الخصائص/باب ذكر علل العربية أكلامية هي أم فقهية؟
اعلم أن علل النحويين -وأعني بذلك حذاقهم المتقنين لا ألفافهم المستضعفين- أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين. وذلك أنهم إنما يحيلون على الحس، ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتها على النفس وليس كذلك حديث علل الفقه. وذلك أنها إنما هي أعلام، وأمارات، لوقوع الأحكام، ووجوه الحكمة فيها خفية عنا، غير بادية الصفحة لنا، ألا ترى أن ترتيب مناسك الحج، وفرائض الطهور، والصلاة، والطلاق، وغير ذلك، إنما يرجع في وجوبه إلى ورود الأمر بعمله، ولا تعرف علة جعل الصلوات في اليوم والليلة خمساً دون غيرها من العدد، ولا يعلم أيضاً حال الحكمة والمصلحة في عدد الركعات، ولا في اختلاف ما فيها من التسبيح والتلاوات إلى غير ذلك مما يطول ذكره، ولا تحلى النفس بمعرفة السبب الذي كان له ومن أجله، وليس كذلك علل النحويين. وسأذكر طرفاً من ذلك لتصح الحال به.
قال أبو إسحاق في رفع الفاعل ونصب المفعول: إنما فعل ذلك للفرق بينهما، ثم سأل نفسه فقال: فإن قيل: فهلا عكست الحال فكانت فرقاً أيضا؟ قيل: الذي فعلوه أحزم، وذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد، وقد يكون له مفعولات كثيرة، فرفع الفاعل لقلته، ونصب المفعول لكثرته، وذلك ليقل في كلامهم ما يسثقلون، ويكثر في كلامهم ما يستخفون. فجرى ذلك في وجوبه، ووضوح أمره، مجرى شكر المنعم، وذم المسيء في انطواء الأنفس عليه، وزوال اختلافها فيه، ومجرى وجوب طاعة القديم سبحانه لما يعقبه من إنعامه وغفرانه. ومن ذلك قولهم: إن ياء نحو ميزان وميعاد، انقلبت عن واو ساكنة، لثقل الواو الساكنة بعد الكسرة. وهذا أمر لا لبس في معرفته، ولا شك في قوة الكلفة في النطق به. وكذلك قلب الياء في موسر وموقن واوا، لسكونها وانضمام ما قبلها. ولا توقف في ثقل الياء الساكنة بعد الضمة، لأن حالها في ذلك حال الواو الساكنة بعد الكسرة، وهذا -كما تراه- أمر يدعو الحس إليه، ويحدو طلب الاستخفاف عليه. وإذا كانت الحال المأخوذ بها، المصير بالقياس إليها، حسية طبيعية فناهيك بها ولا معدل بك عنها. ومن ذلك قولهم في سيد وميت وطويت طياً وشويت شياً: إن الواو قلبت ياء لوقوع الياء الساكنة قبلها في سيد وميت، ووقوع الواو الساكنة قبل الياء في شيا وطيا. فهذا أمر هذه سبيله أيضا، ألا ترى إلى ثقل اللفظ بسيود وميوت وطويا وشويا، وأن سيدا وميتا وطيا وشيا أخف على ألسنتهم من اجتماع الياء والواو مع سكون الأول منهما. فإن قلت: فقد جاء عنهم نحو حيوة وضيون وعوى الكلب عوية، فسنقول في هذا ونظائره في باب يلي هذا، باسم الله. وأشباه هذا كثيرة.
فإن قلت: فقد نجد أيضاً في علل الفقه ما يضح أمره، وتعرف علته، نحو رجم الزاني إذا كان محصناً، وحده إذا كان غير محصن، وذلك لتحصين الفروج، وارتفاع الشك في الأولاد والنسل. وزيد في حد المحصن على غيره، لتعاظم جرمه وجريرته على نفسه. وكذلك إفادة القاتل بمن قتله لحقن الدماء، وكذلك إيجاب الله الحج على مستطيعه لما في ذلك من تكليف المشقة، ليستحق عليها المثوبة، وليكون أيضاً دربة للناس على الطاعة، وليشتهر به أيضاً حال الإسلام، ويدل به على ثباتها واستمرار العمل بها فيكون أرسخ له، وأدعى إلى ضم نشر الدين، وفثء كيد المشركين. وكذلك نظائر هذا كثيرة جداً. فقد ترى إلى معرفة أسبابه كمعرفة أسباب ما اشتملت عليه علل الإعراب، فلم جعلت علل الفقه أخفض رتبة من علل النحو؟ قيل له: ما كانت هذه حاله من علل الفقه فأمر لم يستفد من طريق الفقه، ولا يخص حديث الفرض والشرع، بل هو قائم في النفوس قبل ورود الشريعة به، ألا ترى أن الجاهلية الجهلاء كانت تحصن فروج مفارشها، وإذا شك الرجل منهم في بعض ولده لم يلحقه به، خلقاً قادت إليه الأنفة والطبيعة، ولم يقتضه نص ولا شريعة. وكذلك قول الله تعالى «وإِنْ أحدٌ منَ المُشركينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ» قد كان هذا من أظهر شيء معهم، وأكثره في استعمالهم، أعني حفظهم للجار، ومدافعتهم عن الذمار، فكأن الشريعة إنما وردت فيما هذه حاله بما كان معلوماً معمولاً به، حتى إنها لو لم ترد بإيجابه، لما أخل ذلك بحاله، لاستمرار الكافة على فعاله. فما هذه صورته من عللهم جار مجرى علل النحويين. ولكن ليت شعري من أين يعلم وجه المصلحة في جعل الفجر ركعتين؟ والظهر والعصر أربعاً أربعاً والمغرب ثلاثاً والعشاء الآخرة أربعاً؟ ومن أين يعلم علة ترتيب الأذان على ما هو عليه؟ وكيف تعرف علة تنزيل مناسك الحج على صورتها ومطرد العمل بها؟ ونحو هذا كثير جداً. ولست تجد شيئاً مما علل به القوم وجوه الإعراب إلا والنفس تقبله، والحس منطو على الاعتراف به، ألا ترى أن عوارض ما يوجد في هذه اللغة شيء سبق وقت الشرع، وفزع إلى التحاكم فيه إلى بديهة الطبع، فجميع علل النحو إذاً مواطئة للطباع، وعلل الفقه لا ينقاد جميعها هذا الانقياد. فهذا فرق.
سؤال قوي: فإن قلت: فقد نجد في اللغة أشياء كثيرة غير محصاة ولا محصلة، لا نعرف لها سبباً ولا نجد إلى الإحاطة بعللها مذهباً. فمن ذلك إهمال ما أهمل، وليس في القياس ما يدعو إلى إهماله، وهذا أوسع من أن يحوج إلى ذكر طرف منه، ومنه الاقتصار في بعض الأصول على بعض المثل، ولا نعلم قياسا يدعو إلى تركه، نحو امتناعهم أن يأتوا في الرباعي بمثال فَعلُل أو فُعلِل، أو فَعَل أو فِعِل، أو فُعُل، ونحو ذلك. وكذلك اقتصارهم في الخماسي على الأمثلة الأربعة دون غيرها مما تجوزه القسمة. ومنه أن عدلوا فُعَلا عن فاعل، في أحرف محفوظة. وهي ثعل، وزحل، وغدر، وعمر، وزفر، وجشم، وقثم، وما يقل تعداده. ولم يعدلوا في نحو مالك وحاتم وخالد وغير ذلك، فيقولوا: مُلك ولا حُتم ولا خُلد. ولسنا نعرف سبباً أوجب هذا العدل في هذه الأسماء التي أريناكها دون غيرها، فإن كنت تعرفه فهاته.
فإن قلت: إن العدل ضرب من التصرف، وفيه إخراج للأصل عن بابه إلى الفرع، وما كانت هذه حاله أقنع منه البعض ولم يجب أن يشيع في الكل.
قيل: فهبنا سلمنا ذلك لك تسليم نظر، فمن لك بالإجابة عن قولنا: فهلا جاء هذا العدل في حاتم ومالك وخالد وصالح ونحوها؟ دون ثاعل وزاحل وغادر وعامر وزافر وجاشم وقاثم؟ ألك ههنا نفق فتسلكه، أو مرتفق فتتوركه، وهل غير أن تخلد إلى حيرة الإجبال، وتخمد نار الفكر حالاً على حال! ولهذا ألف نظير، بل ألوف كثيرة ندع الإطالة بأيسر اليسير منها.
وبعد فقد صح ووضح أن الشريعة إنما جاءت من عند الله تعالى، ومعلوم أنه سبحانه لا يفعل شيئاً إلا ووجه المصلحة والحكمة قائم فيه، وإن خفيت عنا أغراضه ومعانيه، وليست كذلك حال هذه اللغة، ألا ترى إلى قوة تنازع أهل الشريعة فيها، وكثرة الخلاف في مباديها، ولا تقطع فيها بيقين، ولا من الواضع لها، ولا كيف وجه الحكمة في كثير مما أريناه آنفاً من حالها، وما هذه سبيله لا يبلغ شأو ما عرف الآمر به -سبحانه وجل جلاله- وشهدت النفوس، واطردت المقاييس على أنه أحكم الحاكمين سبحانه.
انقضى السؤال.
