انتقل إلى المحتوى

الآراء والمعتقدات (1926)/الفصل الأول: التصادم بين المبادئ العاطفية والمبادئ الدينية والمبادئ العقلية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الفصل الأول

التصادم بين المبادىء العاطفية والمبادى، الدينية والمباديء العقلية


١ - العراك بين أنواع المنطق في الحياة اليومية

عبرنا عن عوامل الآراء والمعتقدات بأنواع المنطق المختلفة وقد بينا أوصافها في الفصول السابقة ، ونظراً لما بين هذه الأنواع من الاختلاف فانها في الغالب تعترك ، فكيف يُفصل هذا العراك ؟

لا يبدو العراك المذكور في الواقع الَّا على وجه استثنائي، إذ يوجد في الحياة اليومية توازن بين ما تناقض من أندفاعات أنواع المنطق ، ويرضي مزاجنا النفسي بأن يسيطر عليه أحد تلك الأنواع بحسب الوقت والبيئة والأحوال ، وليس هذا التوازن اندماجًا لانواع المنطق بعضها في بعض ، بل هو عبارة عن تنفدها على أن محافظ كل منها على تأثيره وعمله.

و بتراصف أنواع المنطق المختلفة في المرء نفسه نجيب عن سؤال مهم وهو كيف أن أرباب العقول النيرة الذين تعودوا أساليب العلم وطرقه الدقيقة يؤمنون بمعتقدات دينية أو سياسية أو سحرية أو غيرها من المعتقدات التي ينهزم جيشها أمام المنطق العقلي الخالص ؟ حقا يسهل الجواب عن ذلك ، فالمنطق العقلى هو دليل هؤلاء الار باب في مبادئهم العلمية ، وأما في معتقداتهم فانهم ينقادون لقواعد المنطق الديني أو المنطق العاطفي : والعالم ينتقل من دائرة المعرفة إلى دائرة المعتقد كما ينتقل من مسكن إلى آخر ، واذا ذهب في الغالب ضحية الخطا فذلك لمحاولته أن يطبق في تفسير مظاهر المنطق الديني أو العاطفي من معتقد وغيره تفسيراً علميا مناهج النطاق العقلى .

ومتى ينقطع التوازن بين أنواع المنطق فانها تعترك ، ويندر أن يغلب المنطق العقلي في ذلك العراك ، إذ يسهل التنكيل به واستعباده من قبل بعض المبادىء الصبيانية ، وهذا هو السبب في كون الدليل العقلي لا ينفع في أمر المعتقد دينيا كان أم سياسيا أم اخلاقيا ، ولا تفعل اقامة الحجة العقلية على رأى مصدره العاطفة أو التدين سوى استفزاز رب الرأى المذكور وتهييجه ، وكذلك المرء لا يستطيع بعقله أن يتغلب على رأى فيه ناشيء عن المشاعر والعقيدة الا اذا بلغ هذا الرأي من البلى والدروس مبلغا ذهب بقوته .

ولا تتجلى لنا نتائج العراك بين المنطق الديني والمنطق العقلي الا بالمثـل الذي ضربه ( باسكال ) وفحصناه تفصيلاً في فصل آخر ، فمن العبث أن نطنب الآن فيها وسنقتصر في ما يلي على البحث في تصادم المنطق العاطفي والمنطق العقلى - فأيضا هذان الطرفان ليسا متكافئين قوة ، وانما يستطيع العقل في أثناء ذلك التصادم أن يسلط بعض المشاعر على الأخرى متذرعا بأنواع الحيل كي يتمكن من التغلب على التي يود قهرها .

٢ – التصادم بين المبادىء العاطفية والمبادىء العقلية . تأثير الافكار في المشاعر

تؤثر المشاعر التي تقود الانسان في أفكاره كثيراً مع أن هذه لا تؤثر في تلك الا قليلاً ، وليس الفكر سوى نتيجة أحد المشاعر التي تطورت تطوراً غير شعوری مجهول لدينا .

