انتقل إلى المحتوى

الآثار النبوية (الطبعة الأولى)/القضيب والبردة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



القضيب والبردة

أثران نبويان كانا من شارات الخلافة في الدولة العباسية، كما كان الخاتم من الشارات السلطانية في دول المغرب، والمظلة في الدولة الفاطمية على ما يقول «ابن خلدون»1. غير أن الخاتم والمظلة وغيرها من الشارات لم تكن لها قيمة أثرية كالشارة العباسية، ولا سيما في شرف النسبة إلى المقام النبوي الكريم، وإنما كانت آلات محدَثة في تلك الدول، قيمتها فيها كان بها من التحلية والترصيع.

أما القضيب فالمروي في كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له قضيب من شوحط يسمى الممشوق، قيل: وهو الذي كان الخلفاء يتداولونه. قال الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية: «وأما القضيب فهو من تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي صدقة، وقد صار البردة من أشعار الخلافة». وكان الرسم أن يكون بيد الخليفة في المواكب2 جلوساً وركوباً. قال ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية: «كان الخليفة يلبسها يوم العيد على كتفيه ويأخذ القضيب المنسوب إليه صلى الله عليه وسلم في إحدى يديه، فيخرج وعليه من السكينة والوقار ما يصدع القلوب ويبهر الأبصار» اهـ. وبلغ من عنايتهم بهذين الأثرين الشريفين أنهم كانوا كلما قام منهم خليفة اهتم بهما اهتمامه بالبيعة، فإذا كان غائباً بعثوا بهما إليه مع بشير الخلافة الذي يبردونه، وما زالت الشعراء تذكرها في مدائح الخلفاء العباسيين إلى انقراض دولتهم من العراق تنويهاً بانفرادهم عن سائر الدول بهذه المنقبة، كقول البحتري من قصيدة يصف فيها خروج المتوكل للصلاة والخطبة يوم عيد الفطر:

أُيِّدْتَ من فصل الخطاب بحكمة
تُنبي عن الحق المبين وتخبر
ووقفت في برد النبي مذكراً
بالله تُنذرُ تارةً وَتُبشِّر
حتى لقد علم الجهول وأخلصت
نفس المُرَوّى وَاهتدى المتحيّر3

وقوله من أُخرى فيه:

وعليك من سيما النبـ
ـيّ مخايل شهدت برشدك
تبدو عليك إذا اشتملـ
ـت ببردة من فوق بردك

وقوله من أخرى فيه أيضاً:

وغدوت في برد النبي وهديه
تخشى لحكم قاصـد وَتُؤمَّل

وقوله فيه أيضاً – وقد ذكر آثاراً أخرى كانت عند الخلفاء سنفرد الكلام عليها:

يتولى النبيُّ ما تتولا
ويرضى من سيرة ما تسير
حزت ميراثهُ بحقٍّ مبين
كل حق سواه إفْكٌ وزور
فلك السيف والعامة والخا
تم والبرد والعصا والسرير

يريد بالعصا: القضيب، وقوله فيه أيضاً:

عليك ثياب المصطفى وَوقاره
وأنت به أولى إذا حصحص الأمر
عمامته وسيفه ورداؤه
وسيماه والهدى المشاكل والنجر

وقال من قصيدة يمدح بها المعتز بن المتوكل، ويهجو المستعين بعد خلعه:

ولم يكن المغترّ بالله إذ سَرى
ليُعْجزَ والمعتزُّ بالله طالبُه
رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر
وعُرّى من برد النبي مناكبه

وذكر ابن خلّكان في وفياته عن ميمون بن هرون أنه قال: رأيت أبا جعفر أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري المؤرخ وحاله متماسكة فسألته فقال: كنت من جلساء المستعين فقصده الشعراء فقال: لست أقبل إلا ممن قال مثل قول البحتري في المتوكل:

فلو أن مشتَاقاً تكلّفَ فوق مَا
في وُسْعهِ لسعَى إليك المنبر

فرجعت إلى داري وأتيته، وقلت له: قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتري في المتوكل فقال: هاته! فأنشدته:

