انتقل إلى المحتوى

الاستقامة/16

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


واذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يندب الرجل أو الطائفة ويسكت أخرون عن الامر والنهي فيكون ذلك من ذنوبهم وينكر عليهم اخرون انكارا منهيا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم فيحصل التفرق والاختلاف والشر وهذا من اعظم الفتن والشرور قديما وحديثا اذ الانسان ظلوم جهول والظلم والجهل انواع فيكون ظلم الاول وجهله من نوع وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع اخر واخر

ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك ورأى ان ما وقع بين امراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها ومن تبعهم من العامة من الفتن هذا اصلها يدخل في ذلك اسباب الضلال والغي التي هي الاهواء الدينية والشهوانية وهي البدع في الدين والفجور في الدنيا

وذلك ان اسباب الضلال والغي التي هي البدع في الدين والفجور في الدنيا مشتركة تعم بني آدم لما فيهم من الظلم والجهل فبذنب بعض الناس يظلم نفسه وغيره بفعل الزنا او التلوط او غيره او بشرب خمر او ظلم في المال بجناية او سرقة او غصب ونحو ذلك

ومعلوم ان هذه المعاصي وان كانت مستقبحة مذمومة في العقل والدين فهي مشتهاة في الطباع ايضا ومن شأن النفوس انها لا تحب اختصاص غيرها بشيء وزيادته عليها لكن تريد ان يحصل لها ما حصل له وهذا هو الغبطة التي هي ادنى نوعي الحسد فهي تريد الاستعلاء على الغير والاستئثار دونه او تحسده وتتمنى زوال النعمة عنه وان لم يحصل ففيها من إرادة العلو والفساد والاستكبار والحسد ما مقتضاه انها تختص عن غيرها بالشهوات فكيف اذا رأت الغير قد استأثر عليها بذلك واختص بها دونها

فالمعتدل منهم في ذلك الذي يحب الاشتراك والتساوي واما الاخر فظلوم حسود وهذان يقعان في الامور المباحة والامور المحرمة لحق الله فما كان جنسه مباحا من اكل وشرب ونكاح ولباس وركوب واموال اذا وقع فيها الاختصاص حصل بسببه الظلم والبخل والحسد واصلها الشح

كما في الصحيح عن النبي انه قال إياكم والشح فان الشح اهلك من كان قبلكم امرهم بالبخل فبخلوا وامرهم بالظلم فظلموا وامرهم بالقطيعة فقطعوا

ولهذا قال الله تعالى في وصف الانصار والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم أي من قبل المهاجرين ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا سورة الحشر 9 أي لا يجدون الحسد مما اوتي اخوانهم من المهاجرين ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة سورة الحشر 9

ثم قال ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون سورة التغابن 16

ورؤي عبد الرحمن بن عوف يطوف بالبيت ويقول رب قنى شح نفسي رب قني شح نفسي رب قنى شح نفسي فقيل له في ذلك فقال اذا وقيت شح نفسي فقد وقيت البخل والظلم والقطيعة او كما قال

فهذا الشح الذي هو شدة حرص النفس يوجب البخل بمنع ما هو عليه والظلم بأخذ مال الغير ويوجب قطيعة الرحم ويوجب الحسد وهو كراهة ما اختص به الغير وتمنى زواله والحسد فيه بخل وظلم فانه بخل بما اعطيه عن غيره وظلمه بطلب زوال ذلك عنه

فإذا كان هذا في جنس الشهوات المباحة فكيف بالمحرمة كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك واذا وقع فيها اختصاص فإنه يصير فيها نوعان

أحدهما احدهما بغضها لما في ذلك من الاختصاص والظلم كما يقع في الامور المباحة الجنس

أحدهما والثاني بغضها لما في ذلك من حق الله ولهذا كانت الذنوب ثلاثة أقسام

احدها ما فيه ظلم للناس كالظلم بأخذ الأموال ومنع الحقوق والحسد ونحو ذلك

والثاني ما فيه ظلم للنفس فقط كشرب الخمر والزنا اذا لم يتعد ضررهما

والثالث ما يجتمع فيه الأمران مثل ان يأخذ المتولى أموال الناس يزنى بها ويشرب بها الخمر ومثل ان يزني بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرهم كما يقع ممن يحب بعض النساء والصبيان

وقد قال الله تعالى قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله مالا تعلمون سورة الاعراف 33

وامور الناس انما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض انواع الإثم اكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وان لم يشترك في اثم

ولهذا قيل ان الله يقيم الدولة العادلة وان كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وان كانت مسلمة ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والاسلام

وقد قال النبي ليس ذنب اسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم فالباغي يصرع في الدنيا وان كان مغفورا له مرحوما في الاخرة

