الجامع لأحكام القرآن/المقدمة/فصل إذا ثبت هذا فاعلم أن المعجزات على ضربين
الأول- ما اشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي ﷺ والثاني- ما تواترت الأخبار بصحته وحصوله واستفاضت بثبوته ووجوده ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة ومن شرطه أن يكون الناقلون له خلقا كثيرا وجما غفيرا وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علما ضروريا وأن يستوي في النقل أولهم وآخرهم ووسطهم في كثرة العدد حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب وهذه صفة نقل القرآن ونقل وجود النبي عليه الصلاة والسلام لأن الأمة رضي الله عنها لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف والسلف عن سلفه إلى أن يتصل ذلك بالنبي عليه السلام المعلوم وجوده بالضرورة وصدقه بالأدلة والمعجزات والرسول أخذه عن جبريل عليه السلام عن ربه عز وجل فنقل القرآن في الأصل رسولان معصومان من الزيادة والنقصان ونقله إلينا بعدهم أهل التواتر الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلوه ويسمعونه لكثرة العدد ولذلك وقع لنا العلم الضروري بصدقهم فيما نقلوه من وجود محمد ﷺ ومن ظهور القرآن على يديه وتحديه به ونظير ذلك من علم الدنيا علم الإنسان بما نقل إليه من وجود البلدان كالبصرة والشام والعراق وخرسان والمدينة ومكة وأشباه ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة المتواترة فالقرآن معجزة نبينا ﷺ الباقية بعده إلى يوم القيامة ومعجزة كل نبي انقرضت بانقراضه أو دخلها التبديل والتغيير كالتوراة والإنجيل.
ووجوه إعجاز القرآن الكريم عشرة :
منها : النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وفي صحيح مسلم أن أنيسا أخا أبي ذر قال لأبي ذر : لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله قلت فما يقول الناس قال : يقولون شاعر كاهن ساحر وكان أنيس أحد الشعراء قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون وكذلك أقر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا شعر لما قرأ عليه رسول الله ﷺ : {حم} فصلت على ما يأتي بيانه هنالك. فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان وموضعه من الفصاحة والبلاغة بأنه ما سمع مثل القرآن قط كان في هذا القول مقرا بإعجاز القرآن له ولضربائه من المتحققين بالفصاحة والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه.
ومنها : الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب.
ومنها : الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال وتأمل ذلك في سورة { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلى آخرها وقوله سبحانه : {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إلى آخر السورة وكذلك قوله سبحانه : {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} إلى آخر السورة. قال ابن الحصار : فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول : {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ولا أن يقول ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء قال ابن الحصار : وهذه الثلاثة من النظم والأسلوب والجزالة لازمة كل سورة بل هي لازمة كل آية وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر وبها وقع التحدي والتعجيز ومع هذا فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة ، من غير أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار وهي أقصر صورة في القرآن وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين أحدهما : الإخبار عن الكوثر وعظمه وسعته وكثرة أوانيه وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرسل والثاني الإخبار عن الوليد بن المغيرة وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد على ما يقتضيه قول الحق : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} ثم أهلك الله سبحانه ماله وولده وانقطع نسله.
ومنها : التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.
ومنها : الإخبار عن الأمور التي في أول الدنيا إلى وقت نزوله من أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها والقرون الخالية في دهرها وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه به من قصة أهل الكهف وشأن موسى والخضر عليهما السلام وحال ذي القرنين فجاءهم وهو أمي من أمة أمية ليس لها بذلك علم بما عرفوا من الكتب السالفة صحته فتحققوا صدقه قال القاضي ابن الطيب : ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار ولا مترددا إلى المتعلم منهم ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي.
ومنها : الوفاء بالوعد ، المدرك بالحس في العيان في كل ما وعد الله سبحانه وينقسم إلى أخباره المطلقة كوعده بنصر رسوله عليه السلام وإخراج الذين أخرجوه من وطنه وإلى وعد مقيد بشرط كقوله : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} { َومَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} و{ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وشبه ذلك.
ومنها : الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي فمن ذلك : ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الآية ففعل ذلك وكان أبو بكر رضي الله عنه : إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله في إظهار دينه ليثقوا بالنصر وليستيقنوا بالنجح وكان عمر يفعل ذلك فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا برا وبحرا قال الله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وقال : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقال : {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} وقال : {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين أو من أوقفه عليها رب العالمين فدل على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله لتكون دلالة على صدقه.
ومنها : ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام.
ومنها : الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.
ومنها : التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا وباطنا من غير اختلاف قال الله تعالى : {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} .
قلت : فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا رحمة الله عليهم ، ووجه حادي عشر قاله النظام وبعض القدرية أن وجه الإعجاز هو المنع من معارضته والصرفة عند التحدي بمثله وأن المنع والصرفة هو المعجزة دون ذات القرآن وذلك أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله وهذا فاسد لأن إجماع الأمة قبل حدوث المخالف أن القرآن هو المعجز فلو قلنا إن المنع والصرفة هو المعجز لخرج القرآن عن أن يكون معجزا وذلك خلاف الإجماع وإذا كان كذلك علم أن نفس القرآن هو المعجز لأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة إذ لم يوجد قط كلام على هذا الوجه فلما لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم دل على أن المنع والصرفة لم يكن معجزا. واختلف من قال بهذه الصرفة على قولين : أحدهما- أنهم صرفوا عن القدرة عليه ولو تعرضوا له لعجزوا عنه الثاني- أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه.
قال ابن عطية : وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه وتوالى فصاحة ألفاظه ووجه إعجازه : أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما وأحاط بالكلام كله علما فعلم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن محيطا قط فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة وبهذا النظر يبطل قول من قال إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة فلما جاء محمد ﷺ صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ويظهر لك قصور البشر أن الفصيح منهم يضع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا ثم تعطى لآخر بعده فيأخذها بقريحة جامة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال بعد ذلك فيها مواضع للنظر والبدل وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد.
ومن فصاحة القرآن أن الله تعالى جل ذكره ذكر في آية واحدة أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين وهو قوله تعالى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية وكذلك فاتحة سورة المائدة أمر بالوفاء ونهي عن النكث وحلل تحليلا عاما ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن حكمته وقدرته وذلك مما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وأنبأ سبحانه عن الموت وحسرة الفوت والدار الآخرة وثوابها وعقابها وفوز الفائزين وتردي المجرمين والتحذير من الاغترار بالدنيا ووصفها بالقلة بالإضافة إلى دار البقاء بقوله تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية وأنبا أيضا عن قصص الأولين والآخرين ومآل المترفين وعواقب المهلكين في شطر آية وذلك في قوله تعالى : { فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} وأنبأ جل وعز عن أمر السفينة وإجرائها وإهلاك الكفرة واستقرار السفينة واستوائها وتوجيه أوامر التسخير إلى الأرض والسماء بقوله عز وجل : { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} إلى قوله تعالى : { َقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} إلى غير ذلك.
فلما عجزت قريش عن الإتيان بمثله وقالت إن النبي ﷺ تقوله أنزل الله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} ثم أنزل تعجيزا أبلغ من ذلك فقال : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} فلما عجزوا حطهم عن هذا المقدار إلى مثل سورة من السور القصار فقال جل ذكره : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} فأفحموا عن الجواب وتقطعت بهم الأسباب وعدلوا إلى الحروب والعناد وآثروا سبي الحريم والأولاد ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا وأبلغ في الحجة وأشد تأثيرا هذا مع كونهم أرباب البلاغة واللحن وعنهم تؤخذ الفصاحة واللسن.
فبلاغة القرآن في أعلى طبقات الإحسان وأرفع درجات الإيجاز والبيان بل تجاوزت حد الإحسان والإجادة إلى حيز الإرباء والزيادة هذا رسول الله ﷺ مع ما أوتي من جوامع الكلم واختص به من غرائب الحكم إذا تأملت قوله ﷺ في صفة الجنان وإن كان في نهاية الإحسان وجدته منحطا عن رتبة القرآن وذلك في قوله عليه السلام : " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " . فأين ذلك من قوله عز وجل : {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} وقوله : {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} . هذا أعدل وزنا وأحسن تركيبا وأعذب لفظا وأقل حروفا على أنه لا يعتبر إلا في مقدار سورة أو أطول آية لأن الكلام كلما طال اتسع فيه مجال المتصرف وضاق المقال عن القاصر المتكلف وبهذا قامت الحجة على العرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء ومعجزة موسى عليه السلام على السحرة ؛ فإن الله سبحانه إنما جعل معجزات الأنبياء عليهم السلام بالوجه الشهير أبرع ما يكون في زمان النبي الذي أراد إظهاره ؛ فكان السحر في زمان موسى عليه السلام قد انتهى إلى غايته وكذلك الطب في زمن عيسى عليه السلام والفصاحة في زمن محمد ﷺ.