انتقل إلى المحتوى

الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الأول: دائرة المعتقد ودائرة المعرفة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​الفصل الأول: دائرة المعتقد ودائرة المعرفة​ المؤلف غوستاف لوبون


الفصل الأول

دائرة المعتقد ودائرة المعرفة

١ – صعوبة تفسير المعتقد

يخلطون المعتقد أحيانًا بالمعرفة على ما بينهما من اختلاف كبير؛ فالعلم والاعتقاد أمران مختلفان في تكوينهما ومصدرهما، وبالرأي والمعتقد يتم سيرنا، وعنهما تنشأ أكثر حوادث التاريخ، ولا فرق بينهما وبين الحادثات الأخرى من حيث كونهما تابعين لنواميس وإن كانت هذه النواميس لم تعين حتى الآن.

لقد ظُن على الدوام أن دائرة المعتقد حافلة بالأسرار، وهذا هو سبب قلة الكتب التي تضمَّنت البحث عن مصادر المعتقد، مع أن ما تضمَّن البحث عن المعرفة كثير إلى الغاية، وما أتى به من المساعي القليلة في اكتناه المعتقد يكفي لبيان قلة الاطلاع على حقيقة أمره في الماضي، فلما رضي المؤلفون برأي (ديكارت) في المعتقد قالوا إنه صادر عن العقل والإرادة. وسيكون من مقاصد هذا الكتاب إثبات كون المعتقد غير عقلي وغير إرادي.

وما غابت صعوبة اكتناه المعتقد عن الفيلسوف العظيم (باسكال) فقد أشار في فصل بحث فيه عن فن الإقناع إلى « أن الناس يعتقدون بتأثير العاطفة لا بتأثير الدليل والبرهان » ثم قال: « إن بيان كيفية هذا الاعتقاد أي الاعتقاد بتأثير العاطفة هو من الصعوبة والدقة والغرابة بحيث يستحيل على من هو مثلي » ولكننا بفضل مكتشفات العلم في الوقت الحاضر نرى إمكان حل تلك المعضلة التي عجز ( باسكال ) عن بيانها، وبحلها تقدر على الاجابة عن كثير من الأسئلة المهمة التي منها : كيف تستقر الآراء والمعتقدات الدينية والسياسية ؟ ولماذا نشاهد في كثير المتصفين بسمو المدارك اعتقاد الخرافات والأباطيل ؟ وما هي علة عجز العقل عن تغيير عقائدنا العاطفية ؟ فلولا نظرية المعتقد لظل أمر الاجابة عن هذه الأسئلة وغيرها من المسائل غامضاً متعذراً حله، وليس العقل بمستطيع أن يفعل ذلك وحده.

و إذا أساء المؤرخون وعلماء النفس فَهْمَ حقيقة المعتقد فذلك لأنهم حاولوا أن يشرحوا بالمنطق العقلى حوادث لم يملها العقل أبداً، وسوف نرى أن عناصر المعتقد جميعها خاضعة لقواعد منطقية وثيقة لا صلة بينها و بين القواعد التي استعان بها العلماء في مباحثهم .

شغلت هذه المسئلة بالي منذ مباحثي التاريخية الأولى، فكان يظهر لي أن المعتقد هو الفاعل الاصلى في التاريخ، ولكن كيف نقدر على ايضاح حوادث خارقة للعادة - كتأسيس المعتقدات – أوجبت قیام حضارات وسقوط حضارات أخرى ؟

لقد اعتنقت قبائل البدو في جزيرة العرب دیناً أتى به أمي فأقامت بفضل هذا هذا الدين في أقل من خمسين سنة دولة عظيمة كدولة الاسكندر زينت جيدها بقلادة من المباني الفخمة التي هي آية في الاعجاز، وقبل ذلك ببضعة قرون آمنت شعوب متوحشة بعقيدة دعا اليها رسل أتوا من زاوية مجهولة في بلاد الجليل فقوضت بتأثير هذه العقيدة دعائم العالم القديم مقيمة على أنقاضها حضارة جديدة ينطق كل عنصر منها بذكر الرب.