وذلك ان العدل نظام كل شيء فإذا اقيم امر الدنيا بالعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الأخرة من خلاق ومتى لم تقم بالعدل لم تقم وان كان لصاحبها من الايمان ما يجزي به في الاخرة فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه الحسد له والتعدي عليه في حقه وفيها داعي الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة كالزنا وأكل الخبائث فهي قد تظلم من لا يظلمها وتؤثر هذه الشهوات وان لم يفعلها غيرها فإذا رأت نظراءها قد ظلموا او تناولوا هذه الشهوات صار داعي هذه الشهوات او الظلم فيها اعظم بكثير وقد تصبر ويهيج ذلك لها من بغض ذلك الغير وحسده وطلب عقابه وزوال الخير عنه ما لم يكن فيها قبل ذلك ولها حجة عند نفسها من جهة العقل والدين بكون ذلك الغير قد ظلم نفسه والمسلمين وان امره بالمعروف ونهيه عن المنكر واجب والجهاد على ذلك من الدين

والناس هنا ثلاثة اقسام قوم لا يقومون إلا في اهواء نفوسهم فلا يرضون الا بما يعطونه ولا يغضبون الا لما يحرمونه فإذا اعطى احدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال او الحرام زال غضبه وحصل رضاه وصار الأمر الذي كان عنده منكرا ينهى عنه ويعاقب عليه ويذم صاحبه ويغضب عليه مرضيا عنه وصار فاعلا له وشريكا فيه ومعاونا عليه ومعاديا لمن ينهى عنه وينكر عليه

وهذا غالب في بني آدم يرى الانسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه الا الله وسببه ان الانسان ظلوم جهول فلذلك لا يعدل بل ربما كان ظالما في الحالين يرى قوما ينكرون على المتولى ظلمه لرعيته واعتداءه عليهم فيرضى اولئك المنكرين ببعض الشيء من منصب او مال فينقلبون اعوانا له واحسن احوالهم ان يسكنوا عن الانكار عليه

وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي حتى يدخلوا احدهم معهم في ذلك او يرضوه ببعض ذلك فتراه حينئذ قد صار عونا لهم

وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم الى اقبح من الحال التي كانوا عليها وقد يعودون الى ما هو دون ذلك او نظيره

وقوم يقومون قومه ديانة صحيحة يكونون في ذلك مخلصين لله مصلحين فيما عملوه ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما اوذوا فهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم من خير امة اخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله

وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا وهم غالب المؤمنين فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم ارادة الطاعة وارادة المعصية وربما غلب هذا تارة وهذا تارة

وهذه القسمة الثلاثية كما قيل الانفس ثلاث امارة ومطمئنة ولوامة فالأولون هم اهل الانفس الامارة التي تأمرهم بالسوء والأوسطون هم اهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الي ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي سورة الفجر 27 30

والاخرون هم اهل النفوس اللوامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه وتتلوم تارة كذا وتارة كذا او تخلط عملا صالحا وأخر سيئا وهؤلاء يرجى ان يتوب عليهم اذا اعترفوا بذنوبهم كما قال الله تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم ان الله غفور رحيم سورة التوبة 102

ولهذا لما كان الناس في زمن ابي بكر وعمر اللذين امر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال اقتدوا باللذين من بعدي ابي بكر وعمر اقرب عهدا بالرسالة وأعظم ايمانا وصلاحا وأئمتهم اقوم بالواجب واثبت في الطمأنينة لم تقع فتنة اذ كانوا في حكم القسم الوسط

ولما كان في اخر خلافة عثمان في خلافة على رضي الله عنهما كثر القسم الثالث فصار فيهم شهوة وشبهة مع الايمان والدين وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا ثم كثر ذلك بعد فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين واختلاطما بنوع من الهوى والعصبية في الطكرفين وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وان معه الحق والعدل ومع هذا التأويل نوع من الهوى ففيه نوع من الظن وما تهوى الانفس وان كانت احدى الطائفتين اولى بالحق من الاخرى فلهذا يجب على المؤمن ان يستعين بالله ويتوكل عليه في ان يقيم قلبه ولا يزيغه ويثبته على الهدى والتقوى ولا يتبع الهوى

كما قال تعالى فلذلك فادع واستقم كما امرت ولا تتبع اهواءهم وقل امنت بما انزل الله من كتاب وامرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم سورة الشورى 15 وهذا ايضا حال الامة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات

وهذه الامور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين فإنهم يحتاجون الى شيئين الى دفع الفتنة التي ابتلى بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضى لها فإن معهم نفوسا وشياطين كما مع غيرهم

فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضى عندهم كما هو الواقع فيقوى الداعي الذي في نفس الانسان وشيطانه ودواعي الخير كذلك وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير

فكم من الناس لم يرد خيرا ولا شرا حتى رأى غيره لا سيما ان كان نظيره يفعله ففعله فإن الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض

ولهذا كان المبتدئ بالخير وبالشر له مثل من تبعه من الاجر والوزر كما قال النبي من سن سنة حسنة فله اجرها واجر من عمل بها الى يوم القيامة من غير ان ينقص من اجورهم شيئا ومن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة من غير ان ينقص من اوزارهم شيئا وذلك لاشتراكهم في الحقيقة وان حكم الشيء حكم نظيره وشبيه الشيء منجذب اليه

