الآثار النبوية (الطبعة الأولى)/آثار القدم الشريفة على الأحجار
قلنا في كلامنا على رباط الآثار المسمى بعد ذلك بجامع أثر النبي إن به حجراً تزعم العامة أن عليه أثر القدم النبوية الشريفة وليس بصحيح، ووعدنا بمعالجة البحث فيه وفيما يماثله من الأحجار في هذه التتمة فنقول:
المعروف الآن من هذه الأحجار سبعة: أربعة منها بمصر، وواحد بقبة الصخرة ببيت المقدس، وواحد بالقسطنطينية، وواحد بالطائف، وهي حجارة سوداء إلى الزرقة في الغالب عليها آثار أقدام متباينة في الصورة والقدر لا يشبه الواحد منها الآخر، وقد ألّف العلامة أحمد بن محمد الوفائي الشافعي المعروف بابن العجمي المتوفى سنة ١٠٨٦ رسالة سماها: «تنزيه المصطفى المختار عما لم يثبت من الأخبار» بيَّن فيها عدم صحة هذه الأحجار، وأن لا سند لما ورد فيها، ونقل عن الإمام ابن تيمية أنها من اختراع الجهال وأن ما يروى من حديث تأثير قدمه صلى الله عليه وسلم في الصخر إذا وطئ عليه من الكذب المختلق، وفي ج١ ص ٢٦٠ من مجلة «الهداية الإسلامية» نبذة في ذلك لأستاذنا العلامة مديرها لخَّصها من هذه الرسالة فلتراجع. وسنورد في آخر هذه التتمة خلاصة نذكر فيها من تكلم على هذه الأحجار من العلماء الأعلام نفياً وإثباتاً بعد أن نستوفي البحث فيها من الوجهة التاريخية مبتدئين بما بمصر منها على ما يأتي:
الأول: حجر أثر النبي وهو حجر ضارب إلى الحمرة عليه أثر قدمين، محفوظ في حجرة صغيرة مطلة على النيل وملاصقة للحائط الغربي لمسجد أثر النبي، وعلى هذه الحجرة قبة وفي حائطها الجنوبي محرابان: أحدهما لا شيء به، والذي في غربيه به صُفَّة ألصق الحجر عليها وجعل على وجه هذا المحراب رخام منقوش كتب فيه بالنقر سطران بالتركية يفيدان أن إبراهيم باشا مد الله في عمره جدد هذا المقام على رسم القدم، وقد تقدم في كلامنا على رباط الآثار أن إبراهيم باشا الدفتردار المتولي على مصر سنة ١٠٧١ جدده ووسعه وبنى تحته رصيفاً وأرصد له أرضاً وعيّن به القراء والحراس، ثم نقلنا عن الجبرتي خبر تجديد آخر فيه قام به الخواجة1 محمود حسن بزرجان باشا سنة ١٢٢٤ وقلنا إنه البناء الباقي إلى اليوم على الراجح والذي يظهر أن التجديد الأخير لم يشمل قبة الأثر بدليل هذه الكتابة الباقية على المحراب، إلا أن تكون هذه الرخامة أعيدت إلى مكانها بعد التجديد إبقاءً لاسم إبراهيم باشا وتاريخ وضع هذا الحجر بهذا المكان مجهول، فلا يغترنَّ الناظر في الخطط الجديدة التوفيقية لعلي مبارك باشا، بما جاء عنه في كلامه عن قرية (أثر النبيّ) وزعمه أن الظاهر بيبرس هو الباني للمسجد وللقبة عَلَى هذا الأثر، فقد بيَّنا وهمه هذا فيما تقدم، وأن المسجد من بناء الصاحب تاج الدين ابن حِنا، وكان يعرف برباط الآثار، ثم تغيرت معالمه مع الزمن بما حدث فيه من التجديد، كما تغير اسمه بجامع أثر النبي، والراجح في هذا الحجر أنه لم يوضع بهذا المسجد إلا في القرون الأخيرة؛ إذ لو كان من زمن ابن حنا أو ما قرب منه، ما أغفل ذكره مؤرّخو تلك العصور، كما لم يغفلوا ذكر ما كان هنا من الآثار، ولم نجد له ذكرًا فيما اطلعنا عليه من الرِّحَل إلا في «الحقيقة والمجاز في رحلة الشام ومصر والحجاز» للعلامة عبد الغني النابلسي، وهي في وصف رحلته إلى هذه البقاع الثلاث في أوائل القرن الثاني عشر، وقد زاره باعتقاد وحسن نية، كما فعل بحجر قايتباي، وكانت زيارته له بعد زيارته لمقياس النيل بالروضة، فقال عنه ما نصه: «ثم قمنا من ذلك المكان، وركبنا وسرنا مع الجماعة بالسرور والأمان، إلى أن وصلنا إلى المسجد الذي فيه قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلنا إليه وصلّينا صلاة الظهر بالجماعة، ورأينا ذلك المسجد فدخلنا إلى قبة لطيفة، وبها البهجة والجلال والهيبة لطيفة، وهناك أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم في حجر شريف، مرتفع في طاق عال منيف، في الحائط القبلي وعليه الماوَرد2 والستر المسبول، وأنواع القبول، وقد عقدت عَلَى ذلك المكان قبة سامية البناء، جالبة الهناء، فتبركنا به وحصل لنا كمال الصفاء، وغاية الشوق والوفاء». ثم أنشد فيه لنفسه:
وأنشد فيه أيضاً قوله:
انتهى. وبقي هذا المسجد معروفاً بمسجد الآثار بعد نقل الآثار النبوية منه إلى قبة الغوري في أوائل القرن العاشر، ثم عرف بجامع أثر النبي، وهي تسمية لم نرها في التاريخ قبل القرن الحادي عشر، والغالب أنه سمّي بذلك بعد وضع هذا الحجر فيه، وقد أطلق هذا الاسم أيضاً على القرية الملاصقة له، ثم على الشارع الموصل إليه من مصر القديمة الذي أحدث في هذا العصر ممتدّاً عَلَى شاطئ النيل.