ولو أن برد المصطفى إذّ لبسته
يظن لظن البرد أنك صاحبه
وقال وقد أَعطيتهُ وَلبسته
نعم هذه أعطافه وَمنَاكبه

فقال: أرجع إلى منزلك وافعل ما آمرك به، فرجعت فبعث إليَّ بسبعة آلاف دينار وقال: ادخر هذه للحوادث من بعدي، ولك عَلَيَّ الجراية الكفاية ما دمت حياً اهـ4. ومن ذلك قول الأبيوردي من قصيدة في المقتدي بالله:

إلى المقتـدي بالله والمقتدى به
طوين بنَا طيّ الرّداء الفيافيا
وَلُذنا بأطراف القوافي وَحسبنَا
من الفخر أن نهدي إليه القوافيا
ولم نتكلف نظمهن لأننَا
وَجـدنا المعالي فاخترعنا المعانيا
أيا وَارث البرد المعظم ربَّه
بلغنا المُنى حتى اقتسم التهانيا
وقوله من قصيدة في المستظهر بن المقتدي:
وعليه من سماء آل محمَّد
نُورٌ يجيرُ عَلَى الدجى مرموق
والبرد يعلم أن في أثنائه
كرماً يفوق المزن وَهو دفوق
أفضت إليه خـلافة نبوية
من دونها للمشرفيّ بريق

وقول الأرّجاني من قصيدة في المسترشد بن المستظهر:

وَرثتَ الذي قد ضمة البرد من تقى
ومن كرم من قبل أنْ ترث البردا
ووليت من أمر5 القضيب شبيه ما
تولاه من كان المشير به مجـدا
وما هو إلا أمر أمته الذي
إليك انتهى إذ كنت من بينها فردا

وقوله من أخرى فيه:

يا وارث البرد المجـرَّر ذيله
في ليلة المعراج فوق الفرقد
ومعـوداً يده التخصر بالذي
أمسى به ظهر البراق وقد حدى
سلبا هـدى عبق النبوة فيهما
من كف خير الأنبياء محمد6

وقول سبط ابن التعاويذي من قصيدة في المستضيء بن المستنجد:

إن يدَ المستضيء أسمح بالإعـ
ـطاءِ يوم النَّدى من الديمَ
خليفة الله وَارث البرد والخا
تم والسيف مالك الأمم
معيـد شمل الإسلام ملتئماً
وكان لولاه غير ملتئم7
وقوله من أخرى فيه:
آل النبوة بردها وَقضيبها
لكم وَمنبرها معاً وَحُسامها
أبناء عم المصطفى الهادي وخيـ
ـر عصابة وطىء الثرى أقدامها

وقوله من أخرى في الناصر بن المستضيء لما بويع بالخلافة:

ورأينا برد النبي على منكـ
ـب طود من الأئمة راسي
مالئاً هديه المواقف من نو
ر جلال يضيء كالنبراس

وقوله من أخرى:

ورث النبوة منبراً وَخلافة
وَتقيَّة8 فعليه منها ميسم
فلمنكب ولعاتق ولخنصر
منه ثلاث قدرهن معظم
برد وسيف لا يفل وَخاتم
فمجلبٌ ومُقلد وَمختم

وقوله من أخرى فيه:

له خاتم المبعوث أحمد خاتم النـ
ـبوة موروثاً السيف والبرد9
ومَا برحت طير الخلافة حُوَّماً
عليه كما حام الظماء عَلَى الورد

صفة البردة

في الكلام على شعار الخلافة من صبح الأعشى نقلاً عن ابن الأثير أن بردة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان الخلفاء يلبسونها في المواكب كانت شملة مخططة، وقيل: كانت كساء أسود مربعاً فيها صغر اهـ.

وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي: «أخرج الإمام أحمد في الزهد عن عروة ابن الزبير رضي الله عنه أن ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يخرج فيه للوفد رداء حضرمي طوله أربع أذرع وعرضه ذراعان وشبر، فهو عند الخلفاء قد خلق وطووه بثياب تلبس يوم الأضحى والفطر» اهـ.

