انتقل إلى المحتوى

إقامة الدليل على إبطال التحليل/19

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


-كتاب الملاهي مسألة: عن اللعب بالشطرنج، أحرام هو أم مكروه أم مباح ؟ فإن قلتم حرام، فما الدليل على تحريمه، وإن قلتم مكروه فما الدليل على كراهته، أو يباح فما الدليل على إباحته ؟، الجواب: الحمد لله رب العالمين، اللعب بها منه ما هو محرم متفق على تحريمه ومنه ما هو محرم عند الجمهور، ومكروه عند بعضهم، وليس من اللعب بها ما هو مباح مستوي الطرفين عند أحد من أئمة المسلمين، فإن اشتمل اللعب بها على العوض كان حراما بالاتفاق، قال أبو عمر بن عبد البر إمام المغرب: أجمع العلماء على أن اللعب بها على العوض قمار لا يجوز، وكذلك لو اشتمل اللعب بها على ترك واجب، أو فعل محرم مثل أن يتضمن تأخير الصلاة عن وقتها، أو ترك ما يجب فيها من أعمالها الواجبة باطنا أو ظاهرا، فإنها حينئذ تكون حراما باتفاق العلماء، وقد ثبت في الصحيح: عن { النبي أنه قال: تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا صارت بين قرني شيطان قام، فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا }، فجعل النبي هذه الصلاة صلاة المنافقين، وقد ذم الله صلاتهم بقوله: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا }، وقال تعالى: { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون }، وقد فسر السلف السهو عنها بتأخيرها عن وقتها، وبترك ما يؤمر به فيه، كما بين النبي أن صلاة المنافق تشتمل على التأخير والتطفيف، قال سلمان الفارسي: إن الصلاة مكيال، فمن وفى وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين، وكذلك فسروا قوله: { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة }، قال: إضاعتها تأخيرها عن وقتها وإضاعة حقوقها، كما جاء في الحديث: { إن العبد إذا أكمل الصلاة بطهورها وقراءتها وخشوعها صعدت ولها برهان كبرهان الشمس، وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا لم يكمل طهورها وقراءتها وخشوعها فإنها تلف كما يلف الثوب، ويضرب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني }، والعبد وإن أقام صورة الصلاة الظاهرة فلا ثواب إلا على قدر ما حضر قلبه فيه منها، كما جاء في السنن لأبي داود، وغيره: عن { النبي أنه قال : إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها }، وقال ابن عباس رضي الله عنهما ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها، وإذا غلب عليها الوسواس ففي براءة الذمة منها ووجوب الإعادة قولان معروفان للعلماء: أحدهما: لا تبرأ الذمة، وهو قول أبي عبد الله بن حامد، وأبي حامد الغزالي وغيرهما "، والمقصود أن الشطرنج متى شغل عما يجب باطنا أو ظاهرا حرام باتفاق العلماء وشغله عن إكمال الواجبات أوضح من أن يحتاج إلى بسط، وكذلك لو شغل عن واجب من غير الصلاة من مصلحة النفس أو الأهل، أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، أو صلة الرحم أو بر الوالدين، أو ما يجب فعله من نظر في ولاية أو إمامة أو غير ذلك من الأمور، وقل عبد اشتغل بها إلا شغلته عن واجب، فينبغي أن يعرف أن التحريم في مثل هذه الصورة متفق عليه، وكذلك إذا اشتملت على محرم أو استلزمت محرما، فإنها تحرم بالاتفاق، مثل اشتمالها على الكذب واليمين الفاجرة، أو الخيانة التي يسمونها المغاضاة أو على الظلم، أو الإعانة عليه، فإن ذلك حرام باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك في المسابقة والمناضلة، فكيف إذا كان في الشطرنج، والنرد، ونحو ذلك، وكذلك إذا قدر أنها مستلزمة فسادا غير ذلك مثل اجتماع على مقدمات الفواحش، أو التعاون على العدوان، أو غير ذلك، أو مثل أن يفضي اللعب بها إلى الكثرة والظهور الذي يشتمل معه على ترك واجب أو فعل محرم فهذه الصور وأمثالها مما يتفق المسلمون على تحريمها فيها، وإذا قدر خلوها عن ذلك كله فالمنقول عن الصحابة المنع من ذلك، وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ شبههم بالعاكفين على الأصنام، كما في المسند عن { النبي أنه قال: شارب الخمر كعابد وثن }، والخمر والميسر قرينان في كتاب الله تعالى، وكذلك النهي عنها معروف عن ابن عمر وغيره من الصحابة، والمنقول عن أبي حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وأصحابه تحريمها، وأما الشافعي فإنه قال: أكره اللعب بها للخبر، واللعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وإن كرهناه أخف حالا من النرد، وهكذا نقل عنه غير هذا اللفظ مما مضمونه أنه يكرهها ويراها دون النرد ولا ريب أن كراهته كراهة تحريم فإنه قال للخبر، ولفظ الخبر الذي رواه هو عن مالك { من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله }، فإذا كره الشطرنج وإن كانت أخف من النرد وقد نقل عنه أنه توقف في التحريم وقال لا يتبين لي أنها حرام، وما بلغنا أن أحدا نقل عنه لفظا يقتضي نفي التحريم، والأئمة الذين لم تختلف أصحابهم في تحريمها أكثر ألفاظهم الكراهة، قال ابن عبد البر: أجمع مالك وأصحابه على أنه لا يجوز اللعب بالنرد، ولا بالشطرنج، وقالوا: لا تجوز شهادة المدمن المواظب على لعب الشطرنج، وقال يحيى: سمعت مالكا يقول: لا خير في الشطرنج وغيرها، وسمعته يكره اللعب بها وبغيرها من الباطل، ويتلو هذه الآية { فماذا بعد الحق إلا الضلال }، وقال أبو حنيفة: أكره اللعب بالشطرنج والنرد، فالأربعة تحرم كل اللهو، وقد تنازع الجمهور في مسألتين: إحداهما: هل يسلم على اللاعب بالشطرنج، فمنصوص أبي حنيفة، وأحمد والمعافى بن عمران، وغيرهم: أنه لا يسلم عليه، ومذهب مالك، وأبي يوسف، ومحمد: أنه يسلم عليه، ومع هذا أن مذهب مالك أن الشطرنج شر من النرد، ومذهب أحمد: أن النرد شر من الشطرنج كما ذكره الشافعي .

والتحقيق في ذلك أنهما إذا اشتملا على عوض، أو خلوا عن عوض فالشطرنج شر من النرد ; لأن مفسدة النرد فيها وزيادة مثل صد القلب عن ذكر الله، وعن الصلاة، وغير ذلك، ولهذا يقال: إن الشطرنج على مذهب القدر والنرد على مذهب الجبر، واشتغال القلب بالتفكر في الشطرنج أكثر، وأما إذا اشتمل النرد على عوض فالنرد شر وهذا هو السبب في كون أحمد والشافعي وغيرهما جعلوا النرد شرا لاستشعارهم أن العوض يكون في النرد دون الشطرنج، ومن هنا تبين الشبهة التي وقعت في هذا الباب، فإن الله تعالى حرم الميسر في كتابه، واتفق المسلمون على تحريم الميسر، واتفقوا على أن المغالبات المشتملة على القمار من الميسر، سواء كان بالشطرنج، أو بالنرد، أو بالجوز، أو بالكعاب، أو البيض، قاله غير واحد من التابعين كعطاء، وطاوس، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز، فالذين لم يحرموا الشطرنج كطائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم اعتقدوا أن لفظ الميسر لا يدخل فيه إلا ما كان قمارا، فيحرم لما فيه من أكل المال بالباطل، كما يحرم مثل ذلك في المسابقة، والمناضلة لو أخرج كل منهما السبق ولم يكن بينهما محلل حرموا ذلك لأنه قمار، وفي السنن: عن { النبي أنه قال: من أدخل فرسا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار }، والنبي حرم بيوع الغرر، لأنها من نوع القمار، مثل: أن يشتري العبد الآبق، والبعير الشارد، فإن وجده كان قد قمر البائع وإن لم يجده كان البائع قد قمره، فلما اعتقدوا أن هذه المغالبات إنما حرمت لما فيها من أكل المال بالباطل لم يحرموها إذا خلت عن العوض، ولهذا طرد هذا طائفة من أصحاب الشافعي المتقدمين في النرد فلم يحرموها إلا مع العوض، لكن المنصوص عن الشافعي وظاهر مذهبه تحريم النرد مطلقا، وإن لم يكن فيها عوض، ولهذا قال: أكرهها للخبر، فبين أن مستنده في ذلك الخبر لا القياس عنده، وهذا مما احتج به الجمهور عليه، فإنه إذا حرم النرد ولا عوض عليه فيها، فالشطرنج إن لم يكن مثلها فليس دونها، وهذا يعرفه من خبر حقيقة اللعب بها، فإن ما في النرد من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن إيقاع العداوة والبغضاء هو في الشطرنج أكثر بلا ريب، وهي تفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس، فتصد عقولهم وقلوبهم عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر مما يفعله بهم كثير من أنواع الخمور والحشيشة، وقليلها يدعو إلى كثيرها فتحريم النرد الخالية عن عوض مع إباحة الشطرنج، مثل تحريم الفطرة من خمر العنب وإباحة الغرفة من نبيذ الحنطة، وكما أن ذلك القول في غاية التناقض من جهة الاعتبار، والقياس، والعدل، فهكذا القول في الشطرنج والنرد، وتحريم النرد ثابت بالنص، كما في السنن عن أبي موسى عن { النبي أنه قال: من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله } وقد رواه مالك في الموطإ، وروايته عن عائشة رضي الله عنها أنه بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا لها عندهم نرد فأرسلت إليهم إن لم تخرجوها لأخرجكم من داري، وأنكرت ذلك عليهم، ومالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا وجد من أهله من يلعب بالنرد ضربه وكسرها، وفي بعض ألفاظ الحديث: عن أبي موسى قال: { سمعت رسول الله وذكرت عنده فقال: عصى الله ورسوله من ضرب بكعابها يلعب بها } فعلق المعصية بمجرد اللعب بها ولم يشترط عوضا بل فسر ذلك بأنه الضرب بكعابها .

وقد روى مسلم في صحيحه: عن أبي بريدة رضي الله عنه، عن { النبي أنه قال: من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه }، وفي لفظ آخر: { فليشقص الخنازير } فجعل النبي في هذا الحديث الصحيح اللاعب بها كالغامس يده في لحم الخنزير ودمه، والذي يشقص الخنازير، يقصبها ويقطع لحمها كما يصنع القصاب، وهذا التشبيه متناول اللعب بها باليد، سواء وجد أكل أو لم يوجد، كما أن غمس اليد في لحم الخنزير ودمه وتشقيص لحمه متناول لمن فعل ذلك سواء كان معه أكل بالفم، أو لم يكن فكما أن ذلك ينهى عنه وإن لم يكن معه أكل مال بالباطل، وهذا يتقرر بوجوه يتبين بها تحريم النرد والشطرنج ونحوهما: أحدها: أن يقال: النهي عن هذه الأمور ليس مختصا بصورة المقامرة فقط، فإنه لو بذل العوض أحد المتلاعبين أو أجنبي لكان من صور الجعالة، ومع هذا فقد نهي عن ذلك إلا فيما ينفع: كالمسابقة، والمناضلة، كما في الحديث الأسبق: { إلا في خف أو حافر أو نصل } لأن بذل المال فيما لا ينفع في الدين، ولا في الدنيا منهي عنه وإن لم يكن قمارا، وأكل المال بالباطل حرام بنص القرآن وهذه الملاعب من الباطل لقول النبي : { كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته فإنهن من الحق }، قوله: " من الباطل " أي مما لا ينفع، فإن الباطل ضد الحق: والحق يراد به الحق الموجود اعتقاده والخبر عنه، ويراد به الحق المقصود الذي ينبغي أن يقصد، وهو الأمر النافع، فما ليس من هذا فهو باطل ليس بنافع، وقد يرخص في بعض ذلك إذا لم يكن فيه مضرة راجحة لكن لا يؤكل به المال، ولهذا جاز السباق بالأقدام، والمصارعة، وغير ذلك، وإن نهي عن أكل المال به، وكذلك رخص في الضرب بالدف في الأفراح، وإن نهي عن أكل المال به، فتبين أن ما نهي عنه من ذلك ليس مخصوصا بالمقامرة، فلا يجوز قصر النهي على ذلك، ولو كان النهي عن النرد ونحوه لمجرد المقامرة لكان النرد مثل سباق الخيل، ومثل الرمي بالنشاب، ونحو ذلك، فإن المقامرة إذا دخلت في هذا حرموه، مع أنه عمل صالح، واجب أو مستحب، كما في الصحيح: عن النبي أنه قال: { ارموا واركبوا، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا }، { ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا }، وكان هو وخلفاؤه يسابقون بين الخيل، وقرأ على المنبر: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } الآية ثم قال: { ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي }، فكيف يشبه ما أمر الله به ورسوله، واتفق المسلمون على الأمر به، بما نهى الله عنه ورسوله وأصحابه من بعده، وإذا لم يجعل الموجب للتحريم إلا مجرد المقامرة كان النرد، والشطرنج، كالمناضلة، الوجه الثاني: أن يقال هب أن علة التحريم في الأصل هي المقامرة، لكن الشارع قرن بين الخمر والميسر في التحريم فقال تعالى: { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون }، فوصف الأربعة بأنها رجس من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها، ثم خص الخمر والميسر بأنه { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة }، ويهدد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى: { فهل أنتم منتهون } كما علق الفلاح بالاجتناب في قوله : ( فاجتنبوه لعلكم تفلحون )، ولهذا يقال إن هذه الآية دلت على تحريم الخمر والميسر من عدة أوجه، ومعلوم أن الخمر لما أمر باجتنابها حرم مقاربتها بوجه، فلا يجوز اقتناؤها ولا شرب قليلها، بل كان النبي قد أمر بإراقتها، وشق ظروفها، وكسر دنانها، ونهى عن تخليلها، وإن كانت ليتامى مع أنها اشتريت لهم قبل التحريم، ولهذا كان الصواب الذي هو المنصوص عن أحمد، وابن المبارك، وغيرهما أنه ليس في الخمر شيء محترم، لا خمرة الخلال ولا غيرها، وأنه من اتخذ خلا فعليه أن يفسده قبل أن يتخمر بأن يصب في العصير خلا وغير ذلك مما يمنع تخميره، بل كان { النبي نهى عن الخليطين } لئلا يقوى أحدهما على صاحبه فيفضي إلى أن يشرب الخمر المسكر من لا يدري، ونهى عن الانتباذ في الأوعية التي يدب السكر فيها ولا يدرى ما به: كالدباء والحنتم والظرف المزفت والمنقور من الخشب وأمر بالانتباذ في السقاء الموكئ لأن السكر ينظر، إذا كان في الشراب انشق الظرف، وإن كان في نسخ ذلك أو بعضه نزاع ليس هذا موضع ذكره، فالمقصود سد الذرائع المفضية إلى ذلك بوجه من الوجوه، وكذلك كان يشرب النبيذ ثلاثا، وبعد الثلاث يسقيه أو يريقه ; لأن الثلاث مظنة سكره، بل كان أمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة فهذا كله، لأن النفوس لما كانت تشتهي ذلك وفي اقتنائها ولو للتخليل ما قد يفضي إلى شربها، كما أن شرب قليلها يدعو إلى كثيرها فنهي عن ذلك، فهذا الميسر المقرون بالخمر إذا قدر أن علة تحريمه أكل المال بالباطل، وما في ذلك من حصول المفسدة وترك المنفعة، ومن المعلوم أن هذه الملاعب تشتهيها النفوس، وإذا قويت الرغبة فيها أو دخل فيها العوض كما جرت به العادة، وكان من حكم الشارع أن ينهى عما يدعو إلى ذلك، لو لم يكن فيه مصلحة راجحة، وهذا بخلاف المغالبات التي قد تنفع مثل: المسابقة والمصارعة، ونحو ذلك، فإن تلك فيها منفعة راجحة لتقوية الأبدان، فلم ينه عنها لأجل ذلك ولم تجر عادة النفوس بالاكتساب بها .

"والجهاد " هو بذل الوسع وهو القدرة في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلا على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه، ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبا إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة، فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة، فالمحب لله ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من المحبين لغير الله مما يحتملون في حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبتهم لله إذا كان ما يسلكه أولئك هو الطريق الذي يشير به العقل، ومن المعلوم أن المؤمن أشد حبا لله، كما قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله }، نعم، قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقا لا يحصل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة، فكيف إذا كانت المحبة فاسدة والطريق غير موصل، كما يفعله المتهورون في طلب المال، والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضررا، ولا تحصل لهم مطلوبا، وإنما المقصود الطرق التي يسلكها العقل لحصول مطلوبه، وإذا تبين هذا فكلما ازداد القلب حبا لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبا وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من " وجهين ": من جهة العبادة وهي العلة الغائبة ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية، فالقلب لا يصلح ولا يفلح، ولا يلتذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه وبذلك يحصل له الفرح، والسرور، واللذة، والنعمة، والسكون، والطمأنينة، وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائما مفتقر إلى حقيقة { إياك نعبد وإياك نستعين } فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه يريده، ولم يحصل له عبادته لله بحيث يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول وكل ما سواه إنما يحبه لأجله لا يحب شيئا لذاته إلا الله، فمتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة " لا إله إلا الله " ولا حقق التوحيد، والعبودية، والمحبة، وكان فيه من النقص والعيب، بل من الألم، والحسرة، والعذاب، بحسب ذلك، ولو سعى في هذا المطلوب ولم يكن مستعينا بالله، متوكلا عليه، مفتقرا إليه في حصوله لم يحصل له، فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود، ومن حيث هو المسئول المستعان به المتوكل عليه، فهو إلهه لا إله له غيره، وهو ربه لا رب له سواه، ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين " فمتى كان يحب غير الله لذاته أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه كان عبدا لما أحبه، وعبدا لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه، وإذا لم يحب لذاته إلا الله، وكلما أحب سواه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئا إلا الله وإذا فعل ما فعل من الأسباب، أو حصل ما حصل منها كان مشاهدا أن الله هو الذي خلقها وقدرها وأن كل ما في السموات والأرض فالله ربه، ومليكه، وخالقه، وهو مفتقر إليه، كان قد حصل له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك، والناس في هذا على درجات متفاوتة لا يحصي طرفيها إلا الله، فأكمل الخلق، وأفضلهم، وأعلاهم، وأقربهم إلى الله، وأقواهم، وأهداهم: أتمهم عبودية لله من هذا الوجه، وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره، فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاستسلام له مستكبر، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي : { أن الجنة لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر كما أن النار لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان } فجعل الكبر مقابلا للإيمان، فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية، كما ثبت في الصحيح: عن النبي أنه قال: { يقول الله: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته } فالعظمة والكبرياء من خصائص الربوبية، والكبرياء أعلى من العظمة ; ولهذا جعلها بمنزلة الرداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار، ولهذا كان شعار الصلوات، والأذان، والأعياد هو: التكبير، وكان مستحبا في الأمكنة العالية كالصفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفا أو ركب دابة ونحو ذلك، وبه يطفأ الحريق وإن عظم، وعند الأذان يهرب الشيطان، قال تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }، وكل من استكبر من عبادة الله لا بد أن يعبد غيره، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي أنه قال: { أصدق الأسماء حارث وهمام } فالحارث الكاسب الفاعل، والهمام فعال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائما، وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبدا لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلها من دون الله: كالشمس، والقمر، والكواكب، والأوثان، وقبور الأنبياء، والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء، الذين يتخذهم أربابا، أو غير ذلك مما عبد من دون الله، وإذا كان عبدا لغير الله يكون مشركا، وكل مستكبر فهو مشرك، ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارا عن عبادة الله، وكان مشركا، قال تعالى: { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب } إلى قوله: { وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } إلى قوله: { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار }، وقال تعالى: { وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين } وقال تعالى: { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم } وقال: { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين }، ومثل هذا في القرآن كثير، وقد وصف فرعون بالشرك في قوله: { وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك }، بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارا عن عبادة الله كان أعظم إشراكا بالله ; لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود: مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركا بما استعبده من ذلك، ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئا إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله يبرئه من الكبر والشرك، والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود، قال تعالى في النصارى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وقال في اليهود: { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون }، وقال تعالى: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا }، ولما كان الكبر مستلزما للشرك، والشرك ضد الإسلام، وهو الذنب الذي لا يغفره الله - قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما } وقال: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا } - كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام، فهو الدين الذي لا يقبل الله غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، قال نوح: { فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين } وقال في حق إبراهيم: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } إلى قوله: { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }، وقال يوسف: { توفني مسلما وألحقني بالصالحين } وقال موسى: { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين، فقالوا على الله توكلنا } وقال تعالى: { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } وقالت بلقيس { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وقال: { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأنا مسلمون } وقال { إن الدين عند الله الإسلام } وقال: { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه }، وقال تعالى: { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } فذكر إسلام الكائنات طوعا وكرها، لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر المقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون مدبرون، فهم مسلمون له طوعا وكرها، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين، ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب، مصنوع، مفطور، فقير، محتاج، معبد، مقهور، وهو الواحد القهار الخالق البارئ المصور، وهو وإن كان قد خلق ما خلق بأسباب، فهو خالق السبب والمقدر له، وهو مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل ولا دفع ضرر بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه ويمانعه، وهو سبحانه وحده الغني عن كل ما سواه، ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه، قال تعالى: { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير } وقال تعالى عن الخليل: { يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا } إلى قوله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }، وفي الصحيحين: { عن ابن مسعود رضي الله عنه إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي وقالوا: يا رسول الله، أينا لم يلبس إيمانه بظلم، فقال: إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: { إن الشرك لظلم عظيم } }، وإبراهيم الخليل إمام الحنفاء المخلصين حيث بعث وقد طبق الأرض دين المشركين، قال الله تعالى: { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } فبين أن عهده بالإمامة لا يتناول الظالم، فلم يأمر الله سبحانه أن يكون الظالم إماما، وأعظم الظلم الشرك، وقال تعالى: { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين }، " والأمة " هو معلم الخير الذي يؤتم به، كما أن " القدوة " الذي يقتدى به، والله تعالى جعل في ذريته النبوة والكتاب، وإنما بعث الأنبياء بعده بملته قال تعالى: { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } وقال تعالى: { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين }، وقال تعالى: { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين } وقال تعالى: { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } - إلى قوله - { ونحن له مسلمون }، وقد ثبت في الصحيح: { عن النبي أن إبراهيم خير البرية } فهو أفضل الأنبياء بعد النبي وهو خليل الله تعالى، وقد ثبت في الصحيح عن النبي من غير وجه أنه قال: { إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا } وقال: { لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله } - يعني نفسه - وقال { لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر }، وقال: { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك } وكل هذا في الصحيح، وفيه أنه قال: ذلك قبل موته بأيام، وذلك من تمام رسالته. فإن في ذلك تحقيق تمام مخاللته لله التي أصلها محبة الله تعالى للعبد، ومحبة العبد لله خلافا للجهمية، وفي ذلك تحقيق توحيد الله، وأن لا يعبدوا إلا إياه، ورد على أشباه المشركين، وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكا بالبشر .

ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلام: { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } فوصف نفسه ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره وهي صيغة خبر تضمنت السؤال، وهذا من باب حسن الأدب في السؤال والدعاء، فقول القائل لمن يعظمه ويرغب إليه: أنا جائع، أنا مريض، حسن أدب في السؤال، وإن كان في قوله: أطعمني وداوني ونحو ذلك مما هو بصيغة الطلب طلب جازم من المسئول، فذاك فيه إظهار حاله، وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال، وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب، وهذه الصيغة " صيغة الطلب والاستدعاء " إذا كانت لمن يحتاج إليه الطالب أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك، فإنها تقال على وجه الأمر: إما لما في ذلك من حاجة الطالب، وإما لما فيه من نفع المطلوب، فأما إذا كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار وإظهار الحال، ووصف الحاجة والافتقار هو سؤال بالحال، وهو أبلغ من جهة العلم والبيان، وذلك أظهر من جهة القصد والإرادة، فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني، لأن الطالب السائل يتصور مقصوده ومراده فيطلبه ويسأله فهو سؤال بالمطابقة والقصد الأول، وتصريح به باللفظ، وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل والمسئول، فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين، فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضي للسؤال والإجابة، ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال، فيتضمن السؤال والمقتضى له والإجابة { كقول النبي لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما قال له علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم }، أخرجاه في الصحيحين، فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة، وفيه وصف ربه الذي يوجب أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره، وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه، وفيه بيان المقتضي للإجابة وهو وصف الرب بالمغفرة والرحمة فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب، وكثير من الأدعية يتضمن بعد ذلك، كقول موسى عليه السلام: { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الإجابة، وقوله: { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } فيه وصف حال النفس والطلب، وقوله: { إني لما أنزلت إلي من خير فقير } فيه الوصف المتضمن للسؤال بالحال، فهذه أنواع لكل نوع منها خاصة، يبقى أن يقال فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب ؟، فيقال: لأن المقام مقام اعتراف بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي، فأصل الشر هو الذنب، والمقصود دفع الضر والاستغفار جاء بالقصد الثاني، فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لاستشعاره أنه مسيء ظالم، وهو الذي أدخل الضر على نفسه، فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه، ولم يذكر صيغة طلب المغفرة لأنه مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني ; بخلاف كشف الكرب فإنه مقصود له في حال وجوده بالقصد الأول، إذ النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها زوال ما تخاف وجوده من الضرر في المستقبل بالقصد الثاني، والمقصود الأول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر، فهذا مقدم في قصده وإرادته، وأبلغ ما ينال به رفع سببه فجاء بما يحصل مقصوده، وهذا يتبين بالكلام على قوله: { سبحانك } فإن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه، والمقام يقتضي تنزيهه عن الظلم والعقوبة بغير ذنب، يقول: أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب ; بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي، قال تعالى: { وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } وقال تعالى: { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } وقال: { وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين } وقال آدم عليه السلام: { ربنا ظلمنا أنفسنا }، وكذلك قال النبي في الحديث الصحيح الذي في مسلم في دعاء الاستفتاح { اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت }، وفي صحيح البخاري { سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة }، فالعبد عليه أن يعترف بعدل الله وإحسانه فإنه لا يظلم الناس شيئا، فلا يعاقب أحدا إلا بذنبه، وهو يحسن إليهم فكل نقمة منه عدل وكل نعمة منه فضل، فقوله: { لا إله إلا أنت } فيه إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد فإن " الإله " هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع ; والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل، وقوله: { سبحانك } يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم وغيره من النقائص ; فإن التسبيح وإن كان يقال: يتضمن نفي النقائص، وقد روي في حديث مرسل من مراسيل موسى بن طلحة عن النبي في { قول العبد: سبحان الله: إنها براءة الله من السوء } فالنفي لا يكون مدحا إلا إذا تضمن ثبوتا وإلا فالنفي المحض لا مدح فيه، ونفي السوء والنقص عنه يستلزم إثبات محاسنه وكماله، ولله الأسماء الحسنى، وهكذا عامة ما يأتي به القرآن في نفي السوء والنقص عنه يتضمن إثبات محاسنه وكماله، كقوله تعالى: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } فنفي أخذ السنة والنوم له يتضمن كمال حياته وقيوميته وقوله: { وما مسنا من لغوب } يتضمن كمال قدرته، ونحو ذلك، فالتسبيح المتضمن تنزيهه عن السوء، ونفي النقص عنه يتضمن تعظيمه، ففي قوله: { سبحانك } تبرئته من الظلم، وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم، فإن الظالم إنما يظلم لحاجته إلى الظلم أو لجهله، والله غني عن كل شيء، عليم بكل شيء، وهو غني بنفسه، وكل ما سواه فقير إليه، وهذا كمال العظمة، وأيضا ففي هذا الدعاء التهليل والتسبيح فقوله: { لا إله إلا أنت } تهليل، وقوله: { سبحانك } تسبيح، وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: { أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر }، والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع له، والتكبير مقرون بالتهليل وتابع له، وفي الصحيح { عن النبي أنه سئل أي الكلام أفضل ؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده } وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: { كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم }، وفي القرآن: { فسبح بحمد ربك } وقالت الملائكة: { ونحن نسبح بحمدك }، وهاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد، والأخرى بالتعظيم، فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص المتضمن إثبات المحاسن والكمال، والحمد إنما يكون على المحاسن، وقرن بين الحمد والتعظيم كما قرن بين الجلال والإكرام، إذ ليس كل معظم محبوبا محمودا، ولا كل محبوب محمودا معظما، وقد تقدم أن العبادة تتضمن كمال الحب المتضمن معنى الحمد، وتتضمن كمال الذل المتضمن معنى التعظيم، ففي العبادة حبه وحمده على المحاسن، وفيها الذل الناشئ عن عظمته وكبريائه، ففيها إجلاله وإكرامه، وهو سبحانه المستحق للجلال والإكرام، فهو مستحق غاية الإجلال وغاية الإكرام، ومن الناس من يحسب أن " الجلال " هو الصفات السلبية " والإكرام " الصفات الثبوتية، كما ذكر ذلك الرازي ونحوه والتحقيق أن كليهما صفات ثبوتية، وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص، لكن ذكر نوعي الثبوت وهو ما يستحق أن يحب وما يستحق أن يعظم: كقوله: { إن الله هو الغني الحميد } وقول سليمان عليه السلام: { فإن ربي غني كريم } وكذلك قوله: { له الملك وله الحمد } فإن كثيرا ممن يكون له الملك والغنى لا يكون محمودا بل مذموما، إذ الحمد يتضمن الإخبار عن المحمود بمحاسنه المحبوبة، فيتضمن إخبارا بمحاسن المحبوب محبة له، وكثير ممن له نصيب من الحمد والمحبة يكون فيه عجز وضعف وذل ينافي العظمة والغنى والملك، فالأول يهاب ويخاف ولا يحب، وهذا يحب ويحمد، ولا يهاب ولا يخاف، والكمال اجتماع الوصفين، كما ورد في الأثر { أن المؤمن رزق حلاوة ومهابة } وفي نعت النبي { كان من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه }، فقرن التسبيح بالتحميد، وقرن التهليل بالتكبير ; كما في كلمات الأذان، ثم إن كل واحد من النوعين يتضمن الآخر إذا أفرد: فإن التسبيح والتحميد يتضمن التعظيم ; ويتضمن إثبات ما يحمد عليه وذلك يستلزم الإلهية فإن الإلهية تتضمن كونه محبوبا ; بل تتضمن أنه لا يستحق كمال الحب إلا هو، والحمد هو الإخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق أن يحب فالإلهية تتضمن كمال الحمد ; ولهذا كان " الحمد لله " مفتاح الخطاب ; وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم " وسبحان الله " فيها إثبات عظمته كما قدمناه ; ولهذا قال: { { فسبح باسم ربك العظيم } وقد قال النبي : اجعلوها في ركوعكم } رواه أهل السنن، وقال: { أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء فقمن أن يستجاب لكم } رواه مسلم فجعل التعظيم في الركوع أخص منه بالسجود والتسبيح يتضمن التعظيم، ففي " قوله " سبحان الله وبحمده " إثبات تنزيهه وتعظيمه وإلهيته وحمده، وأما قوله: " لا إله إلا الله والله أكبر " ففي لا إله إلا الله [ إثبات ] محامده، فإنها كلها داخلة في إثبات إلهيته وفي قوله: " الله أكبر " إثبات عظمته فإن الكبرياء يتضمن العظمة ولكن الكبرياء أكمل، ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول: " الله أكبر " فإن ذلك أكمل من قول الله أعظم، كما ثبت في الصحيح: عن النبي أنه قال: { يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما عذبته } فجعل العظمة كالإزار، والكبرياء كالرداء، ومعلوم أن الرداء أشرف، فلما كان التكبير أبلغ من التعظيم صرح بلفظه، وتضمن ذلك التعظيم، وفي قوله: سبحان الله، صرح فيها بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم، فصار كل من الكلمتين متضمنا معنى الكلمتين الأخريين من إذا أفردتا، وعند الاقتران تعطي كل كلمة خاصيتها، وهذا كما أن كل اسم من أسماء الله فإنه يستلزم معنى الآخر ; فإنه يدل على الذات، والذات تستلزم معنى الاسم الآخر، لكن هذا باللزوم، وأما دلالة كل اسم على خاصيته وعلى الذات بمجموعهما فبالمطابقة، ودلالتها على أحدهما بالتضمن، فقول الداعي: { لا إله إلا أنت سبحانك } يتضمن معنى الكلمات الأربع اللاتي هن أفضل الكلام بعد القرآن، وهذه الكلمات تتضمن معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ففيها كمال المدح، وقوله: { إني كنت من الظالمين } فيه اعتراف بحقيقة حاله، وليس لأحد من العباد أن يبرئ نفسه عن هذا الوصف، لا سيما في مقام مناجاته لربه، وقد ثبت في الصحاح: عن النبي أنه قال: { لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى }، وقال: { من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب } فمن ظن أنه خير من يونس بحيث يعلم أنه ليس عليه أن يعترف بظلم نفسه فهو كاذب، ولهذا كان سادات الخلائق لا يفضلون أنفسهم على يونس في هذا المقام، بل يقولون: كما قال أبوهم آدم وخاتمهم محمد .

-وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - عن قول النبي : { دعوة أخي ذي النون: { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }، ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته } ما معنى هذه الدعوة ؟ ولم كانت كاشفة للكرب ؟ وهل لها شروط باطنة عند النطق بلفظها ؟ وكيف مطابقة اعتقاد القلب لمعناها، حتى يوجب كشف ضره ؟ وما مناسبة ذكره: { إني كنت من الظالمين } مع أن التوحيد يوجب كشف الضر ؟ وهل يكفيه اعترافه، أم لا بد من التوبة والعزم في المستقبل ؟ وما هو السر في أن كشف الضر وزواله يكون عند انقطاع الرجاء عن الخلق والتعلق بهم ؟ وما الحيلة في انصراف القلب عن الرجاء للمخلوقين والتعلق بهم بالكلية، وتعلقه بالله تعالى ورجائه وانصرافه إليه بالكلية، وما السبب المعين على ذلك ؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين لفظ " الدعاء والدعوة " في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة، قال الله تعالى: { فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين } وقال تعالى: { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } وقال تعالى: { ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو } وقال: { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } وقال: { إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا } وقال تعالى: { له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه } وقال تعالى: { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } وقال في آخر السورة: { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم }، قيل: لولا دعاؤكم إياه، وقيل: لولا دعاؤه إياكم، فإن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة، وإلى المفعول تارة، ولكن إضافته إلى الفاعل أقوى ; لأنه لا بد له من فاعل، فلهذا كان هذا أقوى القولين، أي ما يعبأ بكم لولا أنكم تدعونه فتعبدونه وتسألونه: { فقد كذبتم فسوف يكون لزاما } أي عذاب لازم للمكذبين، ولفظ " الصلاة في اللغة " أصله الدعاء، وسميت الصلاة دعاء لتضمنها معنى الدعاء، وهو العبادة والمسألة، وقد فسر قوله تعالى: { ادعوني أستجب لكم }، بالوجهين، قيل: اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم، كما قال تعالى: { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي يستجيب لهم، وهو معروف في اللغة، يقال: استجابه واستجاب له كما قال الشاعر: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب وقيل: سلوني أعطكم، وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: { ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له } فذكر أولا لفظ الدعاء، ثم ذكر السؤال والاستغفار، والمستغفر سائل كما أن السائل داع ; لكن ذكر السائل لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير، وذكرهما جميعا بعد ذكر الداعي الذي يتناولهما وغيرهما فهو من باب عطف الخاص على العام، وقال تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }، وكل سائل راغب راهب، فهو عابد للمسئول، وكل عابد له فهو أيضا راغب وراهب يرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل عابد سائل وكل سائل عابد، فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، ولكن إذا جمع بينهما: فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال، والعابد الذي يريد وجه الله والنظر إليه هو أيضا راج خائف راغب راهب: يرغب في حصول مراده، ويرهب من فواته، قال تعالى: { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا } وقال تعالى: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا } ولا يتصور أن يخلو داع لله - دعاء عبادة أو دعاء مسألة - من الرغب والرهب من الخوف والطمع، وما يذكر عن بعض الشيوخ أنه جعل الخوف والرجاء من مقامات العامة، فهذا قد يفسر مراده بأن المقربين يريدون وجه الله فيقصدون التلذذ بالنظر إليه، وإن لم يكن هناك مخلوق يتلذذون به، وهؤلاء يرجون حصول هذا المطلوب ويخافون حرمانه، فلم يخلو عن الخوف والرجاء لكن مرجوهم ومخوفهم بحسب مطلوبهم، ومن قال من هؤلاء: لم أعبدك شوقا إلى جنتك ولا خوفا من نارك، فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات، والنار اسم لا عذاب فيه إلا ألم المخلوقات، وهذا قصور وتقصير منهم عن فهم مسمى الجنة، بل كل ما أعده الله لأوليائه فهو من الجنة، والنظر إليه هو من الجنة، ولهذا { كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته قال: إني أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال: حولها ندندن }، وقد أنكر على من قال هذا الكلام يعني أسألك لذة النظر إلى وجهك فريق من أهل الكلام، ظنوا أن الله لا يتلذذ بالنظر إليه، وأنه لا نعيم إلا بمخلوق، فغلط هؤلاء في معنى الجنة كما غلط أولئك، لكن أولئك طلبوا ما يستحق أن يطلب، وهؤلاء أنكروا ذلك، وأما التألم بالنار فهو أمر ضروري، ومن قال: لو أدخلني النار لكنت راضيا، فهو عزم منه على الرضا، والعزائم قد تنفسخ عند وجود الحقائق ومثل هذا يقع في كلام طائفة مثل سمنون الذي قال: وليس لي في سواك حظ فكيف ما شئت فامتحني فابتلي بعسر البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب، قال تعالى: { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون }، وبعض من تكلم في علل المقامات جعل الحب والرضا والخوف والرجاء من مقامات العامة بناء على مشاهدة القدر، وأن من شهد القدر فشهد توحيد الأفعال حتى فني من لم يكن وبقي من لم يزل، يخرج عن هذه الأمور، وهذا كلام مستدرك حقيقة وشرعا، أما الحقيقة فإن الحي لا يتصور أن لا يكون حساسا محبا لما يلائمه مبغضا لما ينافره، ومن قال إن الحي يستوي عنده جميع المقدورات فهو أحد رجلين: إما أنه لا يتصور ما يقول بل هو جاهل، وإما أنه مكابر معاند ولو قدر أن الإنسان حصل له حال أزال عقله - سواء سمي اصطلاما أو محوا أو فناء أو غشيا أو ضعفا - فهذا لم يسقط إحساس نفسه بالكلية، بل له إحساس بما يلائمه وما ينافره، وإن سقط إحساسه ببعض الأشياء فإنه لم يسقط بجميعها، فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع والفناء فلا يشهد فرقا فإنه غالط، بل لا بد من الفرق فإنه أمر ضروري، لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقي في الفرق الطبعي، فيبقى متبعا لهواه لا مطيعا لمولاه، ولهذا لما وقعت " هذه المسألة " بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم " الفرق الثاني " وهو: أن يفرق بين المأمور والمحظور، وبين ما يحبه الله وما يكرهه مع شهوده للقدر الجامع، فيشهد الفرق في القدر الجامع، ومن لم يفرق بين المأمور والمحظور خرج عن دين الإسلام، وهؤلاء الذين يتكلمون في الجمع لا يخرجون عن الفرق الشرعي بالكلية وإن خرجوا عنه كانوا كفارا من شر الكفار، وهم الذين يخرجون إلى التسوية بين الرسل وغيرهم، ثم يخرجون إلى القول بوحدة الوجود، فلا يفرقون بين الخالق والمخلوق ; ولكن ليس كل هؤلاء ينتهون إلى هذا الإلحاد، بل يفرقون من وجه دون وجه فيطيعون الله ورسوله تارة، ويعصون الله ورسوله تارة، كالعصاة من أهل القبلة، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، والمقصود هنا: أن لفظ " الدعوة والدعاء " يتناول هذا وهذا، قال الله تعالى: { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } وفي الحديث: { أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله } رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا، وقال النبي في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: { دعوة أخي ذي النون { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته } سماها " دعوة " لأنها تتضمن نوعي الدعاء، فقوله لا إله إلا أنت اعتراف بتوحيد الإلهية، وتوحيد الإلهية يتضمن أحد نوعي الدعاء، فإن الإله هو المستحق لأن يدعى دعاء عبادة ودعاء مسألة، وهو الله لا إله إلا هو، وقوله: { إني كنت من الظالمين }، اعتراف بالذنب، وهو يتضمن طلب المغفرة، فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب، وتارة يسأل بصيغة الخبر، إما بوصف حاله، وإما بوصف حال المسئول، وإما بوصف الحالين، كقول نوح عليه السلام { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } فهذا ليس صيغة طلب، وإنما هو إخبار عن الله أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر، ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة، وكذلك قول آدم عليه السلام: { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } هو من هذا الباب، ومن ذلك قول موسى عليه السلام: { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل الله إليه من الخير، وهو متضمن لسؤال الله إنزال الخير إليه، وقد روى الترمذي وغيره عن النبي قال: { من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين } رواه الترمذي وقال حديث، حسن، ورواه مالك بن الحويرث وقال: { من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين } وأظن البيهقي رواه مرفوعا بهذا اللفظ، وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله: { أفضل الدعاء يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } فذكر هذا الحديث وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جدعان، أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضه الثناء قال: فهذا مخلوق يخاطب مخلوقا فكيف بالخالق تعالى، ومن هذا الباب الدعاء المأثور عن موسى عليه السلام: " اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان " فهذا خبر يتضمن السؤال .

وإن كانت الحيلة فعلا يفضي إلى التحليل له أو لغيره، مثل أن يقتل رجلا ليتزوج امرأته أو ليزوجها صديقا له فهنا تحل المرأة بغير من قصد تزوجها به، فإنها بالنسبة إليه كما لو قتل الزوج لمعنى فيه، وأما الذي قصد بالقتل أن يتزوج المرأة إما بمواطأتها أو غير مواطأتها فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لو خلل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع من غير أن يلقي فيها شيئا فإن التخليل لما حصل بفعل محرم اختلف فيه، والصحيح أنها لا تطهر، وإن كانت لو تخللت بفعل الله حلت، وكذلك هذا الرجل لو مات بدون هذا القصد حلت، فإذا قتله لهذا القصد أمكن أن تحرم عليه مع حلها لغيره، ويشبه هذا الحلال إذا صاد الصيد وذبحه لحرام فإنه يحرم على ذلك المحرم ويحلل للحلال، ومما يؤيد هذا: أن القاتل يمنعه الإرث ولم يمنع غيره من الورثة لكن لما كان مال الرجل تتطلع عليه نفوس الورثة كان القتل مما يقصد به المال، بخلاف الزوجة فإن ذلك لا يكاد يقصد، إذ التفات الرجل إلى امرأة غيره بالنسبة إلى التفات الوارث إلى مال الموروث قليل فكونه يقتله ليتزوجها أقل فلذلك لم يشرع أن كل من قتل رجلا حرمت عليه امرأته كما يمنع ميراثه، فإذا قصد التزوج فقد وجدت حقيقة لحكمة فيه فيعاقب بنقيض قصده، فأكثر ما يقال في رد هذا أن الأفعال المحرمة لحق الله سبحانه وتعالى لا تفيد الحل كذبح الصيد وتحليل الخمر والتذكية في غير المحلل، أما المحرم لحق آدمي كذبح المغصوب فإنه يفيد الحل، أو يقال أن الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع كالذكاة والقتل لم يشرع لحل المرأة، وإنما انقضاء النكاح بانقضاء الأجل فحصل الحل ضمنا وتبعا، ويمكن أن يقال في جواب هذا أن قتل الآدمي حرام لحق الله سبحانه وحق الآدمي، ألا ترى أنه لا يستباح بالإباحة، بخلاف ذبح المغصوب فإنه إنما حرم لمحض حق الآدمي فإنه لو أباحه حل، وفي الحقيقة فالمحرم هناك إنما هو تفويت المالية على المالك لا إزهاق الروح، ثم يقال قد اختلف في الذبح بآلة مغصوبة، وقد ذكر فيه عن الإمام أحمد روايتان، وكذلك اختلف العلماء في ذبح المغصوب، وإن كان المعروف عندنا أنه ذكي كما قد نص عليه الإمام أحمد وفيه حديث رافع بن خديج المشهور في ذبح الغنم المنهوبة، والحديث الآخر أن المرأة التي أضافت النبي لما ذبحت له الشاة التي أخذتها بدون إذن أهلها فقصت عليه القصة فقال أطعموها للأسارى وهذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع منه المذبوح له دون غيره كما أن الصيد إذا ذبحه الحلال لحرام حرم على الحرام دون الحلال، وقد نقل صالح عن أبيه قال لو أن رجلا سرق شاة فذبحها قال لا يحل أكلها يعني له قلت لأبي فإن ردها على صاحبها قال تؤكل، فهذه الرواية قد يؤخذ منها أنها حرام على الذابح مطلقا ; لأنه لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن في الأكل لم يخص الذابح بالتحريم، فهذا القول الذي دل عليه الحديث في الحقيقة حجة لتحريم مثل هذه المرأة على القاتل ليتزوجها دون غيره بطريق الأولى فتلخص أن الحيل نوعان: أقوال وأفعال، والأقوال يشترط لثبوت أحكامها العقل، ويعتبر فيها القصد، وتكون صحيحة تارة وهو ما ترتب أثره عليه فأفاد حكمه، وفاسدة أخرى وهو ما لم يكن كذلك، ثم ما ثبت حكمه منه ما يمكن فسخه ورفعه بعد وقوعه كالبيع والنكاح، ومنه ما لا يمكن رفعه بعد وقوعه كالعتق والطلاق فهذا الضرب إذا قصد به الاحتيال على فعل محرم أو إسقاط واجب أمكن إبطاله إما من جميع الوجوه وإما من الوجه الذي يبطل مقصود المحتال بحيث لا يترتب عليه حكمه للمحتال عليه كما حكم به أصحاب رسول الله في طلاق العار وكما يحكم به في الإقرار الذي يتضمن حقا للمقر وعليه وكما يحكم به فيمن اشترى عبدا يعترف بأنه حر، وأما الأفعال فإن اقتضت الرخصة للمحتال لم يحصل كالسفر للقصر والفطر، وإن اقتضت تحريما على الغير فإنه قد يقع ويكون بمنزلة إتلاف النفس والمال وإن اقتضت حلا عاما إما بنفسها أو بواسطة زوال الملك، فهذه مسألة القتل، وذبح الصيد للحلال وذبح المغصوب للغاصب، وبالجملة إذا قصد بالفعل استباحة محرم لم يحل له، وإن قصد إزالة ملك الغير لتحل فالأقيس أن لا يحل له أيضا، وإن حل لغيره، وهنا مسائل كثيرة لا يمكن ذكرها هنا .

وهذه مسألة تخصيص العلة وفسادها بالنقض مطلقا خير أو لم يخير، والناس في هذه المسألة من أصحابنا وغيرهم مختلفون خلافا مشهورا، فمن قال بتخصيصها فرق بين الشرط وجزاء العلة وعدم المانع وقال قد تقدم الحكم مع بقائها إذا صادفها مانع أو تخلى عنها الشرط المعين، ومن لم يخصصها فعنده الجميع شيء واحد ومتى تخلف عنها الحكم لم يكن علة بحال بل يكون بعض علة، وفصل الخطاب أن العلة الموجبة - وهي العلة التامة التي يجب وجود معلولها عند وجودها - فهذه لا تخصص، ويقال على العلة المقتضية وإن كانت ناقصة - وهي ما من شأنها أن تقتضي ولكن بشرط أن تصادف محلا لا يعوق - فهذه تخصص، فالنزاع عاد إلى عبارة كما تراه، ويعود أيضا إلى ملاحظة عقلية وهو أنه عند تخلف المعلول لأجل المعارض هل يلاحظ في العلة وصف الاقتضاء ممنوعا بمنزلة الحجر الهابط إذا صادف سقفا، وبمنزلة ذي الشهوة الغالبة بحضرة من يهابه ؟ أو يلاحظ معدوما بمنزلة العينين وبمنزلة العشرة إذا نقص منها واحد فإنها لم تبق عشرة، فإذا كان النزاع يعود إلى اعتبار عقلي، أو إلى إطلاق لفظي لا إلى حكم عملي أو استدلالي فالأمر قريب، وإن كان هذا الخلاف يترتب عليه إصلاح جدلي وهو أنه هل يقبل من المستدل خبر النقض بالفرق بين صورة النزاع وصورة النقض، أو لا يقبل منه ذلك بل عليه أن يأتي بوصف يطرد لا ينتقض ألبتة ومتى انتقض انقطع فيه أيضا اصطلاحان للمتجادلين، وكان الغالب على أهل العراق في حدود المائة الرابعة قبلها وبعدها إلى قريب من المائة الخامسة إلزام المستدل بطرد علته في مناظراتهم ومصنفاتهم، وأما أهل خراسان فلا يلزمونه بذلك بل يلزمونه تبيان تأثير العلة ويجيزون النقض بالفرق، وهذا هو الذي غلب على العراقيين بعد المائة الخامسة، وتجد الكتب المصنفة لأصحابنا وغيرهم في الخلاف بحسب اصطلاح زمانهم ومكانهم، فلما كان العراقيون في زمن القاضي أبي يعلى والقاضي عبد الوهاب من مصر وأبي إسحاق الشيرازي ونحوهم يوجبون الاطراد غلب على أقيستهم تحرير العبارات وضبط القياسات المطردات ويستفاد منها القواعد الكليات، لكن تبدد الذهن عن نكتة المسألة يحوج المتكلم أو المستمع إلى أن يشتغل بما لا يعنيه في تلك المسألة عما يعنيه، ولهذا كانوا يكلفون بأن يأتي بقياس مطرد ولا يظهر خروج وصفه عن جنس العلل الشرعية وإن لم يقم دليلا على أن ذلك الوصف علة للحكم وربما غلا بعضهم في الطرديات، ولما كان العراقيون المتأخرون لا يلزمون هذا فتحوا على نفوسهم سؤال المطالبة بتأثير الوصف وطوائف من متقدمي الخراسانيين فيستفاد من طريقهم الكلام في المناسبات والتأثيرات بحسب ما أحاطوا به من العلم أثرا ورأيا، وهذا أشد على المستدل من حيث احتياجه إلى إقامة الدليل على تأثير الوصف، والأول أشد عليه من حيث احتياجه إلى الاحتراز عن النقض، ولهذا سمى بعضهم الأولين أصحاب الطرد، وسمى الآخرين أصحاب التأثير، وليس المراد بكونهم أصحاب الطرد أنهم يكتفون بمجرد الوصف المطرد الذي لا يظهر فيه اقتضاء للحكم ولا دلالة عليه ولا إشعار به، فإن هذا يبطله جماهيرهم ولم يكن يقول به ويستعمله إلا شرذمة من الطاردين، وفي كل واحدة من الطريقتين ما يقبل ويرد، ولا يمكن هنا تفصيل القول في ذلك، لكن الراجح في الجملة قول من يخصص العلة لفوات شرط أو لوجود مانع فإن ملاحظته أقرب إلى المعقول وأشبه بالمنقول، وعلى ذلك تصرفات الصحابة والسلف من أئمة الفقهاء وغيرهم، ولهذا رجع القاضي أبو يعلى في آخر عمره إلى ذلك، وذكر أن أكثر كلام أحمد يدل عليه، وهو كما قال، وغيره يقول إنه مذهب الأئمة الأربعة، ولا شك أن من تأمل مناظرتهم علم أنهم كانوا يخصون التعليل بوجود المانع، وأنهم كانوا يجيزون النقض بالفرق بين الفرع وبين صورة النقض إذا كان الفرق مغلوسا في الأصل المقيس عليه أي أن يكون الوصف القائم بصورة النقض مانعا غير موجود في الأصل كما أنه ليس بموجود في الفرع إذ لو كان موجودا في الأصل لم يكن مانعا ولو كان موجودا في الفرع لم يجز النقض وهذا عين الفقه، بل هو عين كل علم بل هو عين كل نظر صحيح وكلام سديد، نعم في المسألة قولان متطرفان من الجانبين: قول من يجوز من أصحابنا وغيرهم تخصيص العلة لا لمانع ولا لفوات شرط بل بمجرد دليل كما يخص العموم اللفظي، وقول من يقول من أصحابنا وغيرهم إن العلة المنصوصة إذا تخصصت بطل كونها علة وعلم أنها جزء العلة، فهذان قولان ضعيفان، وإن كان الثاني ; لأن المذهب المخصص مستلزم لمانع وإن لم يعلمه فإن هذا إنما يكون له وجه أن لو كانت العلة علمت بنص والمخصص لها نص فهناك لا يضرنا أن لا نعلم المانع المعنوي على نظر فيه، إذ قد يقال إن كان التمسك بالعموم اللفظي فلا كلام، وإن كان التمسك بالعموم المعنوي فقد علمنا انتفاءه مع مانع مجهول فيكون بمنزلة العام إذا استثني منه شيء مجهول، فما من صورة معينة إلا ويمكن أن تكون داخلة في المستثنى منه، ويمكن أن تكون داخلة في المستثنى فلا يجوز إدخالها في أحدهما بلا دليل، كذلك كل صورة تفرض وجود العلة فيها إذا كانت مخصصة بنص فلا بد أن يشتمل على مانع معنوي فإن تلك الصورة جاز أن تكون مشتملة على ذلك المانع وجاز أن تكون لم تشتمل عليه، ولا يقال اشتمالها على المقتضي معلوم واشتمالها على المانع مشكوك فيه ; لأن المقتضي الذي يجب العمل به هو ما لم يغلب على الظن مصادمة المانع له وهذه العلة منتفية هنا، وهذا المقام أيضا مما اختلف فيه العلماء من أصحابنا وغيرهم وهو جواز التمسك بالظواهر قبل البحث عما يعارضها، والمختار عندنا - وعليه يدل كلام أحمد وكلام غيره من الأئمة - أنه ما لم يغلب على الظن عدم المعارض المقاوم وإلا فلا يجوز الجزم بمقتضى يكون جواز تخلفه عن مقتضيه وعدم جوازه في القلب سواء، وتمام الكلام في هذه القواعد ليس هذا موضعه، وإنما نبهنا عليه ليظهر المأخذ في قولهم أنه يكون الشيء حراما في الباطن، وإن لم يثبت مقتضى التحريم في حق من لم يبلغه للعذر فإن التخلف هنا لفوات شرط ولا يقدح في كون الفعل مقتضيا للعقاب في الجملة، ولهذا لما كان أكثر عقول الفقهاء بل أكثر عقول الناس بل عامة العقول التي لم يكدر صفاها رهج الجدل ويرى صحة كون الشيء بصفة الاقتضاء، وإن كان معوقا عن عمله صاروا في عامة ما يفعلونه ويقولونه ينتهجون مناهج القائلين بتخصيص العلة لمانع إذ هذا ثابت في كل ما يتكلم فيه الآدميون، وإن كانوا قد يكونون ممن خالف في ذلك إذا جردوا الأصول، فلهذا كان الغالب على الناس من الفقهاء وغيرهم من يقبل عقله كون الشيء حراما في الباطن لكن انتفاء حكم التحريم في حق هذا المعين لفوات شرط العقاب أو لوجود مانع فيه، وهذا قوي إذا قيل: إن الحل والحرمة قد تكون لمعان في الأفعال تناسب الحكم ويقتضيه، وإن العلل الشرعية ليست مجرد علامات وإمارات كما قد يجيب به في المضايق من أصحابنا وغيرهم من يزعم أنه ينصر السنة أنه يرد الأحكام إلى محض المشيئة، فإن من تأمل دلالة الكتاب والسنة وإجماع السابقين على توجيه الأحكام بالأوصاف المناسبة والنعوت الملائمة، بل دخل مع الأئمة فيما يشهده بنظائرها من الحكم الباهرة المنظومة في الأحكام الظاهرة والمصالح الدينية والدنيوية التي جاءت بها هذه الشريعة الحنيفية التي قد أربى نورها على الشمس إضاءة وإشراقا وعلى إحكامها على الفلك انتظاما واتساقا ثم نازع بعد هذا في أن الأسباب والعلل فيها اقتضاء وملاءمة ورأى ما في الدليل الصرف فهو أحد رجلين: إما معاند يقول بلسانه ما ليس في قلبه وما أكثر السفسطة من بني آدم عموما ومن المناظرين في العلم خصوصا في جزئيات المقدمات وإن كانوا مجمعين أو كالمجمعين على فسادها في الأنواع الكليات، وإما ذاهل جاهل حقيقة ما يقوله من أن العلل مجرد أمارات مصرفات لم يجمع بين معنى هذا القول وبين ما هو دائما يراه ويقوله في الأحكام الشرعية، وإنما قلنا إن هذا القول قوي إذا رأينا ما في الأفعال المحرمة من المفاسد ; لأن المفسدة ثابتة في أكثر الأفعال وإن لم يدر الفاعل، ألا ترى من شرب الخمر قبل أن يعلم التحريم فإن فسادها من زوال العقل وتوابعه ثابت في حقه إن لم يعلم، نعم العقوبة الحدية وتوابعها في الدنيا والعقوبة الأخروية مشروطة بقيام الحجة عليه، وهذا الوصف وإن كان اقتضاء التحريم مثلا مشروط بجعل الشارع أو بالحال التي جعله الشارع فيها مقتضيا فقد وجد هذا الجعل والحال التي حصل فيها هذا الجعل، وهنا أمور أربعة، أحدها: الوصف الثابت المقتضي للحرمة في الحال التي اقتضاها، والثاني: علم الله سبحانه بهذا الوصف المقتضي، والثالث: حكم الله الذي هو التحريم مثلا فإنه سبحانه لما علم ما في الفعل من المصلحة والمفسدة حكم بمقتضى علمه، وهذه الإضافة ترتيب ذاتي عقلي لا ترتيب وجودي زماني كترتيب الصفة على الذات وترتيب العلم على الحياة والترتيب الحاصل في الكلام الموجود في آن واحد ونحو ذلك مما يشهد العقل ملازمته ترتيبا اقتضته الحقيقة وكنه ذلك مغيب عن علم الخلق، والرابع: المحكوم به الذي هو الحرمة القائمة بالفعل سواء جعلت صفة عينية أو جعلت إضافة محضة أو جعلت عينية مضافة، فالموجب للعقوبة هو التحريم، وسبب التحريم هو علم الله بما فيه من المفسدة لا نفس المفسدة حتى لا تعلل صفات الله القديمة بالأمور المحدثة كما اعتقده بعض من نازع في هذا المقام، بل يضاف حكمة التحريم إلى علة سبب التحريم فإنه سبحانه عليم حكيم، فهذا الموجب للعقوبة من العلم والحكم ثابت بكل حال لكن بشرط حصول موجبه وهو قيام الحجة على العباد كما نبه عليه قوله عز وجل: { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وإذا كان كذلك فالتحريم الذي هو حكم الله، والحرمة التي هي صفة الفعل سواء جعلت إضافة أو عينية، والمقتضي للتحريم الذي هو علم الله، والمقتضي للحرمة التي هي الوصف الذي هو معلوم الله حتى يضيف الحكم الذي هو وصف الله إلى علمه ويضيف المحكوم به الذي يسمى حكما أيضا وهو صفة الفعل إلى معلومه، فهذه الأمور الأربعة ثابتة وإن لم يعلم المكلف بالتحريم، فظهر معنى قول جمهور الفقهاء وذوي الفطر السليمة أن هذا محرم باطنا لا ظاهرا، والمثل هذا الكلام بعينه إلى مسألة اختلاط أخته بأجنبية، والميتة بالمذكى، وكل موضع اشتبه فيه الحلال بالحرام على وجه يجب اجتنابهما جميعا .

والكلام في هذا الموضع يظهر بيان حال المرأة في النية، وهي مراتب: الأولى: أن تنوي أن هذا الزوج الثاني إن طلقها أو مات عنها أو فارقها بغير ذلك تزوجت بالأول، أو ينوي المطلق ذلك أيضا فينوي أن هذا الثاني إن طلقها أو فارقها بغير ذلك تزوجها، فهذا قصد محض لما أباحه الله لم يقترن بهذا القصد فعل منها في الفرقة، وإنما نوت أن تفعل ما أباحه الله إذا أباحه الله فقد قصدت فعلا لها معلقا على وجود الفرقة، وصار هذا مثل أن ينوي الرجل أن فلانا إن طلق امرأته أو مات عنها تزوجها، أو تنوي المرأة التي لم تطلق أنها إن فارقها هذا الزوج تزوجت بفلان، أو يبيع الرجل سلعته لحاجته إليها وينوي أن المشتري إن باعها فيما بعد اشتراها منه إن قدر على ثمنها، أو ينوي أنه إن أعتق الجارية المبيعة تزوج بها، فهذه الصور كلها لم تتعلق بهذا العقد ولا بفسخه فلم تؤثر فيه، وإنما تعلقت بفعل لها إن رفع العقد أو قصد صاحبه رفعه، فلهذا لم يشترط أن يكون نكاح المرأة نكاح رغبة، فإنها إذا ملكت نفسها للزوج فسواء عليه كانت راغبة أو غير راغبة إذا لم تسبب في الفرقة فإنه ليس بيدها فرقة، لكن لها في هذا العقد مع نية مراجعة الأول ثلاث أحوال: أحدها: أن تكون محبتها للمقام مع الزوج الثاني أكثر من محبتها للمقام مع الأول، لكن ترى أن الأول أحب إليها من غيره بعد هذا فهذا لا شبهة فيه، الثاني: أن تكون محبتها لنكاح الزوجين على السواء، أو لا يكون لها محبة لنكاح واحد منهما، لكن ترى أنهما أصلح لها من غيرهما، فإذا فارقها أحدهما آثرت الآخر فهذا أيضا ظاهر، الثالث: أن تكون محبتها للأول أكثر من الثاني، فهي في هذه الحال بمنزلة المطلق الذي يحب عودها إليه، وهذه الصورة التي كرهها بعض التابعين، وهي حال امرأة رفاعة القرظي، ولذلك رخص أحمد وغيره فيها لما تقدم، وهذه المرأة والمطلق لا يلامان على هذه المحبة، كما لا يلام الزوج على محبة إحدى امرأتيه أكثر من الأخرى إذا عدل بينهما، فيما يملكه، ثم إن كرهت هذه المحبة من نفسها لكونها متطلعة إلى غير زوجها، وكذلك المطلق إن كره من نفسه تطلعه إلى زوجة الغير كانت هذه الكراهة عملا صالحا يثاب عليه، وإن لم تكره هذه المحبة ولم ترض بها لم يترتب عليها ثواب ولا عقاب، وإن رضي هذه المحبة بحيث يتمنى بقلبه مع طبعه حصول موجبها ويود أن يحصل بين الزوجين فرقة ليتزوج المرأة، وتتمنى المرأة أن لو طلقها هذا الزوج أو فارقها لتعود إلى الأول، وعقلها موافق لطبعها على هذه الأمنية، فهذا مكروه، وهو من المرأة أشد ; لأن ذلك يستلزم تمني الطلاق الذي هو بغيض إلى الله، وقد تتضمن تمني ضرر الزوج وهو مظنة أن المرأة لا تقيم حدود الله مع من بغضت المقام معه، لكنها لو أحبت أن يقذف الله في قلب الزوج الزهد فيها بحيث يفارقها بلا ضرر عليه، فهذا أخف، وهذا كله إذا لم يقترن به فعل منها في الفرقة لم تؤثر في صحة العقد الأول ولا الثاني .