الثاني: حجر قايتباي: وهو حجر أسود به أثر قدمين موضوع بجوار قبر السلطان الملك الأشرف أبي النصر قايتباي المحمودي المتوفى في ١٧ ذي القعدة سنة ٩٠١هـ، وكان أعد هذا القبر لنفسه في حجرة واسعة ذات قبة شاهقة ملاصقة لمسجده الذي بناه بالصحراء المعروفة الآن بقرافة المجاورين3. ويرى الزائر في ركن من هذه الحجرة قبر ولده السلطان الملك الناصر أبي السعادات محمد، المتولي بعده عَلَى المملكة المصرية، والمتوفى مقتولاً في ١٥ ربيع الأول سنة ٩٠٤هـ، وبجواره حجر آخر أسود عليه أثر واحد يزعمون أنه أثر قدم الخليل عليه السلام، والشائع فيهما عند السدنة وسكان تلك الجهة أن السلطان استجلبهما من الحجاز ليوضعا بعد موته بجوار قبره تبركاً بهما، وهو شيء لم نره مسطوراً في تاريخ4، وإنما يذكره بعض أصحاب الرحلات عَلَى ما سمعوه من الأفواه، وذكره أيضًا العلامة شهاب الدين الخفاجي في نسيم الرياض شرح شفا القاضي عياض بما نصه: «قيل: إن السلطان قايتباي اشتراه بعشرين ألف دينار وأوصى بجعله عند قبره وهو موجود إلى الآن». قلنا: وإذا لم يصح شراء السلطان لهذين الحجرين أو أحدهما، فلا يبعد أن يكونا من الأحجار التي قيل إنها أحضرت من خيبر لشمس الدين ابن الزمن التاجر الشهير وجعلها بمدرسته التي كان شرع في إنشائها بشاطئ بولاق، وكان يقيم أحياناً بمكة للإشراف عَلَى أبنية الأشرف قايتباي بها ثم توفي بها سنة ٨٩٧، فيحتمل أنه أحضرها معه من الحجاز، ثم اختار السلطان منها هذين الحجرين فنقلهما بعد موته من مدرسته، والله أعلم. وسيأتي الكلام على هذه المدرسة وما كان بها من الآثار في هذا الفصل وفي فصل الشعرات الشريفة.
وقد زار المقري وأبو سالم العياشي هذا الأثر في القرن الحادي عشر وأبو العباس أحمد بن محمد بن ناصر الدرعي في أوائل القرن الثاني عشر، وأبو العباس أحمد الفاسي في أوائل الثالث عشر، فذكروا عدم ثبوت صحته، وأنه يُزار بُحسن النية فقط، وزاره في أوائل القرن الثاني عشر الشيخ عبد الغني النابلسي، ولكنه لم يعتمد فيه إلا على ما سمعه من الأفواه، وقد ذكره مرتين في رحلته «الحقيقة والحجاز» إحداهما بإسهاب في زيارته الأولى له، والثانية باختصار في زيارته الثانية عند خروجه من القاهرة للحج، فقال في الأولى: «ثم سِرنا إلى أن وصلنا إلى جامع السلطان قايتباي، وهو مكان معمور، وبأنواع الخير مغمور، فدخلنا إليه وزرنا قبر السلطان، وعليه قبة عظيمة، ذات جدران محكمة جسيمة، فوقفنا وقرأنا الفاتحة، ودعونا الله تعالى، وعند رأس القبر قدم النبي صلى الله عليه وسلم في صخرة موضوعة على كرسي، وعلى تلك الصخرة قبة لطيفة من خالص الفضة مطلية بالذهب والكتابة بالذهب حولها بالخط الحسن، وللقبة باب، ففتح لنا وزرنا القدم الشريفة، وقبلناها وتبركنا بها، وعند الجدار الشمالي قبر زوجة5 السلطان قايتباي، وعَلَى قبرها قدم الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام أيضاً في صخرة، وعلى تلك الصخرة قبة من خشب فزرناها وتبركنا بها وقرأنا الفاتحة ودعونا الله تعالى، وذكروا لنا أن السلطان سليما من بني عثمان عليه الرحمة والرضوان لما دخل مصر المحروسة زار القدم المذكورة قدم النبي صلى الله عليه وسلم وتبرك بها6. ثم بعد رجوعه إلى بلاد الروم، أرسل جماعة من الناس إلى مصر، وأخذ القدم النبوية المحمدية فحملت الصخرة إليه لأجل التبرك وحصول الخير بها في البلاد الرومية، فلما وصل ذلك إلى بلاد الروم سلطان بني عثمان، رأى في منامه السلطان قايتباي، وأمره أن يرد القدم إلى مكانها، وقال له: أنا أخذتها بإذن النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، فلما أفاق من منامه أرسلها إلى مكانها وأرسل معها أربعة أعلام مكتوبة بالذهب، وهي إلى الآن موجودة في ذلك المكان. ا.هـ. قلنا: الذي نسبه إلى السلطان سليم لم يقله أحد من المؤرخين، وإنما نقله كما ذكروه له، وهو من أوهام السدنة وخلطهم في المسائل التاريخية، والمعروف أن الذي نقل هذا الحجر إلى القسطنطينية هو السلطان أحمد بن محمد المعروف عند العثمانيين بأحمد الأول المتولي سنة ١٠١٢ والمتوفى سنة ١٠٢٦، وهو الذي جعل عليه القبة الفضة على ما ذكره العلامة أحمد المقري في فتح المتعال في مدح النعال، فقد سرد في خاتمة هذا الكتاب مسائل تعرض في إحداها لهذا الحجر، وأورد أبياتاً سقيمة كثيرة الضرورات رآها مكتوبة على الفضة التي جعلها هذا السلطان على الحجر، وهذا نص ما قال: «ومنها أن كثيراً من مادحيه صلى الله عليه وسلم صرحوا بأنه كان إذا مشى على الصخر غاصت قدماه فيه، وإذا مشى على الرمل لا يؤثر فيه7 حتى إنه اشتهر عند الناس قصد بعض الحجارة التي فيها شبه أثر القدم النبوية فيما يقال للتبرك بها، خصوصاً ما وضع منها في المواضع المقصودة للزيارة، وقد رأيت بمصر المحروسة بتربة السلطان المرحوم أبي النصر قايتباي المحمودي رحمه الله بالصحراء حجراً فيه أثر قدم يقال: إنه أثر القدم النبوية، والناس يزورونه وقد رأوا له بركات، وقد كان الخُنكار8 المرحوم سلطان الرُّوم خادم الحرمين الشريفين مولانا السلطان أحمد ابن مولانا السلطان محمد ابن مولانا السلطان مراد بن عثمان9 رحم الله سلفه ونصر خلفه نقله من هذا المحل إلى حضرته العلية القسطنطينية، ثم أمر برده إلى محله وجعل عليه فضة بصنعة مملوكية وعليها مكتوب مما قرأته ما مثاله ولم يعلم قائله:
وتشرف بزيارته سنة ١٠٢٤ ا.هـ. ما ألفيته بحروفه». والذي ذكره من نقل السلطان أحمد للحجر غير مستبعد، فقد ذكرت التواريخ التركية أنه كان كثير التعظيم للآثار النبوية، حتى إنه نقش مثال القدم النبوية على صُرْغَوج عمامته ونقش معه بيتين بالتركية من نظمه، والصرغوج حلية كانت توضع على القلنسوة أو العمامة ولم تزل هذه القبة إلى اليوم على هذا الحجر، وهي قبة صغيرة قائمة على قاعدة مربعة مرفوعة على أربعة أعمدة والأبيات المذكورة منقوشة بالحفر في جوانب القاعدة، ولم تتيسر لنا قراءتها إلا بعناء بعد جلاء موضعها ومسحه، وكانت تظهر لنا في بعض المواضع عند مسحها آثار الطلاء بالذهب، وقد اكمدَّ لون القبة وتغير حتى يخيل لرائيها أنها من نحاس.
وأما الحجر الآخر الذي قيل: إنه به أثر الخليل فعليه شبه قبة من خشب مستطيلة دقيقة الأعلى واسعة الأسفل كالقمع ساذجة لا أثر للصناعة فيها.
ولما زار أبو العباس أحمد الفاسي في رحلته إلى الحج سنة ١٣١١ مسجد السلطان قايتباي، وصف الحجرين بقوله: «وتبركت بحجرين هنالك شاع عَلَى ألسنة العوامّ أنهما أثَّرَ فيهما قدما النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهما بلصق قبر السلطان المذكور فيه أثر قدمين، والآخر مقابل له يمنة الداخل من الباب فيه أثر آخر، وعليهما بناء وهما مرفوعان من الأرض على بناء، وإن لم يصح ذلك فقد نسبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة والله يعاملنا بنياتنا». ثم نقل عبارة أبي سالم العياشي عنهما في رحلته، ونصها12: «عند رأس القبر حجر مبني عليه بناء حسن فيه أثر قدمين شاع عند الناس أنهما قدما النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك حجر آخر فيه أثر قدم أخرى يقال: إنها قدم الخليل، والناس يزورونها ويذكرون أنها من الذَّخائر التي ظفر بها السلطان قايتباي أيام سلطنته، فجعلت عند قبره رجاء بركتها ولا يبعد ذلك، فقد كان ملكاً عظيماً عدلاً موقراً مهيباً محبباً إلى الخلق، ذا سيرة حسنة في الرعية، واجتهاد في عبادة ربه، إلا أننا لم نر من نصٍّ على أنه ظفر بشيء من هذه الآثار من المؤرخين، بل ذكر جماعة من حفَّاظ المحدثين أن ما استفاض واشتهر خصوصاً على ألسنة الشعراء والمداح من أن رجل النبي صلى الله عليه وسلم غاصت في الحجر لا أضل له، ولم يذكر أحد أن أثر الخليل عليه السلام موجود في غير حجر المقام. قلت: وبالمدينة المشرفة ومكة والقدس آثار يقال إنها آثار بعض أعضاء النبي صلى الله عليه وسلم من قدم ومرفق وأصابع والله أعلم بصحة ذلك، ولكن لم يزل الناس منذ أعصار يتبركون بها من العلماء والصالحين، ويتقي الآخر منهم الأول، فلأجل ذلك لما دخلنا إلى مزار السلطان المذكور صبَّ القيِّم على الأثرين شيئًا من ماء الورد، فغمسنا فيهِ أيدينا ومسحنا بها أوجهنا ورءوسنا وأبداننا رجاء البركة بحُسن النية وجميل الاعتقاد» إلى آخر ما ذكره. وقال أبو العباس الفاسي عقب نقله لكلامه: «وما زال يبعد كل البعد عند علماء القاهرة ثبوت الأثر المذكور، فقد تكلمت مع شيخنا الشيخ داود القلعي في ذلك فلم يسعفني بالكلام فيه». ا.هـ. قلنا: وآثار القدم والمرفق التي أشار إليها أبو سالم العياشي رأيناها مذكورة في سؤال رفع إلى الإمام السيوطي، فأجاب بأنه لم يقف في ذلك على أصل ولا سند ولا رأي مَن خرَّجه في شيء من كتب الحديث. اهـ. والذي يرويه الناس في المرفق أنه صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى دار أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) بمكة ووقف ينتظره ألصق منكبه ومرفقه بالحائط فغاص المرفق بالحائط في الحجر وأثر فيه، وبه سمى الزقاق زقاق المرفق. اهـ. ملخصاً من فتح المتعال للمقري. وذكره أيضًا قطب الدين الحنفي في الإعلام بأعلام بيت الله الحرام في الخاتمة التي خصها بالأماكن المجاب فيها الدعاء بمكة فقال: إنه صفحة حجر مبني في جدار في وسطه حفرة مثل محل المرفق يزوره العوام ويزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم اتكأ عليه فغاص مرفقه الشريف فيه، ثم قال: «وما رأيت في كلام أحد من المؤرخين حقق شيئاً من ذلك، وَالله أعلم بحقيقته»13. وَرأينا أيضاً في موضعين