اختلافهم فيهـا

لا خلاف بين المؤرخين في كون البردة العباسية أثراً نبوياً صحيحاً، ولكن لما كان المخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم بردتين اختلفوا في التي صارت منهما لبني العباس. قال الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية: «وأما البردة فقد اختلف الناس فيها، فحكى أبان ابن ثعلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وهبها لكعب بن زهير واشتراها منه معاوية رضي الله عنه، وهي التي يلبسها الخلفاء. وحكى ضمرة ابن ربيعة أن هذه البردة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها أهل أيلة أماناً لهم، فأخذها منهم سعيد بن خالد بن أبي أوفى، وكان عاملاً عليهم من قبل مروان بن محمد، فبعث بها إليه وكانت في خزائنه حتى أخذت بعد قتله. وقيل اشتراها أبو العباس السفاح بثلثمائة دينار» اهـ. وقد حُكي هذا الخلاف في صبح الأعشى وتاريخ الخلفاء للسيوطي وأخبار الدول للقرماني وحاشية البغدادي على شرح ابن هشام على بانت سعاد. وتفصيل هذا الإجمال في الرأي الأول: أن كعب بن زهير بن أبي سلمى رضي الله عنه لما بلغه إسلام أخيه بخير غضب وبعث إليه بأبيات يلومه فيها على إسلامه، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه. ثم هداه الله إلى الإسلام فقدم المدينة وقصد المسجد فجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم تائباً مسلماً وأنشده قصيدته بانت سعاد المشهورة، فلما وصل إلى قوله:

إن الرسولَ لسيف يُستضَاء به
مهنَّد من سيوف الله مسلول

رمى صلى الله عليه وسلم إليه بردة كانت عليه10، فلما كان زمن معاوية رضي الله عنه أراد شراءها من كعب بعشرة آلاف درهم، فأرسل إليه يقول: ما كنت أوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً. فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم. قالوا: وهي التي عند الخلفاء العباسيين، وهو قول عز الدين بن الأثير في كتابيه: الكامل وأسد الغابة، والخوارزمي في مفاتيح العلوم، وابن هشام في شرح بانت سعاد، وأبي الفداء سلطان حماة في تاريخه، وابن حجر في الإصابة، ومؤرخين غيرهم كثيرين.

ولم يذكر ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية غير الرأي الثاني فقال: وقال الحافظ البيهقي: وأما البردة التي عند الخلفاء فقد روينا عن محمد ابن إسحق بن يسار في قصة تبوك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل أيلة بردة مع كتابه الذي كتب لهم أماناً لهم، فاشتراها أبو العباس عبد الله بن محمد بثلثمائة دينار، يعني بذلك أول خلفاء بني العباس، وهو السفاح رحمه الله تعالى. وقد توارث بنو العباس هذه البردة خلفاً وهو قول الذهبي أيضاً على ما في تاريخ الخلفاء للسيوطي ونص عبارته: «وأما الذهبي فقال في تاريخه: أما البردة التي عند الخلفاء آل عباس فقد قال يونس بن بكير عن ابن إسحق في قصة غزوة تبوك: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أهل أيلة بردة مع كتابه الذي كتب لهم أماناً لهم، فاشتراها أبو العباس السفاح بثلثمائة دينار». قال السيوطي: فكأن التي اشتراها معاوية فقدت عند زوال دولة بني أمية. وقال القرماني: وقيل كُفن فيها معاوية، وذكر ياقوت هذه البردة في معجم البلدان ولم يتعرض لخبر انتقالها إلى الخلفاء فقال في كلامه على أيلة : «ويقال إن بها برد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان وهبه ليُحنَّة بن رؤية11 لما سار إليه إلى تبوك». وكذلك فعل المقريزي في خططه والجزيري في درر الفرائد المنظمة في ذكرها أيلة فإنهما لم يتعرضا لخبر انتقال هذه البردة إلى الخلفاء. وخلاصة ما ذكراه أن من بها من اليهود يزعمون أن عندهم برد النبي صلى الله عليه وسلم الذي وجه به إليهم أماناً لهم، وأنهم يظهرونه رداء عدنياً ملفوفاً في الثياب، وقد أبرز منه مقدار شبر لئلا تدنسه الأيدي.

