انتقل إلى المحتوى

الا لفت منا إلى الزمن الخالد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

الا لفت منا إلى الزمن الخالد

​الا لفت منا إلى الزمن الخالد​ المؤلف معروف الرصافي



الا لفت منا إلى الزمن الخالد
 
فتغبِط من أسلافنا كل مِفضال
تَلونا أناساً في الزمان تقدمُوا
 
وكم عِبرَة فيمن تقدم للتالي
ألا فاذكروا يا قوم أربع مجدكم
 
فقد درست إلا بقية أطلال
تطلبتمُ صفوَ الحياة وأنتمُ
 
بجهل، وهل تصفو الحياة ُ لُجهال؟
وما أنتم إلا كسكران طافح
 
تحسى من الصهباء عشرة أرطال
مشي بارتعاش في الطريق فتارة
 
يقوم وأخرى ينهوي فوق أو حال
يمد إلى الجدران كف استناده
 
فتقذفه الجدران قذيفة أذلال
ويفتح للطراق مقلة حانق
 
فيغمضها خزيان عن شتم عذال
رمى الدهر قومي بالخمول فلمتهم
 
وأوسعتهم عذلا فلم يُجد تعذالي
فهاج البكى يأسي فلما بكيتهم
 
بدمعي حتى بل دمعي سِربالي
نظرت إلى الماضي وفي العين حُمرة
 
كأن على اماقها نضح جريالي
فشمتُ بروق الأولين منيرة
 
على أفق من ذلك الزمن الخالي
"تنورتها من أذرعات وأهلها
 
بيثربَ أدنى دارها نظر عال»
وقلبت طرفي في سماء رجالها
 
وهم فوق عرش من جلال محلال
فآنست آتارا وهم سِلك درها
 
وأبصوت أعمالا وهم جيدها الحالي
ولما طويت الدهر بيني وبينهم
 
على بعد أزمان هناك وأجيال
قعدت بأوساط القرون فجاءني
 
"أبو بكر الرازي"فقمت لإجلال
فتى عاش أعمالاً جساما وإنما
 
تقدر أعمار الرجال بأعمال
حكم رياضي طبيب منجم
 
أديب وفي الكمياء حلال أشكال
أني فيلسوفا للنفوس مهذبا
 
بأفضل أفعال وأحسن أقوال
لقد طبب الأرواح من داءِ جهلها
 
كما طبب الأجسام من كل إغلال
تولد عامَ الأربعين الذي انقضى
 
لثالث قرن ذي مآثر أزوال
إلى زكريا ينتمي إنه له
 
أب تاجر في الري صاحب أموال
على حينَ كانت بلدة ُ الري عادة
 
إلى العلم تعطو جيدَها غيرَ مِعطال
مدارسُ بالشبان تزهو ودونها
 
كتاتيب للتعليم تزهو بأطفال
بها جل درس القوم طب وحكمة
 
وفلسفة فيها لهم أي إيغال
وكانت نفيسات الصنائع عندهم
 
يحاوالها ذو الفقر منهم وذو المال
 
بل الحال في البلدان طرا كذا الحال
فإن هدى الإسلام أنهى فتوحه
 
وآصلها للحد أحسن إيصال
وبدل أبطال الحروب من الورى
 
بأبطالِ علْم للجَهالة قُتال
فدارت رحى تلك العلوم وقطبها
 
ببغدادَ مركوزُ بربوة إجلال
وكانت يد المأمون في ذاك أخجلت
 
لسان العلي في شكره أي إخجال
تدرّج في تلك المدارس ناشئا
 
مترجمنا يسعى بجد وإقبال
تعلم فن الصوت باديء بدئه
 
ومارس تفصيلاً به بعد إجمال
فكانت بموسيقى اللحون دروسه
 
تغَنَّى بأهزاج وتشدو أرمال
وقد جاوز العشرين سنا ولم يكن
 
بشئ سوى فن الغناء بميال
فرام أبوه منه تحويل عزمه
 
بجذب إلى شغل التجار وإدخال
فقال له دعني مع العلم إنني
 
إذا ما أمَتُّ الجهلَ أحييتُ آمالي
وهل يستطيع المرءُ شغلا إذا غدا
 
له شاغل بالعلم عن كل أشغال
هنالك استقى الرازي من العلم شربه
 
فجاد بإعلال له بعد إنهال
سعى سعيه نحو التعلم بادئاً
 
بعلم لدى أهل التفلسف ذي بال
وقد كان مفتاح العلوم تفلسف
 
تُفكُّ به من جهلهم كلُّ أغلال
نضا همَّة ً في العلم مشحوذة الشَّبا
 
جلت ما لحرب الجهل من ليل قَسْطال
وقد أكمل الطب المفيدَ قراءة ً
 
على الطبريِّ الحبر أحسنَ إكمال
ومذ جاوز الرازي لثلاثين واغتدى
 
مُدلا على أقرانه أيّ إدلال
رأى من تمام العلم للمرء أنه
 
يَسيح بضرْب في البلاد وتجوال
وما العلم إلا بالسياحة إنها
 
لمن عملوا في علمهم درس أعمال
فقام وشدّ الرجل والغرزَ وامتطى
 