من هذه الخاتمة أن بالجبل المقابل لثبير الذي بلحفه مسجد الخيْف غاراً يقال له غار المرسلات لنزول سورة «وَالمرسلَات» به، تزعم العامة أن سقفه لَانَ لرأس النبي صلى الله عليه وسلم فأثر به تجويفاً بقدر دورة الرأس فيضع الناس رءوسهم في هذا الموضع تبركاً، ثم ذكر أنه لم يقف عَلَى خبر يعتمده في ذلك. قلنا: ذكره التقي الفاسي في شفاء الغرام والجلال السيوطي في الخصائص الكبرى عن أبي نُعيْم ولكن بلا سند، وقد بقي هذان الحجران مقصودين بالزيارة إلى زماننا هذا، وذكرهما العلامة إسماعيل الحامدي المالكي أحد علماء الأزهر المتوفي سنة ١٣١٦ في الرحلة الحامدية إلى الأٌقطار الحجازية، وهي في حجة سنة ١٢٩٧هـ، فقال: إنه زارهما وإن حجر المرفق كان قريباً من الصاغة، وذكر حجراً آخر زاره في الطريق التي بين مكة والتنعيم، قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أسند ظهره إليه فلَانَ وغاص فيه14، وذكر حجراً آخر قيل: إن عليه أثر كفه صلى الله عليه وسلم بمسجد الغمامة بجهة بدر، وحجراً بالمدينة في مكان بأسفل جبل أُحُد عليه أثر نبوي. والراجح أنها قلعت جميعها من أماكنها ومحيت آثارها بعد استيلاء الملك عبد العزيز بن سعود ملك نجد على الحجاز سنة ١٣٤٤، ومن حجارة الآثار حجر قيل: إن عليه أثراً نبوياً في قرية شهار بالطائف يسمونه بأثر الغزالة النبوية، ذكره الفاكهي في تاريخه للطائف، ونقله عنه الشيخ محمد عبد الكريم من علماء القرن الثاني عشر في رسالة له في فضائل الحبر ابن عباس والطائف، ثم قال: «ولم أقف عَلَى ما يشهد لذلك في كتب الآثار ولا في أجزاء لطيفة صنفت في آثار الطائف للمتأخرين ولا على ما ينفيه». اهـ. وقد دعانا التعرض لأثر المرفق إلى الاستطراد لذكر هذه الأحجار إتماماً للفائدة ببيانها وبيان أن لا مستند فيها إلى على ما هو شائع بين الناس، والله أعلم.
الثالث: حجر المقام الأحمدي: وهو في ركن من أركان القبة المقامة على ضريح السيد أحمد البدوي (رضي الله عنه) بطندِتا المعروفة الآن عند العامة بطنطا، ولم أقف فيهِ إلا على ما ذكره الشيخ عبد الصمد في الجواهر السنية في النسبة والكرامات الأحمدية من أنه حجر أسود مثبت في ركن القبة تجاه وجه الداخل من الجهة اليمنى، وفيه موضع غوص قدمين شاع بين الناس وذاع واستفاض وملأ البقاع والأسماع أنه أثر قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من زار الأستاذ يتبرك به. اهـ. ولم يتعرض لذكر واضعه وتاريخ وضعه بهذا المكان.
الرابع: حجر البرنبل: وهي قرية شرقي النيل من قسم إطفيح15 بولاية الجيزة وفي شرقيها على قارة بسفح الجبل مقام لسيدي أُوَيْس القَرَني، والصحيح أنه غير مدفون بمصر، وفي شرقي هذا المقام حجر صلب في الجبل به أثر قدم تزعم العامة أنه قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزوره سياح الإفرنج كثيراً.
الخامس: حجر قبة الصخرة: ببيت المقدس وهو قديم ذكره الإمام ابن تيمية وأنكر صحته، وقال عنه العليمي في «الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل»: «القدم الشريفة في حجر منفصل عن الصخرة محاذ لها آخر جهة الغرب من جهة القبلة وهو على عمد رخام». ومثله في «باعث النفوس لزيارة القدس المحروس» لبرهان الدين إبراهيم ابن قاضي الصلت، و«إتحاف الأخصَّا بفضائل المسجد الأقصى» لشمس الدين محمد المنهاجي السيوطي، وذكره أيضاً جمال الدين عبد الله بن هشام الأنصاري في «تحصيل الأنس لزائر القدس»16 بما لا يخرج عن ذلك وزاره العلامة المقري وقال عنهُ في «فتح المتعال»: «وقد رأيت حجراً فيهِ أثر قدم بقية الصخرة الشريفة بالبيت المقدَّس، والناس يعظمونهُ ويتبركون به». وقد زاره العلامة عبد الغني النابلسي وأشار إليهِ في رحلتهِ «الحقيقة والمجاز» محيلاً على ما ذكره عنه في «الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية». وقد نقل في الحضرة الأنسية ما قدمنا نقله في وصفه، ثم قال: «وجعلوا على هذا المكان من الفضة على شكل الخزانة له قبة صغيرة وباب بمصراعين كل ذلك مصنوع من الفضة على شكل الخزانة، ثم خافوا على ذلك من السارق فجعلوا على ذلك شبكة من النحاس الأصفر لها باب بمصراعين أيضاً يفتح للزائرين، ففتحوه لنا والتمسنا من أثر تلك القدم البركة، وقد وضعوا فيه ماء الورد، فوقفنا ودعونا الله تعالى بما تيسر من الدعاء، وأخذنا منه ووضعنا على وجوهنا، ودفعنا للخادم ما تيسر من الدراهم كما هو عادتهم، وقلنا في ذلك من النظام على حسب ما اقتضاه المقام:
السادس: حجر القسطنطينية: وهو - على ما في التواريخ التركية - من الآثار التي أخذها السلطان سليم من الشريف بركات أمير مكة بعد فتحه مصر ونقلها معه إلى القسطنطينية، وهي محفوظة اليوم بقصر (طوبقبو)، وتسمى عندهم بالأمانات المباركة.
السابع: حجر الطائف: جاء في اللطائف من قطر الطائف لابن عراق أن من المواقف النبوية بالطائف موقفاً بجبل أبي زبيدة، وآخر عند وَجّ وصخرة عليها أثر موقفه الشريف في مسجد العدَّاس بجبل أبي الأخيلة، وقد تكلم العلامة جار الله محمد بن فهد على هذه المواقف في تحفة الطائف في فضائل الحبر ابن عباس ووج والطائف، إلا أن النسخة التي عندنا وقع بها سقط في هذا الموضع اختلت بسببه العبارة، وفي «إهداء اللطائف من أخبار الطائف» للعجيمي ما نصه: «ومن المآثر موقف بجبل أبي زبيدة في طريق الذاهب إلى وج من جبل يقال له: قرين ثم في سفح جبل يقال له: أبو الأخيلة معبد العداس، وهو في مسجد بالمَثناَة وأثر الموقف ظاهر في صخرة في ركن المسجد المشهور بمسجد الموقف». اهـ. قلنا: وقد بلغنا أن بوج في الجهة المسماة بالمثناة مسجداً به حجر باق إلى اليوم يزعمون أن عليه أثر مرفقه صلى الله عليه وسلم، ولهذا يسمونه بمسجد الكوع؛ لأن العامة تطلق الكوع على المرفق وهو مِن أوهامها، والمظنون أنه المسمى قديماً بمسجد الموقف، ثم سماه الناس في العصور الأخيرة بمسجد الكوع لتوهمهم أن الذي به أثر المرفق الشريف لا القدم لعدم وُضوح الأثر وضوحاً كافيًا فيما يظهر، ولهذا عدَدناه مُن أحجار الأقدام الباقية إلى اليوم وليحقق.
أحجار أخرى كانت بمصر: عليها أثر القدم الشريفة فيما زعموا، أشار إليها السخاوي في ترجمة شمس الدين محمد بن عمر بن محمد بن الزمن الشافعي المتوفى سنة ٨٩٧، وذكر أنها أحضرت له من خيبر، وأنها كانت مع آثار أخرى في مدرسته التي شرع في إنشائها بشاطئ بولاق، قلنا: ولا ندري أين ذهبت، ولعل منها بعض الأحجار المعروفة بمصر الآن، كالحجرين اللذين بتربة قايتباي كما قدمنا، والله أعلم.
حجران آخران بمكة والمدينة: ذكرهما العلامة المقري في فتح المتعال فقال: «ورأيت بمكة المشرفة أيضاً في القبة التي وراء قبة زمزم أثر قدم في حجر يقولون: إنه أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرني بعض الناس أن بالحجرة الشريفة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام حجراً كذلك، ولم أره حين دخلت للتبرك بإيقاد مصابيحها، ثم سألت عن ذلك الثقات العارفين، فأجابوني، إن الحجرة ليس فيها شيء من ذلك، وإنما هو في بعض أماكن المدينة المنورة على صاحبها الصلاة والسلام، فذهبت إليه فألفيت موضعه مما لا يمكن دخوله في الوقت الذي ذهبت فيه، وبعد هذا تكرر دخولي الحجرة الشريفة مراراً عديدة، فلم أر فيها ذلك بيقين، فعلمت أن المخبر لي وهم». اهـ. قلنا: أما حجر المدينة فلا نعلم عنه شيئاً، وأما حجر مكة فإن القبة التي كان بها هدمها الشريف عون الرفيق أمير مكة المتولي عليها سنة ١٢٢٩هـ والمتوفى بها يوم الأربعاء ١٦ جمادى الأولى سنة ١٣٢٣هـ. وبلغنا أن حجراً أثرياً كان بها، وهبه الشريف لأحد الهنود بعد هدمها، فلعله الحجر المذكور الذي رآه المقري.
آثار أقدام لبعض الأنبياء: في بعض البلدان آثار أقدام على أحجار منسوبة إلى بعض الأنبياء كأثر قدم آدم عليه السلام في جزيرة سرنديب المعروفة أيضاً بسيلان بالهند، وأثر قدم الخليل عليه السلام بالحرم المكي، وأثر قدم موسى عليه السلام بظاهر دمشق، وأثر قدم عيسى عليه السلام بطورزيتا ببيت المقدس، وأثر قدم إدريس عليه السلام ببيت المقدس، وأثر قدم أيوب عليه السلام بقرية قرب نوى بالبلاد الشامية، ولكون مقالنا هذا خاصاً بالآثار المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام اكتفينا بالإشارة إليها دون التعرض لتحقيقها وتفصيل الكلام عليها.