والخلاصة: أن البردة العباسية إما أن تكون بردة أيلة بقيت عند أهلها إلى أن اشتراها السفاح بثلثمائة دينار، أو إلى أن انتزعها منهم عامل مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين وحملها إليه، ثم صارت من بعده للعباسيين. وإما أن تكون البردة الكعبية التي اشتراها معاوية رضي الله عنه، ثم حفظت عند بني أمية حتى ورثها منهم العباسيون. وأكثر المؤرخين على هذا الرأي. وقد فصل المسعودي في مروج الذهب خبر مصير البردة والقضيب إلى بني العباس بما لم نره لغيره من المؤرخين، فذكر ما كان من فرار مروان بن محمد من العباسيين إلى مصر، وأنهم لحقوه بها، وقد نزل بوصير فهجموا عليه وقتلوه، ثم رأوا خادماً له شاهراً سيفه يحاول الدخول إلى بناته، فأخذوه وسألوه عن أمره، فقال: أمرني مروان إذا هو قتل أن أضرب رقاب بناته ونسائه، فلا تقتلوني فإنكم والله إن قتلتموني ليفقدن ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا له: انظر ما تقول، قال: إن كذبت فاقتلوني، هلموا فاتبعوني. ففعلوا فأخرجهم من القرية إلى موضع رمل فقال: اكشفوا هنا فكشفوا فإذا البرد والقضيب ومِخْصرة12 قد دفنها مروان لئلا تصل إلى بني هاشم، فوجه بها عامر بن إسمعيل إلى عبد الله بن علي، فوجه بها عبد الله إلى أبي العباس السفاح، فتداولت ذلك خلفاء بني العباس.

مصير البردة والقضيب

ذكر ابن الزيات في الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة بالقرافتين الكبرى والصغرى قبراً اشتهر بأنه قبر صاحب البردة، واستطرد في الكلام عليه لذكر البردة النبوية فقال: «قال ابن عثمان هو صاحب البردة يعني بردة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك غير صحيح، قال المؤلف: وبردة النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغنا في آثار النبي صلى الله عليه وسلم التي دخلوا بها إلى مصر أن فيها بردة غير البردة التي في أيدى بني العباس، وهي موجودة عندهم إلى الآن، ولم يذكر علماء التاريخ أنه دخل إلى مصر من الصحابة ممن له بردة من اسمه صاحب البردة، وآثار النبي صلى الله عليه وسلم مثبتة عند العلماء، ويحتمل أن تكون هذه البردة بردة رجل من الصالحين» اهـ. وإنما نقلنا هذه العبارة لبيان ما فيها من الوهم، فإن وفاة ابن الزيات كانت سنة ٨١٤، وقوله عن البردة: «وهي موجودة عندهم إلى الآن» يفيد بقاءها بأيديهم إلى عصره، والصحيح أنها فقدت قبل ذلك بقرن ونيف. ولعله نقل هذا القول عن مؤرخ قديم كانت البردة في زمنه عند الخلفاء، وسها عن التنبيه عليه.

