انتقل إلى المحتوى

إحياء علوم الدين/كتاب قواعد العقائد/الفصل الرابع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الفصل الرابع

من قواعد العقائد

في الإيمان والإسلام وما بينهما من الاتصال

وما يتطرق إليه من الزيادة والنقصان ووجه استثناء السلف فيه وفيه ثلاث مسائل


مسألة اختلفوا في أن الإسلام هو الإيمان أو غيره وإن كان غيره فهل هو منفصل عنه يوجد دونه أو مرتبط به يلازمه? فقيل إنهما شيء واحد وقيل إنهما شيئان لا يتواصلان وقيل إنهما شيئان ولكن يرتبط أحدهما بالآخر. وقد أورد أبو طالب المكي في هذا كلاماً شديد الاضطراب كثير التطويل فلنهجم الآن على التصريح بالحق من غير تعريج على نقل ما لا تحصيل له، فنقول في هذا ثلاثة مباحث: بحث عن موجب اللفظين في اللغة، وبحث عن المراد بهما في إطلاق الشرع، وبحث عن حكمهما في الدنيا والآخرة، والبحث الأول لغوي، والثاني تفسيري، والثالث فقهي شرعي. البحث الأول: في موجب اللغة؛ والحق فيه أن الإيمان عبارة عن التصديق؛ قال الله تعالى "وما أنت بمؤمن لنا" أي؛ بمصدق، والإسلام عبارة عن التسليم والاستسلام بالإذعان والانقياد وترك التمرد والإباء والعناد، وللتصديق محل خاص وهو القلب، واللسان ترجمان. وأما التسليم فإنه عام في القلب واللسان والجوارح فإن كل تصديق بالقلب فهو تسليم وترك الإباء والجحود وكذلك الاعتراف باللسان وكذلك الطاعة والانقياد بالجوارح. فموجب اللغة أن الإسلام أعم والإيمان أخص فكان الإيمان عبارة عن أشرف أجزاء الإسلام؛ فإذن كل تصديق تسليم وليس كل تسليم تصديقاً. البحث الثاني: عن إطلاق الشرع؛ والحق فيه أن الشرع قد ورد باستعمالهما على سبيل الترادف والتوارد وورد على سبيل الاختلاف وورد على سبيل التداخل، أما الترادف ففي قوله تعالى "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" ولم يكن بالاتفاق إلا بيت واحد وقال تعالى "يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين" وقال "بني الإسلام على خمس" وسئل رسول الله مرة عن الإيمان فأجاب بهذه الخمس وأما الاختلاف فقوله تعالى "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا" ومعناه استسلمنا في الظاهر، فأراد بالإيمان ههنا التصديق بالقلب فقط وبالإسلام الاستسلام ظاهراً باللسان والجوارح، وفي حديث جبرائيل عليه السلام لما سأله عن الإيمان فقال "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالبعث بعد الموت وبالحساب وبالقدر خيره وشره، فقال: فما الإسلام? فأجاب بذكر الخصال الخمس" فعبر بالإسلام عن تسليم الظاهر بالقول والعمل. وفي الحديث عن سعد أنه "أعطى رجلاً عطاء ولم يعط الآخر؛ فقال له سعد: يا رسول الله تركت فلاناً لم تعطه وهو مؤمن? فقال أو مسلم فأعاد عليه فأعاد رسول الله " وأما التداخل فما روى أيضاً أنه سئل "فقيل أي الأعمال أفضل? فقال : الإسلام، فقال: أي الإسلام أفضل، فقال : الإيمان" وهذا دليل على الاختلاف وعلى التداخل وهو أوفق الاستعمالات في اللغة لأن الإيمان عمل من الأعمال وهو أفضلها، والإسلام هو تسليم إما بالقلب وإما باللسان وإما بالجوارح وأفضلها الذي بالقلب وهو التصديق الذي يسمى إيماناً والاستعمال لهما على سبيل الاختلاف وعلى سبيل التداخل وعلى سبيل الترادف كله غير خارج عن طريق التجوز في اللغة.

