انتقل إلى المحتوى

الآثار النبوية (الطبعة الأولى)/الشعرات الباقية إلى اليوم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الشعرات الباقية إلى اليوم

شعرات المسجد الحسيني بالقاهرة: منها الشعرتان اللتان كانتا مع الآثار النبوية بقبة الغوري، ونقلتا معها إلى هذا المسجد، وهما في زجاجة محفوظة في صندوق صغير من الفضة ملفوف بلفافة من الديباج الأخضر المطرز، وقد تقدم ذكرهما في فصل الآثار التي بمصر، ثم أضيفت إليهما شعرة كانت عند أحمد طلعة باشا، وكان من رجال مصر المشهورين ومن الكتاب المجيدين الإنشاء باللغة التركية، تولى رئاسة الديوان الخديوي مرات مدة والي مصر محمد سعيد والخديوي إسماعيل وابنه الخديوي توفيق وكان دخوله في الخدمة في ١٦ جمادى الأولى سنة ١٢٥٤ زمن العزيز محمد علي واستقال في جمادى الأولى سنة ١٣٠١ فأقيل مكرماً ورتب له المرتب الكافي فأقام في داره بشارع السيوفية بالقاهرة مقبلاً على العبادة والأعمال الصالحة إلى أن توفي يوم الأحد ٢ جمادى الثانية سنة ١٣٢٢، وكان المشاع على الأفواه أن هذه الشعرة حباه بها السلطان في إحدى سفراته إلى القسطنطينية موفداً من الخديو لتسوية بعض الأمور، ولكن المحقق عند أسرته أنها أهديت إليه من إحدى الحجازيين عَلَى أنها من الشعر الشريف فعوضه عنها شيئاً كثيراً، ولما توفي اتفق بنوه على إهدائها للمسجد الحسيني لتحفظ فيه مع الآثار النبوية، وكانت محفوظة عندهم في قارورة فتبرعت لها السيدة خديجة كبرى بناته بصندوق من الفضة وضعت فيه الزجاجة ولف بسبع لفائف من الديباج الأخضر، ثم حملت بالتعظيم والإجلال إلى المسجد فحفظت فيه مع الآثار وهي مجهولة المصدر لا يعلم من أين وقعت لهذا الحجازي. وفي سنة ١٣٤٠ أو ١٣٤١ أضيفت إليها شعرات كانت بالرباط المعروف بتكية1 الكلشني بشارع تحت الربع في قارورة مختومة بالشمع الأحمر ومحفوظة في صندوق من الخشب والزجاج موضوع في خزانة من الخشب والزجاج أيضاً من الصناعة العربية البديعة، فرأى وزير الأوقاف نقلها إلى المسجد الحسيني وحفظها مع الآثار النبوية فنقلت، وأمرها أيضاً مجهول لا يعلم من أين أتت للرباط، ثم في شوال سنة ١٣٤٢ أحضرت الحاجة ملكة حاضنة الأمير كمال الدين ابن السلطان حسين سلطان مصر الساكنة بشارع المبتديان بالقاهرة قارورة صغيرة إلى المسجد الحسيني وأخبرت أن بها شعرات من اللحية النبوية الشريفة، وأنها تريد إهداءها لتحفظ مع الآثار فأجيبت إلى ذلك، وكانت القارورة ملفوفة بقطعتين من الديباج الأخضر وموضوعة في صندوق صغير مكسو بالمخمل الأحمر وملفوف بثلاث لفافات من الديباج الأخضر ثم بلفافة من المخمل البنفسجي مطرزة الحواشي، وهي خمس شعرات على ما يقال مجهولة الأصل أيضاً.

