الإيضاح لمتن إيساغوجي في المنطق
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنبياء والمرسلين. وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(أَمَّا بعد) فهذا شرح لطيف على رسالة الأستاذ الجليل أثير الدين مفضل بن عمر الأبهري المتوفي في حدود سنة ۷۰۰ للهجرة النبوية في علم المنطق المعروفة بإيساغوجي وضعته ليستعين به المبتدئون في هذا المعلم من طلاب مشيخة علماء الإسكندرية على فهم القواعد التي اشتملت عليها هذه الرسالة والله أسأل أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم. وأن يعم بنفعه الظاعن والمقيم. (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ. الحْمَدُ اللهَ عَلَى تَوْفِيقِهِ. وَنَسْأَلُهُ هِدَايَةَ طَرِيقِهِ. وَنُصَلَّي عَلَى مُحَمَّدِ وَعِتْرتِهِ أَجْمَعِينَ. وَأَمَّا بَعْدُ فَهذِهِ رِسَالَةٌ فِي المَنْطِقِ أَوْرَدْنًا فِيهَا مَا يَجِبُ اسْتِحْضَارُهُ لِمَنْ يَبْتَدِئُ فِي شَيءٍ مِنَ الْعُلُومِ مُسْتَعِينًا بِاللهِ تَعَالى إِنَّهُ مُفِيضُ الْخَيْرَ وَالجَودِ)
اعلم أيها الطالب - أرشدني الله وإياك إلى الحق المبين- أن البارئ جلت قدرته خلق الإنسان ومنحه الشرق إلى علم ما هو جهول لديه ووهبه القدرة على اكتساب تلك المجهولات ومهد له طريقًا سويًا إلى اكتسابها فكان ما يعلمه موصلًا إلى علم ما يجهله والله ذو الفضل العظيم. خلق الله الإنسان مسوقًا فطرته إلى اكتساب المجهولات من المعلومات وشرع للاكتساب طرقًا محدودة لا يضل سالكها فأصحاب الفطر السليمة فطرتهم سلامة فطرتهم عن تعرف هذه الطرق في المسائل النظرية كما يستغنى عنها عامة البشر في المسائل الضرورية. ألا ترى أن العامي أو الطفل الصغير إذا قلت له ماذا تفعل هذه الفحمة المتقدة إذا وضعت فوق هذا الحصير أليس يقول إنها تحرقه فإن قلت له ولم ذلك أليس يقول إنها نار، فهذا الذي يقوله العامة والطفل يرجع إلى قياس منطقي هو قولنا هذه نار وكل نار محرقة لينتج أنها محرقة فهذه الطرق التي شرعها الحق سبحانه لاكتساب المجهولات من المعلومات هي التي استنبطها المتقدمون أحسن الله جزاءهم ودونوها في مؤلفاتهم وسموها على المنطلق. فالمنطق إذًا هو مجموع القواعد والقوانين التي إذا راعاها طالب العلم في اكتسابه للمجهولات أمن من الخطأ في طريق كسبه، ومعلوماتنا كمجهولاتنا منها ما هو تصور كإدراك مفهوم الإنسان والحيوان والفرس ونحوها، ومنها ما هو تصديق المعني التصديقي في قولنا العلم نافع والحياء من الإيمان والدين النصيحة. وطريق اكتساب التصورات مي المعرفات حدودًا كانت أو رسومًا وطريق اكتساب التصديقات هي الأقيسة والبراهين وللمعرفات مقدمات هي الكليات الخمس التي تتألف منها تلك المعرفات وللأقيسة والبراهين مقدمات هي القضايا التي تتألف منها الأقيسة وأحكام تلك القضايا من عكوسها ونقائضها على ما سيأتي تفصيله.
وحسبك أيها الطالب - أرشيك الله وأنت على عتبة باب هذا العلم العظيم القدر - أن تعلم أن المنطق هو ميزان العلوم وأنه مجموع القواعد التي تعصم مراعاتها الذهن من الخطأ في ترتيب المعلومات لاكتساب المجهولات. وأضرب لك مثلًا تتحقق منه صدق ما ذكرته لك. أن مشيخة علماء الإسكندرية قد حتمت على كل طالب في السنة الثالثة أن يتلقى علم المنطق وقد نُقلتَ في الامتحان من السنة الثانية إلى السنة الثالثة فلكي تبرهن على وجوب تلقيك لعلم المنطق يلزم أن تقول: أنا طالب من طلاب السنة الثالثة وكل طالب في السنة الثالثة يجب عليه أن يتلقى علم المنطق فأنا يجب علىَّ أن أتلقي علم المنطق. فهذا قياس منتج لأنك ستعلم أن محمول القضية الصغرى أعني خبر الجملة الأولى مندرج في موضوع القضية الكبرى أعني أنه فرد من أفراد المبتدأ في الجملة الثانية فإذا حكمت على موضوع الكبرى بوجوب تعلم المنطق فقد سرى الحكم إلى موضوع الصغرى وهو أنت لأَنك واحد ممن يصدق عليهم موضوع الكبرى. فإذا لم تراع سريان الحكم من إحدى القضيتين إلى الأخرى لم تأمن الخطأ كما إذا قلت أنا طالب من طلاب السنة الثالثة وكل طالب في السنة السابعة يجب عليه أن يتلقى علوم البلاغة فهذا غير منتج لعدم سريان الحكم من القضية الثانية إلى الأولى. وسوف تعلم تفاصيل هذه الكلمات إن شاء الله تعالى فاصبر وما صبرك إلا بالله.
(إِيسَاغُوجِي) هذه الكلمة بمنزلة قول المصنف فيما يأتي: القول الشارح . القضايا . التناقض . العكس . القياس . فهي ترجمة من التراجم وهي كلمة يونانية معناها الكليات الخمس ولغرابتها عن اللغة العربية اشتهر هذا الكتاب بها حتى صارت كالعلَم عليه فيقال إيساغوجي ويراد به الكتاب بأجمعه لا هذا الفصل وحده.
(اللَّفْظْ الدَّالُّ يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ، بِاْلمُطابَقَةِ وَعَلَى جُزْئِهِ بِالتَّضَمُّنِ، وَعَلَى مَا يُلاَزِمُهُ فِي الذَّهْنِ بِالاِلْتِزَامِ، كَالْإِنْسَانِ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الحَيَوَانِ النَّاطِقِ بِالمُطَابَقَةِ، وَعَلَى أَحَدِهِمَا بِالتَّضَمُّنِ، وَعَلَى قابِلِ العِلْمِ وَصِنَعَةِ الْكِتَابَةِ بِالاِلْتِزَامِ)
لا شك أن الفظ الذي وضع بإزاء معنى من المعاني يدل على ذلك المعنى إذا أطلق فزيد الموضوع للذات المشخصة إذا نطق به ناطق وسمعه من كان عالمًا بوضعه له فإنه يفهم من هذا اللفظ تلك الذات المعينة وكما يفهم السامع من اللفظ معناه الذي وضع بإزائه فإنه قد يفهم أجزاء ذلك المعنى ويفهم لوازمه أيضاً.
«مثلًا كلمة ميزان» إذا أطلقت فهم السامع منها الآلة المخصوصة وهو المعنى الذي وضعت بإزائه وفهم أيضًا الكفتين والمنجم 1 مما هو جزء للمعنى الموضوع له اللفظ وفهم أيضاً خاصة هذه الآلة وهي إنها واسطة لعلم مقادير الأشياء وزناً.
«مثال آخر» الشمعة إذا أطلقت فهم منها ذلك الشكل الاسطواني المعروف وهو المعنى الذي وضعه اللفظ وفهم أيضًا أجزاؤه من الشمع والخيط الذي يحيط به الشمع وفهم أيضًا أنها تنير المكان إذا أوقد ذلك الخيط.
«مثال آخر» القهوة إذا أطلقت فهم منها هذا الشراب المخصوص وفهم منها أيضًا الأجزاء التي تألفت منها وهي الماء والبن وفهم أيضًا مرارة الطعم وهكذا. وبالجملة فكل لفظ موضوعٍ لمعنى من المعاني فأن العالم بوضعه إذا سمعه فهم منه المعنى الذي وضع بإزائه ويتبع ذلك فهم الأجزاء التي يتألف منها ذلك المعنى واللوازمِ التي تلزمه. فبالضرورة يكون اللفظ دالاً على كل من هذه الأشياء لأن دلالة اللفظ هي كونه بحيث متى أطلق فهم منه المعنى، وهذه الثلاثة أعني المعنى الذي وضع اللفظ بإزائه والأجزاء التي يتألف منها المعنى واللوازم التي لا تفارق هذا المعني تفهم من اللفظ متى أطلق وإن كان الأخيران لا يفهمان إلا تبعًا للأول.
إذا تحققت هذا فاعلم أن المناطقة – دفعًا للالتباس – قد اختصوا كل واحد من هذه الثلاثة باسم خاص فسموا دلالة اللفظ على المعنى الذي وضع بإزائه، وهو المعنى بتمامه، دلالةَ المطابقة لأن المطابقة معناها الموافقة وقد توافق اللفظ والمعنى وذلك قول المصنف «اللَّفْظْ الدَّالُّ يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ بِاْلمُطابَقَةِ» وسموا دلالة اللفظ على جزء المعنى بالتبعية لفهم الكل دلالةً تضمنية لأنها دلالة على ما هو في ضمن المعنى وداخل فيه وذلك قوله «وَعَلَى جُزْئِهِ بِالتَّضَمُّنِ» وسموا الدلالة على الخارج الذي لا يفارق المعني إذا فهم بالتبعية له دلالةً التزامية لأن اللزوم هو عدم الانفكاك وهذا الخارج كذلك.
وما ينبغي التنبه له أنه لا التباس في دلالة اللفظ على تمام معناه ولا في دلالته على أجزاء المعنى وإنما يوجد الالتباس في المدلولات الخارجة عن المعنى وأجزائه. وذلك أن اللفظ قد يطلق فيفهم منه معناه الموضوع له ويفهم منه شيء آخر لعلاقة مَّا بينهما كحاتم . ومادر . وأشعب . فإن هذه الألفاظ قد وضعت للذوات المعينة ولكنها إذا أطلقت يفهم منها معنى آخر وهو الكرم . والبخل . والطمع . لا لأن ذلك هو تمام المعنى أو جزؤه بل لأنه من الصفات الغالبة على المسميات بهذه الأسماء. وكالبطيخ إذا أطلق فهم معناه وهو الفاكهة المخصوصة وفهم معها حلاوة الطعم . وكالغراب . والزنجي . إذا أطلقا فهم معناهما وفهم مع كل منها سواد اللون، فمثل هذه المداولات وإن فهمت من اللفظ تبعًا للمعنى الموضوع له إلا أن المنطقي لا يعتبرها من نوع الدلالة الالتزامية لا لأنها غير مفهومة من الفظ تبعًا للمعنى بل لأنها غير مطردة، إذ من المحقق وجود البطيخة المرة الطعم ومن الممكن أن يوجد غراب وزنجي أبيض اللون، والمنطقي إنما يبحث عن المدلول الذي لا يفارق المعنى بحال من الأحوال. فالمدلول الالتزامي إنما هو الشيء الذي يجزم العقل بلزومه، وعدم انفكاكه من المدلول المطابقي. ولزومُ الشيء للشيء قد يوقف الجزم به على اقامة البرهان، ويسمى لازماً غير بيّن، كمساواة زوايا المثلث لقائمتين، فإن العقل لا يجزم بلزوم ذلك لكل مثلث إلا إذا اطلع على البرهان المثبت له، وقد لا يتوقف فيسمى بيّنًا، وهو نوعان: فمنه ما يتوقف الجزم باللزوم فيه على تصور اللازم والملزوم، ويسمَّى بيّنًا بالمعنى الأعم، ومنه ما يكون تصور الملزوم وحده كافيًا في تصور اللازم والجزم باللزوم، ويسمى بيّنًا بالمعنى الأخص. والحق أن المدلول الإلتزامي هو هذا الأخير، لأنه هو الذي يفهم من اللفظ لا أطلق، وذلك قوله: «وَعَلَى مَا يُلاَزِمُهُ فِي الذَّهْنِ بِالاِلْتِزَامِ». والله أعلم بالصواب.
الدلالة اللفظية - وهي كون اللفظ بحيث يفهم منه معنى - إما أن تستند إلى مجرد العقل أو لا. فإن استندت إلى مجرد العقل فهي عقلية، كمن سمع لفظًا من شبح في ظلام الليل، فإنه يفهم أن اللافظ إنسان وأنه حيّ، فالإنسانية والحياة مدلولان للصوت المسموع، لا لأن اللفظ المسموع موضوع لهما، وإنما ذلك لأن العقل يحكم بأن التلفظ من خواص الإنسان الحيّ. والتي لا تستند إلى مجرد العقل فإمَّا أن تستند إلى الطبع أو لا. فأن استندت إلى الطبع فهي طبيعية كدلالة «أخ» على وجع الصدر، والأنين على المرض. فأن طبيعة المصدور تدفعه إلى النطاق بكلمة «أخ»، وطبيعة المرض تدفع إلى الأنين. فوجع الصدر والمرض مدلولان، لا بسبب الوضع ولكن بالاستناد إلى الطبع. والتي لا تستند إلى عمل ولا إلى طبع، فأما إن تستند إلى الوضع أو لا. فإن استندت إلى الوضع فوضعية، كدلالة الألفاظ الموضوعة لمعانيها المخصوصة في اللغة العربية واللغات الأخرى، فإن هذه المعاني المخصوصة انما تفهم من الألفاظ بواسطة أن كل لفظ منها وضع للمعنى الذي خص به. وإن لم تستند لا إلى عقل ولا إلى طبع ولا إلى وضع فهي التي سماها المصنف باسم الفعلية، وذلك كبقية الدلالات غير المطردة التي لا يبحث المنطقي عنها. فأنا قد أسلفنا لك أن الألفاظ كثيرًا ما تدل على معان ليست تمام المعنى ولا جرأه ولا لازمه الذي لا يتصور انفكاكه. فهذه المدلولات لا تستند إلى عقل أو طبع حتى تكون طبيعية أو عقلية، ولا إلى وضع حتى تكون وضعية، فهي إذًا دلالة حاصلة بالفعل، مستندة إلى إلف أو عادة أو نحوهما، ولك أن تسميها بما شئت، أو كما سماها المصنف دلالة فعلية. (فإن قلت) هذه الدلالات التي سميناها فعلية كدلالة حاتم على مكرم، ودلالة الزنجي على اسوداد لونه، والبطيخ على حلاوة طعمه، تستند في الحقيقة إلى الوضع، لأنها لم تفهم من اللفظ إلا من حيث كونه موضوعًا للمعنى فأحر بها أن تسمَّى وضعية (قلت) الخطب في ذلك سهل فأما أن نفعل كما فعل المصنف اعتادًا على أصل الوضع ولا نجعلها من الدلالة الوضعية، وإما أن نلاحظ ما قلت، وحينئذ يجب تقسيم الدلالة الوضعية إلى مطردة تنقسم إلى المطابقة والتضمن والالتزام وإلى غير مطردة وهي التي سماها المصنف دلالة فعلية والله أعلم بالصواب
(ثُمَّ اللَّفْظُ إِمَا مُفْرَدٌ وَهُوَ الَّذِي لاَ يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دِلاَلَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ كَالإِنْسَانِ وَإِمَّا مُؤَلَّفٌ وَهُوَ الَّذِي لاَ يَكُونُ كَذلِكَ كَرامِي الْحِجَارَةِ)
اعلم أن اللفظ الموضوع لمعنى قد لا يكون له جزء أصلًا كهمزة الاستفهام وواو العطف، وقد يكون ذا أجزاء لا تدل على معنى كمحمد وعَليّ، وقد يكون لأَجزائه دلالة على معنى لكنه ليس جزء المعنى الموضوع له، كتاج الدين علمًا لرجل، فأن كل واحد من جزئيه دال على معنى ولكنه ليس جزأ للمعنى الموضوع له، وقد يكون ذا أجزاء دالة على معنی هو جزء المعنى الموضوع له ولكن لم يقصد منها الدلالة على ذلك الجزء من المعنى كالحيوان الناطق علمًا لرجل، فأنه وإن كان معنى الحيوان ومعنى الناطق جزأ من المسمى ولكن لم يقصد من التسمية أن يكون الحيوان دالا على أحد الجزئين والناطق دالا على الجزء الآخر، وقد يكون اللفظ ذا أجزاء دالة على معنى هو جزء المعني الموضوع له وأريد على جزء الدلالة على جزء المعنى المقصود كرامي الحجارة والعلم نور وبقية المركبات العامة والناقصة. فهذا الأخير وحده هو المركب والأربعة التي قبله مفردات.
