إرشاد الفحول - الجزء الأول
ارشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول
الإمام الشوكاني
الفصل الأول : في تعريف أصول الفقه وموضوعه وفائدته واستمداده
إعلم أن لهذا اللفظ اعتبارين :
أحدهما باعتبار الإضافة والآخر باعتبار العلمية .
أما الاعتبار الأول
فيحتاج إلى تعريف المضاف وهو الأصول والمضاف إليه وهو الفقه ، لأن تعريف المركب يتوقف على تعريف مفرداته ضرورة توقف معرفة الكل على معرفة أجزائه ، ويحتاج أيضاً إلى تعريف الإضافة لأنها بمنزلة الجزء الصوري . أما المضاف فالأصول جمع أصل ، وهو في اللغة ما ينبني عليه غيره ، وفي الاصطلاح يقال على الراجح والمستصحب والقاعدة الكلية والدليل والأوفق بالمقام الرابع ، وقد قيل إن النقل عن المعنى اللغوي هنا خلاف الأصل ولا ضرورة هنا تلجئ إليه ، لأن الانبناء العقلي كانبناء الحكم على دليله يندرج تحت مطلق الانبناء ، لأن يشمل الانبناء الحسي كانبناء الجدار على أساسه ، والانبناء العقلي كانبناء الحكم على دليله ، ولما كان مضافاً إلى الفقه هنا وهو معنى عقلي دل على أن المراد الانبناء العقلي . وأما المضاف إليه وهو الفقه فهو في اللغة الفهم ، وفي الاصطلاح العلم بالأحكام الشرعية عن أدلته التفصيلية بالاستدلال ، وقيل التصديق بأعمال المكلفين التي تقصد لا لاعتقاد . وقيل معرفة النفس مالها وما عليها عملاً ، وقيل اعتقاد الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية ، وقيل هو جملة من العلوم يعلم باضطرار أنها من الدين . وقد اعترض على كل واحد من هذه التعريفات باعتراضات ، والأول أولاها إن حمل العلم فيه على ما يشمل الظن ، لأن غالب علم الفقه ظنون . وأما الإضافة فمعناها اختصاص المضاف بالمضاف إليه باعتبار مفهوم المضاف إليه فأصول الفقه ما تختص بالفقه من حيث كونه مبنياً عليه ومستنداً إليه ،
وأما الاعتبار الثاني :
فهو إدراك القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية ، وقيل هو العلم بالقواعد الخ ، وقيل هو نفس القواعد الموصلة بذاتها إلى استنباط الأحكام الخ ، وقيل هو طرق الفقه وفيه أن ذكر الأدلة التفصيلية تصريح باللازم المفهوم ضمناً لأن المراد استنباط الأحكام تفصيلاً وهو لا يكون إلا عن أدلتها تفصيلاً ويزاد عليه على وجه التحقيق لإخراج علم الخلاف والجدل فإنهما وإن اشتملا على القواعد الموصلة إلى مسائل الفقه لكن لا على وجه التحقيق بل الغرض منه إلزام الخصم . ولما كان العلم مأخوذاً في أصول الفقه عند البعض حسن ههنا أن نذكر تعريف مطلق العلم وقد اختلفت الأنظار في ذلك اختلافاً كثيراً حتى قال جماعة منها الرازي بأن مطلق العلم ضروري فيتعذر تعريفه واستدلوا بما ليس فيه شيء من الدلالة ويكفي في دفع ما قالوه ما هو معلوم بالوجدان لكل عاقل أن العلم ينقسم إلى ضروري ومكتسب .
وقال قوم منهم الجويني إنه نظري ولكنه يعسر تحديده ولا طريق إلى معرفته إلى القسمة والمثال فيقال مثلاً الاعتقاد إما جازم أو غير جازم والجازم إما مطابق أو غير مطابق والمطابق إما ثابت أو غير ثابت فخرج من هذه القسمة اعتقاد جازم مطابق ثابت وهو العلم . وأجيب عن هذا بأن القسمة والمثال إن أفاد تمييزاً لماهية العلم عما عداها صلحاً للتعريف لها فلا يعسر وإن لم يفيدا تمييزاً لم يصلح بهما معرفة ماهية العلم . وقال الجمهور : إنه نظري فلا يعسر تحديده ثم ذكروا له حدوداً ، فمنهم من قال هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو دليل وفيه أن الاعتقاد المذكور يعم الجازم وغير الجازم وعلى تقدير تقييده بالجازم يخرج عنه العلم بالمستحيل فإنه ليس بشيء اتفاقاً ،
ومنهم من قال : هو معرفة المعلوم على ما هو به وفيه أنه يخرج عن ذلك علم الله عز وجل إذ لا يسمى معرفة ، ومنهم من قال : هو الذي يوجب كون من قام به عالماً أو يوجب لمن قام به اسم العالم وفيه أن يستلزم الدور لأخذ العالم في تعريف العلم ، ومنهم من قال : هو ما يصح ممن قام به اتقان الفعل وفيه أن في المعلومات ما لا يقدر العالم على إتقانه كالمستحيل ، ومنهم من قال : هو اعتقاد جازم مطابق وفيه أنه يخرج عنه التصورات وهي علم ، ومنهم من قال هو حصول صورة الشيء في العقل أو الصورة الحاصلة عند العقل وفيه أنه يتناول الظن والشك والوهم والجهل المركب وقد جعل بعضهم هذا حداً للعلم الأعم الشامل للأمور المذكورة وفيه أن إطلاق اسم العلم على الشك والوهم والجهل المركب يخالف مفهوم العلم لغة واصطلاحاً ، ومنهم من قال : هو حكم لا يحتمل طرفاه أي المحكوم عليه وبه نقيضه وفيه أنه يخرج عنه التصور وهو علم ، ومنهم من قال : هو صفة توجب تمييزاً لمحلها لا يحتمل النقيض بوجه وفيه أن العلوم المستندة إلى العادة تحتمل النقيض لإمكان خرق العادة بالقدرة الإلهية ، ومنهم من قال : هو صفة يتجلى به المدرك للمدرك وفيه أن الإدراك مجاز عن العلم فيلزم تعريف الشيء بنفسه مع كون المجاز مهجوراً في التعريفات ودعوى اشتهاره في المعنى الأعم الذي هو جنس الأخص غير مسلمة ، ومنهم من قال هو صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به . قال المحقق الشريف وهذا أحسن ما قيل في الكشف عن ماهية العلم لأن المذكور يتناول الموجود والمعدوم والممكن والمستحيل بلا خلاف ويتناول المفرد والمركب والكلي والجزئي . والتجلي هو الانكشاف التام فالمعنى أنه صفة ينكشف بها لمن قامت به ما من شأنه أن يذكر انكشافاً تاماً لا اشتباه فيه ، فيخرج عن الحد الظن والجهل المركب واعتقاد المقلد المصيب أيضاً ، لأنه في الحقيقة عقدة على القلب فليس فيه انكشاف تام وانشراح ينحل به العقدة انتهى . وفيه أنه يخرج عنه إدراك الحواس فإنه لا مدخلية للمذكور فيه إن أريد به الذكر اللساني كما هو الظاهر وإن أريد به ما يتناول الذكر بكسر الذال والذكر بضمها فأما أن يكون من الجمع بين معنى المشترك أو من الجمع بين الحقيقة والمجاز وكلاهما مهجور في التعريفات هذا جملة ما قيل في تعريف العلم وقد عرفت ما ورد على كل واحد منها . والأولى عندي أن يقال في تحديده هو صفة ينكشف بها المطلوب التعريف للشيء قد يكون حقيقياً وقد يكون إسمياً فالحقيقي تعريف الماهيات الحقيقية والأسمى تعريف الماهيات الاعتبارية . وبيانه أن ما يتعلقه الواضع ليضع بإزائه إسماً إما أن يكون له ماهية حقيقية أو لا وعلى الأول إما أن يكون متعلقة نفس حقيقة ذلك الشيء أو وجوهاً واعتبارات منه فتعريف الماهية الحقيقية بمسمى الإسم من حيث إنها ماهية حقيقية تعريف حقيقي يفيد تصور الماهية في الذهن بالذاتيات كلها أو بعضها أو بالعرضيات أو بالمركبات منهما وتعريف مفهوم الإسم وما تعلقه الواضع فوضع الإسم بإزائه تعريف إسمي يفيد تبيين ما وضع الإسم بإزائه بلفظ أشهر فتعريف المعدومات لا يكون إلا إسمياً إذ لا حقائق لها ، بل لها مفهومات فقط وتعريف الموجودات قد يكون إسمياً ، وقد لا يكون حقيقياً إذ لها مفهومات وحقائق والشرط في كل واحد منهما الإطراد والانعكاس فالإطراد هو أنه كلما وجد الحد وجد المحدود فلا يدخل فيه شيء ليس من أفراد المحدود فهو بمعنى طرد الأغيار فيكون مانعاً ، والانعكاس هو أنه كلما وجد المحدود وجد الحد فلا يخرج عنه شيء من أفراده فهو بمعنى جمع الأفراد فيكون جامعاً . ثم العلم بالضرورة ينقسم إلى ضروري ونظري : فالضروري ما لا يحتاج في تحصيله إلى نظر والنظري ما يحتاج إليه ، والنظر هو الفكر المطلوب به علم أو ظن وقيل هو ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول وقيل هو حركة النفس من المطالب التصورية أو التصديقية طالبة للمبادئ وهي المعلومات التصورية أو التصديقية باستعراض صورها صورة صورة . وكل واحد من الضروري والنظري ينقسم إلى قسمين تصور وتصديق والكلام فيهما مبسوط في علم المنطلق . والدليل ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ، وقيل ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بالغير ، وقيل ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر وقيل هو ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول والأمارة هي التي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيها إلى الظن والظن تجويز راجح والوهم تجويز مرجوح والشك تردد الذهن بين الطرفين فالظن فيه حكم لحصول الراجحية ولا يقدح فيه احتماله للنقيض المرجوح والوهم لا حكم فيه لاستحالة الحكم بالنقيضين لأن النقيض الذي هو متعلق الظن قد حكم به فلو حكم بنقيضه المرجوح وهو متعلق الوهم لزم الحكم بهما جميعاً والشك لا حكم فيه بواحد من الطرفين لتساوي الوقوع واللاوقوع في نظر العقل فلو حكم بواحد منهما لزم الترجيح بلا مرجح ولو حكم بهما جميعاً لزم الحكم بالنقيضين . والاعتقاد في الاصطلاح هو المعنى الموجب لمن اختص به كونه جازماً بصورة مجردة أو بثبوت أمر أو نفيه ، وقيل هو الجزم بالشيء من دون سكون نفس ويقال على التصديق سواء كان جازماً أو غير جازم مطابقاً أو غير مطابق ثابتاً أو غير ثابت فيندرج تحته الجهل المركب لأنه حكم غير مطابق والتقليد لأنه جزم بثبوت أمر أو نفيه لمجرد قول الغير ،
وأما الجهل البسيط فهو مقابل للعلم والاعتقاد مقابلة العدم للملكة لأنه عدم العلم والاعتقاد عما من شأنه أن يكون عالماً أو معتقداً .
وأما موضوع علم أصول الفقه : فاعلم أن موضوع العلم ما يبحث فيه من أعراضه الذاتية ، والمراد بالعرض هنا المحمول على الشيء الخارج عنه ، وإنما يقال له العرض الذاتي لأنه يلحق الشيء لذاته كالإدراك للإنسان أو بواسطة أمر يساويه كالضحك للإنسان بواسطة تعجبه أو بواسطة أمر أعم منه داخل فيه كالتحرك للإنسان بواسطة كونه حيواناً .
والمراد بالبحث عن الأعراض الذاتية جملها على موضع العلم كقولنا الكتاب يثبت به الحكم أو على أنواعه كقولنا الأمر يفيد الوجوب أو على أعراضه الذاتية كقولنا النص يدل على مدلوله دلالة قطعية أو على أنواع أعراضه الذاتية كقولنا العام الذي خص منه البعض يدل على بقية أفراده دلالة ظنية وجميع مباحث أصول الفقه راجعة إلى إثبات أعراض ذاتية للأدلة والأحكام من حيث إثبات الأدلة للأحكام وثبوت الأحكام بالأدلة بمعنى أن جميع مسائل هذا الفن هو الإثبات والثبوت . وقيل موضوع علم أصول الفقه هو الدليل السمعي الكلي فقط من حيث أنه يوصل العلم بأحواله إلى قدرة إثبات الأحكام لأفعال المكلفين أخذاً من شخصياته ، والمراد بالأحوال ما يرجع إلى الإثبات وهو ذاتي للدليل والأول أولى .
وأما فائدة هذا العلم فهي العلم بأحكام الله أو الظن بها .
ولما كانت هذه الغاية بهذه المنزلة من الشرف كان علم طالبه بها ووقوفه عليها مقتضياً لمزيد عنايته به وتوفر رغبته فيه لأنها سبب الفوز بسعادة الدارين .
وأما استمداده فمن ثلاثة أشياء :
الأول :علم الكلام لتوقف الأدلة الشرعية على معرفة الباري سبحانه وصدق المبلغ وهما مبنيان فيه مقررة أدلتهما من مباحثه .
الثاني : اللغة العربية لأن فهم الكتاب والسنة والاستدلال بهما متوقفان عليها إذ هما عربيان .
الثالث : الأحكام الشرعية من حيث تصورها لأن المقصود إثباتها أو نفيها كقولنا الأمر للوجوب والنهي للتحريم والصلاة واجبة والربا حرام ووجه ذكرنا لما اشتمل عليه هذا الفضل أن يوجب زيادة بصيرة لطالب هذا العلم كما لا يخفى على ذي فهم .ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه ﷺ أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ﷺ ليصالحوا ، فلما رأى النبي ﷺ سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب .
( قوله : فدعا النبي ﷺ الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب .
( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي ﷺ لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي ﷺ تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه ﷺ به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي ﷺ بذلك.
( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله ﷺ : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين .
وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟
فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب .
( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي ﷺ مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ﷺ ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي ﷺ كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته .
( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي ﷺ دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله ﷺ. ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين .
قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه .
( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي ﷺ أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا .
( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله ﷺ كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام.
(قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي ﷺ لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية .
(قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.
(قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي ﷺ إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله ﷺ في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم.
(قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ﷺ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح.
(قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ.
(قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي ﷺ.
(قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي ﷺ وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات.
(قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك.
(قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه ﷺ بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي ﷺ: أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.
==============================
[عدل]الفصل الثاني في الأحكام
وإنما قدمنا الكلام في الأحكام على الكلام في اللغات ، لأنه يتعلق بالأحكام مسائل من مهمات علم الكلام سنذكرها إن شاء الله تعالى ، وفيه أربعة أبحاث :
البحث الأول في الحكم .
الثاني في الحاكم .
الثالث في المحكوم به .
الرابع في المحكوم عليه .
أما البحث الأول : فاعلم أن الحكم هو الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع فيتناول اقتضاء الوجود واقتضاء العدم إما مع الجزم أو مع جواز الترك ، فيدخل في هذا الواجب والمحظور والمندوب والمكروه وأما التخيير فهو الإباحة وأما الوضع فهو السبب والشرط والمانع فالأحكام التكليفية خمسة لأن الخطاب إما أن يكون جازماً أو لا يكون جازماً فإن كان جازماً ، فإما أن يكون طلب الفعل وهو لإيجاب أو طلب الترك وهو التحريم ، وإن كان غير جازم فالطرفان إما أن يكونا على السوية وهو الإباحة أو يترجح جانب الوجود وهو الندب أو يترجح جانب الترك وهو الكراهة فكانت الأحكام ثمانية : خمسة تكليفية وثلاثة وضعية وتسمية الخمسة تكليفية تغليب إذ لا تكليف في الإباحة بل ولا في الندب والكراهة التنزيهية عند الجمهور وسميت الثلاثة وضعية لأن الشارع وضعها علامات لأحكام تكليفية وجوداً وانتفاء . فالواجب في الاصطلاح ما يمدح فاعله ويذم تاركه على بعض الوجوه فلا يرد النقض بالواجب المخير وبالواجب على الكفاية فإنه لا يذم في الأول إذا تركه مع الآخر ولا يذم في الثاني إلا إذا لم يقم به غيره . وينقسم إلى معين ومخير ومضيق وموسع وعلى الأعيان وعلى الكفاية ويرادفه الفرض عند الجمهور وقيل الفرض ما كان دليله قطعياً والواجب ما كان دليله ظنياً والأول أولى . والمحظور ما يذم فاعله ويمدح تاركه ويقال له المحرم والمعصية والذنب والمزجور عنه والمتوعد عليه والقبيح . والمندوب ما يمدح فاعله ولا يذم تاركه ، وقيل هو الذي يكون فعله راجحاً في نظر الشرع ويقال له سنة إلا إذا داوم عليه الشارع كالوتر ورواتب الفرائض . والمكروه ما يمدح تاركه ولا يذم فاعله ويقال بالاشتراك على أمور ثلاثة على ما نهى عنه نهي تنزيه وهو الذي أشعر فاعله أن تركه خير من فعله وعلى ترك الأولى كترك صلاة الضحى وعلى المحظور المتقدم . والمباح ما لا يمدح على فعله ولا على تركه والمعنى أنه أعلم فاعله أنه لا ضرر عليه في فعله وتركه وقد يطلق على ما لا ضرر على فاعله وإن كان تركه محظوراً كما يقال « دم المرتد مباح » أي لا ضرر على من أراقه ويقال للمباح الحلال والجائز والمطلق . والسبب هو جعل وصف ظاهر منضبط مناطاً لوجود حكم أي يستلزم وجوده وجوده وبيانه أن الله سبحانه في الزاني مثلاً حكمين أحدهما تكليفي وهو وجوب الحد عليه والثاني وضعي وهو جعل الزنا سبباً لوجوب الحد لأن الزنا لا يوجب الحد بعينه وذاته بل بجعل الشرع . وينقسم السبب بالاستقراء إلى الوقتية كزوال الشمس لوجوب الصلاة والمعنوية كالاسكار للتحريك وكالملك للضمان والمعصية للعقوبة ، والشرط هو الحكم على الوصف بكونه شرطاً للحكم وحقيقة الشرط هو ما كان عدمه يستلزم عدم الحكم فهو وصف ظاهر منضبط يستلزم ذلك أو يستلزم عدم السبب لحكمة في عدمه تنافي حكمة الحكم أو السبب . وبيانه أن الحول شرط في وجوب الزكاة فعدمه يستلزم عدم وجوبها والقدرة على التسليم شرط في صحة البيع فعدمها يستلزم عدم صحته والاحصان شرط في سببية الزنا للرجم فعدمه يستلزم عدمها . والمانع هو وصف ظاهر منضبط يستلزم وجوده حكمة تستلزم عدم الحكم أو عدم السبب كوجود الأبوة فإنه يستلزم عدم ثبوت الاقتصاص للابن من الأب لأن كون الأب سبباً لوجود الابن يقتضي أن لا يصير الابن سبباً لعدمه . وفي هذا المثال الذي أطبق عليه جمهور أهل الأصول نظر لأن السبب المقتضي للقصاص هو فعله لا وجود الابن ولا عدمه ولا يصح أن يكون ذلك حكمة مانعة للقصاص ولكنه ورد الشرع بعدم ثبوت القصاص لفرع من أصل . والأولى أن يمثل لذلك بوجود النجاسة المجمع عليها في بدن المصلي أو ثوبه فإنه سبب لعدم صحة الصلاة عند من يجعل الطهارة شرطاً فههنا قد عدم شرط وهو الطهارة ووجد مانع وهو النجاسة لا عند من يجعلها واجبة فقط ، وأما المانع الذي يقتضي وجوده حكمة تخل بحكمة السبب فكالدين في الزكاة فإن حكمة السبب وهو الغنى مواساة الفقراء من فضل ماله ولم يدع الدين في المال فضلاً يواسي به هذا على قول من قال أن الدين مانع .
