البداية والنهاية/كتاب الفتن والملاحم/ذكر الأحاديث والأثار الدالة على أهوال يوم القيامة
قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء، حدثنا نافع أبو غالب الباهلي، حدثني أنس بن مالك، قال: قال رسول الله ﷺ: «يبعث الناس يوم القيامة والسماء تطش عليهم». تفرد به أحمد، وإسناده لا بأس به. وفي معنى قوله ﷺ: «تطش عليهم». احتمالان؟ أحدهما: أن يكون ذلك من المطر; أي تمطر عليهم، كما يقال: أصابهم طش من مطر. وهو الخفيف منه. والثاني: أن يكون ذلك من شدة الحر، وهو الأقرب، والله أعلم. وقد قال الله تعالى:﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾ [المطففين: 4 - 6]. وقد ثبت في [ص:386] " الصحيح ": أنهم " يقومون في الرشح - أي في العرق - إلى أنصاف آذانهم ". وفي الحديث الآخر: أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم كما تقدم، وفي حديث الشفاعة، كما سيأتي، أن الشمس تدنى من العباد يوم القيامة، فتكون منهم على مسافة ميل، فعند ذلك يعرقون بحسب أعمالهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: «إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس، أو إلى آذانهم». شك ثور أيهما قال. وكذا رواه مسلم، عن قتيبة. وأخرجه البخاري، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن سالم أبي الغيث، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ مثله.
[ص:387] وقال الإمام أحمد: حدثنا الضحاك بن مخلد، عن عبد الحميد بن جعفر، حدثني أبي، عن سعيد بن عمير الأنصاري، قال: جلست إلى عبد الله بن عمر، وأبي سعيد، فقال أحدهما لصاحبه: أي شيء سمعت رسول الله ﷺ يذكر أنه يبلغ العرق من الناس يوم القيامة فقال أحدهما: إلى شحمته. وقال الآخر: يلجمه. فخط ابن عمر، وأشار أبو عاصم بأصبعه، من شحمة أذنه إلى فيه، فقال: ما أرى ذلك إلا سواء. تفرد به أحمد، وإسناده جيد قوي.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا الحسن بن عيسى، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني سليم بن عامر، حدثني المقداد بن الأسود، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد، حتى تكون قيد ميل، أو ميلين». قال سليم: لا أدري أي الميلين أراد؟ أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكحل به العين ؟ قال: «فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق بقدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه العرق إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجاما». قال: فرأيت رسول الله ﷺ يشير إلى فيه، قال: «يلجمه إلجاما». وكذا رواه [ص:388] الترمذي، عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، وقال: حسن صحيح.
وأخرجه مسلم، عن الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة، عن ابن جابر، به نحوه.
وقال ابن المبارك، عن مالك بن مغول، عن عبيد الله بن العيزار، قال: إن الأقدام يوم القيامة مثل النبل في القرن، والسعيد الذي يجد لقدمه موضعا يضعهما فيه، وإن الشمس لتدنى من رءوسهم، حتى يكون بينها وبين رءوسهم - إما قال: ميلا. أو: ميلين - ويزاد في حرها تسعة وستين ضعفا. وقال الوليد بن مسلم، عن أبي بكر بن سعيد، عن مغيث بن سمي، قال: تركد الشمس فوق رءوسهم على أذرع، وتفتح أبواب جهنم، فتهب عليهم رياحها وسمومها ويخرج عليهم نفحاتها، حتى تجري الأنهار من عرقهم أنتن من الجيف، والصائمون في جناتهم في ظل العرش.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن منصور الطوسي، [ص:389] حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا الفضل بن عيسى الرقاشي، حدثنا محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن العرق ليلزم المرء في الموقف حتى يقول: يا رب، إرسالك بي إلى النار أهون علي مما أجد. وهو يعلم ما فيها من شدة العذاب». إسناده ضعيف.
وقد ثبت في " الصحيح " عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله - وفي رواية: إلا ظل عرشه - إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه».
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، ويحيى بن إسحاق، قالا: حدثنا ابن لهيعة، قال: حدثنا خالد بن أبي عمران، عن القاسم، عن عائشة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أتدرون من السابقون إلى ظل الله عز وجل، يوم القيامة ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم». تفرد به أحمد، وإسناده مقارب، فيه ابن لهيعة وقد تكلموا فيه، وشيخه ليس بالمشهور.
هذا كله والناس موقوفون في مقام ضنك ضيق حرج شديد صعب، إلا [ص:390] على من يسره الله عليه، فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم الحي القيوم أن يهون علينا ذلك المقام، وأن يجعله علينا يسيرا بردا وسلاما، ونعوذ بالله من ضيق يوم القيامة، اللهم اجعل لنا مخرجا من ذلك، ونسألك أن توسع علينا في الدنيا والآخرة، اللهم اجعلنا مع الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، آمين.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا الأصبغ، هو ابن زيد، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، حدثني ربيعة، هو ابن عمرو الجرشي الشامي، قال: سألت عائشة فقلت: ما كان رسول الله ﷺ يقول إذا قام من الليل؟ وبم كان يفتتح الصلاة؟ قالت: كان يكبر عشرا، ويحمد عشرا، ويهلل عشرا، ويستغفر عشرا، ويقول: «اللهم اغفر لي، واهدني، وارزقني». عشرا، ويقول: «اللهم إني أعوذ بك من الضيق يوم الحساب». عشرا.