تنبيه: كان في مصر مسجد بالقرافة الكبرى معروف بمسجد الأقدام يرد ذكره في كتب الخطط والتاريخ، وقد يتوهم من يراه مذكوراً عرضاً في بعض العبارات أنه سمي بذلك لأحجار كانت فيه عليها آثار أقدام منسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم أو لبعض الأنبياء عليهم السلام كالتي تقدمت وليس كذلك، وإنما سمي بمسجد الأقدام لأن مروان بن الحكم لما دخل مصر وصالح أهلها وبايعوه امتنع من بيعته ثمانون رجلاً من المعافر سوى غيرهم، وقالوا: لا ننكث بيعة ابن الزبير، فأمر مروان بقطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم على بئر المعافر في هذا الموضع فسمي المسجد بهم لأنه بني على آثارهم والآثار الأقدام، يقال جئت عَلَى قدم فلان أي أثره، وقيل: بل أمرهم بالبراءة من عليّ بن أبي طالب عليه السلام فلم يتبرءوا منه فقتلهم هناك، وقيل: سمي مسجد الأقدام لأن قبيلتين اختلفتا فيه، كل تدعي أنه من خطتها، فقيس ما بينه وبين كل قبيلة بالأقدام وجعل لأقربهما منه، وقيل: إنما سمي مسجد الأقدام لأنه كان يتداوله العبّاد، وكانت حجارته كذاناً فأثر فيها مواضع أقدامهم، كذا في خطط المقريزي. قلنا: وإنما أثرت أقدمهم فيه لأن الكَذَّان من الحجارة الرخوة، ولما شرع السلطان الملك المؤيد شيخ في بناء جامعه داخل باب زويلة، ونقل إليه العمد وألواح الرخام من الدور والمساجد، هدم هذا المسجد لذلك، وفي تحفة الأحباب للسخاوي أنه كان من المساجد السبعة التي بالقرافة المجاب عندها الدعاء، وكان واسع الفناء عالي البناء مرتفعاً عن الأرض يصعد إليه من درج، وكانت العامة تزعم أنه به قبر آسية امرأة فرعون، وتسمى الموضع بها وليس بثابت، ولم يزل عامراً حتى أنشأ السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ مدرسته داخل باب زويلة من القاهرة فحسنوا له خرابه، وقالوا له: هذا في وسط الخراب فصار كوماً من جملة الكيمان التي هناك.
آراء العلماء في آثار القدم النبوية الشريفة: من الذين أنكروا صحة ذلك وذكروا أن لا أصل ولا سند لما ورد فيه الإمام أحمد بن تيمية في فتاواه، ونقله عنه تلميذه الإمام ابن القيم، والإمام السيوطي في فتاواه، والعلامة ابن حجر الهيثمي في فتاواه مؤيداً لفتوى السيوطي وفي شرحه للهمزية، حيث ذكر أن من روى هذا الخبر من أصحاب الخصائص رواه بلا سند، والحافظ محمد بن يوسف الشامي تلميذ السيوطي في سيرته النبوية «سبل الهدى والرشاد»، وقال في فتوى شيخه: وناهيك باطلاع الشيخ، وقد راجعت الكتب التي ذكرها في آخر الكتاب فلم أر ذلك، فشيء لا يوجد في كتب الحديث والتواريخ كيف تصح نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ. وقال المقري في فتح المتعال: وممن أنكره الإمام برهان الدين الناجي الدمشقي وجزم بعدم وروده. اهـ. ومنهم الشمس العلقمي، والعلامة عبد الرءوف المناوي: والعلامة محمد الشوبري قدوة الشافعية فيما كتبه على المواهب اللدنية، والعلّامة علي الأجهوري المالْكي في شرح ديباجة مختصر المالكية على ما ذكره عنهم ابن العجمي في تنزيه المصطفى المختار، والعلامة محمد الزرقاني فيما كتبه على المواهب اللدنية، والعلامة أحمد المقري في فتح المتعال، ومن المتأخرين العلامة داود القلعي على ما حكاه عنه الفاسي في رحلته، ومن أصحاب الرحل أبو سالم العياشي وأبو العباس أحمد الدرعي وأبو العباس أحمد الفاسي، غير إنهم قالوا بأنه وإن لم يصح فيزار بحسن النية لنسبته في الجملة للمقام النبوي، والعلامة أحمد الشهير بابن العجمي في رسالته تنزيه المصطفى المختار التي قدمنا ذكرها، وقطب الدين الحنفي في «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام»، غير أن كلامه خاصٌّ بأثر المرفق فذكر أنه لم ير في كلام أحد من المؤرخين من حقق ما يقال عنه، والعلامة محمد الحفني الكبير في حاشيته على شرح ابن حجر الهيثمي على الهمزية في قول الناظم:
وقول ابن حجر عنه: «هذا الذي ذكره الناظم ذكره غيره ممن تكلم على الخصائص لكن بلا سند» فإنه علق عليه بقوله: «قوله بلا سند في فتاوى الشارح18 هل ورد أنه صلى الله عليه وسلم لَانَ له الصخر وأثرت قدماه فيه؟ وأنه إذا مشى عَلَى التراب لا تؤثر قدمه الشريفة فيه؟ وأنه لما صعد صخرة بيت المقدس ليلة المعراج اضطربت تحته ولانت فأمسكتها الملائكة؟ وأن الأثر الموجود بها الآن أثر قدمه؟ وأنه صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى بيت أبي بكر بمكة ووقف ينتظره ألصق منكبه ومرفقه بالحائط فغاص المرفق في الحجر وأثر فيه وبه سمي الزقاق بمكة زقاق المرفق؟ فأجاب بقوله: أجاب الحافظ السيوطي لما سئل عن ذلك كله فقال: لم أقف له عَلَى أصل ولا سند ولا رأيت من خرَّجه في كتب الحديث» ثم قال عقب نقله عبارة ابن حجر المذكورة: «وقد ذكر الأئمة أن الحافظ إذا قال مثل هذه العبارة بقوله لا أعرفه دل عَلَى عدم وروده» اهـ.
أما المثبتوق: فالإمام تقيّ الدين السبكي بقوله في تائيته:
والعلامة القسطلاني في المواهب اللدنية، غير أن شارحها العلامة الزرقاني ردَّ عليه وناقشه فيما أورده، والعلامة شهاب الدين الخفاجي في نسيم الرياض شرح شفا القاضي عياض في خاتمة أوردها عقب شرحه لفصل المعجزات الواقعة في الجمادات من الباب الرابع الخاص بالمعجزات النبوية من القسم الأوّل، والعلامة عبد الغني النابلسي في الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية، وقد أطال في محاولة إثبات هذه الآثار، وقال في رده على من نفى من العلماء وجود سند لها بأن «الراجح إثبات ذلك ميلاً إلى ما اتفق عليه عموم الناس واشتهر عَلَى ألسنة الخلف عن السلف، وإن لم يكن لهم مستند في ذلك فقد يكون لهم مستند وخفي عنا» اهـ. وممن ذهب إلى إثباتها من المتأخرين العلامة أحمد زيني دحلان في سيرته النبوية، قال العلامة ابن العجمي بعد أن لخص أقوال المثبتين من أهل عصره ومن قبلهم ما نصه: «وحاصل جميع ما تقدم الاعتراف بأن ذلك لا سند له وأنه على مجرد الشهرة، وهو غير كاف في إثبات نسبتها إليه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الخصوصيات لا تثبت بالاحتمالات؛ لأنها من الأمور السمعية المحضة التي لا مجال للعقل فيها بنفسه، فما وجدنا فيه نصًّا نتحدث به ونعتقده، وما لا نص فيه نكِل علمه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نتكلم به لعدم استقلال العقل فيه بنفسه دون نصّ» اهـ.
بقي أن الجلال السيوطي وإن أنكر ذلك في فتاواه فقد ذكره في باب ما اختص به صلى الله عليه وسلم عن أمته في أواخر خصائصه الصغرى نقلاً عن رزين العبدري ولكن بلا سند وسكت عنه كالمقر له حتى نسبه بعضهم إلى الاضطراب والتردد، وبعضهم إلى السهو والنسيان، ولم يعرف أيّ الكتابين أسبق في التأليف حتى يعول عَلَى ما في الأخير منهما ويُعدّ رجوعاً منه عما في الأول، وقد حاوَل الشهاب الخفاجي في شرح الشفا التوفيق بين صنيعيه بقوله: «قلت: لا سهو ولا نسيان فإن السّيوطي رحمه الله تعالى لم ينكر هذه المعجزة، وإنما أنكر ما يؤثر بعينه في الأماكن التي ذكروها». قلنا: يصح ذلك لو أن السّيوطي اقتصر في فتاواه عَلَى إنكاره التأثير في شيء بعينه، ولكنه مع إنكاره ذلك في بعض أحجار معروفة أنكر أيضاً تلين الصخر وتأثير القدم الشريفة فيه عَلَى العموم، وهذا نصّ ما جاء في السؤال الذي أجاب عنه: «مسألة فيما هو جارٍ على ألسنة العامة، وفي المدائح النبوية، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لانَ له الصّخر وأثرت قدمه فيه، وأنه كان إذا مشى على التراب لا تؤثر قدمه فيه، هل له أصل في كتب الحديث أو لا؟ وهل إذا ورد فيه شيء من خرّجه؟ وصحيح هو أو ضعيف؟ وهل ما ذكره الحافظ شمس الدين بن ناصر الدمشقي في معراجه الذي ألفه مسجعاً ولفظه: «ثم توجها نحو صخرة بيت المقدس وعلاها، فصعد من جهة الشرق أعلاها، فاضطربت تحت قدم نبينا ولانت، فأمسكتها الملائكة لما تحركت ومالت» ألهذا أصل في كتب الحديث صحيح أو ضعيف أو لا» إلى آخر ما ذكر من السؤال عن أثر القدم الذي هناك، وعن أثر المرفق بمكة وغير ذلك، فأجاب عما ذكر بقوله: «لم أقف له على أصل ولا سند، ولا رأيت من خرجه في شيء من كتب الحديث». ا.هـ. وذهب العلاقة ابن العجمي في تنزيه المصطفى المختار إلى أن المعتمد ما ذكره في الفتاوى لأن العلماء يتحرون في فتاواهم أكثر مما يتحرون في المصنفات، وأما كتابه الخصائص فقد جمع فيه ما قيل إنه من الخصوصيات ولم يعتمد جميع ما فيه، ولكل مقام مقال. ا.هـ. ملخصاً. قلنا: وفي قوله هذا نظر، لأنه لو كان قَصَد في هذا الكتاب جمع ما قيل بلا اعتماد جميع ما فيه لنبه على ذلك في مقدمته أو خاتمته، والمرجح عندنا أن عدم تعقبه ما نقله عن رَزين بأنه لا أصل له ولا سند على ما قرره في فتاواه لم يكن إلا سهواً منه وجل من لا يسهو. والله أعلم. ولنختم هذا البحث بما ختم به هذا الفاضل رسالته «تنزيه المصطفى المختار» فقال: «لا يخفى على ذوي البصائر أن ما ذكر آنفاً جميعه من عدم ثبوت هذه الأحجار المعينة بمصر وغيرها، إنما الغرض منه تنزيه الجناب الرفيع الأعلى والمقام الأسنى عن أن ينسب إلى حماه الأجل الأحمى، ما لم يثبت عنه أصلاً، ولا ورد لا قولاً ولا فعلاً، فلا يتوهم عاقل ألبتة من نفي ذلك نقصاً معاذ الله وحاشا وكلا، بل ذلك يقتضي زيادة رفعته العظيمة، وأناقة منزلته الكريمة، بحيث لا يحام حول ذلك الحمى الأعظم، إلا بما ورد عنه صلى اللهُ عليه وسلم، ونصّ عَلَى ثبوته من يوثق به من الأئمة الحافظ الأعلام، جهابذة الإسلام».
- ↑ الخواجة وقد يرسمه بعضهم بألف في آخر بدل التاء لفظ فارسي دخيل في التركية ويرسم في اللغتين بهاء في آخره غير منطوقة وهو لقب تكريم عندهم يرادف الأغا والأفندي والسيد وما في معناها، ويطلق أيضاً على الأساتذة المعلمين ولاسيما المشايخ المعممين منهم وقد يحرف في هذا المعنى، فيقال فيه: خوجه يحذف الألف التي بعد الواو، وفي الفوائد البهية في تراجم الحنفية أن النقشبندية يطلقون الخواجة على مشايخهم للتكريم، ورأينا في بعض التواريخ تلقيب الوزراء به ثم لقب به كبار التجار واستعمل في ذلك إلى عصر الجبرتي ولما كثر نزوح الإفرانج إلى مصر في أوائل هذا العصر، وكان أغلب الوافدين منهم في أول الأمر تجاراً كرموهم بهذا اللقب ثم توسعوا فيه فأطلقوه على كل إفرنجي ثم قيل أيضًا للوجيه من غير المسلمين، وإن لم يكن إفرنجياً، وقد فصَّلنا الكلام عليه في معجم العامية المصرية.