أما الاختلاف فهو أن يجعل الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب فقط وهو موافق للغة، والإسلام عبارة عن التسليم ظاهراً وهو أيضاً موافق للغة فإن التسليم ببعض محال التسليم ينطلق عليه اسم التسليم، فليس من شرط حصول الإسلام عموم المعنى لكل محل يمكن أن يوجد المعنى فيه فإن من لمس غيره ببعض بدنه يسمى لامساً وإن لم يستغرق جميع بدنه، فإطلاق اسم الإسلام على التسليم الظاهر عند عدم تسليم الباطن مطابق للسان وعلى هذا الوجه جرى قوله تعالى "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا" وقوله في حديث سعد أو مسلم لأنه فضل أحدهما على الآخر، ويريد بالاختلاف تفاضل المسميين. وأما التداخل فموافق أيضاً للغة في خصوص الإيمان وهو أن يجعل الإسلام عبارة عن التسليم بالقلب والقول والعمل جميعاً، والإيمان عبارة عن بعض ما دخل في الإسلام وهو التصديق بالقلب وهو الذي عنيناه بالتداخل وهو موافق للغة في خصوص الإيمان وعموم الإسلام للكل، وعلى هذا خرج قوله الإيمان في جواب قول السائل أي الإسلام أفضل لأنه جعل الإيمان خصوصاً من الإسلام فأدخله فيه، وأما استعماله فيه على سبيل الترادف بأن يجعل الإسلام عبارة عن التسليم بالقلب والظاهر جميعاً فإن كل ذلك تسليم وكذا الإيمان ويكون التصرف في الإيمان على الخصوص بتعميمه وإدخال الظاهر في معناه وهو جائز لأن تسليم الظاهر بالقول والعمل ثمرة تصديق الباطن ونتيجته، وقد يطلق اسم الشجر ويراد به الشجر مع ثمره على سبيل التسامح فيصير بهذا القدر من التعيمم مرادفاً لاسم الإسلام ومطابقاً له فلا يزيد عليه ولا ينقص؛ وعليه خرج قوله "فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" البحث الثالث: عن الحكم الشرعي. والإسلام والإيمان حكمان أخروي ودنيوي. أما الأخروي فهو الإخراج من النار ومنع التخليد إذ قال رسول الله "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" وقد اختلفوا في أن هذا الحكم على ماذا يترتب? وعبروا عنه بأن الإيمان ماذا هو? فمن قائل إنه مجرد العقد ومن قائل يقول إنه عقد بالقلب وشهادة باللسان ومن قائل يزيد ثالثاً وهو العمل بالأركان، ونحن نكشف الغطاء عنه ونقول من جمع بين هذه الثلاثة فلا خلاف في أن مستقره الجنة وهذه درجة. الدرجة الثانية: أن يوجد اثنان وبعض الثالث - وهو القول والعقد وبعض الأعمال - ولكن ارتكب صاحبه كبيرة أو بعض الكبائر؛ فعند هذا قالت المعتزلة: خرج بهذا عن الإيمان ولم يدخل في الكفر بل اسمه فاسق وهو على منزلة بين المنزلتين وهو مخلد في النار؛ وهذا باطل كما سنذكره الدرجة الثالثة: أن يوجد التصديق بالقلب والشهادة باللسان دون الأعمال بالجوارح، وقد اختلفوا في حكمه، فقال أبو طالب المكي: العمل بالجوارح من الإيمان ولا يتم دونه وادعى الإجماع فيه واستدل بأدلة تشعر بنقيض غرضه كقوله تعالى "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" إذ هذا يدل على أن العمل وراء الإيمان لا من نفس الإيمان وإلا فيكون العمل في حكم المعاد? والعجب أنه ادعى الإجماع في هذا وهو مع ذلك ينقل قوله "لا يكفر أحد إلا بعد جحوده لما أقر به" وينكر على المعتزلة قولهم بالتخليد في النار بسبب الكبائر؛ والقائل بهذا قائل بنفس مذهب المعتزلة؛ إذ يقال له من صدق بقلبه وشهد بلسانه ومات في الحال فهل هو في الجنة? فلابد أن يقول نعم، وفيه حكم بوجود الإيمان دون العمل، فنزيد ونقول لو بقي حياً حتى دخل عليه وقت صلاة واحدة فتركها ثم مات أو زنى ثم مات، فهل يخلد في النار? فإن قال نعم فهو مراد المعتزلة، وإن قال لا فهو تصريح بأن العمل ليس ركناً من نفس الإيمان ولا شرطاً في وجوده ولا في استحقاق الجنة به، وإن قال أردت به أن يعيش مدة طويلة ولا يصلي ولا يقدم على شيء من الأعمال الشرعية، فنقول فما ضبط تلك المدة وما عدد تلك الطاعات التي بتركها يبطل الإيمان وما عدد الكبائر التي بارتكابها يبطل الإيمان? وهذا لا يمكن التحكم بتقديره ولم يصر إليه صائر أصلاً. الدرجة الرابعة: أن يوجد التصديق بالقلب قبل أن ينطق باللسان أو يشتغل بالأعمال ومات فهل نقول مات مؤمناً بينه وبين الله تعالى: وهذا مما اختلف فيه ومن شرط القول لتمام الإيمان يقول هذا مات قبل الإيمان وهو فاسد إذ قال "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان" وهذا قلبه طافح بالإيمان فكيف يخلد في النار? ولم يشترط في حديث جبريل عليه السلام للإيمان إلا التصديق بالله تعالى وملائكته وكتبه واليوم الآخر كما سبق. الدرجة الخامسة: أن يصدق بالقلب ويساعده من العمر مهلة النطق بكلمتي الشهادة وعلم وجوبها ولكنه لم ينطق بها فيحتمل أن يجعل امتناعه عن النطق كامتناعه عن الصلاة، ونقول هو مؤمن غير مخلد في النار، والإيمان هو التصديق المحض واللسان ترجمان الإيمان فلا بد أن يكون الإيمان موجوداً بتمامه قبل اللسان حتى يترجمه اللسان وهذا هو الأظهر؛ إذ لا مستند إلا اتباع موجب الألفاظ ووضع اللسان أن الإيمان هو عبارة عن التصديق بالقلب. وقد قال "يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة" ولا ينعدم الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق الواجب كما لا ينعدم بالسكوت عن الفعل الواجب، وقال قائلون: القول ركن إذ ليس كلمتا الشهادة إخباراً عن القلب بل هو إنشاء عقد آخر وابتداء شهادة والتزام والأول أظهر، وقد غلا في هذا طائفة المرجئة فقالوا هذا لا يدخل النار أصلاً وقالوا إن المؤمن وإن عصى فلا يدخل النار وسنبطل ذلك عليهم. الدرجة السادسة أن يقول بلسانه "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ولكن لم يصدق بقلبه فلا نشك في أن هذا في حكم الآخرة من الكفار وأنه مخلد في النار، ولا نشك في أنه في حكم الدنيا للذي يتعلق بالأئمة والولاة من المسلمين لأن قلبه لا يطلع عليه، وعلينا أن نظن به أنه ما قاله بلسانه إلا وهو منطو عليه في قلبه وإنما نشك في أمر ثالث وهو الحكم الدنيوي فيما بينه وبين الله تعالى، وذلك بأن يموت له في الحال قريب مسلم ثم يصدق بعد ذلك بقلبه ثم يستفتي ويقول كنت غير مصدق بالقلب حالة الموت والميراث الآن في يدي فهل يحل لي بيني وبين الله تعالى? أو نكح مسلمة ثم صدق بقلبه هل تلزمه إعادة النكاح? هذا محل نظر فيحتمل أن يقال أحكام الدنيا منوطة بالقول الظاهر ظاهراً وباطناً ويحتمل أن يقال تناط بالظاهر في حق غيره لأن باطنه غير ظاهر لغيره وباطنه ظاهر له في نفسه بينه وبين الله تعالى، والأظهر والعلم عند الله تعالى أنه لا يحل له ذلك الميراث ويلزمه إعادة النكاح ولذلك كان حذيفة رضي الله عنه لا يحضر جنازة من يموت من المنافقين وعمر رضي الله عنه كان يراعي ذلك منه فلا يحضر إذا لم يحضر حذيفة رضي الله عنه، والصلاة فعل ظاهر في الدنيا وإن كانت من العبادات. والتوقي عن الحرام أيضاً من جملة ما يجب لله كالصلاة لقوله "طلب الحلال فريضة بعد فريضة" وليس هذا مناقضاً لقولنا إن الإرث حكم الإسلام وهو الاستسلام بل الاستسلام التام هو ما يشمل الظاهر والباطن، وهذه مباحث فقهية ظنية تبنى على ظواهر الألفاظ والعمومات والأقيسة فلا ينبغي أن يظن القاصر في العلوم أن المطلوب فيه القطع من حيث جرت العادة بإيراده في فن الكلام الذي يطلب فيه القطع فما أفلح من نظر إلى العادات والمراسم في العلوم. فإن قلت: فما شبهة المعتزلة والمرجئة وما حجة بطلان قولهم? فأقول شبهتهم عمومات القرآن؛ أما المرجئة فقالوا لا يدخل المؤمن النار وإن أتى بكل المعاصي لقوله عز وجل "فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً" ولقوله سبحانه وتعالى "والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون" الآية ولقوله تعالى "كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها - إلى قوله - فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء" فقوله "كلما ألقي فيها فوج" عام فينبغي أن يكون من ألقي في النار مكذباً ولقوله تعالى "لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى" وهذا حصر وإثبات ونفي ولقوله تعالى "من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون" فالإيمان رأس الحسنات ولقوله تعالى "والله يحب المحسنين" وقال تعالى "إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً" ولا حجة لهم في ذلك فإنه حيث ذكر الإيمان في هذه الآيات أريد به الإيمان مع العمل إذ بينا أن الإيمان قد يطلق ويراد به الإسلام وهو الموافقة بالقلب والقول والعمل، ودليل هذا التأويل أخبار كثيرة في معاقبة العاصين ومقادير العقاب وقوله "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" فكيف يخرج إذا لم يدخل? ومن القرآن قوله تعالى "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" والاستثناء بالمشيئة يدل على الانقسام وقوله تعالى "ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها" وتخصيصه بالكفر تحكم وقوله تعالى "ألا إن الظالمين في عذاب مقيم" وقال تعالى "ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار" فهذه العمومات في معارضة عموماتهم ولابد من تسليط التخصص والتأويل على الجانبين لأن الأخبار مصرحة بأن العصاة يعذبون بل قوله تعالى "وإن منكم إلا واردها" كالصريح في أن ذلك لابد منه للكل إذ لا يخلو مؤمن عن ذنب يرتكبه وقوله تعالى "لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى" أراد به من جماعة مخصوصين أو أراد بالأشقى شخصاً معيناً أيضاً وقوله تعالى "كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها" أي فوج من الكفار، وتخصيص العمومات قريب. ومن هذه الآية وقع للأشعري وطائفة من المتكلمين إنكار صيغ العموم وأن هذه الألفاظ يتوقف فيها إلى ظهور قرينة تدل على معناها. وأما المعتزلة فشبهتهم قوله تعالى "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى" وقوله تعالى "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" وقوله تعالى "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً" ثم قال "ثم ننجي الذين اتقوا" وقوله تعالى "ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم" وكل آية ذكر الله عز وجل العمل الصالح فيها مقروناً بالإيمان وقوله تعالى "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاءه جهنم خالداً فيها" وهذه العمومات أيضاً مخصوصة بدليل قوله تعالى "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فينبغي فينبغي أن تبقى له مشيئة في مغفرة ما سوى الشرك. وكذلك قوله عليه السلام "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" وقوله تعالى "إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً" وقوله تعالى "إن الله لا يضيع أجر المحسنين" فكيف يضيع أجر أصل الإيمان وجميع الطاعات بمعصية واحدة? وقوله تعالى "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" أي لإيمانه وقد ورد على مثل هذا السبب. فإن قلت: فقد مال الاختيار إلى أن الإيمان حاصل دون العمل. وقد اشتهر عن السلف قولهم: الإيمان عقد وقول وعمل؛ فما معناه? قلنا. لا يبعد أن يعد العمل من الإيمان لأنه مكمل له ومتمم كما يقال الرأس واليدان من الإنسان ومعلوم أنه يخرج عن كونه إنساناً بعدم الرأس ولا يخرج عنه بكونه مقطوع اليد وكذلك يقال التسبيحات والتكبيرات من الصلاة وإن كانت لا تبطل بفقدهها فالتصديق بالقلب من الإيمان كالرأس من وجود الإنسان إذ ينعدم بعدمه وبقية الطاعات. كالأطراف بعضها أعلى من بعض وقد قال "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" والصحابة رضي الله عنهم ما اعتقدوا مذهب المعتزلة في الخروج عن الإيمان بالزنا ولكن معناه غير مؤمن حقاً إيماناً تاماً كاملاً كما يقال للعاجز المقطوع الأطراف هذا ليس بإنسان أي ليس له الكمال الذي هو وراء حقيقة الإنسانية

مسألة فإن قلت: فقد اتفق السلف على أن الإيمان يزيد وينقص - يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية - فإذا كان التصديق هو الإيمان فلا يتصور فيه زيادة ولا نقصان? فأقول: السلف هم الشهود العدول وما لأحد عن قولهم عدول فما ذكروه حق وإنما الشأن في فهمه، وفيه دليل على أن العمل ليس من أجزاء الإيمان وأركان وجوده بل هو مزيد عليه يزيد به والزائد موجود والناقص موجود والشيء لا يزيد بذاته، فلا يجوز أن يقال الإنسان يزيد برأسه بل يقال يزيد بلحيته وسمنه، ولا يجوز أن يقال الصلاة تزيد بالركوع والسجود بل تزيد بالآداب والسنن فهذا تصريح بأن الإيمان له وجود ثم بعد الوجود يختلف حاله بالزيادة والنقصان. فإن قلت: فالإشكال قائم في أن التصديق كيف يزيد وينقص وهو خصلة واحدة? فأقول: إذا تركنا المداهنة ولم نكترث بتشغيب من تشغب وكشفنا الغطاء ارتفع الإشكال فنقول: الإيمان اسم مشترك يطلق من ثلاثة أوجه الأول: أنه يطلق للتصديق بالقلب على سبيل الاعتقاد والتقليد من غير كشف وانشراح صدور وهو إيمان العوام بل إيمان الخلق كلهم إلا الخواص، وهذا الاعتقاد عقدة عن القلب تارة تشتد وتقوى وتارة تضعف وتسترخي كالعقدة على الخيط مثلاً. ولا تستبعد هذا واعتبره باليهودي وصلابته في عقيدته التي لا يمكن نزوعه عنها بتخويف وتحذير ولا بتخييل ووعظ ولا تحقيق وبرهان وكذلك النصراني والمبتدعة وفيهم من يمكن تشكيكه بأدنى كلام ويمكن استنزاله عن اعتقاده بأدنى استمالة أو تخويف مع أنه غير شاك في عقده كالأول ولكنهما متفاوتان في شدة التصميم. وهذا موجود في الاعتقاد الحق أيضاً والعمل يؤثر في نماء هذا التصميم وزيادته كما يؤثر سقي الماء في نماء الأشجار ولذلك قال الله تعالى "فزادتهم إيماناً" وقال تعالى "ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم" وقال فيما يروى في بعض الأخبار "الإيمان يزيد وينقص" وذلك بتأثير الطاعات في القلب وهذا لا يدركه إلا من راقب أحوال نفسه في أوقات المواظبة على العبادة والتجرد لها بحضور القلب مع أوقات الفتور وإدراك التفاوت في السكون إلى عقائد الإيمان في هذه الأحوال حتى يزيد عقده استعصاء على من يريد حله بالتشكيك بل من يعتقد في اليتيم معنى الرحمة إذا عمل بموجب اعتقاده فمسح رأسه وتلطف به أدرك من باطنه تأكيد الرحمة وتضاعفها بسبب العمل: وكذلك معتقد التواضع إذا عمل بموجبه عملاً مقبلاً أو ساجداً لغيره أحس من قلبه بالتواضع عند إقدامه على الخدمة. وهكذا جميع صفات القلب تصدر منها أعمال الجوارح ثم يعود أثر الأعمال عليها فيؤكدها ويزيدها، وسيأتي هذا في ربع المنجيات والمهلكات عند بيان وجه تعلق الباطن بالظاهر والأعمال بالعقائد والقلوب فإن ذلك من جنس تعلق الملك بالملكوت وأعني بالملك عالم الشهادة المدرك بالحواس وبالملكوت عالم الغيب المدرك بنور البصيرة والقلب من عالم الملكوت والأعضاء وأعمالها من عالم الملك. ولطف الارتباط ودقته بين العالمين انتهى إلى حد ظن بعض الناس اتحاد أحدهما بالآخر وظن آخرون أنه لا عالم إلا عالم الشهادة وهو هذه الأجسام المحسوسة. ومن أدرك الأمرين وأدرك تعددهما ثم ارتباطهما عبر عنه فقال:

رق الزجاج ورقت الخمر
وتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر

ولنرجع إلى المقصود فإن هذا العلم خارج عن علم المعاملة ولكن بين العلمين أيضاً اتصال وارتباط فلذلك ترى علوم المكاشفة تتسلق كل ساعة على علوم المعاملة إلى أن تنكشف عنها بالتكليف فهذا وجه زيادة الإيمان بالطاعة بموجب هذا الإطلاق، ولهذا قال علي كرم الله وجهه: إن الإيمان ليبدو لمعة بيضاء فإذا عمل العبد الصالحات نمت فزادت حتى يبيض القلب كله وإن النفاق ليبدو نكتة سوداء فإذا انتهك الحرمات نمت وزادت حتى يسود القلب كله فيطبع عليه فذلك هو الختم وتلا قوله تعالى "كلا بل ران على قلوبهم" الآية. الإطلاق الثاني: أن يراد به التصديق والعمل جميعاً كما قال "الإيمان بضع وسبعون باباً" وقال "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وإذا دخل العمل في مقتضى لفظ الإيمان لم تخف زيادته ونقصانه وهل يؤثر ذلك في زيادة الإيمان الذي هو مجرد التصديق? هذا فيه نظر وقد أشرنا إلى أنه يؤثر فيه. الإطلاق الثالث: أن يراد به التصديق اليقيني على سبيل الكشف وانشراح الصدر والمشاهدة بنور البصيرة وهذا أبعد الأقسام عن قبول الزيادة ولكني أقول الأمر اليقيني الذي لا شك فيه تختلف طمأنينة النفس إليه فليس طمأنينة النفس إلى أن الاثنين أكثر من الواحد كطمأنينتها إلى أن العالم مصنوع حادث وإن كان شك في واحد منهما فإن اليقينيات تختلف في درجات الإيضاح ودرجات طمأنينة النفس إليها، وقد تعرضنا لهذا في فصل اليقين من كتاب العلم في باب علامات علماء الآخرة فلا حاجة إلى الإعادة. وقد ظهر في جميع الإطلاقات على ما قالوه من زيادة الإيمان ونقصانه حق وكيف وفي الأخبار "أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" وفي بعض المواضع في خبر آخر "مثقال دينار" فأي معنى لاختلاف مقاديره إن كان ما في القلب لا يتفاوت?