البحث الثاني في الحاكم : اعلم أنه لاخلاف في كون الحاكم الشرع بعد البعثة وبلوغ الدعوة وأما قبل ذلك ، فقالت الأشعرية لا يتعلق له سبحانه حكم بأفعال المكلفين فلا يحرم كفر ولا يجب إيمان وقالت المعتزلة إنه يتعلق له تعالى حكم بما أدرك العقل فيه صفة حسن أو قبح لذاته أو لصفته أو لوجوه واعتبارات على اختلاف بينهم في ذلك . قالوا والشرع كاشف عما أدركه العقل قبل وروده وقد اتفق الأشعرية والمعتزلة على أن العقل يدرك الحسن والقبح في شيئين الأول ملاءمة الغرض للطبع ومنافرته له فالموافق حسن عند العقل والمنافر قبيح عنده .
الثاني صفة الكمال والنقص فصفات الكمال حسنة عند العقل وصفات النقص قبيحة عنده . ومحل النزاع بينهم كما أطبق عليه جمهور المتأخرين وإن كان مخالفاً لما كان عند كثير من المتقدمين هو كون الفعل متعلق المدح والثواب والذم والعقاب آجلاً وعاجلاً فعند الأشعرية ومن وافقهم أن ذلك لا يثبت إلا بالشرع وعند المعتزلة ومن وافقهم أن ذلك ليس لكون الفعل واقعاً بإدراكه وقد لا يستقل ، أما الأول فالعقل يعلم بالضرورة حسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار ويعلم نظراً حسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع ، وأما الثاني فكحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم الذي بعده فإن العقل لا طريق له إلى العلم بذلك لكن الشرع لما ورد علمنا الحسن والقبح فيها . وأجيب بأن دخول هذه القبائح في الوجود ، إما أن يكون على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق ، وعلى التقديرين فالقول بالقبح باطل . بيان الأول أن فاعل القبيح ، إما أن يكون متمكناً من الترك أو لا يكون فإن لم يتمكن من الترك فقد ثبت الاضطرار وإن تمكن من الترك ، فإما يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح أو لا يتوقف إن لم يتوقف فاتفاقي لا اختياري لعدم الإرادة ، وإن توقف فذلك المرجح إما أن يكون من العبد أو من غيره أو لا منه ولا من غيره فالأول محال لأن الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محل ، والثاني يقال فيه أن عند حصول ذلك المرجح ، إما أن يجب قبول الأثر أو لا فإن وجب فقد ثبت الاضطرار لأن قبل وجود هذا المرجح كان الفعل ممتنع الوقوع وعند وجوده صار واجب الوقوع وليس وقوع هذا المرجح بالعبد ألبتة فلم يكن للعبد تمكن في شيء من الفعل والترك ولا معنى للاضطرار إلا ذلك وإن لم يجب حصول هذا المرجح لا يمتنع وجود الفعل تارة وعدمه أخرى فترجيح جانب الوجود على جانب العدم ، إما أن يتوقف على انضمام مرجح إليه أو لا يتوقف أن توقف لم يكن الحاصل قبل ذلك مرجحاً تاماً ، وقد فرضناه مرجحاً تاماً هذا خلف وإن لم يتوقف فلا ترجيح ألبتة وإلا لعاد القسم الأول وإن كان حصول ذلك المرجح لا من العبد ولا من غير العبد فحينئذ يكون واقعاً لا لمؤثر فيكون اتفاقياً . ورد هذا الجواب بأن القادر يرجح الفاعلية على التاركية من غير مرجح . وأجيب عن هذا الرد بأن ترجيح القادر إن كان له مفهوم زائد على كونه قادراً كان تسليماً لكون رجحان الفاعلية على التاركية لا يمكن إلا عند انضمام آخر إلى القادرية فيعود الكلام الأول وإن لم يكن له مفهوم زائد لم يكن لقولكم القادر يرجح أحد مقدورية على الآخر إلا مجرد أن صفة القادرية مستمرة في الأزمان كلها ثم إنه يوجد الأثر في بعض تلك الأزمنة دون بعض من غير أن يكون ذلك القادر قد رجحه وقصد إيقاعه ولا معنى للاتفاق إلا ذلك ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف لاستلزامه نفي المرجح مطلقاً والعلم الضروري حاصل لكل عاقل بأن الظلم والكذب والجهل قبيحة عند العقل وأن العدل والصدق والعلم حسنة عنده لكن حاصل ما يدركه العقل من قبيح هذا القبح وحسن هذا الحسن هو أن فاعل الأول يستحق الذم وفاعل الثاني يستحق المدح ، وأما كون الأول متعلقاً للعقاب الأخروي والثاني متعلقاً للثواب الأخروي فلا . واحتج المثبتون للتحسين والتقبيح العقليين بأن الحسن والقبح لو لم يكونا معلومين قبل الشرع لاستحال أن يعلما عند وروده لأنهما إن لم يكونا معلومين قبله فعند وروده بهما يكون وارداً بما لا يعقله السامع ولا يتصوره وذلك محال فوجب أن يكونا معلومين قبل وروده . وأجيب بأن الموقوف على الشرع ليس تصور الحسن والقبح فإنا قبل الشرع نتصور ماهية ترتب العقاب والثواب والمدح والذم على الفعل ونتصور عدم هذا الترتب فتصور الحسن والقبح لا يتوقف على الشرع إنما المتوقف عليه هو التصديق فأين أحدهما من الآخر ؟ واحتج المثبتون أيضاً بأنه لو لم يكن الحكم بالحسن والقبح إلا بالشرع لحسن من الله كل شيء ولو منه كل شيء لحسن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب ولو حسن منه ذلك لما أمكننا التمييز بين النبي والمنبئ وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع . وأجيب بأن الاستدلال بالمعجز على الصدق مبني على أن الله إنما خلق ذلك المعجز للصدق وكل من صدقه الله فهو صادق وبأن العقل يمنع من خلق المعجز على يد الكاذب مطلقاً لأن خلقه عند الدعوى يوهم أن المقصود منه التصديق فلو كان المدعى كاذباً لكان ذلك إيهاماً لتصديق الكاذب وأنه قبيح والله لا يفعل القبيح واحتج المثبتون أيضاً بأنه لو حسن من الله كل شيء لما قبح منه الكذب وعلى هذا لا يبقى اعتماد على وعده ووعيده . وأجيب بأن هذا وارد عليهم لأن الكذب قد يحسن في مثل الدفع به عن قتل إنسان ظلماً وفي مثل من توعد غيره بأن يفعل به ما لا يجوز من أنواع الظلم ثم ترك ذلك فإنه هنا يحسن الكذب ويقبح الصدق ورد بأن الحكم قد يتخلف عن المقتضى المانع ولا اعتبار بالنادر على أنه يمكن أن يقع الدفع لمن أراد أن يفعل ما لا يحل بإيراد المعاريض فإن فيهما مندوحة عن الكذب . واحتج المثبتون أيضاً بأنه لو قيل للعاقل إن صدقت أعطيناك ديناراً وإن كذبت أعطيناك ديناراً فإنا نعلم بالضرورة أن العاقل يختار الصدق ولو لم يكن حسناً لما اختاره . وأجيب بأنه إنما يترجح الصدق على الكذب في هذه الصورة لأن أهل العلم اتفقوا على قبح الكذب وحسن الصدق لما أن نظام العالم لا يحصل إلا بذلك والإنسان لما نشأ على هذا الاعتقاد واستمر عليه لا جرم ترجح الصدق عنده على الكذب ورد هذا بأن كل فرد من أفراد الإنسان إذا فرض نفسه خالية عن الإلف والعادة والمذهب والاعتقاد ثم عرض عليها عند هذا الفرض هذه القضية وجدها جازمة بترجيح الصدق على الكذب . وبالجملة فالكلام في هذا البحث يطول وإنكار مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسناً أو قبيحاً مكابرة ومباهتة ، وأما إدراكه لكون ذلك الفعل الحسن متعلقاً للثواب وكون ذلك الفعل القبيح متعلقاً للعقاب فغير مسلم وغاية ما تدركه العقول أن هذا الفعل الحسن يمدح فاعله وهذا الفعل القبيح يذم فاعله ولا تلازم بين هذا وبين كونه متعلقاً للثواب والعقاب . ومما يستدل به على هذه المسألة في الجملة قوله سبحانه : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً - وقوله - ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى - وقوله - لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ونحو هذا .
البحث الثالث في المحكوم به : هو فعل المكلف فمتعلق الإيجاب يسمى واجباً ومتعلق الندب يسمى مندوباً ومتعلق الإباحة يسمى مباحاً ومتعلق الكراهة يسمى مكروهاً ومتعلق التحريم يسمى حراماً وقد تقدم حد كل واحد منها وفيه ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : إن شرط الفعل الذي وقع التكليف به أن يكون ممكناً فلا يجوز التكليف بالمستحيل عند الجمهور وهو الحق وسواء كان مستحيلاً بالنظر إلى ذاته أو بالنظر إلى امتناع تعلق قدرة المكلف به . وقال جمهور الأشاعرة بالجواز مطلقاً ، وقال جماعة منهم أنه ممتنع في الممتنع لذاته جائز في الممتنع لامتناع تعلق قدرة المكلف به احتج الأولون بأنه لو صح التكليف بالمستحيل لكان مطلوباً حصوله واللازم باطل لأن تصور ذات المستحيل مع عدم تصور ما يلزم ذاته لذاته من عدم الحصول يقتضي أن تكون ذاته غير ذاته فيلزم قلب الحقائق . وبيانه أن المستحيل لا يحصل له صورة في العقل فلا يمكن أن يتصور شيء هو اجتماع النقيضين فتصوره إما على طريق التشبيه بأن يعقل بين السواد والحلاوة أمر هو الاجتماع ثم يقال مثل هذا الأمر لا يمكن حصوله بين السواد والبياض ، وإما على سبيل النفي بأن يعقل أنه لا يمكن أن يوجد مفهوم اجتماع السواد والبياض ، وبالجملة فلا يمكن تعلقه بماهيته بل باعتبار من الاعتبارات . والحاصل أن قبح التكليف بما لا يطاق معلوم بالضرورة فلا يحتاج إلى استدلال والمجوز لذلك لم يأت بما نبغي الاشتغال بتحريره والتعرض لرده ولهذا وافق كثير من القائلين بالجواز على امتناع الوقوع فقالوا يجوز التكليف بما لا يطاق مع كونه ممتنع الوقوع ، ومما يدل على هذه المسألة في الجملة قوله سبحانه : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وقد ثبت في الصحيح أن الله سبحانه قال عند هذه الدعوات المذكورة في القرآن قد فعلت وهذه الآيات ونحوها إنما تدل على عدم الوقوع لا على عدم الجواز على أن الخلاف في مجرد الجواز لا يترتب عليه فائدة أصلاً ، قال المثبتون للتكليف بما لا يطاق لو لم يصح التكليف به لم يقع وقد وقع لأن العاصي مأمور بالإيمان وممتنع منه الفعل لأن الله قد علم أنه لا يؤمن ووقوع خلاف معلومه سبحانه محال وإلا لزم الجهل واللازم باطل فالملزوم مثله وقالوا أيضاً بأنه لو لم يجز لم يقع وقد وقع فإنه سبحانه كلف أبا جهل بالإيمان وهو تصديق رسوله في جميع ما جاء به ومن جملة ما جاء به أن أبا جهل لا يصدقه فقد كلفه بأن يصدقه في أنه لا يصدقه وهو محال . وأجيب عن الدليل الأول بأن ذلك لا يمنع قصور الوقوع لجواز وقوعه من المكلف في الجملة وإن امتنع لغيره من علم أو غيره فهو في غير محل النزاع ، وعن الثاني بأنه لم يكلف إلا بتصديق وهو ممكن في نفسه متصور وقوعه إلا أنه ممن علم الله أنهم لا يصدقونه كعلمه بالعاصين . هذا الكلام في التكليف بما لا يطاق أو التكليف بما علم الله أنه لا يقع فالإجماع منعقد على صحته ووقوعه .
المسألة الثانية : أن حصول الشرط الشرعي ليس شرطاً في التكليف عند أكثر الشافعية والعراقيين من الحنفية . وقال جماعة منهم الرازي وأبو حامد وأبو زيد والسرخسي هو شرط وهذه المسألة ليست على عمومها إذ لا خلاف في أن مثل الجنب والمحدث مأموران بالصلاة بل هي مفروضة في جزئي منها وهو أن الكفار مخاطبون بالشرائع أي بفروع العبادات عملاً عند الأولين لا عند الآخرين وقال قوم من الآخرين هم مكلفون بالنواهي لأنها أليق بالعقوبات الزاجرة دون الأوامر والحق ما ذهب إليه الأولون وبه قال الجمهور ولا خلاف في أنهم مخاطبون بأمر الإيمان لأن مبعوث إلى الكافة وبالمعاملات أيضاً والمراد بكونهم مخاطبين بفروع العبادات أنهم مؤاخذون بها في الآخرة مع عدم حصول الشرط الشرعي وهو الإيمان . استدل الأولون بالأوامر العامة كقوله : يا أيها الناس اعبدوا ربكم - ونحوها وهم من جملة الناس واستدلوا أيضاً بما ورد من الوعيد للكفار على الترك كقوله ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين لا يقال قولهم ليس بحجة لجواز كذبهم لأنا نقول ولو كذبوا لكذبوا واستدلوا أيضاً بقوله سبحانه : وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة وقوله ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً واستدل الآخرون بأنهم لو كلفوا بها لصحت لأن الصحة موافقة الأمر أو لأمكن الامتثال لأن الإمكان شرط ولا يصح منهم لأن الكفر مانع ولا يمكن الامتثال حال الكفر لوجود المانع ولا بعده وهو حال الموت لسقوط الخطاب . وأجيب بأنه غير محل النزاع لأن حالة الكفر ليست قيداً للفعل في مرادهم بالتكليف به مسبوقاً للإيمان والكافر يتمكن من أن يسلم ويفعل ما وجب عليه كالجنب والمحدث فإنهما مأموران بالصلاة مع تلبسهما بمانع عنها يجب عليهما إزالته لتصح منهما والامتناع الوصفي لا ينافي الإمكان الذاتي واستدلوا أيضاً بأنه لو وقع التكليف للكفار لوجب عليهم القضاء . وأجيب بمنع الملازمة لأنه لم يكن بينه وبين وقوع التكليف وصحته ربط عقلي لا سيما على قول من يقول إن القضاء لا يجب إلا بأمر جديد وأيضاً قوله سبحانه : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف مع الكفر ، وأجيب بأن الكفر مانع من الترك كالفعل لأنها عبادة يثاب العبد عليها ولا تصح إلا بعد الإيمان وأيضاً المكلف به في النهي هو الكف وهو فعل .
المسألة الثالثة : إن التكليف بالفعل والمراد به أثر القدرة الذي هو الاكوان لا التأثير الذي هو أحد الأعراض النسبية ثابت قبل حدوثه اتفاقاً وينقطع بعده اتفاقاً ولا اعتبار بخلاف من خالف في الطرفين فهو بين السقوط وما قالوه من أنه لو انقطع انعدم الطلب القائم بذات الله سبحانه وصفاته أبدية فهو مردود بأن كلامه سبحانه واحد والتعدد في العوارض الحادثة من التعلق ككونه أمراً أو نهياً وانتفاؤهما لا يوجب انتفاء واختلفوا هل التكليف به باق حال حدوثه أم لا ؟ فقال جمهور الأشعرية : هو باق وقالت المعتزلة والجوني : ليس بباق وليس مراد من قال بالبقاء أن تعلق التكليف بالفعل لنفسه إذ لا انقطاع له أصلاً ولا أن تنجيز التكليف باق لأن التكليف بإيجاد الموجود محال لأن طلب يستدعي مطلوباً غير حاصل وهو تكليف بالمحال ولا أن القدرة مع الفعل لاستلزمه أن لا تكليف قبله وهو خلاف المعقول وخلاف الإجماع فإن القاعد مكلف بالقيام إلى الصلاة بل مرادهم أن التكليف باقي عند التأثير لكن التأثير عين الأثر عندهم واستدلوا بأن الفعل مقدور حال لأنه أثر القدرة فيوجد معها وإذا كان مقدوراً حينئذ فيصح التكليف به لأنه لا مانع إلا عدم القدرة وقد انتفى . وأجيب بأنه يلزم التكليف بإيجاد الموجود وهو محال ، ويرد بأن ذلك لا يلزم لأن المحال إنما هو إيجاد الموجود بوجود سابق لا بوجود حاصل .