وبعد أن مضى ما يقرب من عشرين قرناً تزعزع ذلك الإيمان وظهر في سماء الفكر نجوم كانت مجهولة فقام شعب عظيم ورفع راية العصيان زاعماً أنه قطع علائقه بالماضي، وقد منحه ايمانه المخرب القوى قدرة استطاع بها أن يهيمن على أوروبا المدججة بالسلاح وأن يدخل جميع عواصمها ظافراً على رغم الفوضى التي ألقته الثورة فيها.

فكيف يمكن اكتناء ما في المعتقدات من قوى عجيبة التي ذكرناها ؟ ولماذا

يخضع الإنسان بغتة لايمان كان يجهله بالأمس ؟ وما هي العلة التي بها يرفع الايمان الانسان الى مستوى ارفع من مستواه ؟ وما هي العناصر النفسية التي تنبجس منها هذه الأسرار ؟ سنسعى في الإجابة عن جميع ذلك .

لتكوين الآراء والمعتقدات وذيوعها وجوه خارقة للعادة نجعل المؤمنين يعزونهما الى مصدر الهي ، ومما يشيرون اليه هو أنهم يعتنقونها مخالفتها لاكثر منافعهم وضوحاً ، نعم قد يمكن إدراك السبب في انتشار الدين المسيحي بين من يعدهم بسعادة أبدية من عبدان و محرومين طيب العيش ، ولكن ما هي القوى الخفية التي كانت تحمل الشريف الروماني على التجرد من أمواله وتعريضه نفسه للعذاب في سبيل دين جدید ترفضه العادة ويأباه العقل وتحرمه القوانين ؟

لا يجوز نسبة تسليم الناس بذلك الذين الى سخفهم ، فلقد سلم به أيضاً أرباب العقول النيرة منذ القرون الأولى حتى يومنا هذا .

ولا يكون ما يقال في المعتقد من نظريات قيماً الا بايضاح هذه المسائل كلها ، ومما يقتضي أن تتضمنه هذه النظريات على الخصوص هو بيانها كيف يعتقد صفوة العلماء - الذين بلغت فيهم روح النقد منتهاها - اساطير صبيانية مضحكة ، قد نتصور أن نیوطن و باسكال وديكارت وغيرهم ممن عاشوا في بيئة مشبعة من بعض العقائد رضوا غير مجادلين بهذه العقائد رضاءهم بنواميس الكون المقدرة ، ولكن لماذا لم تضمحل تلك المعتقدات اضمحلالاً تاماً في أيامنا التي سطعت فيها أنوار العلم على كل بيئة ؟ ثم لماذا تظهر أوهام غريبة مكان المعتقدات المنحلة كما يؤيد ذلك انتشار طريقة استخدام الأرواح بين أفاضل العلماء ؟ يجب أن نجيب عن جميع هذه الأسئلة أيضاً.

۲ – ما هو الفرق بين المعتقد والمعرفة ؟

لنبين أولاً ما هو المعتقد و ماذا يختان عن المعرفة ، فالمعتقد هو إيمان ناشيء عن مصدر لا شعوري يُكّره الانسان على تصديق فكر أو رأي أو تأويل أو مذهب جزافاً ، وسوف نرى أن العقل غريب عن تكوين المعتقد، ولا يأخذ العقل في تبرير المعتقد الا بعد أن يتم تكوينه .

يجب أن نصف بالمعتقد كلَّ ما هو من عمل الايمان ، ومن استعان المرء في تحقيق صحة المعتقد بالتأمل والتجربة لا يظل المعتقد معتقداً بل يصبح معرفة ، فالمعتقد والمعرفة أمران نفسيَّان يختلفان من حيث المصدر اختلافاً تاماً ، إذ المعتقد كناية عن إلهام لاشعوری ناشىء عن علل بعيدة من إرادتنا ، والمعرفة عبارة عن اقتباس شعوری عقلى قائم على الاختبار والتأمل .

وما اكتشف الانسان الغائص في بحر المعتقد أمرَ المعرفة الا في زمن ضرب فيه بسهم وافر من الرقي ، وكلما تقدم في عالم المعرفة ظهر له أن الحوادث التي عزا الناس ظهورها إلى موجودات علوية لم تحدث الا بتأثير نوامیس قاهرة .

وقد تغيرت صورة فهم الكون في الانسان منذ اقترب من دائرة المعرفة ، ولكنه يصعب الخوض في هذه الدائرة الجديدة كثيراً ، لأن العلم يرى على الدوام شيئاً من المجهول متخلّلاً في مكنشفاته ، فأكثر الحقائق وضوحاً تُبْطِن شيئاً من الأسرار

لا يزال العلم مشبعاً من مثل تلك الدياجير المدلهمة ، وكلما بلغ أفقاً بدت له آفاق جديدة تائهة في فضاء لاحد له ، فهذا العالم الواسع الذي لم يستطع أي فيلسوف أن يضيئه هو ملكوت الاحلام التي تبذر في النفوس آمالا لا يؤيدها الدليل والبرهان ، وفي هذا الملكوت تجد المعتقدات الدينية والمعتقدات السياسية وكل معتقد آخر قوة غير محدودة .

ومع أن الوصول الى حقيقة علمية صغيرة يتطلب كداً طويلاً فان حيازة يقين الاركن له سوى الايمان لا يطلب شيئاً من السعي ، فكل من الناس له معتقد ولكن ما أقل الذين يصعدون منهم إلى سماء المعرفة .

يشتمل عالم المعتقد على منطقه وسننه ، ومنذ القديم حاول العلماء عبثاَ أن يلجوا فيه مستعينين بمناهجهم وأساليبهم ، وسنرى في هذا الكتاب لماذا يضيع العلماء ما فيهم من ملكة الانتقاد عندما يدخلون في دائرة المعرفة ذات الأوهام الخادعة .

٣ – شأن المعتقد و شأن المعرفة

المعرفة هي عنصر الحضارة الأساسي وهي العامل الكبير في ارتقائها المادي، وأما المعتقد فهو الذي يرسم وجهة الأفكار ومن ثُمَّ وجهة السير.

كان الناس فيما مضى يعزون المعتقدات إلى مصدر إلهي فكانوا يعتنقونها غير مجادلين فيها، وعلى رغم علمنا في الوقت الحاضر أنها صادرة عن انفسنا فانها لا تزال ذات سلطان علينا . وما تأثير قوة البرهان فيها الا كتأثيره في الجوع والعطش، فلما نضج المعتقد في منطقة اللاشعور حيث لا يصل اليها العقل عاناه المرء غير محاج فيه .

ومصدر المعتقدات اللاشعوری وغير الارادي يمنحها قوة عظيمة، فللمعتقدات دينية كانت أم سياسية أم اجتماعية شأن كبير في التاريخ على الدوام، إذ لا تلبث المعتقدات بعد أن تصير عامة أن تصبح قطوباً جاذبة تجذب حواليها كيان الشعوب وتطبع سمتها على كل عنصر من عناصر حضارتها فتوصَف الحضارةُ حينئذ باسم الدين الذي أوحي إليها، ولذلك كانت اسماء الحضارة البوذية والحضارة الاسلامية والحضارة المسيحية أسماء صحيحة صائبة إلى الغاية، ومتى صار المعتقد قطب جذب أصبح قطب تغيير أيضاً، لأن عناصر الحياة الاجتماعية المختلفة . فلسفة وفنون وأدب تتبدل لتلتئم به.

والثورات الحقيقية هي التي تتجدد بما معتقدات الشعب الاساسية، غير أنه يندر وقوع مثل هذه الثورات، والذي تأتي به الثورات عادة هو تغيير اسم العقائد فقط، فالايمان يتبدل موضعاً ولكنه لا يموت أبداً، لأن احتياج الانسان الى الاعتقاد هو عنصر نفسي مسيطر كاللذة والألم .

روح الانسان تمقت الشك ولا تطيق الارتياب، واذا تطرق الشك أحياناً إلى قلب الرجل فذلك لأجل محدود، فالانسان يفتقر إلى إيمان ديني أو سياسي أو أخلاقي يهيمن عليه و يكفيه عناء التفكير، واذا تداعی معتقد فذلك ليحل مكانه معتقد آخر، ولا حول للعقل إزاء هذه السنة القاهرة التي لا تتبدل .

والايمان في الوقت الحاضر ليس بأقل منه في القرون الغابرة، وما يوعظ به في المعابد الجديدة من عقائد لم يكن أخف وطأة من عقائد الماضي، ولهذه المعابد أنصار عددهم کعدد أنصار المعابد السالفة، فقد أخذ المعتقد الاشتراكي أو المعتقد الفوضوي يقوم مقام المعتقد الديني الهرم دون أن يكون بين الطرفين فرق من حيث القهر والتجبر . والحانة مع كونها تحل مكان الكنيسة في الغالب إلا أن مصدر ما يسمع فيها من مواعظ يأتي بها الزعماء هو الإيمان أيضا .

واذا كانت نفسية المؤمنين لم تتطور ولو قليلاً منذ القديم - حيث كانت إسيس وحاتحور تجذبان الى معابدهما على ضفتي النيل الوفا من الحجاج المتحمسين – فذلك لأن المشاعر التي هي اسس النفس الحقيقية حافظت على ثباتها ورسوخها في غضون الأجيال، فالذكاء يتقدم وأما المشاعر فلا تتبدل، لا ريب في أن الايمان بمعتقد لا يكون على العموم إلا وهماً، ولكننا لا نأسف على ذلك، لأن الخيال يصبح بفضل الأمان أقوى من الموجود حقيقة، ومتى تعتنق أمة معتقداً فان هذا المعتقد ينعم عليها بتجانس فكری هو سر وحدتها وقوتها .

وبما أن دائرة المعرفة تختلف عن دائرة المعتقد اختلافاً كبيراً فمن العبث أن نقيس الأولى بالثانية كما يفعل اكثر العلماء، على أن العالم مع تخلصه بالتدريج من ربقة المعتقد فانه لا يزال مشبعاً منه و ينقاد اليه في جميع المواضيع التي لم تًعلم جيداً كدقائق الحياة وأصل الأنواع مثلاً، فما قيل في هذه المواضيع من النظريات هو عقائد ليست على شيء من الاعتبار إلا بعزوها إلى الأساتذة الذين وضعوها .

ولا تطبق سنن المعتقد النفسية على العقائد الكبيرة الأساسية - التي وسمت لحمة التاريخ بوسم ثابت لا يُطمس - فقط بل تطبق أيضاً على اكثر آرائنا اليومية المؤقتة فيما يحيط بنا من موجودات واشياء، فالمشاهدة تدل على أن اكثر هذه الآراء ترتكز على عناصر عاطفية أو دينية مصدرها اللاشعور، واذا كان الناس يجادلون في أمرها بحماسة فذلك لأنها من فصيلة المعتقد ولأنها تتكون مثله.

اذاً من الخطأ أن يظن الانسان أنه يخرج من دائرة المعتقد عند ما يعدل عن عقائد انتقلت إليه ورائة، وسوف نرى أنه كلما حاول أن يتخلص منها غاص فيها اكثر من ذي قبل.

ولما كان ما ينشأ عن تكوين الآراء والمعتقدات من مسائل هو من جنس واحد فقد وجب البحث فيها على طرز واحد، فعلى ما بين الآراء والمعتقدات من تباين في النتائج على الأكثر فان الطرفين من فصيلة واحدة تختلف عن فصيلة المعرفة اختلافات تاماً .

يرى القارئ أهمية المسائل التي نعالجها في هذا الكتاب وصعوبتها، فلقد تصورتها في سنين كثيرة تحت سماوات مختلفة، تارة وأنا أنعم النظر في الوف من الهياكل التي أقامها البشر منذ ثمانين قرناً تمجيداً لآلهتهِ التي استحوذت على خياله، وتارة وأنا تائه بين أساطين المعابد العظيمة العجيبة المنعكس ظلها على مياه النيل الجليل أو التي أقيمت على ضفتي نهر الغانج، وكيف أعجب لهذه العجائب من غير أن أفكر في القوى الخفية التي أوجدتها من العدم ؟

مصادفات الحياة ساقتني الى التنقيب عن فروع العلم الخالص وعلم النفس والتاريخ فاستطعت أن أدرس الطرق العالمية التي يصل بها الإنسان إلى المعرفة والى العوامل النفسية التي يتولد منها المعتقد، فالمعتقد والمعرفة هما التاريخ كله والحضارة كلها.