قيل: لعمري إن هذه أسئلة تلزم من نصب نفسه لما نصبنا أنفسنا من هذا الموقف له. وههنا أيضاً من السؤالات أضعاف أضعافه، غير أنه لا ينبغي أن يعطى فيها باليد. بل يجب أن ينعم الفكر فيها، ويكاس في الإجابة عنها. فأول ذلك أنا لسنا ندعي أن علل أهل العربية في سمت العلل الكلامية البتة، بل ندعي أنها أقرب إليها من العلل الفقهية، وإذا حكمنا بديهة العقل، وترافعنا إلى الطبيعة والحس، فقد وفينا الصنعة حقها، وربأنا بها أفرع مشارفها. وقد قال سيبويه: «وليس شيء مما يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً». وهذا أصل يدعو إلى البحث عن علل ما استكرهوا عليه، نعم ويأخذ بيدك إلى ما وراء ذلك فتستضيء به، وتستمد التنبه على الأسباب المطلوبات منه. ونحن نجيب عما مضى ونورد معه وفي أثنائه ما يستعان به، ويفزع فيما يدخل من الشبه إليه، بمشيئة الله وتوفيقه.
أما إهمال ما أهمل، مما تحتمله قسمة التركيب في بعض الأصول المتصورة، أو المستعملة، فأكثره متروك للاسثتقال، وبقيته ملحقة به، ومقفاة على إثره. فمن ذلك ما رفض استعماله لتقارب حروفه، نحو سص وطس وظث وثظ وضش وشض، وهذا حديث واضح، لنفور الحس عنه، والمشقة على النفس لتكلفه. وكذلك نحو قج وجق وكق وقك وكج وجك. وكذلك حروف الحلق: هي من الائتلاف أبعد، لتقارب مخارجها عن معظم الحروف، أعني حروف الفم. فإن جمع بين اثنين منها قدم الأقوى على الأضعف، نحو أهل وأحد وأخ وعهد وعهر، وكذلك متى تقارب الحرفان لم يجمع بينهما إلا بتقديم الأقوى منهما، نحو أرل ووتد ووطد. يدل على أن الراء أقوى من اللام أن القطع عليها أقوى من القطع على اللام. وكأن ضعف اللام إنما أتاها لما تشربه من الغنة عند الوقوف عليها، ولذلك لا تكاد تعتاص اللام، وقد ترى إلى كثرة اللثغة في الراء في الكلام، وكذلك الطاء والتاء، هما أقوى من الدال، وذاك لأن جرس الصوت بالتاء والطاء، عند الوقوف عليهما، أقوى منه وأظهر عند الوقوف على الدال. وأنا أرى أنهم إنما يقدمون الأقوى من المتقاربين، من قبل أن جمع المتقاربين يثقل على النفس، فلما اعتزموا النطق بهما، قدموا أقواهما لأمرين: أحدهما أن رتبة الأقوى أبدا أسبق وأعلى، والآخر أنهم إنما يقدمون الأثقل ويؤخرون الأخف من قبل أن المتكلم في أول نطقه أقوى نفساً، وأظهر نشاطاً، فقدم أثقل الحرفين، وهو على أجمل الحالين كما رفعوا المبتدأ لتقدمه، فأعربوه بأثقل الحركات وهي الضمة، وكما رفعوا الفاعل لتقدمه، ونصبوا المفعول لتأخره، فإن هذا أحد ما يحتج به في المبتدأ والفاعل. فهذا واضح كما تراه.
وأما ما رفض أن يستعمل وليس فيه إلا ما استعمل من أصله فعنه السؤال، وبه الاشتغال. وإن أنصفت نفسك فيما يرد عليك فيه حليت به وأنقت له، وإن تحاميت الإنصاف، وسلكت سبيل الانحراف، فذاك إليك ولكن جنايته عليك.
"جواب قوي": اعلم أن الجواب عن هذا الباب تابع لما قبله، وكالمحمول على حكمه. وذلك أن الأصول ثلاثة: ثلاثي، ورباعي، وخماسي. فأكثرها استعمالاً، وأعدلها تركيباً، الثلاثي. وذلك لأنه حرف يبتدأ به وحرف يحشى به وحرف يوقف عليه. وليس اعتدال الثلاثي لقلة حروفه حسب، لو كان كذلك لكان الثنائي أكثر منه، لأنه أقل حروفاً، وليس الأمر كذلك، ألا ترى أن جميع ما جاء من ذوات الحرفين جزء لا قدر له فيما جاء من ذوات الثلاثة، نحو من، وفي، وعن، وهل، وقد، وبل، وكم، ومن، وإذ، وصه، ومه. ولو شئت لأثبت جميع ذلك في هذه الورقة. والثلاثي عارياً من الزيادة، وملتبساً بها، مما يبعد تداركه، وتتعب الإحاطة به. فإذا ثبت ذلك عرفت منه، وبه أن ذوات الثلاثة لم تتمكن في الاستعمال لقلة عددها حسب، ألا ترى إلى قلة الثنائي، وأقل منه ما جاء على حرف واحد، كحرف العطف، وفائه، وهمزة الاستفهام، ولام الابتداء، والجر، والأمر، وكاف رأيتك، وهاء رأيته. وجميع ذلك دون باب كم، وعن، وصه. فتمكن الثلاثي إنما هو لقلة حروفه، لعمري، ولشيء آخر وهو حجز الحشو الذي هو عينه، بين فائه ولامه، وذلك لتباينهما، ولتعادي حاليهما، ألا ترى أن المبتدأ لا يكون إلا متحركاً، وأن الموقوف عليه لا يكون إلا ساكناً، فلما تنافرت حالاهما، وسطوا العين حاجزاً بينهما لئلا، يفجئوا الحس بضد ما كان آخذاً فيه، ومنصباً إليه.
فإن قلت: فإن ذلك الحرف الفاصل لما ذكرت بين الأول والآخر -وهو العين- لا يخلو أن يكون ساكناً أو متحركاً. فإن كان ساكناً فقد فصلت عن حركة الفاء إلى سكونه، وهذا هو الذي قدمت ذكر الكراهة له، وإن كان متحركاً فقد فصلت عن حركته إلى سكون اللام الموقوف عليها، وتلك حال ما قبله في انتفاض حال الأول بما يليه من بعده.
فالجواب أن عين الثلاثي إذا كانت متحركة، والفاء قبلها كذلك فتوالت الحركتان، حدث هناك لتواليهما ضرب من الملال لهما، فاستروح حينئذ إلى السكون، فصار ما في الثنائي من سرعة الانتفاض معيفاً مأبيا، في الثلاثي خفيفاً مرضياً، وأيضاً فإن المتحرك حشوا ليس كالمتحرك أولاً، أولا ترى إلى صحة جواز تخفيف الهمزة حشواً، وامتناع جواز تخفيفها أولاً، وإذا اختلفت أحوال الحروف حسن التأليف، وأما إن كانت عين الثلاثي ساكنة فحديثها غير هذا. وذلك أن العين إذا كانت ساكنة فليس سكونها كسكون اللام. وسأوضح لك حقيقة ذلك، لتعجب من لطف غموضه. وذلك أن الحرف الساكن ليست حاله إذا أدرجته إلى ما بعده كحاله لو وقفت عليه. وذلك لأن من الحروف حروفاً إذا وقفت عليها لحقها صويت ما من بعدها، فإذا أدرجتها إلى ما بعدها ضعف ذلك الصويت، وتضاءل للحس، نحو قولك اِح، اِص، اِث، اِف، اِخ، اِك. فإذا قلت: يحرد، ويصبر، ويسلم، ويثرد، ويفتح، ويخرج، خفى ذلك الصويت وقل، وخف ما كان له من الجرس عند الوقوف عليه. وقد تقدم سيبويه في هذا المعنى بما هو معلوم واضح. وسبب ذلك عندي أنك إذا وقفت عليه ولم تتطاول إلى النطق بحرف آخر من بعده تلبثت عليه، ولم تسرع الانتقال عنه، فقدرت بتلك اللبثة، على إتباع ذلك الصوت إياه. فأما إذا تأهبت للنطق بما بعده، وتهيأت له، ونشمت فيه، فقد حال ذلك بينك وبين الوقفة التي يتمكن فيها من إشباع ذلك الصويت، فيستهلك إدراجك إياه طرفاً من الصوت الذي كان الوقف يقره عليه ويسوغك إمدادك إياه به.
