انتقل إلى المحتوى

الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الأول: تقسيم المنطق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الأول

تقسيم المنطق


١ – هل للمنطق اشكال متنوعة ؟

لقد اعتُبِر المنطق حتى اليوم فناً للتعقل والبرهنة، إلا أن الحياة هي السير وليس البرهان هو المسير، وسوف نثبت في هذا الفصل والفصول الآتية أن ما عددناه آنفاً من حدود ودوائر الحياة والنفس خاضع لأنواع منطقية مختلفة، فلما رأينا أن العمل والحركة هما مقياس المنطق الوحيد فإننا نعتبر أن المنطق يختلف باختلاف ما يفضى اليه من نتائج متباينة.

ففي أي أمر كان يجب على العالم النفسي أن لا يبحث بحثاً منفرداً عن غايته المبتغاة وحدها أو الوسائل التي اتخذت لنيلها أو النجاح بها أو الإخفاق فيها، إذ الذى يهم ذلك العالم هو العوامل الموجدة لذلك الأمر، فاذا وجدت أعمال صالحة أو أثيمة فليس منها ما هو غير منطقي، وانما صدرت هذه الأعمال عن أنواع منطقية مختلفة لا يسد أحدها مسد الآخر، خذ المنطق العقلي مثلاً تر أنه يختلف في تفسيره أو اكتناهه للأعمال المذكورة عن المنطق الديني والمنطق العاطفي ومنطق الجموع.

۲ - أنواع النطق الحسية

للمنطق خمسة أنواع على ما أعتقد وهي: منطق الحياة والمنطق العاطفي ومنطق الجموع والمنطق الديني والمنطق العقلي، وسأكتفي الآن بإجمالها على أن أخصص بعدئذ فصلًا لكل واحد منها.

منطق الحياة – سنبين الأسباب التي دفعتنا إلى وضع هذا النوع من المنطق في الفصل الذي خصصناه للبحث عنه، وإنما نقول الآن: إن منطق الحياة الذي يسيطر على بقاء الأنواع وأشكالها يجري حكمه بعيدًا من تأثير إرادتنا، ويأتي بمطابقات تسير بفعل قوى لا نعرف من أمرها شيئًا. ويظهر أن القوى المذكورة تسير كأنها مالكة لعقل أسمى من عقلنا، وأنها غير آلية لاختلاف تأثيرها في كل آنٍ بحسب الغاية التي ترمي إليها، فضم منطق الحياة إلى ما يهيمن عليه من أنواع المنطق الأخرى يملأ فراغًا أخفته نظريات ما بعد الطبيعة عن العيان.

المنطق العاطفي – لم يعرف علماء النفس في الماضي سوى المنطق العقلي، وقد أخذوا في هذا الوقت يضيفون إليه المنطق العاطفي، أو منطق المشاعر الذي يختلف عنه اختلافًا كليًّا، ووجه التباين بين المنطقين هو أن اشتراك الأفكار والمعقولات يكون شعوريًّا، مع أن اشتراك المشاعر هو غير شعوري، ثم إن المنطق العاطفي يقودنا في أكثر أعمالنا.

منطق الجموع – يجب ألا يخلط هذا المنطق بالمنطق العقلي؛ فلقد أثبتنا منذ كثير من السنين أن المرء وهو جزء من الجماعة يكون في سيره غيره وهو منفرد، وهذا ما يجعلنا نقول: إنه مسير وهو في الجماعة بمنطق خاص يتضمن ما يشاهد في الجموع وحدها من أصول ومبادئ.

المنطق الديني – المنطق الديني نتيجة لما في الإنسان من روح دينية، وهذه الروح التي كانت عامة بين الناس في القرون الغابرة لا تزال منتشرة على ما يظهر، ولا أهمية لارتباط الأشياء والحوادث بعضها ببعض عند أولي النفوس الدينية، فالارتباط المذكور في نظر هؤلاء إن هو إلا أمر يختص بموجودات علوية نعاني عزاءهما فقط، ولا يختلف المنطق الديني عن المنطق العاطفي بكونه شعوريًّا اختياريًّا فقط، بل بتسبيبه أعمالًا تناقض أعمال المنطق العاطفي مناقضة تامة.

المنطق العقلي – هذا المنطق هو فن التأليف بين الأفكار والتمييز بين ما تشابه وما اختلف منها، وعنه وحده على وجه التقريب بحث علماء النفس منذ (أريسطوطاليس) فوضعوا فيه كتبًا عديدة.

٣ – اقتران أنواع المنطق

أنواع المنطق قد تتنضد أو تتحدد أو تتعارك في الأشخاص أنفسهم، وقد يتغلب أحدها على الأنواع الأخرى بحسب الزمان والشعوب أحيانًا من غير أن يبطل عملها تمامًا.

كان المنطق العاطفي يسوق القائد في أثينا إلى شهر الحرب على خصومه، وكان المنطق الديني يدفعه إلى استشارة الآلهة في الزمن المناسب لإجراء حركاته، وكان المنطق العقلي يملي عليه خططه، وفي أثناء جميع ذلك كان منطق الحياة يُعيِّشه.

وستتجلى لنا أوصاف أنواع المنطق في مباحثنا الآتية، ولكن لا يطمعنَّ القارئ باكتشاف كنهها في المباحث المذكورة، فهذا الكنه لا يزال مجهولًا حتى كنه المنطق العقلي الذي بحث عنه أكثر من سواه، حقًّا إننا لم نستدل على وجود أنواع للمنطق إلا بنتائجها، وليس هذا شأنها وحدها، بل إن أكثر العلوم دقةً؛ كالعلوم الطبيعية، مجبورة على الاستناد إلى فرضيات ومزاعم تحولت إلى حقائق محتملة عندما اقتضت الضرورة ذلك.

إن مباحث الضياء والنور والحرارة والكهرباء وكل مباحث علم الطبيعة قائمة على «فرضية الأثير»، وقد اقتضت الضرورة أن يسند إلى هذا الجوهر المجهول خصائص يتعذر إدراكها، والتوفيق بينها، كالزعم بأنه أقسى من الفولاذ مع أن الأجسام المادية تسير فيه دون أن تلقى صعوبة، فبعد أن كان علماء الطبيعة يعدون كثافة «الأثير» ألطف من كثافة الغاز كثيرًا اضطروا لإيضاح إحدى الحادثات الجديدة إلى القول بأنه ذو ثقل أشد من ثقل المعادن بملايين من المرات.

فاذا كانت العلوم التي هي على جانب كبير من الصحة — كعلم الطبيعة — تستعين بفرضيات، فإننا لا نعجب من سيرنا على مثل هذا النهج في علم كعلم النفس أشد تعقيدًا من العلوم الأخرى، فعلماء الطبيعة لا يجزمون بوجود «الأثير»، وإنما يقولون إن الأمور تجري كما لو كان «الأثير» موجودًا، فلولا الزعم بوجود «الأثير» لاستحال تفسير الحادثات. ونحن كذلك، فإننا لا نجزم بوجود أنواع منطقية ذات كينونات منفصلة، ولكننا نقول إن الحوادث تجري كأن هذه الكينونات موجودة في الحقيقة.