فصل: وأما قولهم: الذي نطلب منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتحيز، فالجواب من وجوه، أحدهما: أن هذا اللفظ ومعناه الذي أرادوه ليس هو في شيء من كتب الله المنزلة من عنده، ولا هو مأثورا عن أحد من أنبياء الله ورسله، لا خاتم المرسلين ولا غيره، ولا هو أيضا محفوظا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها أصلا، وإذا كان بهذه المثابة وقد علم أن الله أكمل لهذه الأمة دينها، وأن الله بين لهذه ما تتقيه، كما قال: { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية، وقال: { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } وأن النبي بين للأمة الإيمان الذي أمرهم الله به، وكذلك سلف الأمة وأئمتها علم بمجموع هذين الأمرين أن هذا الكلام ليس من دين الله، ولا من الإيمان، ولا من سبيل المؤمنين، ولا من طاعة الله ورسوله، وإذا كان كذلك فمن التزم اعتقاده فقد جعله من الإيمان والدين، وذلك تبديل للدين، كما بدل من بدل من مبتدعة اليهود والنصارى، ومبتدعة هذه الأمة دين المرسلين، يوضح ذلك الوجه الثاني: وهو أن الله نزه نفسه في كتابه عن النقائص، تارة بنفيها وتارة بإثبات أضدادها، كقوله تعالى: { لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد }، وقوله تعالى { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل }، وقوله تعالى: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا }، الآية، وقوله: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم }، وقوله: { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } إلى قوله { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير }، وقوله: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } إلى قوله: { فتعالى عما يشركون } وقوله: { حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون } إلى قوله: { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } وقوله: { وقالت اليهود يد الله مغلولة } الآية، وقوله: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } الآية، وما في القرآن من خبره عن نفسه، أنه بكل شيء عليم، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إنه على كل شيء قدير وأنه ما شاء الله كان، لا قوة إلا بالله، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه العلي العظيم، الأعلى المتعالي، العظيم، الكبير، وكذلك الأحاديث عن النبي موافقة لكتاب الله، كقوله في الحديث الصحيح: { إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور أو النار، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه }، وقوله أيضا فيما يروي عن ربه: { شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، فأما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني أوليس أول الخلق بأهون علي من إعادته }، وقوله في حديث السنن للأعرابي: { ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، إن عرشه على سماواته أو قال بيده مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه } وقوله في الحديث الصحيح: { أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء } إلى أمثال ذلك، وليس في شيء من ذلك نفي الجهة والتحيز عن الله ولا وصفه بما يستلزم لزوما بينا نفي ذلك، فكيف يصح مع كمال الدين وتمامه، ومع كون الرسول قد بلغ البلاغ المبين، أن يكون هذا من الدين والإيمان ثم لا يذكره الله ولا رسوله قط، وكيف يجوز أن يدعى الناس ويؤمرون باعتقاد في أصول الدين ليس له أصل عمن جاء بالدين، هل هذا إلا صريح تبديل الدين ؟، ، الوجه الثالث: قد قلت لهم: قائل هذا القول إن أراد به أن ليس في السماوات رب ولا فوق العرش إله، وأن محمدا لم يعرج به إلى ربه، وما فوق العالم إلا العدم المحض، فهذا باطل مخالف لإجماع سلف الأمة وأئمتها، وهذا المعنى هو الذي يعنيه جمهور الجهمية من مشايخ الممتحنين ونحوهم، يصرحون به في كلامهم وكتابهم وإن أراد به أن الله لا يحيط به مخلوقاته ولا يكون في جوف الموجودات، فهذا مذكور مصرح به في كلامي، وإثبات هذا المعنى وهو أنه بذاته في الموجودات ليس خارجا عنها، هو قول كثير من الجهمية أيضا الذين ينفون أنه على العرش أيضا سواء قالوا إنه بذاته في كل مكان، أو قالوا إنه هو الموجودات كما يقوله الاتحادية منهم، وذلك أن الجهمية الذين ينفون أن يكون الله فوق عرشه بائنا من خلقه، منهم من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه ومنهم من يقول إنه داخل العالم ومنهم من يقول إنه داخله وخارجه متناهيا أو غير متناه جسما أو غير جسم، كما بينا مقالاتهم في غير هذا الموضع، فصارت الجهمية الذين ينفون عن الله الجهة والحيز، مقصودهم أنه ليس فوق العرش رب، ولا فوق السماوات إله، والجهمية الذين يقولون إنه في الموجودات، يثبتون له الجهة والحيز، فبينت في الجواب بطلان قول فريقي الجهمية النفاة والمثبتة، فإن نفاة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومثبتتهم يعبدون كل شيء، وذكرت هذين القسمين ; لأنها هي التي جرت عادة المتكلمين بنفي الجهة والحيز عن الله أنهم يعنونها، فإن كانوا عنوا معنى آخر كان عليهم بيانه إذ اللفظ لا يدل عليه، وليس لأحد أن يمتحن الناس بلفظ مجمل ابتدعه هو من غير بيان لمعناه، الوجه الرابع: أنهم طلبوا اعتقاد نفي الجهة والحيز عن الله ومعلوم أن الأمر بالاعتقاد لقول من الأقوال، إما أن يكون تقليدا للآمر، أو لأجل الحجة والدليل، فإن كانوا أمروا بأن يعتقد هذا تقليدا لهم ولمن قال ذلك فهذا باطل بإجماع المسلمين منهم ومن غيرهم، وهم يسلمون أنه لا يجب التقليد في مثل ذلك لغير الرسول، لا سيما وعندهم هذا القول لم يعلم بأدلة الكتاب والسنة والإجماع وإنما علم بالأدلة العقلية، والعقليات لا يجب التقليد فيها بالإجماع، وإن كان الأمر بهذا الاعتقاد لقيام الحجة عليه، فهم لم يذكروا حجة لا مجملة ولا مفصلة ولا أحالوا عليها، بل هم يفرون من المناظرة والمحاجة بخطاب أو كتاب، فقد ثبت أن أمرهم لهذا الاعتقاد حرام باطل على التقديرين بإجماع المسلمين، وأن فعل ذلك من أفعال الأئمة المضلين، وأنه أمر للناس أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، الوجه الخامس: أن الناس تنازعوا في جواز التقليد في مسائل أصول الدين، لمن يجوز تقليده في الدين من أئمة المسلمين المتبعين فيما يقولونه لما ثبت عن المرسلين، كما يقلد مثل هؤلاء في فروع الدين، فأما التقليد في الأمور التي يقولون أنها عقليات، وأنها معلومة بالعقل، يحتاج فيها إلى تأويل السمع وأنها من أصول الدين، فما نعلم أحدا جوز التقليد في مثل ذلك بل الناس فيها قسمان منهم من ينكرها على أصحابها ويبين أنها جهليات لا عقليات، ومنهم من يقول بل من نظر في أدلتها العقلية علم صحتها، فإما أن يقول قائل: إن هذه الأمور التي تنازعت فيها الأمة وادعى كل فريق أن الحق معهم إني أقلد من يدعي أن قوله معلوم بالعقل قبل أن أعلم صحة ما يقوله بالعقل فهذا لا يقوله عاقل، فإن العقل لا يرجح في موارد النزاع قولا على قول وقائلا على قائل إلا بموجب، أما مجرد التقليد لأحد القائلين بغير حجة، فلا يسوغ في عقل ولا دين، وإذا كان كذلك لم يكن لهم أن يسوغوا لأحد أن يقول هذا القول حتى يعلمه بأدلته العقلية فكيف وقد أوجبوا اعتقاده إيجابا مجردا لم يذكروا عليه دليلا أصلا وهل هذا إلا في غاية المناقضة والتبديل للعقل والدين ؟ فإن من أباح المحرمات من الأفعال كان خارجا عن الشريعة فكيف بمن أوجبها وعاقب عليها ؟ فكيف إذا كان ذلك في الاعتقادات التي هي أعظم من الأفعال ؟، الوجه السادس: أنه لو فرض جواز التقليد أو وجوبه في مثل هذا لكان لمن يسوغ تقليده في الدين، كالأئمة المشهورين، الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا القول لم يقله أحد ممن يسوغ للمسلمين تقليده في فروع دينهم، فكيف يقلدونه أصول دينهم التي هي أعظم من فروع الدين، فإن هذا القول وإن قاله طائفة من المنتسبين إلى مذاهب الأئمة الأربعة، فليس في قائليه من هو من أئمة ذلك المذهب الذين لهم قول متبوع بين أئمة ذلك المذهب، فإن أصحاب الوجوه من أصحاب الشافعي كأبي العباس بن سريج، وأبي علي بن أبي هريرة، وأبي سعيد الإصطخري، وأبي علي بن خيران، والشيخ أبي حامد الإسفراييني، ونحو هؤلاء ليس فيهم من يقول هذا القول، بل المحفوظ عمن حفظ عنه كلام في هذا ضد هذا القول، وغايته أن يحكى عن مثل أبي المعالي الجويني، وهو أجل من يحكى عنه ذلك من المتأخرين، وأبو المعالي ليس له وجه في المذهب، ولا يجوز تقليده في شيء من فروع الدين عند أصحاب الشافعي فكيف يجوز أو يجب تقليده في أصول الدين هذا وهو الذكي اللوذعي، وكتابه في المذهب هو الذي رفع قدره وفخم أمره، فإذا لم يجز تقليده فيما ارتفع به قدره وعظم به أمره عند الأصحاب، فكيف يقلد في الأمر الذي كثر فيه الاضطراب وأقر عند موته بالرجوع عنه وتاب، وهجره على بعض مسائله مثل أبي القاسم القشيري وغيره من الأصحاب، وإذا كان هذا حال من يقلد إمام الحرمين الأستاذ المطاع، فكيف بمن يقلد من هو دونه بلا نزاع وذلك ; لأن التقليد في الفروع دون الأصول، إنما يكون لمن كان عالما بمدارك الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع، وأبو المعالي لم يكن من هذا الصنف، فإنه كان قليل المعرفة بالكتاب والسنة وعامة ما يعتمد عليه في الشريعة الإجماع في المسائل القطعية، والقياس أو التقليد في المسائل الظنية وكذلك هو في مسائل أصول الدين غالب أمره الدوران بين الإجماع السمعي القطعي والقياس العقلي الذي يعتمد أنه قطعي مذهب الشافعي وبالخلاف المنصوب مع أبي حنيفة، وأما بالأصول فبالدلائل والمسائل المذكورة في كتب المعتزلة والأشعرية، هذا وهو أجل من يقرن به من المناظرين، وعمدة من يسلك سبيله من المتأخرين فكيف بمن لم يبلغ شأوه في العلم والذكاء، ومقاومة الخصوم الفضلاء، وأما من تكلم في ذلك من فقهاء المالكية المتأخرين، كالباجي، وأبي بكر ابن العربي، ونحوهما فإنهم في ذلك يقلدون لمن أخذوا ذلك عنه من أهل المشرق المتكلمين، ومعترفون بأنهم لهم من التلامذة المتبعين، ليس في كلام أحد من هؤلاء استيفاء الحجة في هذا الباب من الطرفين، ولا النهوض بأعباء هذا الحمل الذي يحتاج إلى فصل الخطاب في القولين المتعارضين، وأما أئمة المالكية الذين إليهم المرجع في الدين كابن القاسم، وابن وهب وأشهب، وسحنون وابنه وعبد الملك بن حبيب، وابن وضاح وغيرهم فهم برآء من هذا النفي والتكذيب، ولهم في الإثبات من الأقوال ما يعرفها العالم اللبيب، الوجه السابع: أن هذا القول لو فرض أنه حق معلوم بالعقل، لم يجب اعتقاده بمجرد ذلك إذ وجوب اعتقاد شيء معين لا يثبت إلا بالشرع بلا نزاع، أما المنازعون فهم يسلمون أن الوجوب كله لا يثبت إلا بالشرع، وأن العقل لا يوجب شيئا وإن عرفه، وأما من يقول: إن الوجوب قد يعلم بالعقل، فهو يقول ذلك فيما يعلم وجوبه بضرورة العقل أو نظره، واعتقاد كلام معين من تفاصيل مسائل الصفات لا يعلم وجوبه بضرورة العقل ولا بنظره، ولهذا اتفق عامة أئمة الإسلام على أن من مات مؤمنا بما جاء به الرسول لم يخطر بقلبه هذا النفي المعين لم يكن مستحقا للعذاب، ولو كان واجبا لكان تركه سببا لاستحقاق العذاب، وإن فرض أن بعض غالية الجهمية من المعتزلة ونحوهم يزعم أن معرفة هذا النفي من الواجبات أو من أجلها، وأن من لم يعتقده من الخاصة والعامة كان مستحقا للعذاب، أو فرض أن بعض الناس يقول إن هذا الاعتقاد يجب على الخاصة دون العامة، فنحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساد القول بإيجاب هذا ; لأنا نعلم بالاضطرار أن النبي - والصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين لم يوجبوا اعتقاد هذا النفي، لا على الخاصة ولا على العامة، وليس وجوب هذا من الحوادث التي تجددت، فإن وجوب هذا الاعتقاد على الأولين والآخرين سواء لوجوب اعتقاد { أنه لا إله إلا الله } { وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور }، وإذا كان معلوما بالاضطرار عدم إيجاب الشارع لهذا الاعتقاد، كان دعوى وجوبه بالعقل مردودا فإن الشارع أقر الواجبات العقلية وأوجبها كما أوجب الصدق والعدل، وحرم الكذب والظلم، وإذا كان وجوب هذا القول منتفيا، لم يكن لأحد أن يوجبه على الناس، فضلا عن أن يعاقب تاركه ويجعله محنة، من وافقه عليه والاه ومن خالفه فيه عاداه، وهذا المسلك هو أحد ما سلكه العلماء في الرد على الجهمية الممتحنين للناس، كابن أبي داود وأمثاله لما ناظرهم من ناظرهم قدام الخلفاء كالمعتصم والواثق، فإنهم بينوا لهم أن القول الذي أوجبوه على الناس ، وعاقبوا تاركه، وهو القول بخلق القرآن لم يقله النبي - ولا أحد من خلفائه ولا أصحابه، ولا أئمة المسلمين وعامتهم، ولا أمروا به، ولا عاقبوا عليه ولو كان من الدين الذي يجب دعاء الخلق إليه وعقوبة تاركيه، لم يجز إهمالهم لذلك، وإن القائل لهذا القول لو فرض أنه مصيب، لم يكن له أن يوجب على الناس ويعاقبهم على ترك كل قول يعتقد أنه صواب، وهذا مما اتفق عليه المسلمون .

الوجه العاشر: أن قول القائل: " لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام، ولا يكتب بها إلى البلاد، ولا في الفتاوى المتعلقة بها "، إما أن يريد بذلك أنه لا تتلى هذه الآيات وهذه الأحاديث عند عوام المؤمنين، فهذا مما يعلم بطلانه بالاضطرار من دين المسلمين، بل هذا القول إن أخذ على إطلاقه، فهو كفر صريح فإن الأمة مجمعة على ما علموه بالاضطرار من تلاوة هذه الآيات في الصلوات فرضها ونفلها، واستماع جميع المؤمنين لذلك، وكذلك تلاوتها وإقراؤها واستماعها خارج الصلاة هو من الدين الذي لا نزاع فيه بين المسلمين، وكذلك تبليغ الأحاديث في الجملة هو مما اتفق عليه المسلمون، وهو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين، إذ ما من طائفة من السلف والخلف إلا ولا بد أن تروي عن النبي شيئا من صفات الإثبات أو النفي، فإن الله يوصف بالإثبات، وهو إثبات محامده بالثناء عليه وتمجيده، ويوصف بالنفي، وهو نفي العيوب والنقائص عنه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، وإما أن يريد أنه لا يقال حكمها كذا وكذا إما إقرار وتأويل أو غير ذلك فإن أراد هذا فينبغي لقائل ذلك أن يلتزم ما ألزم به غيره ، فلا ينطق في حكم هذه الآيات والأحاديث بشيء، ولا يقول الظاهر مراد أو غير مراد، ولا التأويل سائغ، ولا هذه النصوص لها معان أخر، ونحو ذلك إذ هذا تعرض لآيات الصفات وأحاديثها على هذا التقدير، وإذا التزم هو ذلك وقال لغيره: التزم ما التزمته ولا تزد عليها ولا تنقص منها، فإن هذا عدل بخلاف ما إذا نهى غيره عن الكلام عليها مع تكلمه هو عليها، كما هو الواقع، وكذلك قوله: ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها، إن أراد أنها أنفسها لا تكتب ولا يفتى بها، فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام كما تقدم، وإن أراد لا يكتب بحكمها، ولا يفتي المستفتي عن حكمها، فيقال له: فعليك أيضا أن تلتزم ذلك ولا تفتي أحدا فيها بشيء من الأمور النافية، وحينئذ يكون أمرك لغيرك بمثل ما فعلته عدلا، أما أن يجيء الرجل إلى هذه النصوص فيتصرف فيها بأنواع التحريفات والتأويلات جملة أو تفصيلا، ويقول لأهل العلم والإيمان أنتم لا تعارضون ولا تتكلموا فيها، فهذا من أعظم الجهل والظلم والإلحاد في أسماء الله وآياته، الوجه الحادي عشر: أن سلف الأمة وأئمتها ما زالوا يتكلمون ويفتون ويحدثون العامة والخاصة بما في الكتاب والسنة من الصفات، وهذا في كتب التفسير والحديث والسنن أكثر من أن يحصيه إلا الله، حتى إنه لما جمع الناس العلم وبوبوه في الكتب، فصنف ابن جريج التفسير والسنن، وصنف معمر أيضا، وصنف مالك بن أنس، وصنف حماد بن سلمة، وهؤلاء من أقدم من صنف في العلم صنفوا هذا الباب، فصنف حماد بن سلمة كتابه في الصفات، كما صنف كتبه في سائر أبواب العلم، وقد قيل: إن مالكا إنما صنف الموطأ تبعا له، وقال: جمعت هذا خوفا من الجهمية أن يضلوا الناس، لما ابتدعت الجهمية النفي والتعطيل حتى إنه لما صنف الكتب الجامعة، صنف العلماء فيها كما صنف نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري كتابه في الصفات والرد على الجهمية، وصنف عبد الله بن محمد الجعفي شيخ البخاري كتابه في الصفات والرد على الجهمية، وصنف عثمان بن سعيد الدارمي كتابه في الصفات والرد على الجهمية، وكتابه في النقض على المريسي وصنف الإمام أحمد رسالته في إثبات الصفات والرد على الجهمية، وأملى في أبواب ذلك حتى جمع كلامه أبو بكر الخلال في كتاب السنة وصنف عبد العزيز الكناني صاحب الشافعي كتابه في الرد على الجهمية، وصنف كتب السنة في الصفات طوائف مثل عبد الله بن أحمد، وحنبل بن إسحاق، وأبي بكر الأثرم، وخشيش بن أصرم شيخ أبي داود، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن أبي عاصم، والحكم بن معبد الخزاعي ولأبي بكر الخلال، وأبي القاسم الطبراني، وأبي الشيخ الأصبهاني، وأبي أحمد العسال وأبي بكر الآجري وأبي الحسن الدارقطني، كتاب الصفات وكتاب الرؤية ; وأبي عبد الله بن منده، وأبي عبد الله ابن بطة، وأبي قاسم اللالكائي، وأبي عمر الطلمنكي، وغيرهم، وأيضا فقد جمع العلماء من أهل الحديث والفقه والكلام والتصوف هذه الآيات والأحاديث، وتكلموا في إثبات معانيها، وتقرير صفات الله دلت عليها هذه النصوص، لما ابتدعت الجهمية جحد ذلك والتكذيب له، كما فعل عبد العزيز الكناني، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وكما فعل عثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبو عبد الله بن حامد، والقاضي أبو يعلى، وكما فعل أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وأبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري وأبو الحسن علي بن مهدي الطبري، والقاضي أبو بكر الباقلاني، الوجه الثاني عشر: أن الله تعالى بعث رسوله بالهدى ودين الحق، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة وترك أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، وبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، وكان أعظم ما يحتاجون إليه تعريفهم ربهم بما يستحقه من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وما يجب وما يجوز عليه ويثبت له فيحمد ويثنى به عليه ويمجد به، وما يمتنع عليه، فينزه عنه ويقدس، ثم حدث بعد المائة الأولى الجهم بن صفوان وأتباعه الذين عطلوا حقيقة أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وسلكوا مسلك إخوانهم المعطلة الجاحدين للصانع وصار أغلب ما يصفون به الرب هو الصفات السلبية العدمية، ولا يقرون إلا بوجود مجمل، ثم يقرنونه بسلب ينفي الوجود، ومن أبلغ العلوم الضرورية أن الطريقة التي بعث الله بها أنبياءه ورسله، وأنزل بها كتبه، مشتملة على الإثبات المفصل، والنفي المجمل، كما يقرر في كتابه، وعلمه وقدرته وسمعه وبصره ومشيئته ورحمته وغير ذلك، ويقول في النفي، { ليس كمثله شيء }، { هل تعلم له سميا }، { لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد }، وعلى أهل العلم والإيمان اتباع المرسلين من الأولين والآخرين، وأما طريقة هؤلاء، فهي نفي مفصل، ليس بكذا ولا كذا، وإثبات مجمل، يقولون: هو الوجود المطلق لا يوصف إلا بسلب أو إضافة أو مركب منهما ونحو ذلك، وكل من علم ما جاءت به الرسل، وما يقوله هؤلاء، علم أن هؤلاء في غاية المشاقة والمحادة والمحاربة لله ورسله وانتدب هؤلاء في تقرير شبه عقلية ينفون بها الحق، وتأولوا كتاب الله على غير تأويله، فحرفوا الكلم عن مواضعه وألحدوا في أسماء الله وآياته، بحيث حملوها على ما يعلم بالاضطرار أنه خلاف مراد الله ورسوله، كما فعل إخوانهم القرامطة والباطنية وجحدوا الحقائق العقلية، كما فعل إخوانهم السوفسطائية فجمعوا بين السفسطة في العقليات، والقرامطة في السمعيات، فلهذا انتدب سلف الأمة وأئمتها وغيرهم للرد عليهم، وتقرير ما أثبته الله ورسوله، ورد تكذيبهم وتعطيلهم، وذكروا دلائل الكتاب والسنة على بيان الحق ورد باطلهم، ولما احتج أولئك بشبه عقلية، بينوا أيضا لهم أن العقل يدل على فساد قولهم وصحة ما جاءت به الرسل، كما قال تعالى: { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق }، وإن كان الأمر كذلك فمن نهى عن بيان ما بعث الله به رسوله من الإثبات، وأمر بما أحدث من النفي الذي لا يؤثر عن الرسل، كان قد أخذ من مشاقة الله ورسوله ومحادة الله ورسوله، ومحاربة الله ورسوله، بحسب ما سعى فيه من ذلك، حيث أمر بترك ما بعث به الرسول، وبإظهار ما يشتمل على مخالفته، الوجه الثالث عشر: أن الناس عليهم أن يجعلوا كلام الله ورسوله هو الأصل المتبع، والإمام المقتدى به سواء علموا معناه أو لم يعلموه، فيؤمنون بلفظ النصوص وإن لم يعرفوا حقيقة معناها، وأما ما سوى كلام الله ورسوله فلا يجوز أن يجعل أصلا بحال، ولا يجب التصديق بلفظ له حتى يفهم معناه فإن كان موافقا لما جاء به الرسول كان مقبولا وإن كان مخالفا كان مردودا، وإن كان مجملا مشتملا على حق وباطل، لم يجز إثباته أيضا، ولا يجوز نفي جميع معانيه، بل يجب المنع من إطلاق نفيه وإثباته، والتفصيل والاستفسار وهؤلاء جعلوا هذه الألفاظ المبتدعة المجملة أصلا أمروا بها وجعلوا ما جاء به الرسول من الآيات والأحاديث فرعا يعرض عنها ولا يتكلم بها ولا فيها، فكيف يكون تبديل الدين إلا هكذا ؟، ، الوجه الرابع عشر: ليس لأحد من الناس أن يلزم الناس ويوجب عليهم إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا يحظر عليهم إلا ما حظره الله ورسوله، فمن وجب ما لم يوجبه الله ورسوله، وحرم ما لم يحرمه الله ورسوله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وهو مضاه لما ذمه الله في كتابه من حال المشركين، وأهل الكتاب الذين اتخذوا دينا لم يأمرهم الله به، وحرموا ما لم يحرمه الله عليهم، وقد بين ذلك في سورة الأنعام والأعراف وبراءة وغيرهن من السور، ولهذا كان من شعار أهل البدع، إحداث قول أو فعل، وإلزام الناس به وإكراههم عليه، والموالاة عليه والمعاداة على تركه، كما ابتدعت الخوارج رأيها، وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه، وابتدعت الرافضة رأيها، وألزمت الناس به، ووالت وعادت عليه وابتدعت الجهمية رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه لما كان لهم قوة في دولة الخلفاء الثلاثة، الذين امتحن في زمنهم الأئمة لتوافقهم على رأي جهم الذي مبدؤه أن القرآن مخلوق وعاقبوا من لم يوافقهم على ذلك، ومن المعلوم أن هذا من المنكرات المحرمة بالعلم الضروري من دين المسلمين، فإن العقاب لا يجوز أن يكون إلا على ترك واجب، أو فعل محرم، ولا يجوز إكراه أحد إلا على ذلك، والإيجاب والتحريم ليس إلا لله ولرسوله، فمن عاقب على فعل أو ترك بغير أمر الله ورسوله وشرع ذلك دينا، فقد جعل لله ندا ولرسوله نظيرا بمنزلة المشركين الذين جعلوا لله أندادا، أو بمنزلة المرتدين الذين آمنوا بمسيلمة الكذاب وهو ممن قيل فيه: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }، ولهذا كان أئمة أهل السنة والجماعة، لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد، ولا يكرهون أحدا عليه، ولهذا لما استشار هارون الرشيد مالك بن أنس في حمل الناس على موطئه، قال له: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار، فأخذ كل قوم عمن كان عندهم، وإنما جمعت علم أهل بلدي، أو كما قال: وقال مالك أيضا: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة، قال أبو حنيفة: هذا رأي، فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه، وقال الشافعي: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وقال: إذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فإني أقول بها، وقال المزني في أول مختصره، هذا كتاب اختصرته من علم أبي عبد الله الشافعي، لمن أراد معرفة مذهبه، مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء، وقال الإمام أحمد: ما ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه، ولا يشدد عليهم قال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا، فإذا كان هذا قولهم في الأصول العلمية وفروع الدين لا يستجيزون إلزام الناس بمذاهبهم مع استدلالهم عليها بالأدلة الشرعية، فكيف بإلزام الناس وإكراههم على أقوال لا توجد في كتاب الله، ولا في حديث عن رسول الله ، ولا تؤثر عن الصحابة والتابعين، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، ولهذا قال الإمام أحمد لابن أبي دؤاد الجهمي الذي كان قاضي القضاة في عهد المعتصم، لما دعا الناس إلى التجهم، وأن يقولوا القرآن مخلوق، وأكرههم عليه بالعقوبة، وأمر بعزل من لم يجبه وقطع رزقه، إلى غير ذلك مما فعله في محنته المشهورة، فقال له في مناظرته لما طلب منه الخليفة أن يوافقه على أن القرآن مخلوق، ائتوني بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أجيبكم به، فقال له ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بما في كتاب الله أو سنة رسوله ؟ فقال له: هب أنك تأولت تأويلا فأنت أعلم وما تأولت، فكيف تستجيز أن تكره الناس عليه بالحبس والضرب، فبين أن العقوبة لا تجوز إلا على ترك ما أوجبه الله، أو فعل ما حرمه الله فإذا كان القول ليس في كتاب الله وسنة رسوله لم يجب على الناس أن يقولوه ; لأن الإيجاب إنما يتلقى من الشارع، وإن كان للقول في نفسه حقا، أو اعتقد قائله أنه حق، فليس له أن يلزم الناس أن يقولوا ما لم يلزمهم الرسول أن يقولوه لا نصا ولا استنباطا، وإن كان كذلك فقول القائل: المطلوب من فلان أن يعتقد كذا وكذا، وأن لا يتعرض لكذا وكذا، إيجاب عليه لهذا الاعتقاد، وتحريم عليه لهذا الفعل، وإذا كانوا لا يرون خروجه من السجن إلا بالموافقة على ذلك، فقد استحلوا عقوبته وحبسه حتى يطيعهم في ذلك فإذا لم يكن ما أمروا به قد أمر الله به ورسوله، وما نهوا عنه قد نهى الله عنه ورسوله، كانوا بمنزلة من ذكر من الخوارج والروافض والجهمية المشابهين للمشركين والمرتدين، ومعلوم أن هذا الذي قالوه لا يوجد في كلام الله ورسوله بحال، وهم أيضا يبينوا أنه يوجد في كلام الله ورسوله فلو كان هذا موجودا في كلام الله ورسوله لكان عليهم بيان ذلك ; لأن العقوبات لا تجوز إلا بعد إقامة الحجة كما قال تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فإذا لم يقيموا حجة الله التي يعاقب من خالفها، بل لا يوجد ما ذكروه في حجة الله وقد نهوا عن تبليغ حجة الله ورسوله كان هذا من أعظم الأمور مماثلة لما ذكر من حال الخوارج المارقين المضاهين للمشركين والمرتدين والمنافقين، الوجه الخامس عشر: أن القول الذي قالوه إن لم يكن حقا يجب اعتقاده لم يجز الإلزام به، وإن كان حقا يجب اعتقاده، فلا بد من بيان دلالته، فإن العقوبة لا تجوز قبل إقامة الحجة باتفاق المسلمين، فإن كان القول مما أظهره الرسول وبينه، فقد قامت الحجة ببيان رسوله، وإن لم يكن ذلك فلا بد من بيان حجته وإظهارها التي يجب موافقتها ويحرم مخالفتها، ولهذا قال الفقهاء في أهل البغي المتأولين: إن ذكروا مظلمة أزالها الإمام، وإن ذكروا شبهة بينوها له فإذا لم يبينوا صواب القول أصلا بل ادعوه دعوى مجردة حوربوا، فكيف يجب التزام مثل ذلك القول من غير الرسول، وهل يفعل هذا من له عقل أو دين ؟