الخصائص/باب في الاستحسان
وجماعه أن علته ضعيفة غير مستحكمة، إلا أن فيه ضرباً من الاتساع والتصرف. من ذلك تركك الأخف إلى الأثقل من غير ضرورة، نحو قولهم: الفتوى، والبقوى، والتقوى، والشروى، ونحو ذلك، ألا ترى أنهم قلبوا الياء هنا واواً من غير استحكام؛ علة أكثر من أنهم أرادوا الفرق بين الاسم والصفة. وهذه ليست علة معتدة، ألا تعلم كيف يشارك الاسم الصفة في أشياء كثيرة، لا يوجبون على أنفسهم الفرق بينهما فيها. من ذلك قولهم في تكسير حسن: حِسان، فهذا كجبل وجبال، وقالوا: فرس وَرد وخيل وُرد، فهذا كسَقف وسُقف. وقالوا: رجل غفور وقوم غُفُر، وفخور وفخر، فهذا كعمود وعمد. وقالوا: جمل بازل وإبل بوازل، وشغل شاغل وأشغال شواغل، فهذا كغارب وغوارب، وكاهل وكواهل. ولسنا ندفع أن يكونوا قد فصلوا بين الاسم والصفة في أشياء غير هذه، إلا أن جميع ذلك إنما هو استحسان لا عن ضرورة علة، وليس بجار مجرى رفع الفاعل ونصب المفعول، ألا ترى أنه لو كان الفرق بينهما واجباً لجاء في جميع الباب، كما أن رفع الفاعل ونصب المفعول منقاد في جميع الباب. فإن قلت: فقد قال الجعدي:
فرفع المفعول ونصب الفاعل، قيل لو لم يحتمل هذا البيت إلا ما ذكرته لقد كان على سمت من القياس، ومطرب متورد بين الناس، ألا ترى أنه على كل حال قد فرق فيه بين الفاعل والمفعول، وإن اختلفت جهتا الفرق. كيف ووجهه في أن يكون الفاعل فيه مرفوعاً، والمفعول منصوباً قائم صحيح مقول به. وذلك أن رعن هذا القف لما رفعه الآل فرئي فيه ظهر به الآل إلى مرآة العين ظهوراً لولا هذا الرعن لم يبن للعين فيه، بيانه إذا كان فيه ألا تعلم أن الآل إذا برق للبصر رافعاً شخصاً كان أبدى للناظر إليه منه لو لم يلاق شخصاً يزهاه فيزداد بالصورة التي حملها سفوراً، وفي مسرح الطرف تجلياً وظهوراً.
فإن قلت: فقد قال الأعشى:
فجعل الآل هو الفاعل، والشخص هو المفعول، قيل ليس في هذا أكثر من أن هذا جائز، وليس فيه دليل على أن غيره غير جائز، ألا ترى أنك إذا قلت ما جاءني غير زيد، فإنما في هذا دليل على أن الذي هو غيره لم يأتك، فأما زيد نفسه فلم تعرض للإخبار بإثبات مجيء له أو نفيه عنه، فقد يجوز أن يكون قد جاء، وأن يكون أيضاً لم يجيء.
فإن قلت: فهل تجد لبيت الجعدي على تفسيرك الذي حكيته ورأيته نظيراً؟ قيل: لا ينكر وجود ذلك مع الاستقراء، واعمل فيما بعد على أن لا نظير له، ألا تعلم أن القياس إذا أجاز شيئاً وسمع ذلك الشيء عينه، فقد ثبت قدمه، وأخذ من الصحة والقوة مأخذه، ثم لا يقدح فيه ألا يوجد له نظير؛ لأن إيجاد النظير وإن كان مأنوساً به فليس في واجب النظر إيجاده، ألا ترى أن قولهم: في شنوءة شنَئي لما قبله القياس لم يقدح فيه عدم نظيره نعم ولم يرض له أبو الحسن بهذا القدر من القوة حتى جعله أصلاً يرد إليه، ويحمل غيره عليه. وسنورد فيما بعد باباً لما يسوغه القياس وإن لم يرد به السماع، بإذن الله وحوله.