فإن قلت قد يكون اللفظ مركبًا من ثلاثة أحرف ويراد بكل حرف منه الدلالة على معنى هو جزء المعنى المقصود كقول الحنفية «ومسئلة البئر جحط» يريدون بذلك الإشارة إلى الأقوال الثلاثة في البئر إذا سقط فيها الجنب فالجيم إشارة إلى نجاستهما والحاء إلى بقاء الماء على طهارته والجنب على جنابته والطاء إلى طهارتهما وكالرموز التي اصطلح عليها المحدثون والقراء والفقهاء إشارة إلى الرواة أصحاب الأقوال كما تجده كثيرًا في الشاطبية والجامع الصغير. (قلت) قد يمكن القول بأن هذه الكلمات الرمزية من المركبات ولا حرج علينا في ذلك ما دام كل حرف منها رمزًا للشيء ودلا عليه، أو اختصارًا الكلمة الدالة عليه. ومن قال بأنها من المفرد لأن الإرادة في قولنا: يراد بالجزء منه الدلالة على جزء المعنى - إنما هي الإرادة الجارية على قانون اللغة، وهذه ليست كذلك، فقد استهدف لسهام الناقدین. ثم المركب، إما ناقص كالمركبات التوصيفية، كالإنسان الكامل، أو الاضافية كحجة الإسلام. وإما تام انشائي، كأقم الصلاة، ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾، وخبري كقوله ﷺ «من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين» وقوله «كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته».
(وَالمُفْرَدُ إِمَّا كُلِّىٌّ وَهُوَ الَّذِي لاَ يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ وَقَوعِ الشَّركَةِ فِيهِ كَالإِنْسَانِ، وَإِمَّا جُزْئِيٌ وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ ذلِكَ كَزَيْدٍ)
اللفظ المفرد بالنظر إلى معناه الموضوع له إما كلي، وإما جزئي لأن مفهومه، إما أن يمكن صدقه على كثيرين أو لا، فالذي لا يمكن صدقه على كثيرين، يسمَّى جزئيًا كأعلام الأشخاص، نحو عبد الله علماً، فإن الصورة الحاصلة في الذهن عند سماع هذا الاسم للعلم بوضعه لمسماه، لا يمكن أن تصدق على غير الشخص المخصوص المسمَّى بها. والذي يمكن صدقه على كثيرين يسمَّى كليًا، سواء كانت له أفراد كثيرة بالعمل الإنسان، فإن الصورة الحاصلة من هذا اللفظ في ذهن العالم بوضعه لمسماه تصدق على زيد وعمرو وغيرهما من الأفراد الموجودة والتي لم توجد أو وجدت وأدركها الفناء، لأن كل واحد منها يتحقق فيه معنى الإنسان، أو كان له فرد واحد فقط، كالشمس وواجب الوجود، فأن الشمس وإن لم يوجد من مفهومها وهو الكوكب النهاري إلا فرد واحد، إلّا أنه بحيث لو وجد كوكب نهاري آخر، لصدق عليه اسم الشمس، وواجب الوجود، وإن قام البرهان على أنه لا يكون إلا واحدًا، إلا أن مفهوم اللفظ ذاته لا يستلزم استحالة صدقه على غير الواحد القهار، أو لم يوجد من افراده شيء أصلا، كالمعدوم والمستحيل واللاشيء، فان هذه الكليات وان لم يوجد من أفرادها شيء، إلّا أن العالم بوضعها لمعانيها يقدر صدقها على الأفراد التي تتطبق عليها مفهوماتها، ولذلك يسميها المناطقة بالكليات الفرضية.
فقد استبان لك مما تقدم، أن اللفظ الكلي هو الذي لا يمنع نفس تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه، أي لا يمنع مفهومه الذي تتصوره وقوع الشركة فيه، من حيث التصور نفسه لا بالنظر إلى شيء آخر، كاستحالة وجود أكثر من فرد له، أو استحالة وجود جملة افراده، وأن الجزئي، هو الذي يمنع نفس تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه، كمحمد ونافع وعبد الله أعلامًا، فان مفهوم كل منها الذي يتصوره العارف بوضعه للذات المعينة، يمنع الشركة فيه من حيث التصور نفسه. (فإن قلت): إنا نجد كثيرًا الجزئيات، لا يمنع نفس تصور مفهومه وقوع الشركة فيه، كهذه الأمثلة التي مثلت بها، فإن محمدًا مثلًا اسم لأشخاص قد لا يحصيهم العدّ، فلم يمنع نفس تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه؛ فهو إما كلي أو الحد الفاصل بين الكلي والجزئي شيء آخر غير ما ذكرت (قلت) لا هذا ولا ذاك، فأن محمداً إنما وضع للذات المعينة المخصومة، فهو لا يصدق إلا عليها بالنظر لذلك الوضع، فلو فرضناه موضوعاً لذات أخرى، فهو لا يصدق إلا عليها بالنظر هذه الوضع أيضاً، وهكذا فلم يكن صادقاً على كثيرين بالنسبة لوضع واحد، وإنما تعدد معانيه بتعدد الوضع لها، واعتبر ذلك فيه إذا كان صفة، فإنه يصدق على كل من حمدت سجاياه بالنظر إلى رقم واحد، ولذلك نحن نعده في هذه الحالة من الكليات، والاشتباه إنما جاءك من عدم الالتفات إلى تعدد الوضع الذي يستلزم تعدد الموضوع له. (فإن قلت) هب أن الأمر كما تقول، أفلا يمكن أن نفرض صدق الجزئي على كثيرين كما فعلنا في الكليات الفرضية (قلت) أن ذلك هدم لسور الوضع الذي يعتمد عليه في الدلالة على المعنى الموضوع له، ولا كذلك الكليات الفرضية. هذا ولعلك قد فهمت مما سبق أن الكلية والجزئية من صفات المعاني لا من صفات الألفاظ، فلا يقال اللفظ كلي إلا من حيث إن معناه كلي. كما أن الأفراد والتركيب من صفات الألفاظ لا المعاني فلا يقال للمعنى إنه مفرد إلا باعتبار أن اللفظ الدال علي مفرد، فقول المصنف والمفرد إما كلي إلى آخره محمول على هذا والله أعلم.(وَالْكُلِّىُّ إِمَّا ذَاتِيٌّ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ كَالحَيَوَانِ بِالنَّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَإِمَّا عَرَضِيٌّ وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُهُ كَالضَّاحِكِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ)
لقد عرفت مما سبق أن الكلي هو المفهوم الذي يمكن صدقه على أفراد كثيرة، فهذا المفهوم بالنسبة إلى تلك الأفراد إما داخل في حقيقتها أو خارج عنها، ونعني بدخوله في حقيقة أفراده أن يكون جزءاً لماهيتها الكلية أو تمام الماهية التي تتمايز أفرادها بالمشخصات كالحيوان وكالناطق وكالإنسان بالنسبة إلى الأفراد التي أصدق عليها فإن مفهوم الحيوان جزء من حقيقة الإنسان والفرس، ومن حقيقة هذا الانسان وهذا الفرس، والناطق جزء من حقيقة زيد وعمرو وغيرهما، والإنسان داخل في حقيقة زيد ونحوه، لأن زيداً هو هذه الماهية للكلية، والتشخص الذي امتاز به عن سائر المشاركات في هذه الحقيقة الكلية، فالداخل في حقيقة جزئياته كما مثلنا يسمى ذاتياً، والخارج عن حقيقة جزئياته يسمى عرضيا، كالماشي بالنسبة إلى الإنسان والفرس وإلى هذا الإنسان وهذا الفرس، وكالضاحك بالنسبة إلى زيد وبكر ونحوهما، فأن مفهوم الماشي ومفهوم الضاحك كلاهما خارج من حقيقة ما يصدق عليه من الجزئيات.(وَالذَّاتيُّ إِمَا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّركَةِ المَحْضَةِ كَالحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَهُوَ الجْنْسُ وَيُرْسَمُ بِأَنَّهُ كُلِّيٌّ مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلفِين بِالحقائِقِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ)
قد علمت أن الكلي هو المفهوم الذي يمكن صدقه على أفراد كثيرة هي الجزئيات المندرجة تحته، وأن الذاتي هو الكلى الداخل في حقيقة جزئياته، وأن العرضي هو الكلي الخارج من حقيقة جزئياته، وستعلم أن الذاتي ينحصر في ثلاثة أنواع: الجنس، والنوع، والفصل. والعرضي ينحصر في نوعين: الخاصة، والعرض العام. ولا أظنك تجهل أن هذه الكليات متماثلة في الحمل على جزئياتها، فكما يصح أن نقول زيد إنسان، يصح أن تقول هو حيوان، وهو ناطق، وهو ضاحك، وهو ماش. وإنما تتمايز هذه الكليات الخمس بشيء آخر وهو صلاحيتها للجواب عن جزئياتها المجهولة. فإذا كنت تجهل زيداً مثلا وسألت من يرشدك إلى حقيقته فقلت: ما هو زيد، صح للمسئول أن يقول له هو إنسان، لأن حقيقة زبده هي الحيوان الناطق الذي هو معنى الإنسان، ولم يجز أن يقول لك هو حيوان، أو ماش، أو ناطق، أو ضاحك، لأن حقيقة زيد ليست واحداً من هذه الأربعة، فلا يصلح واحد منها أن يكون جواباً عن سؤالك.
واعلم أن السؤال عن الجزئيات المجهولة ضربان: أحدهما والسؤال عن حقيقة ذلك المجهول، والثاني السؤال عن الشيء الذي يصلح مميزاً لذلك المجهول، فإذا سألت عن الحقيقة وجب أن تقول في سؤالك: ما هو، وإذا سألت من المميز وجب أن تقول في سؤالك: أي شيء هو. إذا تحققت هذا فاعلم أن الكلي الداخل في الماهية إما أن يكون هو الجزء الذي يرجع إليه الاشتراك بين الماهية وبين غيرها من الماهيات الأخرى بحيث يكون تمام المشترك بينها وبين شيء آخر، كالحيوان بالنسبة إلى ما تحته من الأفراد. وإما أن يكون هو الجزء الذي يرجع إليه التمايز بين الماهية وبين غيرها من الماهيات الأخرى، كالناطق بالنسبة إلى أفراد الإنسان. وإما أن يكون هو تمام الماهية التي لا تمايز بين جزئياتها إلا بالمشخصات، الإنسان بالنسبة إلى ما تحته من الأفراد. فالأول – وهو تمام المشترك بين الماهية وبين شيء آخر – لا يصلح جواباً للسؤال عن حقيقة أي فرد من الأفراد إذا افرد لأن الجواب عن السؤال إنما يكون بتمام حقيقة المسئول عنه، فالحيوان مثلا لا يصلح جواباً للسؤال بما هو إذا قلت: ما هو زيد، أو ما هو الإنسان، أو ما هو الفرس، لأنه ليس تمام الحقيقة لواحد من هذه الثلاثة، وإنما يصلح للجواب إذا جمعت في سؤالك بين حقيقتين من الحقائق المندرجة تحته، فتقول: ما هو زيد والفرس. فحينئذ يصح أن يقال في الجواب: حيوان، لأن الحيوان هو تمام الحقيقة التي يشترك فيها الإنسان والفرس. فهذا تكلى الداخل في الماهية – الذي يقال في جواب ما هو عند السؤال عن حقيقتين فأكثر من الجزئيات المندرجة تحته ولا يصلح للجواب عند السؤال عن حقيقة واحدة – يسمى جنساً. وقد عرَّفه المناطقة: بأنه الكلي المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو. ولا أظنك تحتاج إلى إيضاح شيء في هذا التعريف بعد الوقوف على التفاصيل الذي أسلفنا. ولك أن تقول في تعريفه: هو الجزء المشترك بين الماهية وبين ماهية أخرى تخالفها بحيث يكون مرجع الاشتراك لا مرجع الامتياز.
وأعلم أن الجنس صنفان: قريب وبعيد، فالجنس القريب هو المقول في جواب ما هو على جميع الحقائق المشتركة فيه إذا اجتمعت في سؤال واحد كالحيوان، فإنه يصلح للجواب إذا قيل ما الإنسان والفرس، وهكذا إذا استقصيت بقية أنواعه. والجنس البعيد هو المقول في جواب ما هو على بعض الحقائق المشتركة فيه إذا اجتمعت دون جميعها. كالجسم، فإنه يصلح للجواب إذا قلت ما هو الإنسان والحجر، لأنه تمام الماهية المشتركة بينهما. ولكن إذا قلت ما هو الإنسان والفرس، أو ما هو الإنسان والشجر لم يصلح للجواب عنهما لأنه ليس تمام الماهية المشتركة بينهما، ولكن الجواب عن الأول حيوان وعن الثاني جسم نامٍ. وكما ينقسم الجنس إلى قريب وبعيد، ينقسم إلى سافل، ومتوسط، وعال، ومفرد. فالجنس السافل هو ما فوقه جنس ولا شيء من الأجناس تحته كالحيوان، فأن فوقه الجسم النامي لشموله الحيوان والنبات، ولا جنس تحته وإنما تحته أنواع فقط كالإنسان والفرس ونحوهما. والجنس المتوسط هو ما فوقه جنس وتحته جنس كالجسم النامي، فأن قوقه جنس وهو الجسم لشموله مع الحيوان والنبات الجماد، وتحته جنس وهو الحيوان. والجنس العالي هو مالا جنس فوقه وتحته الأجناس كالجوهر مثلا. والجنس المفرد هو الذي لا جنس فوقه ولا جنس تحته، والقسمة عقلية فليس من الضروري أن يكون له مثال معروف.
(وَإِمَّا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ وَالخُصُوصِيَّةِ مَعًا كَالْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَفْرَادِهِ نَحْوُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَهُوَ النَّوْعُ وَيُرْسَمُ بِأَنَّهُ كُلَّيٌّ مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالْعَدَدِ دُونَ الحَقِيقَةِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ)
وقد علمت أن السؤال عن الماهيات المجهولة إنما يكون بما هو، والذي يصلح جواباً عن السؤال بما هو أمران: الأول الجنس، وقد أسلفا لك أنه إنما يصلح للجواب إذا كان السؤال عن حقيقتين مختلفتين. والثاني هو الذي يصلح جواباً من الواحد والمتعدد من الأفراد المندرجة تحته كالإنسان. فإذا قلت: ما هو زيد، صح في الجواب أن تقول إنسان، لأن الإنسان – أعني للحيوان الناطق – هو تمام ماهيته، وإذا قلت: ما زيد وعمرو، صح في الجواب أيضاً أن تقول الإنسان لأنه هو تمام الماهية المشتركة بينهما، إذ لا تمايز بين أفراد الإنسان إلا بالمشخصات الجزئية. فهذا الذي يصلح للجواب من الواحد والمتعدد عند السؤال بما هو يسمى نوعاً، فهو الكلي الداخل في حقيقة جزئياته الذي يقال في جواب ما هو عند السؤال عن الواحد والمتعدد من الجزئيات المندرجة تحته، وقد عرفوه بأنه الكلي المقول على كثيرين مختلفين بالعدد دون الحقيقة في جواب ما هو. ولا أظنك بعد البيان السابق تحتاج إلى إيضاح شيء في تعريفه.