ونحو من هذا ما يحكى أن رجلاً من العرب بايع أن يشرب علبة لبن ولا يتنحنح، فلما شرب بعضه كده الأمر، فقال: كبش أملح. فقيل له: ما هذا؟ تنحنحت. فقال: من تنحنح، فلا أفلح. فنطق بالحاءات كلها سواكن غير متحركة، ليكون ما يتبعها من ذلك الصويت عوناً له على ما كده وتكاءده. فإذا ثبت بذلك أن الحرف الساكن حاله في إدراجه، مخالفة لحاله في الوقوف عليه، ضارع ذلك الساكن المحشو به المتحرك، لما ذكرناه من إدراجه، لأن أصل الإدراج للمتحرك إذ كانت الحركة سبباً له، وعوناً عليه، ألا ترى أن حركته تنتقصه ما يتبعه من ذلك الصويت نحو قولك صبر، وسلم. فحركة الحرف تسلبه الصوت الذي يسعفه الوقف به، كما أن تأهبك للنطق بما بعده يستهلك بعضه. فأقوى أحوال ذلك الصويت عندك أن تقف عليه، فتقول: اص. فإن أنت أدرجته انتقصته بعضه، فقلت: اصبر، فإن أنت حركته اخترمت الصوت البتة، وذلك قولك صبر. فحركة ذلك الحرف تسلبه ذلك الصوت البتة، والوقوف عليه يمكنه فيه، وإدراج الساكن يبقي عليه بعضه. فعلمت بذلك مفارقة حال الساكن المحشو به، لحال أول الحرف وآخره، فصار الساكن المتوسط لما ذكرنا، كأنه لا ساكن ولا متحرك، وتلك حال تخالف حالي ما قبله وما بعده، وهو الغرض الذي أريد منه، وجيء به من أجله، لأنه لا يبلغ حركة ما قبله فيجفو تتابع المتحركين، ولا سكون ما بعده فيفجأ بسكونه المتحرك الذي قبله، فينقض عليه جهته وسمته. فتلك إذاً ثلاث أحوال متعادية لثلاثة أحرف متتالية، فكما يحسن تألف الحروف المتفاوتة، كذلك يحسن تتابع الأحوال المتغايرة، على اعتدال وقرب، لا على إيغال في البعد. لذلك كان مثال فعل أعدل الأبنية، حتى كثر وشاع وانتشر. وذلك أن فتحة الفاء، وسكون العين، وإسكان اللام، أحوال مع اختلافها متقاربة، ألا ترى إلى مضارعة الفتحة للسكون في أشياء. منها أن كل واحد منهما يهرب إليه مما هو أثقل منه، نحو قولك في جمع فُعلة، وفِعلة: فعلات بضم العين، نحو غرفات، وفعلات بكسرها، نحو كسرات، ثم يسثقل توالي الضمتين والكسرتين، فيهرب عنهما تارة إلى الفتح، فتقول: غرَفات، وكسَرات، وأخرى إلى السكون، فتقول: غُرفات، وكِسرات. أفلا تراهم كيف سووا بين الفتحة والسكون في العدول عن الضمة والكسرة إليهما. ومنها أنهم يقولون في تكسير ما كان من فعل ساكن العين وهي واو على فعال، بقلب الواو ياء، نحو: حوض، وحياض، وثوب، وثياب. فإذا كانت واو واحده متحركة، صحت في هذا المثال من التكسير، نحو: طويل، وطوال. فإذا كانت العين من الواحد مفتوحة اعتلت في هذا المثال كاعتلال الساكن نحو: جواد، وجياد. فجرت واو جواد مجرى واو ثوب. فقد ترى إلى مضارعة الساكن للمفتوح. وإذا كان الساكن من حيث أرينا كالمفتوح كان بالمسكن أشبه. فلذلك كان مثال فعل أخف، وأكثر من غيره، لأنه إذا كان مع تقارب أحواله مختلفها، كان أمثل من التقارب بغير خلاف، أو الاتفاق البتة والاشتباه. ومما يدلك على أن الساكن إذا أدرج ليست له حال الموقوف عليه أنك قد تجمع في الوقف بين الساكنين، نحو: بكر، وعمرو، فلو كانت حال سكون كاف بكر كحال سكون رائه، لما جاز أن تجمع بينهما، من حيث كان الوقف للسكون على الكاف كحاله لو لم يكن بعده شيء. فكان يلزمك حينئذ أن تبتديء بالراء ساكنة، والابتداء بالساكن ليس في هذه اللغة العربية. لا بل دل ذلك على أن كاف بكر لم تتمكن في السكون تمكن ما يوقف عليه، ولا يتطاول إلى ما وراءه. ويزيد في بيان ذلك أنك تقول في الوقف النفس، فتجد السين أتم صوتاً من الفاء، فإن قلبت فقلت: النسف وجدت الفاء أتم صوتاً، وليس هنا أمر يصرف هذا إليه، ولا يجوز حمله عليه، إلا زيادة الصوت عند الوقوف على الحرف البتة. وهذا برهان ملحق بالهندسي في الوضوح والبيان.
فقد وضح إذاً بما أوردناه وجه خفة الثلاثي من الكلام، وإذا كان كذلك فذوات الأربعة مستثقلة غير متمكنة تمكن الثلاثي، لأنه إذا كان الثلاثي أخف وأمكن من الثنائي -على قلة حروفه- فلا محالة أنه أخف وأمكن من الرباعي لكثرة حروفه. ثم لا شك فيما بعد، في ثقل الخماسي، وقوة الكلفة به. فإذا كان كذلك ثقل عليهم مع تناهيه، وطوله، أن يستعملوا في الأصل الواحد جميع ما ينقسم إليه به جهات تركيبه. ذلك أن الثلاثي يتركب منه ستة أصول، نحو: جعل، جلع، عجل، علج، لجع، لعج. والرباعي يتركب منه أربعة وعشرون أصلاً، وذلك أنك تضرب الأربعة في التراكيب التي خرجت عن الثلاثي وهي ستة فيكون ذلك أربعة وعشرين تركيباً، المستعمل منها قليل، وهي: عقرب، وبرقع، وعرقب، وعبقر، وإن جاء منه غير هذه الأحرف فعسى أن يكون ذلك، والباقي كله مهمل. وإذا كان الرباعي مع قربه من الثلاثي إنما استعمل منه الأقل النزر، فما ظنك بالخماسي على طوله وتقاصر الفعل الذي هو مئنة من التصريف والتنقل عنه. فلذلك قل الخماسي أصلاً. نعم ثم لا تجد أصلاً مما ركب منه قد تصرف فيه بتغيير نظمه ونضده، كما تصرف في باب عقرب، وبِرقِع، وبُرقُع، ألا ترى أنك لا تجد شيئاً من نحو سفرجل قالوا فيه سرفجل ولا نحو ذلك، مع أن تقليبه يبلغ به مائة وعشرين أصلاً، ثم لم يستعمل من جميع ذلك إلا سفرجل وحده. فأما قول بعضهم زبردج، فقلب لحق الكلمة ضرورة في بعض الشعر ولا يقاس. فدل ذلك على استكراههم ذوات الخمسة لإفراط طولها، فأوجبت الحال الإقلال منها، وقبض اللسان عن النطق بها، إلا فيما قل ونزر، ولما كانت ذوات الأربعة تليها، وتتجاوز أعدل الأصول -وهو الثلاثي- إليها، مسها بقرباها منها قلة التصرف فيها، غير أنها في ذلك أحسن حالاً من ذوات الخمسة، لأنها أدنى إلى الثلاثة منها. فكان التصرف فيها دون تصرف الثلاثي، وفوق تصرف الخماسي. ثم إنهم لما أمسوا الرباعي طرفاً صالحاً من إهمال أصوله، وإعدام حال التمكن في تصرفه، تخطوا بذلك إلى إهمال بعض الثلاثي، لا من أجل إجفاء تركبه بتقاربه، نحو سص، وصس، ولكن من قبل أنهم حذوه على الرباعي، كما حذوا الرباعي على الخماسي، ألا ترى أن لجع لم يترك استعماله لثقله من حيث كانت اللام أخت الراء والنون، وقد قالوا نجع فيه، ورجع عنه، واللام أخت الحرفين، وقد أهملت في باب اللجع، فدل على أن ذلك ليس للاستثقال، وثبت أنه لما ذكرناه من إخلالهم ببعض أصول الثلاثي، لئلا يخلو هذا الأصل من ضرب من الإجماد له، مع شياعه واطراده في الأصلين اللذين فوقه، كما أنهم لم يخلو ذوات الخمسة من بعض التصرف فيها، وذلك ما استعملوه من تحقيرها، وتكسيرها، وترخيمها، نحو قولك في تحقير سفرجل: سفيرج، وفي تكسيره: سفارج، وفي ترخيمه -علما- يا سفرج أقبل، وكما أنهم لما أعربوا المضارع، لشبهه باسم الفاعل تخطوا ذاك أيضاً إلى أن شبهوا الماضي بالمضارع فبنوه على الحركة، لتكون له مزية على ما لا نسبة بينه وبين المضارع، أعني مثال أمر المواجه. فاسم الفاعل في هذه القضية كالخماسي، والمضارع كالرباعي، والماضي كالثلاثي. وكذلك أيضاً الحرف في استحقاقه البناء كالخماسي في استكرارهم إياه، والمضمر في إلحاقهم إياه ببنائه كالرباعي في إقلالهم تصرفه، والمنادي المفرد المعرفة في إلحاقه في البناء بالمضمر كالثلاثي في منع بعضه التصرف، وإهماله البتة، ولهذا التنزيل نظائر كثيرة. فأما قوله:
فإنه ليس بأصل، إنما أبدلت الضاد من اضطجع لاماً، فاعرفه.
فقد عرفت إذاً أن ما أهمل من الثلاثي لغير قبح التأليف، نحو ضث، وثض، وثذ، وذث، إنما هو لأن محله
من الرباعي محل الرباعي من الخماسي، فأتاه ذلك القدر من الجمود، من حيث ذكرنا، كما أتى الخماسي ما فيه من التصرف في التكسير، والتحقير، والترخيم، من حيث كان محله من الرباعي محل الرباعي من الثلاثي. وهذا عادة للعرب مألوفة، وسنة مسلوكة: إذا أعطوا شيئاً من شيء حكماً ما قابلوا ذلك بأن يعطوا المأخوذ منه حكماً من أحكام صاحبه، عمارة لبينهما، وتتميماً للشبه الجامع لهما. وعليه باب ما لا ينصرف، ألا تراهم لما شبهوا الاسم بالفعل فلم يصرفوه، كذلك شبهوا الفعل بالاسم فأعربوه.