ومن ذلك -أعني الاستحسان- أيضاً قول الشاعر:
فألحق نون التوكيد اسم الفاعل؛ تشبيهاً له بالفعل المضارع. فهذا إذاً استحسان لا عن قوة علة ولا عن استمرار عادة، ألا تراك لا تقول: أقائمن يا زيدون، ولا أمنطلقن يا رجال، إنما تقوله بحيث سمعته وتعتذر له وتنسبه إلى أنه استحسان منهم على ضعف منه، واحتمال بالشبهة له.
ومن الاستحسان قولهم: ِصبية، وقِنية، وعِذىُ، وبِلى سفر، وناقة عليان، ودبة مهيار. فهذا كله استحسان لا عن استحكام علة. وذلك أنهم لم يعتدوا الساكن حائلاً بين الكسرة والواو؛ لضعفه، وكله من الواو. وذلك أن "قنية" من قنوت، ولم يثبت أصحابنا قنيت، وإن كان البغداديون قد حكوها، و"صبية" من صبوت، و"علية" من علوت، و"عذى" من قولهم أرضون عذوات، و"بلى" سفر من قولهم في معناه: بِلوٌ أيضاً، ومنه البلوى، وإن لم يكن فيها دليل، إلا أن الواو مطردة في هذا الأصل، قال:
وهو راجع إلى معنى بلوسفر، وقالوا: فلان مبلو بمحنة، وغير ذلك والأمر فيه واضح، وناقة "عليان" من علوت أيضاً كما قيل لها: ناقة سناد، أي أعلاها متساند إلى أسفلها، ومنه سندنا إلى الجبل أي علونا، وقال الأصمعي قيل لأعرابي: ما الناقة القرواح؟ فقال: التي كأنها تمشي على أرماح، ودبة "مهيار"، من قولهم هار يهور، وتهور الليل، على أن أبا الحسن قد حكى فيه هار يهير، وجعل الياء فيه لغة، وعلى قياس قول الخليل بن أحمد في طاح يطيح، وتاه يتيه، لا يكون في يهير دليل؛ لأنه قد يمكن أن يكون: فَعِل يَفعِل، مثلهما. وكله لا يقاس، ألا تراك لا تقول في جرو: جِرى، ولا في عِدوة الوادي: عِدية، ولا نحو ذلك. ولا يجوز في قياس قول من قال عليان، ومهيار، أن تقول في قرواح ودرواس: قرياح ودرياس، وذلك لئلا يلتبس مثال فعوال بفعيال، فيصير قرياح ودرياس كسرياح، وكرياس. وإنما يجوز هذا فيما كانت واوه أصلية لا زائدة، وذلك أن الأصلي يحفظ نفسه بظهوره في تصرف أصله، ألا تراك إذا قلت: علية، ثم قلت: علوت وعلو وعلوة وعلاوة ويعلو، ونحو ذلك، دلك وجود الواو في تصرف هذا الأصل على أنها هي الأصلية، وأن الياء في علية بدل منها، وأن الكسرة هي التي عذرت بعض العذر في قلبها، وليس كذلك الزائد، ألا تراه لا يستمر في تصرف الأصل استمرار الأصلي، فإذا عرض له عارض من بدل أو حذف لم يبق هناك في أكثر الأمر ما يدل عليه وما يشهد به، ألا تراك لو حقرت قرياحاً بعد أن أبدلت واوه ياء على حذف زوائده لقلت: قريح، فلم تجد للواو أثراً يدلك على أن ياء قرياح بدل من الواو، كما دلك علوت، وعلو، ورجل معلو بالحجة، ونحو ذلك على أن ياء "علية" بدل من الواو.
فإن قلت: فقد قالوا في قرواح: قرياح أيضاً، سمعاً جميعاً، فإن هذا ليس على إبدال الياء من
الواو، لا، بل كل واحد منها مثال برأسه مقصود قصده.
فقرواح كقرواش وجلواخ، وقرياح ككرياس وسرياح، ألا ترى أن أحداً لا يقول: كرواس ولا سرواح، ولا يقول أحد أيضاً في شرواط، وهلواع: شرياط، ولا هلياع. وهذا أحد ما يدلك على ضعف القلب فيما هذه صورته؛ لأن القلب للكسرة مع الحاجز لو كان قوياً في القياس لجاء في الزائد مجيئه في الأصلي، كأشياء كثيرة من ذلك.
ومثل امتناعهم من قلب الواو في نحو هذا ياء من حيث كانت زائدة فلا عصمة لها، ولا تلزم لزوم الأصلي فيعرف بذلك أصلها، أن ترى الواو الزائدة مضمومة ضماً لازماً ثم لا ترى العرب أبدلتها
همزة، كما أبدلت الواو الأصلية، نحو أُجوه، وأُقٍتت. وذلك نحو الترهوك، والتدهور والتسهوك: لا يقلب أحد هذه الواو -وإن انضمت ضماً لازماً- همزة من قبل أنها زائدة فلو قلبت فقيل: الترهؤك لم يؤمن أن يظن أنها همزة أصلية غير مبدلة من واو.
فإن قلت: ما تنكر أن يكون تركهم قلب هذه الواو همزة مخافة أن تقع الهمزة بعد الهاء وهما حلقيان وشديدا التجاور؟ قيل يفسد هذا أن هذين الحرفين قد تجاورا، والهاء مقدمة على الهمزة، نحو قولهم: هأهأت في الدعاء.
فإن قلت: هذا إنما جاء في التكرير، والتكرير قد يجوز فيه ما لولاه لم يجز، ألا ترى أن الواو لا توجد منفردة في ذوات الأربعة إلا في ذلك الحرف وحده، وهو "ورنتل" ثم إنها قد جاءت مع التكرير مجيئاً متعالماً، نحو وحوح، ووزوز، ووكواك، ووزاوزة، وقوقيت، وضوضيت، وزوزيت، وموماة، ودوداة،
وشوشاة، قيل: قد جاء امتناعهم من همز نظير هذه الواوات بحيث لا هاء. ألا تراهم قالوا: زحولته
فتزحول تزحولاً، وليس أحد يقول تزحؤلاً. وقد جمعوا بينهما متقدمة الحاء على الهمزة: نحو قولهم في
الدعاء: حؤ حؤ.
فإن قيل: فهذا أيضاً إنما جاء في الأصوات المكررة، كما جاء في الأول أيضاً في الأصوات المكررة، نحو هؤ
هؤ، وقد ثبت أن التكرير محتمل فيه ما لا يكون في غيره.
قيل هذه مطاولة نحن فتحنا لك بابها، وشرعنا منهجها، ثم إنها مع ذلك لا تصحبك، ولا تستمر بك، ألا
تراهم قد قالوا في "عنونت الكتاب": إنه يجوز أن يكون فعولت من عن يعن، ومطاوعه تعنون، ومصدره التعنون، وهذه الواو لا يجوز همزها، لما قدمنا ذكره، وأيضاً فقد قالوا في علونته: يجوز أن يكون فعولت من العلانية، وحاله في ذلك حال عنونته على ما مضى. وقد قالوا أيضاً: سرولته تسرولاً، ولم يهمزوا هذه الواو، لما ذكرنا. فإن قيل: فلو همزوا فقالوا: التسرؤل لما خافوا لبساً، لقولهم مع زوال الضمة عنها: تسرول، وسرولته، ومسرول، كما أنهم لما قالوا: وقت، وأوقات، وموقت، ووقًته أعلمهم ذلك أن همزة "ُأقتت" إنما هي بدل من واو. فقد ترى الأصل والزائد جميعاً متساويين متساوقين في دلالة الحال بما يصحب كل واحد منهما من تصريفه وتحريفه، وفي هذا نقض لما رمت به الفصل بين الزائد والأصل. قيل كيف تصرفت الحال فالأصل أحفظ لنفسه، وأدل عليها من الزائد، ألا ترى أنك لو حقرت تسرولاً -وقد همزته- تحقير الترخيم، لقلت "سريل" فحذفت الزائد ولم يبق معك دليل عليه، ولو حقرت نحو "أقتت" - وقد نقلتها إلى التسمية، فصارت "أقتة" - تحقير الترخيم لقلت: وقيته، وظهرت الواو التي هي فاء.