لقطع الفيافي متن هوجاء شملال
فجاء بلادَ الشام توّا وجازها
 
إلى مصر في وخد حثيث وإر قال
وخاض عُباب البحر للغرب قاصدا
 
مواطناً للإسلام لم يسلها السالي
ففيها احتلاه العز مذ لاح طالعاً
 
لها كهلالِ يُجتلى عند إهلال
وحل حلول البدر في السعد نائلاً
 
بقرطبه آماله ناعم البال
وهب هبوب الريح ثمة ذكره
 
يطير على صيت من العلم جوال
وودعها من بعد ذلك راجعاً
 
إلى مصرَ لا توديعَ مُستَكره قال
ومنها إلى بغداد سافر قاطعاً
 
إليها الفلا ما بين حَلْ وترحال
فأرقى عصر التسيار من عرصاتها
 
بمغرس عرفان ومَنبِتِ إفضال
وبغداد كانت وهي إذ ذاك جنه
 
بها العلم أجرى منه أنهار سلسال
كأن رجالَ العلم في غُرُفاتها
 
بلابل تشدو غدوة بين أدغال
فكم محفل للكتب فيه خزانة
 
وكم مَرصد دان وكم مَرقب عال
أقيم لمارستانها عن كفاءة
 
رئيساً بتطبيب وتدبير أحوال
فرتب مرضاه وأصلح شأنه
 
بما كان لم يخطر لسابق أجيال
وضل به يسعى طبيباً ممرضاً
 
ويبذل جُهدا لم يكن فيه بالآلى
 
لدى سُرُر المرضى تقرر في الحال
فقد كان يلقيها على القوم ناطقاً
 
بأوضح تبيان وأحسن إملال
لقد أشغل الرازي ببغدادَ شغلهُ
 
عدا الطب في الكِمْياء أعظم إشغال
فقضى بها أيامه في تجارب
 
وواصل أبكاراً لهن بآضال
فلقب فيها بالمجرِّب حرمة
 
تفردَ مخصوصاً بها بين أمثال
وأصبح مشهوراً بأسنى مآثر
 
من العلم لم يُسْبَق إليها وأعمال
فإن أبا بكر لأولُ مفصح
 
إلى الناس بالدرس السريري مقوال
وأولُ من أبدى لهم كيف يبتنى
 
ويُفرش مارستانهم قصد إبلال
وألف في المستشفيات مؤلفاً
 
تقصى به في وصفها دون إغلال
ولا تنس للرازي الكحول فإنه
 
يجدد طول الدهر ذكراه في البال
ومن عمل الرازي انعقاد لسكر
 
وما كان في محصوله غيرَ سيَّال
أرى العلم كالمرآة يصدأ وجهه
 
وليس سوى حُسن الخلائق من جال
أخو العلم لا يغلو على سوء خلقه
 
وذو الجهل إن أخلاقه حسنت غال
ولو وازنَ العلمُ الجبال ولم يكن
 
له حسنُ خُلق لم يَزن وزَن مثقال
وإن المساوي وهي في خلق عالم
 
لأقبح منها وهي في خُلق جُهال
«لعمري وما أدري وقد آذن البلى
 
بأحسن أخلاق وأشرف أفعال
خلائق غُرّ إن أردت بيانها
 
بدأتُ بحرف الحاء والميم والدال
 
بكل هزيل الجسم من سقم إقلال
 
ويفتقد المرضى بفحص وتسال
وتيهم بالمال والعلم مسعداً
 
لتطبيب أوجاع وتأمين أوجال
وما كان يقنو المال إلا لبذله
 
لتعليم علم أو لإعطاء سُؤَّال
وكان حليف الجد لم يأل جهده
 
بدحض خصوم العلم من كهزال
فكم راح مخذولاً به متطبب
 
سعى كاذباً في طبه سعي إضلال
وخلِّ تفاصيل الألى ينسبونه
 
لزيغ فقد أغناك عنهن إجمالي
ولما قضى الرازي ببغدادُ بُرهة
 
مضى قافلاً للري شوقاً إلى الآل
وألف للمنصور إذ ذاك بأسمه
 
كتاباً حوى من الطب أحسن أقوال
ولم تصف للرازي أواخر عمره
 
وعاد أخاهم شديد وبالبال
فقد عمِيت عيناه من بَعد واغتدى
 
يجول من الفقر الشديد بأسمال
وإن عدا الدهر شنشنة له
 
يصول بها قهراً على كل مفضال
ولما انتهى نحو الثمانين عمره
 
قضى نحبه من غير مال وأنسال
ولكنه في الناس خلف بعده
 
من العلم آثاراً قليلة أمثال
فكم كتب أبقى بها الذكر في الورى
 
وألفها نسجاً على خير منوال
وما ضر من أحيا له العلمُ بعده
 
على الدهر ذكراً أنه مَيت بال
 
لمقتصر منه على بعض أوشال
وها أنا أنهي القول لا لتمامه
 
ولكن لعجزي عن نهوض بأجبال
وأجعل هذا الشعر مسكاً ختامه
 
بما قال في بيتين معناهما حال
"بعمري وما أدري وقد أذن البلى
 
بعاجل ترحال إلى أين ترحالي»
«وأين محل الروح بعد خروجهم
 
من الهيكل المنحل والجسد البالي"