- ↑ أي ماء الورد.
- ↑ هي المقبرة الشمالية الواقعة شرقي مساكن القاهرة وكان حدوثها في القرن الثامن وسميت بذلك لأنها أقرب المقابر للأزهر، وبها مدافن مجاوريه أي طلبته وفيها بقعة يكثر دفن علمائه بها تعرف ببستان العلماء، ولما توفي الشيخ المعتقد عبد الوهاب العفيفي المدرس بالأزهر سنة ١١٧٢ ودفن في مقبرة المجاورين سميت أيضًا بقرافة العفيفي.
- ↑ قال العلامة أحمد بن العجمي في تنزيه المصطفى المختار «لو كان للحجر الذي قيل: إن قايتباي اشتراه مجرد شائبة شهرة أيضاً لذكره الجلال السيوطي في ترجمته وعدّه في مناقبه فإنه كان في زمانه وأثنى عليه».
- ↑ لم يذكر أحد من المؤرخين فيما نعلم أن زوجته دفنت معه بالقبة، والمذكور أن الذي دفن معه ولده السلطان الملك الناصر أبو السعادات محمد، وإنما بجوار حجرة القبة حجرة سفلى بها بعض قبور شاع بين الناس أن زوجة السلطان مدفونة في إحداها، والذي يؤخذ من تاريخ ابن إياس أن المدفون بهذه الحجرة جاسم وأخوه جاني بك ابنا عم الناصر محمد بن قايتباي وأزبك الخاصكي، والثلاثة ممن قتل مع الناصر المذكور.
- ↑ لا يعرف أنه زار القدم أو دخل هذا المسجد وغاية ما ذكره ابن إياس عنه أنه لما خرج من القاهرة يوم الخميس ٢٣ شعبان سنة ٩٢٣ عائداً إلى بلاده سار بين الترب إلى بركة الحاج فلما مر بتربة الأشراف قايتباي وقف هناك وقرأ الفاتحة وأهداها إليه.
- ↑ من ذلك قول بعضهم:
وعليك ظللت الغمامة في الورىوالجذع حن إلى كريم لقاكاوكذاك لا أثر لمشيك في الثرىوالصخر قد غاصت به قدماكا
وقول الإمام البوصيري في الهمزية:
أو بلثم التراب من قدم لانتحياء من مسها الصفواء:ويروى (من مشيها) قال العلامة ابن حجر الهيثمي في شرحه لهذا البيت: هذا الذي ذكره الناظم ذكره من تكلم على الخصائص لكن بلا سند.
- ↑ الخُنكار بضم فسكون معناه في التركية السلطان، وهو تحريف أو اختصار للفظ خدا وندكار بمعنى السلطان في الفارسية.
- ↑ قوله ابن عثمان هي نسبة إلى جدهم الأعلى لأن السلطان مراداً المذكور هو ابن سليم بن سليمان بن سليم إلى أن ينتهي النسب إلى عثمان، وكثيراً ما يعبر المؤرخون عن كل سلطان منهم بابن عثمان.
- ↑ قوله (وسيره) هو المنقوش على القبة كما رأيناه والذي في نسخ فتح المتعال التي اطلعنا عليها (وصيره) بالصاد، وقوله القسطنطنية هو بحذف الياء التي بعد الطاء الثانية لضرورة الوزن.
- ↑ هو المنقوش على القبة، والذي في نسخ فتح المتعال (وراجعه) وهو تحريف.
- ↑ نقلها عنه أيضاً أبو العباس أحمد بن محمد بن ناصر الدرعي في رحلته إلى الحجاز.
- ↑ وذكره الأسدي بعبارة مختصرة في إخبار الكرام بأخبار المسجد الحرام، وذكر كذلك الأثر الذي بغار المرسلات.
- ↑ لعله الذي سماه التقي الفاسي بالمتكأ في شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام إنْ لم يكن مراده بالمتكأ أثر المرفق أو شيئاً آخر غيرهما، وقد ذكر أنهما اثنان أحدهما بقرب باب الحرم المعروف بباب العمرة، والثاني في طريق التنعيم المعتادة، وقال: لعلهما سميا بذلك للراحة بالاتكاء عندهما من تعب السير إلى العمرة، ولم يذكر أنهما نبويان وذكر متكأ آخر منسوباً إليه صلى الله عليه وسلم بأجياد الصغير وهو دكة مرتفعة ملاصقة لدار شيخ الحجبة ومتكأ رابعًا بجهة أخرى من أجياد الصغير، ذكره الأزرقي وقال فيه: سمعت جدي أحمد بن محمد ويوسف بن محمد بن إبراهيم يسألان عن المتكأ، وهل صح عندهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اتكأ فيه؟ فرأيتهما ينكران ذلك ويقولان: لم نسمع به من ثبت».
- ↑ البَرَنيل كحزنبل أي بفتحتين فسكون ففتح، وإطفيح كإزميل أي بكسر الأول وهو اسم قرية مشهورة على ما في شرح القاموس للزبيدي.
- ↑ منه نسخة حسنة الخط كتبت سنة ٩٠١ بالخزانة البلدية بالإسكندرية مجلدة مع فضائل الشام لابن رجب الحنبلي ورقمها (١٣٥١ – د).
- ↑ اعتمدنا في نقل ذلك على نسخة مخطوطة من هذه الرحلة أوفى بكثير من المطبوعة بمطبعة الإخلاص.
- ↑ أي المعرفة بالفتاوى الحديثية لا فتاواه الفقهية الكبرى، وقد حذف العلامة الحفني من السؤال قول السائل: «وأنه لم يعط نبي معجزة إلا أعطى نبينا صلى الله عليه وسلم مثلها أو واحداً من أمته» لأنه غير داخل فيما أنكره المسئول، بل أجاب عنه بقوله: «والتحقيق أنه لم يعط نبي معجزة إلا أعطى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثلها أو أعظم منها».