البحث الرابع : في المحكوم عليه وهو المكلف . اعلم أنه يشترط في صحة التكليف بالشرعيات فهم المكلف لما كلف به بمعنى تصوره بأن يفهم من الخطاب القدر الذي يتوقف عليه الامتثال لا بمعنى التصديق به وإلا لزم الدور ولزم عدم تكليف الكفار لعدم حصول التصديق واستدلوا على اشتراط الفهم بالمعنى الأول بأنه لو لم يشترط لزم المحال لأن التكليف استدعاء حصول الفعل على قصد الامتثال وهو محال عادة وشرعاً ممن لا شعور له بالأمر وأيضاً يلزم تكليف البهائم إذ لا مانع من تكليفها إلا عدم الفهم وقد فرض أنه غير مانع في صورة النزاع وقد تقدم بيان فساد قولهم فتقرر بهذا أن المجنون غير مكلف وكذلك الصبي الذي لم يميز لأنهما لا يفهمان خطاب التكليف على الوجه المعتبر . وأما لزوم أرش جنايتهما ونحو ذلك فمن أحكام الوضع لا من أحكام التكليف وأما الصبي المميز فهو وإن كان يمكنه تمييز بعض الأشياء لكنه تمييز ناقص بالنسبة إلى تمييز المكلفين وأيضاً ورد الدليل برفع التكليف قبل البلوغ ومن ذلك حديث رفع القلم عن ثلاثة وهو وإن كان في طرقه مقال لكنه باعتبار كثرة طرقه من قسم الحسن وباعتبار تلقي الأمة له بالقبول لكونهم بين عامل به ومؤول له صار دليلاً قطعياً ويؤيده حديث من اخضر مئزره فاقتلوه وأحاديث النهي عن قتل الصبيان حتى يبلغوا كما ثبت عنه صضص في وصاياه لأمرائه عند غزوهم للكفار وأحاديث أنه صضص كان لا يأذن في القتال إلا لمن بلغ سن التكليف والأدلة في هذا الباب كثيرة ولم يأت من خالف في ذلك بشيء يصلح لإيراده كقولهم إنه قد صح طلاق السكران ولزمه أرش جنايته وقيمة ما أتلفه وهذا استدلال ساقط لخروجه عن محل النزاع في أحكام التكليف لا في أحكام الوضع ومثل هذا من أحكام الوضع وأما استدلالهم بقوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون حيث قالوا إنه أمر لمن لا يعلم ما يقول ومن لا يعلم ما يقول لا يفهم ما يقال له فقد كلف من لا يفهم التكليف ورد بأنه نهى عن السكر عند إرادة الصلاة فالنهي متوجه إلى الصدور ورد أيضاً بغير هذا مما لا حاجة إلى التطويل بذكره . ووقع الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة هل المعدوم مكلف أم لا فذهب الأولون إلى الأول والآخرون إلى الآخر وليس مراد الأولين بتكليف المعدوم أن الفعل أو الفهم مطلوبان منه حال عدمه فإن بطلان هذا معلوم بالضرورة فلا يرد عليهم ما أورده الآخرون من أنه إذا امتنع تكليف النائم والغافل امتنع تكليف المعدوم بالأولى بل مرادهم التعلق العقلي أي توجه الحكم في الأزل إلى من علم الله وجوده مستجمعاً شرائط التكليف واحتجوا بأنه لو لم يتعلق التكليف بالمعدوم لم يكن التكليف أزلياً لأن توقفه على الوجود الحادث يستلزم كونه حادثاً واللازم باطل فالملزوم مثله لأنه أزلي لحصوله بالأمر والنهي وهما كلام الله وهو أزلي وهذا البحث يتوقف على مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه وهي مقررة في علم الكلام ، واحتج الآخرون بأنه لو كان المعدوم يتعلق به الخطاب لزم أن يكون الأمر والنهي والخبر والنداء والاستخبار من غير متعلق موجود وهو محال ورد بعدم تسليم كونه محالاً بل هو محل النزاع وتطويل الكلام في هذا البحث قليل الجدوى بل مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه وإن طالت ذيولها وتفرق الناس فيها فرقاً وامتحن بها من امتحن من أهل العلم وظن من ظن أنها من أعظم مسائل أصول الدين ليس لها كبير فائدة ، بل هي من فضول العلم ، ولهذا صان الله سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم عن التكلم فيها .ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه ﷺ أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ﷺ ليصالحوا ، فلما رأى النبي ﷺ سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب .
( قوله : فدعا النبي ﷺ الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب .
( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي ﷺ لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي ﷺ تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه ﷺ به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي ﷺ بذلك.
( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله ﷺ : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين .
وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟
فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب .
( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي ﷺ مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ﷺ ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي ﷺ كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته .
( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي ﷺ دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله ﷺ. ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين .
قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه .
( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي ﷺ أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا .
( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله ﷺ كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام.
(قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي ﷺ لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية .
(قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.
(قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي ﷺ إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله ﷺ في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم.
(قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ﷺ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح.
(قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ.
(قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي ﷺ.
(قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي ﷺ وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات.
(قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك.
(قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه ﷺ بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي ﷺ: أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.
=============
[عدل]الفصل الثالث في المبادئ اللغوية
اعلم أن البحث إما أن يقع عن ماهية الكلام أو عن كيفية دلالته ، ثم لما كانت دلالته وضعية فالبحث عن هذه الكيفية إما أن يقع عن الواضع أو الموضوع أو الموضوع له أو عن الطريق التي يعرف بها الوضع فهذه أبحاث خمسة .
البحث الأول : عن ماهية الكلام ، وهو يقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس وعلى الأصوات المقطعة المسموعة ولا حاجة إلى البحث في هذا الفن عن المعنى الأول ، بل المحتاج إلى البحث عنه فيه هو المعنى الثاني فالأصوات كيفية للنفس وهي الكلام المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة المتواضع عليها والانتظام هو التأليف للأصوات المتوالية على السمع وخرج بقوله الحروف الحرف الواحد لأن أقل الكلام حرفان وبالمسموعة الحروف المكتوبة وبالمتميزة أصوات ما عدا الإنسان وبالمتواضع عليها المهملات وقد خصص النحاة الكلام بما تضمن كلمتين بالإسناد وذهب كثير من أهل الأصول إلى أن الكلمة الواحدة تسمى كلاماً .
البحث الثاني : عن الواضع . اختلف في ذلك على أقوال الأول أن الواضع هو الله سبحانه وإليه ذهب الأشعري وأتباعه وابن فورك . القول الثاني أن الواضع هو البشر وإليه ذهب أبو هاشم ومن تابعه من المعتزلة . القول الثالث أن ابتداء اللغة وقع بالتعليم من الله سبحانه والباقي بالاصطلاح . القول الرابع أن ابتداء اللغة وقع بالاصطلاح والباقي توقيف ، وبه قال الأستاذ أبو اسحق ، وقيل إنه قال بالذي قبله . والقول الخامس أن نفس الألفاظ دلت على معانيها بذاتها ، وبه قال عباد بن سليمان الصيمري . القول السادس أنه يجوز كل واحد من هذه الأقوال من غير جزم بأحدها وبه قال الجمهور كما حكاه صاحب المحصول .
احتج أهل القول الأول بالمنقول والمعقول . أما المنقول فمن ثلاثة أوجه :
الأول : قوله سبحانه : وعلم آدم الأسماء كلها دل هذا على أن الأسماء توقيفية وإذا ثبت ذلك في الأسماء ثبت أيضاً في الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفرق ، وأيضاً الإسم إنما سمي إسماً لكونه علامة على مسماه والأفعال والحروف كذلك وتخصيص الإسم ببعض أنواع الكلام اصطلاح للنحاة .
الوجه الثاني : أن الله سبحانه ذم قوماً على تسميتهم بعض الأشياء دون توقيف بقوله إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان فلو لم تكن اللغة توقيفية لما صح هذا الذم .
الوجه الثالث : قوله سبحانه : ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم والمراد اختلاف اللغات لا اختلافات بالتفات الألسن . وأما المعقول فمن وجهين :
الأول : أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره وذلك لا يعرف إلا بطريق كالألفاظ والكتابة وكيفما كان فإن ذلك الطريق ، إما الاصطلاح ويلزم التسلسل أو التوقيف وهو المطلوب .
الوجه الثاني : أنها لو كانت بالمواضعة لجوز العقل اختلافها وأنها على غير ما كانت عليه ، لأن اللغات قد تبدلت وحينئذ لا يوثق بها . وأجيب عن الاستدلال بقوله وعلم آدم الأسماء بأن المراد بالتعليم الإلهام كما في قوله وعلمناه صنعة لبوس لكم أو تعليم ما سبق وضعه من خلق آخر ، أو المراد بالأسماء المسميات بدليل قوله ثم عرضهم ويجاب عن الاستدلال بقوله إن هي إلا أسماء سميتموها بأن المراد ما اخترعوه من الأسماء للأصنام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ووجه الذم مخالفة ذلك لما شرعه الله . وأجيب عن الاستدلال بقوله واختلاف ألسنتكم بأن المراد التوقيف عليها بعد الوضع وإقرار الخلق على وضعها . ويجاب على الوجه الأول من المعقول بمنع لزوم التسلسل ، لأن المراد وضع الواضع هذا الاسم لهذا المسمى ، ثم تعريف غيره بأنه وضعه كذلك . ويجاب عن الوجه الثاني بأن تجويز الاختلاف خلاف الظاهر ، ومما يدفع هذا القول أن حصول اللغات لو كان بالتوقيف من الله عز وجل لكان ذلك بإرسال رسول لتعليم الناس لغتهم لأنه الطريق المعتاد في التعليم للعباد ولم يثبت ذلك ويمكن أن يقال إن آدم عليه السلام علمها غيره وأيضاً يمكن أن يقال أن التعليم لا ينحصر في الإرسال لجواز حصوله بالإلهام ، وفيه أن مجرد الإلهام لا يوجب كون اللغة توقيفية ، بل هي من وضع الناس بإلهام الله سبحانه لهم كسائر الصنائع .
احتج أهل القول الثاني : بالمنقول والمعقول ، أما المنقول فقوله سبحانه وتعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه أي بلغتهم فهذا يقتضي تقدم اللغة على بعثة الرسل ، فلو كانت اللغة توقيفية لم يتصور ذلك إلا بالإرسال فيلزم الدور لأن الآية تدل على سبق اللغات للإرسال والتوقيف يدل على سبق الإرسال لها . وأجيب بأن كون التوقيف لا يكون إلا بالإرسال إنما يوجب سبق الإرسال على التوقيف لا سبق الإرسال على اللغات حتى يلزم الدور ، لأن الإرسال لتعليمها إنما يكون بعد وجودها معلومة للرسول عادة لترتب فائدة الإرسال عليه . وأجيب أيضاً بأن آدم عليه السلام علمها كما دلت عليه الآية وإذا كان هو الذي علمها لأقدم رسول اندفع الدور . وأما المعقول فهو أنها لو كانت توقيفية لكان إما أن يقال إنه تعالى يخلق العلم الضروري بأن وضعها لتلك المعاني أو لا يكون كذلك . والأول لا يخلو ، إما أن يقال خلق ذلك العلم في عاقل أو في غير عاقل وباطل أن يخلقه في عاقل لأن العلم بأنه سبحانه وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به سبحانه ، فلو كان ذلك العلم ضرورياً لكان العلم به سبحانه ضرورياً ، ولو كان العلم بذاته سبحانه ضرورياً لبطل التكليف لكن ذلك باطل لما ثبت أن كل عاقل يجب أن يكون مكلفاً ، وباطل أن يخلقه في غير العاقل لأن من البعيد أن يصير الإنسان الغير العاقل عالماً بهذه اللغات العجيبة والتركيبات اللطيفة .
احتج أهل القول الثالث : بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره ، فإن عرفه بأمر آخر اصطلاحي لزم التسلسل فثبت أنه لا بد في أول الأمر من التوقيف ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغات كثيرة بسبب الاصطلاح بل ذلك معلوم بالضرورة ، فإن الناس يحدثون في كل زمان ألفاظاً ما كانوا يعلمونها قبل ذلك . وأجيب بمنع توقفه على الاصطلاح بل يعرف ذلك بالترديد والقرائن كالأطفال .
وأما أهل القول الرابع : فلعلهم يحتجون على ذلك بأن فهم ما جاء توقيفاً لا يكون إلا بعد تقدم الاصطلاح والمواضعة . ويجاب عنه بأن التعليم بواسطة رسول أو بإلهام يغني عن ذلك .
واحتج أهل القول الخامس : بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما لكان تخصيص الاسم المعين للمسمى المعين ترجيحاً بدون مرجح وإن كان بينهما مناسبة ثبت المطلوب ، وأجيب بأنه إن كان الواضع هو الله سبحانه كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين كتخصيص الاسم والمسمى كان ذلك ثابتاً في وضعه سبحانه وإن خفي علينا وإن كان الواضع البشر فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في ذلك الوقت بالبال دون غيره كما يخطر ببال الواحد منا أن يسمي ولده باسم خاص .
واحتج أهل القول السادس : على ما ذهبوا إليه من الوقف بأن هذه الأدلة التي استدل بها القائلون لا يفيد شيء منها القطع بل لم ينهض شيء منها لمطلق الدلالة فوجب عند ذلك الوقف لأن ما عداه هو من التقول على الله بما لم يقل وأنه باطل وهذا هو الحق .
البحث الثالث : عن الموضوع . اعلم أنه لما كان الفرد الواحد من هذا النوع الإنساني لا يستقل وحده بإصلاح جميع ما يحتاج إليه لم يكن بد في ذلك من جمع ليعين بعضهم بعضاً فيما يحتاج إليه ، وحينئذ يحتاج كل واحد منهم إلى تعريف صاحبه بما في نفسه من الحاجات وذلك التعريف لا يكون إلا بطريق من أصوات مقطعة أو حركات مخصوصة أو نحو ذلك فجعلوا الأصوات المقطعة هي الطريق إلى التعريف لأن الأصوات أسهل من غيرها وأقل مؤنة ولكون إخراج النفس أمراً ضرورياً فصرفوا هذا الأمر الضروري إلى هذا التعريف ولم يتكلفوا له طريقاً أخرى غير ضرورية مع كونها تحتاج إلى مزاولة ، وأيضاً فإن الحركات والإشارات قاصرة عن إفادة جميع ما يراد فإن ما يراد تعريفه قد لا تمكن الإشارة الحسية إليه كالمعدومات . إذا عرفت هذا فاعلم أن الموضوعات اللغوية هي كل لفظ وضع لمعنى فيخرج ما ليس بلفظ من الدول الموضوعة وما ليس بموضوع من المحرفات والمهملات ويدخل في اللفظ المفردات والمركبات الستة وهي الإسنادي والوصفي والإضافي والعادي والمزجي والصوتي . ومعنى الوضع يتناول أمرين : أعم وأخص ، فالأعم تعيين اللفظ بإزاء معنى ، والأخص تعيين اللفظ للدلالة على معنى .
البحث الرابع : عن الموضوع له . قال الجويني والرازي وغيرهما : إن اللفظ موضوع للصورة الذهنية سواء كانت موجودة في الذهن والخارج أوفى الذهن فقط ، وقيل هو موضوع للموجود الخارجي وبه قال أبو إسحاق ، وقيل هو موضوع للأعم من الذهني والخارجي ورجحه الأصفهاني ، وقيل أن اللفظ في الأشخاص : أي الأعلام الشخصية موضوع للموجود الخارجي ولا ينافي كونه للموجود الخارجي وجوب استحضار الصورة الذهنية فالصورة الذهنية آلة لملاحظة الوجود الخارجي لا أنها هي الموضوع لها ، وأما فيما عدا الأعلام الشخصية فاللفظ موضوع لفرد غير معين وهو الفرد المنتشر فيما وضع المفهوم كلى أفراده خارجية أو ذهنية ، فإن كانت خارجية فالموضوع له فرد ما من تلك الأفراد الخارجية ، وإن كانت ذهنية له فرد ما من الذهنية ، وإن كانت ذهنية وخارجية فالاعتبار بالخارجية وقد ألحق علم الجنس بالأعلام الشخصية من يفرق بينه وبين اسم الجنس فيجعل علم الجنس موضوعاً للحقيقة المتحدة واسم الجنس لفرد منها غير معين . وفي اسم الجنس مذهبان :
أحدهما : أنه موضوع للماهية مع وحدة لا بعينها ويسمى فرداً منتشراً وإلى هذا ذهب الزمخشري وابن الحاجب ورجحه السعد وابن الهمام .
والثاني : أنه موضوع للماهية من حيث هي ، ورجحه الشريف ، فالموضوع له على المذهب الأول هو الماهية بشرط شيء ، وعلى المذهب الثاني هو الماهية لا بشرط شيء .