فإذا كان هذان داعيين قويين فكيف اذا انضم اليهما داعيان اخران

وذلك ان كثيرا من اهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه ويبغضون من لا يوافقهم وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم ومعاداتهم لمخالفيهم وكذلك في امور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختار اهلها ويؤثرون من يشاركهم في امورهم وشهواتهم اما للمعاونة على ذلك كما في المتغلبين من اهل الرياسات وقطاع الطريق ونحو ذلك واما لتلذذهم بالموافقة كما في المجتمعين على شرب الخمر مثلا فإنهم يحبون ان يشرب كل من حضر عندهم واما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير اما حسدا له على ذلك وما لئلا يعلو عليهم بذلك ويحمد دونهم وإما لئلا يكون له عليهم حجة وإما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه او بمن يرفع ذلك اليهم ولئلا يكونوا تحت منته وحظره ونحو ذلك من الاسباب

قال الله تعالى ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم من بعد ما تبين لهم الحق سورة البقرة 109 وقال تعالى في المنافقين ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء سورة النساء 89 وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه ودت الزانية لو زنى النساء كلهن

والمشاركة قد يختارونها في نفس الفجور كالاشتراك في شرب الخمر والكذب والاعتقاد الفاسد وقد يختارونها في النوع الثاني كالزاني الذي يود ان غيره يزني او السارق الذي يود ان غيره يسرق لكن في غير العين التي زنى بها او سرقها

وأما الداعي الثاني فقد يأمرون الشخص بمشاركتهم فيما هم عليه من المنكر فإن شاركهم والا عادوه وآذوه على وجه قد ينتهي الى حد الاكراه او لا ينتهي الى حد الاكراه

ثم ان هؤلاء الذين يختارون مشاركة الغير لهم في قبيح فعلهم او يأمرونه بذلك ويستعينون به على ما يريدونه متى شاركهم وعاونهم واطاعهم انتقصوه واستخفوا به وجعلوا ذلك حجة عليه في امور اخرى وان لم يشاركهم عادوه وآذوه وهذه حال غالب الظالمين القادرين

وهذا الموجود في المنكر موجود نظيره في المعروف وابلغ منه كما قال الله تعالى والذين امنوا اشد حبا لله سورة البقرة 165 فإن داعي الخير اقوى فإن الانسان فيه داع يدعوه الى الايمان والعلم الصدق والعدل واداء الامانة فاذا وجد من يعمل مثل ذلك صار له داع اخر لا سيما اذا كان نظيره لا سيما مع المنافسة وهذا محمود حسن فإن وجد من يحب موافقته على ذلك ومشاركته له من المؤمنين والصالحين ومن يبغضه اذا لم يفعل ذلك صار له داع ثالث فإذا امروه بذلك ووالوه على ذلك وعادوه وعاقبوه على تركه صار له داع رابع

ولهذا يؤمر المؤمنون ان يقابلوا السيئات بضدها من الحسنات كما يقابل الطبيب المرض بضده فيؤمر المؤمن بأن يصلح نفسه وذلك بشيئين بفعل الحسنات وبترك السيئات وهذه اربعة انواع

ويؤمر ايضا بإصلاح غيره بهذه الانواع الاربعة بحسب قدرته وامكانه قال تعالى والعصر ان الانسان لفي خسر الا الذين امنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر سورة العصر 1 3

وروى عن الشافعي رضي الله عنه انه قال لو فكر الناس كلهم في سورة العصر لكفتهم وهو كما قال فإن الله تعالى اخبر فيها ان جميع الناس خاسرون الا من كان في نفسه مؤمنا صالحا ومع غيره موصيا بالحق موصيا بالصبر

واذا عظمت المحنة كان ذلك للمؤمن الصالح سببا لعلو الدرجة وعظيم الاجر كما سئل النبي اي الناس اشد بلاء قال الانبياء ثم الصالحون ثم الامثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وان كان في دينه رقة خفف عنه وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الارض وليس عليه خطيئة وحينئذ فيحتاج من الصبر الى ما لا يحتاج اليه غيره وذلك هو سبب الامامة في الدين كما قال تعالى وجعلنا منهم ائمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون سورة السجدة 24

فلا بد من الصبر على فعل الحسن المأمور وترك السيء المحظور ويدخل في ذلك الصبر على الاذى وعلى ما يقال والصبر على ما يصيبه من المكاره والصبر عن البطر عند النعم وغير ذلك من انواع الصبر