وقال المسعودي بعد عبارته المتقدمة في مصير البردة والقضيب إلى العباسيين ما نصه: «فتداولت ذلك خلفاء بني العباس إلى أيام المقتدر، فيقال: إن البرد كان عليه يوم مقتله، ولست أدري أكلّ ذلك باق مع المتقي لله إلى هذا الوقت وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة في نزوله الرَّقة أم قد ضيع ذلك». وفى صبح الأعشى: «وكان القضيب والبردة المتقدما الذكر عند خلفاء بني العباس ببغداد إلى أن انتزعهما السلطان سنجر السلجوقي13 من المسترشد بالله ثم أعادها إلى المقتفي عند ولايته سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. والذي يظهر أنهما بقيا14 عندهم إلى انقضاء الخلافة من بغداد سنة ست وخمسين وستمائة، فإن مقدار ما بينهما مائة وإحدى وعشرون سنة، وهي مدة قريبة بالنسبة إلى ما تقدم من مدتهما». وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي عن البردة: «وكانت على المقتدر حين قتل وتلوثت بالدم، وأظن أنها فقدت في فتنة التتار. فإنا لله وإنا إليه راجعون». وفي خزانة الأدب للبغدادي عن كعب بن زهير: «فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم وأجازه بردته الشريفة التي بيعت بالثمن الجزيل، حتى بيعت في أيام المنصور الخليفة بمبلغ أربعين ألف درهم15، وبقيت في خزائن بني العباس إلى أن وصل المغول16 وجرى ما جرى والله أعلم بحقيقة الحال». قلت: والذي يؤيد بقاء البردة والقضيب عند الخلفاء إلى آخر مدتهم ببغداد ورود ذكرهما فيما تقدم من مدائح الشعراء إلى زمن الناصر بن المستضيء وذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء عن ابن الساعي أنه حضر مبايعة الخليفة الظاهر وهو ابن الناصر المذكور فرآه بثياب بيض والبردة النبوية على كتفه، وكانت خلافته سنة ٦٢٢ في أواخر أيام دولتهم ببغداد، ولم يكن بعده غير خليفتين المستنصر والمستعصم، ثم كانت كائنة التتار وانتقلت الخلافة العباسية الصورية إلى مصر، وقد صرح القرماني في موضعين من تاريخه أخبار الدول بمصير البردة والقضيب، فذكر أن هلاكو17 لما طرق بجيوشه بغداد سنة ٦٥٦ أشار وزير الخلافة مؤيد الدين العلقمي على الخليفة المستعصم بالخروج إليه ومصالحته، فخرج إليه في جمع من العلماء والأعيان، والبردة النبوية على كتفيه والقضيب بيده، فأخذها منه هلاكو وجعلهما في طبق من نحاس وأحرقهما وذر رمادها في دجلة، وقال: ما أحرقتهما استهانة بهما وإنما أحرقتهما تطهيراً لها. اهـ، ثم أمر بقتل جميع من خرج إليه فقتلوا، ووضع الخليفة وولده في جُوالقين وضربا بالأرازب ومداق الجص حتى ماتا. وفى هذه الكائنة التي لم ينكب الإسلام بمثلها يقول ابن خلدون: ونزل هلاكو بغداد وخرج إليه الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي فاستأمن لنفسه ورجع بالأمان إلى المستعصم وأنه يبقيه على خلافته كما فعل بملك بلاد الروم، فخرج المستعصم ومعه الفقهاء والأعيان، فقبض عليه لوقته وقتل جميع من كان معه، ثم قتل المستعصم شدخاً بالعمد ووطأ بالأقدام لتجافيه بزعمه عن دماء أهل البيت وذلك سنة ست وخمسين، وركب إلى بغداد فاستباحها واتصل العبث بها أياماً، وخرج النساء والصبيان وعلى رؤوسهم المصاحف والألواح فداستهم العساكر وماتوا أجمعين. ويقال إن الذي أحصي ذلك اليوم من القتلى ألف ألف وستمائة ألف18. واستولوا من قصور الخلافة وذخائرها على ما لا يبلغه الوصف ولا يحصره الضبط والعد، وألقيت كتب العلم التي كانت بخزائنهم جميعا في دجلة، وكانت شيئاً لا يعبر عنه مقابلة في زعمهم بما فعله المسلمون لأول الفتح في كتب الفرس وعلومهم» اهـ كلام ابن خلدون.

(تنبیه) روى القرماني في أخبار الدول خبر البردة الكعبية وبقائها عند بني العباس إلى أن أحرقها هلاكو مع القضيب كما مر، ثم حكى قول وزعم أن التي كانت عندهم بردة أيلة لا بردة كعب، وأعقب هذا القول بقوله: «وأظن أنها البردة التي وصلت لسلاطين آل عثمان، فهي اليوم عندهم يتباركون بها ويسقون ماءها لمن به ألم فيبرأ بإذن الله، واتخذ لها المرحوم السلطان مراد خان تغمده الله بالرحمة والغفران صندوقاً من ذهب زنته19 مثقال فوضعها فيه تعظيماً لها» . اهـ. ولا يخفى أن بني العباس لم يكن عندهم غير بردة واحدة أحرفها هلاكو سواء كانت بردة كعب أو بردة أيلة. والذي ظنه المؤلف لا يتجه إلا بتقدير جمعهم بين البردتين وانتقال الأيلية إلى بني عثمان بعد إحراق هلاكو للكعبية، وهو شيء لم يقل به ولم ينقله فيما نقله من الأقوال حتى يصح له بناء ظنه عليه. وسيأتي الكلام على ما كان عند بني عثمان من الآثار في فصل خاص.


  1. المراد هنا بالخاتم حلية الإصبع المعروفة، وكانوا يستجيدون صوغه من الذهب ويرصعونه بفصوص الجواهر واليواقيت ويلبسـه السلطان شارة في عرفهم. أما المظـلة فلم ينفرد بها الفاطميون، بل كان يشاركهم فيها ملوك الدول الأعجمية بالمشرق كبني سلجوق وغيرهم تقليداً لملوك الصين، وإنما اشتهر الفاطميون بمظلتهم لأنها كانت أبدع المظلات وأكثرها زخرفاً وترصيعاً.
  2. كان من آلات المواكب في الخلافة الفاطمية بمصر قضيب سماه صاحب صبح الأعشى بقضيب الملك وقال إنه «عود طوله شبر ونصف ملبس بالذهب المرصع بالدر والجوهر يكون بيد الخليفة في المواكب العظام» انتهى. وكأنهم أرادوا به محاكاة شعار العباسيين، وشتان ما بين التكحل والكحل.
  3. هذه القصيدة من أجود شعر البحتري ولكن قضى عليها سوء الحظ أن يختارها اليسوعيون لكتابهم مجاني الأدب (ج ٥ ص ١٦١ طبع سنة ١٨٨٤م) فيغيروا فيها ما شاء لهم الهوى أن يغيروه، فإنهم لما ذكروا قوله في وصف احتشاد الناس والجند وخروج الخليفة عليهم في ذهابه إلى المصلى:
    فالخيل تصهل والفوارس تدعى
    والبيض تلمع والأسـنة تزهر
    والأرض خاشعة تميد بثقلها
    والجو معتكر الجوانب أغبر
    والشمس ماتعـة توقد بالضـحى
    طوراً ويطفئها العجاج الأكدر
    حتى طلعت بضوء وجهك فانجلت
    تلك الدجى وانجاب ذاك العثير
    وافتن فيك الناظرون فإصبع
    يومى إليك بها وعين تنظر
    يجدون رؤيتك التي فازوا بها
    من أنعم الله التي لا تكفر
    ذكروا بطلعتك النبي فهللوا
    لما طلعت من الصفوف وكبروا

    عز عليهم أن يذكر سيد الخلق عليه الصلاة والسلام ويذكر معه خليفته وابن عمه فجعلوا صدر هذا البيت (ذكروا بطلعتك الرشيد فهللوا) ولما وصلوا إلى بيت البردة جعلوه (ووقفت في برد الخطيب مذكراً) فليتنبه لذلك، فإن كثيرين من النشء يثقون بكتبهم، فيقعون فيها حرفوه وبدّلوه.

