انتقل إلى المحتوى

الإنسان الأخير

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

الإنسان الأخير

​الإنسان الأخير​ المؤلف سيد قطب


صحا ذات يوم حين تصحو البواكرُ
وتستيقظ الدنيا وتجلو الدياجرُ
ويشرقُ وجه الصبح في غمرة الدجى
كما تشرقُ الآمال واليأس غامرٌ
وتضطربُ الأنفاسُ خفّضها الكرى
وتخفق أرواح وتذكو مشاعرُ
وحين يعج الكون بالصوت والصدى
وبالكدح تزجيه المنى والمخاطرُ
وبالصرخة الهوجاء والضحكةُ التي
يضج بها الأحياءُ والدهرُ ساخرُ
ولكنهُ لم يلفِ بالكون نأمة
تنم على حيّ، ولم يهـفُ خاطرُ
ففي نفسهِ ما يشبهُ الموت سكرة
ومن حوله موتٌ نمتهُ المقابرُ
جلال كأن الله أطلع وجههُ
عليهِ، فقرّت في النفوس الضمائرُ
وصمتٌ فما في الكون صوت ولا صدى
ولا خفقةٌ يُحيي بها الكون شاعر
فأدرك في أعماقهِ عن بديهة
نهاية ما صارت إليه المصائر!
وما همّ بالتنقيب عن أي صاحبٍ
ففي نفسهِ يأسٌ من النفسِ صـادرُ
ولكنهُ ألقى بها عبر نظرة
على الكون والأيام وهي دوائرُ
ركامُ وأشلاء وأطلال نعمـة
وبؤسٌ، وشتّى ما حوتهُ الأداهر
وفي نفسهِ من مثلها كل ذرة
فهاتيك أشلاء وهذي خواطرُ
تجمّع فيها ما تفرق في الورى
وما ضمنت تلك السنون الغوابرُ
خلاصةُ أعمارٍ وشتى تجاربٍ
ومجمع أشواق بها الكون حائرُ
وأوغلَ في إطراقةٍ ملؤها الأسى
فمرّت عليه الذكريات العوابرُ
تحث خطاها موكبا إثر موكبٍ
وقد جاورت فيها المآسي البشائرُ
وأقبلت الآمالُ واليأس حولها
تمزقها أنيابهُ والأظافرُ
وجمّع فيها الخير والشر رابط
من النفس مشدود إليها مخامرُ
وشتى عبادات وشتى عقائد
يؤلفها الإيمان وهي نوافرُ!
وفيها من المجهول سرٌ وروعة
ورغبة محروم وخوف مساورُ
وقد كان في المجهول مطمح كاشـف
تحجّبه عن طالبيه الستائرُ
فيا ليته يدري بما خلف سترهُ
فيختم سفر الناس في الأرض ظافرُ!
وعادت له الآمالُ إذ جدّ مطمح
يرجى، وأذكاه الخيال المغامرُ
لعل وراء الكون مفتاح لغزه
وطلسم ما ضمت عليه السرائرُ
وما هي إلا ومضةٌ تكشف الدجى
ويخلع هذا الجسم والجسمُ جائرٌ
ولولا مواثيق الحياة تشدّهٌ
إليها لأمضى عزمهُ وهو صابرُ
وخلّف هذا الجسم للموت والبلى
وأشرق روحاً حيث تصفو البصائرُ
وعاودهُ حب الحياة لذاتها
وقد أجفلت تلك النوازي الكوافرُ
وهاجت به الأطمـاع حب امتلاكها
له وحدهُ والناس ميت وداثرُ
فعاد إلى الدنيا العريضة مالكاً
ولا من يلاحيهِ ولا من يشاطرُ
ولكنه لم يستطب ملكهُ الذي
تمحص لا يسعى به أو يغامرُ
وما فيه من كدّ ولا من تسابقٍ
ولا سابق في الكادحين وقاصرُ
وكيف يطيب العيشُ إلا تزاحماً
فيربحُ مجدود، ويخسرُ عاثرُ!
:" برمتُ بهذا الكون همدان موحشاً
برمتُ بملكٍ ربهُ (1) فيه خاسرُ "
"فهيّا إذن للموت أروح رحلة
لتكشف أستار ويهدأ ثائرُ "!
وفيما يعاني سكرة الموت هينمت
إلى مسمعيه هاتفات سواحرُ
" هو السر أن تهفو إلى السر لهفة
وأن تشتروا الآتي بما هو حاضرُ "!
(1)
صاحبهُ