فإن قلت: فقد تجيز ههنا أيضاً "أقيتة" قيل الهمز ههنا جائز لا واجب وحذف الزوائد من "تسرؤل"
تحقير الترخيم واجب لا جائز. فإن قلت: وكذلك همز الواو في "تسرؤل" إنما يكون جائزاً أيضاً لا واجباً،
قيل همز الواو حشواً أثبت قدماً من همزها مبتدأة، أعني في بقائها وإن زالت الضمة عنها، ألا ترى إلى قوله في تحقير قائم: قويئم، وثبات الهمزة وإن زالت الألف الموجبة لها، فجرت لذلك مجرى الهمزة الأصلية في نحو سائل، وثائر، من سأل وثأر -كذا قال-، فلذلك اجتنبوا أن يهمزوا واو "تسرول" لئلا تثبت قدم الهمزة فيرى أنها ليست بدلاً، وليس كذلك همزة "أقتت"، ألا ترى تراها متى زالت الضمة عنها عادت واواً، نحو موقت، ومويقت.
فإن قلت: فهلا أجازوا همز واو "تسرول" وأمنوا اللبس، وإن قالوا في تحقير ترخيمه "سريل" من حيث
كان وسط الكلمة ليس بموضع لزيادة الهمزة، إنما هو موضع زيادة الواو، نحو جدول، وخِروع، وعجوز،
وعمود. فإذا رأوا الهمزة موجودة في "تسرؤل"، محذوفة من "سريل" علموا -بما فيها مكن الضمة- أنها بدل من واو زائدة، فكان ذلك يكون أمناً من اللبس؟ قيل: قد زادوا الهمزة وسطاً في أحرف صالحة. وهي شمأل وشأمل، وجرائض، وحطائط بطائط، ونِئذلان، وتأبل، وخأتم، وعألم، وتأبلت القدر،
والرئبال. فلما جاء ذلك كرهوا أن يقربوا باب لبس.
فإن قلت: فإن همزة تأبل، وخأتم، والعألم، إنما هي بدل من الألف، قيل: هي وإن كانت بدلاً فإنها بدل
من الزائد، والبدل من الزائد زائد، وليس البدل من الأصل بأصل.
فقد ترى أن حال البدل من الزائد أذهب به في حكم ما هو بدل منه من الأصل في ذلك. فاعرف هذا.
ومن الاستحسان قولهم: رجل غديان، وعشيان، وقياسه: غدوان وعشوان، لأنهما من غدوت وعشوت،
أنشدنا أبو علي:
ومثله أيضاً دامت السماء تديم ديماً، وهو من الواو؛ لاجتماع العرب طراً على "الدوام" و"هو أدوم من كذا".
ومن ذلك ما يخرج تنبيهاً على أصل بابه نحو استحوذ وأغيلت المرأة، وصددت فأطولت الصدود.
ونظائره كثيرة، غير أن ذلك يخرج ليعلم به أن أصل استقام استقوم، وأصل مقامة مقومة وأصل يحسن يؤحسن. ولا يقاس هذا ولا ما قبله، لأنه لم تستحكم علته، وإنما خرج تنبيهاً وتصرفاً واتساعاً.