الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الرابع: كيف تثبت المعتقدات وكيف تتطور؟
الفصل الرابع
كيف تثبت المعتقدات وكيف تتطور
١ – كيف تثبت المعتقدات .
الحقيقة تكون عقلية إذا كانت غير شخصية ، وما استندت اليه من دعائم يبقى مؤبداً ، وأما المعتقدات فلأنها شخصية ولاستنادها الى مبادىء عاطفية أو دينية تخضع لجميع العوامل التي تؤثر في الاحساس ، وعليه وجب أن تكون متقلبة تقلبًا متتابعًا . ومع أن الأمر يقتضى أن يكون كذلك فإِن أجزاء المعتقد الجوهرية تثبت إذا دوفع عنها دفاعاً مستمراً، وإلَّا فانها لا تلبث أن تنحل عراها ، والتاريخ أكبر شاهد صحة قولنا ، إذ هو مفعم بأنقاض معتقدات لم تثبت بسبب ذلك إلا قليلاً .
ولا يكفى لثبات المعتقد إثباتُه كتابةً ، لأن الكتابة لا تفعل غير تبطئة زواله يفعل الزمن ، فالمعتقد الديني أو السياسي أو الأخلاقي يثبت على الخصوص بتأثير العدوى النفسية والتلقين المكرر ، ومن مقومات هذين الركنين نعد الصور والتماثيل والحج والطقوس والترتيل والموسيقى والوعظ والإرشاد الخ .
ولو نُفِيَ المؤمن المتعصب الى بادية ليس فيها ما يذكِّره بدينه لضعف ايمانه بسرعة ، فالذي يجعل الزهاد والمبشرين حافظين لايمانهم هو كونهم يتلون كتب الدين كل يوم و يقضون أوقاتهم بالصلاة والتسبيح ، والذين أوجبوا القساوسة أن يتلوا كل نهار كتاب الفرض الكنسى هم من الواقفين على أحوال النفس وتأثير التلقين والتكرار فيها .
وما من معتقد يثبت إِذا حُرم مقومات ثابتة يستند اليها ، فلولا معابد الإله وصوره وتماثيله لفقد عباده ، ولذلك سار هادمو الهياكل بغريزة صادقة عند ما حطموا التماثيل ودكوا المعابد التي هي رمز الى الآلهة التي أرادوا ان يمحقوها ، وقد كان رجال الثورة الفرنسوية أيضاً على حق - بحسب ذهنيتهم - عند ما حاولوا أن يقضوا على تأثير الماضى بتخريب الكنائس والتماثيل والقصور ، غير أن هذا التخريب لم يطل عهده حتى يقدر على التأثير في المشاعر التي ثبتت بفعل الوراثة والتي هي أمتن من رموزها الحجرية .
۲ – کیف تتطور المعتقدات .
لا يعنى ثبات المعتقدات على الوجه الذي ذكرناه أنها لا تتحول أبداً ، فهي بالعكس تتطور وإن كان أتباعها يزعمون خلاف ذلك ، وسبب هذا الزعم تصريح الكتب المقدسة باستحالة تحريف الديانة التي تدعو الناس اليها .
حقًا إن الواقع يثبت أن المعتقد سياسيا كان أم دينيا أم فنيًا أم اجتماعيًا لا يثبت سوى اسمه ، وقد بينت في كتابي المسمى « سر تطور الأمم » كيف تتحول الأناظيم واللغات والمعتقدات والفنون ثم أثبت أن هذه العناصر لا تنتقل من أخرى من غير أن يعتورها تبدل عظيم .
وعلى هذا فإن المعتقدات مع ثباتها الظاهر الناشىء عن نصوصها القاطعة تضطر إلى التحول لتلتهم بالتقلب الذي يطرأ على نفسية أتباعها والبيئات التي تتسرب فيها ، والتحول المذكور يقع ببطء ، ولكن متى تراكم هذا التحول بتعاقب الأزمنة بدا للعين أنه لا صلة بين نصوص الكتب أيام وضعها و بين تطبيقها على العمل عند تمام ذلك التراكم ، خذ ديانة البراهمة مثلا تر أنها ابتعدت من كتب الهندوس المسماة « فيدا » وكذلك أمر الديانة البوذية .
ومع أنه يصعب تعيين النواميس التي يسير عليها تطور المعتقدات فاننا نذكر ما يأتي :
أولاً : قد يُجمع بين المعتقدات المتماثلة عند المصاقبة ، وذلك كما يقع في آلهة الوثنيين ومعتقداتهم – ثانيا : إذا كانت المعتقدات متباينة فالقوى منهـا يقضى على البقية ، لهـذا السبب استطاع الإسلام أن يهدى غدا قبائل أفريقيا المتوحشة أمم الهند العريقة في التمدن .. ثالثُا : بعد أن يتم ال النصر للمعتقد ينقسم الى فرق ومذاهب لا يحافظ كل منها على غير مبادىء المعتقد الأساسية . و يجدر بنا أن نطنب في بيان الناموس "الث ، فهو يكفى لا يضاح الكيفية التي تتطور بها المعتقدات . ا اقد لوحظ افتراق المعتقدات الى فرق عقب انتصارها في جميع الديانات الكبيرة النصرانية والاسلام مثلاً ، والنصرانية نظراً لكونها أكثر الأديان تعقيداً ولدت كثيراً من الفرق والمذاهب ( كالمانوية والاريوسية والنسطورية الخ ) التي تطاحنت قروناً عديدة ، وقد زادت ثورة الاصلاح الديني هذا التطاحن شدة ، وما لبنت فرقة البروتستان أن انقسمت الى مذاهب نذكر منها مذهب الانغليكان ومذهب لوثر ومذهب كالفين الخ . و بما أن المذهب الذي هو وليد الدين يطمع بحكم الطبيعة في التغلب على بقية المذاهب فإنه لا يلبث أن يصبح عديم التسامح كالدين الذي صدر عنه ، ولذلك نعد من الخطاء والجهل بطبيعة المعتقد اعتبار ثورة الاصلاح الديني رمزاً لانتصار حرية الفكر ، فقد كان البروتستان في أول الأمر أشد من الكاثوليك تعصبا، وما أتى ( لوثر ) وخلفاؤه إلا بمبادى. جامدة مجردة عن الحكمة مشبعة من روح التعصب الذميم ، ثم إن (كالفين ) قسم الناس الى أخيار وضالين فقـال يجب على اولئك أن يضطهدوا هؤلاء ، وعند ما أصبح سيد مدينة ( جنيف ) سامها سوء العذاب فأسس فيها محكمة ضارعت محكمة التفتيش في ميلها الى سفك الدماء ، وقد اعدم مخالفه ( ميشل سيرفيت ) حرقا بالنار . , وفى ملحمة ( السان بارتلمي ) التي تجلى فيها الخصام الديني في فرنسا قتل البروتستان ، وأما في الأمكنة التي لهم الأكثرية فيها فأصبحوا من أشد السفاكين ، وما كان أحد الطرفين أقل نسامحا من الآخر في الدور المذكور . وسبب الانقسام في المعتقدات هو أن كل امرىء يميل فيها إلى مبادى، تؤثر فيه اكثر من البعض الآخر ، وبفعل هذا التأثير يحاول المؤمنون الذين لهم مزاج الرسول أن يقيموا كنيسة صغيرة ، فاذا نجحوا في مسعاهم يكونون قد أسسوا فرقة جديدة لا تلبث أن تنتشر بالعدوى النفسية ، ومما يعين على انقسام الأديان الى فرق هو ما في الكتب المقدسة من غموض والتباس ، فلهذا الغموض والالتباس يقدر كل عالم - ۱۵۶ - ا لامونى على تفسيرها وتأوياها حسبا يرى ، ويفيدنا للوقوف على ذلك أن تصفح الكتب التي تبحث فيها عن مذهب اليسوعيين وأتباع ( توما ) وأنصار ( جانسينيوس) الخ في العفو والغفران ، حينئذ نرى كيف تنيه النفوس التي ران الايمان على قلوبها . و يظهر أن أولى العبقرية أيضا يضلون عندما يدخلون في ميدان المعتقد ، مثال ذلك كتاب ( ملبرانش ) الشهير الذي سماه « التأملات » ونال رواجا سنة ١٦٨٤ حتى إنه بيع منه أو ه أربعة آلاف نسخة في أسبوع واحد . فقد جاء فيه « أن الله هو الذي يشعر و يفكر ويسير فينا وهو الذي يحرك ذراعنا حتى في الاشياء التي نفعلها على رغم أوامره ، وليس المرء هو الذي يرفع ساعد نفسه وانما الله هو الذي يرفعه وقتها بريد المرء ذلك ، فالانسان لا يقدر على الانفصال من الله الذي منحه إرادة جزئية ، ومتى نفعل الخير فالله هو الذي يفعله بنا ، ثم ان المرء مسؤول عن عمـل الشر لا عن عمل الخير ، فالشر يقع في العالم عندما يغفل الله عن صنعه ، وهذا أمر لا ريب فيه لأن الشر من عمل المجرمين . ا فهذه النصوص المتناقضة نعدها اليوم صبيانية ، ولكن لا يغيبن عن بالنا أن العالم قد تزعزع بمثلها مرات عديدة ، وأضاليل كلامية مثل هـذه لا تخص الماضى وحده ، فني الحال ما يعادلها ولربمـا ظهر نظيرها في المستقبل إذ إن معتقدات الوقت الحاضر السياسية التي تقضنا هي كتلك من حيث البطلان وسوف تصفها الاجيال القادمة بجانب تلك . وقد زعم المعتقدون في كل جيـل أن إيمانهم قام على العقل غير عالمين أن ما فيه من القوة ناشيء عن كون العقل غير مؤثر فيه، وكل مالامقل من التأثير في المعتقد الديني هو كونه يجعل المؤمن يعتبر أقاصيص الكتب المقدسة التي تناقض العلم الحديث رموزاً. ولا يقع انقسام المعتقد الى مذاهب متشاكسة في الأديان ذات الارباب المتعددة ، فهذه الأديان وان كانت تتطور الا أن تطورها يقع بانضمام آلهة جديدة اليها اعتبرت قادرة جديرة بالتحية والتعظيم ، وذلك هو السبب في كون الحروب الدينية التي خربت أوربا وضرجتها بالدماء لم تقع في القرون القديمة الوثنية . إذا فانه كان أولى بالشعوب أن تبتدىء حياتها بالإشراك ، وإنى خلافا للرأى السائد أقول انها تنال خيراً عميما لو بقيت مشركة ، والتوحيد بدلا من أن يكون سببا للرقى قد أوجب وقوع حروب كثيرة خضبت الأرض بالدماء وعاقت الفنون والفلسفة والآداب التي أينعت في العصر اليونان الوثني عن التقدم
ولا يُعترض علينا بالقول إن التوحيد مع ما يوجبه من حروب وإحراق بالنار والاخراج من الديار ومنفى من الأرض يؤدى إلى وحدة المشاعر أكثر من غيره ، فعبادة الوطن قد كفت لمنح الرومان المشركين أيام عظمتهم وحدة في المشاعر يعلو عليها شيء .
ولو جارينا كثيراً من المؤرخين والفلاسفة مثل ( رينان) فاعتبرنا التوحيد أفضل من أية عبادة اخرى لكان الاسلام وهو دين التوحيد الوحيد على وجه التقريب افضل الأديان ، أقول على وجه التقريب لأن الأديان التي تدعو الى التوحيد لم تكن في غير الكتب ، فلو نظرنا إلى النصرانية مثلاً لرأينا أنها لم تلبث أن أضيف اليها طوائف الملائكة والقديسين والجن هي بالحقيقة مثـل الآلهة الثانوية القديمة في تقديسها وخشيتها ، ثم ان تلك الأرباب المتعددة التي تسربت في أديان التوحيد وانقسام هذه الأديان الى فرق ومذاهب تثبت لنا أن التوحيد مبدأٌ نظري لا يناسب احتياجاتنا العاطفية والدينية .
ولتطور المعتقدات الذي أشرنا اليه في هذا الفصل شأن كبير في التاريخ ، وأما في الفلسفة فلا فائدة من التحديث به ، فالمعتقد غذاء لمـا يتطلبه احتياجنا الى الايمان ، وقد تبدل هذا الغذاء وسيتبدل وأما الاحتياج فسيبقى بقاء طبيعة البشر .