واعلم أن النوع قد يطلق ويراد به الماهية التي يقال عليها وعلى غيرها الجنس في جواب ما هو، سواء كانت الأفراد المندرجة تحتها متفقة في حقيقتها أولاً، ويسمى نوعاً اضافياً، فالإنسان نوع لأنه يقال عليه وعلى الفرس جنس في جواب ما هما وهو الحيوان، والحيوان نوع أيضاً لأنه يقال عليه وعلى الشجر جنس في جواب ما هما وهو الجسم النامي، والجمع النامي نوع أيضاً لأنه يقال عليه وعلى الحجر جنس في جواب ما هما وهو الجسم. وعلى هذا فالنوع الإضافي ثلاثة أقسام: نوع الأنواع، أو النوع السافل، وهو ما لا نوع تحته، وفوقه الأنواع. والنوع المتوسط، وهو ما فوقه نوع وتحته نوع. والنوع العالي، وهو ما لا نوع فوقه وتحته الأنواع. وعلى قياس ما سبق في الجنس يمكن أن يزاد رابع هو النوع المفرد، وهو الذي لا جنس فوقه ولا نوع تحته وإن لم يكن له مثال معروف، ولكن القسمة العقلية تحتمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(وَإِمَّا غَيْرُ مَقُولٍ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بَلْ مَقُولٌ فِي جَوَابِ أَيُ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ الشَّيْءَ عمَّا يُشَاركُهُ فِي الجْنْسِ كَالنَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإنْسَانِ وَهُوَ الْفَصْلُ وَيُرْسَمُ بِأَنَّهُ كُلَّيُّ يُقَالُ عَلَى الشَّيْءِ فِي جَوَابِ أَيَّ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ)
هذا هو القسم الثالث من أقسام الذاتي، لأن الداخل في ماهية الشيء إما أن يكون تمام الماهية التي لا تتمايز إلا بالمشخصات الجزئية أو لا يكون كذلك، فالأول هو النوع. والثاني – وهو ما لا يكون تمام الماهية – فهو إما أن يكون تمام المشترك بينها وبين ماهية أخرى تخالفها أو لا يكون، فالأول هو الجنس، والثاني هو الفصل، وهو إذا لم يكن الجزء الذي يرجع إليه الاشتراك، فحتم أن يكون هو الجزء الذي يرجع إليه امتياز الماهية عن غيرها وهو المطلوب.
وقد علمت مما سبق أن الذاتي الذي يقال فيه جواب ما هو إنما هو الجنس والنوع فقط، أما النوع فلأنه تمام ماهية الجزئيات المتفقة الحقيقة. وأمَّا الجنس فلأنه تمام ماهية الجزئيات المختلفة الحقيقة، فما يكون ذاتياً – ولا يصلح للجواب عن السؤال بما هو لا في حال الاتفاق ولا في حال الاختلاف – يجب أن يقال في جواب أي شيء هو في ذاته لأبه الجزء الذاتي المميز، وقد سبق لك أن أي شيء هو يسئل بها عن الميزات، فالفصل اذن هو الكلي الداخل في الماهية الذي يميزها عما يشاركها في جنسها، كالناطق بالنسبة إلى الإنسان، فأن الإنسان مركب من جزئين هما: الحيوان والناطق، فالحيوان هو الجزء المشترك بين الإنسان والفرس والحمار وبقية أنواع الحيوان، والناطق هو الجزء الثاني الذي يميزه عن جميع ما يشاركه في هذا الجنس، وقد عرفوه بأنه الكلي الذي يقال على الشيء في جواب أي شيء هو في ذاته.
واعلم أن الفصل نوعان: قريب أو بعيد، فالقريب هو الذي يميز الشيء عن جميع ما يشاركه في جنسه القريب، كالناطق بالنسبة إلى الإنسان، فهو فصل قريب، لأنه يميز الإنسان عن كل ما يشاركه فيه جنسه القريب وهو الحيوان، وكالحساس بالنسبة إلى الحيوان، فأنه قريب لإنه يميز الحيوان من كل ما يشاركه في جنسه القريب وهو الجسم النامي. والبعيد هو الذي يميز الشيء عن بعض ما يشاركه فيه جنسه البعيد، كالنامي والحساس بالنسبة إلى الإنسان، فإن النامي يميزه عن الجماد الذي يشاركه في جنسه البعيد الذي هو الجسم، ولكن لا يميزه عن الشجر والفرس اللذين يشاركانه أيضاً في هذا الجنس البعيد، والحساس يميز الإنسان عن الشجر ولا يميزه عن الفرس الذي يشاركه في الجسم النامي.
وربما خطر كأن تقول: أن النوع كالإنسان يميز زيداً عما يشاركه في الحيوان، وأن الجنس كالحيوان يميزه أيضاً عن بعض ما يشاركه في الجسم المطلق، والجسم النامي يميزه أيضاً عن بعض ما يشاركه في الجسم المطلق، فما للمناطقة لا يرضون أن يقال واحد من هذه الثلاثة في جواب أي شيء هو في ذاته كما يقال الفصل. فأقول لك آفة العلم النسيان. ألم أقل لك في صدر الكلام: أن مميز الشيء هو الذي يكون المرجع في التمييز إليه كما أن المشترك بين الماهيات هو الذي يكون المرجع في الاشتراك إليه، فالإنسان وأن ميز زيداً عن الفرس إلا أن المرجع في التمييز إلى الناطق لا إلى جملة معناه، والحيوان وإن ميزه أيضاً عن الشجر والحجر إلا أن المرجع في التمييز إلی الحساس لا إلى جملة معناه والجسم النامي وأن ميزه عن الحجر إلا أن مرجع التمييز إلى النامي وحده لا إلى مجموع الكلمتين، وما يقال في تمييز الأنواع والأجناس يقال مثله في اشترك الفصول فإن الحساس مشترك بين الإنسان والفرس ولكنه ليس مرجع الاشتراك وحده بل هو الجسم النامي فالمشترك بين الإنسان والفرس هو مجموع معنى الحيوان الذي من جملة أجزائه الحساس فليس الحساس تمام المشترك وإنما هو جزء منه ولولا هذه الاعتبارات لتشابهت الأقسام وضاعت فائدة التقسيم فاحتفظ بما يلقى إليك ولا تكن من الغافلين
(وَأَمَّا الْعَرَضِيَّ فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ انْفِكَاكُهُ عَنِ المَاهِيَّةِ وَهُوَ الْعَرَضُ الَّلاَزِمُ أَوْ لَا يَمْتَنِعَ وَهُوَ الْعَرَضُ المَفَارِقُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الخَاصَّةُ كَالضَّاحِكِ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ لْلإِنْسَانِ وَتُرْسَمُ بِأَنَّهَا كُلِّيَةٌ تُقًالُ عَلَى مَا تَحْتَ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ قَوْلاً عَرَضِيًا، وَإِمَّا أَنْ يَعُمَّ حَقَائِقَ فَوْقَ وَاحِدَةٍ وَهْوَ الْعَرَضُ الْعَامُّ كَالمُتَنَفِّسِ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ لْلإِنْسَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الحَيَوانَاتِ وَيُرسَمُ بِأَنَّهُ كُلَّيٌّ يُقَالُ عَلَى مَا تَحْتَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ قَوْلاً عَرَضِيًا)
الكلي الخارج من الماهية إن امتنع انفكاكه عنها فهو العرض اللازم، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة، والفردية بالنسبة للخمسة، فان الزوجية والفردية أعراض لازمة للأربعة والخمسة، لا يمكن أن يوجد في الخارج ولا في الذهن أربعة ليست زوجاً، ولا خمسة ليست فرداً، وإن لم يمتنع انفكاكه عن الماهية فهو العرض المفارق، كالأكل والشارب والنائم والمصلي والصائم بالنسبة الإنسان، فان الأكل وما معه أعرض مفارقة لحصولها في بعض الأحيان دون بعض، وكل واحد من العرض اللازم والعرض المفارق ان اختص بحقيقة واحدة فهو الخاصة، كالضاحك والقوة للإنسان، فأنه عرض لازم للإنسان، إذ لا يوجد في الذهن ولا في الخارج إنسان ليس ضاحكا بالقوة. وكالضاحك بالفعل للإنسان، فأن الضحك بالفعل مما يختص بالإنسان، ويتصف به في بعض الأحيان دون بعض، وترسم الخاصة بأنها كلية تقال وتحمل على ما تحت حقيقة واحدة قولاً عرضياً. وإن كان العرض اللازم والعرض المفارق متحققاً في أكثر من حقيقة واحدة فهو العرض العام، كالمتنفس بالقوة، فان المتنفس يحمل على الإنسان وعلى الفرس وعلى غيرهما من أنواع الحيوانات، فهو عرض عام؛ ولا يوجد في الذهن ولا في الخارج حيوان ليس متنفساً بالقوة، فهو من الأعراض العامة اللازمة، وكالمتنفس بالفعل فأنه عرض عام كما سبق ومفارق، لأن بعض أفراد الحيوان يستطيع أن يحبس نفسه زمناً مّا، ويرسم العرض العام بأنه كلي يقال على ما تحت حقائق مختلفة قولاً عرضياً.
فهذه جملة أنواع المفهومات الكلية التي يمكن صدقها على الأفراد المتدرجة تحتها وحملها عليها، فإذا أنت عرفت نسبة الكلي إلى الأفراد المندرجة تحته، وتحققت أنه جنس إذا كان تمام المشترك بين الماهيات المختلفة التي يصدق عليها، وأنه فصل إذا كان الجزءَ الذي يرجع إليه التمايز بين الأفراد التي تحته وبين ماهية أخرى، وأنه نوع إذا كان تمام ماهية أفراده التي لا يمتاز واحد منها عن الآخر إلا بالمشخصات الجزئية، وأنه خاصة إذا كان الأفراد التي يصدق عليها متفقة الحقيقة وكان خارجاً عن حقيقها، وأنه عرض عام إذا كانت أفراده مختلفة الحقائق وهو خارج عنها. إذا عرفت ذلك له هان عليك أن تسلك سبيل اكتساب التصورات المجهولة لك من التصورات المعروفة عندك إذا رتبتها الترتيب الذي يرشدك إليه العلم بما يتضمنه الباب الآتي. والله يعصمك من الزلل؛ ويلهمك الصواب في القول والعمل.
أي القول الذي يشرح الماهية ويوضحها؛ فإذا كنت تجهل معنى الإنسان وطلب علم معناه، فالقول الذي يشرحه ويوضحه هو قولنا: الحيوان الناطق مثلاً. ولكي يتمكن الإنسان من شرح الماهية المجهولة حتى تصير معلومة عنده يجب أن يبحث عن أجزائها وخصائصها، ثم يؤلف مما اجتمع لديه قولاً شارحاً للماهية التي يطلبها وطريق ذلك أن يبحث أولاً عما تشترك فيه الماهية مع غيرها من الماهيات الأخرى، ثم يضم إليه ما يختص بها ولا يوجد غيرها لتتميز عنده التميز الذي يطلبه ولا تلتبس بسواها. فما لم تتميز الماهية في التعريف عن كل ما سواها لا تكون معروفة بالمعنى الذي تطمئن إليه القلوب؛ فتارة يكون ذلك المميز ذاتياً، كالفصل القريب. وتارة يكون عرضياً، كالخاصية. وبهذا الاعتبار تتنوع المعرفات كما سنعرفه
(الحَدُّ قَوْلٌ دَالٌّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ كَالحَيَوانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَهْوَ الحَدُّ التَّامُّ، وَالحَدُّ النَّاقِصُ وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ الْبَعِيدِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبِ كَالْجِسْمِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ)
إذا جهلت شيئاً وطلبت معرفته جئت بالقول الدال على ماهيته. ولا شك أن القول الذي يدل على تمام ماهية الشيء يلزم أن يكون مؤلفاً من جزئين: الأول تمام المشترك بينها وبين ما عداها من الماهيات. الأخرى، وهو الجنس القريب كالحيوان في تعريف الإنسان، فأنه تمام المشترك بينه وبين الحجر والشجر والفرس، ولو جئت مكانه بالجسم لنقص منه النامي الذي يشارك فيه الشجر، ونقص منه الحساس الذي يشارك فيه الفرس، أو لو جئت مكانه بالجسم النامي لنقص منه الحساس الذي يشارك فيه الفرس. الثاني المميز الذاتي الذي يميزه عن جميع ما عداه، وهو الفصل القريب كالناطق في تعريف الإنسان، فان الفصل البعيد لا يحصل به التمييز المطلوب. فالذي يدل على ماهية الشيء دلالة تامة لا نقص فيها بسمي حداً، ويتركب من جنس الشيء وفصله القريبين، ويخص باسم الحد التام، فان نقص من أجزاء الماهية شيء وكان المميز لها عن جميع ما عداها ذاتياً سمي حداً ناقصاً. فمداركون المعرف حداً أن يكون المميز عن جميع الأغيار ذاتياً. فالفصل القريب إذا لم يكن معه الجنس القريب، حد ناقص، كالجسم الناطق، والنامي الناطق، والحساس الناطق، بل والماشي الناطق، والضاحك الناطق، والناطق وحده في تعريف الإنسان. كل ذلك حد ناقص. لأن الناطق والضاحك والماشي وإن دل على الحيوان، وكذلك الحساس وإن دل على الجسم النامي، وكذلك النامي وإن تدل على الجسم بطريق الالتزام، فأن دلالة الالتزام على أجزاء المعرف لا عبرة بها في التعاريف التي يقصد منها شرح الماهيات وتحصيل أجزائها المجهولة.
(وَالرَّسْمُ التَّامُّ وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ وَخَوَاصِّهِ الَّلاَزِمَةِ لَهُ كَالحَيَوانِ الضَّاحِكِ فِي تَعْرِيْفِ الْإِنْسَانِ، وَالرَّسْمُ النَّاقِصُ وَهَوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ عَرَضِيَّاتٍ تَخْتَصُّ جُمْلَتُهَا بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِنَا فِي تَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ إِنَّهُ مَاشٍ عَلَى قَدَمَيْهِ عِرِيضُ الْأَظْفَارِ بَادِي الْبَشَرَةِ مُسْتَقِيمُ الْقَامَةِ ضَحَّاكٌ بِالطَّبْعِ)
قد أسلفنا لك أن معرف الماهية يجب أن يكون مشتملاً على ما يميزها عن جميع ما عداها، وأن المميز إِمَّا ذاتي، وإِمَّا عرضي، وأنه متى كان المميز ذاتياً فالمعرف حد تام إن اشتمل على جميع أجزاء الماهية التي يشاركه فيها غيره، وناقص إن فقد منها شيئاً. أما إذا كان المميز في المعرف عرضياً فالأجدر به أن يسمي رسماً، لأن رسم الدار أثرها وعلامتها، والأعراض كالآثار للمعروضات، فأن اشتمل التعريف على تمام المشترك بين الماهية وبين جميع ما عداها – وهو الجنس القريب – وكان مميزه عن جميع الأغيار عرضياً فهو رسم تام، كالحيوان الضاحك خاصته التي لا توجد في غيره، وإن لم يشتمل على الجنس القريب فهو رسم ناقص، فالرسم الناقص ما كان مميز الماهية فيه عن كل ما عداها عرضياً ولم يشتمل على الجنس القريب، كالجسم النامي الضاحك، والجسم الضاحك، والنامي الضاحك، والحساس الضاحك، بل والضاحك وحده، والأعراض التي يختص مجموعها – لا كل واحد منها – بحقيقة واحدة، كقولنا في تعريف الإنسان: أنه ماش على قدميه، عريض الأظفار، بادي البشرة، مستقيم القامة، ضحاك بالطبع. فان ما عدا الأخير منها لا يختص واحد منها بالإنسان، ولكن مجموع تلك العوارض لا يوجد في غيره
فها أنت قد عرفت الفرق بين ذاتيات الماهية وعرضياتها، وعرفت قانون التحليل والتركيب في أجزائها ولوازمها، فإذا عرض لك مجهول تصوري وطلبت معرفته فاسلك طريق معرفته من هذه السبل توفق إلى الصواب بإذن الله تعالى. واحذر أن تشتبه عليك العرضيات بالذاتيات، والفصول البعيدة بالأجناس، فتضع العرض العام أو الفصل البعيد موضع الجنس، وتضع الخاصة موضع الفصل القريب. والله يتولى هداك ويلهمك الرشاد.
وإلى هنا وقف القلم عن الكلام في القسم الأول من المنطق وهو مباحث التصورات، وسنشرع بمعونة الله وتوفيقه في القسم الثاني منه وهو مباحث التصديقات، والله يتولى هدايتنا أجمعين (الْقَضِيَّةُ قَوْلٌ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ إِنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ)
أسلفنا لك أن المركب ناقص، كغلام زيد. وتام انشائي، كطالع درسك ولا تهمل في الطلب، وخبري، كفهمت المسئلة والحياء من الايمان. ويسمى المركب التام الخبري خبراً وقضية. فالقضية هي المركب التام الذي يصح أن يقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب، كما تقول طالعتُ الدرس، فهذا مركب لأنه قد قصد بجزئه الدلالة على جزء معناه، وتام لأنه قد أفاد فائدة يحسن السكوت عليها ويصح أن يقال لك صدقت فيه إذا كنت في الواقع طالعت درسك وأن يقال لك كذبت فيه إذا كنت في الواقع لم تطالعه. وكما تقوله «الشمس طالعة» فهذا مركب وتام ويصح أن يقال لقائله صدقت إذا قال هذا القول نهاراً، وأن يقال له كذبت إذا قال ذلك ليلاً. الفرق بين الخبر والانشاء أن الانشاء لا يصح أن يقال لقائله صدقت ولا كذبت كمن قال لك اقرأ هذا الكتاب ولا تشغل بما لا يعنيك فان الأمر والنهي لا يدلان على وقوع شيء حتى يقبل التصديق والتكذيب بخلاف الخبر الدال على ذلك. (قان قلت) إنا نجد من الأخبار ما يجب أن يقال قائله صدقت كقول الله تعالى ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ وكقوله ﷺ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» إلى آخر ما ورد في الكتاب والسنة النبوية من الأخبار، وكالأخبار البديهية الصدق كالسماء فوقنا والأرض تحتنا، وإنا نجد من الأخبار ما يجب أن يقال لقائله كذبت كالأخبار المعروف كذبها بالبداهة نحو الأربعة نصف الواحد فكيف تقولون أن الخبر هو ما يصح أن يقال لقائله أنه صادق فيه أو كاذب (قلت)
أراك لم تحسن فهم ما قدمته لك، ألم أقل لك أن الانشاء هو ما لا يقبل التصديق ولا التكذيب والخبر بخلافه فمني صح أن تقول للقائل صدقت فالقول خبر وقضية، ومتى صح أن تقول له كذبت فالقول خبر وقضية أيضاً وهذا هو المطابق لما عرفها به الشيخ الرئيس في النجاة حيث قال «والقضية والخبر هو كل قول فيه نسبة بين شيئين بحيث يتبعه حكم صدق أو كذب» انتهي، ولا يلزم أن يكون القول الواحد بعينه محتملاً للصدق والكذب وإن كان المتأخرون من المناطقة ذهبوا إلى هذا وتكلفوا تصحيح التعريف بزيادة قيد فيه فقالوا المراد أنه يحتمل الصدق والكذب في ذاته بقطع النظر عن قائله مثلاً، وأنت إذا أنصفت وجدانك أيقنت بأنه لا داعي إلى هذا التأويل والله اعلم بالصواب.
(وَهِيَ إِمَّا حَمْلِيَّةٌ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ كَاتِبٌ، وَإِمَّا شَرطِيَّةٌ مُتَّصِلَةٌ كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ وَإِمَّا شَرْطِيَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ كَقَوْلِنَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ العَدَدُ زَوْجًا أَوْ فَرْدًا، وَالجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ الحَمْلِيَّةِ يُسَمَّى مَوْضُوعًا وَالثَّانِي مَحْمُولاً، وَالجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ الشَّرْطِيَّةِ يُسَمَّى مُقَدَّمًا وَالثَّانِي تَاليًا).
أسلفنا الك أن القضية هي المركب التام الذي يصح أن يقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب وكل مركب تام خبري لابد أن يكون بين جزئيه نسبة تربط أحدهما بالآخر ارتباطاً يجعلها كالشيء الواحد نحو زيد كاتب فزيد وكاتب هما الجزآن اللذان تألف منهما هذا المركب وبين هذين الجزئين نسبة ربطت أحدهما بالآخر حتى أديا معنى واحداً وهو ثبوت الكتابة لزيد، فهذه النسبة الرابطة بين الجزئين إن كانت تفيد اتحاد الجزئين بحيث يكون أحدهما هو الآخر أو ليس هو الآخر فالنسبة حملية ويقال للمركب قضية حملية، فهي التي حكم فيها بثبوت المحمول الموضوع أو بسلب ثبوته له، كما في المثال السابق فإن النسبة إلى بين زيد وكاتب تفيد أن زيداً هو الكاتب وأنهما اتحدا بحيث صار أحدهما هو الآخر ويسمى جزؤها الأول وهو المسند إليه موضوعاً ويسمى جزؤها الثاني والمسند محمولاً، إن كانت تلك النسبة الرابطة لا تفيد اتحاد الجزأين ولكنها تفيد أن وجود أحد الجزأين بالنسبة للآخر كالشرط الذي يتوقف على وجوده وجود المشروط أو تفيد في ذلك فهي شرطية اتصالية ويقال للقضية شرطية متصلة كقولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، فإن النسبة التي بين قولنا الشمس طالعه وبين قولنا النهار موجود لا تفيد أن احداهما هي الأخرى ولكنها تفيد أن وقوع الأولى يستلزم وقوع الثانية وأنه كالشرط له، فهي التي حكم فيها بصدق قضية أولا صدقها على تقدير صدق قضية أخرى. وإن كانت تلك النسبة الرابطة تفيد التنافر أو رفع التنافر بين جزئيها فهي شرطية انفصالية، كقولنا: أما أن يكون العدد زوجاً، وإمَّا أن يكون العدد فرداً، فان النسبة الرابطة التي بين قولنا العدد زوج، وبين قولنا العدد فرد تفيد التنافر والعناد بين الطرفين وهما في هذا المثال لا يجتمعان فيكون العدد زوجاً وفرداً معاً ولا يرتفعان فيكون لا زوجاً ولا فرداً، فهي التي حكم فيها بالتنافي بين طرفيها أو بسلب ذلك التنافي. والجزء الأول من الشرطية متصلة كانت أو منفصلة يسمى مقدماً. وهو في المتصلة ما يسميه النحاة شرطاً. والجزء الثاني من الشرطية مطلقاً يسمى تالياً. وهو في المتصلة ما يسميه النحاة جواباً وجزاء – وستتضح لك الحمليات والمتصلات والمنفصلات في الفصول الآتية إن شاء الله.
(وَالْقَضِيَّةُ إِمَّا مُوجَبَةٌ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ كَاتِبٌ، وَإِمَّا سَالِبَةٌ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ لَيْسَ بِكاتِبٍ)
القضية مطلقاً، حملية كانت أو شرطية متصلة، أو شرطية منفصلة، تنقسم إلى موجبة وسالبة. أما الحملية فإن كان الحكم فيها بثبوت المحمول للموضوع فهي، موجبة كقولنا زيد كاتب، وفهمت المسألة، وعبد الله قوله الحق. فهذه كلها قد حكم فيها بثبوت المحمول للموضوع فهي موجبة. وإن كان الحكم فيها بسلب ثبوت المحمول للموضوع فهي سالبة، كقولنا: زيد ليس بكاتب، ولا يفلح المهمل، والكاذب لا خير فيه، فهذه كلها قد حكم فيها بسلب ثبوت المحمول للموضوع فهي سالبة. وأما الشرطية المتصلة فإن كان الحكم فيها بصدق قضية على تقدير صدق قضية أخرى في متصلة موجبة كقولنا: إن نجح الطالب فيه الامتحان استحق المكافأة، وإن أصلحت ما بينك وبين الله أصلح الله ما بينك وبين الناس، وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم، فهذه كلها قد حكم فيها بصدق قضية وتحققها وهي التالي على تقدير صدق المقدم وتحققه بمعنى أنه إذا وجد المقدم وجد التالي فهي متصلة موجبة. وإن كان الحكم فيها بسلب تحقق التالي على تقدير تحقق المقدم فهي سالبة يعني أن الاتصال بين المقدم والتالي منفي كقولنا: ليس إن كانت الشمس طالعة فالليل موجود أي أنه لا تلازم ولا اتصال بين طلوع الشمس ووجود الليل. وأما الشرطية المنفصلة فإن كان الحكم فيها بالتنافي بين طرفيها فهي منفصلة موجبة كقولنا: إما أن يكون العدد زوجاً وإما أن يكون فرداً وكقولنا: إما أن تتفرغ لطلب العلم مع تقوى الله وإما أن تنصرف إلى بلدك، ففي الأول قد حكمنا بالتنافي بين زوجية العدد وفرديته وفي الثاني بين التفرغ لطلب العلم مع التقوى والانصراف إلى البلد فهي موجبة. وإن كان الحكم فيها بسلب ذلك التنافي بين الطرفين فهي سالبة كقولنا: ليس إما أن يكون العدد زوجاً وإما أن يكون أربعاً فأنه حكم فيها بسلب التنافي بين الأربعة والزوجية وكقولنا ليس إما أن تكون فقيهاً أو منطقياً فأنه قد حكم فيها بسلب التنافي بين كونك فقيهاً ومنطقياً
(وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِمَّا مَخْصُوصَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِمَّا كُلِّيَّةٌ مُسَوَّرَةٌ كَقَوْلِنَا كُلُّ إِنْسَانٍ كَاتِبٌ وَلاَ شَيْءَ مِنَ الْإِنْسَانِ بِكاتِبٍ، وَإِمَّا جُزْئِيَةٌ مُسَوَّرَةٌ كَقَوْلِنَا بَعْضُ الْإِنْسَانِ كَاتِبٌ وَبَعْضُ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِكاتِبٍ وَإِمَّا أَنْ لا يَكُونَ كَذلِكَ وَتُسَمَّى مُهْمَلَةً كَقَوْلِنَا الْإِنْسَانُ كَاتِبٌ وَالْإِنْسَانِ لَيْس بِكاتِبٍ)
القضية الحملية – موجبة كانت أو سالبة – تنقسم إلى أربعة أقسام لأن موضوعها إما كلي أو جزئي فإن كان موضوعها جزئياً فهي مخصوصة وشخصية كقولنا: صام زيد، وزيد صائم الموجبة وما كذبت وما أنا بكاذب في السالبة وإن كان موضوعها كلياً فإن كان الحكم فيها على كل فرد من أفراده صريحاً فهي كلية مسورة وسورها في الموجبة «كل» وجميع ونحو هما وفي السالبة «لا شيء» ونحوها كقولنا: كل نفس بما كسبت رهينة. وكل من عَليها فَانٍ، في الوجبة ولا شيء من الإنسان بحجر. ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق في السالبة، وإن كان الحكم فيها على بعض الأفراد صريحاً فهي جزئية مسورة وسورها في الموجبة «بعض» ونحوها. وفي السالبة «ليس كل وليس بعض وبعض ليس» كقولنا: بعض الطلاب يحفظ ألفية ابن مالك وبعض الطلاب يدرس المنطق في الموجبة وبعض الطلاب لا يحفظ الألفية وبعض الطلاب لا يدرس المنطق في السالبة، وإن لم يصرح بالحكم فيها على الكل ولا على البعض فهي مهملة كقولنا: عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً، ورب الدار أدرى بما فيها في الوجبة، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين (وليس الكريم على القنا بمحرم) في السالبة. والشرطية، متصلة كانت أو منفصلة، موجبة أو سالبة، كالحملية تنقسم إلى هذه الأقسام الأربعة، لأن الحكم بالاتصال والانفصال ان كان في زمان معين وفي حالة مخصوصة فهي شخصية ومخصوصة، كقولنا: إن جئتني الآن أكرمتك، وأنت الآن إما متوضئ وإما غير متوضئ، في الموجبة متصلة أو منفصلة، وليس إن زرتني الآن أهينك، وليس إما أن تطالع الآن درسك وإما أن تكون في المسجد في السالبة. وإن كان في جميع الأزمان والأحوال التي يمكن اجتماعها مع المقدم، فهي كلية وسورها في المتصلة الموجبة كلما ومتي ومهما ونحوها، وفي المنفصلة الموجبة دائماً، وفي سالبتيهما ليس البتة، كقولنا: كلما أرقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، ودائماً إما أن تكون الشمس طالعة وإما أن يكون الليل موجوداً في الموجبة وليس ألبتة إن كان هذا الشخص حيواناً فهو حجر، وليس ألبتة إمَّا أن يكون هذا الكتاب شرح إيساغوجي أو في علم المنطق، في السالبة، وإن كان في بعض الأزمان والأحوال فهي جزئية، وسورها في الموجبة، متصلة كانت أو منفصلة، قد يكون، وفي سالبتيهما قد لا يكون في المتصلة خاصة ليس كلما وليس من و نحوهما وفي المنفصلة ليس دائماً كقولنا: قد يكون إذا كنت من الطلاب أمرت بتلقي علم المنطق وقد يكون إما أن يكون فرض الرجل في التركة الربع وإما أن يكون فرضه النصف في الموجبة وقد لا يكون إذا كنت من الطلاب أمرت بتلقي المنطق وقد لا يكون إمَّا أن يكون فرض من الرجل في التركة الربع وإمَّا أن يكون فرضه النصف في السالبة وأن أهمل الحكم عن بيان شخصية الأزمان والأحوال وكليتها وجزئياتها فهي مهملة نحو ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾ وإما أن تكون الصلاة جهرية وإما أن تكون سرية في الموجبة وليس إن كنت على طهارة حرمت عليه الصلاة، وليس إما أن تكون صلاتك ذات ركوع وإما أن تكون ذات سجود في السالبة
(وَالمُتَّصِلَةُ إِمَّا لُزُومِيَّةٌ كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَت الشَّمْسُ طَالِعًة فالنَّهَارُ مَوْجُودٌ. وَإِمَّا اتَّفَاقِيَّةٌ كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ نَاطِقًا فَالْحِمَارُ نَاهِقٌ)
قد علمت أن الشرطية المتصلة هي التي حكم فيها بصدق قضية وهي التالي إن كانت موجبة أو لا صدقها إن كانت سالبة على تقدير صدق قضية أخرى وهي المقدم فهذه المتصلة إن كان بين مقدمها وتاليها علاقة ورابطة توجب استلزام تحقق التالي عند تحقق المقدم فهي لزومية كقولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود فأن بين طلوع الشمس ووجود النهار علاقة توجب تحقق أحدهما عند تحقق الآخر وهي العلية لأن المقدم علة للتالي ومتى وجدت العلة وجد المعلول وكقولنا: إن كان هذا الشراب خمراً فهو حرام فان كونه خمراً علة الحرمة وإن لم يكن بين مقدمها وتاليها علاقة توجب تحقق أحدهما عند تحقق الآخر ولكن اتفق أنها متوافقان في الصدق فهي اتفاقية كقولنا: إن كان الإنسان ناطقاً فالحمار ناهق فأنه لا علاقة بين ناطقية الإنسان وناهقية الحمار ولكن اتفق أن الإنسان ناطق وأن الحمار ناهق وكقولنا: إن كنت من بين الخلافة فأنا من بيت النبوة وكقولك: إن كنت تاجراً فأنا طالب علم وإن كنت مشتغلاً بعلوم الدنيا فأنا مشتمل بعلوم الدين فهذه لا تلازم بينها وإنما هي من قبيل الاتفاق فقط