البحث الخامس : عن الطريق التي يعرف بها الوضع . اعلم أنه لما كان الكتاب والسنة واردين بلغة العرب وكان العلم بهما متوقفاً على العلم بها كان العلم بها من أهم الواجبات ولا بد في ذلك من معرفة الطريقة التي نقلت هذه اللغة العربية بها إلينا إذ لا مجال للعقل في ذلك لأنها أمور وضعية والأمور الوضعية لا يستقل العقل بإدراكها فلا تكون الطريق إليها إلا نقلية ، والحق أن جميعها منقول بطريق التواتر ، وقيل ما كان منها لا يقبل التشكيك كالأرض والسماء والحر والبرد ونحوها فهو منقول بطريق التواتر ، وما كان منها يقبل التشكيك كاللغات التي فيها غرابة فهو منقول بطريق الآحاد ولا وجه لهذا فإن الأئمة المشتغلين بنقل اللغة قد نقلوا غريبها كما نقلوا غيره وهم عدد لا يجوز العقل تواطأهم على الكذب في كل عصر من العصور هذا معلوم لكل من له علم بأحوال المشتغلين بلغة العرب ، وقد أورد الرازي في المحصول تشكيكاً على هذا كعادته المستمرة في مصنفاته حتى في تفسير الكتاب العزيز ، فقال أما التواتر فالأشكال عليه من وجوه :
الأول : أنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ دوراناً على ألسنة المسلمين اختلافاً لا يمكن القطع بما هو الحق كلفظة الله تعالى فإن بعضهم زعم أنه ليست بعربية بل سريانية ، والذين جعلوها عربية اختلفوا في أنها من الأسماء المشتقة أو الموضوعة ، والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافاً شديداً ، وكذا القائلون بكونها موضوعة اختلفوا أيضاً اختلافاً كثيراً . ومن تأمل أدلتهم في تعيين مدلول هذه اللغة علم أنها متعارضة وأن شيئاً منها لا يفيد الظن الغالب فضلاً عن اليقين ، وكذا اختلفوا في الإيمان والكفر والصلاة والزكاة حتى إن كثيراً من المحققين في علم الاشتقاق زعم أن اشتقاق الصلاة من الصلوين وهما عظما الورك ومن المعلوم أن هذا الاشتقاق غريب ، وكذلك اختلفوا في الأوامر والنواهي وصيغ العموم مع شدة اشتهارها وشدة الحاجة إليها اختلافاً شديداً ، وإذا كان الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إلى استعمالها ماسة جداً كذلك فما ظنك بسائر الألفاظ ؟ وإذا كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذر انتهى . ولا يخفاك أن محل النزاع هو كون نقل هذه اللغة العربية إلينا بطريق التواتر في اللغة والنحو متعذر انتهى . ولا يخفاك أن محل النزاع هو كون نقل اللغة العربية إلينا بطريق التواتر عن العرب الموثوق بعربيتهم فالاختلاف في الاشتقاق والوضع وغير ذلك خارج عن محل النزاع ولا يصلح للتشكيك به بوجه من الوجوه وقد تنبه الرازي لهذا فقال فإن قلت : هب أنه لا يمكن دعوى التواتر في معاني هذه الألفاظ على سبيل التفصيل ولكنا نعلم معانيها في الجملة فنعلم أنهم يطلقون لفظ الله تعالى على الإله سبحانه وإن كنا لا نعلم مسمى هذا اللفظ أهو الذات أم المعبودية أم القادرية وكذا القول في سائر الألفاظ . قلت حاصل ما ذكره قادراً على الاختراع أو كونه ملجأ الخلق أو كونه بحيث تتحير العقول في إداركه إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ وذلك يفيد نفي القطع بمسماه ، وإذا كان الأمر كذلك في هذه اللفظة مع نهاية شهرتها ونهاية الحاجة إلى معرفتها كان تمكن الاحتمال فيما عداها أظهر انتهى . وهذا الجواب باطل لأن هذه اللفظة قد نقلت إلينا على طريقة التواتر ، ونقل إلينا الناقلون لها أنها موضوعة للرب سبحانه وتعالى وهذا القدر يكفي في الاستدلال به على محل النزاع ، وأما الاختلاف في مفهوم الإله سبحانه وتعالى فبحث آخر لا يقدح به على محل النزاع أصلاً ، ثم قال مردفاً لذلك التشكيك بتشكيك آخر وهو أن من شرط التواتر استواء الطرفين والوسط فهب أن علمنا حصول شرائط التواتر في حفاظ اللغة والنحو والتصريف في زماننا فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمنة انتهى . ويجاب عنه بأن علمنا حصولها فيهم في سائر الأزمنة بنقل الأئمة الثقات الأثبات المشتغلين بأحوال النقلة إجمالاً وتفصيلاً ، ثم أطال الكلام على هذا ، ثم عاد إلى النشكيك في نقلها آحاداً وجميع ما جاء به مدفوع مردود فلا نشتغل بالتطويل بنقله والكلام عليه ففيما ذكرنا من الرد عليه ما يرشد إلى الرد لبقية ما شكك به .
وقد اختلف في جواز إثبات اللغة بطريق القياس فجوزه القاضي أبو بكر الباقلاني وابن شريح وأبو إسحق الشيرازي والرازي وجماعة من الفقهاء ومنعه الجويني والغزالي والآمدي وهو قول عامة الحنفية وأكثر الشافعية واختاره ابن الحاجب وابن الهمام وجماعة من المتأخرين وليس النزاع فيما ثبت تعميمه بالنقل كالرجل والضارب أو بالاستقراء كرفع الفعل ونصب المفعول بل النزاع فيما إذا سمي مسمى باسم في هذا الاسم باعتبار أصله من حيث الاشتقاق أو غيره معنى يظن اعتباراً هذا المعنى في التسمية لأجل دوران ذلك الاسم مع هذا المعنى وجوداً وعدماً ويوجد ذلك المعنى في غير ذلك الاسم . فهل يتعدى ذلك الاسم المذكور إلى ذلك الغير بسبب وجود ذلك المعنى فيه فيطلق ذلك الاسم عليه حقيقة إذ لا نزاع في جواز الإطلاق مجازاً إنما الخلاف في الإطلاق حقيقة وذلك كالخمر الذي هو اسم للنيء من ماء العنب إذا غلي واشتد وقذف بالزبد إذا أطلق على النبيذ إلحاقاً له بالنيء المذكور بجامع المخامرة للعقل فإنها معنى في الاسم يظن اعتباره في تسمية النيء المذكور به لدوران التسمية معه فمهما لم توجد في ماء العنب لا يسمى خمراً بل عصيراً وإذا وجدت فيه سمي به وإذا زالت عنه لم يسم به بل خلا وقد وجد ذلك في النبيذ أو يخص اسم الخمر بمخامر للعقل هو ماء العنب المذكور فلا يطلق حقيقة على النبيذ ، وكذلك تسمية النباش سارقاً للأخذ بالخفية واللائط زانياً للإيلاج المحرم . احتج المجوزون بأن دوران الاسم مع المعنى وجوداً وعدماً يدل على أنه المعتبر لأن يفيد الظن . وأجيب بأن إفادة الدوران لذلك ممنوعة لما سيأتي في مسالك العلة وبعد التسليم لإفادة الدوران وكونه طريقاً صحيحة ، فنقول إن أردتم بدوران الاسم مع المعنى المذكور دوراناً مطلقاً سواء وجد في أفراد المسمى أو غيرها بادعاء ثبوت الاسم في كل مادة يوجد فيها ذلك المعنى وانتفائه في كل ما لم يوجد فيه بطريق النقل فغير المفروض لأن ما يوجد فيه ذلك المعنى حينئذ يكون من أفراد المسمى فلا يتحقق إلحاق فرع بأصل وإن أردتم بدوران الاسم مع المسمى أن يدور معه في الأصل المقيس عليه فقط لوجود الاسم في كل مادة يوجد فيها المسمى وانتفائه في كل ما لم يوجد فيه منعنا كونه طريقاً مثبتاً تسمية الشيء باسم لمشاركة المسمى في معنى دار الاسم معه وجوداً وعدماً ، وإن سلمنا كونه طريقاً صحيحة لإثبات الحكم في الشرعيات فذلك لا يستلزم إثبات كونه طريقاً صحيحة في إثبات الاسم وتعديته من محل إلى محل آخر لأن القياس في الشرعيات سمعي ثبت اعتباره بالسماع من الشارع وتعبدنا به لا أنه عقلي . وأجيب ثانياً بالمعارضة على سبيل القلب بأنه دار أيضاً مع المحل ككونه ماء العنب ومال الحي ووطئاً في القبل فدل على أنه معتبر والمعنى جزء من العلة ، ومن قال بقطع النباش وحد شارب النبيذ فذلك لعموم دليل السرقة والحد أو لقياسهما على السارق والخمر قياساً شرعياً في الحكم لا لأنه يسمى النباش سارقاً والنبيذ خمراً بالقياس في اللغة كما زعمتم وأيضاً القياس في اللغة إثبات بالمحتمل وهو غير جائز لأن كما يحتمل التصريح باعتباره يحتمل التصريح بمنعه وأيضاً لا يصح الحكم بالوضع بمجرد الاحتمال المجرد عن الرجحان وأيضاً هذه اللغة العربية قد تقدم الخلاف هل هي توقيفية أو اصطلاحية وعلى القولين فلا طريق إليها إلا النقل وعلى القول بالتفصيل كذلك لأنه راجح إلى القولين . وإذا عرفت هذا علمت أن الحق منع إثبات اللغة بالقياس .ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه ﷺ أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ﷺ ليصالحوا ، فلما رأى النبي ﷺ سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب .
( قوله : فدعا النبي ﷺ الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب .
( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي ﷺ لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي ﷺ تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه ﷺ به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي ﷺ بذلك.
( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله ﷺ : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين .
وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب .
( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي ﷺ مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ﷺ ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي ﷺ كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته .
( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي ﷺ دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله ﷺ. ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين .
قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه .
( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي ﷺ أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا .
( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله ﷺ كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام.
(قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي ﷺ لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية .
(قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.
(قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي ﷺ إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله ﷺ في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم.
(قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ﷺ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح.
(قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ.
(قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي ﷺ.
(قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي ﷺ وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات.
(قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك.
(قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه ﷺ بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي ﷺ: أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.
الفصل الرابع في تقسيم اللفظ إلى مفرد ومركب
اعلم أن اللفظ إن قصد بجزء منه الدلالة على جزء معناه فهو مركب وإلا فهو مفرد ، والمفرد إما واحد أو متعدد وكذلك معناه فهذه أربعة أقسام :
الأول : الواحد للواحد إن لم يشترك في مفهومه كثيرون لا محققاً ولا مقدراً فمعرفة لتعينه إما مطلقاً أي وضعاً واستعمالاً فعلم شخصي وجزئي شخصي وجزئي حقيقي إن كان فرداً أو مضافاً بوضعه الأصلي سواء كان العهد أي اعتبار الحضور لنفس الحقيقة أو لحصة منها معينة مذكورة أو في حكمها أو مبهمة من حيث الوجود معينة من حيث التخصيص أو لكل من الحصص وإما بالإشارة الحسية فاسمها وأما بالعقلية فلا بد من دليلها سابقاً كضمير الغائب أو معاً كضميري المخاطب والمتكلم أو لاحقاً كالموصولات وإن اشترك في مفهومه كثيرون تحقيقاً أو تقديراً فكلي فإن تناول الكثير على أنه واحد فجنس وإلا فاسم الجنس وأيا ما كان فتناوله لجزئياته إن كان على وجه التفاوت بأولية أو أولوية أو أشدية فهو كالمشكك وإن كان تناوله لها على السوية فهو كالمتواطئ وكل واحد من هذه الأقسام إن لم يتناول وضعاً إلا فرداً معيناً فخاص خصوص البعض وإن تناول الأفراد واستغرقها فعام سواء استغرقها مجتمعة أو على سبيل البدل والأول يقال له العموم الشمولي والثاني البدلي وإن لم يستغرقها فإن تناول مجموعاً غير محصور فيسمى عاماً عند من لم يشترط الاستغراق كالجمع المنكر وعند من اشترط واسطة والراجح أنه خاص لأن دلالته على أقل الجمع قطعية كدلالة المفرد على الواحد وإن لم يتناول مجموعاً بل واحداً أو اثنين أو يتناول محصوراً فخاص خصوص الجنس أو النوع .
الثاني : اللفظ المتعدد للمعنى المتعدد ويسمى المتباين سواء تفاصلت أفراده كالإنسان والفرس أو تواصلت كالسيف والصارم .
الثالث : اللفظ الواحد للمعنى المتعدد فإن وضع لكل فمشترك وإلا فإن اشتهر في الثاني فمنقول ينسب إلى ناقله وإلا فحقيقة ومجاز .
الرابع : اللفظ المتعدد للمعنى الواحد ويسمى المترادف وكل من الأربعة ينقسم إلى مشتق وغير مشتق وإلى صفة وغير صفة ثم دلالة اللفظ على تمام ما وضع له مطابقة وعلى جزئه تضمن وعلى الخارج التزام وجميع ما ذكرنا ههنا قد بين في علوم معروفة فلا تطيل البحث فيه ولكنا نذكرها ههنا خمس مسائل تتعلق بهذا العلم تعلقاً تاماً .
ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه ﷺ أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ﷺ ليصالحوا ، فلما رأى النبي ﷺ سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب .
( قوله : فدعا النبي ﷺ الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب .
( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي ﷺ لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي ﷺ تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه ﷺ به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي ﷺ بذلك.
( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله ﷺ : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين .
وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب .
( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي ﷺ مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ﷺ ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي ﷺ كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته .
( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي ﷺ دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله ﷺ. ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين .
قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه .
( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي ﷺ أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا .
( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله ﷺ كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام.
(قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي ﷺ لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية .
(قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.
(قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي ﷺ إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله ﷺ في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم.
(قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ﷺ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح.
(قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ.
(قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي ﷺ.
(قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي ﷺ وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات.
(قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك.
(قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه ﷺ بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي ﷺ: أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.
====
[عدل]المسألة الأولى : في الاشتقاق
الاشتقاق أن تجد بين اللفظين تناسباً في المعنى والتركيب فنرد أحدهما إلى الآخر . وأركانه أربعة : أحدها اسم موضوع لمعنى وثانيها شيء آخر له نسبة إلى ذلك المعنى وثالثها مشاركة بين هذين الاسمين في الحروف الأصلية ورابعها تغيير يلحق ذلك الاسم في حرف فقط أو حركة فقط أو فيهما معاً وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة إما أن يكون بالزيادة أو النقصان أو بهما معاً فهذه تسعة أقسام : أحدها زيادة الحركة ثانيها زيادة الحرف ثالثها زيادتهما رابعها نقصان الحركة خامسها نقصان الحرف سادسها نقصانها سابعها زيادة لحركة مع نقصان الحرف ثامنها زيادة الحرف مع نقصان الحركة تاسعها أن يزاد فيه حركة وحرف وينقص عنه حركة وحرف ، وقيل تنتهي أقسامه إلى خمسة عشر وذلك لأنه يكون إما بحركة أو حرف بزيادة أو نقصان أو بهما والتركيب مثنى وثلاث ورباع . وينقسم إلى الصغير والكبير والأكبر لأن المناسبة أعم من الموافقة فمع الموافقة في الحروف والترتيب صغير وبدون الترتيب كبير نحو جذب وجبذ وكنى وناك وبدون الموافقة أكبر لمناسبة ما كالمخرج في ثلم وثلب أو الصفة كالشدة في الرجم والرقم فالمعتبر في الأولين الموافقة وفي الأخير المناسبة والاشتقاق الكبير والأكبر ليس من غرض الأصولي لأن المبحوث عنه في الأصول إنما هو المشتق بالاشتقاق الصغير . واللفظ ينقسم إلى قسمين صفة وهي ما دل على ذات مبهمة غير معينة بتعين شخصي ولا جنسي متصفة بمعين كضارب ، فإن معناه ذات لها الضرب وغير صفة وهو ما لا يدل على ذات مبهمة متصفة بمعين . ثم اختلفوا هل بقاء وجه الاشتقاق شرط لصدق الاسم المشتق فيكون للمباشر حقيقة اتفاقاً وفي الاستقبال مجازاً اتفاقاً وفي الماضي الذي قد انقطع خلاف مشهور بين الحنفية والشافعية فقالت الحنفية مجاز وقالت الشافعية حقيقة وإليه ذهب ابن سينا من الفلاسفة وأبو هشام من المعتزلة . احتج القائلون بالاشتراط بأن الضارب بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس بضارب وإذا صدق عليه ذلك وجب أن لا يصدق عليه أنه ضارب لأن قولنا ضارب يناقضه في العرف قولنا ليس بضارب .
وأجيب بمنع أن نفيه في الحال يستلزم نفيه مطلقاً فإن الثبوت في الحال أخص من الثبوت مطلقاً ونفى الأخص لا يستلزم نفي الأعم إلا أن يراد النفي المقيد بالحال لا نفي المقيد بالحال . وأجيب أيضاً بأن اللازم النفي في الجملة ولا ينافي الثبوت في الجملة إلا أن الاعتبار بالمنافاة في اللغة لا في العقل واحتجوا ثانياً بأنه لو صح إطلاق المشتق إطلاقاً حقيقياً باعتبار ما قبله لصح باعتبار ما بعده ولا يصح اتفاقاً . وأجيب بمنع الملازمة فإنه قد يشترط المشترك بين الماضي والحال وهو كونه ثبت له الضرب . واحتج النافون بإجماع أهل اللغة على صحة ضارب أمس والأصل في الإطلاق الحقيقة . وأجيب بأنه مجاز بدليل إجماعهم على صحة ضارب غداً وهو مجاز اتفاقاً ، ويجاب عنه بأن مجازيته لعدم تلبسه بالفعل لا في الحال ولا في الماضي فلا يستلزم مجازية ضارب أمس . والحق أن إطلاق المشتق على الماضي الذي قد انقطع حقيقة لاتصافه بذلك في الجملة وقد ذهب قوم إلى التفصيل فقالوا إن كان معناه ممكن البقاء اشترط بقاؤه فإذا مضى وانقطع فمجاز وإن كان غير ممكن البقاء لم يشترط بقاؤه فيكون إطلاقه عليه حقيقة وذهب آخرون إلى الوقف ولا وجه له فإن أدلة صحة الإطلاق الحقيقية على ما مضى وانقطع ضاهرة قوية .
ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه ﷺ أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ﷺ ليصالحوا ، فلما رأى النبي ﷺ سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب .
( قوله : فدعا النبي ﷺ الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب .
( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي ﷺ لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي ﷺ تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه ﷺ به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي ﷺ بذلك.
( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله ﷺ : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين .
وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب .
( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي ﷺ مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ﷺ ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي ﷺ كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته .
( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي ﷺ دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله ﷺ. ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين .
قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه .
( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي ﷺ أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا .
( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله ﷺ كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام.
(قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي ﷺ لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية .
(قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.
(قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي ﷺ إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله ﷺ في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم.
(قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ﷺ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح.
(قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ.
(قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي ﷺ.
(قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي ﷺ وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات.
(قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك.
(قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه ﷺ بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي ﷺ: أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.
===============
[عدل]المسألة الثانية : في الترادف
هو توالي الألفاظ المفردة الدالة على مسمى واحد باعتبار معنى واحد فيخرج عن هذه الأدلة اللفظين على مسمى واحد لا باعتبار واحد بل باعتبار صفتين كالصارم والمهند أو باعتبار الصفة وصفة الصفة كالفصيح والناطق .
والفرق بين الأسماء المترادفة والأسماء المؤكدة أن المترادفة تفيد فائدة واحدة من غير تفاوت أصلاً ، وأما المؤكدة فإن الاسم الذي وقع به التأكيد يفيد تقوية المؤكد أو رفع توهم التجوز أو السهو أو عدم الشمول وقد ذهب الجمهور إلى إثبات الترادف في اللغة العربية وهو الحق وسببه إما تعدد الوضع أو توسيع دائرة التعبير وتكثير وسائله وهو المسمى عند أهل هذا الشأن بالافتنان أو تسهيل مجال النظم والنثر وأنواع البديع فإنه قد يحصل أحد اللفظين المترادفين للقافية أو السجعة دون الآخر وقد يحصل التجنيس والتقابل والمطابقة ونحو ذلك هذا دون هذا وبهذا يندفع ما قاله المانعون لوقوع الترادف في اللغة من أنه لو وقع لعري عن الفائدة لكفاية أحدهما فيكون الثاني من باب العبث ويندفع أيضاً ما قالوه من أنه يكون من تحصيل الحاصل ولم يأتوا بحجة مقبولة في مقابلة ما هو معلوم بالضرورة من وقوع الترادف في لغة العرب مثل الأسد والليث والحنطة والقمح والجلوس والقعود وهذا كثير جداً وإنكاره مباهتة وقولهم أن ما يظن أنه من الترادف هو من اختلاف الذات والصفة كالإنسان والبشر أو الصفات كالخمر لتغطية العقل والعقار لعقره أو لمعاقرته أو اختلاف الحالة السابقة كالقعود من القيام والجلوس من الاضطجاع تكلف ظاهر وتعسف بحت ، وهو وإن أمكن تكلف مثله في بعض المواد المترادفة فإنه لا يمكن في أكثرها يعلم هذا كل عالم بلغة العرب فالعجب من نسبة المنع من الوقوع إلى مثل ثعلب وابن فارس مع توسعهما في هذا العلم .ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه ﷺ أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ﷺ ليصالحوا ، فلما رأى النبي ﷺ سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب .
( قوله : فدعا النبي ﷺ الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب .
( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي ﷺ لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي ﷺ تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه ﷺ به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي ﷺ بذلك.
( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله ﷺ : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين .
وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب .
( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي ﷺ مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ﷺ ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي ﷺ كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته .
( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي ﷺ دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله ﷺ. ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين .
قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه .
( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي ﷺ أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا .
( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله ﷺ كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام.
(قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي ﷺ لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية .
(قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.
(قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي ﷺ إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله ﷺ في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم.
(قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ﷺ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح.
(قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ.
(قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي ﷺ.
(قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي ﷺ وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات.
(قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك.
(قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه ﷺ بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي ﷺ: أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.
==========
[عدل]المسألة الثالثة : في المشترك
وهو اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعاً أولاً من حيث هما كذلك فخرج بالوضع ما يدل على الشيء بالحقيقة وعلى غيره بالمجاز وخرج بقيد الحيثية المتواطئ فإنه يتناول الماهيات المختلفة لكن لا من حيث هي كذلك بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد وقد اختلف أهل العلم في المشترك فقال قوم أنه واجب الوقوع في لغة العرب وقال آخرون أنه ممتنع الوقوع وقالت طائفة أنه جائز الوقوع . احتج القائلون بالوجوب بأن الألفاظ متناهية والمعاني غير متناهية والمتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك ولا ريب في عدم تناهي المعاني لأن الأعداد منها وهي غير متناهية بلا خلاف . واحتجوا ثانياً بأن الألفاظ العامة كالموجود والشيء ثابتة في لغة العرب ، وقد ثبت أن وجود كل شيء نفس ماهيته فيكون وجود الشيء مخالفاً لوجود الآخر مع أن كل واحد منهما يطلق عليه لفظ الموجود بالاشتراك . وأجيب عن الدليل الأول بمنع عدم تناهي المعاني إن أريد بها المختلفة أو المتضادة وتسليمه مع منع عدم وفاء الألفاظ بها إن أريد المتماثلة المتحدة في الحقيقة أو المطلقة فإن الوضع للحقيقة المشتركة كاف في التفهيم وأيضاً لو سلم عدم تناهي كل منها لكان عدم تناهي ما يحتاج إلى التعبير والتفهيم ممنوعاً وأيضاً لا نسلم تناهي الألفاظ لكونها متركبة من المتناهي فإن أسماء العدد غير متناهية مع تركبها من الألفاظ المتناهية . وأجيب عن الدليل الثاني بأنا لا نسلم أن الألفاظ العامة ضرورية في اللغة وإن سلمنا ذلك لا نسلم أن الموجود مشترك لفظي لم لا يجوز أن يكون مشتركاً معنوياً وإن سلمنا ذلك لم لا يجوز اشتراك الموجودات كلها في حكم واحد سوى الوجود وهو المسمى بتلك اللفظة العامة واحتج القائلون بالامتناع بأن المخاطبة باللفظ المشترك لا يفيد فهم المقصود على التمام وما كان كذلك يكون منشأ للمفاسد . وأجيب بأنه لا نزاع في أنه لا يحصل الفهم التام بسماع اللفظ المشترك لكن هذا القدر لا يوجب نفيه لأن أسماء الأجناس غير دالة على أحوال تلك المسميات لا نفياً ولا إثباتاً والأسماء المشتقة لا تدل على تعيين الموصوفات ألبتة ولم يستلزم ذلك نفيها وكونها غير ثابتة في اللغة .
واحتج من قال بجواز الوقوع وإمكانه بأن المواضعة تابعة لأغراض المتكلم وقد يكون للإنسان غرض في تعريف غيره شيئاً على التفصيل وقد يكون غرضه ذلك الشيء على الإجمال بحيث يكون ذكر التفصيل سبباً للمفسدة كما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لمن سأله عن الهجرة عن النبي صضص من هو فقال هو رجل يهدني السبيل ولأنه ربما لا يكون المتكلم واثقاً بصحة الشيء على التعيين إلا أنه يكون واثقاً بصحة وجود أحدهما لا محالة فحينئذ يطلق اللفظ المشترك لئلا يكذب ولا يكذب ولا يظهر جهله بذلك فإن أي معنى لا يصح فله أن يقول أنه كان مرادي الثاني . وبعد هذا كله فلا يخفاك أن المشترك موجود في هذه اللغة العربية لا ينكر ذلك إلا مكابر كالقرء فإنه مشترك بين الطهر والحيض مستعمل فيهما من غير ترجيح وهو معنى الاشتراك ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة وقد أجيب عن هذا بمنع كون القرء حقيقة فيها لجواز مجازية أحدهما وخفاء موضع الحقيقة ورد بأن المجاز إن استغنى عن القرينة التحق بالحقيقة وحصل الاشتراك وهو المطلوب وإلا فلا تساوي ، ومثل القرء العين فإنها مشتركة بين معانيها المعروفة وكذا الجون مشترك بين الأبيض والأسود وكذا عسعس مشترك بين أقبل وأدبر وكما هو واقع في لغة العرب بالاستقراء فهو أيضاً واقع في الكتاب والسنة فلا اعتبار بقول من قال أنه غير واقع في الكتاب فقط أو غير واقع فيهما لا في اللغة .
ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه ﷺ أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ﷺ ليصالحوا ، فلما رأى النبي ﷺ سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب .
( قوله : فدعا النبي ﷺ الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب .
( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي ﷺ لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي ﷺ تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه ﷺ به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي ﷺ بذلك.
( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله ﷺ : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين .
وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب .
( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي ﷺ مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ﷺ ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي ﷺ كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته .
( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي ﷺ دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله ﷺ. ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين .
قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه .
( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي ﷺ أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا .
( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله ﷺ كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام.
(قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي ﷺ لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية .
(قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.
(قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي ﷺ إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله ﷺ في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم.
(قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ﷺ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح.
(قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ.
(قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي ﷺ.
(قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي ﷺ وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات.
(قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك.
(قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه ﷺ بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي ﷺ: أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.
===
[عدل]المسألة الرابعة : اختلف في جواز استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه
فذهب الشافعي والقاضي أبو بكر وأبو علي الجبائي والقاضي عبد الجبار بن أحمد والقاضي جعفر والشيخ حسن وبه قال الجمهور وكثير من أئمة أهل البيت إلى جوازه وذهب أبو هاشم وأبو الحسن البصري والكرخي إلى امتناعه . ثم اختلفوا فمنهم من منع منه لأمر يرجع إلى القصد ومنهم من منع منه لأمر يرجع إلى الوضع والكلام يبتني على بحث هو هل يلزم من كون اللفظ لمعنيين أو معاني على البدل أن يكون موضوعاً لهما أولها على الجمع أم لا ؟ فقال المانعون أن المعلوم بالضرورة المغايرة بين المجموع وبين كل واحد من الأفراد لأن الوضع تخصيص لفظ يمعنى فكل وضع يوجب أن لا يراد باللفظ إلا هذا الموضع له ويوجب أن يكون هذا المعنى تمام المراد باللفظ فاعتبار كل من الوضعين ينافي اعتبار الآخر فاستعماله للمجموع استعمال له في غير ما وضع له وأنه غير جائز وإن قلنا أن ذلك اللفظ وضع للمجموع فلا يخلو إما أن يستعمل لإفادة المجموع وحده مع إفادة أفراد فإن كان الأول لم يكن اللفظ مفيداً إلا لأحد مفهوماته لأن الواضع وضعه بإزاء أمور ثلاثة على البدل وأحدها ذلك المجموع فاستعمال اللفظ فيه وحده لا يكون استعمالاً له في كل مفهوماته وإن قلنا أنه مستعمل في إفادة المجموع والأفراد على البدل فهو محال كما قدمنا . واحتج المجوزون بأمور أحدها أن الصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار ثم إن الله سبحانه أراد بقوله إن الله وملائكته يصلون على النبي كلا المعنيين ، وهذا هو الجمع بين معنى المشترك . وأجيب بأن هذه الآية ليس فيها استعمال الاسم المشترك في أكثر من معنى واحد لأن سياق الآية لإيجاب اقتداء المؤمنين بالله وملائكته في الصلاة على النبي صضص فلا بد من اتحاد معنى الصلاة في الجميع لأنه لو قيل إن الله يرحم النبي والملائكة يستغفرون له يا أيها الذين آمنوا ادعوا له لكان هذا الكلام في غاية الركاكة فعلم أنه لا بد من اتحاد معنى الصلاة سواء كان معنى حقيقياً أو معنى مجازياً أما الحقيقي فهو الدعاء فالمراد أنه سبحانه يدعو ذاته بإيصال الخير إلى النبي صضص ثم من لوازم هذا الدعاء الرحمة فالذي قال إن الصلاة من الله الرحمة قد أراد هذا المعنى لا أن الصلاة وضعت للرحمة . وأما المجازي فكإرادة الخير ونحو ذلك مما يليق بهذا المقام ثم إن اختلف ذلك لأجل اختلاف الموصوف فلا بأس به ولا يكون هذا من باب الاشتراك بحسب الوضع واحتجوا أيضاً بقوله سبحانه : ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض الآية فإنه نسب السجود إلى العقلاء وغيرهم كالشجر والدواب فما نسب إلى غير العقلاء يراد به الانقياد لا وضع الجبهة على الأرض وما نسب إلى العقلاء يراد به وضع الجبهة على الأرض إذ لو كان المراد الانقياد لما قال - وكثير من الناس - لأن الانقياد شامل لجميع الناس وأجيب بأنه يمكن أن يراد بالسجود الانقياد في الجميع وما ذكروا من أن الانقياد شامل لجميع الناس باطل لأن الكفار لم ينقادوا ويمكن أن يراد بالسجود وضع الرأس على الأرض في الجميع فلا يحكم باستحالته من الجمادات إلا من يحكم باستحالة التسبيح من الجمادات وباستحالة الشهادة من الجوارح والأعضاء يوم القيامة . إذا عرفت هذا لاح لك عدم جواز الجمع بين معنى المشترك أو معانيه ولم يأت من جوزه بحجة مقبولة وقد قيل إنه يجوز الجمع مجازاً لا حقيقة ، وبه قال جماعة من المتأخرين وقيل يجوز إرادة الجمع لكن بمجرد القصد لا من حيث اللغة وقد نسب هذا إلى الغزالي والرازي ، وقيل يجوز الجمع في النفي لا في الإثبات فيقال مثلاً ما رأيت عيناً ومراده العين الجارحة وعين الذهب وعين الشمس وعين الماء ولا يصح أن يقال عندي عين وتراد هذه المعاني بهذه اللفظ ، وقيل بإرادة الجميع في الجمع فيقال مثلاً عندي عيون ويراد تلك المعاني ، وكذا المثنى فحكمه حكم الجمع فيقال مثلاً عندي جونان ويراد أبيض وأسود ولا يصح إرادة المعنيين أو المعاني بلفظ المفرد وهذا الخلاف إنما هو في المعاني التي يصح الجمع بينها وفي المعنيين اللذين يصح الجمع بينهما لا في المعاني المتناقضة .
ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه ﷺ أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ﷺ ليصالحوا ، فلما رأى النبي ﷺ سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب .
( قوله : فدعا النبي ﷺ الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب .
( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي ﷺ لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي ﷺ تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه ﷺ به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي ﷺ بذلك.
( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله ﷺ : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين .
وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب .
( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي ﷺ مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ﷺ ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي ﷺ كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته .
( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي ﷺ دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله ﷺ. ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين .
قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه .
( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي ﷺ أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا .
( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله ﷺ كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام.
(قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي ﷺ لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية .
(قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.
(قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي ﷺ إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله ﷺ في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم.
(قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ﷺ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح.
(قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ.
(قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي ﷺ.
(قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي ﷺ وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات.
(قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك.
(قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه ﷺ بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي ﷺ: أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.
===
[عدل]المسألة الخامسة : في الحقيقة والمجاز
وفي هذه المسألة عشرة أبحاث :
البحث الأول : في تفسير لفظي الحقيقة والمجاز . أما الحقيقة فهي فعيلة من حق الشيء بمعنى ثبت والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة وفعيل في الأصل قد يكون بمعنى الفاعل وقد يكون بمعنى المفعول ، فعلى التقدير الأول يكون معنى الحقيقة الثابتة ، وعلى الثاني يكون معناها المثبتة . وأما المجاز فهو مفعل من الجواز الذي هو التعدي كما يقال جزت هذا الموضع : أي جاوزته وتعديته أو من الجواز الذي هو قسيم الوجوب والامتناع وهو راجع إلى الأول لأن الذي لا يكون واجباً ولا ممتنعاً يكون متردداً بين الوجوه والعدم فكأنه ينتقل من هذا إلى هذا .
البحث الثاني : في حدهما . فقيل في حد الحقيقة إنها اللفظ المستعمل فيما وضع له فيشمل هذا الوضع اللغوي والشرعي والعرفي والاصطلاحي وزاد جماعة في هذا الجد قيداً وهو قولهم في اصطلاح التخاطب لأنه إذا كان التخاطب باصطلاح واستعمل فيه ما وضع له في اصطلاح آخر لمناسبة بينه وبين ما وضع له في اصطلاح التخاطب كان مجازاً مع أنه لفظ مستعمل فيما وضع له وزاد آخرون في هذا الحد قيداً ، فقالوا هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا لإخراج مثل ما ذكر ، وقيل في حد الحقيقة إنها ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به ، وقيل في حدها إنها كل كلمة أريد بها عين ما وضعت له في وضع واضع وضعاً لا يستند فيه إلى غيره . وأما المجاز فهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينه ، وقيل هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولاً على وجه يصح وزيادة قيد على وجه يصح لإخراج مثل استعمال لفظ الأرض في السماء ، وقيل في حده أيضاً أنه ما كان بضد معنى الحقيقة .