ولا يمكن العبد ان يصبر ان لم يكن له ما يطمئن له ويتنعم به ويغتذى به وهو اليقين

كما في الحديث الذي رواه ابو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي انه قال يا ايها الناس سلوا الله اليقين والعافية فانه لم يعط احد بعد اليقين خيرا من العافية فسلوهما الله وكذلك اذا امر غيره بحسن او احب موافقته له على ذلك او نهى غيره عن شيء فيحتاج ان يحسن الى ذلك الغير إحسانا يحصل به مقصود من حصول المحبوب واندفاع المكروه فإن النفوس لا تصبر على المر الا بنوع من الحلو لا يمكن غير ذلك

ولهذا امر الله تعالى بتأليف القلوب حتى جعل للمؤلفة قلوبهم نصيبا في الصدقات وقال تعالى لنبيه خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين سورة الاعراف 199 وقال تعالى وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة سورة البلد 17 فلا بد ان يصبر وان يرحم وهذا هو الشجاعة والكرم

ولهذا يقرن الله تعالى بين الصلاة والزكاة تارة وهي الاحسان الى الخلق وبينها وبين الصبر تارة

ولا بد من الثلاثة الصلاة والزكاة والصبر لا تقوم مصلحة المؤمنين الا بذلك في صلاح نفوسهم واصلاح غيرهم لا سيما كلما قويت الفتنة والمحنة فإن الحاجة الى ذلك تكون اشد فالحاجة الى السماحة والصبر عامة لجميع بنى آدم لا تقوم مصلحة دينهم ولا ديناهم الا بهما

ولهذا فإن جميعهم يتمادحون بالشجاعة والكرم حتى ان ذلك عامة ما يمدح به الشعراء ممدوحيهم فس شعرهم وكذلك يتذامون بالبخل والجبن

والقضايا التي يتفق عليها عقلاء بني آدم لا تكون الا حقا كاتفاقهم على مدح الصدق والعدل وذم الكذب والظلم

وقد قال النبي لما سأله الاعراب حتى اضطروه الى سمرة فتعلقت بردائه فالتفت اليهم وقال والذي نفسي بيده لو ان عندي عدد هذه العضاة نعما لقسمته عليكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا

ولكن يتنوع ذلك بتنوع المقاصد والصفات فإنما الاعمال بالنيات وانما لكل امرئ من نوى ولهذا جاء الكتاب والسنة بذم البخل والجبن ومدح الشجاعة والسماحة في سبيل الله دون ما ليس في سبيله

فقال النبي شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع وقال النبي من سيدكم يا بني سلمة فقالوا الجد بن قيس على انا نزنه بالبخل فقال وأي داء أدوى من البخل وفي رواية ان السيد لا يكون بخيلا بل سيدكم الابيض الجعد بشر بن البراء بن معرور

وكذلك في الصحيح قول جابر بن عبد الله لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما اما ان تعطيني واما ان تبخل عني فقال تقول واما ان تبخل عني واي داء ادوى من البخل فجعل البخل من اعظم الامراض

وفي صحيح مسلم عن سلمان بن ربيعة قال قال عمر رضي الله عنه قسم النبي قسما فقلت يا رسول الله والله لغير هؤلاء احق به منهم فقال انهم خيروني بين ان يسألوني بالفحش وبين ان يبخلوني ولست بباخل يقول انهم يسألوني مسألة لا تصلح فإن اعطيتهم والا قالوا هو بخيل فقد خيروني بين امرين مكروهين لا يتركوني من احدهما المسألة الفاحشة والتبخيل والتبخيل اشد فأدفع الاشد بإعطائهم

والبخل جنس تحته انواع كبائر وغير كبائر قال الله تعالى ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة سورة آل عمران 180

وقال واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا سورة النساء 36 الى قوله ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل سورة النساء 36 37 و

قال تعالى وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتم الا انهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة الا وهم كسالى ولا ينفقون الا وهم كارهون سورة التوبة 54

وقال فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه سورة التوبة 76 77

وقال ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه سورة محمد 38

وقال فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون سورة الماعون 407

وقال والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهروهم الاية سورة التوبة 3435 - وكثير من الآي في القرآن من الامر بالايتاء والاعطاء وذم من ترك ذلك كله ذم للبخل

وكذلك ذمه للجبن كثير في مثل قوله ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال او متحيزا الى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير سورة الانفال 16

وقوله عن المنافقين ويحلفون بالله انهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ او مغارات او مدخلا لولوا اليه وهم يجمحون سورة التوبة 56 57

وقوله فإذا انزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون اليك نظر المغشي عليه من الموت سورة محمد 20

وقوله ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا ايديكم واقيموا الصلاة وأتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال اذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أواشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا اخرتنا الى اجل قريب قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا سورة النساء 77

وما في القرآن من الحض على الجهاد والترغيب فيه وذم الناكلين عنه والتاركين له كله ذم للجبن

ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم الا بالشجاعة والكرم بين الله سبحانه انه من تولى عنه بترك الجهاد بنفسه ابدل الله به من يقوم بذلك ومن تولى عنه بإنفاق ماله ابدل الله به من يقوم بذلك فقال يا ايها الذين امنوا مالكم اذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الى الارض ارضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا في الاخرة الا قليل الا تنفروا يعذبكم عذابا اليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير سورة التوبة 38 39