  4. أورد عبد الرحيم العباسي البيتين والقصة ببعض اختصار في نوع الغلو من التنصيص، ومثله في فوات الوفيات لابن شاكر.
  5. كذا في نسخة مخطوطة عتيقة عندنا من ديوانه. والذي في المطبوعة (ملك)
  6. عولنا فيها على ما في النسخة العتيقة لأنها أصح من للطبوعة.
  7. يشير بذلك إلى زوال الدولة الفاطمية في زمن المستضيء، وإعادة الخطبة لبني العباس بمصر والشام والحجاز واليمن وبرقة.
  8. كذا في نسختين من ديوانه إحداها مخطوطة.
  9. أي له الخاتم موروثاً مع السيف والبرد من النبي المبعوث خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام
  10. قال البغدادي في حاشيته على شرح ابن هشام على بانت سعاد: «ولهذا تسمت هذه القصيدة قصيدة البردة. وقد سمى الناس قصيدة البوصيري بقصيدة البردة تشبهاً بها للتبرك، والصواب تسميتها بالبرءة بالهمز لبرء ناظمها من الفالج».
  11. يحنة بضم الياء وفتح الحاء المهملة ثم نون مشددة مفتوحة ثم تاء وهو صاحب أيلة، ورؤبة بالباء الموحدة.
  12. في النسختين الباريسية والبولاقية من مروج الذهب (ومخصر) بغير تاء.
  13. سنجر بن ملکشاه السلجوقي سلطان خراسان وغزنة وما وراء النهر. ولد سنة ٤٧٩ وتوفى سنة ٥٥٢ بمرو ودفن بها وهو بكسر السين وسكون النون وفتح الجيم. وسبب تسميته بذلك أنه ولد بمدينة سنجار فسماه والده بذلك أخذاً من اسم المدينة. والسلجوقي بفتح السين وسكون اللام وضم الجيم وسكون الواو وبعدها قاف، نسبة لجده الأعلى سلجوق بن دقاق (بضم الدال المهملة وبين القافين ألف وقد يقال تقاق بالتاء).
  14. في الأصل (أنها بقيت).
  15. المعروف أن الذي اشترى البردة الكعبية معاوية رضي الله عنه، والذي اشترى البردة الأيلية أبو العباس السفاح في قول كما تقدم، فذكر البغدادي المنصور سهو منه. والله أعلم.
  16. المغول بضمتين قوم هلاكو، وقد يقال المغل بلا واو. وهم من القبائل التورانية ويعدهم بعض المؤرخين من التتار، والأكثرون على أنهما جنسان متقاربان، وإنما غلب التعبير عنهم بالتتار في التواريخ العربية لأنهم استخدموا في غزوهم بلاد الإسلام كثيراً من التتار في جيوشهم.
  17. هلاكو بضم الهاء وتخفيف اللام وضم الكاف وقد يقال هولاكو بواو بعد الهاء: أول الملوك الإيلخانية بفارس. وهو ابن تولي خان ابن طاغية المغول الأكبر جنكيز خان أرسله أخوه منكوقاآن ملك المغول إلى فارس ففتحها وتولى أمرها ثم استولى على العراق وكان منه ما كان إلى أن هلك بالمراغة سنة ٦٦٣ كما في التواريخ التركية وتاريخ ابن الفرات. والذي في المنهل الصافي سنة ٦٦٤. وقال ابن خلدون سنة ٦٦٢.
  18. أعاد ابن خلدون خبر هذه الكائنة في كلامه على دولة بني هلاكو فقال: إن عدد القتلى كان «ألف ألف وثلاثمائة ألف». والذي يذكره مؤرخو الترك مع تشيعهم لهلاكو وإحسانهم الظن به أن عدد الذين قتلهم في هذه الوقعة أهل بغداد البالغين خاصة بلغ ٨٠٠ ألف نسمة. فإذا ضممنا إليهم قتلى الجيش المجموع من المملكة العراقية الذي أباده قبل أن يصل إلى أهل بغداد ثم قتلى الصبيان غير البالغين الذين داستهم سنابك الخيل وعلى رؤوسهم المصاحف والألواح ظهر لنا أن عبارة ابن خلدون التي صدرها بكلمة (ويقال) ليست بعيدة عن الصواب.
  19. بياض بمقدار كلة في النسخ الثلاث التي عندنا من هذا التاريخ.