البحث الثالث : قد اتفق أهل العلم على ثبوت الحقيقة اللغوية والعرفية ، واختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وهي اللفظ الذي استفيد من الشارع وضعه للمعنى سواء كان اللفظ والمعنى مجهولين عند أهل اللغة أو كانا معلومين لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى أو كان أحدهما مجهولاً والآخر معلوماً ، وينبغي أن يعلم قبل ذلك الخلاف والأدلة من الجانبين أن الشرعية هي اللفظ المستعمل فيما وضع له بوضع الشارع لا بوضع أهل الشرع كما ظن فذهب الجمهور إلى إثباتها وذلك كالصلاة والزكاة والصوم والمصلي والمزكي والصائم وغير ذلك فمحل النزاع الألفاظ المتداولة شرعاً المستعملة في غير ما وضع له في اللغة فالجمهور جعلوها حقائق شرعية بوضع الشارع لها وأثبت المعتزلة أيضاً مع الشرعية حقائق دينية ، فقالوا إن ما استعمله الشارع في معان غير لغوية ينقسم إلى قسمين :
الأول : الأسماء التي أجريت على الأفعال وهي الصلاة والصوم والزكاة ونحو ذلك .
والقسم الثاني : الأسماء التي أجريت على الفاعلين كالمؤمن والكافر والفاسق ونحو ذلك فجعلوا القسم الأول حقيقة شرعية .
والقسم الثالث : حقيقة دينية وإن كان الكل على السواء في أنه عرف شرعي ، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني وبعض المتأخرين ورجحه الرازي أنها مجازات لغوية غلبت في المعاني الشرعية لكثرة دورانها على ألسنة أهل الشعر . وثمرة الخلاف أنها إذا وردت في كلام الشارع مجردة عن القرينة هل تحمل على المعاني الشرعية أو على اللغوية ؟ فالجمهور قالوا بالأول و الباقلاني ومن معه قالوا بالثاني قالوا أما في كلام المتشرعة فيحمل على الشرعي اتفاقاً لأنها قد صارت حقائق عرفية بينهم وإنما النزاع في كون ذلك بوضع الشارع وتعيينه إياها بحيث تدل على تلك المعاني بلا قرينة فتكون حقائق شرعية أو بغلبتها في لسان أهل الشرع فقط ولم يضعها الشارع بل استعملها مجازات لغوية لقرائن فتكون حقائق عرفية خاصة لا شرعية . احتج الجمهور بما هو معلوم شرعاً أن الصلاة في لسان الشارع وأهل الشرع لذات الأذكار والأركان والزكاة لأداء مال مخصوص والصيام لإمساك مخصوص والحج لقصد مخصوص وأن هذه المدلولات هي المتبادرة عند الإطلاق وذلك علامة الحقيقة بعد أن كانت الصلاة في اللغة للدعاء والزكاة لنماء والصيام للإمساك مطلقاً والحج للقصد مطلقاً : وأجيب عن هذا بأنها باقية في معانيها اللغوية والزيادات شروط والشرط خارج عن المشروط ورد بأنه يستلزم أن لا يكون مصلياً من لم يكن داعياً كالأخرس . وأجيب أيضاً بأنه لا يلزم من سبق المعاني الشرعية عند الإطلاق ثبوت الحقائق الشرعية لجواز صيرورتها بالغلبة حقائق عرفية خاصة لأهل الشرع وإن لم تكن حقائق شرعية بوضع الشارع . ورد بأنه إن أريد بكون اللفظ مجازاً أن الشارع استعمله في معناه لمناسبة للمعنى اللغوي ثم اشتهر فأفاد بغير قرينة فذلك معنى الحقيقة الشرعية فثبت المدعي وإن أريد أن أهل اللغة استعملوه في هذه المعاني وتبعهم الشارع في ذلك فخلاف الظاهر للقطع بأنها معان حادثة ما كان أهل اللغة يعرفونها . واحتج القاضي ومن معه بأن إفادة هذه ألفاظ لهذه المعاني لو لم تكن لغوية لما كان القرآن كله عربياً وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم . أما الملازمة فلأن هذه الألفاظ مذكورة في القرآن فلو لم تكن إفادتها لهذه المعاني عربية لزم أن لا يكون القرآن عربياً ، وأما فساد اللازم فلقوله سبحانه قرآناً عربياً وقوله وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه وأجيب بأن إفادة هذه الألفاظ لهذه المعاني وإن لم تكن عربية لكنها في الجملة ألفاظ عربية فإنهم كانوا يتكلمون بها في الجملة وإن كانوا يعنون بها غير هذه المعاني وإذا كان كذلك كانت هذه الألفاظ عربية فالملازمة ممنوعة . وأجيب أيضاً بأنا لا نسلم أنها ليست بعربية على تسليم أنها مجازات لغوية جعلها الشارع حقائق شرعية لأن المجازات عربية وإن لم تصرح العرب بأحداها فقد جوزوا نوعها وذلك يكفي في نسبة المجازات بأسرها إلى لغة العرب وإلا لزم كونها كلها ليست بعربية واللازم باطل فالملزوم مثله ولو سلمنا أن المجازات العربية التي صارت حقائق بوضع الشارع ليست بعربية لم يلزم أن يكون القرآن غير عربي بدخولها فيه لأنها قليلة جداً والاعتبار بالأغلب فإن الثور الأسود لا يمنع إطلاق اسم الأسود عليه بوجود شعرات بيض في جلده على أن القرآن يقال بالاشتراك على مجموعه وعلى كل بعض منه فلا تدل الآية على أنه كله عربي كما يفيده قوله في سورة يوسف إنا أنزلناه قرآناً عربياً والمراد منه تلك السورة وأيضاً الحروف المذكورة في أوائل السور ليست بعربية والمشكاة لغة حبشية والإستبرق والسجيل فارسيان والقسطاس من لغة الروم وإذا عرفت هذا تقرر لك ثبوت الحقائق الشرعية وعلمت أن نافيها لم يأت بشيء يصلح للاستدلال كما أوضحناه وهكذا الكلام فيما سمته المعتزلة حقيقة دينية فإنه من جملة الحقائق الشرعية كما قدمنا فلا حاجة إلى تطويل البحث فيه .
البحث الرابع : المجاز واقع في لغة العرب عند جمهور أهل العلم وخالف في ذلك أبو إسحاق الإسفرائيني وخلافه هذا يدل أبلغ دلالة على عدم إطلاعه على لغة العرب وينادي بأعلى صوت بأن سبب هذا الخلاف تفريطه في الاطلاع على ما ينبغي الاطلاع عليه من هذه اللغة الشريفة وما اشتملت عليه من الحقائق والمجازات التي لا تخفى على من له أدنى معرفة بها وقد استدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت . فقال لو كان المجاز واقعاً في لغة العرب لزم الإخلال بالتفاهم إذ قد تخفى القرينة وهذا التعليل عليل فإن تجويز خفاء القرينة أخفى من السها واستدل صاحب المحصول لهذا القائل بأن اللفظ لو أفاد المعنى على سبيل المجاز ، فأما أن يفيد مع القرينة أو بدونها والأول باطل لأنه مع القرينة المخصوصة لا يحتمل غير ذلك فيكون هو مع تلك القرينة حقيقة لا مجازاً والثاني باطل لأن اللفظ أو أفاد معناه المجازي بدون قرينة لكان حقيقة فيه إذ لا معنى للحقيقة إلا كونها مستقلة بالإفادة بدون قرينة . وأجاب عنه بأن هذا نزاع في العبارة . ولنا أن نقول اللفظ الذي لا يفيد إلا مع القرينة هو المجاز ، ولا يقال للفظة مع القرينة حقيقة فيها لأن دلالة القرينة ليست دلالة وضعية حتى يجعل المجموع لفظاً واحداً دالاً على المسمى ، وعلى كل حال فهذا لا ينبغي الاشتغال بدفعه ولا التطويل في رده فإن وقوع المجاز وكثرته في اللغة العربية أشهر من نار على علم وأوضح من شمس النهار . قال ابن جني : أكثر اللغة مجاز ، وقد قيل إن أبا علي الفارسي قائل بمثل هذه المقالة التي قالها الإسفرائيني وما أظن مثل أبي علي يقول ذلك فإنه إمام اللغة العربية الذي لا يخفى على مثله مثل هذا الواضح البين الظاهر الجلي وكما أن المجاز واقع في لغة العرب فهو أيضاً واقع في الكتاب العزيز عند الجماهير وقوعاً كثيراً بحيث لا يخفى إلا على من لا يفرق بين الحقيقة والمجاز ، وقد روي عن الظاهرية نفيه في الكتاب العزيز وما هذا بأول مسائلهم التي جمدوا فيها جموداً يأباه الإنصاف وينكره الفهم ويجحده العقل ، وأما ما استدل به لهم من أن المجاز كذب لأنه ينفي فيصدق نفيه وهو باطل لأن الصادق إنما هو نفي الحقيقة فلا ينافي صدق إثبات المجاز وليس في المقام من الخلاف ما يقتضي ذكر بعض المجازات الواقعة في القرآن والأمر أوضح من ذلك ، وكما أن المجاز واقع في الكتاب العزيز وقوعاً كثيراً فهو أيضاً واقع في السنة وقوعاً كثيراً والإنكار لهذا الوقوع مباهتة لا يستحق المجاوبة .
البحث الخامس : أنه لا بد من العلاقة في كل مجاز فيما بينه وبين الحقيقة والعلاقة هي اتصال للمعنى المستعمل فيه بالموضوع له وذلك الاتصال إما باعتبار الصورة كما في المجاز المرسل أو باعتبار المعنى كما في الاستعارة وعلاقتها المشابهة وهي الاشتراك في معنى مطلقاً لكن يجب أن تكون ظاهرة الثبوت لمحله والانتفاء عن غيره كالأسد للرجل الشجاع لا الأبخر والمراد الاشتراك في الكيف فيندرج تحت مطلق العلاقة المشاكلة الكلامية كإطلاق الإنسان على الصورة المنقوشة ويندرج تحتها أيضاً المطابقة والمناسبة والتضاد المنزل منزلة التناسب لنهكم نحو فبشرهم بعذاب أليم فهذا الاتصال المعنوي . وأما الاتصال الصوري فهو إما في اللفظ وذلك في المجاز بالزيادة والنقصان وفي المشاكلة البديعية وهي الصحبة الحقيقية أو التقديرية وقد تكون العلاقة باعتبار ما مضى وهو الكون عليه كاليتيم للبالغ أو باعتبار المستقبل وهو الأول إليه كالخمر للعصير أو باعتبار الكلية والجزئية كالركوع للصلاة واليد فيما وراء الرسغ والحالية والمحلية كاليد في القدرة والسببية والمسببية والإطلاق والتقييد واللزوم والمجاورة والظرفية والمظروفية والبدلية والشرطية والمشروطية والضدية . ومن العلاقات إطلاق المصدر على الفاعل أو المفعول كالعلم في العالم أو المعلوم ومنها تسمية إمكان الشيء باسم وجوده كما يقال للخمر التي في الدن إنها مسكرة ومنها إطلاق اللفظ المشتق بعد زوال المشتق منه وقد جعل بعضهم في إطلاق اسم السبب على المسبب أربعة أنواع : القابل والصورة والفاعل والغاية : أي تسمية الشيء باسم قابله نحو سال الوادي وتسمية الشيء باسم صورته كتسمية القدرية باليد وتسمية الشيء باسم فاعله حقيقة أو ظناً كتسمية المطر بالسماء والنبات بالغيث وتسمية الشيء باسم غايته كتسمية العنب بالخمر وفي إطلاق اسم المسبب على السبب أربعة أنواع على العكس من هذه المذكورة قبل هذا وعند بعضهم من العلاقات الحلول في محل واحد كالحياة في الإيمان والعلم وكالموت في ضدهما والحلول في محلين متقاربين كرضى الله في رضى رسوله والحلول في حيزين متقاربين كالبيت في الحرم كما في قوله من مقام إبراهيم وهذه الأنواع راجعة إلى علاقة الحالية والمحلية كما أن الأنواع السابقة مندرجة تحت علاقة السببية والمسببية فما ذكرناه ههنا مجموعة أكثر من ثلاثين علاقة وعد بعضهم من العلاقات ما لا تعلق لها بالمقام كحذف المضاف نحو واسأل القرية يعني أهلها وحذف المضاف إليه نحو أنا ابن جلا أي أنا ابن رجل جلا والنكرة في الإثبات إذا جعلت للعموم نحو علمت نفس ما أحضرت أي كل نفس والمعرف باللام إذا أريد به الواحد المنكر نحو ادخلوا عليهم الباب أي باباً من أبوابها والحذف نحو يبين الله لكم أن تضلوا أي كراهة أن تضلوا والزيادة كقوله تعالى : ليس كمثله شيء ولو كانت هذه معتبرة لكانت العلاقات نحو أربعين علاقة لا كما قال بعضهم إنها لا تزيد على إحدى عشرة وقال آخر لا تزيد على عشرين وقال آخر لا تزيد عن خمس وعشرين فتدبر . واعلم أنه لا يشترط النقل في آحاد المجاز بل العلاقة كافية والمعتبر نوعها ولو كان نقل آحاداً المجاز معتبراً لتوقف أهل العربية في التجوز على النقل ولوقعت منهم التخطئة لمن استعمل غير المسموع من المجازات وليس كذلك بالاستقراء ولذلك لم يدونوا المجازات كالحقائق وأيضاً لو كان نقلياً لاستغنى عن النظر في العلاقة لكفاية النقل وإلى عدم اشتراط نقل آحاد المجاز ذهب الجمهور وهو الحق ولم يأت من اشترط ذلك بحجة تصلح لذكرها وتستدعي التعرض لدفعها وكل من له علم وفهم يعلم أن أهل اللغة العربية ما زالوا يخترعون المجازات عند وجود العلاقة ونصب القرينة وهكذا من جاء بعدهم من أهل البلاغة في فني النظم والنثر ويتمادحون باختراع الشيء الغريب من المجازات عند وجود المصحح للتجوز ولم يسمع عن واحد منهم خلاف هذا .
البحث السادس : في قرائن المجاز . اعلم أن القرينة إما خارجة عن المتكلم والكلام أي لا تكون معنى في المتكلم وصفة له ولا تكون من جنس الكلام أو تكون معنى في المتكلم أو تكون من جنس الكلام وهذه القرينة التي تكون من جنس الكلام إما لفظ خارج عن هذا الكلام الذي يكون المجاز فيه بأن يكون في كلام آخر لفظ يدل على عدم إرادة المعنى الحقيقي أو غير خارج عن هذا الكلام بل هو عينه أو شيء منه يكون دالاً على عدم إرادة الحقيقة ثم هذا القسم على نوعين إما أن يكون بعض الأفراد أولى من بعض في دلالة ذلك اللفظ عليه كما لو قال كل مملوك لي حر فإنه لا يقع على المكاتب مع أنه عبد ما بقي عليه درهم فيكون هذا اللفظ مجازاً من حيث أنه مقصور على بعض الأفراد . أما القرينة التي تكون لمعنى في المتكلم فكقوله سبحانه : واستفزز من استطعت منهم الآية فإن سبحانه لا يأمر بالمعصية . وأما القرينة الخارجة عن الكلام فكقوله فمن شاء فليؤمن فإن سياق الكلام وهو قوله إنا أعتدنا يخرجه عن أن يكون للتخيير ونحو قوله طلق امرأتي إن كنت رجلاً فإن هذا لا يكون توكيلاً لأن قوله إن كنت رجلاً يخرجه عن ذلك فانحصرت القرينة في هذه الأقسام . ثم القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي قد تكون عقلية وقد تكون حسية وقد تكون عادية وقد تكون شرعية فلا تختص قرائن المجاز بنوع من هذه الأنواع دون نوع .
البحث السابع : في الأمور التي يعرف بها المجاز ويتميز عندها عن الحقيقة . اعلم أن الفرق بين الحقيقة والمجاز إما أن يقع بالنص أو الاستدلال أما بالنص فمن وجهين : الأول أن يقول الواضع هذا حقيقة وذاك مجاز الثاني أن يذكر الواضع حد كل واحد منهما بأن يقول هذا مستعمل فيما وضع له وذاك مستعمل في غير ما وضع له ويقوم مقام الحد ذكر خاصة كل واحد منهما . وأما الاستدلال فمن وجوه ثلاثة : الأول أن يسبق المعنى إلى إفهام أهل اللغة عند سماع اللفظ بدون قرينة فيعلم بذلك أنه حقيقة فيه فإن كان لا يفهم منه المعنى المراد إلا بالقرينة فهو المجاز ، واعترض على هذا بالمشترك المستعمل في معنييه أو معانيه فإنه لا يتبادر أحدهما أو أحدها لولا القرينة المعينة للمراد مع أنه حقيقة . وأجيب بأنها يتبادر جميعها عند من قال بجواز حمل المشترك على جميع معانيه ويتبادر أحدها لا بعينه عند من منع من حمله على جميع معانيه ورد بأن علامة المجاز تصدق حينئذ على المشترك المستعمل في المعين إذ يتبادر غيره وهو علامة المجاز مع أنه حقيقة فيه ودفع هذا الرد بأنه إنما يصح ذلك لو تبادر أحدهما لا بعينه على أنه المراد واللفظ موضوع للقدر المشترك مستعمل فيه وأما إذا علم أن المراد أحدهما بعينه إذ اللفظ يصلح لهما وهو مستعمل في أحدهما ولا يعلمه فذلك كاف في كون المتبادر غير المجاز فلا يلزم كونه للمعين مجازاً .
الثاني : صحة النفي للمعنى المجازي وعدم صحته للمعنى الحقيقي في نفس الأمر ، واعترض بأن العلم بعدم صحة النفي موقوف على العلم بكونه حقيقة فإثبات كونه حقيقة به دور ظاهر وكذا العلم بصحة النفي موقوف على العلم بأن ذلك المعنى ليس من المعاني الحقيقية وذلك موقوف على العلم بكونه مجازاً فإثبات كونه مجازاً به دور . وأجيب بأن سلب بعض المعاني الحقيقية كاف فيعلم أنه مجاز فيه وإلا لزم الاشتراك وأيضاً إذا علم معنى اللفظ الحقيقي والمجازي ولم يعلم أيهما المراد أمكن أن يعلم بحصته نفي المعنى الحقيقي أن المراد هو المعنى المجازي وبعدم صحته أن المراد هو المعنى الحقيقي .