، ، الوجه السادس عشر: أنهم لو بينوا صواب ما ذكروه من القول لم يكن ذلك موجبا لعقوبة تاركه، فليس كل مسألة فيها نزاع إذا أقام أحد الفريقين الحجة على صواب قوله مما يسيغ له عقوبة مخالفة، بل عامة المسائل التي تنازعت فيها الأمة لا يجوز لأحد الفريقين المتنازعين أن يعاقب الآخر على ترك اتباع قوله، فكيف إذا لم يذكروا حجة أصلا ولم يظهروا صواب قولهم، الوجه السابع عشر: أنه لو فرض أن هذا القول الذي ألزموا به حق وصواب قد ظهرت حجته، ووجبت عقوبة تارك التزامه، فهذا لم يذكروه إلا في هذا الوقت، بعد هذا الطلب والحبس والنداء على الشخص المعين بالمنع من موافقته، ونسبته إلى البدعة والضلالة، ومخالفة جميع العلماء والحكام، وخروجه عما كان عليه الصحابة والتابعون إلى أنواع أخر مما قالوه وفعلوه في حقه، من الإيذاء والعقوبة والضرر زاعمين أن ما صدر عنه من الفتاوى والكتب يتضمن ذلك، فإذا أعرضوا عن ذلك بالكلية، ولم يبينوا في كلامه المتقدم شيئا من الخطإ والضلال الموجب للعقوبة، لم يكن ابتداؤهم بالدعاء إلى مقالة إنشاؤها مبيحا لما فعلوه قبل ذلك من الظلم والكذب والبهتان، والصد عن سبيل الله، والتبديل لدين الله، وإنما هذا انتقال من ظلم إلى ظلم ; ليقرروا بالظلم المتأخر حسن الظلم المتقدم، كمن يستجير من الرمضاء بالنار، وهذا يزيدهم إثما وعذابا، فهب أن هذا الشخص وافقهم الآن على ما أنشأه من القول، أي شيء في ذلك مما يدل على خطئه وضلاله في أقواله المتقدمة إذا لم تناف هذا القول ؟ دع استحقاق العقوبة والكذب والبهتان، فما لم يبينوا أن فيما صدر عنه قبل طلبه وحبسه وإعلام ما ذكروه من أمره ما يوجب ذلك لم ينفعهم هذا وهم قد عجزوا عن إبداء خطأ أو ضلال فيما صدر عنه من المقال، وهم دائما يستعفون من المحاقة والمناظرة بلفظ أو خط، وقد قيل لهم مرات متعددة: من أنكر شيئا فليكتب ما ينكره بخطه، ويذكر حجته، ويكتب جوابه، ويعرض الأمران على علماء المشرق والمغرب فأبلسوا وبهتوا وطلب منهم غير مرة المخاطبة في المحاضرة، والمحاقة والمناظرة، فظهر منهم من العي في الخطاب، والنكوص على الأعقاب، والعجز عن الجواب ما قد اشتهر واستفاض بين أهل المدائن والأعراب، ومن قضاتهم الفضلاء من كتب اعتراضا على الفتيا الحموية، وضمنه أنواعا من الكذب وأمورا لا تتعلق بكلام المعترض عليه، وقد كتبت جوابه في مجلدات، ومنهم من كتب شيئا ثم خبأه وطواه عن الأبصار، وخاف من نشره ظهور العار، وخزي أهل الجهل والصغار، إذ مدار القوم على أحد أمرين: إما الكذب الصريح، وإما الاعتقاد القبيح، فهم لن يخلوا من كذب كذبه بعضهم وافتراه، وظن باطل خاب من تقلده وتلقاه، وهذه حال سائر المبطلين من المشركين وأهل الكتاب الكفار والمنافقين . وقول من يقول من المتكلمين إن السوفسطائية قوم ينكرون حقائق الأمور، وأنهم منتسبون إلى رئيس لهم يقال له سوفسطا وأن منهم من ينكر العلم بشيء من الحقائق، ومنهم من ينكر الحقائق الموجودة أيضا مع العلوم، ومنهم اللا أدرية الذين يشكون فلا يجزمون بنفي ولا إثبات، ومنهم من لا يقر إلا بما أحسه، وقد رد هذا النقل والحكاية من عرف حقيقة الأمر وقال إن لفظ السوفسطائية في الأصل كلمة يونانية معربة أصلها سوفسقيا أي الحكمة المموهة فإن لفظ سو معناه في لغة اليونان الحكمة ولهذا يقولون فيلا سوفا أي محب الحكمة ولفظ فسقيا معناه المموهة، ومعلم المستأخرين المبتدعين منهم أرسطو لما قسم حكمتهم التي هي منتهى علمهم إلى برهانية وخطابية وجدلية وشعرية ومموه وهي المغاليط سموها سوفسقيا فعربت وقيل سوفسطا ثم ظن بعض المتكلمين أن ذلك اسم رجل وإنما أصلها ما ذكر وإن كان لفظ السفسطة قد صار في عرف المتكلمين عبارة عن حجر الحقائق فلا ريب أن هذا يكون في كثير من الأمور، فمن الأمم من ينكر كثيرا من الحقائق بعد معرفتها كما قال تعالى: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وقد تشتبه كثير من الحقائق على كثير من الناس كما قد يقع الغلط للحس أو العقل في أمور كثيرة، فهذا كله موجود كوجود الكذب عمدا أو خطأ، أما اتفاق أمة على إنكار جميع العلوم والحقائق، أو على إنكار كل منهم لما لم يحسبه، فهو كاتفاق أمة على الكذب في كل خبر أو التكذيب لكل خبر ومعلوم أن هذا لم يوجد في العلماء والعلم بعدم وجود أمة على هذا الوصف كالعلم بعدم وجود أمة بلا ولادة ولا اغتذاء وأمة لا يتكلمون ولا يتحركون، ونحو ذلك مما يعلم أن البشر لا يوجدون على هذا الوصف، فكيف والإنسان هو حي ناطق ونطقه هو أظهر صفاته اللازمة له، كما قال تعالى: { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } والنطق إما إخبار وإما إنشاء والإخبار أصل فالقول بوجود أمة لا تقر بشيء من المخبرات إلا أن تحس المخبر بعينه ينافي ذلك، وإذا كان كذلك فأولئك المتكلمون من المشركين والسمنية الذين ناظروا الجهم، قد غالطوا الجهم ولبسوا عليه في الجدال حيث أوهموه أن ما لا يحسه الإنسان بنفسه لا يقر به وكأن الأصل أن ما لا يتصور الإحساس به لا يقر به فكان حقه أن يستفسرهم عن قولهم ما لا يحسه الإنسان لا يقر به هل المراد به هذا أو هذا فإن أراد أولئك المعنى الأول، أمكن بيان فساد قولهم بوجوه كثيرة، وكان أهل بلدتهم وجميع بني آدم يرد عليهم ذلك وإن أرادوا المعنى الثاني، وهو أن ما لا يمكن الإحساس به لا يقر به فهذا لا يضر تسليمه لهم، بل يسلم لهم، يقال لهم: فإن الله تعالى يمكن رؤيته وسمع كلامه بل قد سمع بعض البشر كلامه وهو موسى عليه السلام، وسوف يراه عباده في الآخرة وليس من شرط كون الشيء موجودا أن يحس به كل أحد في كل وقت، أو أن يمكن إحساس كل أحد به في كل وقت، فإن أكثر الموجودات على خلاف ذلك بل متى كان الإحساس به ممكنا ولو لبعض الناس في بعض الأوقات، صح القول بأنه يمكن الإحساس به، وقد قال تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } وهذا هو الأصل الذي ضل به جهم وشيعته، حيث زعموا أن الله لا يمكن أن يرى ولا يحس به شيء من الحواس، كما أجاب إمامهم الأول للسمنية بإمكان وجود موجود لا يمكن إحساسه، ولهذا كان أهل الإثبات قاطبة متكلموهم وغير متكلميهم، على نقض هذا الأصل الذي بناه الجهمية، وأثبتوا ما جاء به الكتاب والسنة، من أن الله يرى ويسمع كلامه وغير ذلك، وأثبتوا أيضا بالمقاييس العقلية أن الرؤية يجوز تعلقها بكل موجود، فيصح إحساس كل موجود، فما لا يمكن إحساسه يكون معدوما، ومنهم من طرد ذلك في اللمس، ومنهم من طرده في سائر الحواس، كما فعله طائفة من متكلمة الصفائية الأشعرية وغيرهم، والمقصود هنا أن أولئك المشركين المناظرين قالوا كلاما مجملا فجعلوا الخاص عاما، والمعنى مطلقا، حيث قالوا: أنت لم تحسه وما لم تحسه أنت لا يكون موجودا والمقدمة الثانية باطلة لكن موهوها بالمعنى الصحيح، وهو أن ما لا يمكن إحساسه لا يكون موجودا فناظرهم المناظرون من الصائبة والمقتدي بهم جهم وأصحابه بحال في هذه المقدمة حتى نكروا الحق الذي عليه أولئك الذين موهوه بالباطل وزعم هؤلاء أنه قد يكون موجود ما لا يمكن إحساسه بحال في وقت من الأوقات لشيء من الموجودات وزعموا أن الروح كذلك، ثم أخذوا هذه المقدمة الباطلة التي نازعوا فيها أولئك المشركين فنازعوا فيها إخوانهم المؤمنين، فصاروا مجادلين للمؤمنين بمثل ما جادلوا به المشركين، كمن قاتل المشركين زعما منه أنه إن لم يقاتل ذلك القتال استولى عليه المشركون كما زعم هؤلاء أنهم إن لم يناظروا المشركين هذه المناظرة استعلى عليهم المشركون وانقطعت حجة المؤمنين في المناظرة، وصاروا عاجزين في النظر والمناظرة إذ لم يجدوا بزعمهم طريقا إلا هذه الطريق المبتدعة التي أحدثوها المشتملة على حق وباطل المتضمنة لجدال المشركين والمؤمنين كما أن أولئك المقاتلين لم يجدوا بزعمهم قتالا إلا هذا القتال المبتدع المشتمل على قتال المشركين والمؤمنين ولفظ الإحساس عام يستعمل في الرؤية والمشاهدة الظاهرة أو الباطنة كما قال تعالى: { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا }، وقال تعالى: { فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله } ومعلوم أن الخلق كلهم ولدوا على الفطرة ومن المعلوم بالفطرة أن ما لا يمكن إحساسه لا باطنا ولا ظاهرا لا وجود له، والعقل هو الذي ضبط القدر المشترك الكلي، الذي بين أفراد الموجودات التي أحسها، والكلي لا وجود له كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان .

فهذه المقدمة الفطرية هي التي عليها أهل الإيمان، ومن كان باقيا على الفطرة فيها من المشركين واليهود والنصارى والصابئين وغيرهم كما أن أهل الفطر كلهم متفقون على الإقرار بالصانع، وأنه فوق العالم، وأنهم حين دعائه يتوجهون إلى فوق بقلوبهم وعيونهم وأيديهم، ولما كان أصل قول جهم هو قول المبدلين من الصابئة وهؤلاء شر من اليهود والنصارى، كان الأئمة يقولون إن قولهم شر من قول اليهود والنصارى وإن كانوا خيرا من المشركين، كالذين ناظرهم جهم ونحوهم ممن يعطل وجود الصانع، أو يوجب عبادة إله معه، فإن هؤلاء الصابئة ليسوا كذلك، لكنهم وإن لم يوجبوا الشرك فقد لا يحرمونه، بل يسوغون التوحيد والإشراك جميعا، ويستحسنون عبادة أهل التوحيد وعبادة أهل الإشراك جميعا ولا ينكرون هذا ولا هذا، كما هو موجود في كلامهم ومصنفاتهم لكن ليس الناس في التجهم على مرتبة واحدة بل انقسامهم في التجهم يشبه انقسامهم في التشيع، فإن التجهم والرفض هما أعظم البدع أو من أعظم البدع التي أحدثت في الإسلام، ولهذا كان الزنادقة المحضة مثل الملاحدة من القرامطة ونحوهم إنما يتسترون بهذين بالتجهم والتشيع، قال الإمام أبو عبد الله البخاري في كتاب خلق الأفعال، عن أبي عبيد قال: ما أبالي أصليت خلف الجهمي أو الرافضي، أو صليت خلف اليهودي والنصراني، ولا يسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم، قال: وقال عبد الرحمن بن مهدي: هما ملتان الجهمية والرافضة هذان، وقد كان أمرهم إذ ذاك لم ينتشر ويتفرع ويظهر فساده كما ظهر فيما بعد ذلك، فإن الرافضة القدماء لم يكونوا جهمية، بل كانوا مثبتة للصفات وغالبهم يصرح بلفظ الجسم وغير ذلك، كما قد ذكر الناس مقالاتهم، كما ذكره أبو الحسن الأشعري وغيره في كتاب المقالات والجهمية لم يكونوا رافضة، بل كان الاعتزال فاشيا فيهم والمعتزلة كانوا ضد الرافضة وهم إلى النصب أقرب، فإن الاعتزال حدث من البصرة والرفض حدث من الكوفيين، والتشيع كثر في الكوفة وأهل البصرة كانوا بالضد، فلما كان بعد زمن البخاري من عهد بني بويه الديلم فشا في الرافضة التجهم وأكثر أصول المعتزلة، وظهرت القرامطة ظهورا كثيرا وجرى حوادث عظيمة، والقرامطة بنوا أمرهم على شيء من دين المجوس، وشيء من دين الصابئة، فأخذوا عن هؤلاء الأصلين النور والظلمة، وعن هؤلاء العقل والنفس، ورتبوا لهم دينا آخر ليس هو هذا ولا هذا، وجعلوا على ظاهره من سيما الرافضة، ما يظن الجهال به أنهم رافضة، وإنما هم زنادقة منافقون، اختاروا ذلك ; لأن الجهل والهوى في الرافضة أكثر منه في سائر أهل الأهواء، والشيعة هم ثلاث درجات، شرها الغالية الذين يجعلون لعلي شيئا من الإلهية أو يصفونه بالنبوة، وكفر هؤلاء بين لكل مسلم يعرف الإسلام، وكفرهم من جنس كفر النصارى من هذا الوجه، وهم يشبهون اليهود من وجوه أخرى، والدرجة الثانية: وهم الرافضة المعروفون، كالإمامية وغيرهم، الذين يعتقدون أن عليا هو الإمام الحق بعد النبي بنص جلي أو خفي وأنه ظلم ومنع حقه، ويبغضون أبا بكر وعمر ويشتمونهما، وهذا هو عند الأئمة سيما الرافضة وهو بغض أبي بكر وعمر وسبهما، والدرجة الثالثة: المفضلة من الزيدية وغيرهم، الذين يفضلون عليا على أبي بكر وعمر، ولكن يعتقدون إمامتهما وعدالتهما ويتولونهم ا، فهذه الدرجة وإن كانت باطلة، فقد نسب إليها طوائف من أهل الفقه والعبادة، وليس أهلها قريبا ممن قبلهم، بل هم إلى أهل السنة أقرب منهم إلى الرافضة ; لأنهم ينازعون الرافضة في إمامة الشيخين وعدلهما وموالاتهما، وينازعون أهل السنة في فضلهما على علي - والنزاع الأول أعظم، ولكن هم المرقاة التي تصعد منه الرافضة فهم لهم باب، وكذلك الجهمية على ثلاث درجات فشرها الغالية الذين ينفون أسماء الله وصفاته وإن سموه بشيء من أسمائه الحسنى قالوا: هو مجاز فهو في الحقيقة عندهم ليس بحي ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم ولا يتكلم، وكذلك وصف العلماء حقيقة قولهم كما ذكره الإمام أحمد فيما أخرجه في الرد على الزنادقة والجهمية قال: فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية فإذا قيل لهم: فمن تعبدون ؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فقلنا: فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة ؟ قالوا: نعم قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون، فقلنا لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم ; لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منتفية وإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يعلم أنهم إنما يقودون قولهم إلى ضلال وكفر، وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة، باب الرد على الجهمية في نفيهم علم الله وقدرته، قال الله عز وجل: { أنزله بعلمه }، وقال سبحانه: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه }، وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه، وقال سبحانه: { فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } وقال سبحانه: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء }، وذكر تعالى القوة فقال: { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } وقال: { ذو القوة المتين } وقال سبحانه: { والسماء بنيناها بأيد }، وزعمت الجهمية والقدرية: أن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر، وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير، فمنعهم من ذلك خوف السيف من إظهار نفي ذلك، فأتوا بمعناه ; لأنهم إذا قالوا لا علم ولا قدرة لله فقد قالوا إنه ليس بعالم ولا قادر ووجب ذلك عليهم، قال: وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل ; لأن الزنادقة قال كثير منهم ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت إن الله عز وجل عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية، من غير أن تثبت له علما أو قدرة أو سمعا أو بصرا، وكذلك قال في كتاب المقالات: الحمد لله الذي بصرنا خطأ المخطئين، وعمى العمين، وحيرة المتحيرين، الذين نفوا صفات رب العالمين، وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، لا صفات له، وأنه لا علم له، ولا قدرة ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له، ولا عزة له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له، وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه قال: وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة، الذين يزعمون أن للعالم صانعا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ولا قدير، وعبروا عنه بأن قالوا نقول: غير لم يزل ولم يزيدوا على ذلك، غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات، لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره، فأظهروا معناه، فنفوا أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به، غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك، قال: وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأنباري، كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة، وهذا القول الذي هو قول الغالية النفاة للأسماء حقيقة، هو قول القرامطة الباطنية، ومن سبقهم من إخوانهم الصابئة الفلاسفة، والدرجة الثانية: من التجهم هو تجهم المعتزلة ونحوهم، الذين يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة، لكن ينفون صفاته، وهم أيضا لا يقرون بأسماء الله الحسنى كلها على الحقيقة، بل يجعلون كثيرا منها على المجاز، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون، وأما الدرجة الثالثة: فهم الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، لكن فيهم نوع من التجهم، كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية، أو غير الخبرية، ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها، ومن هؤلاء من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث، كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه وطائفة من أهل الحديث، ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضا في الجملة، لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه، وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية أقرب منهم إلى أهل السنة المحضة، فإن هؤلاء ينازعون المعتزلة نزاعا عظيما فيما يثبتونه من الصفات أعظم من منازعتهم لسائر أهل الإثبات فيما ينفونه . اعرف رحمك الله تعالى وغناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها إذا لم تعرف قدر ما وصف، فما كلفك علم ما لم يصف، هل يستدل بذلك على شيء من طاعته أو ينزجر به عن معصيته، فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا قد استهوته الشياطين في الأرض حيران فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب من وسمى نفسه بأن قال لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فعمي عن البين بالخفي فجحد ما سمى الرب من نفسه لصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل: { وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة }: فقال لا يراه أحد يوم القيامة فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونظرته إياهم { في مقعد صدق عند مليك مقتدر }، فهم بالنظر إليه ينظرون إلى أن قال: وإنما جحد رؤيته يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك { هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا لا }: قال: مؤمنين وكان له جاحدا، { وقال المسلمون يا رسول الله: هل نرى ربنا فقال رسول الله : هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب، قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك }، وقال رسول الله : { لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض }، { وقال لثابت بن قيس: لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة }، وقال فيما بلغنا: { أن الله ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك قال: نعم قال: لا نعدم من رب يضحك } خيرا في أشباه لهذا مما لم يخصه، وقال الله تعالى: { وهو السميع البصير } وقال: { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا }، وقال: { ولتصنع على عيني }، وقال: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي }، وقال: { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } فوالله ما دلهم على عظم ما وصف من نفسه وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم، أن ذلك الذي ألقي في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم فما وصف الله من نفسه فسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ما سواه لا هذا ولا هذا لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف، اعلم رحمك الله أن العصمة في الدين أن تنتهي حيث انتهى بك ولا تجاوز ما قد حد لك فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذكر أصله في الكتاب والسنة وتوارثت علمه الأمة فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عينا ولا تتكلفن بما وصف من ذلك قدرا، وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في الحديث عن نبيك من ذكر ربك فلا تتكلفن علمه بعقلك ولا تصفه بلسانك واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف به نفسه مثل إنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحد الجاحدون مما وصف من نفسه فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها، فقدر الله عز وجل المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما يبلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته من الرب قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن، وما ذكر عن رسول الله أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمى ووصف الرب تعالى من نفسه والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدا، ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقا لأن الحق ترك ما ترك وسمى ما سمى فمن { يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا }، وهب الله لنا ولكم حكما وألحقنا بالصالحين، فتدبر كلام هذا الإمام وما فيه من المعرفة والبيان، والمقصود هنا تكلمه بلفظ من في مواضع عديدة كقوله: وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف فذكر أن صفة شيء منه لا يعرف أحد حدها ولا قدرها ثم قال: الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفة أصغر مخلوقاته فجعل الصفة هنا له لا لشيء منه، لأنه استدل بالعجز عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة المخلوق تم أمر بمعرفة ما ظهر علمه بالكتاب والسنة والسكوت عما لم يظهر علمه، وذم من نفى ما ذكر أو تكلف علم ما لم يذكر، فقال: اعرف غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها فذكر أن من نفسه ما لم يصفه ونهى عن تكلف صفته، لأن الذي وصفه من نفسه يعجز عن معرفة قدره، فالعجز عما لم يذكر أولى، قال: إذا لم تعرف قدر ما وصف فما كلفك علم ما لم يصف، ثم قال: فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال لا بد إن كان له كذا من أن يكون له هذا فجحد ما سمى الرب من نفسه لصمت الرب عما لم يسم منها فذكر أيضا في هذا الكلام أن الرب وصف من نفسه وسمى من نفسه ما وصف وسمى وصمت عما لم يسم من نفسه وأن الجهمية يجحدون الموصوف المسمى من نفسه بأن ذلك يستلزم كذا وينفون اللازم الذي صمت الرب عنه فلم يذكره بنفي ولا إثبات ثم بين أن الجهمي ينكر الرؤية لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدا، فذكر أن المؤمنين يرون منه يوم القيامة ما صدقوا به في الدنيا وجحدته الجهمية، وأن الجهمي علم أن رؤيته تستلزم ثبوت ما جحده فلذلك أنكرها، وهكذا فإن الرؤية تستلزم ثبوت ذلك لا ريب، ولهذا كان من أثبت الرؤية ووافق الجهمي على نفي لوازمها مخالفا للفطرة العقلية عند عامة العقلاء المثبتة والنافية، ثم قال: لما ذكر قوله والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، فوالله ما دلهم على عظم ما وصف من نفسه وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم، فذكر أن ما دلت عليه الآية هو ما وصفه من نفسه، وأن هذا الموصوف منه نظيره منهم صغير، فإذا كان هذا عظمة الذي هو صغير بالنسبة إلى ما لم يذكر فكيف بعظمة ما لم يصف من نفسه سبحانه وتعالى، ثم قال: فما وصف من نفسه فسماه سميناه كما سماه ولم تتكلف من صفة ما سواه، فذكر أنا نسمي ونصف ما سمى ووصف من نفسه، ولا نتكلف أن نصف منه ما سوى ذلك، لا نجحد الموصوف من نفسه ولا نتكلف معرفة ما لم يصفه من نفسه، وسائر كلامه يوافق هذا يبين أنه وصف من نفسه موصوفات وسكت عما لم يصفه من نفسه كقوله فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه مثل إنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحد الجاحدون مما وصف من نفسه فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها، فقد والله عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر، وبإنكارهم ينكر ويسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما يبلغهم مثله عن نبيه فما مرض من ذكر هذا وتسميته من الرب قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب قلب مؤمن، قوله في هذا الموضع يسمعون ما وصف الرب من نفسه من هذا في كتابه، فالله قال هنا ما وصف الرب به نفسه من هذا وفي سائر المواضع يقول ما وصف من نفسه، وذلك لأنه هنا قال يسمعون فلا بد أن يذكر الكلام الذي وصف الله به نفسه، والمسموع يتضمن ما وصفه من نفسه، فلهذا قال يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا وفي غير هذا الموضع، كقوله فما وصف من نفسه فسماه سميناه كما سماه، أراد ما دل عليه الكلام وبينه ووصفه وهو الذي وصفه الله من نفسه وسماه، وذلك يعلم ويعرف ويذكر ولا يسمع إلا إذا وصف وذكر وسيأتي بيان أن هذه الموصوفات التي وصفها الله من نفسه يوصف بها أيضا فهي موصوفة باعتبار والرب يوصف بها باعتبار، وذكر أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة له قال وفيما أجازني جدي رحمه الله قال: قال إسحاق بن راهويه إن الله تبارك وتعالى وصف نفسه من كتابه بصفات استغنى الخلق كلهم عن أن يصفوه بغير ما وصف به نفسه وأجله في كتابه، فإنما فسر النبي معنى إرادة الله تبارك وتعالى قال الله في كتابه حيث ذكر عيسى ابن مريم، فقال: { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } ( ) وقال في محكم كتابه: { فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله }، { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } ( )، وقال: { بل يداه مبسوطتان } وقال: { يد الله فوق أيديهم }، وقال: { خلقت بيدي } وقال في آيات كثيرة { وهو السميع البصير } وقال: { ولتصنع على عيني } وكل ما وصف الله به نفسه من الصفات التي ذكرناها مما هي موجودة في القرآن، وما لم نذكر فهو كما ذكر، وإنما يلزم العباد الاستسلام لذلك والتعبد لا نزيل صفة مما وصف الله به نفسه أو وصف الرسول عن جهته لا بكلام ولا بإرادة، وإنما يلزم المسلم الأداء ويوقن بقلبه أن ما وصف به نفسه في القرآن إنما هي صفاته، ولا يعقل نبي مرسل ولا ملك مقرب تلك الصفات إلا بالأسماء التي عرفهم الرب تبارك وتعالى، فأما أن يدرك أحد من بني آدم معنى تلك الصفات فلا يدركه أحد، وذلك أن الله تعالى إنما وصف من صفاته قدر ما تحتمله عقول ذوي الألباب، ليكون إيمانهم بذلك ومعرفتهم بأنه الموصوف بما وصف به نفسه ولا يعقل أحد منتهاه ولا منتهى صفاته، وإنما يلزم المسلم أن يثبت معرفة صفات الله بالإتباع والاستسلام كما جاء، فمن جهل معرفة ذلك حتى يقول إنما أصف ما قال الله ولا أدري ما معاني ذلك حتى يفضي إلى أن يقول بمعنى قول الجهمية يد نعمة ويحتج بقوله أيدينا أنعاما ونحو ذلك، فقد ضل عن سواء السبيل، هذا محض كلام الجهمية حيث يؤمنون بجميع ما وصفنا من صفات الله، ثم يحرفون معنى الصفات عن جهتها التي وصف الله بها نفسه، حتى يقولوا معنى السميع هو البصير ومعنى البصير هو السميع، ويجعلون اليد يد نعمة وأشباه ذلك يحرفونها عن جهتها لأنهم هم المعطلة، فقد تبين مستند حكاية ابن شجاع الثلجي وزرقان وغيرهما، لما ينقلونه عن أهل الإثبات من التحريف، كقولهم إن الله هو القرآن أو إن القرآن بعضه قال أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني وتلميذ أبي المعالي في شرح الإرشاد فصل كلام الله صدق والدليل عليه إجماع المسلمين والكذب نقص قال ومما تمسك به الأستاذ أبو إسحاق والقاضي أبو بكر وغيرهما أن قالوا الكلام القديم هو القول الذي لو كان كذبا لنافى العلم به من حيث إن العالم بالشيء من حقه أن يقوم به إخبار عن المعلوم على الوجه الذي هو معلوم له وهكذا القول في الكلام القائم بالنفس شاهد أو هو الذي يسمى التدبير أو حديث النفس وهو ما يلازم العلم، قال فإن قيل لو كان العلم ينافي الكذب لم يصح من الواحد منا كذب على طريق الجحد وليس كذلك فإن ذلك متصور موهوم، قلنا الجحد إنما يتصور من العالم بالشيء في العبارة باللسان دون القلب وصاحب الجحد وإن جحده باللسان هو معترف بالقلب فلا يصح منه الجحد بالقلب، فإن قالوا لا يمتنع تصور الجحد بالقلب وتصور العلم في النفس جميعا قلنا إن قدر ذلك على ما تتصورونه فلم يكن ذلك كلاما على التحقيق وإنما هو تقدير كلام كما أن العلم بوحدانيته قد يقدر في نفسه مذهب الثنوية ثم لا يكون ذلك منافيا لعلمه بالوحدانية ولو كان ذلك اعتقادا حقيقيا لنافاه فإذا ثبت أن العلم يدل على الخبر الصدق فإذا تعلق الخبر بالمخبر على وجه الصدق فتقدير خبر خلف مستحيل مع الخبر القديم إذ لا يتجدد الكلام قال فإن قيل فإذا جاز أن يكون الكلام أمرا من وجه نهيا من وجه فكذلك يجوز أن يكون صدقا من وجه كذبا من وجه، قلنا الأمر في الحقيقة هو النهي لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده والآمر بالشيء ناه عن ضده ولا تناقض فيه ولا يجوز أن يكون للصدق كذبا بوجه وتعلق الخبر بالمخبر بمثابة تعلق العلم بالمعلوم وإذا تعلق العلم بوجود الشيء فلا يكون علما بعدمه في حال وجوده، وقال أبو المعالي في إرشاده المشهور الذي هو زبور المستأخرين من أتباعه كما أن الغرر وتصفح الأدلة لأبي الحسين زبور المستأخرين من المعتزلة وكما أن الإشارات لابن سينا زبور المستأخرين من الفلاسفة تقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون، وإن كانت طائفة أبي المعالي أمثل وأولى بالإسلام فصل ومذهب الأشعري نفسه، وطبقته كأبي العباس القلانسي ونحوه ومن قبله من قبله من أئمته كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب ومن بعده من أئمة أصحابه الذين أخذوا عنه كأبي عبد الله بن مجاهد شيخ القاضي أبي بكر بن الباقلاني وأبي الحسن الباهلي شيخ ابن الباقلاني وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر بن فورك وكأبي الحسن علي بن مهدي الطبري صاحب التآليف في تأويل الأحاديث المشكلات الواردة في الصفات ونحوهم، والطبقة الثانية التي أخذت عن أصحابه كالقاضي أبي بكر إمام الطائفة وأبي بكر بن فورك وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي علي بن شاذان، وغير هؤلاء إثبات الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن أو السنن المتواترة كاستوائه على العرش والوجه واليد ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك، وقد رأيت كلام كل من ذكرته من هؤلاء يثبت هذه الصفات ومن لم أذكره أيضا، وكتبهم وكتب من نقل عنهم مملوءة بذلك، وبالرد على من يتأول هذه الصفات والأخبار بأن تأويلهما طريق الجهمية والمعتزلة ونحو ذلك .