وقال تعالى ها انتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وانتم الفقراء وان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا امثالكم سورة محمد 38

وبالشجاعة والكرم في سبيل الله فضل الله السابقين فقال لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل اولئك اعظم درجة من الذين انفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى سورة الحديد 10

وقد ذكر الجهاد بالنفس والمال في سبيله ومدحه في غير آية من كتابه وذلك هو الشجاعة والسماحة في طاعته سبحانه وطاعة رسوله وملاك الشجاعة الصبر الذي يتضمن قوة القلب وثباته ولهذا قال تعالى كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين سورة البقرة 249

وقال تعالى يا أيها الذين امنوا اذا لقيتم فئة فأثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين سورة الانفال 45 46

والشجاعة ليست هي قوة البدن فقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب وانما هي قوة القلب وثباته فأن القتال مداره على قوة البدن وصنعته للقتال وعلى قوة القلب وخبرته به والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح فأما المغلوب حين غضبه فليس هو بشجاع ولا شديد

وقد تقدم ان جماع ذلك هو الصبر فإنه لا بد منه والصبر صبران صبر عند الغضب وصبر عند المصيبة كما قال الحسن رحمه الله ما تجرع عبد جرعة اعظم من جرعة حلم عند الغضب وجرعة صبر عند المصيبة

وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم وهذا هوالشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم والمؤلم ان كان مما يمكن دفعه اثار الغضب وان كان مما لا يمكن دفعه اثار الحزن ولهذا يحمر الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة ويصفر عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز

ولهذا جمع النبي في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال النبي ما تعدون الرقوب فيكم قالوا الرقوب الذي لا يولد له قال ليس ذاك بالرقوب ولكن الرقوب الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئا ثم قال ما تعدون الصرعة فيكم قلنا الذي لا يصرعه الرجال فقال ليس بذلك ولكن الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب فذكر ما يتضمن الصبر عند المصيبة والصبر عند الغضب

قال الله تعالى في المصيبة وبشر الصابرين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون الاية سورة البقرة 155 156

وقال تعالى في الغضب وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم سورة فصلت 35

وهذا الجمع بين صبر المصيبة وصبر الغضب نظير الجمع بين صبر المصيبة وصبر النعمة كما في قوله تعالى ولئن اذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه انه ليؤوس كفور ولئن اذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني انه لفرح فخور الا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير سورة هود 9 11

وقال لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم سورة الحديد 23

وبهذا وصف كعب بن زهير من وصفه من الصحابة المهاجرين حيث قال

ليسوا مفاريح ان نالت رماحهم ... كثرا وليسوا مجازيعا اذا نيلوا ...

وكذلك قال حسان بن ثابت في صفة الانصار

لا فخر ان هم اصابوا من عدوهم ... وان اصيبوا فلا خور ولا هلع

وقال بعض العرب في صفة النبي يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر

ولما كان الشيطان يدعوالناس عند هذين النوعين الى تعدي الحدود بقلوبهم واصواتهم وايديهم نهى النبي عن ذلك فقال لما قيل له لما رأى ابراهيم في النزع أتبكي او لم تنه عن البكاء فقال انما نهيت عن صوتين احمقين فاجرين صوت عند نعمة لهو ولعب ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية فجمع بين الصوتين

وأما نهيه عن ذلك في المصائب فمثل قوله ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية وقال انا برئ من الحالقة والصالقة والشاقة وقال ما كان من العين والقلب فمن الله وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان وقال ان الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا حزن القلب ولكن يعذب بهذا او يرحم واشار الى لسانه وقال من ينح عليه فانه يعذب بما نيح عليه واشترط على النساء في البيعة الا ينحن وقال ان النائحة اذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطران

وقال في الغلبة والمصائب والفرح ان الله كتب الاحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة واذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد احدكم شفرته وليرح ذبيحته

وقال ان اعف الناس قتلة اهل الايمان

وقال لا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا الى غير ذلك مما امر به في الجهاد من العدل وترك العدوان اتباعا لقوله تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى سورة المائدة 8 ولقوله تعالى وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين سورة البقرة 190

ونهى عن لباس الحرير وتختم الذهب والشرب في آنية الذهب والفضة واطالة الثياب الى غير ذلك من انواع السرف والخيلاء في النعم وذم الذين يستحلون الخمر والحرير والمعازف وجعل فيهم الخسف والمسخ

وقد قال الله تعالى ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا سورة النساء 36 وقال عن قارون اذ قال له قومه لا تفرح ان الله لا يحب الفرحين سورة القصص 76

وهذه الامور الثلاثة مع الصبر عن الاعتداء في الشهوة هي جوامع هذا الباب وذلك ان الانسان بين ما يحبه ويشتهيه وبين ما يبغضه ويكرهه فهو يطلب الاول بمحبته وشهوته ويدفع الثاني ببغضه ونفرته واذا حصل الاول او اندفع الثاني اوجب له فرحا وسرورا وان حصل الثاني او اندفع الاول حصل له حزن فهو محتاج عند المحبة والشهوة ان يصبر عن عدوانهما وعند الغضب والنفرة ان يصبر على عدوانهما وعند الفرح ان يصبر عن عدوانه وعند المصيبة ان يصبر عن الجزع منها

فالنبي ذكر الصوتين الاحمقين الفاجرين الصوت الذي يوجب الاعتداء في الفرح حتى يصير الانسان فرحا فخورا والصوت الذي يوجب الجزع عند الحزن حتى يصير الانسان هلوعا جزوعا واما الصوت الذي يثير الغضب لله كالأصوات التي تقال في الجهاد من الاشعار المنشدة فتلك لم تكن بآلات وكذلك اصوات الشهرة في الفرح فرخص منها فيما وردت به السنة من الضرب بالدف في الاعراس والافراح للنساء والصبيان

وعامة الاشعار التي تنشد بالاصوات لتحريك النفوس هي من هذه الاقسام الاربعة اشعار المحبة وهي النسيب واشعار الغضب والحمية وهي الحماسة والهجاء واشعار المصائب كالمراثي واشعار النعم والفرح وهي المدائح

والشعراء جرت عادتهم ان يمشوا مع الطبع كما قال الله تعالى ألم تر انهم في كل واد يهيمون وانهم يقولون مالا يفعلون سورة الشعراء 225 226 ولهذا اخبر انهم يتبعهم الغاوون والغاوي هو الذي يتبع هواه بغير علم وهذا هو الغي وهو خلاف الرشد كما ان الضال هو الذي لا يعلم مصلحته وهو خلاف المهتدي

قال الله سبحانه وتعالى والنجم اذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى سورة النجم 1 2 ولهذا قال النبي عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي

فلهذا تجدهم يمدحون جنس الشجاعة وجنس السماحة اذ كان عدم هذين مذموما على الاطلاق واما وجودهما ففيه تحصيل مقاصد النفوس على الاطلاق لكن العاقبة في ذلك للمتقين واما غير المتقين فلهم عاجلة لا عاقبة والعاقبة وان كانت في الاخرة فتكون في الدنيا ايضا

كما قال تعالى لما ذكر قصة نوح ونجاته بالسفينة قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى امم ممن معك وامم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب اليم قال تلك من انباء الغيب نوحيها اليك الى قوله فاصبر ان العاقبة للمتقين سورة هود 48 49

وقال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا ان الله مع المتقين سورة البقرة 194

والفرقان ان يحمد من ذلك ما حمده الله ورسوله فإن الله تعالى هو الذى حمده زين وذمه شين دون غيره من الشعراء والخطباء وغيرهم

ولهذا لما قال القائل من بني تميم للنبي ان حمدي زين وذمي شين قال له ذاك الله

والله سبحانه حمد الشجاعة السماحة في سبيله كما في الصحيح عن ابي موسى الاشعري رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله

وقال قال سبحانه وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله سورة الانفال 39 وذلك ان هذا هو المقصود الذي خلق الله الخلق له كما قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون سورة الذاريات 56 فكل ما كان لأجل الغاية التي خلق له الخلق كان محمودا عند الله وهوالذي يبقى لصاحبه وينفعه الله به وهذه الاعمال هي الباقيات الصالحات ولهذا كان الناس اربعة اصناف

من يعمل لله بشجاعة وبسماحة فهؤلاء هم المؤمنون المستحقون للجنة

ومن يعمل لغير الله بشجاعة ومن وسماحة فهذا ينتفع بذلك في الدنيا وليس له في الاخرة من خلاق

ومن يعمل لله لكن بلا شجاعة ولا سماحة فهذا فيه من النفاق ونقص الايمان بقدر ذلك

ومن لا يعمل لله ولا فيه شجاعة ولا سماحة فهذا ليس له دنيا ولا آخرة

فهذه الاخلاق والأفعال يحتاج اليها المؤمن عموما وخصوصا في أوقات المحن والفتن الشديدة فإنهم يحتاجون الى صلاح نفوسهم ودفع الذنوب عن نفوسهم عند المقتضى للفتنة عندهم ويحتاجون ايضا الى امر غيرهم ونهيه بحسب قدرتهم

وكل من هذين الامرين فيه من الصعوبة ما فيه وان كان يسيرا على من يسره الله عليه

وهذا لأن الله امر المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح وامرهم بدعوة الناس وجهادهم على الايمان والعمل الصالح

كما قال الله تعالى ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز الذين ان مكناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور سورة الحج 40 41

وكما قال إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد سورة غافر 51

وكما قال كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ان الله قوي عزيز سورة المجادلة 21

وكما قال وإن جندنا لهم الغالبون سورة الصافات173 - وقال ومن يتول الله ورسوله والذين امنوا فإن حزب الله هم الغالبون سورة المائدة 56

ولما كان في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يتعرض به المرء للفتنة صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة

كما قال تعالى عن المنافقين ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني الا في الفتنه سقطوا سورة التوبة 49 الاية وقد ذكروا في التفسير انها نزلت في الجد بن قيس لما امره النبي بالتجهز لغزو الروم وأظن أن رسول الله قال له هل لك في نساء بني الاصفر فقال يا رسول الله اني رجل لا اصبر على النساء واني اخاف الفتنة بنساء بني الاصفر فائذن لي ولا تفتني وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة واستتر بجمل احمر وجاء فيه الحديث ان كلهم مغفور له الا صاحب الجمل الاحمر فأنزل الله تعالى فيه ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا سورة التوبة 49 يقول انه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء فلا يفتتن بهن فيحتاج الى الاحتراز من المحظور ومجاهدة نفسه عنه فيتعذب بذلك او يواقعه فيأثم فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها فإن لم يتمكن منها اما لتحريم الشارع وأما للعجز عنها تعذب قلبه وان قدر عليها وفعل المحظور هلك وفي الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء

فهذا وجه قوله ولا تفتني قال الله تعالى ألا في الفتنة سقطوا سورة التوبة 49 يقول ان نفس اعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف ايمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد فتنة عظيمة قد سقط فيها فكيف يطلب التخلص من فتنة صغير لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد اصابته

والله تعالى يقول وقاتلوهم حتى لت تكون فتنة ويكون الدين كله لله سورة الانفال 39 فمن ترك القتال الذي امر الله به لئلا تكون فتنة فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده وتركه ما امر الله به من الجهاد فتدبر هذا فان هذا مقام خطر والناس فيه على قسمين قسم يأمرون وينهون ويقاتلون طلبا لإزالة الفتنة زعموا ويكون فعلهم ذلك اعظم فتنة كالمقتتلين في الفتن الواقعة بين الامة مثل الخوارج

وأقوام ينكلون عن الامر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا لئلا يفتنوا وهم قد سقطوا في الفتنة

وهذه الفتنة المذكورة في سورة براءة دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة فإنها سبب نزول الآية وهذه حال كثير من المتدينة يتركون ما يجب عليهم من امر ونهي وجهاد يكون به الدين لله وتكون به كلمة الله هي العليا لئلا يفتنوا بجنس الشهوات وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي اعظم مما زعموا انهم فروا منه وانما الواجبة عليهم القيام بالواجب من الامر والنهي وترك المحظور والاستعانة بالله على الامرين ولو فرض ان فعل الواجب وترك المحظور وهما متلازمان وانما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم الا على فعلهما جميعا او تكرهما جميعا مثل كثير ممن يجب الرياسة او المال او شهوات الغي فانه اذا فعل ما وجب عليه من امر ونهي وجهاد وامارة ونحو ذلك فلا بد ان يفعل معها شيئا من المحظورات فالواجب عليه ان ينظر أغلب الامرين فإن كان المأمور اعظم اجرا من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف ان يقترن به ما هو دونه في المفسدة وان كان ترك المحظور اعظم اجرا لم يفوت ذلك برجاء ثواب فعل واجب يكون دون ذلك فذلك يكون بما يجتمع له من الامرين من الحسنات والسيئات فهذا هذا وتفصيل ذلك يطول

وكل بشر على وجه الارض فلا بد له من امر ونهي ولا بد ان يأمر وينهى حتى لو انه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها اما بمعروف واما بمنكر كما قال الله تعالى ان النفس لأمارة بالسوء سورة يوسف 53

فإن الأمر هو طلب الفعل وارادته والنهي طلب الترك وارادته ولا بد لكل حى من ارادة وطلب في نفسه يقتضى بهما فعل نفسه ويقتضى بهما فعل غيره اذا امكن ذلك فإن الانسان حي يتحرك بإرادته

وبنو آدم لا يعيشون الا باجتماع بعضهم مع بعض واذا اجتمع اثنان فصاعدا فلا بد ان يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن امر ولهذا كان اقل الجماعة في الصلاة اثنين كما قيل الاثنان فما فوقهما جماعة لكن لما كان ذلك اشتراكا في مجرد الصلاة حصل باثنين احدهما امام والاخر مأموم كما قال النبي لمالك ابن الحويرث وصاحبه رضي الله عنهما اذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وكانا متقاربين في القراءة

وأما في الامور العادية ففي السنن انه قال لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أمروا عليهم احدهم

واذا كان الامر والنهي من لوازم وجود بني آدم فمن لم يأمر بالمعروف الذي امر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ويؤمر بالمعروف الذي امر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله وإلا فلا بد من ان يأمر وينهى ويؤمر وينهى اما بما يضاد ذلك واما بما يشترك فيه الحق الذي انزله الله بالباطل الذي لم ينزله الله واذا اتخذ ذلك دينا كان دينا مبتدعا ضالا باطلا

وهذا كما ان كل بشر فإنه حي متحرك بإرادته همام حارث فمن لم تكن نيته صالحة وعمله عملا صالحا لوجه الله والا كان عملا فاسدا او لغير وجه الله وهو الباطل كما قال تعالى ان سعيكم لشتى سورة الليل

وهذه الاعمال كلها باطلة من جنس أعمال الكفار الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم سورة محمد 1

وقال تعالى والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحسباب سورة النور 39 وقال وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا سورة الفرقان 23

وقد امر الله تعالى في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة اولي الأمر من المؤمنين كما قال تعالى يا أيها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تأويلا سورة النساء 59

وأولوا الامر اصحاب الامر وذووه وهم الذين يأمرون الناس وينهونهم وذلك يشترك فيه اهل اليد والقدرة واهل العلم والكلام فلهذا كان اولو الامر صنفين العلماء والامراء فاذا صلحوا صلح الناس واذا فسدوا فسد الناس

كما قال ابو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته ما بقاؤنا على هذا الامر الصالح قال ما استقامت لكم ائمتكم

ويدخل فيهم الملوك والمشايخ واهل الديوان وكل من كان متبوعا فإنه من اولى الامر وعلى كل واحد من هؤلاء ان يأمر بما امر الله به وينهى عن ما نهى الله عنه وعلى كل واحد ممن عليه طاعته ان يطيعه في طاعة الله ولا يطيعه في معصية الله

كما قال ابو بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى امر المسلمين وخطبهم فقال في خطبته ايها الناس القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق اطيعوني ما اطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم

فصل

[عدل]

واذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين ان يراد بها وجه الله وان تكون موافقة للشريعة فهذا في الاقوال والافعال في الكلم الطيب والعمل الصالح في الامور العلمية والامور العملية العبادية

ولهذا ثبت في الصحيح عن النبي ان اول ثلاثة تسجر بهم جهنم رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن وأقرأه ليقول الناس هو عالم وقارئ ورجل قاتل وجاهد ليقول الناس هو شجاع وجرئ ورجل تصدق واعطى ليقول الناس هو جواد وسخي فإن هؤلاء الثلاثة الذين يريدون الرياء والسمعة هم بإزاء الثلاثة الذين بعد النبيين من الصديقين والشهداء والصالحين فإن من تعلم العلم الذي بعث الله به رسله وعلمه لوجه الله كان صديقا ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وقتل كان شهيدا ومن تصدق يبتغي بذلك وجه الله كان صالحا

ولهذا يسأل المفرط في ماله الرجعة وقت الموت كما قال ابن عباس رضي الله عنهما من اعطي مالا فلم يحج منه ولم يزك سأل الرجعة وقت الموت وقرأ قوله تعالى وانفقوا مما رزقناكم من قبل ان يأتي احدكم الموت فيقول رب لولا اخرتني الى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين سورة المنافقون 10

ففي هذه الامور العلمية الكلامية يحتاج المخبر بها ان يكون ما يخبر به عن الله واليوم الاخر وما كان وما يكون حقا وصوابا وما يأمر به وما ينهي عنه كما جاءت به الرسل عن الله فهذا هو الصواب الموافق للسنة والشريعة المتبع لكتاب الله وسنة رسوله كما ان العبادات التي يتعبد العباد بها اذا كانت مما شرعة الله وامر الله به ورسوله كانت حقا صوابا موافقا لما بعث الله به رسله وما لم يكن كذلك من القسمين كان من الباطل والبدع المضلة والجهل وان كان يسميه من يسميه علوما ومعقولات وعبادات ومجاهدات واذواقا ومقامات

ويحتاج ايضا ان يؤمر بذلك لأمر الله به وينهى عنه لنهي الله عنه ويخبر بما اخبر الله به لأنه حق وايمان وهدى كما أخبرت به الرسول كما تحتاج العبادة إلى أن يقصد بها وجه الله فاذا قيل ذلك لاتباع الهوى والحمية او لإظهار العلم والفضيلة او لطلب السمعة والرياء كان بمنزلة المقاتل شجاعة وحمية ورياء

ومن هنا يتبين لك ما وقع فيه كثير من اهل العلم والمقال واهل العبادة والحال واهل الحرب والقتال من لبس الحق بالباطل في كثير من الاصول فكثيرا ما يقول هؤلاء من الاقوال ما هو خلاف الكتاب والسنة او ما يتضمن خلاف السنة ووفاقها وكثيرا ما يتعبد هؤلاء بعبادات لم يأمر الله بها بل قد نهى عنها او ما يتضمن مشروعا ومحظورا وكثيرا ما يقاتل هؤلاء قتالا مخالفا للقتال المأمور به او متضمنا لمأمور به ومحظور