وعلة كون العقل لا يؤثر في المشاعر هي أن حياة المشاعر خافية علينا ، واذا أردنا أن نعرف درجة تطور مشاعرنا على وجه لا تأثير لارادتنا فيه فلننعم النظر في أنفسنا ، حينئذ نرى أنها تنبت نباتًًا رَيِّثا متباطئا كالنبات الذي أجاد في وصفهِ الشاعر الفيلسوف ( سوللی برودوم ) في قصيدته المشهورة التي عنوانها « الاناء الكسير » . فالكلمة أو الاشارة الواحدة التي لا أهمية لها عند صدورها تستطيع على مر الأيام أن تحول الصداقة الى ضدها .

وشأن العقل في المشاعر التي يتكون الخلق منها هو أن يفصلها بعضها عن بعض وأن يحركها بأحدى الصور النفسية وأن يجعلها على هـذا الوجه قادرة على كبح شيء من اندفاعاتنا ، وهو بذلك يرفع الرجل ولو موقتًا الى درجة أعلى من درجته .

اذًا يقدر العقل بتأليفه بين المشاعر والمعقولات أن ينتفع بالمشاعر انتفاع البناء بالحجارة التي يعرف أن يقيم بها نفسها مباني شتي ، وليس تأثير العقل في المشاعر لا حد له بل يظهر أنه محصور ، لأن الاختبار يدلنا على أن العقل يفقد سلطانه عند ما تكون المشاعر شديدة ، وقد تصل بعض المشاعر في قوتها الى حد لا يستطيع العقل وأكثر منافع المرء وضوحاً أن يؤثرا فيها ، وسنورد أمثلة كثيرة على هذا الأمر في فصل المعتقدات.

لا تتحول المشاعر مباشرة الى أفكار ولكنها تولد أفكاراً لا تلبث أن تستدعى مشاعر ، فكلا الطرفين مع محافظتهما على استقلالهما يؤثر أحدهما في الآخر تأثيراً متواليًا ، وعلى ذلك فان الافكار ذات تأثير لا يسعنا انكاره في حياتنا الفردية والاجتماعية ، وهذا التأثير لا يتم أمره الا اذا استندت الافكار الى دعائم عاطفية .

ولا كانت المشاعر مصدراً للافكار فان ما يتبع بين الافكار من عرا بالحقيقة يقع بين المشاعر ، والشعوب التي يظهر أنها تتقاتل من أجل بعض الافكار هي تتقاتل في الواقع من أجل بعض المشاعر التي تشتق منها تلك الافكار .

وتفقد أحوال الانسان العاطفية قوتها لا ذاتها إذا لم تسمح له الفرص باظهارها كما تفقد الاعضاء قوتها لعدم تمرينها ، على هذه الصورة توارت في انكلترا وفرنسا صفات الاشراف الخلقية التي كانت ضرورية للقيام ببعض الوظائف عند ما ألغيت هذه الوظائف ، وإذ لم تتم تلك الطبقات التي خسرت صفاتها الخاتمية ذكاءها أصبحت دون ما كانت سائدة له طبقات أخرى ، ويظهر أن هـذا الناموس الذي يجهله مر بونا كثيراً والقائل ان المشاعر التي لم تتمرن تنفصم الناموس عام ، فتاريخ الامم حافل بالامثلة المؤيدة له ، ومن تلك الامثلة كون غرائزنا الحربية التي نمت كثيراً أيام الثورة الفرنسوية وفى الدور الامبراطوري لم تلبث بعد هذين الدورين أن أخذت تتقلص فاسحة مجالاً لمذهب سامي داع الى نزع السلاح منتشر كل يوم بين الجموع حتى بين العقلاء ، وقد نشأ عن ذلك التضاد الآتى کا صارت الشعوب سلمية أمنت حكوماتها في التسليح .

وسبب هذا الشذوذ الظاهري هو أن الافراد يخضعون لحكم أثرتهم الشخصية مع أن الحكومات مرغمة على الاهتمام بمصالح المجتمع ، فالحكومات بما نالته من تجارب واختبارات متتابعة تعلم أكثر من الجموع وخطبائها أن الامم التي تنهن لا تلبث الامم المجاورة لها 1 أن تغزوها وتستولى عليها وهذه سنة قد أجرت حكمها على جميع الامم حديثة كانت أم قديمة ، فالبولونيون والمصريون والترك والصرب الخ لم يتجنبوا ما ينتج عن غزوات الشعوب الاخرى من تخريب الا بتنزلهم عن جميع أراضيهم أو عن جزء منها .

يحدث تطور المشاعر الذي أشرنا إلى بعض نتائجه بفعل كثير من المؤثرات وتعد من هذه المؤثرات البيئة على الخصوص ، فالانسان كي يلائم البيئة مكره على تنويم قسم من مشاعره والانتفاع بقسم آخر يجعله التمرين قويا متينا ، والتمرين المذكور لا يكون إلا بالتربية التي تهتم بالماء صفات الخلق الاساسية ولا سيما ملكة الاستنباط والشجاعة والارادة وغيرها من الصفات التي تعارضها مشاعر أخرى ، فالخوف من التبعة بلاشي ملكة الاقدام ، ويزول الاخلاص لمنافع المجتمع في الحال اذا قيد بالأثرة الشخصية الخ .

٣ – تنازع المشاعر . العوامل الزاجرة

جميع من هم على الفطرة من همج وحيوان يميلون الى السير بغرائزهم ، ولكن متى عاش الهمج في قبيلة واصبح الحيوان داجنا فان الضرورة تلجئهم الى زجر بعض تلك الغرائز ، ولا يكون هذا الزجر الا يجعل بعض مشاعرهم القوية – كالخوف من العقاب والطمع في الأجر – تقاتل مشاعرهم الأخرى المندفعة ، والقدرة على قهر الاندفاعات العاطفية هي عنصر أساسي للحضارة ، فلولا هذا العنصر الذي هو ركن الاخلاق الركين لكانت الحياة الاجتماعية مستحيلة .

وليست العوامل الزاجرة التي تثبت العاداتُ وعلمُ الأخلاق والقوانينُ أمرها كناية عن عراك بين المشاعر والعقل بل هي كما بينتُ آنفًا عبارة عن صراع بين ما يتقابل من المشاعر بفعل العقل ، ولم يكن للقوانين المدنية او الدينية غاية سوى التأثير في مظاهر بعض المشاعر تأثيراً رادعاً

وكل حضارة تتضمن ضغطًا وقدراً ، فالفطرى عند ما تعلم بتأثير ناموس العقود الاجتماعية الأولى كيف يرد جماح اندفاعاته قليلا ً تحرر من طور الحيوانية ودخل في طور انسانی متأخر ، ولما أكره على ردع نفسه أكثر من ذي قبل دخل في طور الحضارة التي لا تقوم إلا يكبح الانسان نفسه .

ويتطلب الضغط المذكور سعيًا مستمراً ، ويتعـذر استمرار هذا السعي إذا لم يسهل أمره كأن يصير لا شعوريًا بفعل المادة التي ثَبَّتتها التربية ، ومتى أصبح الوازع النفسي على شيء من التقدم فانه يحل مكان الوازع الخارجي ، ولكن إذا لم يستطع الرجل أن يجعل لشخصه وازعًا نفسيًا فعليه أن يذعن للوازع الثاني ، فلو تجرد الانسان من هذين الوازعين لرجع الى طور الهمجية الأولى ، نعم ان المشاعر هي التي تقودنا غير أن المجتمعات لا تعيش إذا لم يتعلم أفرادها الحدود التي يجب على مشاعرهم أن تقف عندها والتي يؤدي تجاوزها الى الفوضى والانقراض .

ولا تقل ان المشاعر التي ردعتها مقتضيات الاجتماع المدونة في القوانين عفا أثرها ودرس رسمها ، فمتى تتفلت هذه المشاعر ذات الاندفاع من ربقة الزواجر تظهر من عالم الخفاء ، وهذا هو سر المظالم التي تقترف أيام الثورات حيث يصبح المتمدن متوحشاً


  1. لقد أوضح رئيس الوزارة الالمانية هذه الحقيقة في خطبة ألقاها في شهر مارس سنة ١٩١١ أمام ( الرخستاغ ) واليك بعضها :
    «ان مسالة نزع السلاح في عند كل خبير مجرب مشكلة يتعذر حلها مادام الإنسان انساناً والدول دولا ، فهما يفعل الفعال فانهم سيكونون فريسة الأقوياء لا محالة ، والشعب الذي لا يريد أن يتنق على تسليح نفسه ينزل الى الدرجة الثانية كي يحل مكانه شعب أقوى منه»