الثالث : عدم اطراد المجاز وهو أن لا يجوز استعماله في محل مع وجود سبب الاستعمال المسوغ لاستعماله في محل آخر كالتجوز بالنخلة للإنسان الطويل دون غيره مما فيه طول وليس الاطراد دليل الحقيقية فإن المجاز قد يطرد كالأسد للشجاع ، واعترض بأن عدم الاطراد قد يوجد في الحقيقة كالسخي والفاضل فإنهما لا يطلقان على الله سبحانه مع وجودهما على وجه الكمال فيه سبحانه وكذا القارورة لا تطلق على غير الزجاجة مما يوجد معنى الاستقرار فيه كالدن . وأجيب عنه بأن الأمارة عدم الاطراد لا لمانع لغة أو شرعاً ولم يتحقق فيما ذكرتم من الأمثلة فإن الشرع منع من إطلاق السخي والفاضل على الله سبحانه واللغة منعت من إطلاق القارورة على غير الزجاجة وقد ذكروا غير هذه الوجوه مثل قولهم من العلامات الفارقة بين الحقيقة والمجاز أنها إذا علقت الكلمة بما يستحيل تعليقها به علم أنها في أصل اللغة غير موضوعة له فيعلم أنها مجاز فيه ومنها أن يضعوا اللفظة لمعنى ثم يتركوا استعماله إلا في بعض معانيه المجازية ثم استعملوه بعد ذلك في غير ذلك الشيء فإنا نعلم كونه من المجاز العرفي مثل استعمال لفظ الدابة في الحمال ومنها امتناع الاشتقاق فإنه دليل على كون اللفظ مجازاً منها أن تختلف صيغة الجمع على الاسم فيجمع على صيغة مخالفة لصيغة جمعه لمسمى آخر هو فيه حقيقة ومنها أن المعنى الحقيقي إذا كان متعلقاً بالغير فإنه إذا استعمل فيما لا يتعلق به شيء كان مجازاً وذلك كالقدرة إذا أريد بها الصفة كانت متعلقة بالمقدور وإذا أطلقت على النبات الحسن لم يكن لها متعلق فيعلم كونها مجازاً فيه ومنها أن يكون إطلاقه على أحد مسمييه متوقفاً على تعلقه بالآخر نحو ومكروا ومكر الله ولا يقال مكر الله ابتداء . ومنها لا يستعمل إلا مقيداً ولا يستعمل للمعنى المطلق كنار الحرب وجناح الذل .
البحث الثامن : في أن اللفظ قبل الاستعمال لا يتصف بكونه حقيقة ولا بكونه مجازاً لخروجه عن حد كل واحد منهما ، إذاً الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له ، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ، وقد اتفقوا على أن الحقيقة لا تستلزم المجاز لأن اللفظ قد يستعمل في ما وضع له ولا يستعمل في غيره ، وهذا معلوم لكل عالم بلغة العرب واختلفوا هل يستلزم المجاز الحقيقة أم لا ؟ بل يجوز أن يستعمل اللفظ في غير ما وضع له ولا يستعمل في ما وضع له أصلاً ؟ فقال جماعة أن المجاز يستلزم الحقيقة واستدلوا على ذلك بأنه لو لم يستلزم لخلا الوضع عن الفائدة وكان عبثاً وهو محال أما الملازمة فلأن ما لم يستعمل لا يفيد فائدة وفائدة الوضع إنما هي إعادة المعاني المركبة وإذا لم يستعمل لم يقع في التركيب فانتفت فائدته وأما بطلان اللازم فظاهر . وأجيب بمنع انحصار فائدة في إفادة المعاني المركبة فإن صحة التجوز فائدة واستدل القائلون بعدم الاستلزام وهم الجمهور بأنه لو استلزم المجاز الحقيقة لكانت لنحو شابت لمة الليل أي ابيض الغسق ، وقامت الحرب على ساق أي اشتدت حقيقة واللازم منتف . وأجيب عن هذا بجوابين جدلي وتحقيقي أما الجدلي فبأن الإلزام مشترك لأن نفس الوضع لازم فيجب أن تكون هذه المركبات موضوعة لمعنى متحقق وليس كذلك وأما التحقيق فباختيار أن لا مجاز في المركب بل في المفردات ولها وضع واستعمال ولا مجاز في التركيب حتى يلزم أن يكون له معنى ومن اتبع عبد القاهر في أن المجاز مفرد ومركب ويسمى عقلياً وحقيقة عقلية لكونهما في الإسناد سواء كان طرفاه نحو سرتني رؤيتك أو مجازين نحو أحياني اكتحالي بطلعتك أو مختلفين فإن اتبعه في عدم الاستلزام أيضاً فذاك وإلا فله أن يجيب بأن مجازات الأطراف لا مدخل لها فيه ولها حقائق مجاز الإسناد ليس لفظاً حتى يطلب لعينه حقيقة ووضع بل له معنى حقيقة بغير هذا اللفظ واجتماع المجازات لا يستلزم اجتماع حقائقها . ومن قال بإثبات المجاز المركب في الاستعارة التمثيلية نحو طارت به العنقاء وأراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فلا بد أن يقال بعدم الاستلزام ومن نفى المجاز المركب أجاب عن المجاز العقلي بأنه من الاستعارة التبعية وذلك لأن عرف العرب أن يعتبروا القابل فعلاً نحو مات فلان وطلعت الشمس ولم يلتزموا الإسناد إلى الفاعل الحقيقي كما في أنبت الله وخلق الله فكذا سرتني رؤيتك لأنها قابلة لإحداث الفرح ونحوها من الصور الإسنادية . وأشف ما استدلوا به : قولهم أن الرحمن مجاز في الباري سبحانه لأنه معناه ذو الرحمة ومعناه الحقيقي وهو رقة القلب لا وجود له ولم يستعمل في غيره تعالى . وأجيب بأن العرب قد استعملته في المعنى الحقيقي فقالوا لمسيلمة رحمان اليمامة ورد بأنهم لم يريدوا بهذا الإطلاق أن مسيلمة رقيق القلب حتى يرد النقض به . ومما يستدل به للنافي أن أفعال المدح والذم هي أفعال ماضية ولا دلالة لها على الزمان الماضي فكانت مجازات لا حقائق لها .
البحث التاسع : في اللفظ إذا دار بين أن يكون مجازاً أو مشتركاً هل يرجح المجاز على المشترك أو المشترك على المجاز ؟ فرجح قوم الأول ورجح آخرون الثاني . استدل الأولون بأن المجاز أكثر من الاشتراك في لغة العرب فرجح الأكثر على الأقل وقال ابن جني أكثر اللغة مجاز وبأن المجاز معمول به مطلقاً فبلا قرينة حقيقية ومعها مجاز والمشترك بلا قرينة مهمل ، والإعمال أولى من الإهمال وبأن المجاز أبلغ من الحقيقة كما هو مقرر في علم المعاني والبيان ، وبأنه أوجز كما في الاستعارة فهذه فوائد للمجاز وقد ذكروا غيرها من الفوائد التي لا مدخل لها في المقام وذكروا للمشترك مفاسد منها إخلاله بالفم عند خفاء القرينة عند من لا يجوز حمله على معنييه أو معانيه بخلاف المجاز فإنه عند خفاء القرينة يحمل على الحقيقة ومنها تأديته إلى مستبعد من نقيض أو ضد كالقرء إذا أطلق مراداً به الحيض فيفهم منه الطهر أو بالعكس ومنها احتياجه إلى قرينتين إحداهما تعينه للمعنى المراد والأخرى تعينه للمعنى الآخر بخلاف المجاز فإنه تكفي فيه قرينة واحدة . واحتج الآخرون بأن للاشتراك فوائد لا توجد في المجاز وفي المجاز مفاسد لا توجد في المشترك فمن الفوائد أن المشترك مطرد فلا يضطرب بخلاف المجاز فقد لا يطرد كما تقدم ومنها الاشتقاق منه بالمعنيين فيتسع الكلام نحو « أقرأت المرأة » بمعنى حاضت وطهرت والمجاز لا يشتق منه صلح له حال كونه حقيقة ، ومنها صحة التجوز باعتبار معنى المشترك فتكثر بذلك الفوائد . وأما مفاسد المجاز التي لا توجد في المشترك فمنها احتياجه إلى الوضعين الشخصي والنوعي والشخصي باعتبار معناه الأصلي والفرعي للعلاقة والمشترك يكفي فيه الوضع الشخصي ولا يحتاج إلى النوعي لعدم احتياجه إلى العلاقة ، ومنها أن المجاز مخالف للظاهر فإن الظاهر المعنى الحقيقي لا المجازي بخلاف المشترك ، فإنه ليس ظاهراً في بعض معانيه دون بعض حتى يلزم بإرادة أحدها مخالفة الظاهر ، ومنها أن المجاز قد يؤدي إلى الغلط عند عدم القرينة فيحمل على المعنى الحقيقي بخلاف المشترك فإن معانيه كلها حقيقة . وقد أجيب عن هذه الفوائد والمفاسد التي ذكرها الأولون والآخرون والحق أن الحمل على المجاز أولى من الحمل على الاشتراك لغلبة المجاز بلا خلاف والحمل على الأعم الأغلب دون القليل النادر متعين . واعلم أن التعارض الحاصل بين أحوال الألفاظ لا يختص بالتعارض بين المشترك والمجاز فإن الخلل في فهم مراد المتكلم يكون على خمسة أوجه .
أحدها : احتمال الاشتراك ، وثانيها : احتمال النقل بالعرف أو الشرع ، وثالثها : احتمال المجاز . ورابعها : احتمال الإضمار . وخامسها : احتمال التخصيص ووجه كون هذه الوجوه تؤثر خللاً في فهم مراد المتكلم أنه إذا انتفى احتمال الاشتراك والنقل كان اللفظ موضوعاً لمعنى واحد وإذا انتفى احتمال المجاز والإضمار كان المراد من اللفظ ما وضع له وإذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد باللفظ جميع ما وضع له فلا يبقى عند ذلك خلل في الفهم . والتعارض بين هذه يقع في عشرة وجوه لأنه يقع بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية ، ثم بين النقل وبين الثلاثة الباقية ، ثم بين المجاز والوجهين الباقيين ثم بين الإضمار والتخصيص ، فإذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل فقيل إن النقل أولى لأنه يكون اللفظ عند النقل لحقيقة واحدة مفردة في جميع الأوقات والمشترك مشترك في الأوقات كلها ، وقيل الاشتراك أولى لأنه لا يقتضي فسخ وضع سابق والنقل يقتضيه ، وأيضاً لم ينكر وقوع المشترك في لغة العرب أحد من أهل العلم وأنكر النقل كثير منهم وأيضاً قد لا يعرف النقل فيحمل السامع ما سمعه من اللفظ على المعنى الأصلي فيقع الغلط وأياً المشترك أكثر وجوداً من المنقول وهذه الوجوه ترجح الاشتراك على النقل وهي أقوى مما استدل به من رجح النقل . وأما التعارض بين المشترك والمجاز فقد تقدم تحقيقه في صدر هذا البحث . وأما التعارض بين الاشتراك والإضمار فقيل إن الإضمار أولى لأن الإجمال الحاصل بسبب الإضمار مختص ببعض الصور والإجمال الحاصل بسبب الاشتراك عام في كل الصور فكان إخلاله بالفهم أكثر من إخلال الاضماء به ، وقيل إن الاشتراك أولى لأن الإضمار محتاج إلى ثلاث قرائن قرينة تدل على أصل الإضمار وقرينة تدل على موضع الإضمار وقرينة تدل على نفس المضمر والمشترك يفتقر إلى قرينتين كما سبق فكان الإضمار أكثر إخلالاً بالفهم ، وأجيب بأن الإضمار وإن افتقر إلى تلك القرائن الثلاث ذلك في صورة واحدة بخلاف المشترك فإنه يفتقر إلى القرينتين في صور متعددة ، فكان أكثر إخلالاً بالفهم فقيل التخصيص أولى لأن التخصيص أولى من المجاز وقد تقدم أن المجاز أولى من الاشتراك . وأما التعارض بين النقل والمجاز فقيل المجاز أولى لأن النقل يحتاج إلى اتفاق أهل اللسان على تغيير الوضع وذلك متعذر أو متعسر . والمجاز يحتاج إلى قرينة مانعة عن فهم الحقيقة وذلك متيسر ، وأيضاً المجاز أكثر من النقل والحمل على الأكثر مقدم وأيضاً في المجاز ما قدمنا من الفوائد وليس شيء من ذلك في المنقول . وأما التعارض بين النقل والتخصيص فقيل التخصيص أولى لما تقدم من أن التخصيص مقدم على النقل ، وأما التعارض بين المجاز والإضمار ، فقيل هما سواء ، وقيل المجاز أولى لأن الإضمار يحتاج إلى ثلاث قرائن كما تقدم ، وأما التعارض بين المجاز والتخصيص فالتخصيص أولى لأن السامع إذا لم يجد قرينة تدل على التخصيص حمل اللفظ على عمومه فيحصل مراد المتكلم ، وأما في المجاز فالسامع إذا لم يجد قرينة لحمله على الحقيقة فلا يحصل مراد المتكلم ، وأما التعارض بين الإضمار والتخصيص فالتخصيص أولى لما تقدم من أن التخصيص مقدم على المجاز والمجاز هو والإضمار سواء وهو أولى من الإضمار .
البحث العاشر في الجمع بين الحقيقة والمجاز : ذهب جمهور أهل العربية وجميع الحنفية وجمع من المعتزلة والمحققون من الشافعية إلى أنه لا يستعمل اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي حال كونهما مقصودين بالحكم ، بأن يراد كل واحد منهما وأجاز ذلك بعض الشافعية وبعض المعتزلة كالقاضي عبد الجبار وأبي علي الجبائي مطلقاً إلا أن لا يمكن الجمع بينهما كأفعل أمراً وتهديداً فإن الأمر طلب الفعل والتهديد يقتضي الترك فلا يجتمعان معاً ، وقال الغزالي وأبو الحسين : إنه يصح استعماله فيهما عقلاً لا لغة إلا في غير المفرد كالمثنى والمجموع فيصح استعماله فيهما لغة لتضمنه المتعدد كقولهم : « القلم أحد اللسانين » ورجح هذا التفصيل ابن الهمام وهو قوي لأنه قد وجد المقتضى وفقد المانع فلا يمتنع عقلاً إرادة غير المعنى الحقيقي مع المعنى الحقيقي بالمتعدد . واحتج المانعون مطلقاً بأن المعنى المجازي يستلزم ما يخالف المعنى الحقيقي وهو قرينة عدم إرادته فيستحيل اجتماعهما . وأجيب بأن ذلك الاستلزام إنما هو عند عدم قصد التعميم ، أما معه فلا ، واحتجوا ثانياً بأنه كما يستحيل في الثوب الواحد أن يكون ملكاً وعارية في وقت واحد كذلك يستحيل في اللفظ الواحد أن يكون حقيقة ومجازاً . وأجيب بأن الثوب ظرف حقيقي للملك والعارية واللفظ ليس بظرف حقيقي للمعنى . والحق امتناع الجمع بينهما لتبادر المعنى الحقيقي من اللفظ من غير أن يشاركه غيره في التبادر عند الإطلاق وهذا بمجرده يمنع من إرادة غير الحقيقي بذلك اللفظ المفرد مع الحقيقي ولا يقال إن اللفظ يكون عند قصد الجمع بينهما مجازاً لهما لأن المفروض أن كل واحد منهما متعلق الحكم لا مجموعهما ولا خلاف في جواز استعمال اللفظ في معنى مجازي يندرج تحته المعنى الحقيقي وهو الذي يسمونه عموم المجاز ، لأن قرينة كل مجاز تنافي إرادة غيره من المجازات وإلى هنا انتهى الكلام في المبادئ ، وقد ذكر جماعة من أهل الأصول في المبادئ مباحث في بعض الحروف التي ربما يحتاج إليها الأصولي وأنت خبير بأنها مدونة في فن مستقل مبينة بياناً تاماً وذلك كالخلاف في الواو هل هي لمطلق الجمع أو للترتيب ؟ فذهب إلى الأول جمهور النحاة والأصوليون والفقهاء . قال أبو علي الفارسي : أجمع نحاة البصرة والكوفة على أنها للجمع المطلق . وذكر سيبويه في سبعة عشر موضعاً من كتابه أنها للجمع المطلق ، وقال الفراء وثعلب وأبو عبيد إنها للترتيب ، وروي هذا عن الشافعي والمؤيد بالله وأبي طالب . واحتج الجمهور بأن الواو قد تستعمل فيما يمتنع الترتيب فيه كقولهم : تقاتل زيد وعمرو ولو قيل تقاتل زيد فعمرو أو تقاتل زيد ثم عمرو لم يصح والأصل الحقيقة فوجب أن يكون حقيقة في غير الترتيب وأيضاً لو اقتضت الواو الترتيب لم يصح قولك رأيت زيداً وعمراً بعده أورأيت زيداً وعمراً قبله لأن قولك بعده يكون تكراراً لما تقيده الواو من الترتيب وقولك قبله يكون مناقضاً لمعنى الترتيب ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال بأنه امتنع جعل الواو هنا للترتيب لوجود مانع ولا يستلزم ذلك امتناعه عند عدمه واحتجوا أيضاً بقوله تعالى : ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة في سورة البقرة ، وقال في سورة الأعراف وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً وقوله واسجدي واركعي مع الراكعين مع أن الركوع مقدم على السجود وقوله والسارق والسارقة والزانية والزاني وليست في شيء من هذه المواضع للترتيب وهكذا في غيرها مما يكثر تعداده ، وعلى كل حال فأهل اللغة العربية لا يفهمون من قول من قال اشتر الطعام والإدام أو اشتر الأدام والطعام والترتيب أصلاً وأيضاً لو كانت الواو للترتيب لفهم الصحابة رضي الله عنهم في قوله سبحانه : إن الصفا والمروة من شعائر الله أن الابتداء يكون من الصفا من دون أن يسألوا رسول الله صضص عن ذلك ولكنهم سألوه فقال ابدأوا بما بدأ الله به . واحتج القائلون بالترتيب بما صح أن خطيباً قال في خطبته من يطع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى ، فقال له رسول الله صضص بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله ولو كان الواو لمطلق الجمع لما افترق الحال بين ما علمه الرسول وبين ما قاله . وأجيب عن هذا بأنه إنما أمره صضص بذلك لأنه فهم منه اعتقاد التسوية بين الله ورسوله فأمره بعدم الجمع بينهما في ضمير واحد تعظيماً لله سبحانه . والحاصل أنه لم يأت القائلون بإفادة الواو للترتيب بشيء يصلح للاستدلال به ويستدعي الجواب عنه ، وكما أن الواو لمطلق الجمع من دون ترتيب ولا معية فالفاء للتعقيب بإجماع أهل اللغة وإذا وردت لغير تعقيب فذلك لدليل آخر مقترن معناه بمعناها ، وكذلك في للظرفية إما محققة أو مقدرة ، وكذلك من ترد لمعان ، وكذلك الباء لها معان مبينة في علم الإعراب فلا حاجة لنا إلى التطويل بهذه الحروف التي لا يتعلق بتطويل الكلام فيها كثير فائدة فإن معرفة ذلك قد عرفت من ذلك العلم ، ولنشرع الآن بعون الله وإمداده وهدايته وتيسيره في المقاصد فنقول .ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه ﷺ أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ﷺ ليصالحوا ، فلما رأى النبي ﷺ سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب .
( قوله : فدعا النبي ﷺ الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب .
( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي ﷺ لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي ﷺ تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه ﷺ به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي ﷺ بذلك.
( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله ﷺ : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين .
وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب .
( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي ﷺ مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ﷺ ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي ﷺ كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته .
( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي ﷺ دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله ﷺ. ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين .
قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه .
( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي ﷺ أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا .
( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله ﷺ كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام.
(قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي ﷺ لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية .
(قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.
(قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي ﷺ إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله ﷺ في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم.
(قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ﷺ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح.
(قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ.
(قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي ﷺ.
(قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي ﷺ وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات.
(قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك.
(قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه ﷺ بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي ﷺ: أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.
=======
[عدل]المقصد الأول في الكتاب العزيز وفيه أربعة فصول الفصل الأول فيما يتعلق بتعريفه
اعلم أن الكتاب لغة يطلق على كل كتابة ومكتوب ثم غلب في عرف أهل الشرع على القرآن ، والقرآن في اللغة مصدر بمعنى القراءة غلب في العرف العام على المجموع المعين من كلام الله سبحانه المقروء بألسنة العباد وهو في هذا المعنى أشهر من لفظ الكتاب وأظهر ، ولذا جعل تفسيراً له فهذا تعريف الكتاب باعتبار اللغة وهو التعريف اللفظي الذي يكون بمرادف أشهر . وأما حد الكتاب اصطلاحاً فهو الكلام المنزل على الرسول المكتوب في المصاحف المنقول إلينا نقلاً متواتراً فخرج بقوله المنزل على الرسول المكتوب في المصاحف وسائر الكتب والأحاديث القدسية والأحاديث النبوية وغيرها وخرج بقوله المنقول إلينا نقلاً متواتراً القراآت الشاذة وقد أورد على هذا الحد أن فيه دوراً لأنه عرف الكتاب بالمكتوب في المصاحف وذلك لأنه إذا قيل ما المصحف ؟ فلا بد أن يقال هو الذي كتب فيه القرآن . وأجيب بأن المصحف معلوم في العرف فلا يحتاج إلى تعريفه بقوله الذي كتب فيه القرآن ، وقيل في حده هو اللفظ العربي المنزل للتدبر والتذكر والمتواتر فاللفظ جنس يعم الكتب السماوية وغيرها والعربي يخرج غير العربي من الكتب السماوية وغيرها والمنزل يخرج ما ليس بمنزل من العربي وقوله للتدبر والتذكر لزيادة التوضيح وليس من ضروريات هذا التعريف والتدبير التفهم لما يتبع ظاهره من التأويلات الصحيحة والمعاني المستنبطة والتذكر الاتعاظ بقصصه وأمثاله وقوله المتواتر يخرج ما ليس بمتواتر كالقراآت الشاذة والأحاديث القدسية وقيل في حده هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه ، فخرج الكلام الذي لم ينزل والذي نزل لا للإعجاز كسائر الكتب السماوية والسنة والمراد بالإعجاز ارتقاؤه في البلاغة إلى حد خارج عن طوق البشر ولهذا عجزوا عن معارضته عند تحديهم والمراد بالسورة الطائفة منه المترجم أولها وآخرها توقيفاً واعترض على هذا الحد بأن الإعجاز ليس لازماً بيننا وإلا لم يقع فيه ريب وبأن معرفة السورة تتوقف على معرفة القرآن وأجيب بأن اللزوم بين وقت التعريف لسبق العلم بإعجازه وبأن السورة اسم للطائفة المترجمة من الكلام المنزل قرآناً كان أو غيره بدليل سورة الإنجيل . وقال جماعة في حده هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف تواتراً ، وقال جماعة هو القرآن المنزل على رسولنا المكتوب في المصاحف المنقول تواتراً بلا شبهة . فالقرآن تعريف لفظي للكتاب والباقي رسمي ويعترض عليه بمثل ما سبق ويجاب عن الاعتراض بما مر وقيل هو كلام الله العربي الثابت في اللوم المحفوظ للإنزال واعترض عليه بأن الأحاديث القدسية والقراآت الشاذة بل وجميع الأشياء ثابتة في اللوح المحفوظ لقوله تعالى : ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وأجيب بمنع كونها أثبتت في اللوح للإنزال . والأولى أن يقال هو كلام الله المنزل على محمد المتلو المتواتر ، وهذا لا يرد عليه ما ورد على الحدود فتدبر .ن إسحاق : غادر ، ورجحها الحافظ ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي انه قتل رجلا غدرا . وفيها أيضا انه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية ، فخرج من خمسين رجلا ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، وهو على الحرس ، فانفلت منهم مكرز ، فكأنه ﷺ أشار إلى ذلك. ( قوله: إذ جاء سيهل بن عمرو ) في رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو ، فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحة. ( قوله : فاخبرني أيوب عن عكرمة ) الخ قال الحافظ: هذا مرسل لم اقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه ، لكن له شاهد موصول عنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع قال : بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي ﷺ ليصالحوا ، فلما رأى النبي ﷺ سهيلا قال : لقد سهل لكم من أمركم . و للطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب .
( قوله : فدعا النبي ﷺ الكاتب ) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، كما بينه إسحاق بن راهوايه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري ، وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء . واخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه انه قال : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة . قال الحافظ : ويجمع ان اصل كتاب الصلح بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح ، ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله . ( قوله : هذا ما قاضى ) بوزن فاعل من قضيت الشيء فصلت الحكم فيه . ( قوله : ضغطة ) بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا . وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة . (قوله : فقال المسلمون) الخ قد تقدم بيان القائل في أول الباب .
( قوله : أبو جندل ) بالجيم والنون بوزن جعفر ، وكان اسمه العاصي ، فتركه لما اسلم، وكان محبوسا بمكة ممنوعا من الهجرة ، وعذب بسبب الإسلام ، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين اسلم ، فخرج من السجن ، وتنكب الطريق ، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ، ففرح به المسلمون وتلقوه. ( قوله : يرسف ) بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد . ( قوله : إنا لم نقض الكتاب ) أي لم نفرغ من كتابته . ( قوله : فاجزه لي ) بالزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة أي امضي فغلي فيه ، فلا أرده إليك ، واستثنيه من القضية . ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء ، ورجح ابن الجوزي الزاي . وفيه ان الاعتبار في العقود بالقول ، ولو تاخرت الكتابة والاشهاد ، ولاجل ذلك امضى النبي ﷺ لسهيل الأمر في رد أنه إليه، وكان النبي ﷺ تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد ، رجاء أن يجيبه . ( قوله : قال مكرز: بلى قد أجزناه ) هذه رواية الكشميهني . ورواية الأكثر من رواة البخاري : بل بالاضراب. وقد استشكل ما وقع من مكرز من الإجازة لأنه خلاف ما وصفه ﷺ به من الفجور . وأجيب أن الفجور حقيقة ، ولا يستلزم أن يقع من شيء من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه ، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك . وكان معهما حويطب بن عبد العزى . لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل ، بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك . وان مكرز وحويطبا أخذا أبا جندل ، فادخلاه فسطاسا ، وكفا أباه عنه . وفي مغازي ابن عائد نحو ذلك كله ، ولفظه : ( فقال مكرز بن حفص : وكان ممن اقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح : أنا له جار، واخذ بيده فأدخله فسطاسا ) قال الحافظ : وهذا لو ثبت لكان أقوى من الاحتمالات الأولى ، فانه لم يجزه بان يقره عند المسلمين ، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه ، فما خرج بذلك عن الفجور . لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ : فقال مكرز : قد أجرناه لك ، يخاطب النبي ﷺ بذلك.
( قوله : فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ) الخ زاد ابن إسحاق : فقال رسول الله ﷺ : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وان الله جاعل لك فرجا ومخرجا . قال الخطابي : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين : أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان ، إن لم تمكنه التورية . فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلي الخلاص من الموت بالتقية . والوجه الثاني انه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك ، وان عذبه ، او سجنه ، فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فان ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين .
وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟ فقيل : نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وان الذي وقع في القصة منسوخ ، وان ناسخه حديث : ( أنا بريء من كل مسلم بين مشركين ) وقد تقدم ، وهو قول الحنفية . وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد ان يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب .
( قوله : الست نبي الله حقا قال : بلى ) زاد الواقدي من حديث أبي سعيد : قال : قال عمر : لقد داخلني أمر عظيم ، وراجعت النبي ﷺ مراجعة ما راجعته مثلها قط . (قوله: فلم نعط الدنية ؟ ) بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية . ( قوله: إن ليس كنت حدثتنا ) الخ في رواية ابن أساق : كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ﷺ ، فلما رأوا الصلح ، داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون . وعند الواقدي أن النبي ﷺ كان رأى في منامه قبل أن يعتمر انه دخل هو وأصحابه البيت ، فلما راوا تأخير ذلك شق عليهم . قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى ، وان الكلام على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد ، وان من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته .
( قوله : فأتيت أبا بكر ) الخ لم يذكر عمر انه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة . وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب النبي ﷺ دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله ﷺ. ( قوله : فاستمسك بغرزه ) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعده زاي . قال المصنف : هو للإبل بمنزلة الركاب للفرس . والمراد التمسك بأمره ، وترك المخالفة له ، كالذي يمسك بركاب الفارس، فلا يفارقه . ( قوله : قال عمر : فعلت لذلك أعمالا) القائل هو الزهري كما في البخاري ، وهو منقطع ، لان الزهري لم يدرك عمر . قال بعض الشراح : المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجيء ، والسؤال والجواب ، ولم يكن ذلك شكا من عمر، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحث على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين .
قال في الفتح : وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن عمر التصريح بمراده . ففي رواية ابن إسحاق : وكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا . قال السهيلي : هذا الشك الذي حصل لعمر هو ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة . قال الحافظ : والذي يظهر انه توقف منه ليقف على الحكمة ، وتنكشف عنه الشبهة . ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ، وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاد الحكم بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة . وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه . وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو فيه مأجور لأنه مجتهد فيه .
( قوله : فلما فرغ من قضية الكتاب ) زاد ابن إسحاق : فلما فرغ من قضية الكتاب اشهد جماعة على الصلح ، رجال من المسلمين ، ورجال من المشركين ، منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص ، وهو مشرك . ( قوله : فوالله ما قام منهم أحد ) قيل : كأنهم توقفوا لاحتمال ان يكون الأمر بذلك للندب او لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، أو أن يخصصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم ، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمن وقوع النسخ . ويحتمل أن يكون أهميتهم صورة لحال ، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم ، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم ، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة . أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور . قال الحافظ : ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم . ( قوله : فذكر لها ما لقي من الناس ) فيه دليل على فضل المشورة وان الفعل إذا انضم إلى القول كان ابلغ من القول المجرد . وليس فيه أن الفعل مطلقا ابلغ من القول . نعم فيه إن الاقتداء بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، وهذا معلوم مشاهد . وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها ، حتى قال أمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة . وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى . ونظير هذه ما وقع في غزوة الفتح فان النبي ﷺ أمرهم بالفطر في رمضان . فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب ، فلما رأوه يشرب شربوا .
( قوله : نحر بدنه ) زاد ابن إسحاق عن ابن عباس انه كانت سبعين بدنة ، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين ، وكان غنمه منه في غزوة بدر . ( قوله : ودعا حالقه ) قال ابن إسحاق : بلغني ان الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن امية بن الفضل الخزاعي . ( قوله : فجاءه أبو نصير ) بفتح الموحدة وكسر المهملة . اسمه عتبة ، بضم المهملة وسكون الفوقية ، ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ، ابن جارية بالجيم ، الثقفي ، حليف بني زهرة . كذا قال ابن إسحاق ، وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب : رجل من قريش أي بالحلف ، لان بني زهرة من قريش. ( قوله : فأرسلوا في طلبه رجلين ) سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس ، بمعجمة ونون وأخره مهملة مصغرا، ابن جابر ، ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الأخنس بن شريق هو الذي أيرسل في طلبه. زاد بن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق ، والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله ﷺ كتابا ، وبعثا به مع مولى لهما ، ورجل من بني عامر استأجراه انتهى . قال الحافظ : والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير ، أزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير ، فلكل منهما المطالبة برده . ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالأصالة، أو الحلف. وقيل: إن اسم أحد الرجلين مرثد بن حمران . زاد الواقدي : فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام.
(قوله: فقال أبو بصير لأحد الرجلين) في رواية ابن إسحاق للعامريري، وفي رواية ابن سعد: الخنيس بن جابر. (قوله: فاستله الآخر) أي صاحب السيف أخرجه من غمده. (قوله: حتى برد) بفتح الموحدة. والراء أي خمدت حواسه، وهو كناية عن الموت، لأن الميت تسكن حركته.وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. (قوله: وفر الآخر) في رواية ابن إسحاق : وخرج المولى يشتد أي هربا. (قوله: ذعرا) بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. (قوله: قتل صاحبي) بضم القاف. وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب زده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي ﷺ لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية .
(قوله: ويل أمه) بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، لأن الويل الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل، ولا يقصدون. والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شيء من ذلك في الحج في قوله للأعرابي: ويلك. وقال الفراء : أصله وي فلان أي لفلان، أي حزن له، فكثر الاستعمال ، فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وتبعه ابن مالك ، إلا أنه قال تبعا للخيل: إن وي كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها إتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيقا. (قوله: مسعر حرب) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا، وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي بسعرها. قال الخطابي يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها.
(قوله: لو كان له أحد) أي يناصره ويعاضده ويعاضده. (قوله: سيف البحر) بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء، أي ساحله. (قوله: عصابة) أي جماعة، ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على الأربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق أنهم بغلو نحو السبعين نفسا. وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلثمائة رجل. (قوله: فأرسل النبي ﷺ إليهم) في رواية موسى بن عقبة عن الزهري : فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي بصير، فقدم كتابه، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله ﷺ في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه، وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم.
(قوله: فأنزل الله تعالى: وهو الذي كف أيديهم عنكم) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة، فظفروا بهم، وعفا عنهم النبي ﷺ، فنزلت الآية. كما تقدم قيل في نزولها غير ذلك. (قول: على وضع الحرب عشر سنين) هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي، وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي. ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين. وكذا وقع عند موسى بن عقبة. ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي و مستدرك الحاكم في ا لأوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث، وهو قول الجمهور. وقيل: تجوز الزيادة. وقيل: لا تجاوز أبرع سنين. وقيل : ثلاثة. وقيل : سنتين. والأول هو الراجح.
(قوله: عيبة مكفوفة) أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. (قوله: وإنه لا إغلال ولا إسلال) أي لا سرقة ولا خيانة. يقال: أغل الرجل أي خان. أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف. والإسلال من السلة وهي السرقة، وقيل من سل اليوف، والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد. والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهراً. (قوله: وامتعضوا منه) بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا، وشق عليهم. قال الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشيء، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه، وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة، فالجمهور على ما هنا، والأصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي امعظوا بتشديد الميم. وعند النسفي انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض : وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ.
(قوله: وهي عاتق ) أي شابة. (قوله: فامتحنوهن) الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالإيمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال، دون الاطلاع على ما في القلوب، وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. (قوله: قال عروة أخبرتني عائشة) هو متصل كمال في مواضع في البخاري. (قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا) يعني قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . (قوله: قريبة) بالقاف والموحدة، مصغر في أكثر نسخ البخاري ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذا الكشميهني . وفي القاموس : بالتصغير، وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي ﷺ.
(قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا) الخ أي أبوا أن يعلموا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: واسألوا ما أنفقتم، وليسألوا ما أنفقوا قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن، وليمسكوهن، ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد، فكذلك. هذا كله في الصلح بين النبي ﷺ وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك، بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه،وكذا يعكسه، فامتثل المسلمون ذلك، وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة، ولم يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها، فلهذا نزلت: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم أي أصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات.
(قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات) الخ هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لأن مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها. فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات. فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالأعرابيات مثلا. أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: وإن فاتكم شيء من أزواجكم قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثني من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك.
(قوله: الأحابيش) لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاض ألفاظ هذه القصة أنه ﷺ بعث عينا من خزاعة، فتلقاه، فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي ﷺ: أشيروا علي، أترون أن أميل على ذراريهم، فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين . فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك، فقال: امضوا بالله. والأحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة.