القياس - من ضغة وقحة كما حذفت من عدة وزنة ثم إنهم عدلوا بها عن فِعلة إلى فَعلة فأقروا الحذف بحاله وإن زالت الكسرة التي كانت موجبة له فقالوا: الضعة والقحة فتدرجوا بالضعة والقحة إلى الضعة والقحة وهي عندنا فعلة كقصعة وجفنة " لا أن " فتحت لأجل الحرف الحلقي فيما ذهب إليه محمد بن يزيد. ومن ذلك قولهم: بأيهم تمرر أمرر فقدموا حرف الجر على الشرط فأعملوه فيه وإن كان الشرط لا يعمل فيه ما قبله لكنهم لما لم يجدوا طريقاً إلى تعليق حرف الجر استجازوا إعماله في الشرط. فلما ساغ لهم ذلك تدرجوا منه إلى أن أضافوا إليه الاسم فقالوا: غلام من تضرب أضربه وجارية من تلق ألقها. فالاسم في هذا إنما جاز عمله في الشرط من حيث كان محمولاً في ذلك على حرف الجر. وجميع هذا حكمه في الاستفهام حكمه في الشرط من حيث كان الاستفهام له صدر الكلام كما أن الشرط كذلك. فعلى هذه جاز بأيهم تمر وغلام من تضرب فأما قولهم: أتذكر إذ من يأتنا نأته فلا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما يجوز على تقدير حذف المبتدأ أي أتذكر إذ الناس من يأتنا نأته فلما باشر المضاف غير المضاف إليه في اللفظ أشبه الفصل بين المضاف والمضاف إليه فلذلك أجازوه في الضرورة. فإن قيل: فما الذي يمنع من إضافته إلى الشرط وهو ضرب من الخبر قيل: لأن الشرط له صدر الكلام فلو أضفت إليه لعلقته بما قبله وتانك حالتان متدافعتان. فأما بأيهم تمرر أمرر ونحوه فإن حرف الجر متعلق بالفعل بعد الاسم والظرف في قولك: أتذكر إذ من يأتنا نأته متعلق بقولك أتذكر وإذا خرج ما يتعلق به حرف الجر من حيز الاستفهام لم يعمل في الاسم المستفهم به ولا المشروط به. ومن التدريج في اللغة أن يكتسي المضاف من المضاف إليه كثيراً من أحكامه: من التعريف والتنكير والاستفهام والشياع وغيره ألا ترى أن ما لا يستعمل من الأسماء في الواجب إذا أضيف إليه شيء منها صار في ذلك إلى حكمه. وذلك قولك: ما قرعت حلقة باب دار أحد قط فسرى ما في " أحد " من العموم والشياع إلى " الحلقة ". ولو قلت: قرعت حلقة باب دار أحد أو نحو ذلك لم يجز. ومن التدريج في اللغة: إجراؤهم الهمزة المنقلبة عن حرفي العلة عينا مجرى الهمزة الأصلية. وذلك نحو قولهم في تحقير قائم وبائع: قويئم وبويئع فألحقوا الهمزة المنقلبة بالهمزة الأصلية في سائل وثائر من سأل وثأر إذا قلت: سويئل وثويئر. وليست كذلك اللام إذا انقلبت همزة عن أحد الحرفين نحو كساء وقضاء ألا تراك تقول في التحقير: كسيٌ وقضيّ فترد حرف العلة وتحذفه لاجتماع الياءات. وليست كذلك الهمزة الأصلية ألا تراك تقول في تحقير سلاء وخلاء بإقرار الهمزة لكونها أصلية وذلك سُليِّء وخُليِّء. وتقول أيضاً في تكسير كساء وقضاء بترك الهمزة البتة وذلك قولك: أكسية وأقضية. وتقول في سلاء وخلاء: أسلئة وأخلئة فاعرف ذلك. لكنك لو بنيت من قائم وبائع شيئاً مرتجلاً أعدت الحرفين البتة. وذلك كأن تبني منهما مثل جعفر فتقول: قومم وبيعع. ولم تقل: قأمم ولا بأعع لأنك إنما تبني من أصل المثال لا من حروفه المغيرة ألا تراك لو بنيت من قيل وديمة مثال " فعل " لقلت: دوم وقول لا غير. فإن قلت: ولم لم تقرر الهمزة في قائم وبائع فيما تبنيه منهما كما أقررتها في تحقيرهما قيل: البناء من الشيء أن تعمد لأصوله فتصوغ منها زوائده فلا تحفل بها. وليس كذلك التحقير. وذلك أن صورة المحقر معك ومعنى التكبير والتحقير في أن كل واحد منهما واحد واحد وإنما بينهما أن أحدهما كبير والآخر صغير فأما الإفراد والتوحيد فيهما كليهما فلا نظر فيه. قال أبو علي - رحمه الله - في ضحة الواو في نحو أسيود وجديول: مما أعان على ذلك وسوغه أنه في معنى جدول صغير فكما تصح الواو في جدول صغير فكذلك أنس بصحة الواو في جديول. وليس كذلك الجمع لأنه رتبة غير رتبة الآحاد فهو شيء آخر فلذلك سقطت في الجمع حرمة الواحد ألا تراك تقول في تكسير قائم: قوام وقوم فتطرح الهمزة وتراجع لفظ وسألت مرة أبا علي - رحمه الله - عن رد سيبويه كثيراً من أحكام التحقير إلى أحكام التكسير وحمله إياها عليها ألا تراه قال تقول: سريحين لقولك: سراحين ولا تقول: عثيمين لأنك لا تقول: عثامين ونحو ذلك. فقال: إنما حمل التحقير في هذا على التكسير من حيث كان التكسير بعيداً عن رتبة الآحاد. فاعتد ما يعرض فيه لاعتداده بمعناه والمحقر هو المكبر والتحقير فيه جار مجرى الصفة فكأن لم يحدث بالتحقير أمر يحمل عليه غيره كما حدث بالتكسير حكم يحمل عليه الإفراد: هذا معقد معناه وما أحسنه وأعلاه! ومن التدريج قولهم: هذا حضرُموت بالإضافة على منهاج اقتران الاسمين أحدهما بصاحبه. ثم تدرجوا من هذا إلى التركيب فقالوا: هذا حضرَموت. ثم تدرجوا من هذا إلى أن صاغوهما جميعاً صياغة المفرد فقالوا: هذا حضرَمُوت فجرى لذلك مجرى عضرفوط ويستعور. ومن التدريج في اللغة قولهم: ديمة وديم واستمرار القلب في العين للكسرة قبلها ثم تجاوزوا ذلك لما كثر وشاع إلى أن قالوا: ديمت السماء ودومت فأما دومت فعلى القياس وأما ديمت فلاستمرار القلب في ديمة وديم. أنشد أبو زيد: هو الجواد ابن الجواد ابن سبل إن دوموا جاد وإن جادوا وبل ورواه أيضاً " ديموا " بالياء. نعم ثم قالوا: دامت السماء تديم فظاهر هذا أنه أجري مجرى باع يبيع وإن كان من الواو. فإن قلت: فلعله فعل يفعل من الواو كما ذهب الخليل في طاح يطيح وتاه يتيه قيل: حمله على الإبدال أقوى ألا ترى أنه قد حكي في مصدره ديماً فهذا مجتذب إلى الياء مدرج إليها مأخوذ به نحوها. فإن قلت: فلعل الياء لغة في هذا الأصل كالواو بمنزلة ضاره يضيره ضيراً وضاره يضوره ضوراً. قيل: يبعد ذلك هنا ألا ترى إلى اجتماع الكافة على قولهم: الدوام وليس أحد يقول: الديام فعلمت بذلك أن العارض في هذا الموضع إنما هو من جهة الصنعة لا من جهة اللغة. ومثل ذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم: " ما هت الركية تميه ميهاً " مع إجماعهم على أمواه وأنه لا أحد يقول: أمياه. ونحو من ذلك ما يحكى عن عمارة بن عقيل من أنه قال في جمع ريح: أرياح حتى نبه عليه فعاد إلى أرواح. وكأن أرياحاً أسهل قليلاً لأنه قد جاء عنهم قوله: وعلي من سدف العشي رياح فهو بالياء لهذا آنس. وجماع هذا الباب غلبة الياء على الواو لخفتها فهم لا يزالون تسبباً إليها ونجشاً عنها واستثارة لها وتقرباً ما استطاعوا منها. ونحو هذه الطريق في التدريج: حملهم علباوان على حمراوان ثم حملهم رداوان على علباوان ثم حملهم قراوان على رداوان وقد تقدم ذكره. وفي هذا كاف مما يرد في معناه بإذن الله تعالى. ومن ذلك أنه لما اطردت إضافة أسماء الزمان إلى الفعل نحو: قمت يوم قمت وأجلس حين تجلس شبهوا ظرف المكان في " حيث " فتدرجوا من " حين " إلى " حيث " فقالوا: قمت حيث قمت. ونظائره كثيرة.