وإذ قد ثبت ما أردناه: من أن الثلاثي في الإهمال محمول على حكم الرباعي فيه، لقربه من الخماسي، بقي علينا أن نورد العلة التي لها استعمل بعض الأصول من الثلاثي، والرباعي، والخماسي، دون بعض، وقد كانت الحال في الجميع متساوية. والجواب عنه ما أذكره.
اعلم أن واضع اللغة لما أراد صوغها، وترتيب أحوالها، هجم بفكره على جميعها، ورأى بعين تصوره وجوه جملها، وتفاصيلها، وعلم أنه لا بد من رفض ما شنع تألفه منها، نحو هع، وقج، وكق، فنفاه عن نفسه، ولم يمرره بشيء من لفظه، وعلم أيضاً أن ما طال وأمل بكثرة حروفه لا يمكن فيه من التصرف ما أمكن في أعدل الأصول، وأخفها، وهو الثلاثي. وذلك أن التصرف في الأصل وإن دعا إليه قياس -وهو الاتساع به في الأسماء، والأفعال، والحروف-، فإن هناك من وجه آخر ناهياً عنه، وموحشاً منه، وهو أن في نقل الأصل إلى أصل آخر، نحو صبر، وبصر، وصرب، وربص، صورة الإعلال نحو قولهم "ما أطيبه وأيطبه" "واضمحل وامضحل" "وقسي وأينق" وقوله:
وهذا كله إعلال لهذه الكلم وما جرى مجراها. فلما كان انتقالهم من أصل إلى أصل نحو صبر، وبصر، مشابهاً للإعلال من حيث ذكرنا، كان من هذا الوجه كالعاذر لهم في الامتناع من استيفاء جميع ما تحتمله قسمة التركيب في الأصول. فلما كان الأمر كذلك، واقتضت الصورة رفض البعض، واستعمال البعض، وكانت الأصول ومواد الكلم معرضة لهم، وعارضة أنفسها على تخيرهم، جرت لذلك عندهم مجرى مال ملقى بين يدي صاحبه، وقد أجمع إنفاق بعضه دون بعضه، فميز رديئه وزائفه، فنفاه البتة، كما نفوا عنهم تركيب ما قبح تأليفه، ثم ضرب بيده إلى ما أطف له من عرض جيدة، فتناوله للحاجة إليه، وترك البعض لأنه لم يرد استيعاب جميع ما بين يديه منه، لما قدمنا ذكره، وهو يرى أنه لو أخذ ما ترك، مكان أخذ ما أخذ، لأغنى عن صاحبه ولأدى، في الحاجة إليه تأديته، ألا ترى أنهم لو استعملوا لجع مكان نجع، لقام مقامه، وأغنى مغناه. ثم لا أدفع أيضاً أن تكون في بعض ذلك أغراض لهم، عدلوا إليه لها، ومن أجلها، فإن كثيراً من هذه اللغة وجدته مضاهياً بأجراس حروفه أصوات الأفعال التي عبر بها عنها، ألا تراهم قالوا قضم في اليابس، وخضم في الرطب، ذلك لقوة القاف وضعف الخاء، فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى، والصوت الأضعف للفعل الأضعف. وكذلك قالوا: صر الجندب، فكرروا الراء لما هناك من استطالة صوته، وقالوا: صرصر البازي، فقطعوه، لما هناك من تقطيع صوته، وسموا الغراب غاق حكاية لصوته، والبط بطاً حكاية لأصواتها، وقالوا "قط الشيء" إذا قطعه عرضاً، "وقده" إذا قطعه طولاً، وذلك لأن منقطع الطاء أقصر مدة من منقطع الدال. وكذلك قالوا "مد الحبل"، "ومت إليه بقرابة"، فجعلوا الدال -لأنها مهجورة- لما فيه علاج، وجعلوا التاء -لأنها مهموسة- لما لا علاج فيه، وقالوا: الخذأ -بالهمزة- في ضعف النفس، والخذا -غير مهموز- في استرخاء الأذن، يقال: أذن خذواء، وآذان خذو، ومعلوم أن الواو لا تبلغ قوة الهمزة. فجعلوا الواو -لضعفها- للعيب في الأذن، والهمزة -لقوتها- للعيب في النفس، من حيث كان عيب النفس أفحش من عيب الأذن. وسنستقصي هذا الموضع -فإنه عظيم شريف- في باب نفرده به.
نعم، وقد يمكن أن تكون أسباب التسمية تخفى علينا لبعدها في الزمان عنا، ألا ترى إلى قول سيبويه: «أو لعل الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر»، يعني أن يكون الأول الحاضر شاهد الحال، فعرف السبب الذي له، ومن أجله ما وقعت عليه التسمية، والآخر -لبعده عن الحال- لم يعرف السبب للتسمية، ألا ترى إلى قولهم للإنسان إذا رفع صوته: قد رفع عقيرته، فلو ذهبت تشتق هذا بأن تجمع بين معنى الصوت، وبين معنى "ع ق ر" لبعد عنك، وتعسفت. وأصله أن رجلاً قطعت إحدى رجليه، فرفعها، ووضعها الأخرى، ثم صرخ بأرفع صوته، فقال الناس: رفع عقيرته. وهذا مما ألزمه أبو بكر أبا إسحاق فقبله منه ولم يردده. والكلام هنا أطول من هذا، لكن هذا مقاده، فأعلق يدك بما ذكرناه: من أن سبب إهمال ما أهمل، إنما هو لضرب من ضروب الاستخفاف، لكن كيف؟ ومن أين؟ فقد تراه على ما أوضحناه. فهذا الجواب عن إهمالهم ما أهملوه، من محتمل القسمة لوجوه التراكيب، فاعرفه، ولا تستطله، فإن هذا الكتاب ليس مبنياً على حديث وجوه الإعراب، وإنما هو مقام القول على أوائل أصول هذا الكلام، وكيف بديء وإلام نحي. وهو كتاب يتساهم ذوو النظر: من المتكلمين، والفقهاء، والمتفلسفين، والنحاة، والكتاب، والمتأدبين، التأمل له، والبحث عن مستودعه، فقد وجب أن يخاطب كل إنسان منهم بما يعتاده، ويأنس به، ليكون له سهم منه، وحصة فيه! وأما ما أورده السائل في أول هذا السؤال، الذي نحن منه على سمت الجواب، من علة امتناعهم من تحميل الأصل الذي استعلموا بعض مثله ورفضهم بعضا، نحو امتناعهم أن يأتوا في الرباعي بمثال فَعلُل وفَعلِل وفُعلَل -في غير قول أبي الحسن- فجوابه نحو من الذي قدمناه: من تحاميهم فيه الاستثقال، وذلك أنهم كما حموا أنفسهم من استيعاب جميع ما تحتمله قسمة تراكيب الأصول، من حيث قدمنا وأرينا، كذلك أيضاً توقفوا عن استيفاء جميع تراكيب الأصول من حيث كان انتقالك في الأصل الواحد رباعياً، كان أو خماسياً، من مثال إلى مثال، في النقص والاختلال، كانتقالك في المادة الواحدة من تركيب إلى تركيب، أعني به حال التقديم والتأخير، لكن الثلاثي جاء فيه لخفته جميع ما تحتمله القسمة، وهي الاثنا عشر مثالاً، إلا مثالاً واحداً فإنه رفض أيضاً لما نحن عليه من حديث الاستثقال، وهو فِعُل، وذلك لخروجهم فيه من كسر إلى ضم. وكذلك ما امتنعوا من بنائه في الرباعي -وهو فِعلُل- هو لاستكراههم الخروج من كسر إلى ضم، وإن كان بينهما حاجز لأنه ساكن، فضعف لسكونه عن الاعتداد به حاجزاً، على أن بعضهم حكى زئبر، وضئبل، وخرفع، وحكيت عن بعض البصريين "إصبع"، وهذه ألفاظ شاذة لا تعقد باباً، ولا يتخذ مثلها قياساً. وحكى بعض الكوفيين ما رأيته مذست، وهذا أسهل -وإن كان لا حاجز بين الكسر والضم- من حيث كانت الضمة غير لازمة، لأن الوقف يستهلكها، ولأنها أيضاً من الشذوذ بحيث لا يعقد عليها باب.
فإن قلت: فما بالهم كثر عنهم باب فُعُل، نحو عنق، وطنب، وقل عنهم باب فِعِل، نحو إبل، وإطل مع أن الضمة أثقل من الكسرة؟ فالجواب عنه من موضعين: أحدهما أن سيبويه قال: «واعلم أنه قد يقل الشيء في كلامهم وغيره أثقل منه كل ذلك لئلا يكثر في كلامهم ما يستثقلون» فهذا قول، والآخر أن الضمة، وإن كانت أثقل من الكسرة، فإنها أقوى منها، وقد يحتمل للقوة ما لا يحتمل للضعف، ألا ترى إلى احتمال الهمزة مع ثقلها للحركات، وعجز الألف عن احتماله،ن وإن كانت خفيفة لضعفها، وقوة الهمزة. وإنما ضعفت الكسرة عن الضمة لقرب الياء من الألف، وبعد الواو عنها.
ومن حديث الاستثقال، والاستخفاف، أنك لا تجد في الثنائي -على قلة حروفه- ما أوله مضموم إلا القليل، وإنما عامته على الفتح، نحو هل، وبل، وقد، وأن، وعن، وكم، ومن، وفي المعتل أو، ولو، وكي، وأي، أو على الكسر، نحو إن، ومن، وإذ. وفي المعتل إي، وفي، وهي. ولا يعرف الضم في هذا النحو إلا قليلاً، قالوا: هو، وأما هم فمحذوفة من همو، كما أن مذ محذوفة من منذ. وأما هو من نحو قولك: رأيتهو، وكلمتهو، فليس شيئاً لأن هذه ضمة مشبعة في الوصل، ألا تراها يستهلكها الوقف، وواو هو في الضمير المنفصل ثابتة في الوقف والوصل. فأما قوله:
فللضرورة، والتشبيه للضمير المنفصل بالضمير المتصل في عصاه وقناه. فإن قلت: فقد قال:
فوقف بالواو، وليست اللفظة قافية، وقد قدمت أن هذه المدة مستهلكة في حال الوقف، قيل: هذه اللفظة وإن لم تكن قافية، فيكون البيت بها مقفى، أو مصرعا، فإن العرب قد تقف على العروض نحواً من وقوفها على الضرب، أعني مخالفة ذلك لوقف الكلام المنثور غير الموزون، ألا ترى إلى قوله أيضاً:
فوقف بالتنوين خلافاً على الوقف في غير الشعر. فإن قلت: فأقصى حال قومه "كتيفتن" -إذ ليست قافية- أن تجري مجرى القافية في الوقف عليها، وأنت ترى الرواة أكثرهم على إطلاق هذه القصيدة ونحوها بحرف اللين للوصل، نحو قوله: ومنزلي، وحوملي، وشمألي، ومحملي، فقوله "كتيفتن" ليس على وقف الكلام ولا وقف القافية، قيل: الأمر على ما ذكرت من خلافه له، غير أن هذا أيضاً أمر يخص المنظوم دون المنثور، لاستمرار ذلك عنهم، ألا ترى إلى قوله:
وقوله:
وقوله
وفيها:
وأمثاله كثير. كل ذلك الوقوف على عروضه مخالف للوقوف على ضربه، ومخالف أيضاً لوقوف الكلام غير الشعر. ولم يذكر أحد من أصحابنا هذا الموضع في علم القوافي. وقد كان يجب أن يذكر ولا يهمل.
"رجع" وكذلك جميع ما جاء من الكلم على حرف واحد: عامته على الفتح، إلا الأقل، وذلك نحو همزة الاستفهام، وواو العطف، وفائه، ولام الابتداء، وكاف التشبيه، وغير ذلك. وقليل منه مكسور كباء الإضافة، ولامها، ولام الأمر، ولو عرى ذلك من المعنى الذي اضطره إلى الكسر لما كان مفتوحاً، ولا نجد في الحروف المنفردة ذوات المعاني ما جاء مضموماً، هرباً من ثقل الضمة. فأما نحو قولك: اقتل، ادخل،استقصي عليه، فأمره غير معتد، إذ كانت هذه الهمزة إنما يتبلغ بها في حال الابتداء، ثم يسقطها الإدراج الذي عليه مدار الكلام ومتصرفه.
فإن قلت: ومن أين يعلم أن العرب قد راعت هذا الأمر واستشفته، وعنيت بأحواله وتتبعته، حتى تحامت هذه المواضع التحامي الذي نسبته إليها، وزعمته مراداً لها؟ وما أنكرت أن يكون القوم أجفى طباعاً، وأيبس طيناً، من أن يصلوا من النظر إلى هذا القدر اللطيف الدقيق، الذي لا يصح لذي الرقة والدقة منا أن يتصوره إلا بعد أن توضح له أنحاؤه، بل أن تشرح له أعضاؤه؟ قيل له: هيهات! ما أبعدك عن تصور أحوالهم، وبعد أغراضهم ولطف أسرارهم، حتى كأنك لم ترهم وقد ضايقوا أنفسهم، وخففوا عن ألسنتهم، بأن اختلسوا الحركات اختلاساً، وأخفوها فلم يمكنوها في أماكن كثيرة ولم يشبعوها، ألا ترى إلى قراءة أبي عمرو «مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ» مختلساً، لا محققاً، وكذلك قوله عز وجل: «أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى» مخفي لا مستوفي، وكذلك قوله عز وجل: «فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُم» مختلساً غير ممكن كسر الهمزة، حتى دعا ذلك من لطف عليه تحصيل اللفظ، إلى أن ادعى أن أبا عمرو كان يسكن الهمزة، والذي رواه صاحب الكتاب اختلاس هذه الحركة، لاحذفها البتة، وهو أضبط لهذا الأمر من غيره من القراء الذين رووه ساكناً. ولم يؤت القوم في ذلك من ضعف أمانة، لكن أتوا من ضعف دراية. وأبلغ من هذا في المعنى ما رواه من قول الراجز:
بإشمام القاف من يؤرقني، ومعلوم أن هذا الإشمام إنما هو للعين لا للأذن، وليست هناك حركة البتة، ولو كانت فيه حركة لكسرت الوزن، ألا ترى أن الوزن من الرجز ولو اعتدت القاف متحركة لصار من الكامل. فإذا قنعوا من الحركة بأن يومئوا إليها بالآلة التي من عاداتها أن تستعمل في النطق بها، من غير أن يخرجوا إلى حس السمع شيئاً من الحركة، مشبعة ولا مختلسة، أعني إعمالهم الشفتين للإشمام في المرفوع، بغير صوت يسمع هناك، لم يبق وراء ذلك شيء يستدل به على عنايتهم بهذا الأمر، ألا ترى إلى مصارفتهم أنفسهم في الحركة على قلتها ولطفها، حتى يخرجوها تارة مختلسة غير مشبعة، وأخرى مشمة للعين لا للأذن. ومما أسكنوا فيه الحرف إسكاناً صريحاً ما أنشده من قوله:
بسكون النون البتة من "هنك". وأنشدنا أبو علي رحمه الله لجرير:
بسكون فاء تعرفكم، أنشدنا هذا بالموصل سنة إحدى وأربعين وقد سئل عن قول الشاعر:
وقال الراعي:
وعلى هذا حملوا بيت لبيد:
وبيت الكتاب:
وعليه ما أنشده من قوله:
واعتراض أبي العباس في هذا الموضع ي هذا الموضع إنما هو رد للرواية، وتحكم على السماع بالشهوة، مجردة من النصفة، ونفسه ظلم لا من جعله خصمه. وهذا واضح.
ومنه إسكانهم نحو رسل، وعجز، وعضد، وظرف، وكرم، وعلم، وكتف، وكبد، وعصر. واستمرار ذلك في المضموم والمكسور، دون المفتوح، أدل دليل -بفصلهم بين الفتحة وأختيها- على ذوقهم الحركات، واستثقالهم بعضها، واستخفافهم الآخر. فهل هذا ونحو إلا لإنعامهم النظر في هذا القدر اليسير، المحتقر من الأصوات، فكيف بما فوقه من الحروف التوام، بل الكلمة من جملة الكلام.
وأخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد القرميسيني عن أبي بكر محمد بن هارون الروياني، عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني، في كتابه الكبير في القراءات قال: قرأ علي أعرابي بالحرم: «طيبى لهم وحسن مآب» فقلت: طوبى فقال: طيبى فأعدت فقلت: طوبى، فقال: طيبى، فلما طال علي قلت: طوطو، قال: طي طي. أفلا ترى إلى هذا الأعرابي وأنت تعتقده جافياً كراً، لا دمثاً ولا طيعاً، كيف نبا طبعه عن ثقل الواو إلى الياء فلم يؤثر فيه التلقين، ولا ثنى طبعه عن التماس الخفة هز ولا تمرين، وما ظنك به إذا خلي مع سومه، وتساند إلى سليقيته ونجره.
وسألت يوماً أبا عبد الله محمد بن العساف العقيلي الجوثي، التميمي -تميم جوثة- فقلت له: كيف تقول: ضربت أخوك؟ فقال أقول: ضربت أخاك. فأدرته على الرفع، فأبى، وقال: لا أقول: أخوك أبداً.
قلت: فكيف تقول ضربني أخوك، فرفع. فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبداً؟ فقال: أيش هذا! اختلفت جهتا الكلام. فهل هذا إلا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام، وإعطائهم إياه في كل موضع حقه، وحصته من الإعراب، عن ميزة وعلى بصيرة، وأنه ليس استرسالا، ولا ترجيماً. ولو كان كما توهمه هذا السائل لكثر اختلافه، وانتشرت جهاته، ولم تنقد مقاييسه. وهذا موضع نفرد له باباً بإذن الله تعالى فيما بعد. وإنما أزيد في إيضاح هذه الفصول من هذا الكتاب لأنه موضع الغرض: فيه تقرير الأصول، وإحكام معاقدها، والتنبيه على شرف هذه اللغة، وسداد مصادرها، ومواردها، وبه وبأمثاله تخرج أضغانها، وتبعج أحضانها، ولا سيما هذا السمت الذي نحن عليه، ومرزون إليه،
فاعرفه، فإن أحداً لم يتكلف الكلام على علة إهمال ما أهمل، واستعمال ما استعمل. وجماع أمر القول فيه، والاستعانة على إصابة غروره ومطاويه، لزومك محجة القول بالاستثقال والاستخفاف، ولكن كيف، وعلام، ومن أين، فإنه باب يحتاج منك إلى تأن، وفضل بيان وتأت. وقد دققت لك بابه، بل خرقت بك حجابه. ولا تستطل كلامي في هذا الفصل، أو ترين أن المقنع فيه كان دون هذا القدر، فإنك إذا راجعته وأنعمت تأمله علمت أنه منبهة للحس، مشجعة للنفس.
وأما السؤال عن علة عدل عامر، وجاشم، وثاعل، وتلك الأسماء المحفوظة إلى فُعل: عمر، وجشم، وثعل، وزحل، وغدر، دون أن يكون هذا العدل في مالك، وحاتم، وخالد، نحو ذلك، فقد تقدم الجواب عنه فيما فرط: أنهم لم يخصوا ما هذه سبيله بالحكم دون غيره، إلا لاعتراضهم طرفاً مما أطف لهم من جملة لغتهم كما عن، وعلى ما اتجه، لا لأمر خص هذا دون غيره مما هذه سبيله، وعلى هذه الطريقة ينبغي أن يكون العمل فيما يرد عليك من السؤال عما هذه حاله، ولكن لا ينبغي أن تخلد إليها، إلا بعد السبر والتأمل، والإنعام والتصفح، فإن وجدت غدراً مقطوعاً به صرت إليه، واعتمدته، وإن تعذر ذلك، جنحت إلى طريق الاستخفاف والاستثقال، فإنك لا تعدم هناك مذهباً تسلكه، ومأماً تتورده. فقد أريتك في ذلك أشياء: أحدها استثقالهم الحركة التي هي أقل من الحرف، حتى أفضوا في ذلك إلى أن أضعفوها واختلسوها، ثم تجاوزوا ذلك إلى أن انتهكوا حرمتها فحذفوها، ثم ميلوا بين الحركات فأنحو على الضمة والكسرة لثقلهما، وأجموا الفتحة في غالب الأمر لخفتها، فهل هذا إلا لقوة نظرهم، ولطف استشفافهم، وتصفحهم.
أنشدنا مرة أبو عبد الله الشجري شعراً لنفسه، فيه بنو عوف، فقال له بعض الحاضرين: أتقول: بنو عوف، أم بني عوف؟ شكاً من السائل في بني وبنو، فلم يفهم الشجري ما أراده، وكان في ثنايا السائل فضل فرق، فأشبع الصويت الذي يتبع الفاء في الوقف، فقال الشجري، مستنكراً لذلك: «لا أقوى في الكلام على هذا النفخ».
وسألت غلاماً من آل المهيا فصيحاً عن لفظة من كلامه لا يحضرني الآن ذكرها، فقلت: أكذا، أم كذا؟ فقال: «كذا بالنصب لأنه أخف»، فجنح إلى الخفة، وعجبت من هذا مع ذكره النصب بهذا اللفظ.
وأظنه استعمل هذه اللفظة لأنها مذكورة عندهم في الإنشاد الذي يقال له النصب مما يتغنى به الركبان. وسنذكر فيما بعد باباً نفصل فيه بين ما يجوز السؤال عنه مما لا يجوز ذلك فيه بإذن الله.
ومما يدلك على لطف القوم، ورقتهم مع تبذلهم، وبذاذة ظواهرهم، مدحهم بالسباطة والرشاقة وذمهم بضدها من الغلطة والغباوة، ألا ترى إلى قولها:
وقول جميل في خبر له:
وقول عمر:
وإلى الأبيات المحفوظة في ذلك وهي قوله:
وأظن هذا الموضع لو جمع لجاء مجلداً عظيماً.
وحدثني أبو الحسن علي بن عمرو عقيب منصرفه من مصر هارباً متعسفاً، قال: أذم لنا غلام [أحسبه قال من طيء] من بادية الشام، وكان نجيباً متيقظاً، يكنى أبا الحسين ويخاطب بالأمير، فبعدنا عن الماء في بعض الوقت، فأضر ذلك بنا، قال فقال لنا ذلك الغلام: على رسلكم فإني أشم رائحة الماء. فأوقفنا بحيث كنا وأجرى فرسه، فتشرف ههنا مستشفاً، ثم عدل عن ذلك الموضع إلى آخر مستروحاً للماء، ففعل ذلك دفعات، ثم غاب عنا شيئاً وعاد إلينا، فقال: النجاة والغنيمة، سيروا على اسم الله تعالى، فسرنا معه قدراً من الأرض صالحاً، فأشرف بنا على بئر، فاستقينا، وأروينا. ويكفي من ذلك ما حكاه من قول بعضهم لصاحبه: ألا تا فيقول الآخر مجيباً له: بلى فا، وقول الآخر:
ثم تجاوزوا ذلك إلى أن قالوا: «رب إشارة أبلغ من عبارة»، نعم وقد يحذفون بعض الكلم استخفافاً، حذفاً يخل بالبقية، ويعرض لها الشبه، ألا ترى إلى قول علقمة:
أراد: بسبائب. وقول لبيد:
أراد المنازل. وقول الآخر:
يريد عبد الأشهل من الأنصار، وقول أبي داود:
أي تصيب بالحصى في جريها جنوبها وأراد الحباحب، وقال الأخطل:
قالوا: يريد منازلها، ويجوز أن يكون مناها قصدها.
ودع هذا كله، ألم تسمع إلى ما جاءوا به من الأسماء المستفهم بها، والأسماء المشروط بها، كيف أغنى الحرف الواحد عن الكلام الكثير، المتناهي في الأبعاد والطول، فمن ذلك قولك: كم مالك، ألا ترى أنه قد أغناك ذلك عن قولك: أعشرة مالك، أم عشرون، أم ثلاثون، أم مئة، أم ألف، فلو ذهبت تستوعب الأعداد لم تبلغ ذلك أبداً، لأنه غير متناه، فلما قلت: "كم"، أغنتك هذه اللفظة الواحدة عن تلك الإطالة غير المحاط بآخرها، ولا المستدركة. وكذلك أين بيتك، قد أغنتك "أين" عن ذكر الأماكن كلها.
وكذلك من عندك، قد أغناك هذا عن ذكر الناس كلهم. وكذلك متى تقوم، قد غنيت بذلك عن ذكر الأزمنة على بعدها. وعلى هذا بقية الأسماء من نحو: كيف، وأي، وأيان، وأنى. وكذلك الشرط في قولك: من يقم أقم معه، فقد كفاك ذلك من ذكر جميع الناس، ولولا هو لاحتجت أن تقول: إن يقم زيد أو عمرو أو جعفر أو قاسم، ونحو ذلك، ثم تقف حسيراً مبهورا، ولما تجد إلى غرضك سبيلاً. وكذلك بقية أسماء العموم في غير الإيجاب: نحو أحد، وديار، وكتيع، وأرم، وبقية الباب. فإذا قلت: هل عندك أحد أغناك ذلك عن أن تقول: هل عندك زيد، أو عمرو، أو جعفر، أو سعيد، أو صالح، فتطيل، ثم تقصر إقصار المعترف الكليل، وهذا وغيره أظهر أمراً، وأبدى صفحة وعنواناً. فجميع ما مضى وما نحن بسبيله، مما أحضرناه، أو نبهنا عليه فتركناه، شاهد بإيثار القوم قوة إيجازهم، وحذف فضول كلامهم. هذا مع أنهم في بعض الأحوال قد يمكنون ويحتاطون، وينحطون في الشق الذي يؤمون، وذلك في التوكيد نحو جاء القوم أجمعون، أكتعون، أبصعون، أبتعون، وقد قال جرير:
فزاد الزاد في آخر البيت توكيداً لا غير.
وقيل لأبي عمرو: أكانت العرب تطيل؟ فقال: نعم لتبلغ. قيل: أفكانت توجز؟ قال: نعم ليحفظ عنها. واعلم أن العرب -مع ما ذكرنا- إلى الإيجاز أميل، وعن الإكثار أبعد. ألا ترى أنها في حال إطالتها وتكريرها مؤذنة باستكراه تلك الحال وملالها، ودالة على أنها إنما تجشمتها لما عناها هناك وأهمها، فجعلوا ما في ذلك على العلم بقوة الكلفة فيه، دليلاً على إحكام الأمر فيما هم عليه.
ووجه ما ذكرناه من ملالتها الإطالة -مع مجيئها بها للضرورة الداعية إليها- أنهم لما أكدوا فقالوا: أجمعون، أكتعون، أبصعون، أبتعون، لم يعيدوا أجمعون البتة، فيكرروها فيقولوا: أجمعون، أجمعون، أجمعون، أجمعون، فعدلوا عن إعادة جميع الحروف إلى البعض تحامياً -مع الإطالة- لتكرير الحروف كلها.
فإن قيل: فلم اقتصروا على إعادة العين وحدها، دون سائر حروف الكلمة؟ قيل: لأنها أقوى في السجعة من الحرفين اللذين قبلها، وذلك أنها لام فهي قافية، لأنها آخر حروف الأصل، فجيء بها لأنها مقطع الأصول، والعمل في المبالغة والتكرير إنما هو على المقطع، لا على المبدأ، ولا المحشى.
ألا ترى أن العناية في الشعر إنما هي بالقوافي لأنها المقاطع، وفي السجع كمثل ذلك. نعم وآخر السجعة والقافية أشرف عندهم من أولها، والعناية بها أمس، والحشد عليها أوفى وأهم. وكذلك كلما تطرف الحرف في القافية ازدادوا عناية به، ومحافظة على حكمه.
ألا تعلم كيف استجاوزا الجمع بين الياء والواو ردفين، نحو: سعيد وعمود. وكيف استكرهوا اجتماعهما وصلين، نحو قوله: "الغراب الأسودو" مع قوله أو "مغتدى" وقوله في "غدى" وبقية قوافيها، وعلة جواز اختلاف الردف وقبح اختلاف الوصل هو حديث التقدم والتأخر لا غير. وقد أحكمنا هذا الموضع في كتابنا المعرب -وهو تفسير قوافي أبي الحسن- بما أغنى عن إعادته هنا. فلذلك جاءوا لما كرهوا إعادة جميع حروف أجمعين بقافيتها، وهي العين، لأنها أشهر حروفها، إذ كانت مقطعاً لها. فأما الواو والنون فزائدتان لا يعتدان لحذفهما في أجمع وجمع، وأيضاً فلأن الواو قد تترك فيه إلى الياء، نحو أجمعون وأجمعين. وأيضاً لثبات النون تارة وحذفها أخرى، في غير هذا الموضع، فلذلك لم يعتدا مقطعاً. فإن قلت: إن هذه النون إنما تحذف مع الإضافة، وهذه الأسماء التوابع، نحو "أجمعين وبابه" مما لم تسمع إضافته فالنون فيها ثابتة على كل حال، فهلا اقتصر عليها، وقفيت الكلم كلها بها.
قيل: إنها وإن لم يضف هذا الضرب من الأسماء، فإن إضافة هذا القبيل من الكلم في غير هذا الموضع مطردة منقادة، نحو: مسلموك، وضاربو زيد، وشاتمو جعفر، فلما كان الأكثر فيما جمع بالواو والنون إنما هو جواز إضافته حمل الأقل في ذلك عليه، وألحق في الحكم به.
فأما قولهم: أخذ المال بأجمعه، فليس أجمع هذا هو أجمع من قولهم: جاء الجيش أجمع، وأكلت الرغيف أجمع، من قبل أن أجمع هذا الذي يؤكد به، لا يتنكر هو ولا ما يتبعه أبداً، نحو أكتع، وجميع هذا الباب،وإذا لم يجز تنكيره كان من الإضافة أبعد، إذ لا سبيل إلى إضافة اسم إلا بعد تنكيره وتصوره كذلك. ولهذا لم يأت عنهم شيء من إضافة أسماء الإشارة، ولا الأسماء المضمرة، إذ ليس فيها ما ينكر. ويؤكد ذلك عندك أم قد قالوا في هذا المعنى: جاء القوم بأجمعهم بضم الميم فكما أن هذه غير تلك لا محالة، فكذلك المفتوحة الميم هي غير تلك. وهذا واضح.
وينبغي أن تكون "أجمع" هذه المضمومة العين جمعاً مكسراً، لا واحداً مفرداً، من حيث كان هذا المثال مما يخص التكسير دون الإفراد، وإذا كان كذلك فيجب أن يعرف خبر واحده ما هو. فأقرب ذلك إليه أن
يكون جمع "جمع" من قول الله سبحانه «سيهزم الجمع ويولون الدبر». ويجوز عندي أيضاً أن يكون جمع أجمع على حذف الزيادة، وعليه حمل أبو عبيدة قول الله تعالى «ولما بلغ أشده» أنه جمع أشد، على حذف الزيادة. قال: وربما استكرهوا على حذف هذه الزيادة في الواحد، وأنشد بيت عنترة:
أي أشد النهار، ويعني أعلاه وأمتعه، وذهب سيبويه في أشد هذه إلى أنها جمع شدة، كنعمة وأنعم. وذهب أبو عثمان فيما رويناه عن أحمد بن يحيى عنه إلى أنه جمع لا واحد له.
ثم لنعد فنقول: إنهم إذا كانوا في حال إكثارهم وتوكيدهم مستوحشين منه، مصانعين عنه علم أنهم إلى
الإيجاز أميل، وبه أعنى، وفيه أرغب، ألا ترى إلى ما في القرآن وفصيح الكلام: من كثرة الحذوف،
كحذف المضاف، وحذف الموصوف، والاكتفاء بالقليل من الكثير، كالواحد من الجماعة، وكالتلويح من
التصريح. فهذا ونحوه - مما يطول إيراده وشرحه - مما يزيل الشك عنك في رغبتهم فيما خف وأوجز،
عما طال وأمل، وأم متى اضطروا إلى الإطالة لداعي حاجة، أبانوا عن ثقلها عليهم، واعتدوا بما كلفوه من ذلك أنفسهم، وجعلوه كالمنبهة على فرط عنايتهم، وتمكن الموضع عندهم، وأنه ليس كغيره مما ليست له حرمته، ولا النفس معنية به.
نعم، ولو لم يكن في الإطالة في بعض الأحوال إلا الخروج إليها عما قد ألف ومل من الإيجاز لكان مقنعاً.
ألا ترى إلى كثرة غلبة الياء على الواو في عام الحال، ثم مع هذا فقد ملوا ذلك إلى أن قلبوا الياء واواً قلباً ساذجاً، أو كالساذج لا لشيء أكثر من الانتقال من حال إلى حال، فإن المحبوب إذا كثر مل، وقد قال النبي ﷺ: «يا أبا هريرة زر غباً تزدد حباً» والطريق في هذا بحمد الله واضحة مهيع. وذلك الموضع الذي قلبت فيه الياء واواً على ما ذكرنا لام فعلى إذا كانت اسماً من نحو: الفتوى، والرعوى، والثنوى، والبقوى، والتقوى، والشروى، والعوى "لهذا النجم". وعلى ذلك أو قريب منه قالوا: عوى الكلب عوة. وقالوا: الفتوة، وهي من الياء، وكذلك الندوة. وقالوا: هذا أمر ممضو عليه، وهي المضواء، وإنما هي من مضيت لا غير.
وقد جاء عنهم: رجل مهوب، وبر مكول، ورجل مسور به. فقياس هذا كله على قول الخليل أن يكون
مما قلبت فيه الياء واواً، لأنه يعتقد أن المحذوف من هذا ونحوه إنما هو واو مفعول لا عينه، وأنسه بذلك قولهم: قد هوب، وسور به، وكول.
واعلم أنا -مع ما شرحنا وعنينا به فأوضحناه من ترجيح علل النحو على علل الفقه، وإلحاقها بعلل الكلام- لا ندعي أنها تبلغ قدر علل المتكلمين، ولا عليها براهين المهندسين، غير أنا نقول: إن علل النحويين على ضربين: أحدهما واجب لا بد منه، لأن النفس لا تطيق في معناه غيره. والآخر ما يمكن
تحمله، إلا أنه على تجشم واستكراه له.
الأول -وهو ما لا بد للطبع منه- : قلب الألف واواً للضمة قبلها، وياء للكسرة قبلها. أما الواو فنحو قولك في سائر: سويئر، وفي ضارب: ضويرب. وأما الياء فنحو قولك في نحو تحقير قرطاس وتكسيره:
قريطيس، وقراطيس. فهذا ونحوه مما لا بد منه، من نقبل أنه ليس في القوة، ولا احتمال الطبيعة وقوع الألف المدة الساكنة بعد الكسرة ولا الضمة. فقلب الألف على هذا الحد علته الكسرة والضمة قبلها. فهذه علة برهانية ولا لبس فيها، ولا توقف للنفس عنها. وليس كذلك قلب واو عصفور ونحوه ياء إذا انكسر ما قبلها، نحو: عصيفير وعصافير، ألا ترى أنه قد يمكنك تحمل المشقة في تصحيح هذه الواو بعد الكسرة، وذلك بأن تقول عصيفور وعصافور. وكذلك نحو: موسر، وموقن، وميزان، وميعاد، لو أكرهت نفسك على تصحيح أصلها لأطاعتك عليه، وأمكنتك منه، وذلك قولك: موزان، وموعاد،
وميسر، وميقن. وكذلك ريح وقيل، قد كنت قادراً أن تقول: قول، وروح، لكن مجيء الألف بعد الضمة
أو الكسرة أو السكون محال، ومنها لا يكون. ومن المستحيل جمعك بين الألفين المدتين، نحو ما صار إليه
قلب لام كساء ونحوه قبل إبدال الألف همزة، وهو خطا كساا، أو قضاا، فهذا تتوهمه تقديراً ولا تلفظ به البتة. قال أبو إسحاق يوماً لخصم نازعه في جواز اجتماع الألفين المدتين -ومد الرجل الألف في نحو
هذا، وأطال- فقال له أبو إسحاق: لو مددتها إلى العصر ما كانت إلا ألفاً واحدة.
وعلة امتناع ذلك عندي أنه قد ثبت أن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً، فلو التقت ألفان مدتان لانتقضت القضية في ذلك، ألا ترى أن الألف الأولى قبل الثانية ساكنة، وإذا كان ما قبل الثانية ساكناً كان ذلك نقضاً في الشرط لا محالة. فأما قول أبي العباس في إنشاد سيبويه:
إنه خرج من باب الخطأ إلى باب الإحالة، لأن الحرف الواحد لا يكون ساكناً متحركاً في حال، فخطأ عندنا. وذلك أن الذي قال: "إذه من هواك" هو الذي يقول في الوصل: هي قامت، فيسكن الياء، وهي لغة معروفة، فإذا حذفها في الوصل اضطراراً واحتاج إلى الوقف ردها حينئذ فقال: هي، فصار الحرف المبدوء به غير الموقوف عليه، فلم يجب من هذا أن يكون ساكناً متحركاً في حال، وإنما كان قوله "إذه" على لغة من أسكن الياء لا لغة من حركها، من قبل أن الحذف ضرب من الإعلال، والإعلال إلى السواكن لضعفها أسبق منه إلى المتحركات لقوتها. وعلى هذا قبح قوله:
لأنه موضع يتحرك فيه الحرف في نحو قولك: لم يكن الحق.
وعلة جواز هذا البيت ونحوه، مما حذف فيه ما يقوى بالحركة، هي أن هذه الحركة إنما هي لالتقاء الساكنين، وأحداث التقائهما ملغاة غير معتدة، فكأن النون ساكنة، وإن كانت لو أقرت لحركت، فإن لم تقل بهذا لزمك أن تمتنع من إجماع العرب الحجازيين على قولهم: اردد الباب، واصبب الماء، واسلل السيف. وأن تحتج في دفع ذلك بأن تقول: لا أجمع بين مثلين متحركين. وهذا واضح.
ومن طريف حديث اجتماع السواكن شيء وإن كان في لغة العجم، فإن طريق الحس موضع تتلاقى عليه
طباع البشر، ويتحاكم إليه الأسود والأحمر، وذلك قولهم: "آرد" للدقيق و "ماست" للبن فيجمعون بين
ثلاثة سواكن. إلا أنني لم أر ذلك إلا فيما كان ساكنه الأول ألفاً، وذلك أن الألف لما قاربت بضعفها
وخفائها الحركة صارت "ماست" كأنها مست.
فإن قلت: فأجز على هذا الجمع بين الألفين المدتين، واعتقد أن الأولى منهما كالفتحة قبل الثانية.
قيل: هذا فاسد، وذلك أن الألف قبل السين في "ماست" إذا أنت استوفيتها أدتك إلى شيء آخر غيرها
مخالف لها، وتلك حال الحركة قبل الحرف: أن يكون بينهما فرق ما، ولو تجشمت نحو ذلك في جمعك
في اللفظ بين ألفين مدتين، نحو كساا، وحمراا، لكان مضافاً إلى اجتماع ساكنين أنك خرجت من الألف
إلى ألف مثلها، وعلى سمتها، والحركة لا بد لها أن تكون مخالفة للحرف بعدها، هذا مع انتقاص القضية في سكون ما قبل الألف الثانية.
ورأيت مع هذا أبا علي -رحمه الله- كغير المستوحش من الابتداء بالساكن في كلام العجم. ولعمري
إنه لم يصرح بإجازته، لكنه لم يتشدد فيه تشدده في إفساد إجازة ابتداء العرب بالساكن. قال: وذلك أن العرب قد امتنعت من الابتداء بما يقارب حال الساكن، وإن كان في الحقيقة متحركاً، يعني همزة بين بين. قال: فإذا كان بعض المتحرك لمضارعته الساكن لا يمكن الابتداء به، فما الظن بالساكن نفسه! قال: وإنما خفى حال هذا في اللغة العجمية لما فيها من الزمزمة، يريد أا لما كثر ذلك فيها ضعفت حركاتها وخفيت. وأما أنا فأسمعهم كثيراً إذا أرادوا المفتاح قالوا: "كليد"، فإن لم تبلغ الكاف أن تكون ساكنة، فإن حركتها جد مضعفة، حتى إنها ليخفى حالها علي، فلا أدري أفتحة هي أم كسرة، وقد تأملت ذلك طويلاً فلم أحل منه بطائل.
وحدثني أبو علي رحمه الله قال: دخلت "هيتا" وأنا أريد الانحدار منها إلى بغداد، فسمعت أهلها ينطقون بفتحة غريبة لم أسمعها قبل، فعجبت منها وأقمنا هناك أياماً، إلى أن صلح الطريق للمسير، فإذا أنني قد تكلمت مع القوم بها، وأظنه قال لي: إنني لما بعدت عنهم أنسيتها.
ومما نحن بسبيله مذهب يونس في إلحاقه النون الخفيفة للتوكيد في التثنية، وجماعة النساء، وجمعه بين
ساكنين في الوصل، نحو قوله: اضربان زيداً، واضربنان عمراً، وليس ذلك -وإن كان في الإدراج-
بالممتنع في الحس، وإن كان غيره أسوغ فيه منه، من قبل أن الألف إذا أشبع مدها صار ذلك كالحركة
فيها، ألا ترى إلى اطراد نحو: شابة، ودابة، وادهامت، والضالين.
فإن قلت: فإن الحرف لما كان مدغماً خفى، فنبا اللسان عنه وعن الآخر بعده نبوة واحدة، فجريا لذلك مجرى الحرف الواحد، وليست كذلك نون اضربان زيداً، وأكرمنان جعفراً، قيل: فالنون الساكنة أيضاً حرف خفي فجرت لذلك نحواً من الحرف المدغم، وقد قرأ نافع «محياي ومماتي» بسكون الياء من "محياي"، وذلك لما نحن عليه من حديث الخفاء، والياء المتحركة إذا وقعت بعد الألف احتيج لها إلى فضل اعتماد وإبانة، وذلك قول الله تعالى «ولنحمل خطاياكم» ولذلك يحض المبتدئون، والمتلقنون على إبانة هذه الياء لوقوعها بعد الألف، فإذا كانت من الخفاء على ما ذكرنا وهي متحركة ازدادت خفاء بالسكون نحو محياي، فأشبهت حينئذ الحرف المدغم. ونحو من ذلك ما يحكى عنهم من قولهم: "التقت حلقتا البطان" بإثبات الألف ساكنة في اللفظ قبل اللام، وكأن ذلك إنما جاز ههنا لمضارعة اللام النون، ألا ترى أن في مقطع اللام غنة كالنون، وهي أيضاً تقرب من الياء حتى يجعلها بعضهم في اللفظ ياء، فحملت اللام في هذا على النون، كما حملت أيضاً عليها في لعلي، ألا تراهم كيف كرهوا النون من لعلني مع اللام، كما كرهوا النون في إنني، وعلى ذلك قالوا: هذا بلوسفر، وبلىسفر، فأبدلوا الواو ياء لضعف حجز اللام كما أبدلوها "في قنية" ياء، لضعف حجز النون، وكأن "قنية" -وهي عندنا من "قنوت"-، و"بلياً" أشبه من عذى وصبيان، لأنه لا غنة في الذال والباء. ومثل "بلى" قولهم: فلان من علية الناس، وناقة عليان. فأما إبدال يونس هذه النون في الوقف ألفاً وجمعه بين ألفين في اضرباا، واضربناا، فهو الضعيف المستكره الذي أباه أبو إسحاق وقال فيه ما قال.
ومن الأمر الطبيعي الذي لا بد منه، ولا وعى عنه، أن يلتقي الحرفان الصحيحان فيسكن الأول منهما في الإدراج، فلا يكون حينئذ بد من الادغام، متصلين كانا أو منفصلين. فالمتصلان نحو قولك: شد، وصب، وحل، فالادغام واجب لا محالة، ولا يوجدك اللفظ به بداً منه. والمنفصلان نحو قولك: خذ ذاك، ودع عامرا. فإن قلت: فقد أقدر أن أقول: شدد، وحلل، فلا أدغم، قيل: متى تجشمت ذلك وقفت على الحرف الأول وقفة ما، وكلامنا إنما هو على الوصل. فأما قراءة عاصم: "وقيل من راق" ببيان النون من "من"، فمعيب في الإعراب، معيف في الأسماع، وذلك أن النون الساكنة لا توقف في وجوب ادغامها في الراء، نحو: من رأيت، ومن رآك، فإن كان ارتكب ذلك ووقف على النون صحيحة غير مدغمة، لينبه به على انفصال المبتدأ من خبره فغير مرضي أيضاً، ألا ترى إلى قول عدي:
بإدغام نون "من" في راء رأيت، ويكفي من هذا إجماع الجماعة على إدغام "من راق" وغيره مما تلك سبيله. وعاصم في هذا مناقض لمن قرأ: "فإذا هيتلقف" بإدغام تاء تلقف. وهذا عندي يدل على شدة اتصال المبتدأ بخبره، فإذا صارا معاً ههنا كالجزء الواحد، فجرى "هيت" في اللفظ مجرى خدب، وهجف، ولولا أن الأمر كذلك للزمك أن تقدر الابتداء بالساكن، أعني تاء المضارعة من "تتلقف". فاعرف ذلك. وأما المعتلان فإن كانا مدين منفصلين فالبيان لا غير، نحو: في يده، وذو وفرة، وإن كانا متصلين ادغما نحو: مرضية، ومدعوة، فإن كان الأول غير لازم فك في المتصل أيضاً، نحو قوله:
وقول العجاج:
ألا ترى أن الأصل داويت، وطاوعت، فالحرف الأول إذاً ليس لازماً. فإن كانا بعد الفتحة ادغما لا غير،
متصلين ومنفصلين، وذلك نحو: قو، وجو، وحي، وعي، ومصطفو واقد، وغلامي ياسر، وهذا ظاهر. فهذا ونحوه طريق ما لا بد منه، وما لا يجري مجرى التحيز إليه والتخير له.
وما منه بد هو الأكثر وعليه اعتماد القول، وفيه يطول السؤال والخوض، وقد تقدم صدر منه، ونحن
نغترق في آتي الأبواب جميعه، ولا قوة إلا بالله، فأما إن استوفينا في الباب الواحد كل ما يتصل به
-على تزاحم هذا الشأن، وتقاود بعضه مع بعض- اضطرت الحال إلى إعادة كثير منه، وتكريره في الأبواب المضاهية لبابه، وسترى ذلك مشروحاً بحسب ما يعين الله عليه وينهض به.