مسألة فإن قلت: ما وجه السلف "أنا مؤمن إن شاء الله" والاستثناء شك والشك في الإيمان كفر وقد كانوا كلهم يمتنعون عن جزم الجواب بالإيمان ويحترزون عنه. فقال سفيان الثوري رحمه الله، من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين ومن قال أنا مؤمن حقاً فهو بدعة، فكيف يكون كاذباً وهو يعلم أنه مؤمن في نفسه ومن كان مؤمناً في نفسه كان مؤمناً عند الله? كما أن من كان طويلاً وسخياً في نفسه وعلم ذلك كان كذلك عند الله وكذا من كان مسروراً أو حزيناً أو سميعاً أو بصيراً، ولو قيل للإنسان هل أنت حيوان: لم يحسن أن يقول أنا حيوان إن شاء الله. ولما قال سفيان ذلك قيل له فماذا تقول? قال: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وأي فرق بين أن يقول آمنا بالله وما أنزل إلينا وبين أن يقول أنا مؤمن? وقيل للحسن: أمؤمن أنت? فقال إن شاء الله، فقيل له: لم تستثني يا أبا سعيد في الإيمان? فقال أخاف أن أقول نعم فيقول الله سبحانه كذبت يا حسن فتحق علي الكلمة. وكان يقول: ما يؤمنني أن يكون الله سبحانه قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني وقال اذهب لا قبلت لك عملاً؛ فأنا أعمل في غير معمل. وقال إبراهيم بن أدهم: إذا قيل لك أمؤمن أنت? فقل لا إله إلا الله وقال مرة: قل أنا لا أشك في الإيمان وسؤالك إياي بدعة. وقيل لعلقمة: أمؤمن أنت? قال: أرجو إن شاء الله. وقال الثوري: نحن مؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وما ندري ما نحن عند الله تعالى? فما معنى هذه الاستثناءات? فالجواب: أن هذا الاستثناء صحيح وله أربعة أوجه؛ وجهان مستندان إلى الشك لا في أصل الإيمان ولكن في خاتمته أو كماله، ووجهان لا يستندان إلى الشك. الوجه الأول - الذي لا يستند إلى معارضة الشك: الاحتراز من الجزم خيفة ما فيه من تزكية النفس قال الله تعالى "فلا تزكوا أنفسكم" وقال "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" وقال تعالى "انظر كيف يفترون على الله الكذب" وقيل لحكيم: ما الصدق القبيح: فقال: ثناء المرء على نفسه. والإيمان من أعلى صفات المجد والجزم تزكية مطلقة وصغية الاستثناء كأنها ثقل من عرف التزكية، كما يقال للإنسان أنت طبيب أو فقيه أو مفسر? فيقول: نعم إن شاء الله، لا في معرض التشكيك ولكن لإخراج نفسه عن تزكية نفسه فالصيغة صيغة الترديد والتضعيف لنفس الخبر ومعناه التضعيف لللازم من لوازم الخبر وهو التزكية. وبهذا التأويل لو سئل عن وصف ذم لم يحسن الاستثناء. الوجه الثاني: التأدب بذكر الله تعالى في كل حال وإحالة الأمور كلها إلى مشيئة الله سبحانه فقد أدب الله سبحانه نبيه فقال تعالى "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله" ثم لم يقتصر على ذلك فيما لا يشك فيه بل قال تعالى "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين" وكان الله سبحانه عالماً بأنهم يدخلون لا محالة وأنه شاءه ولكن المقصود تعليمه ذلك فتأدب رسول الله في ما كان يخبر عنه معلوماً كان أو مشكوكاً حتى قال لما دخل المقابر "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" واللحوق بهم غير مشكوك فيه ولكن مقتضى الأدب ذكر الله تعالى وربط الأمور به. وهذه الصيغة دالة عليه حتى صار بعرف الاستعمال عبارة عن إظهار الرغبة والتمني، فإذا قيل لك إن فلاناً يموت سريعاً فتقول إن شاء الله فيفهم منه رغبتك لا تشكك، وإذا قيل لك فلان سيزول مرضه ويصح فتقول إن شاء الله بمعنى الرغبة فقد صارت الكلمة معدولة عن معنى التشكيك إلى معنى الرغبة وكذلك العدول إلى معنى التأدب لذكر الله تعالى كيف كان الأمر: الوجه الثالث: مستنده الشك ومعناه أنا مؤمن حقاً إن شاء الله، إذ قال الله تعالى لقوم مخصوصين بأعيانهم "أولئك هم المؤمنون حقاً" فانقسموا إلى قسمين ويرجع هذا إلى الشك في كمال الإيمان لا في أصله، وكل إنسان شاك في كمال إيمانه وذلك ليس بكفر، والشك في كمال الإيمان حق من وجهين؛ أحدهما: من حيث إن النفاق يزيل كمال الإيمان وهو خفي لا تتحقق البراءة منه. والثاني: أنه يكمل بأعمال الطاعات ولا يدري وجودها على الكمال: أما العمل فقد قال الله تعالى "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون" فيكون الشك في هذا الصدق وكذلك قال الله تعالى "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين" فشرط عشرين وصفاً كالوفاء بالعهد والصبر على الشدائد. ثم قال تعالى "أولئك الذين صدقوا" وقد قال تعالى "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" وقال تعالى "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل" الآية وقد قال تعالى "هم درجات عند الله" وقال "الإيمان عريان ولباسه التقوى" الحديث وقال "الإيمان بضع وسبعون باباً أدناها إماطة الأذى عن الطريق" فهذا ما يدل على ارتباط كمال الإيمان بالأعمال وأما ارتباطه بالبراءة عن النفاق والشرك الخفي فقوله "أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا خاصم فجر" وفي بعض الروايات "وإذا عاهد غدر" وفي حديث أبي سعيد الخدري "القلوب أربعة: قلب أجرد وفيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء العذب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المادتين غلب عليه حكم له بها" وفي لفظ آخر "غلبت عليه ذهبت به" وقال عليه السلام "أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها" وفي حديث "الشرك أخفى في أمتى من دبيب النمل على الصفا" وقال حذيفة رضي الله عنه "كان الرجل يتكلم بالكلمة على عهد رسول الله يصير بها منافقاً إلى أن يموت وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات" وقال بعض العلماء: أقرب الناس من النفاق من يرى أنه بريء من النفاق. وقال حذيفة: المنافقون اليوم أكثر منهم على عهد النبي فكانوا إذ ذاك يخفونه وهم اليوم يظهرونه وهذا النفاق يضاد صدق الإيمان وكماله وهو خفي وأبعد الناس منه من يتخوفه وأقربهم منه من يرى أنه بريء منه. فقد قيل للحسن البصري: يقولون أن لا نفاق اليوم فقال يا أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطريق. وقال هو أو غيره: لو نبتت للمنافقين أذناب ما قدرنا أن نطأ على الأرض بأقدامنها وسمع ابن عمر رضي الله عنه رجلاً يتعرض للحجاج فقال: أرأيت لو كان حاضراً يسمع أكنت تتكلم فيه? فقال: لا، فقال: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله " وقال "من كان ذا لسانين في الدنيا جعله الله ذا لسانين في الآخرة" وقال أيضاً "شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه" وقيل للحسن: إن قوماً ما يقولون إنا لا نخاف النفاق، فقال: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من تلاع الأرض ذهباً. وقال الحسن: إن من النفاق اختلاف اللسان والقلب، والسر والعلانية، والمدخل والمخرج. وقال رجل لحذيفة رضي الله عنه: إني أخاف أن أكون منافقاً، فقال: لو كنت منافقاً ما خفت النفاق إن المنافق من أمن النفاق. وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثن ومائة - وفي رواية خمسين ومائة - من أصحاب النبي كلهم يخافون النفاق. وروي "أن رسول الله كان جالساً في جماعة من أصحابه فذكروا رجلاً وأكثروا الثناء عليه فبينا هم كذلك إذ طلع عليهم الرجل ووجهه يقطر ماء من أثر الوضوء وقد علق نعله بيده وبين عينيه أثر السجود فقالوا: يا رسول الله هو هذا الرجل الذي وصفناه، فقال : أرى على وجهه سفعة من الشيطان، فجاء الرجل حتى سلم وجلس مع القوم فقال النبي : نشدتك الله هل حدثت نفسك حين أشرفت على القوم أنه ليس فيهم خير منك? فقال: اللهم نعم" فقال في دعائه "اللهم إني أستغفرك لما علمت ولما لم أعلم، فقيل له: أتخاف يا رسول الله? فقال: وما يؤمنني والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء! وقد قال سبحانه "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون"، قيل في التفسير: عملوا أعمالاً ظنوا أنها حسنات فكانت في كفة السيئات. وقال سري السقطي: لو أن إنساناً دخل بستاناً فيه من جميع الأشجار عليها من جميع الطيور فخاطبه كل طير منها بلغة؛ فقال: السلام عليك يا ولي الله، فسكنت نفسه إلى ذلك كان أسيراً في يديها فهذه الأخبار والآثار تعرفك خطر الأمر بسبب دقائق النفاق والشرك الخفي وأنه لا يؤمن منه حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة عن نفسه وأنه هل ذكر في المنافقين? وقال أبو سليمان الداراني: سمعت من بعض الأمراء شيئاً فأردت أن أنكره فخفت أن يأمر بقتلي ولم أخف من الموت ولكن خشيت أن يعرض لقلبي التزين للخلق عند خروج روحي فكففت. وهذا من النفاق الذي يضاد حقيقة الإيمان وصدقه وكماله وصفاءه لا أصله. فالنفاق نفاقان، أحدهما: يخرج من الدين ويلحق بالكافرين ويسلك في زمرة المخلدين في النار. والثاني: يفضي بصاحبه إلى النار مدة أو ينقص من درجات عليين ويحط من رتبة الصديقين وذلك مشكوك فيه ولذلك حسن الاستثناء فيه. وأصل هذا النفاق تفاوت بين السر والعلانية، والأمن من مكر الله، والعجب، وأمور أخر لا يخلو عنها إلا الصديقون. الوجه الرابع: وهو أيضاً مستند إلى الشك وذلك من خوف الخاتمة فإنه لا يدري أيسلم له الإيمان عند الموت أم لا? فإن ختم له بالكفر حبط عمله السابق لأنه موقوف على سلامة الآخر، ولو سئل الصائم ضحوة النهار عن صحة صومه فقال: أنا صائم قطعاً، فلو أفطر في أثناء نهاره بعد ذلك لتبين كذبه إذ كانت الصحة موقوفة على التمام إلى غروب الشمس من آخر النهار. وكما أن النهار ميقات تمام الصوم فالعمر ميقات تمام صحة الإيمان ووصفه بالصحة قبل آخره بناء على الاستصحاب وهو مشكوك فيه، والعاقبة مخوفة ولأجلها كان بكاء أكثر الخائفين لأجل أنها ثمرة القضية السابقة والمشيئة الأزلية التي لا تظهر إلا بظهور المقضي به ولا مطلع عليه لأحد من البشر، فخوف الخاتمة كخوف السابقة وربما يظهر في الحال ما سبقت الكلمة بنقيضه، فمن الذي يدري أنه من الذين سبقت لهم من الله الحسنى? وقيل في معنى قوله تعالى "وجاءت سكرة الموت بالحق" أي بالسابقة يعني أظهرتها. وقال بعض السلف: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يحلف بالله ما من أحد يأمن أن يسلب إيمانه إلا سلبه. وقيل من الذنوب ذنوب عقوبتها سوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك. وقيل هي عقوبات دعوى الولاية والكرامة بالافتراء. وقال بعض العارفين: لو عرضت علي الشهادة عند باب الدار والموت على التوحيد عند باب الحجرة لاخترت الموت على التوحيد عند باب الحجرة لأني لا أدري ما يعرض لقلبي من التغيير عن التوحيد إلى باب الدار? وقال بعضهم: لو عرفت واحداً بالتوحيد خمسين سنة ثم حال بيني وبينه سارية ومات لم أحكم أنه مات على التوحيد. وفي الحديث "من قال أنا مؤمن فهو كافر ومن قال أنا عالم فهو جاهل" وقيل في قوله تعالى "وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً" صدقاً لمن مات على الإيمان وعدلاً لمن مات على الشرك وقد قال تعالى "ولله عاقبة الأمور" فمهما كان الشك بهذه المثابة كان الاستثناء واجباً لأن الإيمان عبارة عما يفيد الجنة كما أن الصوم عبارة عما يبرىء الذمة. وما فسد قبل الغروب لا يبرىء الذمة فيخرج عن كونه صوماً فكذلك الإيمان بل لا يبعد أن يسأل عن الصوم الماضي الذي لا يشك فيه بعد الفراغ منه فيقال أصمت بالأمس? فيقول نعم إن شاء الله تعالى إذ الصوم الحقيقي هو المقبول والمقبول غائب عنه لا يطلع عليه إلا الله تعالى فمن هذا حسن الاستثناء في جميع أعمال البر ويكون ذلك شكا في القبول، إذ يمنع منا لقبول بعد جريان ظاهر شروط الصحة أسباب خفيفة لا يطلع عليها إلا رب الأرباب جل جلاله فيحسن الشك فيه. فهذه وجوه حسن الاستثناء في الجواب عن الإيمان وهي آخر ما نختم به "كتاب قواعد العقائد" تم الكتاب بحمد الله تعالى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى.