انتقل إلى المحتوى

الخصائص/باب القول على الفصل بين الكلام والقول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل بين الكلام والقول
هذا باب القول على الفصل بين الكلام والقول


ولنقدم أمام القول على فرق بينهما طرفاً من ذكر أحوال تصاريفهما واشتقاقهما مع تقلب حروفهما فإن هذا موضع يتجاوز قدر الاشتقاق ويعلوه إلى ما فوقه. وستراه فتجده طريقاً غريباً ومسلكاً من هذه اللغة الشريفة عجيباً.

القاف والواو واللام

فأقول: إن معنى " ق و ل " أين وجدت وكيف وقعت من تقدم بعض حروفها على بعض وتأخره عنه إنما هو للخفوف والحركة. وجهات تراكيبها الست مستعملة كلها لم يهمل شيء منها. وهي: " ق و ل " " ق ل و " " و ق ل " " و ل ق " " ل ق و " " ل و ق ".

الأصل الأول " ق و ل " وهو القول. وذلك أن الفم واللسان يخفان له ويقلقان ويمذلان به. وهو بضد السكوت الذي هو داعية إلى السكون، ألا ترى أن الابتداء لما كان أخذاً في القول لم يكن الحرف المبدوء به إلا متحركاً، ولما كان الانتهاء أخذاً في السكوت لم يكن الحرف الموقوف عليه إلا ساكنا.

الأصل الثاني " ق ل و" منه القلو: حمار الوحش وذلك لخفته وإسراعه، قال العجاج: ومنه قولهم " قلوت البسر والسويق فهما مقلوان"، وذلك لأن الشيء إذا قلى جف وخف وكان أسرع إلى الحركة، وألطف ومنه قولهم " اقلوليت يا رجل" قال:

قد عجبت مني ومن يعيليا
لما رأتني خلقاً مقلوليا

أي خفيفاً للكبر وطائشا، وقال:

وسرب كعين الرمل عوج إلى الصبا
رواعف بالجادي حور المدامع
سمعن غناء بعد ما نمن نومة
من الليل فاقلولين فوق المضاجع

أي خففن لذكره وقلقن فزال عنهن نومهن واستثقالهن على الأرض. وبهذا يعلم أن لام اقلوليت واو لا ياء. فأما لام اذلوليت فمشكوك فيها.

ومن هذا الأصل أيضا قوله: "أقب كمقلاء الوليد خميص" فهو مفعال من قلوت بالقلة ومذكرها القال قال الزاجر: "وأنا في الضراب قيلان القلة" فكأن القال مقلوب قلوت وياء القيلان مقلوبة عن واو وهي لام قلوت ومثال الكلمة فلعان. ونحوها عندي في القلب قولهم "باز" ومثاله فلع واللام منه واو لقولهم في تكسيره: ثلاثة أبواز ومثالها أفلاع. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه: من قلب هذه الكلمة قولهم فيها "البازي" وقالوا في تكسيرها "بزاة" و "بواز" ، أنشدنا أبو علي لذي الرمة:

كأن على أنيابها كل سدفة
صياح البوازي من صريف اللوائك

وقال جرير:

إذا اجتمعوا علي فحل عنهم
وعن باز يصك حباريات

فهذا فاعل لاطراد الإمالة في ألفه وهي في فاعل أكثر منها في نحو مال وباب.

وحدثنا أبو علي سنة إحدى وأربعين قال: قال أبو سعيد الحسن بن الحسين " باز " وثلاثة " أبواز " فإن كثرت فهي " البيزان " فهذا فلع وثلاثة أفلاع وهي الفلعان. ويدل على أن تركيب هذه الكلمة من " ب ز و " أن الفعل منها عليه تصرف وهو قولهم " بزا يبزو " إذا غلب وعلا ومنه البازي - وهو في الأصل اسم الفاعل ثم استعمل استعمال الأسماء كصاحب ووالد - وبزاة وبواز يؤكد ذلك وعليه بقية الباب من أبزى وبزواء وقوله: فتبازت فتبازخت لها والبزا لأن ذلك كله شدة ومقاولة فاعرفه. فمقلاء من قلوت، وذلك أن القال -وهو المقلاء- هو العصا التي يضرب بها القلة، وهي الصغيرة، وذلك لاستعمالها في الضرب بها.

الثالث "و ق ل" منه الوقل للوعل وذلك لحركته وقالوا: توقل في الجبل: إذا صعد فيه وذلك لا يكون إلا مع الحركة والاعتمال. قال ابن مقبل:

عوداً أحم القرا إزمولة وقلا
يأتي تراث أبيه يتبع القذفا

الرابع "و ل ق" قالوا: ولق يلق: إذا أسرع. قال: "جاءت به عنس من الشام تلق" أي تخف وتسرع.

وقرىء "إذ تلقونه بألسنتكم" أي تخفون وتسرعون. وعلى هذا فقد يمكن أن يكون الأولق فوعلاً من هذا اللفظ وأن يكون أيضاً أفعل منه. فإذا كان أفعل فأمره ظاهر وإن سميت به لم تصرفه معرفة وإن كان فوعلاً فأصله وولق فلما التقت الواوان في أول الكلمة أبدلت الأولى همزة لاستثقالها أولاً كقولك في تحقير واصل: أويصل. ولو سميت بأولق على هذا لصرفته. والذي حملته الجماعة عليه أنه فوعل من تألق البرق إذا خفق وذلك لأن الخفوق مما يصحبه الانزعاج والاضطراب. على أن أبا إسحاق قد كان يجيز فيه أن يكون أفعل من ولق يلق. والوجه فيه ما عليه الكافة: من كونه فوعلاً من " أ ل ق " وهو قولهم " ألق الرجل فهو مألوق " ألا ترى إلى إنشاد أبي زيد فيه:

تراقب عيناها القطيع كأنمـا
يخالطها من مسه مس أولق

وقد قالوا منه: ناقة مسعورة أي مجنونة وقيل في قول الله سبحانه "إن المجرمين في ضلال وسعر": إن السعر هو الجنون وشاهد هذا القول قول القطامي:

يتبعن سامية العينين تحسبها
مسعورة أو ترى ما لا ترى الإبل

الخامس "ل و ق" جاء في الحديث "لا آكل من الطعام إلا ما لوق لي" أي ما خدم وأعملت اليد في تحريكه وتلبيقه حتى يطمئن وتتضام جهاته. ومنه اللوقة للزبدة وذلك لخفتها وإسراع حركتها وأنها ليست لها مسكة الجبن وثقل المصل ونحوهما. وتوهم قوم أن الألوقة - لما كانت هي اللوقة في المعنى وتقاربت حروفهما - من لفظها وذلك باطل لأنه لو كانت من هذا اللفظ لوجب تصحيح عينها إذ كانت الزيادة في أولها من زيادة الفعل والمثال مثاله فكان يجب على هذا أن تكون ألوقة كما قالوا في أثوب وأسوق وأعين وأنيب بالصحة ليفرق بذلك بين الاسم والفعل وهذا واضح. وإنما الألوقة فعولة من تألق البرق إذا لمع وبرق واضطرب وذلك لبريق الزبدة واضطرابها.

السادس "ل ق و" منه اللقوة للعقاب قيل لها ذلك لخفتها وسرعة طيرانها قال:

كأني بفتخاء الجناحين لقوة
دفوف من العقبان طأطأت شملال

ومنه اللقوة في الوجه. والتقاؤهما أن الوجه اضطرب شكله فكأنه خفة فيه وطيش منه وليست له مسكة الصحيح، ووفور المستقيم. ومنه قوله: "وكانت لقوة لاقت قبيسا" واللقوة: الناقة السريعة اللقاح وذلك أنها أسرعت إلى ماء الفحل فقبلته ولم تنب عنه نبو العاقر.

فهذه الطرائق التي نحن فيها حزنة المذاهب والتورد لها وعر المسلك ولا يجب مع هذا أن تستنكر ولا تستبعد فقد كان أبو علي رحمه الله يراها ويأخذ بها ألا تراه غلب كون لام أثفية - فيمن جعلها أفعولة - واواً على كونها باء - وإن كانوا قد قالوا " جاء يثفوه ويثفيه " - بقولهم " جاء يثفه " قال: فيثفه لا يكون إلا من الواو ولم يحفل بالحرف الشاذ من هذا وهو قولهم " يئس " مثل يعس لقلته. فلما وجد فاء وثف واواً قوي عنده في أثفية كون لامها واواً فتأنس للام بموضع الفاء على بعد بينهما.

وشاهدته غير مرة إذا أشكل عليه الحرف: الفاء أو العين أو اللام استعان على علمه ومعرفته بتقليب أصول المثال الذي ذلك الحرف فيه. فهذا أغرب مأخذاً مما تقتضيه صناعة الاشتقاق لأن ذلك إنما يلتزم فيه شرج واحد من تتالي الحروف من غير تقليب لها ولا تحريف. وقد كان الناس: أبو بكر رحمه الله وغيره من تلك الطبقة استسرفوا أبا إسحاق رحمه الله فيما تجشمه من قوة حشده وضمه شعاع ما انتشر من المثل المتباينة إلى أصله. فأما أن يتكلف تقليب الأصل ووضع كل واحد من أحنائه موضع صاحبه فشيء لم يعرض له ولا تضمن عهدته. وقد قال أبو بكر: " من عرف أنس ومن جهل استوحش " وإذا قام الشاهد والدليل وضح المنهج والسبيل.

وبعد فقد ترى ما قدمنا في هذا أنفاً وفيه كاف من غيره على أن هذا وإن لم يطرد وينقد في كل أصل فالعذر على كل حال فيه أبين منه في الأصل الواحد من غير تقليب لشيء من حروفه فإذا جاز أن يخرج بعض الأصل الواحد من أن تنظمه قضية الاشتقاق له كان فيما تقلبت أصوله: فاؤه وعينه ولامه أسهل والمعذرة فيه أوضح.

وعلى أنك إن أنعمت النظر ولاطفته وتركت الضجر وتحاميته لم تكد تعدم قرب بعض من بعض وإذا تأملت ذاك وجدته بإذن الله.

الكاف واللام والميم

وأما "ك ل م" فهذه أيضاً حالها وذلك أنها حيث تقلبت فمعناها الدلالة على القوة والشدة. والمستعمل منها أصول خمسة وهي: "ك ل م" "ك م ل" "ل ك م" "م ك ل" "م ل ك" وأهملت منه "ل م ك" فلم تأت في ثبت.

فمن ذلك الأصل الأول " ك ل م" منه الكلم للجرح. وذلك للشدة التي فيه وقالوا في قول الله سبحانه: " دابة من الأرض تكلمهم " قولين: أحدهما من الكَلام والآخر من الكِلام أي تجرحهم وتأكلهم وقالوا: الكُلام: ما غلظ من الأرض وذلك لشدته وقوته وقالوا: رجل كليم أي مجروح وجريح قال: "عليها الشيخ كالأسد الكليم" ويجوز الكليم بالجر والرفع فالرفع على قولك: عليها الشيخ الكليم كالأسد والجر على قولك: عليها الشيخ كالأسد الكليم إذا جرح فحمي أنَفاً وغضب فلا يقوم له شيء كما قال:

كأن محرباً من أسد ترج
ينازلهم لنابيه قبيب

ومنه الكلام وذلك أنه سبب لكل شر وشدة في أكثر الأمر ألا ترى إلى قول رسول الله --: "من كفي مئونة لقلقه وقبقبه وذبذبه دخل الجنة" فاللقلق: اللسان والقبقب: البطن والذبذب: الفرج. ومنه قول أبي بكر - رضي الله عنه - في لسانه: "هذا أوردني الموارد".

وقال: "وجرح اللسان كجرح اليد" وقال طرفة:

فإن القوافي يتلجن موالجا
تضايق عنها أن تولجها الإبر

وامتثله الأخطل وأبر عليه، فقال:

حتى اتقوني وهم مني على حذر
والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر

وجاء به الطائي الصغير فقال:

عتاب بأطراف القوافي كأنه
طعان بأطراف القنا المتكسر

وهو باب واسع. فلما كان الكلام أكثره إلى الشر اشتق له من هذا الموضع. فهذا أصل.

الثاني "ك م ل" من ذلك كمَل الشيء وكمُل وكمِل فهو كامل وكميل. وعليه بقية تصرفه. والتقاؤهما أن الشيء إذا تم وكمل كان حينئذ أقوى وأشد منه إذا كان ناقصاً غير كامل.

الثالث "ل ك م" منه اللكم إذا وجأت الرجل ونحوه ولا شك في شدة ما هذه سبيله أنشد الأصمعي:

كأن صوت جرعها تساجل
هاتيك هاتا حتنى تكايل
لدم العجى تلكمها الجنادل

وقال: "وخفان لكامان للقلع الكبد"

الرابع "م ك ل" منه بئر مكول إذا قل ماؤها قال القطامي: "كأنها قلب عادية مكل".

والتقاؤهما أن البئر موضوعة الأمر على جمتها بالماء فإذا قل ماؤها كره موردها وجفا جانبها. وتلك شدة ظاهرة.

الخامس "م ل ك" من ذلك ملكت العجين إذا أنعمت عجنه فاشتد وقوي. ومنه ملك الإنسان ألا تراهم يقولون: قد اشتملت عليه يدي وذلك قوة وقدرة من المالك على ملكه ومنه الملك لما يعطى صاحبه من القوة والغلبة وأملكت الجارية لأن يد بعلها تقتدر عليها. فكذلك بقية الباب كله.

فهذه أحكام هذين الأصلين على تصرفهما وتقلب حروفهما.

فهذا أمر قدمناه أمام القول على الفرق بين الكلام والقول ليرى منه غور هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة ويعجب من وسيع مذاهبها وبديع ما أمد به واضعها ومبتدئها. وهذا أوان القول على الفصل.

الفرق بين الكلام والقول

أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه. وهو الذي يسميه النحويين الجمل نحو: زيد أخوك وقام محمد وضرب سعيد وفي الدار أبوك وصه ومه ورويد وحاء وعاء في الأصوات وحس ولب وأف وأوه فكل لفظ استقل بنفسه وجنيت منه ثمرة معناه فهو كلام.

وأما القول فأصله أنه كل لفظ مذل به اللسان تاماً كان أو ناقصاً. فالتام هو المفيد -أعني الجملة وما كان في معناها- من نحو صهٍ وإيهٍ. والناقص ما كان بضد ذلك نحو زيد ومحمد وإن وكان أخوك إذا كانت الزمانية لا الحدثية. فكل كلام قول وليس كل قول كلاماً. هذا أصله.

ثم يتسع فيه فيوضع القول على الاعتقادات والآراء، وذلك نحو قولك: فلان يقول بقول أبي حنيفة ويذهب إلى قول مالك ونحو ذلك أي يعتقد ما كانا يريانه، ويقولان به، لا أنه يحكي لفظهما عينه، من غير تغيير لشيء من حروفه. ألا ترى أنك لو سألت رجلا عن علة رفع زيد من نحو قولنا: زيد قام أخوه فقال لك: ارتفع بالابتداء لقلت: هذا قول البصريين.

ولو قال: ارتفع بما يعود عليه من ذكره لقلت: هذا قول الكوفيين أي هذا رأي هؤلاء وهذا اعتقاد هؤلاء. ولا تقول: كلام البصريين ولا كلام الكوفيين إلا أن تضع الكلام موضع القول متجوزا بذلك. وكذلك لو قلت: ارتفع لأن عليه عائدا من بعده أو ارتفع لأن عائدا عاد عليه أو لعود ما عاد من ذكره أو لأن ذكره أعيد عليه أو لأن ذكراً له عاد من بعده أو نحو ذلك لقلت في جميعه: هذا قول الكوفيين ولم تحفل باختلاف ألفاظه لأنك إنما تريد اعتقادهم لا نفس حروفهم. وكذلك يقول القائل: لأبي الحسن في هذه المسئلة قول حسن أو قول قبيح وهو كذا غير أني لا أضبط كلامه بعينه.

ومن أدل الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماع الناس على أن يقولوا: القرآن كلام الله ولا يقال: القرآن قول الله وذلك أن هذا موضع ضيق متحجر لا يمكن تحريفه، ولا يسوغ تبديل شيء من حروفه. فعبر لذلك عنه بالكلام الذي لا يكون إلا أصواتاً تامة مفيدة، وعدل به عن القول الذي قد يكون أصواتاً غير مفيدة، وآراء معتقدة. قال سيبويه: "واعلم أن "قلت" في كلام العرب إنما وقعت على أن يحكى بها وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما لا قولا". ففرق بين الكلام والقول كما ترى. نعم وأخرج الكلام هنا مخرج ما قد استقر في النفوس وزالت عنه عوارض الشكوك. ثم قال في التمثيل: "نحو قلت زيد منطلق ألا ترى أنه يحسن أن تقول: زيد منطلق"، فتمثيله بهذا يعلم منه أن الكلام عنده ما كان من الألفاظ قائما برأسه مستقلا بمعناه وأن القول عنده بخلاف ذلك، إذ لو كانت حال القول عنده حال الكلام لما قدم الفصل بينهما ولما أراك فيه أن الكلام هو الجمل المستقلة بأنفسها الغانية عن غيرها وأن القول لا يستحق هذه الصفة، من حيث كانت الكلمة الواحدة قولا، وإن لم تكن كلاما، ومن حيث كان الاعتقاد والرأي قولا، وإن لم يكن كلاما. فعلى هذا يكون قولنا قام زيد كلاما فإن قلت شارطا: إن قام زيد فزدت عليه "إن" رجع بالزيادة إلى النقصان فصار قولا لا كلاما ألا تراه ناقصا ومنتظراً للتمام بجواب الشرط. وكذلك لو قلت في حكاية القسم: حلفت بالله أي كان قسمي هذا لكان كلاما لكونه مستقلا، ولو أردت به صريح القسم لكان قولا من حيث كان ناقصا لاحتياجه إلى جوابه. فهذا ونحوه من البيان ما تراه.

فأما تجوزهم في تسميتهم الاعتقادات والآراء قولا فلأن الاعتقاد يخفى فلا يعرف إلا بالقول، أو بما يقوم مقام القول: من شاهد الحال، فلما كانت لا تظهر إلا بالقول سميت قولا، إذ كانت سبباً له، وكان القول دليلا عليها كما يسمى الشيء باسم غيره إذا كان ملابسا له. ومثله في الملابسة قول الله سبحانه "ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت" ومعناه - والله أعلم - أسباب الموت إذ لو جاءه الموت نفسه لمات به لا محالة. ومنه تسمية المزادة الراوية، والنجو نفسه الغائط وهو كثير.

فإن قيل: فكيف عبروا عن الاعتقادات والآراء بالقول، ولم يعبروا عنها بالكلام، ولو سووا بينهما، أو قلبوا الاستعمال، كان لماذا؟ فالجواب أنهم إنما فعلوا ذلك من حيث كان القول بالاعتقاد أشبه منه بالكلام، وذلك أن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره، وهو العبارة عنه، كما أن القول قد لا يتم معناه إلا بغيره، ألا ترى أنك إذا قلت: قام وأخليته من ضمير فإنه لا يتم معناه الذي وضع الكلام عليه وله، لأنه إنما وضع على أن يفاد معناه مقترنا بما يسند إليه من الفاعل، وقام هذه نفسها قول، وهي ناقصة محتاجة إلى الفاعل، كاحتياج الاعتقاد إلى العبارة عنه. فلما اشتبها من هنا عبر عن أحدهما بصاحبه. وليس كذلك الكلام لأنه وضع على الاستقلال والاستغناء عما سواه. والقول قد يكون من الفقر إلى غيره على ما قدمناه فكان إلى الاعتقاد المحتاج إلى البيان أقرب، وبأن يعبر به عنه أليق. فاعرف ذلك.

فإن قيل: ولم وضع الكلام على ما كان مستقلا بنفسه البتة، والقول على ما قد يستقل بنفسه، وقد يحتاج إلى غيره؟ ألاشتقاق قضى بذلك؟ أم لغيره من سماع متلقى بالقبول والاتباع؟ قيل: لا، بل لاشتقاق قضى بذلك دون مجرد السماع. وذلك أنا قد قدمنا في أول القول من هذا الفصل أن الكلام إنما هو من الكَلم، والكَلام، والكُلوم وهي الجراح لما يدعو إليه، ولما يجنيه في أكثر الأمر على المتكلمة، وأنشدنا في ذلك قوله:

وجرح اللسان كجرح اليد

ومنه قوله:

قوارض تأتيني ويحتقرونها
وقد يملأ القطر الإناء فيفعم

ونحو ذلك من الأبيات، التي جئنا بها هناك وغيرها، مما يطول به الكتاب، وإنما ينقم من القول، ويحقر ما ينثى ويؤثر، وذلك ما كان منه تاما غير ناقص، ومفهوما غير مستبهم، وهذه صورة الجمل، وهو ما كان من الألفاظ قائما برأسه غير محتاج إلى متمم له، فلهذا سموا ما كان من الألفاظ تاما مفيدا كلاما، لأنه في غالب الأمر وأكثر الحال مضر بصاحبه، وكالجارح له. فهو إذا من الكلوم التي هي الجروح. وأما القول فليس في أصل اشتقاقه ما هذه سبيله، ألا ترى أنا قد عقدنا تصرف "ق و ل"، وما كان أيضاً من تقاليبها الستة، فأرينا أن جميعها إنما هو للإسراع والخفة، فلذلك سموا كل ما مذل به اللسان من الأصوات قولا، ناقصا كان ذلك أو تاماً. وهذا واضح مع أدنى تأمل.

واعلم أنه قد يوقع كل واحد من الكلام والقول موقع صاحبه وإن كان أصلهما قبل ما ذكرته ألا ترى إلى رؤبة كيف قال:

لو أنني أوتيت علم الحكل
علم سليمان كلام النمل

يريد قول الله عز وجل «قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم» وعلى هذا اتسع فيهما جميعا اتساعا واحدا فقال أبو النجم:

قالت له الطير تقدم راشدا
إنك لا ترجع إلا حامدا

وقال الآخر:

وقالت له العينان: سمعا وطاعة
وأبدت كمثل الدر لما يثقب

وقال الزاجر: «امتلأ الحوض وقال: قطني» وقال الآخر:

بينما نحن مرتعون بفلج
قالت الدلح الرواء: إنيه

إنيه: صوت رزمة السحاب وحنين الرعد وأنشدوا: «قد قالت الأنساع للبطن الحق» فهذا كله اتساع في القول. ومما جاء منه في الكلام قول الآخر:

فصبحت والطير لم تكلم
جابية طمت بسيل مفعم

وكأن الأصل في هذا الاتساع إنما هو محمول على القول، ألا ترى إلى قلة الكلام هنا، وكثرة القول، وسبب ذلك وعلته عندي ما قدمناه من سعة مذاهب القول، وضيق مذاهب الكلام. وإذا جاز أن نسمي الرأي والاعتقاد قولا، وإن لم يكن صوتا، كانت تسمية ما هو أصوات قولا أجدر بالجواز. ألا ترى أن الطير لها هدير، والحوض له غطيط، والأنساع لها أطيط، والسحاب له دوي. فأما قوله: وقالت له العينان سمعا وطاعة فإنه وإن لم يكن منهما صوت، فإن الحال آذنت بأن لو كان لهما جارحة نطق لقالتا: سمعا وطاعة. وقد حرر هذا الموضع عنترة وأوضحه:

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
ولكان -لو علم الكلام- مكلمي

وامتثله شاعرنا آخرا فقال:

فلو قدر السنان على لسان
لقال لك السنان كما أقول

وقال أيضا:

لو تعقل الشجر التي قابلتها
مدت محيية إليك الأغصنا

ولا تستنكر ذكر هذا الرجل -وإن كان مولدا- في أثناء ما نحن عليه من هذا الموضع وغموضه، ولطف متسربه، فإن المعاني يتناهبها المولدون كما يتناهبها المتقدمون. وقد كان أبو العباس -وهو الكثير التعقب لجلة الناس- احتج بشيء من شعر حبيب بن أوس الطائي في كتابه في الاشتقاق لما كان غرضه فيه معناه دون لفظه فأنشد فيه له:

لو رأينا التوكيد خطة عجز
ما شفعنا الأذان بالتثويب

وإياك والحنبلية بحتا، فإنها خلق ذميم، ومطعم على علاته وخيم. وقال سيبويه: « هذا باب علم ما الكلم من العربية» فاختار الكلم على الكلام، وذلك أن الكلام اسم من كلم، بمنزلة السلام من سلم، وهما بمعنى التكليم والتسليم، وهما المصدران الجاريان على كلم وسلم، قال الله سبحانه «وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا» وقال -عز اسمه-: «صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا». فلما كان الكلام مصدرا يصلح لما يصلح له الجنس، ولا يختص بالعدد دون غيره، عدل عنه إلى الكلم الذي هو جمع كلمة، بمنزلة سلمة وسلم، ونبقة ونبق، وثفنة وثفن. وذلك أنه أراد تفسير ثلاثة أشياء مخصوصة، وهي الاسم، والفعل، والحرف، فجاء بما يخص الجمع وهو الكلم وترك ما لا يخص الجمع، وهو الكلام، فكان ذلك أليق بمعناه، وأوفق لمراده. فأما قول مزاحم العقيلي:

لظل رهينا خاشع الطرف حطه
تخلب جدوى والكلام الطرائف

فوصفه بالجمع، فإنما ذلك وصف على المعنى، كما حكى أبو الحسن عنهم، من قولهم: «ذهب به الدينار الحمر والدرهم البيض» وكما قال: «تراها الضبع أعظمهن رأسا» فأعاد الضمير على معنى الجنسية، لا على لفظ الواحد، لما كانت الضبع هنا جنسا. وبنو تميم يقولون: كِلمة وكِلَم ككِسرة وكِسَر.

فإن قلت: قدمت في أول كلامك أن الكلام واقع على الجمل دون الآحاد، وأعطيت ههنا أنه اسم الجنس، لأن المصدر كذلك حاله، والمصدر يتناول الجنس وآحاده تناولاً واحدا. فقد أراك انصرفت عما عقدته على نفسك: من كون الكلام مختصاً بالجمل المركبة، وأنه لا يقع على الآحاد المجردة، وأن ذلك إنما هو القول، لأنه فيما زعمت يصلح للآحاد، والمفردات، وللجمل المركبات. قيل: ما قدمناه صحيح، وهذا الاعتراض ساقط عنه، وذلك أنا نقول: لا محالة أن الكلام مختص بالجمل، ونقول مع هذا: إنه جنس أي جنس للجمل، كما أن الإنسان من قول الله سبحانه: «إن الإنسانَ لَفِي خُسْر» جنس للناس، فكذلك الكلام جنس للجمل، فإذا قال: قام محمد فهو كلام، وإذا قال: قام محمد وأخوك جعفر، فهو أيضاً كلام، كما كان لما وقع على الجملة الواحدة كلاما، وإذا قال: قام محمد وأخوك جعفر، وفي الدار سعيد، فهو أيضاً كلام كما كان لما وقع على الجملتين كلاما. وهذا طريق المصدر لما كان جنساً لفعله، ألا ترى أنه إذا قام قومة واحدة فقد كان منه قيام، وإذا قام قومتين فقد كان منه قيام، وإذا قام مئة قومة فقد كان منه قيام. فالكلام إذاً إنما هو جنس للجمل التوام: مفردها، ومثناها، ومجموعها، كما أن القيام جنس للقومات: مفردها، ومثناها، ومجموعها. فنظير القومة الواحدة من القيام الجملة الواحدة من الكلام. وهذا جلي.

ومما يؤنسك بأن الكلام إنما هو للجمل التوام دون الآحاد أن العرب لما أرادت الواحد من ذلك خصته باسم له لا يقع إلا على الواحد، وهو قولهم: «كلِمة» وهي حجازية، و«كِلمة» وهي تميمية. ويزيدك في بيان ذلك قول كثير:

لو يسمعون كما سمعت كلامها
خروا لعزة ركعا وسجودا
ومعلوم أن الكلمة الواحدة لا تشجو، ولا تحزن، ولا تتملك قلب السامع، إنما ذلك فيما طال من الكلام، وأمتع سامعيه بعذوبة مستمعه، ورقة حواشيه، وقد قال سيبويه: «هذا باب أقل ما يكون عليه الكلم»، فذكر هنالك حرف العطف، وفاءه، وهمزة الاستفهام، ولام الابتداء وغير ذلك مما هو على حرف واحد، وسمى كل واحد من ذلك كلمة. فليت شعري: كيف يستعذب قول القائل، وإنما نطق بحرف واحد! لا بل كيف يمكنه أن يجرد للنطق حرفاً واحدا، ألا تراه أن لو كان ساكناً لزمه أن يدخل عليه مكن أوله همزة الوصل ليجد سبيلاً إلى النطق به، نحو «اِب اِص اِق»، وكذلك إن كان متحركاً فأراد الابتداء به والوقوف عليه قال في النطق بالباء من بكر: بَه، وفي الصاد من صلة: صِه، وفي القاف من قدرة: قُه، فقد علمت بذلك أن لاسبيل إلى النطق بالحرف الواحد مجرداً من غيره، ساكناً كان أو متحركاً. فالكلام إذاً من بيت كثير إنما يعني به المفيد من هذه الألفاظ، القائم برأسه المتجاوز لما لا يفيد ولا يقوم برأسه من جنسه، ألا ترى إلى قول الآخر: 
ولما قضينا من منى كل حاجة
ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطح

فقوله بأطراف الأحاديث يعلم منه أنه لا يكون إلا جملا كثيرة، فضلا عن الجملة الواحدة، فإن قلت قد قال الشنفرى:

كأن لها في الأرض نسياً نقصه
على أمها وإن تخاطبك تبلت

أي تقطع كلامها ولا تكثره، كما قال ذو الرمة:

لها بشر مثل الحرير ومنطق
رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر

فقوله: رخيم الحواشي: أي مختصر الأطراف، وهذا ضد الهذر والإكثار، وذاهب في التخفيف والاختصار. قيل: فقد قال أيضاً: ولا نزر، وأيضاً فلسنا ندفع أن الخفر يقل معه الكلام، ويحذف فيه أحناء المقال، إلا أنه على حال لا يكون ما يجري منه وإن قل ونزر أقل من الجمل، التي هي قواعد الحديث، الذي يشوق موقعه، ويروق مستمعه. وقد أكثرت الشعراء في هذا الموضع، حتى صار الدال عليه كالدال على المشاهد غير المشكوك فيه، ألا ترى إلى قوله:

وحديثها كالغيث يسمعه
راعي سنين تتابعت جدبا!
فأصاخ يرجو أن يكون حياً
ويقول من فرح: هيا ربا!

يعني حنين السحاب وسجره، وهذا لا يكون عن نبرة واحدة ولا رزمة مختلسة، إنما يكون مع البدء فيه والرجع وتثنى الحنين على صفحات السمع. وقول ابن الرومي:

وحديثها السحر الحلال لو أنه
لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
ود المحدث أنها لم توجز
شرك القلوب وفتنة ما مثلها
للمطمئن، وعقلة المستوفز

فذكر أنها تطيل تارة وتوجز أخرى، والإطالة والإيجاز جميعاً إنما هما في كل كلام مفيد مستقل بنفسه، ولو بلغ بها الإيجاز غايته لم يكن له بد من أن يعطيك تمامه وفائدته، مع أنه لا بد فيه من تركيب الجملة، فإن نقصت عن ذلك لم يكن هناك استحسان ولا استعذاب، ألا ترى إلى قوله:

قنا لها قفي لنا قالت قاف

وأن هذا القدر من النطق لا يعذب، ولا يجفو، ولا يرق، ولا ينبو، وأنه إنما يكون استحسان القول واستقباحه فيما يحتمل ذينك، ويؤديهما إلى السمع، وهو أقل ما يكون جملة مركبة. وكذلك قول الآخر -فيما حكاه سيبويه-: «ألا تا» فيقول مجيبه: «بلى فا». فهذا ونحوه مما يقل لفظه، فلا يحمل حسناً ولا قبحاً ولا طيبا ولا خبثاً. لكن قول الآخر مالك بن أسماء:

أذكر من جارتي ومجلسها
طرائفاً من حديثها الحسن
ومن حديث يزيدني مقة
ما لحديث الموموق من ثمن

أدل شيء على أن هناك إطالة وتماما، وإن كان بغير حشو ولا خطل، ألا ترى إلى قوله: «طرائفاً من حديثها الحسن»، فذا لا يكون مع الحرف الواحد، ولا الكلمة الواحدة، بل لا يكون مع الجملة الواحدة دون أن يتردد الكلام وتتكرر فيه الجمل، فيبين ما ضمنه من العذوبة، وما في أعطافه من النعمة واللدونة، وقد قال بشار:

وحوراء المدامع من معد
كأن حديثها ثمر الجنان

ومعلوم أن من حرف واحد، بل كلمة واحدة، بل جملة واحدة، لا يجنى ثمر جنة واحدة فضلاً عن جنان كثيرة. وأيضاً فكما أن المرأة قد توصف بالحياء، والخفر فكذلك أيضاً قد توصف بتغزلها ودماثة حديثها، ألا ترى إلى قول الله سبحانه: «عربًا أتْرَابًا لأصحابِ الْيَمين»، وأن العروب في التفسير هي المتحببة إلى زوجها، المظهرة له ذلك، بذلك فسره أبو عبيدة. وهذا لا يكون مع الصمت، وحذف أطراف القول، بل إنما يكون مع الفكاهة والمداعبة، وعليه بيت الشماخ:

ولو أني أشاء كننت جسمي
إلى بيضاء بهكنة شموع

قيل فيه: الشماعة هي المزح والمداعبة. وهذا باب طويل جدا، وإنما أفضى بنا إليه ذرو من القول أحببنا استيفاءه تأنساً به، وليكون هذا الكتاب ذاهبا في جهات النظر، إذ ليس غرضنا فيه الرفع والنصب والجر والجزم، لأن هذا أمر قد فرغ في أكثر الكتب المصنفة فيه منه. وإنما هذا الكتاب مبني على إثارة معادن المعاني، وتقرير حال الأوضاع والمبادي، وكيف سرت أحكامها في الأحناء والحواشي.

فقد ثبت بما شرحناه وأوضحناه أن الكلام إنما هو في لغة العرب عبارة عن الألفاظ القائمة برءوسها، المستغنية عن غيرها، وهي التي يسميها أهل هذه الصناعة الجمل، على اختلاف تركيبها. وثبت أن القول عندها أوسع من الكلام تصرفا، وأنه قد يقع على الجزء الواحد، وعلى الجملة، وعلى ما هو اعتقاد ورأي لا لفظ وجرس.

وقد علمت بذلك تعسف المتكلمين في هذا الموضع، وضيق القول فيه عليهم، حتى لم يكادوا يفصلون بينهما. والعجب ذهابهم عن نص سيبويه فيه، وفصله بين الكلام والقول

ولكل قوم سنة وإمامها