وكذا رواهالنسائي في " اليوم والليلة " عن أبي داود الحراني، عن يزيد بن هارون، بإسناده مثله، وعنده: «من ضيق المقام يوم القيامة».
[ص:391] وقال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن قدامة، حدثني يعقوب بن سلمة الأحمر، سمعت ابن السماك يقول: سمعت أبا واعظ الزاهد يقول: يخرجون من قبورهم يتسكعون في الظلمات ألف عام، والأرض يومئذ نار كلها، وإن أسعد الناس يومئذ من وجد لقدمه موضعا.
وقال أيضا: حدثني هارون بن سفيان، أخبرنا ابن نفيل، عن النضر بن عربي قال: بلغني أن الناس إذا خرجوا من قبورهم كان شعارهم لا إله إلا الله، وكانت أول كلمة يقولها برهم وفاجرهم: ربنا ارحمنا.
وحدثني حمزة بن العباس، أخبرنا عبد الله بن عثمان، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا سفيان، عن سليمان، عن أبي صالح، قال: بلغني أن الناس يحشرون هكذا. ونكس رأسه، ووضع يده اليمنى على كوعه اليسرى.
وحدثني عصمة بن الفضل، حدثني يحيى بن يحيى، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: سمعت سيارا الشامي قال: يخرجون من قبورهم وكلهم مذعورون، فيناديهم مناد: ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون [الزخرف: 68]. فيطمع فيها الخلق فيتبعها: الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين [ص:392] [الزخرف: 69]. فييأس منها الخلق غير أهل الإسلام.
وروى من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: " ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم، ولا يوم نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم، ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن [فاطر: 34].
قلت: وله شاهد من القرآن العظيم قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ الآيات إلى قوله: ﴿وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 101 - 104].
وقال ابن أبي الدنيا: أخبرنا أبو حفص الصفار، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا إبراهيم بن عيسى اليشكري، قال: بلغنا أن المؤمن إذا بعث من قبره تلقاه ملكان، مع أحدهما ديباجة فيها برد ومسك، ومع الآخر كوب من أكواب الجنة فيه شراب، فإذا خرج من قبره خلط الملك ذلك البرد بالمسك فرشه عليه، وصب له الآخر شربة فيناوله إياها، فيشربها فلا يظمأ بعدها أبدا حتى يدخل الجنة.
فأما الأشقياء - والعياذ بالله - فقال الله تعالى:﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)﴾ [ص:393] [الزخرف: 36 - 39].
وذكرنا في " التفسير " أن الكافر إذا قام من قبره أخذ بيده شيطانه، ويلزمه فلا يفارقه، حتى يرمى بهما في النار، وهكذا كل فاجر وفاسق غافل عن ذكر الله، مضيع لأمره. وقال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [ق: 21]. أي: ملك يسوقه إلى المحشر، وآخر يشهد عليه بأعماله وهذا عام في الأبرار والفجار، وكل بحسبه لقد كنت في غفلة من هذا أي: أيها الإنسان الغافل عما خلق له﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 22]. أي: نافذ قوي حاد ﴿وَقَالَ قَرِينُهُ هَٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ [ق: 23]. أي: هذا الذي جئت به هو الذي وكلت به، فيقول الله تعالى عند ذلك للسائق والشهيد:﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25)﴾ [ق: 24، 25]. أي: ليس فيه خير، ويمنع غيره من الخير، ومع ذلك هو مريب أي: هو في شك وريب. ثم انتقل إلى من هو متلبس بأعظم من ذلك، وقد تجتمع في العبد هذه الأربعة المذمومة المقبوحة، التي هي أقبح الخصال، وأعظمها، وأقبحها الشرك بالله، فقال تعالى: ﴿االَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ [ق: 26 - 30]. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى، هو ابن سعيد القطان، عن ابن [ص:394] عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي ﷺ، قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء، من الصغار، حتى يدخلوا سجنا في جهنم، يقال له: بولس. فتعلوهم نار الأنيار، فيسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار. ورواه الترمذي، والنسائي جميعا عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن محمد بن عجلان، به، وقال الترمذي: حسن.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عثمان العقيلي، حدثنا محمد بن راشد، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ:» يحشر المتكبرون في صور الذر يوم القيامة ". ثم قال: تفرد به محمد بن عثمان، عن شيخه.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في " أهوال القيامة ": حدثنا عبد الله بن عمر الجشمي، حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام، أنبا قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، أن رسول الله ﷺ كان في بعض أسفاره، وقد [ص:395] تفاوت بين أصحابه السير، فرفع بهاتين الآيتين صوته: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد الحج: 1، 2]. فلما سمع ذلك أصحابه حثوا المطي، وعلموا أنه عند قول يقوله، فلما تأشبوا حوله، قال: «أتدرون أي يوم ذاك ؟ ذاك يوم ينادى آدم يناديه ربه ؟ يقول: يا آدم، ابعث بعث النار. قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة». قال: فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة، فلما رأى ذلك قال: «اعملوا، وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه، يأجوج ومأجوج، ومن هلك من بني آدم ومن بني إبليس». قال: فسري عنهم، ثم قال: «اعملوا، وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير، أو كالرقمة في ذراع الدابة». وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن محمد بن بشار بندار، عن يحيى بن سعيد القطان، به، وقال الترمذي،: حسن صحيح.