(وَالمُنْفَصِلَةُ إِمَّا حَقِيقِيَّةٌ كَقَوْلِنَا الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا فَرْدٌ وَهِيَ مَانِعَةُ الجَمْعِ وَالْخَلَوِّ مَعًا، وَإِمَّا مَانِعَةُ الجَمْعِ فَقَطْ كَقَولِنَا هذَا الشَّيْءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَجَرًا أَوْ حَجَرًا، وَإِمَّا مَانِعَةُ الْخُلُوَّ فَقَطْ كَقَوْلِنَا زَيْدٌ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْبَحْر وَإِمَّا أَنْ لاَ يَغْرَقَ)
قد علمت أن الشرطة المنفصلة هي التي حكم فيها بالتنافي بين طرفيها إن كانت موجبة أو سلب ذلك التنافي إن كان سالبة، فهذه المنفصلة إن كان الحكم فيها بالتنافي بين طرفيها صدقاً وكذباً فهي الحقيقية والمراد بتنافي طرفيها صدقاً أن لا يجتمعا في الصدق والتحقق وبتنافيهما كذباً أن لا يرتفعا معاً، فقولك إما أن يكون هذا العدد زوجاً وإمَّا أن يكون فرداً منفصلة حقيقية لأن قولك هذا العدد زوج وهذا العدد فرد لا يمكن صدقهما على شيء واحد بحيث يكون زوجاً وفرداً معاً ولا يمكن ارتفاعهما عن شيء واحد بحيث يكون غير زوج وغير فرد معاً فهي مانعة جمع ومانعة خلو معاً، وتتركب من الشيء ونقيضه أو المساوي لنقيضه، فالمركبة من الشيء ونقيضه كقولنا إمَّا أن يكون هذا الشيء إنساناً وإما أن لا يكون إنساناً وكقولنا إما أن يكون هذا الكتاب في علم المنطق وإما أن لا يكون في علم المنطق، وكقولنا إما أن تكون طالب علم وإما أن تكون طالب علم. والمركبة من الشيء والمساوي لنقيضه كالمثال الأول فأن نقيض الزوج وهو يساوي الفرد وكذلك الفرد نقيضه لا فرد وهو يساوي الزوج. وأن كان الحكم فيها بالتنافي بين طرفيها صدقاً فقط مانعة الجمع وتتركب من الشيء والأخص من نقيضه كقولنا إِمَّا أن يكون هذا الشيء شجراً أو حجراً فان الشيء لا يكون شجراً وحجراً معاً فهما متنافيان صدقاً، وقد يرتفعان معاً فيكون إنسان مثلاً لأن نقيض الشجر لا شجر وهو صادق بالحجر والإنسان مثلاً فالحجر أخص من نقيض الشجر الذي هو لا شجر، وكقولنا أما أن تكون من المصلين وإما أن تشتغل بمطالعة درسك فهذان لا يجتمعان وقد يرتفعان كما إذا كنت نائماً مثلاً. وأن كان الحكم فيها بالتنافي بين طرفيها كذباً فقط أي لا يرتفع طرفاها معا فهي مانعة الخلو وتتركب من الشيء والأعم من نقيضه كقولنا إما أن تكون هذه المسئلة من المنطق وإما أن لا تكون من قسم التصديقات فهذه مانعة خلو فقط لأن طرفيها لا يرتفعان إذ في ارتفعا لكانت من التصديقات وليست من المنطلق ويجوز اجماعهما إذا كانت من قسم التصورات وقد تركبت من الشيء والأعم من نقيضه فإن نقيض كونها من المنطق أنها ليست من المنطق وكونها ليست من قسم التصديقات أعم من كونها ليست من المنطق لشموله قسم التصورات، وكقولنا أما أن تكون من طلبة العلم الشريف وإما أن لا تكون من طلبة الجامع الأزهر فهذان لا يرتفعان إذ لو ارتفعا لكان من طلبة الجامع الأزهر وليس من طلبة العلم الشريف ويجوز اجتماعهما بأن يكون من طلبة العلم في مشيخة الإسكندرية، وكقول المصنف: زيد إما أن يكون في البحر وإما أن لا يغرق فهذان لا يرتفعان إذ لو ارتفعا لغرق وهو في البر ويجوز اجتماعهما إذا كان في البحر ولم يغرق
(وَقَدْ تَكُونُ المُنْفَصِلاَتُ ذَوَاتِ أَجْزَاءٍ كَقَوْلِنَا الْعَدَدُ إِمَّا زَائِدٌ أَوْ نَاقِصٌ أَوْ مُسَاوٍ)
قد علمت أن المنفصلة الحقيقية تتركب من قضيتين إحداهما تناقض الأخرى أو تساوي نقيض الأخرى وأن مانعة الجمع تتركب من قضيتين إحداهما أخص من نقيض الأخرى وأن مانعة الخلو تتركب من قضيتين إحداهما أعم من نقيض الأخرى وينبغي أن تعلم الآن أن الانفصال الحقيقي كما يصح أن يتركب من طرفين أحدهما نقيض الآخر أو مساوي نقيضه يصح أن يتركب من جملة أطراف مجموعها يساوي الشيء ونقيضه، فقولك أما أن يكون الكلي ذاتياً وإما أن يكون غير ذاتي يعدل قولك إما أن يكون الكلي جنساً وإمَّا أن يكون فصلاً وإمَّا أن يكون نوعاً وإمَّا أن يكون خاصة وإمَّا أن يكون عرضاً عاماً، لأن الانفصال في القضية لم يقصد أن يكون بين جزئين منها فقط وإنما أريد أن يكون بين جملة أجزائها وجملة أجزائها لا تجتمع في الصدق ولا في الكذب، فهي إذن حقيقية مؤلفة من الشيء والمساوي لنقيضه، وكقول المصنف العدد إمَّا زائد أو ناقص أو ساو والمراد بالزيادة والنقصان والمساواة أن يكون ما اشتمل عليه العديد من الكسور التي هي النصف والثلث والربع والخمس والسدس والسبع والثمن والتاسع والعشر مساوية له أو أقل منه أو أكثر، فالأربعة عدد ناقص لأن له نصفاً وربعاً فقط وهي ثلاثة، والستة عدد مساو لأن له نصفاً وثلثاً وسدساً وهي ستة، والاثنا عشر عدد زائد لأن له نصفاً وثلثاً وربعاً وسدساً وهي خمسة عشر، فالزيادة والنقصان والمساواة تعدل الشي، ونقيضه فإذا ألفت منها قضية واحدة كانت منفصلة حقيقية وكما يتركب الانفصال الحقيقي من أكثر من جزءين كذلك تركب مانعة الجمع فقط ومانعة الخلو فقط من ثلاثة أجزاء فأكثر كما تقول في مانعة الجمع إِمَّا أن يكون هذا الكلي جنساً وإما أن يكون فصلاً وإما أن يكون نوعاً فمجموع هذه الثلاثة لا يجتمع وقد يرتفع إذا كان خاصة أو عرضاً عاماً وكما تقول في مانعة الخلو إما أن تكون من حملة كتاب الله تعالى وإمَّا أن تكون من طلبة العلم الشريف وإمَّا أن لا تكون من طلبة الجامع الأزهر فهذه الثلاثة يجوز اجتماعها صدقاً إذا كان من طلبة مشيخة الإسكندرية ومن حفاظ القرآن الكريم ولا يجوز اجماعها كذبا فأن ارتفاعها يستلزم أن يكون من طلبة الأزهر وليس من حملة كتاب الله ولا من طلبة العلم الشريف. وبالجملة فالمدار في المنفصلات على أن يكون بين مجموع القضايا التي تتألف منها المنفصلة تناف إما في الصدق فقط أو في الكذب فقط أو فيهما معاً، ولا عبرة بعدد القضايا التي تتألف منها هذه المنفصلات، وإنما اقتصروا على ذكر القضيتين لأن ذلك هو أقل ما يمكن أن تتألف منه قضية منفصلة. والله أعلم بالصواب.
(هُوَ اخْتِلاَفُ الْقَضِيَّتَيْنِ بِالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ بِحَيْثُ يَقْتَضِي لِذَاتِهِ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا صَادِقَةً وَالْأَخْرَى كاذِبَةً كَقَوْلِنَا زَيْدٌ كَاتِبٌ، زَيْدٌ لَيْسَ بِكَاتِبٍ)
أنت تعلم بالبداهة أن الحكم الإيجابي كقولك أنا كاتب يناقضه الحكم السلبي كقولك ما أنا بكاتب ولست كاتباً ولكن ليس كل اختلاف بالإيجاب والسلب بين قضيتين يكون تناقضاً، فان قولك زيد كاتب وبكر ليس بكاتب لا تناقض بينهما، وقولك أنا جائع، أنا لست متوضأ، ولا تناقض بينهما. وإنما التناقض هو اختلاف قضيتين بالإيجاب والسلب، بحيث يقتضي هذا الاختلاف أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، وأن يكون هذا الاقتضاء راجعاً إلى ذات الاختلاف بالإيجاب والسلب لا إلى شيء آخر. قولك زيد إنسان، زيد ليس إنسان، من قبيل التناقض لأن هاتين القضيتين قد اختلفتا بالإيجاب والسلب اختلافاً يقتضي لذاته أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، بخلاف قولك زيد إنسان زيد ليس بناطق، فإنهما وإن اختلفنا بالإيجاب والسلب اختلافا يقتضي أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة، إلا أن هذا الاقتضاء ليس راجعاً إلى ذات الاختلاف بل مرجعه شيء آخر، وهو أن الناطق والإنسان متساويان فيما يصدقان عليه من الأفراد. فإيجاب أحدهما إيجاب للآخر وسلب أحدهما سلب للآخر، فقولك زيد إنسان يعدل قولك زيد ناطق، وقولك لیس بناطق يعدل قولك ليس بإنسان، فمن ههنا جاء التناقض بينهما من مجرد اختلاف القضيتين في الإيجاب والسلب
(وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذلِكَ إِلاَّ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا فِي المَوْضُوعِ وَالمَحْمُول وَالزَّمَانِ وَالمَكانِ وَالْإِضَافَة وَالْقُوَةِ وَالْفِعْلِ وَالجُزْءِ وَالْكُلِّ وَالشَّرْطِ نَحْوُ زَيْدٌ كَاتِبٌ زَيْدٌ لَيْسَ بِكَاتِبٍ)
قد عرفت أن التناقض واختلاف قضيتين في الإيجاب والسلب بحيث يقتضي هذا الاختلاف اقتضاءً ذاتياً أن تكون إحدى القضيتين صادقة والأخرى كذبة، ولا يتحقق التناقض المعرف بهذا التعريف إلا بعد اتفاق القضيتين في الموضوع، فلا تناقض بين زيد قائم وبكر ليس بقائم، وفي المحمول فلا تناقض بن زيد كاتب وزيد ليس بنائم، وفي الزمان فلا تناقض بين زيد نائم ليلاً وزيد ليس بنائم نهاراً، وفي المكان فلا تناقض بين زيد موجود في المسجد وزيد ليس بموجود في السوق، وفي الإضافة فلا تناقض بين زيد أب لعمرو وزيد ليس بأب لبكر، وفي القوة والفعل فلا تناقض بين الخمر في الدَّن مسكر بالقوة، الخمر في الدن ليس بمسكر بالفعل. وفي الجزء والكل فلا تناقض بين زيد قرأ بعض هذا الكتاب وزيد لم يقرأ كل هذا الكتاب. وفي الشرط فلا تناقض بين زيد يحل له دخول المسجد إذا كان طاهراً أو زيد لا يحل له دخول المسجد إذا كان جنبا. فإذا اختلفت القضيتان في واحد من هذه المذكورات لم يكن بينهما تناقض. وليس مرادهم أن الاختلاف في غير هذه الأشياء عفو، فإنه لا تناقض بين قولك زيد يحسن التكلم باللغة العربية، زيد لا يحسن التكلم بالغة الأجنبية، ولا بين قولك عندي عشرون رطلاً سمناً، وليس عندي عشرون رطلاً زيتاً. وهكذا، بل أنما ذكروا هذه الأشياء على سبيل التمثيل فقط، والمقصود أن تتفق القضيتان ولا يوجد بينهما اختلاف في شيء أصلا إلا في الإيجاب والسلب دون غيرهما، ماعدا الاختلاف في الكلية والجزئية اللذين ذكرهما المصنف بقوله
(وَنَقِيضُ المُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ إِنَمَا هِيَ السَّالِبَةُ الجُزْئِيَّةُ، وَنَقِيضُ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ إِنَّمَا هِيَ المُوجَبَةُ الْجُزْئِيَّةُ، فَالمَحْصُورتَانِ لاَ يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بَعْدَ اخْتِلاَفهِمَا فِي الْكَمِّيَّةِ لِأَنَّ الْكُلِّيَّتيْنِ قَدْ تَكْذِبَانِ كَقَوْلِنَا كُلُّ إِنْسَانٍ كَاتِبٌ وَلاَ شَيْءَ مِنَ الْإِنْسَانِ بِكَاتِبٌ، وَالجُزْئِيَّتَيْنِ قَدْ تَصْدُقانِ كَقَوْلِنَا بَعْضُ الْإِنْسَانِ كَاتِبٌ وَبَعْضُ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِكَاتِبٍ)
قد عرفت أن القضية – حملية كانت أو متصلة أو منفصلة – تنقسم إلى موجبة وسالبة، وكل واحدة منهما تنقسم إلى شخصية وكلية وجزئية ومهملة، أمَّا الشخصية فالتناقض فيها يتحقق من القضيتين إذا اختلفنا بالإيجاب والسلب واتفقتا فيما عداه، فالموجبة الشخصية نقيضها السالبة الشخصية، وأما الكلية والجزئية فالتناقض فيهما لا يتحقق من القضيتين على وجه الاطراد إلا إذا اختلفنا في الإيجاب والسلب وفي الكمية أيضاً واتفقا فيما عداهما، فالموجبة الكلية إنما تناقضها السالبة الجزئية والسالبة الكلية إنما تناقضها الموجبة الجزئية والسر في ذلك أن الحكم قد يكون ثابتاً لبعض الأفراد دون بعض فلو جئنا بموجبة كلية وأثبتنا فيها الحكم لكل الأفراد لكان كاذباً ولو جئنا مكانها بسالبة كلية وسلبنا الحكم فيها عن كل الأفراد لكان كاذباً أيضاً كما لو قلنا كل ماء حلو هذا الحكم كاذب لأن الحلاوة ثابتة لبعض الماء دون بعض، ولو جئنا مكانها بسالبة كلية وقلنا لا شيء من الماء بحلو لكان كاذباً أيضاً لأن الحلاوة ثابتة لبعض الماء، فالكليتان كاذبتان في هذا المثال، ولكن لو جئنا في نقيض الموجبة الكلية بسالبة جزئية وقلنا بعض الماء ليس يحلو لكان صادقاً ولو جئنا في نقيض السالبة الكلية بموجبه جزئية وقلنا بعض الماء حلو لكان صادقاً، فنقيض الموجبة الكلية إنما هي السالبة الجزئية ونقيض السالبة الكلية انما هي الموجبة الجزئية، هذا هو السر في الكليتين، وأما السر في الجزئيتين فهو أن الحكم قد يكون ثابتاً لبعض الأفراد دون في فيصدق الحكم على البعض إيجاباً ويصدق سلباً معاً فتصدق الجزئيتان كما في والمثال السابق وكما في قولك بعض الطلاب حنفي وبعض الطلاب ليس بحنفي فالجزئيتان صادقتان في هذا المثال، ولو جئنا في نقيض الموجبة الجزئية بسالبة كلية وقلنا لا شيء من الطلاب بحنفي لكانت كاذبة ولو جئنا في نقيض السالبة الجزئية بموجبة كلية وقلنا كل طالب حنفي لكانت كاذبة، فالقضيتان المحصورتان أي المسوّرتان لا يتحقق التناقض بينهما مطرداً إلا إذا اختلفنا في الكمية – أي الكلية الجزئية – مع اختلافهما في الإيجاب والسلب واتفقتا فيما عدا ذلك. بقيت المهملة وحكمها حكم الجزئية لأنها في قوتها فإن كانت موجبة كان نقيضها السالبة الكلية وإن كانت سالبة كان نقيضها الموجبة الكلية، وما قيل في الحمليات يقال مثله في الشرطيات فلا نطيل بذكره على أنه لا يناسب المبتدئين في هذا الفن، ولله الهادي إلى سبيل الرشاد
(هُوَ أَنْ يَصِيرَ المَوْضُوعَ مَحْمُولاً وَالمَحْمُولُ مَوَضُوعًا مَعَ بَقَاءِ الْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ بِحَالِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِحَالهِ)
العكس المعروف عنه المناطقة بالعكس المستوى هو أن تجعل موضوع القضية محمولاً لها وتجعل محمولها موضوعاً فيها وإذا كانت موجبة أبقيتها على الإيجاب وإن كانت سالبة أبقيتها على السلب، ولا يسمى هذا عكساً للقضية إلا إذا كان واجب الصدق متى كان الأصل – وهو القضية المعكوسة – صادقاً، مثلاً بعض الحبر أسود فهذه القضية إذا أردنا عكسها يجب أن نجعل الأسود موضوعاً والحبر محمولاً ونقول هكذا بعض الأسود حبر فإذا فرضنا الأصل صادقاً وجب أن يكون العكس كذلك لأن الأسود والحبر يصدقان على ذات واحدة فمتى صح أن قول بعض الحبر أسود وجب أن يصح قولنا بعض الأسود حبر. وقد وقع بعض نسخ المتن تحريف بزيادة كلمة التكذيب هكذا مع بقاء الإيجاب والسلب بحاله والتصديق والتكذيب بحاله وهو خطأ فإن الأصل إذا كان كاذباً لم يلزم أن يكون العكس كاذباً أيضاً فإن العكس لازم للقضية ومتى صدق الملزوم صدق لازمه ولكن إذا كذب الملزوم وهو الأصل لم يلزم كذب اللازم وهو العكس كما إذا قلت كل حيوان إنسان فهذا كاذب ولو عكسته فقلت بعض الإنسان حيوان لم يكن كاذباً مثله فالتلازم بين الأصل والعكس إنما هو في الصدق فقط بمعنى أنه إذا صدق الأصل صدق عكسه أما إذا كذب الأصل فلا يلزم كذب عكسه
(وَالمُوجَبَةُ الْكُلِّيَّةُ لاَ تَنْعَكِسُ كُلِّيَّةً إِذْ يَصْدُقُ قَوْلُنَا كُلُّ إِنْسَانٍ حَيْوَانٌ وَلاَ يَصْدُقُ كُلُّ حَيَوانٌ إنْسَانٌ بَل تَنْعَكِسُ جُزْئِيَّةً لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا كُلُّ إِنْسَانٍ حَيَوَانٌ يَصْدُقُ بَعْضُ الحَيَوَانِ إِنْسَانٌ فَإِنَّا نَجِدُ شَيْئًا مَوْصُوفًا بِالْإِنْسَانِ وَالحَيَوَانِ فَيَكُونُ بَعْضُ الحَيَوَانِ إِنْسَانًا، وَالمُوجَبَةُ الجُزْئِيَّةُ أَيْضًا تَنْعَكِسُ جُزْئِيَّةً بِهذِهِ الحُجَّةِ)
القضايا الحقيقة بالبحث عن عكوسها أربعة: الموجبة كلية وجزئية والسالبة كذلك والمهملة لكونها في قوة الجزئية تسري إليها أحكامها والشخصية قليلة الفائدة في اكتساب المجهولات من المعلومات. أما الموجبة الكلية فلا تنعكس موجبة كلية لجواز أن يكون المحمول أعم من الموضوع فيصدق اثبات المحمول لكل أفراد الموضوع ويكذب اثبات الموضوع لكل أفراد المحمول، كما إذا قلت كل إنسان حيوان فهذا صادق لأن المحمول ثابت لكل أفراد الموضوع ولو عكسناه كلياً وقلنا كل حيوان إنسان كاذباً لأن الحيوان أعم من الإنسان فإثبات الإنسان لكل أفراده غير صحيح، وما إذا قلت كل وضوء طهارة فهذا صادق، ولو عكسته كلياً فقلت كل طهارة وضوء كان كاذباً لأن الطهارة أعم من الوضوء لشمولها التيمم، وإنما تنعكس الموجبة الكلية موجبة جزئية لأن المحمول إذا ثبت لكل أفراد الموضوع فقد صدقا على شيء واحد فصح أن يثبت له كل منهما كما إذا قلت كل إنسان حيوان فهاهنا قد أثبتنا الحيوان لكل أفراد الإنسان فبعض أفراد الحيوان إنسان فيصدق قولنا بعض الحيوان إنسان البتة وهو المطلوب، وكما إذا قلت كل فاعل مرفوع فأنه ينعكس إلى قولنا بعض المرفوع فاعل لأنك قد أثبت المرفوع لشيء هو فاعل فبعض المرفوع فاعل وهو المطلوب، والموجبة الجزئية تنعكس موجبة جزئية بهذه الحجة أيضاً فإنك إذا قلت بعض البيع فاسد فقد صدق البيع والفاسد على شيء واحد فيصدق قولك بعض الفاسد بيع وهو المطلوب
(وَالسَّالِبَةُ الْكُلِّيَّةُ تَنْعَكِسُ سَالِبَةً كُلِّيَّةً وَذلِكَ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ إِذَا صَدَقَ لاَ شَيْءَ مِنَ الْإِنْسَانِ بِحَجَرٍ صَدَقَ لَا شَيْءَ مِنَ الحَجَرِ بِإِنْسَانٍ)
السالبة الكلية تنعكس كنفسها السالبة كلية، فإذا صدق قولنا لا شيء من الإنسان بحجر وجب أن يصدق قولنا لا شيء من الحجر بإنسان إذ لو لم يصدق هذا الصدق نقيضه وهو بعض الحجر إنسان وهو موجبة جزئية تنعكس إلى قولنا بعض الإنسان حجر وهو نقيض الأصل الذي هو قولنا لا شيء من الإنسان بحجر فلو لم تنعكس السالبة الكلية سالبة كلية لصدقت القضية ونقيضها وهو محال، كما إذا قلت لا شيء من الكلي بجزئي فإنه ينعكس إلى قولك لا شيء من الجزئي بكلي إذ لو لم يصدق هذا العكس لصدق نقيضه وهو بعض الجزئي كلي وينعكس إلى قولك بعض الكلي جزئي وهو نقيض الأصل الذي هو قول لا شيء من الكلي بجزئي فيصدق الشيء ونقيضه وهو محال
(وَالٍسَّالِبَةُ الجُزْئِيَّةُ لاَ عَكْسَ لَهَا لُزُومًا فَإِنَّهُ يَصْدُقُ بَعْضُ الحَيَوَانِ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ وَلاَ يَصْدُقُ عَكْسُهُ)
السالبة الجزئية ليس لها عكس لازم فأن موضوعها قد يكون أعم من المحمول فيصح سلب المحمول عنه سلباً جزئياً ولا يصح سلبه هو عن الموضوع كما إذا قلت بعض الحيوان بإنسان فالحيوان لكونه أعم من الإنسان صحَّ سلب الإنسان عنه سلباً جزئياً ولا يصح سلب الحيوان عن الإنسان لا كلياً ولا جزئياً، فلا يقال بعض الإنسان ليس بحيوان فتصدق السالبة الجزئية ولا يصدق عكسها لا كلياً ولا جزئياً فلا تنعكس وهو المطلوب، والحاصل أن الموجبة – كلية كانت أو جزئية – تنعكس إلى موجبة جزئية والسالبة الكلية تنعكس سالبة كلية والسالبة الجزئية لا عكس لها والله أعلم
فها أنت قد آن لك أن تعرف قوانين اكتساب التصديقات المجهولة من التصديقات المعلومة، عرفت أنواع القضايا التي يكثر دورانها في التخاطب العام ويغلب وقوعها في الاستدلال وأنها حمليات ومتصلات ومنفصلات موجبات وسوالب كليات وجزئيات. فإذا هممت بالاستدلال على مسئلة من المسائل فاجمع معلوماتك التي تناسب تلك المسئلة وانظر من أي نوع هي من أنواع القضايا التي عرفها واجتهد أن تكون مقدماتك صادقة في الواقع فإذا اطمأنت نفسك إلى صدق هذه المعلومات فرتبها على الطريقة التي ستعرفها في باب القياس ترشد إلى الصواب والحق بإذن الله. والله يتولى هدايتنا أجمعين
(هُوَ قَوْلٌ مَلْفُوظٌ أَوْ مَعْقُولٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ مَتَى سُلِّمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ)
الطريق الذي يتوصل به إلى اكتساب المجهولات التصديقية من المعلومات التصديقية هو المعروف باسم القياس وهو قول ملفوظ – إن أردت القياس الذي تتكلم به – أو هو قول معقول – إن أردت القياس ترتبه في ذهنك قبل النطق به – مؤلف من أقوال ملفوظة في القياس اللفظي ومعقولة في القياس العقلي متى سلمت تلك الأقوال يلزم عنها لذاتها قول آخر، كقولنا كل جنابة حدث وكل حدث لا يبيح الدخول في الصلاة فهذا قول مؤلف من أقوال ويلزم عنها لذاتها قول آخر، وهو قولنا كل جنابة لا تبيح الدخول في الصلاة، فلا تسمى القضية الواحدة قياساً؛ وأن استلزم صدقها صدق عكسها، لأنها قول غير مؤلف من أقوال ولا يدخل في القياس، نحو قول الشاعر:
لأنه وإن ألف من أقوال إلا أن هذه الأقوال لا يلزم عنها قول آخر. كما لا يدخل فيه الضروب العقيمة الآتي بيانها عند الكلام على الأشكال وإن تألفت على صورة القياس إلا أنها لا يلزم عنها قول آخر، نحو لا شيء من الإنسان بحجر ولا شيء من الحجر بحيوان. ولا يدخل فيه أيضاً نحو قولك: العشرة والعشرة مساوية للعشرين، والعشرون مساوية لحاصل ضرب أربعة في خمسة؛ فهذا قول مؤلف من أقوال يلزم عنها قول آخر، وهو أن العشرة والعشرة مساوية لحاصل ضرب أربعة في خمسة، إلا أن هذا القول الآخر لم يلزم عن المؤلف من أقوال لذاته، وإنما لزم عنه بواسطة مقدمة أجنبية معلومة، وهي أن مساوي المساوي لشيء مساو لذلك الشيء. ألا ترى أنك لو قلت الإنسان مباين الفرس، والفرس مباين للناطق، لا يلزم عنه أن الإنسان مباين للناطق لعدم صدق المقدمة الأجنبية، وهي قولنا مباين المباين لشيء مباين لذلك الشيء، وقد أشار المصنف بقوله «مَتَى سُلِّمَتْ» إلى أنه لا يشترط في القياس أن تكون مقدماته صادقة في الواقع، وإنما المدار على أن تكون مسلمة عند المستدل بها، فيدخل في التعريف القياس الكاذبُ المقدماتِ إذا كانت مسلمة عند المستدل بها، كما إذا قلت كل إنسان جماد وكل جماد ملتهب، فهذه الأقوال المؤلفة كاذبة ولكن إذا سلمها المستدل بها يلزم عنها لذاتها قول آخر وهو كل إنسان ملتهب. ولما كانت النتيجة المطلوبة مغايرة في الواقع لكل من المقدمتين أشار المصنف إلى وجوب مغايرتها بقوله «قَوْلٌ آخَرُ فَإِنَها» لو كانت إحدى المقدمتين لكانت معلومة ومجهولة معاً ولكن ذلك من قبيل الاستدلال على الشيء بنفسه وهو مما لا يصدر من العقلاء
(وَهُوَ إِمَّا اقْتِرَانِيٌ كَقَوْلِنَا كُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفٌ وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ حَادِثٌ فَكُلُّ جِسْمٍ حَادِثٌ، وَإِمَّا اسْتِثْنَائِيٌ كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ لكِنِ النَّهَارُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَالشَّمْسُ لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ)
القياس إما اقتراني وإما استثنائي، فالاقتراني هو ما اقترن فيه موضوع المطلوب أو مقدمه بغير محموله أو تاليه كقولك كل جسم مؤلف وكل مؤلف حادث في كل جسم حادث، فهذا قياس اقتراني لأن موضوع المطلوب وهو الجسم قد اقترن في القياس بغير محموله وهو الحادث، وكقولك كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وكلما كان النهار موجوداً فالعالم مضيء ينتج كلما كانت الشمس طالعة فالعالم مضيء، وهذه النتيجة قد اقترن مقدمها بغير تاليها في القياس، أما القياس الاستثنائي فهو الذي قد فصل بين مقدمتيه بأداة الاستثناء كقولك إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكن النهار ليس بموجود ينتج الشمس ليست بطالعة فهذا قياس استثنائي لأنه قد فصل بين مقدمتيه بأداة الاستثناء وهي لكن
(وَالمُكَرَّرُ بَيْنَ مُقَدِّمَتَيِ القِيَاسِ يُسَمَّى حَدًّا أَوْسَطَ، وَمَوْضُوعُ المَطْلُوبِ يُسَمَّى حًدًّا أَصْغَرَ، وَمَحْمُولُهُ يَسَمَّى حَدًّا أَكْبَرَ، وَالمُقَدِّمَةُ الَّتِي فِيهَا الْأَصْغَرُ تُسَمَّى صُغْرَى، وَالَّتِي فِيهَا الْأَكْبَرُ تُسَمَّى كُبْرَى، وَهَيْئَةُ التَّألِيفِ تُسَمَّى شَكْلاً)
القياس الاقتراني يتألف من قضيتين هما مقدمنا لما قياس، كما قول كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم، ولهذا القياس نتيجة هي المطلوب وهي قولنا كل إنسان جسم، فما نجده في مقدمي القياس مكرراً وهو هنا الحيوان يسمى حداً أوسط لأنه في الغالب يكون أعم من موضوع المطلوب وأخص من محموله ولأنه هو الذي اتخذته وسطاً للتصديق بثبوت محمول المطلوب لموضوعه، وموضوع المطلوب يسمى حداً أصغر لأنه في الغالب يكون أخص من محموله ومحمول المطلوب يسمى حداً أكبر لأنه في الغالب يكون أعم من الموضوع، والمقدمة التي فيها الأصغر وهي الأولى تسمي الصغرى والمقدمة التي فيها الأكبر وهي الثانية تسمى الكبرى وهيئة التأليف تسمى شكلاً، وهذه الهيئة هي الحالة الحاصلة من وضع الحد الأوسط بالنسبة للحدين الآخرين من كونه موضوعاً أو محمولاً لهما على الوجه الذي بينه المصنف بقوله
(وَالْأَشْكالُ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ الحَدَّ الْأَوْسَطَ إِنْ كَانَ مْحمُولاً فِي الصُّغْرَى مَوْضُوعًا فِي الْكُبْرَى فَهُوَ الشَّكْلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ فَهُوَ الرَّابِعُ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا فِيهِمَا فَهُوَ الثَّالِثُ وَإِنْ كَانَ مَحْمُولاً فِيهِمَا فَهُوَ الثَّانِي)
الأشكال الحاصلة من وضع الحد الأوسط الذي يتكرر ذكره في المقدمتين أربعة، لأنه إن كان محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى فهو الشكل الأول، كما تقول كل مسجد وقف كل وقف يحرم بيعه فكل مسجد يحرم بيعه، فالحد الأوسط وهو وقف وقع محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى. وإن كان محمولاً في الصغرى وفي الكبرى معاً فهو الشكل الثاني، كما تقول كل ما بين السرة والركبة عورة ولا شيء مما يحل النظر إليه بعورة فلا شيء مما بين السرة والركبة يحل النظر إليه فالحد الأوسط وهو عورة قد وقع محمولاً في الصغرى وفي الكبرى معاً. وإن كان موضوعاً فيهما معاً فهو الشكل الثالث، كما تقول كل سارق خائن وكل سارق تقطع يده فبعض الخائن تقطع يده فالحد الأوسط وهو سارق قد وقع موضوعاً في الصغرى والكبري معاً. وإن كان موضوعاً في الصغرى محمولاً في الكبرى فهو الشكل الرابع كما تقول كل أكل عمد يفسد الصوم ولا شيء من التنفس بأكل عمد فبعض ما يفسد الصوم ليس بتنفس فالحد الأوسط وهو الأكل العمد قد وقع موضوعاً في الصغرى محمولاً في الكبرى
(وَالشَّكْلُ الثَّانِي مِنْهَا يَرْتَدُّ إِلَى الْأَوَّلِ بَعَكِسِ الْكُبْرَى وَالثَّالِثُ يَرْتَدُّ إِلَيْهِ بِعَكْسِ الصُّغْرَى وَالرَّابِعُ يَرْتَدُّ إِلَيْهِ بِعَكْسِ التَرْتِيبِ أَوْ بِعَكْسِ المُقَدِّمَتَيْنِ جَمِيعًا)
قد عرفت أن الحد الأوسط في الشكل الأول يكون محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى وفي الشكل الثاني محولاً في الصغرى وفي الكبري معاً، فإذا أردت رد الشكل الثاني إلى الأول عكست الكبرى فصيرت محمولها وهو الحد الأوسط موضوعاً وصيرت موضوعها محمولاً فيعود الأوسط محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى، فقولنا كل ما بين السرة والركبة عورة ولا شيء مما يحل النظر إليه بعورة يرجع إلى الأول بعكس الكبرى فتقول ولا شيء من العورة يحل النظر إليه. وعرفت أن الحد الأوسط في الشكل الثالث يكون موضوعاً في الصغرى وفي الكبرى معاً فإذا أردت رده إلى الشكل الأول عكست الصغرى ليكون محمولاً فيها موضوعاً في الكبرى فقولنا كل سارق خائن وكل سارق تقطع يده يرجع إلى الشكل الأول بعكس الصغرى فنقول بعض الخائن سارق. وعرفت أن الحد الأوسط في الشكل الرابع يكون موضوعاً في الصغرى محمولاً في الكبرى فإذا أردت رده إلى الشكل الأول فإما أن تعكس الترتيب وتجعل الصغرى كبرى والكبرى صغرى، كما تقول: كل وقف لا يجوز بيعه وكل مسجد وقف ينتج بعض ما لا يجوز بيعه مسجد فإذا عكست الترتيب قلت كل مسجد وقف وكل وقف لا يجوز بيعه فينتج كل مسجد لا يجوز بيعه ثم تعكس النتيجة إلى قولك بعض ما لا يجوز بيعه مسجد وإما أن تعكس المقدمتين كما تقول في المثال الأول بعض ما يفسد الصوم أكل عمد ولا شيء من الأكل العمد بتنفس فبعض ما يفسد الصوم ليس بتنفس
(وَالْكامِلُ الْبَيِّنُ الْإِنْتَاجِ هُوَ الْأَوَّلُ وَالشَّكْلُ الرَّابِعُ بَعِيدٌ عَنِ الطَّبْعِ جِدًّا والَّذِي لَهُ طَبْعٌ مُسْتَقِيمٌ وَعَقْلٌ سَلِيمٌ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى رَدِّ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ)
الطريق المألوف طبعاً لاكتساب المجهولات هي أن تضع الحد الأصغر وهو موضوع المطلوب وتثبت له الحد الأوسط ثم تثبت للأوسط الحد الأكبر وهو محمول المطلوب أو تسلبه عنه لينتج اثبات الحد الأكبر للأصغر أو سلبه عنه، وهذا هو الحال في الشكل الأول؛ فلذلك كان بيّن الانتاج، أما الشكل الثاني فيوافق الشكل الأول في الصغرى ويخالفه في الكبرى فهو قريب من الأول كأنه به يبتدئ السير معه إلى نصف الطريق فيكون قد أقترب من المطلوب ولذلك لا تحتاج إلى رده للأول من كان مستقيم الطبع والفطرة سليم العقل والفكرة. أما الشكل الثالث فبعده عن الأول أكثر من بعد الثاني لأنه يخالفه في الصغرى فكأنما قد افترقا من بداية سيرهما. والشكل الرابع بعيد عن الطبع جداً لأنه لا يتفق مع الشكل الأول في مقدمة من مقدماته
(وَإِنَّمَا يُنْتِجُ الثَّانِي عِنْدَ اخْتِلاَفِ مُقَدِّمَتَيْهِ بِالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ)
قد علمت أن القياس يتألف من مقدمتين: صغرى وكبرى، فالصغرى إما موجبة كلية أو موجبه جزئية أو سالبة كلية أو سالبة جزئية، والكبرى كذلك فهذه ستة عشر ضرباً لكل شكل من الأشكال الأربعة. أمَّا الشكل الأول فسيأتي الكلام على ضروبه وأما الشكل الثاني فإنما ينتج نتيجة مطردة بشرطين: الأول اختلاف مقدمتيه بالإيجاب والسلب. الثاني أن تكون كبراه كلية. أما اختلاف المقدمين بالإيجاب والسلب فيسقط به ثمانية ضروب الموجبة الكلية الصغرى مع الموجبتين والموجبة الجزئية الصغرى مع الموجبتين والسالبة الكلية الصغرى مع السالبتين والسالبة الجزئية الصغرى مع السالبتين، وأما كلية الكبرى فيسقط به أربعة السالبة الجزئية الكبرى مع الموجبتين، والموجبة الجزئية الكبرى مع السالبتين. فالضروب المنتجة من هذا الشكل أربعة فقط (الضرب الأول) الموجبة الكلية الصغرى مع السالبة الكلية الكبرى ونتيجته سالبة كلية، كقولنا كل صلاة رباعية تقصر في السفر ولا شيء من الوتر يقصر في السفر فلا شيء من الصلاة الرباعية بوتر (الضرب الثاني) السالبة الكلية الصغرى مع الموجبة الكلية الكبرى ونتيجته سالبة كلية كقولنا لا شيء من المفاعيل بمرفوع وكل مبتدأ مرفوع فلا شيء من المفاعيل بمبتدأ (الضرب الثالث) الموجبة الجزئية الصغرى مع السالبة الكلية الكبرى ونتيجته سالبة جزئية كقولنا بعض الدم تباح معه الصلاة ولا شيء من الحيض تباح معه الصلاة فبعض الدم ليس بحيض (الضرب الرابع) السالبة الجزئية الصغرى مع الموجبة الكلية الكبرى، كقولنا: بعض ما يخرج من السبيلين يفسد الصوم ولا شيء من البول بمفسد للصوم فبعض ما يخرج من السبيلين ليس ببول
(وَالشَّكْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي جُعِلَ مِعَيَار الْعُلُومِ فَنَورِدُهُ هَهُنَا لِيُجْعَلَ دُسْتُورًا يُسْتَنْتَجَ مِنْهُ المَطَالِبُ كُلُّهَا وَشَرْطُ إِنْتَاجِهِ إِيجَابُ الصُّغْرَى وَكُلِّيَّةُ الْكُبْرَى وَضُرُوبُهُ المُنْتِجَةُ أَرْبَعَةٌ: الضَّرْبُ الْأَوَّلُ كَلُّ جِسْمِ مُؤَلَّفٌ وَكُلٌ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ فَكُلُّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ، الثَّانِي كُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفٌ وَلاَ شَيْء مِنَ المُؤَلَّفِ بِقَدِيمٍ فَلاَ شَيْءَ مِنَ الْجِسْمِ بِقَديمٍ. الثَّالِثُ بَعْضُ الْجِسْمِ مُؤَلَّفٌ وَكُلُّ مُؤّلِفٍ حَادِثٌ فَبَعْضُ الْجِسْمِ حَادِثٌ. الرَّابِعُ بَعْضُ الْجِسْمِ مُؤَلَّفٌ وَلاَ شَيْءَ مِنَ المُؤَلَّفِ بِقَدِيمٍ فَبَعْضُ الْجِسْمِ لَيْسَ بِقَدِيمٍ)
الشكل الأول لكونه بين الانتاج جعل ميزاناً للعلوم فهو الحقيق بالبيان في هذا المختصر ليكون دستوراً ومرجعاً ويمكن الانتفاع به في كل المطالب العلمية، وشرط انتاجه إيجاب الصغرى كلية الكبرى، أما إيجاب الصغرى فيسقط به ثمانية أضرب: السالبة الكلية الصغرى مع الكبريات الأربع والسالبة الجزئية الصغرى مع الكبريات الأربع، وأما كلية الكبرى فيسقط به أربعة: الموجهة الجزئية الكبرى مع الموجبتين الصغريين، السالبة الجزئية الكبرى معهما أيضاً فالمنتج من ضروبه أربعة فقط
(الضرب الأول) الموجبة الكلية مع مثلها ونتيجته موجبة كلية، كقولنا: كل متمسك بدينه محب لوطنه وكل محب لوطنه يحافظ على استقلاله، فكل متمسك بدينه يحافظ على استقلال وطنه.
(الضرب الثاني) الموجبة الكلية الصغرى مع السالبة الكلية الكبرى ونتيجته سالبة كلية، كقولنا: كل قصب السكر يحتاج في استكمال نموه إلى تسعة أشهر، ولا شيء ما يحتاج استكمال نمو إلی تسعة أشهر يمكن أن يزرع في العام الواحد مرتين، فلا شيء من قصب السكر يمكن أن يزرع في العام الواحد مرتين.
(الضرب الثالث) الموجبة الجزئية الصغرى مع الموجبة الكلية الكبرى ونتيجته موجبة جزئية، كقولنا: بعض القابضين على المصالح العامة يهمل في القيام بما عهد إليه من الشؤون العمومية، وكان من أهمل القيام بما عهد إليه من الشؤون العمومية جدير بأن يسمى خائناً، فبعض القابضين على المصالح العامة جدير بأن يسمى خائناً.
(الضرب الرابع) الموجبة الجزئية الصغرى مع السالبة الكلية الكبرى ونتيجته سالبة جزئية، كقولنا: بعض المسلمين تارك الصلاة عمداً، ولا شيء من تارك الصلاة عمداً بمؤد لحقوق خالقه، فبعض المسلمين ليس بمؤد لحقوق خالقه.
(تكميل) قد عرفت أن الحد الأوسط في الشكل الثالث يكون موضوعاً في الصغرى وفي الكبرى معاً فضروبه ستة عشر أيضاً، وشرط انتاجه إيجاب الصغرى وكلية احدى مقدمتيه، فسقط بالشرط الأول ثمانية ضروب: السالبة الكلية الصغرى مع الكبريات الأربع والسالبة الجزئية الصغرى مع الكبريت الأربع، وسقط بالشرط الثاني الموجبة الجزئية الصغرى مع الجزئية الكبرى موجبة وسالبة، فضروبه المنتجة ستة: الموجبة الكلية الصغرى مع الكبريات الأربع، والموجبة الجزئية الصغرى مع الكلية الكبرى موجبة وسالبة.
وعرفت أن الحد الأوسط في الشكل الرابع يكون موضوعاً في الصغرى محمولا في الكبرى، فضروبه ستة عشر أيضاً، وشرط انتاجه إيجاب المقدمتين مع كلية الصغرى أو اختلافهما بالإيجاب والسلب مع كلية إحداهما، فضروبه المنتجة ثمانية: الموجبة الكلية الصغرى مع الموجبة الكبرى كلية أو جزئية بالشرط الأول، والموجبة الكلية الصغرى مع السالبتين، والموجبة الجزئية الصغرى مع السالبة الكلية، والسالبة الكلية الصغرى مع الموجبتين، والسالبة الجزئية الصغرى مع الموجبة الكلية الكبرى بالشرط الثاني. وحسب المبتدئ في هذا الفن أن يكتفي بهذا القدر من التفصيل الآن والله هو الفتاح العليم.
(وَالْقِيَاسُ الاِقْتِرَانِيُّ إِمَّا أَنْ يَتَرَكَّبَ مِنْ حَمْلِيَّتَيْنِ كَمَا مَرَّ وَإِمَّا مِنْ مُتَّصِلَتَيْنِ كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ وَكُلَّمَا كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا فالْأَرْضُ مُضِيئَةٌ يُنْتِجُ إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالْأَرْضُ مُضِيئَةٌ، وَإِمَّا مُرَكَّبٌ مِنَ مُنْفَصِلَتَيْنِ كَقَوْلِنَا كُلُّ عَدَدٍ إِمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا فَرْدٌ وَكُلُّ زَوْجٍ فَهُوَ إِمَّا زَوْجِ الزَّوْجِ أَوْ زَوْجُ الْفَرْدِ يُنْتِجَ كُلُّ عَدَدٍ إِمَّا فَرْدٌ أَوْ زَوْجُ الزَّوْجُ أَوْ زَوْجُ الْفَرْدِ، وَإِمَّا مِنْ حَمْلِيَّةٍ وَمُتَّصِلَةٍ كَقَوْلِنَا: كُلَّمَا كَانَ هَذَا إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ وَكُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ يُنْتِجُ كُلَّمَا كَانَ هَذَا إِنْسَانًا فَهُوَ جِسْمٌ، وإِمَّا مِنْ حَمْلِيَّةٍ وَمُنْفَصِلَةٍ كَقَوْلِنَا: كُلُّ عَدَدٍ إِمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ وَكُلُّ زَوْجٍ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى مُتَسَاوِيَيْنِ يُنْتِجُ كُلُّ عَدَدٍ إِمَّا فَرْدٌ إِمَّا مُنْقَسِمٌ إِلَى مُتَسَاوِيَيْنِ، وإِمَّا مِنْ مُتَّصِلَة وَمُنْفَصِلَة كَقَوْلِنَا: كُلَّمَا كَانَ هَذَا إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ وَكُلُّ حَيَوانٍ إِمَّا أًبْيَضُ أَوْ أَسْوَدُ يُنْتِجُ كُلَّمَا كَانَ هَذَا إِنْسَانًا فَهُوَ إِمَّا أَبْيَضُ أَوْ أَسْوَدُ)
قد علمت أن المقدمات التي تتألف منها الأقيسة هي الحمليات والمتصلات والمنفصلات، وأن القياس الاقتراني هو ما اقترن فيه موضوع المطلوب أو مقدمه بسوى محموله أو تاليه، فأقسام تأليفه من المقدمات المذكورة ستة: القسم الأول ما تركب من مقدمتين حمليتين وقد مرت أمثلة هذا القسم. القسم الثاني ما تركب من متصلتين كقولنا إن أعرض المسلمون عن التمسك بالدين غضب الله عليهم وكلما غضب الله على قوم ألبسهم ثوب الذل والهوان ينتج إن أعرض المسلمون عن التمسك بالدين ألبسهم الله ثوب الذل والهوان. القسم الثالث ما تركب من منفصلتين، كقولنا: دائما إما أن يكون من تجاوز الميقات إلى البلد الحرام محرماً بالعمرة وإمَّا أن يكون محرماً بالحج، ودائماً إِمَّا أن يكون المحرم بالحج مفرداً أو قارناً فدائماً إما أن يكون من تجاوز الميقات إلى البلد الحرام محرماً بالعمرة أو مفرداً أو قارناً. القسم الرابع ما تركب من متصلة وحملية كقولنا كلما كان الأمير محافظاً على حقوق رعيته فهو مطاع في قومه وكل مطاع في قومه شديد البأس على أعدائه فكلما كان الأمير محافظاً على حقوق رعيته فهو شديد البأس على أعدائه. القسم الخامس ما تركب من منفصلة وحملية كقولنا: إما أن تعتصم بحبل الدين الحنيف وإِمَّا أن تتبع هواك وكل من اتبع هواه فهو في ضلال مبين ينتج إما أن تعتصم بحبال الدين الحنيف وإما أن تكون في ضلال مبين. القسم السادس ما تركب من متصلة ومنفصلة كقولنا: كلما كان نزول الدم مانعاً من الصوم فهو من الرحم وكل ما نزل من الرحم فهو إما حيض وإما نفاس فكما كان نزول الدم مانعاً من الصوم فهو حيض وإما نفاس
(وَأَمَّا الْقِيَاسُ الاسْتِثْنَائِيُّ فَالشَّرْطِيَّةُ الْمَوْضُوعَةُ فِيهِ إِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ الْمُقَدَّمِ يُنْتِجُ عَيْنَ التَّالِي كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَ هَذَا إِنْسَاناً فَهُوَ حَيَوَانٌ لَكِنَّهُ إِنْسَانٌ فَهُوَ حَيَوَانٌ وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ التَّالِي يُنْتِجُ نَقِيضَ الْمُقَدَّمِ كَقَوْلِنَا إِنْ كَانَ هَذَا إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ فَلَا يَكُونُ إِنْسَانًا)
القياس الاستثنائي كما عرفت هو ما تألف من مقدمتين تفصل بينها أداة الاستثناء وإحدى مقدمتيه شرطية متصلة أو شرطية منفصلة، فإن كانت شرطية متصلة فالمقدمة الأخرى إما أن يكون الحكم فيها وضع المقدم أو رفعه أو وضع التالي أو رفعه كقولنا كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكن الشمس طالعة فما بعد أداة الاستثناء وهي لكن وضع للمقدم أي أن المقدم وهو اثبات الطلوع للشمس متحقق ولو قلنا لكن النهار في بوجود فما بعد أداة الاستثناء رفع للتالي أي أن نسبة الوجود للنهار منفية فاستثناء عين المقدم ينتج عين التالي لأن المقدم ملزوم والتالي لازم فإذا تحقق الملزوم تحقق اللازم ضرورة التلازم بينهما واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم لأنه عند ارتفاع اللازم يرتفع الملزوم وإلا لوجد الملزوم بدون لازمه كقولنا كلما استمرأ الولاة مرتع الظلم تولدت في الرعية روح التمرد لكن الولاة قد استمرأوا مرتع الظلم ينتج أن روح التمرد تولدت في الرعية أو تقول لكن روح التمرد لم تتولد في الرعية ينتج أن الولاة لم يستمرئوا مرتع الظلم، أما استثناء نقيض المقدم فلا ينتج نقيض التالي واستثناء عين التالي لا ينتج عين المقدم لجواز أن يكون التالي من اللوازم العامة، فلو قلنا في المثال السابق اسكن الولاة لم يستمرئوا مرتع الظلم لم ينتج أن روح التمرد لم تتولد في الرعية لان تولد روح التمرد ما هو من لوازم ظلم الراعي كذلك هو من لوازم سوء الإدارة ولو قلنا في المثال السابق لكن روح التمرد قد تتولد في الرعية لم ينتج أيضاً أن الولاة قد استمرأوا مرتع العالم الظلم للعلة السابقة
(وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً حَقِيقِيَّةً فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ أَحَدِ الجُزْأَيْنِ يُنْتِجُ نَقِيضَ الْآخَرِ وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا يُنْتِجُ عَيْنَ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَتْ مَانِعَةُ الجَمْعِ فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ أَحَدِ الجُزْأَيْنِ يُنْتِجُ نَقِيضَ الْآخَرِ وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا لَا يُنْتِجُ وَإِنْ كَانَتْ مَانِعَةُ الْخُلُوَّ فَالْأَمْرُ بَعَكِسِ)
المنفصلة الحقيقية هي كما عملت تتركب من الشيء ونقيضه أو المساوي لنقيضه فإذا وقعت مقدمة في القياس الاستثنائي كان استثناء عين أحد طرفيها منتجاً لنقيض الآخر وإلا لزم اجتماع النقيضين واستثناء نقيض أحد طرفيها منتجاً لعين الآخر وإلا لزم رفع النقيضين كقولنا إمَّا أن يكون هذا المكلف مؤمناً وإمَّا أن يكون كافراً لكنه مؤمن فليس بكافر أو لكنه ليس بمؤمن فهو كافر أو لكنه كافر فهو ليس بمؤمن أو لكنه ليس بكافر فهو مؤمن، وإذا وقعت مانعة الجمع مقدمة في القياس الاستثنائي وهي كما علمت تتركب من الشيء والأخص من نقيضه كان استثناء عين أحد الجزأين منتجاً لنقيض الآخر وإلا لزم اجتماع الضدين، أما استثناء نقيض أحدهما فلا ينتج عين الآخر لجواز ارتفاعهما معاً، كقولنا: إِمَّا أن يكون الحائز لشهادة العالية عضواً في المحكمة العليا وإِمَّا أن يكون قاضياً في إحدى مديريات القطر المصري لكنه عضو في المحكمة العليا فهو ليس بقاض في إحدى المديريات أو لكنه قاض في إحدى المديريات فهو ليس بعضو في المحكمة العليا، ولو استثنينا نقيض أحدهما وقلنا لكنه ليس بعضو في المحكمة العليا لم ينتج أنه قاض في إحدى المديريات أو قلنا لكنه ليس بقاض في إحدى المديريات لم ينتج أنه عضو في المحكمة العليا لجواز ارتفاعهما بأن يكون مدرساً أو تاجراً أو نحو ذلك. وإذا وقعت مانعة الخلو مقدمة في القياس الاستثنائي وهي كما علمت تتركب من الشيء والأعم من نقيضه كان استثناء نقيض أحد الجزأين منتجاً لعين الآخر وإلا ارتفع النقيضان معاً، أما استثناه عين أحدهما فلا ينتج نقيض الآخر لجواز اجتماعها في الوجود كقولنا: إما أن يكون هذا المكلف مؤمناً وإما أن يكون عاصياً لمولاة لكنه ليس بمؤمن فهو عاص لمولاه أو لكنه ليس بعاص لمولاه فهو مؤمن لان نقيض الايمان وهو الكفر أخص من المعصية ولو استثنينا عين أحدهما وقلنا لكنه مؤمن لم ينتج أنه غير عاص أو قلنا لكنه عاص لم ينتج أنه غير مؤمن لأن الايمان والعصيان بمعنى اقتراف الذنوب يجتمعان في مؤمن أقترف ذنباً ولا يرتفعان وإلا كان كافراً وغير مذنب والكفار أكبر الذنوب والمعاصي التي يتم فيها الإنسان. ثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت في الحياة وفي الآخرة فإنا قد رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبسيدنا محمد ﷺ نبياً ورسولاً.
(الْبُرْهَانُ هُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ يَقِينِيةٍ لِإِنْتَاجِ الْيَقِينِيَّاتِ)
قد عرفت كيفية تركيب الأقيسة الاقترانية والاستثنائية وعلمت المنتج منها وغير المنتج فاعلم الآن أن كل قياس تؤلفه على احدى الكيفيات السابقة فهو إما برهان أو جدل أو خطابة أو شعر أو مغالطة وهي التي يسميها المناطقة بالصناعات الخمس، والفرق بين هذه الخمسة يرجع إلى نفس المقدمات التي يتألف منها القياس لا إلى كيفية تأليفها. فأولها وأشرفها للبرهان وهي القياس المؤلف من مقدمات يقينية، وإنما تكون المقدمة يقينية إذا اعتقدت الحكم الذي تشتمل عليه اعتقاداً جازماً مطابقاً للواقع ثابتاً لا يزول ولا يتغير كقولك: السماء فوقنا فهذه المقدمة يقينية لأنك تعتقد ذلك اعتقاداً جازماً وهو اعتقاد مطابق للواقع لا يزول ولا يتغير، بالضرورة المقدمات اليقينية إذا ألفت تأليفاً صحيحاً تنتج نتيجة يقينية
(وَالْيَقِينِيَّاتُ سِتَّةُ أَقْسَامٌ كَقَوْلِنَا الوَاحِدُ نِصْفُ الاِثْنَيْنِ وَالْكُلُّ أَعْظَمُ مِنَ الجُزْءِ وَمُشَاهَدَاتٌ كَقَوْلِنَا الشَّمْسُ مُشْرِقَةٌ وَالنَّارُ مُحْرِقَةٌ وَمُجَرَّبَاتٌ كَقَوْلِنَا السَّقَمُونِيَا مُسَهِّلَةٌ لِلصَّفْرَاءِ وَحَدْسِيَّاتٌَ كَقَوْلِنَا نُورُ القَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ وَمُتَوَاتِرَاتٌ كَقَوْلِنَا مُحَمَّدٌ ﷺ ادَّعى النُّبُوَّةَ وَظَهَرَتِ المُعْجِزَةُ عَلَى يَدِهِ وَقَضَايَا قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا كَقَوْلِنَا الْأَرْبَعَةُ زَوْجٌ بِسَبَبِ وَسَطٍ حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ الاِنْقِسَامُ بِمُتَسَاوِيَيْنِ)
اليقينيات ستة أقسام أوليات وهي القضايا التي يصدق بها العقل بفطرته وغريزته فلا يتوقف التصديق بها إلا على تصور أطرافها كقولنا: الأعظم من الجزء والوالد أكبر سناً من ولده والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، ومشاهدات رهي التي يصدق العقل بها بواسطة الحس كقولنا الشمس مشرقة وهذا الثوب أبيض اللون والسكر حلو العلم، ومنه ما يدرك بالحواس الباطنة كاعتقادنا بأن لنا قدرة على العمل وخوفاً ورجاء. ومجريات من القضايا التي يصدق العقل بها بواسطة تكرر الاحساس بها كخواص النباتات والمعادن كقولنا الزرنيخ بقتل آكله والخمر يسكر شاربه، وحدسیات وهي القضايا التي يصدق العقل بها لاستنادها وترتبها على محسوسات أخرى لا يحتاج العقل إلى نظر وتدبر في العلم بترتبها عليها كقولنا نور القمر مستفاد من نور فأنا نشاهد الشمس طالعة وغاربة ونشاهد القمر كذلك يضعف نوره إذا اقترب من الشمس ويزيد إذا ابتعد عنها فيسرع العقل إلى الجزم بأن نور القمر مستفاد منها وكقولنا: ارتفاع الماء في الآبار من ارتفاع الماء في الأنهار فأنا نشاهد الآبار يرتفع ماؤها عندما يزيد النيل وينقص عند نقصانه فيسرع العقل إلى الجزم بأن ارتفاع الآبار منشؤه ارتفاع مياه النيل. ومتواترات وهي القضايا التي يجزم العقل بها لاستناد الحكم فيها إلى إخبار جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب کاعتقادنا بوجود مكة المكرمة والمدينة المنورة وكاعتقادنا بأن مولانا السلطان عبد الحميد الثاني بويع بالخلافة في سنة ۱٢۹۳ هجرية وأن حرباً قامت بين الدولة العليّة واليونان في سنة ۱۳۱٤ هجرية انتصرت فيها الدولة العليّة انتصاراً باهراً. وقضايا قياساتها معها وهي القضايا التي يكون الحكم فيها مستنداً إلى دليل لا يكاد يغيب عن الذهن کقولنا الأربعة زوج فان هذا الحكم بستند إلى أنقسام الأربعة إلى قسمين متساويين وهذا الوسط لا يكاد يغيب عن الذهن
(وَالجَدَلُ وَهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَشْهُورَةٍ أَوْ مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ الخَصْمَيْنِ كَقَوْلِنَا الْعَدْلُ حَسَنٌ وَالظُّلُمُ قَبِيحٌ)
الثاني من الصناعات الجدل وهو قياس مؤلف من مقدمات مشهورة بين الناس يعترفون بها ولا يختلفون فيها كقولنا العدل حسن والظلم قبیح وکشف العورة مذموم ومراعاة الضعفاء محمودة وتختلف المشهورات باختلاف الأمم في عاداتها وأخلاقها وأديانتها فاختلاط الرجال بالنساء قبيح عند الأمم الإسلامية حسن عند الأمم الغربية، إلى كثير من العادات المحمودة عندهم الممقوتة عندنا، ويتألف للجدل أيضاً من المقدمات المسلمات وهي القضايا التي بها يسلمها الخصمان كمسائل أصول الفقه التي يأخذها الفقيه مسلمة عند الاستدلال على حكم فقهي و کقواعد الحساب والهندسية إذا احتاج إليها الفقيه أو المنطق في الاستدلال
(وَالخَطَابَةُ وَهِيَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَقْبُولَةٍ مِنْ شَخْصٍ مُعْتَقَدٍ فِيهِ أَوْ مَظْنُونَةٍ)
الثالث الصناعات الخمس الخطابة وهي قياس مؤلف من مقدمات تؤخذ على وجه القبول لصدررها من شخص معتقد فيه کالجمل التي تصدر من الأولياء ومن كبار العلماء وأهل الزهد والتقوى وتتألف الخطابة أيضاً من المظنونات وهي ما تضمن ترغيباً أو ترهيباً كالجمل المؤثرة التي يأتي بها الوعاظ والخطباء في خطبهم مواعظهم
(وَالشِّعْرُ وَهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَقْبُولَة مُتَخَيَّلَةٍ تَنْبسِطُ مِنْهَا النَّفْسُ أَوْ تَنْقَبِضُ)
الرابع من الصناعات الخمس الشعر وهو قياس مؤلف من مقدمات خيالية تنبسط منها النفس أو تنقبض كما يفعله كثير من الشعراء في المداح والمراثي والحماسيات ونحوها وكالكلمات التي تشجع بها المريض على تناول الأدوية واحتمال آلام المرض ونحو ذلك
(وَالمُغَالَطَةُ وَهِيَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مَقَدِّمَاتٍ كَاذِبَةٍ شَبِيهَةٍ بِالْحَقِّ أَوْ بِالْمَشْهُورِ أَوْ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَهْمِيَّةٍ كَاذِبَةٍ)
الخامس من الصناعات الخمس المغالطة وهي قياس مؤلف من مقدمات كاذبة شبيهة بالحق، كما تقول عن الصورة المنقوشة على الجدار مثلا هذا فرس وکل فرس صاهل، أو من مقدمات وهمية كاذبة كما يحكم الوهم بالخوف من الميت والخوف من الانفراد ليلاً في مكان مظلم وكما تجد كثيراً من الناس يحجمون عن المطالبة بحقوقهم من ذي سلطان لاعتقادهم أن ذلك يعود بالمضرة عليهم وأنما هو من الأوهام الباطلة
العمدة في اكتساب المجهولات التصديقية من بين الصناعات الخمس هو البرهان دون غيره لأن مقدمات البرهان يقينية فنتائجها يقينية أيضاً ومقدمات ماعداه ظنية ولا ينتج الظني الا ظلنياً مثله
واعلم أن الجدل والخطابة والشعر من المطالب العالية التي ينتفع بها كثيراً في المحاورات العامة ويكثر دورانها على ألسنة الخطباء والوعاظ والمرشدين في كل أمة وفي كل ملة وهي التي عليها مدار الترغیب والترهيب والحث على التمسك باقامة الشعائر الدينية وعلى التخلق بالأخلاق المرضية كالصدق والأمانة ومراعاة الضعفاء والرفق باليتامي والمساكين، وللمقدمات الإقناعية والخيالية شعراً كانت أو نثراً فضل كبير في تربية الأمم وتقويم اعوجاجها والمحافظة على كيانها القومي وشعارها الديني. فقد أبانا التاريخ أن أحد كبار العلماء شد الركاب إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وكان طريقه إليها مدينة الإسكندرية فلما حل بها ورأى همم القوم منصرفة إلى مجامع اللهو واللعب اختار أن يقدم إرشاد إخوانه المسلمين على أداء فريضة فاخترع لهم أناشيد على نحو ما اعتادوا أن يلهوا به وجعل يعلمهم في طي تلك الأغاني فرائض الإسلام وواجباته وسننه ومندوباته وما يأمر به من الأخلاق الكريمة والشيم الفاضلة فالتفوا حوله زمراً وأفواجاً لا حباً في العلوم الدينية بل تلذذاً بتلك الأناشيد الجميلة ولكن لم يمض على هذا العمل زمن طويل حتى اهتدوا بهديه وأقلعوا عن الرذائل التي قادهم إليها الجهل بأوامر الدين الحنيف. فهذه سيرة أسلافنا الصالحين في إرشاد الأمم إلى الخيري الدنيا والآخرة أحسن الله جزاءهم وشكر لهم ما احتملوا من المصاعب في إرشاد أخوانهم المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولمثل هذا فليعمل العاملون. نسأل الله جلت قدرته أن يسلك بالعاملين في جميع الأقطار الإسلامية مسلك الاعتدال ومنهج الكمال.
ولكن هذا آخر ما خطه قلم العبد الضعيف المعترف بالعجز والتقصير محمد شاكر الجرجاوي بلداً الحسيني نسباً الحنفي مذهباً الخلوتي طريقة وكان جمع هذه التعليقات بمدينة الإسكندرية في ذی الحجة الحرام سنة ۱۳٢٥ هجرية والحمد لله أولاً وآخراً والصلاة والسلام على سيد الخلق في البداية والنهاية.
- ↑ الكفة بالكسر وتفتح «المنجم» كمنبر الحديدة المعترضة بين كفتي الميزان وفيها لسانه
هذا العمل في الملك العام في مصر وفق قانون حماية الملكية الفكرية لسنة 2002، إما لأَنَّ مُدة الحماية الَّتي كان يتمتع بها انقضت وَفقاً لأَحكام المواد 160–163 منه أو لأن العمل غير مشمول بالحماية بموجب المادتين 141 و142 منه.
|