شعرة رباط النقشبندية بالقاهرة: المعروف بتكية النقشبندية بشارع درب الجماميز عن يسار السالك به من ميدان باب الخلق وهي من إنشاء والي مصر عباس باشا الكبير، وسبب إنشائها أنه كان عظيم الاعتقاد في الشيخ محمد عاشق النقشبندي فطلب منه أن يبني له ولصوفيته مكاناً للسكن والعبادة فبنى لهم هذه التكية سنة ١٢٦٨، وجعل بها مصلى وحجراً للصوفية وداراً لشيخهم وأنشأ بها حديقة ووقف عليها أوقافاً كثيرة، ثم لما توفي الشيخ محمد عاشق المذكور سنة ١٣٠٠ دفن بها في مقصورة ولم يعقب ذكوراً فتولى عليها سبطه السيد عثمان خالد وما زال بها إلى الآن، وكانت والدة عباس باشا المذكور لما حجت أحضرت معها من الحجاز شعرة أهديت إليها على أنها من الشعر الشريف، فلما حضرتها الوفاة سلمتها للشيخ محمد عاشق وطلبت منه حفظها بالتكية ليتبرك الناس بها، وهي ملصقة بقطعة من الشمع ومحفوظة في ثلاثة صناديق صغيرة الواحد داخل الآخر، وكان الشيخ يحتفل بإخراجها في ليلة المولد النبوي وليلة الإسراء ويدعو لذلك العلماء وكبار رجال الدولة والأعيان ويولم لهم، ثم يخرجها من الصناديق ويمسح بها على جفونهم ويناله منهم الشيء الكثير، ثم بطل هذا الاحتفال بعد موته وجعلها سبطه بصناديقها في صندوق أكبر منها علقه على المقصورة التي بها قبر جده، وهي باقية إلى اليوم كذلك.

شعرات القسطنطينية: أفادنا صديقنا العلامة السيد عبد الله مخلص2 المقيم الآن بحيفا أنها كانت يوم تولي السلطان محمد رشاد بن عبد المجيد المعروف بمحمد الخامس3 ثلاثاً وأربعين شعرة محفوظة مع الأمانات المباركة، وأنه أهدى منها إلى بعض المدن بالمملكة العثمانية أربعاً وعشرين وبقي تسع عشرة يرجح أنها باقية إلى اليوم، لأن الفترة التي تلت موت رشاد وتولى فيها وحيد الدين ثم عبد المجيد كانت فترة قلاقل وفتن، ثم تلاها عصر إلحاد ومروق من الدين ويبعد أن يفكر أحد في هاتين المدتين في الآثار النبوية وإهداء الشعرات الشريفة منها. قلنا: وقد علمنا أن السلطان رشاداً أهدى ملكة بهوبال شعرة منها أيضاً، فيكون الباقي الآن ثماني عشرة، والله أعلم.

شعرات أخرى بالقسطنطينية: كان المعروف أن ببعض مساجدها شعرات مفرقة بينها غير التي بالأمانات المباركة، وقد نقلت ثلاث منها إلى ثلاث مدن بفلسطين كما سيأتي، وأخبرنا أستاذنا العلامة الأكبر الشيخ عبد الرحمن قراعة الذي كان مفتياً بالمملكة المصرية عن المولى نوري أفندي آخر قضاة الدولة العثمانية بمصر أنه كان عنده شعرات نبوية، قال: وأظنه أخبرني أنها ثلاث كانت متوارثة في أسرة والدته وكانت خالته آخر من كان يحفظها منهم، ثم رأته أجدر بها منها فسلمتها إليه ليقوم بحفظها في حياته وتبقى في أسرته من بعد، ولا يعلم الآن عن هذه الشعرات ولا عن حافظها شيء وكان آخر العهد به حين فصلته الدولة المصرية عقب وقوع الحرب العظمى وسفرته مع أسرته إلى القسطنطينية، وبلغنا أنه جعل هناك شيخاً للإسلام ثم لم نسمع عنه شيئاً، ولا سيما بعد الانقلاب الكمالي الذي انتهَكت فيه حرمة الدين وعلمائه.

شعرة المشهد الحسيني بدمشق: الملاصق للجدار الشرقي لصحن المسجد الأموي وقد سألنا عنها الصديق العلامة الأستاذ كاملاً القصاب الدمشقي نزيل حيفا الآن، فأجابنا بما أفاده عنها أخوه الفاضل السيد سعيد الحمزاوي وهو ما أخبره به عن ابن عمه السيد حسين الحمزاوي عن أبيه السيد عبد الكريم الحمزاوي أن هذا المشهد كان متهدماً تكتنفه أطلال بالية فزاره والي دمشق الوزير فؤاد باشا سنة ١٢٧٨ وسعى لدى السلطان عبد العزيز في تعميره وجعل الدار المجاورة له تكية باسم المقام يطعم فيها الطعام كل يوم بعد العصر، وطلب من علماء دمشق انتخاب مشرف للمقام ومشرف للتكية من أهل الصلاح والعلم، فاختاروا السيد سليماً الحمزاوي والد السيد عبد الكريم المذكور والأخ الأكبر للسيد محمود الحمزاوي مفتي الشام، مشرفاً على المقام لصلة نسبه بصاحبه الإمام الحسين عليه السلام وانتخبوا الشيخ محمداً العاني مشرفاً على التكية، إلا أن التقليد السلطاني جاء باسم السيد خلوصي القادري من أهل القسطنطينية بدلاً من العاني، ثم إن السلطان عبد العزيز أرسل بشعرة من الآثار النبوية لتحفظ بهذا المقام فحفظت فيه وما زالت إلى اليوم يحتفل بإخراجها في العام مرة واحدة في ليلة ٢٧ رمضان ويزورها الناس بعد صلاة التراويح فيقرأ القراء ثم يسارعون في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويخرجها المشرف فيتبرك الحاضرون بتقبيلها وهي بيده، وذكر الصلاة مستمر إلى أن تنتهي الزيارة فتعاد إلى لفائفها وصناديقهم وترفع إلى مكانها وفي هذا المقام لوح معلق بالجدار مكتوب فيه هذه الأبيات:

على قبة الأفلاك تشمخ قبة
من أركانها نور النبوة بادي
حوت رأس مولانا الحسين ونجله
بها عبد الباري لنيل مراد
بناها وهي حتى أتى الوقت أرخوا
وجددها فضل الوزير فؤاد

                                                                                                    ١٢٧٨

شعرة مقام التوحيد بدمشق: وهو المقام المنسوب للسيد سعد الدين الجباوي رضي الله عنه سأل عنها السيد سعيد الحمزاوي الشيخ بدر الدين السعدي شيخ هذا المقام فأخبره أن والده الشيخ إبراهيم سعد الدين تشرف بهذه الشعرة بالنقل عن والده الشيخ محمد سعد الدين، وهو تلقاها وتشرف بها عن والده الشيخ محمد الأمين الشهير ببني سعد الدين، وهكذا بالتسلسل عن جددهم، وأوقات زيارتها يوم المولد النبوي وليلة المعراج وليلة ٢٧ رمضان وهو ما كان عليه عمل الأجداد والأسلاف، وفي هذه الشعرة يقول الأستاذ الأكبر العلامة السيد محمود الحمزاوي مفتي الشام المتوفى سنة ١٣٠٥:

شرف المحل بقدر من قد حله
أمر بديهي الثبوت بلا خفا
ولذلك المحراب فخر شامخ
إذ حل فيه شريف شعر المصطفى

وقد نقشا على العتبة العليا من مقام هذه الشعرة سنة ١٢٩٢، وكان رحمه الله يتولى إخراجها في المواسم فيزورها الحاضرون وهي بيده ثم يعيدها إلى لفائفها ويرفعها إلى مكانها. شعرة بيت المقدس: لها خازن خاص غير الخطيب والإمام، والراجح أنها جلبت إليه قديماً، وخازنها اليوم من أسرة الشهابي، وميعاد زيارتها في ٢٧ رمضان.

شعرتان بعكا وحيفا: من البلاد الفلسطينية، وكانتا بالقسطنطينية من شعرات الأمانات المباركة، فأهداهما السلطان محمد رشاد لهذين البلدين، فحفظت إحداهما بمسجد أحمد باشا الجزار بعكا، والثانية بالجامع الكبير بحيفا، وميعاد زيارتهما في ٢٧ رمضان.

ثلاث شعرات بصفد وطبرية والناصرة: من البلاد الفلسطينية، وكانت مفرقة ببعض مساجد القسطنطينية، ونقلت إلى هذه البلاد بأمر السلطان محمد رشاد، فحفظت واحدة بمسجد غار يعقوب بصفد، والثانية بالمسجد العمري بطبرية، والثالثة بالمسجد المنسوب لعلي باشا بالناصرة، وعلي باشا هذا هو والد عبد الله باشا والي صيدا الذي أسره إبراهيم باشا ابن العزيز محمد علي في إغارته على البلاد الشامية، ثم سرقت شعرة الناصرة من المسجد إبان الحرب العظمى التي بدأت في أواخر سنة ١٣٣٢هـ، والسبب في نقل هذه الشعرات الثلاث من المساجد أن السلطان رشاداً لما أهدى الشعرتين لعكا وحيفا طلب أهالي هذه البلاد الثلاثة إهداءهم أيضاً من هذه الشعرات للتشرف والتبرك بها، فأمر بأدائها لهم من التي بالمساجد لأنه خشي من موالاة الإهداء من شعرات الأمانات أن تقل ثم لا يبقى منها شيء، وجميع الشعرات المهداة من هذا السلطان جعلت في أنابيب من الزجاج ترى منها بالعين في غاية الوضوح، وكل أنبوب ملفوف بأربعين قطعة من الحرير مختلفة الألوان وموضوع في صندوق صغير يحفظ طول السنة في خزانة من الحديد، وميعاد زيارتها كل عام في ٢٧ رمضان بعد صلاة العصر.

شعرتان بطرابلس الغرب: أفادنا عنهما حضرة الفاضل الشيخ الطاهر أحمد الطرابلسي الزاوي نسبة إلى الزاوية الغربية، وهي حوزة بطرابلس الغرب تجمع عدة قرى - (إحداهما) بمدينة طرابلس بجامع طورغود باشا في مقصورة غاية في الحسن بالجهة الشرقية من الجامع عن يسار الداخل، وهي في قارورة من زجاج مستديرة ملفوفة بقطع من الحرير ومحفوظة في صندوق من الآبنوس، ويحتفل بزيارتها في ليلة النصف من شعبان وليلة المعراج، فيتهافت الناس عَلَى تقبيلها للتبرك، والمتولي الإشراف عليها نقيب الأشراف، وهو الذي يحملها بيده ويناولها للزائرين، وله مرتب من الأوقاف على ذلك، ويقال إنها كانت بالقسطنطينية، فنقلها أحمد راسم باشا إلى طرابلس. و(الثانية): ببني غازي في جامع راشد باشا المشهور بجامع عثمان، وقد نقلت إليه من الجامع الكبير، وجعلت في مقصورة بأعلى الجامع من الداخل في الجانب الشرقي، وهي أيضًا في زجاجة ملفوفة بلفائف من الحرير، ومحفوظة في صندوق من الآبنوس، ويحتفل بزيارتها في المواسم المتقدّم ذكرها، ويتولى الإشراف عليها المفتي.

شعرة في بهوبال بالهند: أهداها السلطان محمد رشاد لملكة بهوبال سلطان جهان بيكم4 بنت ملكتها شاه جهان بيكم، لما زارته في رحلتها إلى أوربة والقسطنطينية. أخبرنا الأديب الفاضل السيّد أبو النصر أحمد البهوبالي نزيل القاهرة، أنها لما عادت إلى بهوبال، احتفلت بنقل هذه الشعرة إلى الجامع الأعظم لتحفظ به، فوضعت بلفائفها في صندوق ثمين حمله ولدها ملك بهوبال الآن على رأسه، فتكأكأ الناس عليه للتبرك بلمس الصندوق ولم يخلص إلى المسجد إلا بعسر، ثم إنهم احتفلوا بزيارة هذه الشعرة بالمسجد مرة واحدة، ثم أبطلت الزيارة لاعتراض بعض العلماء وبقيت في صندوقها محفوظة بالمسجد إلى اليوم.

هذا ما تيسر لنا الوقوف عليه من خبر الشعرات المنسوبة إلى سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه أعلم بالصحيحة منها وغير الصحيحة.


  1. التكية رباط الصوفية وكانوا يسمونها بالخانقاه، وهي في لغة عامة مصر بفتح التاء وكسر الكاف وفتح الياء المشددة وفي اللغة التركية والفارسية بفتح التاء وسكون الكاف وفتح الياء المخففة، وقد يحرفها الأتراك فيقولون فيها تكه بفتحتين بلا ياء.
  2. وهو حفظه الله وأدام النفع به الذي أفادنا أيضاً عن الشعرات التي ببعض البلاد الفلسطينية الآتي بيانها.
  3. ولد سنة ١٢٦٠ وتولى الملك بعد أخيه السلطان عبد الحميد سنة ١٣٢٧ وتوفي سنة ١٣٣٦.
  4. سلطان جهان اسمها ومعناه سلطانة العالم، وكذلك اسم أمها شاه جهان معناها سلطانة العالم أو ملكة العالم، وأما بيكم فلقب تكريم يذكر بعد الاسم ومعناه الأميرة لأنه مؤنث بيك بمعنى أمير، وهو الذي تقول فيه عامة مصر (بيه) بالهاء بدل الكاف وبالإمالة، ومثل بيكم خانم فإنه مؤنث خان بمعنى الحاكم أو الأمير أو السيد العظيم وما زال مستعملًا بمصر لقب تكريم لنساء الأسر الرفيعة يلحق بأسمائهن، غير إنهم قلبوا خاءها في النطق فقالوا فيه هانم، وهذه الميم علامة للتأنيث في التركية تلحق ببعض الكلمات.