انتقل إلى المحتوى

إحياء علوم الدين/كتاب ذم الدنيا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


وهو الكتاب السادس من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي عرف أولياءه غوائل الدنيا وآفاتها. وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها حتى نظروا في شواهدها وآياتها، ووزنوا بحسناتها سيئاتها فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها ولا يفي مرجوها بمخوفها ولا يسلم طلوعها من كسوفها، ولكنها في صورة امرأة مليحة تستميل الناس بجمالها، ولها أسرار سوء قبائح تهلك الراغبين في وصالها، ثم هي فرارة عن طلابها شحيحة بإقبالها، وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها، إن أحسنت ساعة أساءت سنة. وإن أساءت مرة جعلتها سنة، فدوائر إقبالها على التقارب دائرة، وتجارة بنيها خاسرة بائرة، وآفاتها على التوالي لصدور طلابها راشقة، ومجاري أحوالها بذل طالبيها ناطقة. فكل مغرور بها إلى الذل مصيره. وكل متكبر بها إلى التحسر مسيره. شأنها الهرب من طالبها والطلب لهاربها، ومن خدمها فاتته، ومن أعرض عنها واتته لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات ولا ينفك سرورها عن المنغصات، سلامتها تعقب السقم، وشبابها يسوق إلى الهرم، ونعيمها لا يثمر إلا الحسرة والندم فهي خداعة مكارة، طيارة فرارة، لا تزال تتزين لطلابها حتى إذا صاروا من أحبابها، كشرت لهم عن أنيابها، وشوشت عليهم مناظم أسبابها؛ وكشفت لهم عن مكنون عجائبها، فأذاقتهم قواتل سمامها؛ ورشقتهم بصوائب سهامها. بينما أصحابها منها في سرور وإنعام إذ ولت عنها كأنها أضغاث أحلام. ثم عكرت عليهم بدواهيها فطحنتهم طعن الحصيد ووارتهم في أكفانهم تحت الصعيد، إن ملكت واحداً منهم جميع ما طلعت عليه الشمس جعلته حصيداً كأن لم يغن بالأمس. تمنى أصحابها سروراً وتعدهم غروراً حتى يأملون كثيراً ويبنون قصورا. فتصبح قصورهم قبورا وجمعهم بورا. وسعيهم هباء منثورا ودعاؤهم ثبورا، هذه صفتها وكان أمر الله قدراً مقدورا. والصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله المرسل إلى العالمين بشيراً ونذيرا وسراجاً منيرا. وعلى من كان من أهله وأصحابه له في الدين ظهيرا وعلى الظالمين نصيرا وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد: فإن الدنيا عدوة لله وعدوة لأولياء الله وعدوة لأعداء الله. أما عداوتها لله فإنها قطعت الطريق على عباد الله. ولذلك لم ينظر الله إليها منذ خلقها. وأما عداوتها لأولياء الله عز وجل: فإنها تزينت لهم بزينتها وعمتهم بزهرتها ونضارتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها. وأما عداوتها لأعداء الله: فإنها استدرجتهم بمكرها وكيدها فاقتنصتهم بشبكتها حتى وثقوا بها. وعولوا عليها فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها. فاجتنوا منها حسرة تتقطع دونها الأكباد. ثم حرمتهم السعادة أبد الآباد. فهم على فراقها يتحسرون ومن مكايدها يستغيثون ولا يغاثون. بل يقال لهم "اخسئوا فيها ولا تكلمون. أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون".

وإذا عظمت غوائل الدنيا وشرورها فلا بد أولاً من معرفة حقيقة الدنيا وما هي? وما الحكمة في خلقها مع عداوتها? وما مدخل غرورها وشرورها? فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه ويوشك أن يقع فيه. ونحن نذكر ذم الدنيا وأمثلتها، وحقيقتها وتفصيل معانيها، وأصناف الأشغال المتعلقة بها، ووجه الحاجة إلى أصولها، وسبب انصراف الخلق عن الله التشاغل بفضولها إن شاء الله تعالى. وهو المعين على ما يرتضيه.

بيان ذم الدنيا

الآيات الواردة في ذم الدنيا وأمثلتها كثيرة. وأكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة. بل هو مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يبعثوا إلا لذلك، فلا حاجة إلا الاستشهاد بآيات لقرآن لظهورها، وإنما نورد بعض الأخبار الواردة فيها. فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر شاة ميتة فقال "أترون هذه الشاة هينة على أهلها?" قالوا: من هوانها ألقوها. قال "والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء وقال "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وقال رسول الله "من أحب دنياه أضر بآخرته إلا ما كان لله منها وقال أبو موسى الأشعري: قال رسول الله "حب الدنيا رأس كل خطيئة وقال زيد بن أرقم: كما مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه فدعا بشراب فأتي بماء وعسل، فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه وسكتوا وما سكت: ثم عاد وبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته قال: ثم مسح عينيه فقالوا: يا خليفة رسول الله ما أبكاك? قال: كنت مع رسول الله فرأيته يدفع عن نفسه شيئاً ولم أر معه أحداً؛ فقلت يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك? قال "هذه الدنيا مثلت لي فقلت لها: إليك عني ثم رجعت فقالت: إنك إن أفلت مني لم يفلت مني من بعدك وقال "يا عجباً كل العجب للمصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور وروي أن رسول الله وقف على مزبلة فقال "هلموا إلى الدنيا وأخذ خرقاً قد بليت على تلك المزبلة وعظاماً قد نخرت فقال: هذه الدنيا وهذه إشارة إلى أن زينة الدنيا ستخلق مثل تلك الخرق وأن الأجسام التي ترى بها ستصير عظاماً بالية. وقال "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون إن بني إسرائيل لما بسطت لهم الدنيا ومهدت تاهوا في الحلية والنساء والطيب والثياب وقال عيسى عليه السلام: لا تتخذوا الدنيا رباً فتخذكم عبيداً اكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة وصاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة. وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: يا معشر الحواريين إني قد كببت لكم الدنيا على وجهها فلا تنعشوها بعدي فإن من خبث الدنيا أن عصي الله فيها وإن من خبث الدنيا أن الآخرة لا تدرك إلا بتركها، ألا فاعبروا الدنيا ولا تعمروها واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا، ورب شهوة ساعة أورثت أهلها حزناً طويلاً. وقال أيضاً: بطحت لكم الدنيا وجلستم على ظهرها فلا ينازعنكم فيها الملوك والنساء، فأما الملوك فلا تنازعوهم الدنيا فإنهم لن يعرضوا لكم ما تركتموهم ودنياهم، وأما النساء فاتقوهن بالصوم والصلاة. وقال أيضاً: الدنيا طالبة ومطلوبة فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه. وقال موسى ابن يسار: قال النبي "إن الله عز وجل لم يخلق خلقاً أبغض إليه من الدنيا وأنه منذ خلقها لم ينظر إليها وروي أن سليمان بن داود عليهما السلام مر في موكبه والطير تظله والجن والإنس عن يمينه وشماله قال: فمر بعابد من بني إسرائيل فقال والله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكاً عظيماً، قال: فسمع سليمان وقال: لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطى ابن داودن فإن ما أعطى ابن داود يذهب والتسبيحة تبقى. وقال "ألهاكم التكاثر يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت? وقال "إن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وعليها يعادى من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له، ولها يسعى من لا يقين له وقال "من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله في شيء وألزم الله قلبه أربع خصال: هما لا ينقطع عنه أبداً، وشغلاً لا يتفرغ منه أبداً، وفقراً لا يبلغ غناه أبداً، وأملاً لا يبلغ منتهاه أبداً وقال أبو هريرة: قال لي رسول الله "يا أبا هريرة ألا أريك الدنيا جميعها بما فيها" فقلت: بل يا رسول الله، فأخذ بيده وأتى بي وادياً

من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس أناس وعذرات وخرق وعظام، ثم قال "يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص كحرصكم وتأمل كأملكم ثم هي اليوم عظام بلا جلد ثم هي صائرة رماداً. وهذه العذرات هي ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها في بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم فأصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد؛ فمن كان باكياً على الدنيا فليبك" قال: فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا ويروى أن الله عز وجل لما أهبط آدم إلى الأرض قال له: ابن للخراب ولد للفناء.

وقال داود بن هلال مكتوب في صحف إبراهيم عليه السلام: يا دنيا ما أهونك على الأبرار الذين تصنعت وتزينت لهم، إني قذفت في قلوبهم بعضك والصدور عنك وما خلقت خلقاً أهون علي منك، كل شأنك صغير وإلى الفناء يصير قضيت عليك يوم خلقتك أن لا تدومي لأحد ولا يدوم لك أحد، وإن بخل بك صاحبك وشح عليك، طوبى للأبرار الذين أطلعوني من قلوبهم على الرضا ومن ضميرهم على الصدق والاستقامة، طوبى لهم ما لهم عندي من الجزاء إذا وفدوا إلي من قبورهم إلا النور يسعى أمامهم والملائكة حافون بهم حتى أبلغهم ما يرجون من رحمتي. وقال رسول الله "الدنيا موقوفة بين السماء والأرض، منذ خلقها الله تعالى لم ينظر غليها، وتقول يوم القيامة يا رب اجعلني لأدنى أوليائك اليوم نصيباً فيقول اسكتي يا لا شيء إني لم أرضك لهم في الدنيا أرضاك لهم اليوم وروي في أخبار آدم عليه السلام أنه لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الثفل، ولم يكن ذلك مجعولاً في شيء من أطعمة الجنة إلا في هذه الشجرة فلذلك نهيا عن أكلها، قال فجعل يدور في الجنة، فأمر الله تعالى ملكاً يخاطبه فقال له: قل له أي شيء تريد? قال آدم: أريد أن أضع ما في بطني من الأذى، فقيل للملك: قل له في أي مكان تريد أن تضعه أعلى الفرش أم على السرر أم على الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى ههنا مكاناً يصلح لذلك? اهبط إلى الدنيا وقال في بعض خطبه "المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه? فليتزود العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن حياته لموته ومن شبابه لهرمه فإن الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة، والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار وقال عيسى عليه السلام: لا يستقيم حب الدنيا والآخرة في مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد. وروي أن جبريل عليه السلام قال لنوح عليه السلام: يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا? فقال: كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. قيل لعيسى عليه السلام: لو اتخذت بيتاً يكنك: قال: يكفينا خلقان من كان قبلها. وقال نبينا "احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت وعن الحسن قال: خرج رسول الله ذات يوم على أصحابه فقال "هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيراً: ألا إنه من رغب في الدنيا وطال أمله فيها أعمى الله قلبه على قدر ذلك، ومن زهد في الدنيا وقصر فيها أمله أعطاه الله علماً بغير تعلم، وهدى بغير هداية: ألا أنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتجبر، ولا الغنى إلا بالفخر والبخل، ولا المحبة إلا باتباع الهوى؛ إلا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبة، وصبر على الذل وهو يقدر على العز لا يريد بذلك إلا وجه الله تعالى أعطاه الله ثواب خمسين صديقاً وروي أن عيسى عليه السلام اشتد عليه المطر والرعد والبرق يوماً فجعل يطلب شيئاً يلجأ إليه فوقعت عينه على خيمة من بعيد فأتاها فإذا فيها امرأة فحاد عنها، فإذا هو بكهف في جبل فأتاه فإذا فيه أسد فوضع يده عليه وقال: إلهي جعلت لكل شيء مأوى ولم تجعل لي مأوى، فأوحى الله تعالى إليه: مأواك في مستقر رحمتي لأزوجنك يوم القيامة مائة حوراء خلقتها بيدي ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام يوم منها كعمر الدنيا، ولآمرن منادياً ينادي أين الزهاد في الدنيا زوروا عرس الزاهد في الدنيا عيسى ابن مريم. وقال عيسى ابن مريم عليه السلام: ويل لصاحب الدنيا كيف يموت ويتركها وما فيها، وتغره ويأمنها، ويثق بها وتخذله، وويل للمغترين كيف أرتهم ما يكرهون وفارقهم ما يحبون وجاءهم ما يوعدون? وويل لمن الدنيا همه والخطايا عمله كيف يفتضح غداً بذنبه? وقيل أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى ما لك ولدار الظالمين إنها ليست لك بدار أخرج منها همك وفارقها بعقلك، فبئست الدار هي إلا لعامل يعمل فيها فنعمت الدار هي، يا موسى إني مرصد للظالم حتى آخذ منه للمظلوم" وروي أن رسول الله بعث أبا عبيدة بة الجراح فجاء بمال من البحرين؛ فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا

صلاة الفجر مع رسول الله فلما صلى رسول الله انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله حين رآهم ثم قال "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء" قالوا: أجل يا رسول الله، قال "فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكنم وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض" فقيل ما بركات الأرض? قال "زهرة الدنيا وقال "لا تشغلوا قلوبكم بذكر الدنيا فنهى عن ذكرها فضلاً عن إصابة عينها. وقال عمار بن سعيد: مر عيسى عليه السلام بقرية فإذا أهلها موتى في الأفنية والطرق، فقال: يا معشر الحواريين إن هؤلاء ماتوا عن سخطة ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا، فقالوا: يا روح الله وددنا أن لو علمنا خبرهم. فسأل الله تعالى فأوحى إليه إذا كان الليل فنادهم يجيبوك. فلما كان الليل أشرف على نشز ثم نادى: يا أهل القرية فأجابه مجيب لبيك يا روح الله! فقال: ما حالكم وما قصتكم? قال: بتنا في عافية وأصبحنا في الهاوية، قال: وكيف ذاك? قال: بحبنا الدنيا وطاعتنا أهل المعاصي، قال: وكيف كان حبكم للدنيا? قال: حب الصبي لأمه إذا أقبلت فرحنا بها وإذا أدبرت حزنا وبكينا عليها، قال: فما بال أصحابك لم يجيبوني? قال لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد، قال: فكيف أجبتني أنت من بينهم? قال: لأني كنت فيهم ولم أكن منهم، فلما نزل بهم العذاب أصابني معهم، فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أأنجوا منها أم أكبكب فيها? فقال المسيح للحواريين: لأكل خبز الشعير بالملح الجريش ولبس المسوح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة. وقال أنس: كانت ناقة رسول الله العضباء لا تسبق فجاء أعرابي بناقة له فسبقها، فشق ذلك على المسلمين فقال "إنه حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلى وضعه وقال عيسى عليه السلام: من الذي يبني على موج البحر داراً? تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً. وقيل لعيسى عليه السلام: علمنا واحداً يحبنا الله عليه، قال: ابغضوا الدنيا يحبكم الله تعالى. وقال أبو الدرداء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولهانت عليكم الدنيا ولآثرتم الآخرة ثم قال أبو الدرداء -من قبل نفسه- لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات تجأرون وتبكون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه، ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة، وحضرها الأمل فصارت الدنيا أملك بأعمالكم، وصرتم كالذين لا يعلمون فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها مخافة مما في عاقبته، مالكم لا تحابون ولا تناصحون وأنتم إخوان على دين الله ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم، ولو اجتمعتم على البر لتحاببتم، ما لكم تناصحون في أمر الدنيا ولا تناصحون في أمر الآخرة? ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبه ويعينه على أمر آخرته، ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم، لو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة لأنها أملك لأموركم. فإن قلتم: حب العاجلة غالب? فإنا نراكم تدعون العاجلة من الدنيا للآجل منها، تكدون أنفسكم بالمشقة والاحتراف في طلب أمر لعلكم لا تدركونه، فبئس القوم أنتم ما حققتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم! فإن كنتم في شك مما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم فائتونا لنبين لكم ولنريكم من النور ما تطمئن إليه قلوبكم! والله ما أنتم بالمنقوصة عقولكم فنعذركم إنكم تستبينون صواب الرأي في دنياكم وتأخذون بالحزم في أموركم، ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا تصيبونه وتحزنون على اليسير منها يفوتكم، حتى يتبين ذلك في وجوهكم ويظهر على ألسنتكم، وتسمونها المصائب وتقيمون فيها المآتم، وعامتكم قد تركوا كثيراً من دينهم ثم لا يتبين ذلك في وجوهكم ولا يتغير حالكم، إني لأرى الله قد تبرأ منكم يلقى بعضكم بعضاً بالسرور، وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله فاصطحبتم على الغل ونبتت مراعيكم

على الدمن وتصافيتم على رفض الأجل، ولوددت أن الله تعالى أراحني منكم وألحقني بمن أحب رؤيته ولو كان حياً لم يصابركم، فإن كان فيكم خير فقد أسمعتكم وإن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيراً، وبالله أستعين على نفسي وعليكم. وقال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين ارضوا بدنئ الدنيا مع سلامة الدين كما رضى أهل الدنيا بدنئ الدين مع سلامة الدنيا. وفي معناه قيل: أرى رجـالاً بـأدنـى الـــدين قـــد قـــنـــعـــوا ومـا أراهـم رضـوا فـي الـــعـــيش بـــالـــدون

فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين

وقال عيسى عليه السلام: يا طالب الدنيا لتبر تركك الدنيا أبر. وقال نبينا "لتأتينكم بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى لا تركنن إلى حب الدنيا فلن تأتيني بكبيرة هي أشد منها. ومر موسى عليه السلام برجل وهو يبكي ورجع وهو يبكي، فقال موسى: يا رب عبدك يبكي من مخافتك فقال: يا ابن عمران لو سال دماغه مع دموعه عينيه ورفع يديه حتى يسقطا لم أغفر له وهو يحب الدنيا.

الآثار: قال علي رضي الله عنه: من جمع فيه ست خصال لم يدع للجنة مطلباً ولا عن النار مهرباً؛ أولها: من عرف الله وأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الآخرة فطلبها. وقال الحسن: رحمالله أقواماً كانت الدنيا عندهم وديعة فأدوها إلى من ائتمنهم عليها، ثم راحوا خفافاً. وقال أيضاً رحمه الله: من نافسك في دينك فنافسه في دنياك فألقها في نحره. وقال لقمان عليه السلام لابنه: يا بني إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيه ناس كثير فلتكن سفينتك فيه تقوى الله عز وجل، وحشوها الإيمان بالله تعالى، وشراعها التوكل على الله عز وجل، لعلك تنجو وما أراك ناجياً. وقال الفضيل: طالت فكرتي في هذه الآية "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً حرزاً" وقال بعض الحكماء: إنك لن تصبح في شيء من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك وسيكون له أهل بعدك، وليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة وغداء يوم، فلا تهلك في أكله، وصم عن الدنيا وأفطر على الآخرة، وإن رأس مال الدنيا الهوى وربحها النار. وقيل لبعض الرهبان: كيف ترى الدهر? قال: يخلق الأبدان ويجدد الآمال ويقرب المنية يبعد الأمنية: قيل: فما حال أهله? قال: من ظفر به تعب ومن فاته نصب. وفي ذلك قيل: ومن يحمد الدنيا لعـيش يسـره فسوف لعمري عن قليل يلومها

إذا أدبرت كانت المرة حسـرة وإن أقبلت كانت كثيراً همومها

وقال بعض الحكماء: كانت الدنيا ولم أكن فيها، وتذهب الدنيا ولا أكون فيها، فلا أسكن إليها فإن عيشها نكد وصفوها كدر وأهلها منها على وجل، إما بنعمة زائلة أو بلية أو منية قاضية. وقال بعضهم من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحد ما يستحق، لكنها إما أن تزيد وإما أن تنقص. وقال سفيان: أما ترى النعم كأنها مغضوب عليها قد وضعت في غير أهلها. وقال أبو سليمان الداراني: من طلب الدنيا على المحبة لها لم يعط منها شيئاً إلا أراد أكثر. ومن طلب الآخرة على المحبة لها لم يعط منها شيئاً إلا أراد أكثر. وليس لهذا غاية. وقال رجل لأبي حازم: أشكو إليك حبالدنيا وليست لي بدار، فقال: انظر ما آتاكه الله عز وجل منها فلا تأخذه إلا من حلة ولا تضعه إلى في حقه. ولا يضرك حب الدنيا. وإنما قال هذا لأنه لو آخذ نفسه بذلك لأنعبه حتى يتبرم بالدنيا ويطلب الخروج منها. وقال يحيى بن معاذ: الدنيا حانوت الشيطان، فلا تسرق من حانوته شيئاً فيجيء في طلبه فيأخذك. وقال الفضيل: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى؛ لكان ينبغي لنا أن نختار خزفاً يبقى على ذهب يفنى. فكيف وقد اخترنا خزفاً يفني على ذهب يبقى? وقال أبو حازم: إياكم والدنيا فإنه بلغني أنه يوقف العبد يوم القيامة إذا كان معظماً الدنيا فيقال: هذا عظم ما حقره الله. وقال ابن مسعود: ما أصبح أحد من الناس إلا وهو ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل والعارية مردودة. وفي ذلك قيل: ومال المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الـودائع

وزار رابعة أصحابها، فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها، فقالت: اسكتوا عن ذكرها فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها. ألا من أحب شيئاً أكثر من ذكره. وقيل لإبراهيم بن أدهم: كيف أنت? فقال: نرقع دنيانا بتمزيق دينـنـا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

فطوبى لعبد آثر الله ربـه وجاد بدنياه لما يتـوقـع

وقيل أيضاً في ذلك: أرى طالب الدنيا وإن طال عمره ونال من الدنيا سروراً وأنعمـا

كبان بنى بنـيانـه فـأقـامـه فلما استوى ما قد بناه تهـدمـا

وقيل أيضاً في ذلك: هب الدنيا تساق إليك عفـواً أليس مصير ذاك إلى انتقال

وما دنياك إلا مثـل فـيء أظلك ثـم آذن بـالـزوال

وقال لقمان لابنه: يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعاً. وقال مطرف ابن الشخير: لا تنظر إلى خفض عيش الملوك ولين رياشهم، ولكن انظر إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم. وقال ابن عباس: إن الله تعالى جعل الدنيا ثلاثة أجزاء: جزء للمؤمن، وجزء للمنافق، وجزء للكافر. فالمؤمن يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع. وقال بعضهم: الدنيا جيفة، فمن أراد منها شيئاً فليصبر على معاشرة الكلاب.

وفي ذلك قيل: يا خاطب الدنيا إلى نفسها تنح عن خطبتها تسلـم

إن التي تخطب غـدارة قريبة العرس من المأتم

وقال أبو الدرداء: من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها. وفي ذلك قيل: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق

وقيل أيضاً: يا راقد الليل مـسـروراً بـأولـه إن الحوادث قد يطرقن أسـحـارا

أفنى القرون التي كانت مـنـعـمة كر الـجـديدين إقـبـالاً وإدبـارا

كم قد أبادت صروف الدهر من مل ك قد كان في الدهر نفاعاً وضرارا

يا من يعانق دنـيا لا بـقـاء لـهـا يمسي ويصبح في دنـياه سـفـارا

هلا تركت من الدنـيا مـعـانـقة حتى تعانق في الفردوس أبـكـارا

إن كنت بغى جنان الخلد تسكنـهـا فينبغي لك أن لا تـأمـن الـنـارا

وقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: لما بعث محمد أتت إبليس جنوده فقالوا: قد بعث نبي وأخرجت أمة، قال: يحبون الدنيا? قالوا نعم، قال: لئن كانوا يحبون الدنيا ما أبالي أن لا يعبدوا الأوثان، وإنما أغدو عليهم وأروح بثلاث: أخذ المال من غير حقه، وإنفاقه في غير حقه، وإمساكه عن حقه، والشر كله من هذا نبع. وقال رجل لعلي كرم الله وجهه: يا أمير المؤمن صف لنا الدنيا، قال: وما أصف لك من دار من صح فيها سقم، ومن أمن فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها افتتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها العقاب، ومتشابهها العتاب. وقيل له ذلك مرة أخرى فقال: أطول أم أقصر? فقيل: قصر فقال: حلالها حساب، وحرامها عذاب. وقال مالك بن دينار: اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا. وقال أبو سليمان الداراني: إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها، فإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة، لأن الآخرة كريمة والدنيا لئيمة. وهذا تشديد عظيم ونرجو أن يكون ما ذكره سيار بن الحكم أصح، إذ قال: الدنيا والآخرة يجتمعان في القلب فأيهما غلب كان الآخر تبعاً له. وقال مالك بن دينار: بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخر من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك. وهذا اقتباس مما قاله علي كرم الله وجهه حيث قال: الدنيا والآخرة ضرتان، فبقدر ما ترضى إحداهما تسخط الأخرى. وقال الحسن: والله لقد أدركت أقواماً كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه، ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت، ذهبت إلى ذا أو ذهبت إلى ذا? وقال رجل للحسن: ما تقول في رجل آتاه الله مالاً فهو يتصدق منه ويصل منه، أيحسن له أن يتعيش فيه? -يعني يتنعم- فقال: لا، لو كانت له الدنيا كلها ما كان له منها إلا الكفاف ويقدم ذلك ليوم فقره. وقال الفضيل: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت على حلالاً لا أحاسب عليها في الآخرة لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه وقيل: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام فاستقبله أبو عبيدة بن الجراح على الناقة مخطومة بحبل، فسلم وسأله، ثم أتى منزله فلم ير فيه إلا سيفه وترسه ورحله فقال له عمر رضي الله عنه: لو اتخذت متاعاً? فقال: يا أمير المؤمن إن هذا يبلغنا المقيل. وقال سفيان: خذ من الدنيا لبدنك وخذ من الآخرة لقلبك. وقال الحسن: والله لقد عبدت بنو إسرائيل الأصنام بعد عبادتهم الرحمن بحبهم الدنيا. وقال وهب: قرأت في بعض الكتب، الدنيا غنيمة الأكياس وغفلة الجهل لم يعرفوها حتى خرجوا منها، فسألوا الرجعة فلم يرجعوا. وقال لقمان لابنه: يا بني إنك استدبرت الدنيا من يوم نزلتها واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تقرب منها أقرب من دار تباعد عنها. وقال سعيد بن مسعود: إذا رأيت العبد تزداد دنياه وتنقص آخرته وهو به راض فذلك المغبون الذي يلعب بوجهه وهو لا يشعر. وقال عمرو بن العاص على المنبر: والله ما رأيت قوماً قط أرغب فيما كان رسول الله يزهد فيه منكم، والله ما مر برسول الله ثلاث إلا والذي عليه أكثر من الذي له وقال الحسن بعد أن تلا قولى تعالى "فلا تغرنكم الحياة الدنيا" من قال ذا? قاله من خلقها ومن هو أعلم بها، إياكم وما شغل من الدنيا فإن الدنيا كثيرة الأشغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب. وقال أيضاً: مسكين ابن آدم يستقل ماله ولا يستقل عمله، يفرح بمصيبته في دينه ويجزع من مصيبته في دنياه. وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: سلام عليك، أما بعد: فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات. فأجابه عمر: سلام عليك، كأنك بالدنيا ولم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل. وقال الفضيل بن عياض الدخول في الدنيا هين ولكن الخروج منها شديد. وقال بعضهم: عجباً لمن يعرف أن الموت حق كيف يفرح? وعجباً لمن يعرف أن النار حق كيف يضحك? وعجباً رأى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن لها? وعجباً لمن يعلم أن القدر حق كيف ينصب!? وقدم على معاوية رضي الله عن رجل من نجران عمره مائتا سنة فسأله عن الدنيا كيف وجدها? فقال: سنيات بلاء وسنيات رخاء، يوم فيوم وليلة فليلة يولد ولد ويهلك هالك، فلولا المولود لباد الخلق ولولا الهالك ضاقت الدنيا بمن فيها. فقال له: سل ما

شئت، قال: عمر مضى فترده أو أجل حضر فتدفعه، قال: لا أملك ذلك، قال: لا حاجة لي إليك. وقال داود الطائي رحمه الله: يا ابن آدم فرحت ببلوغ أملك، وإنما بلغته بانقضاء أجلك، ثم سوفت بعملك كان منفعته لغيرك. وقال بشر: من سأل الله الدنيا فإنما يسأله طول الوقوف بين يديه. وقال أبو حازم: ما في الدنيا شيء يسرك إلا وقد ألصق الله إليه شيئاً يسوءك. وقال الحسن: لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث: أنه لم يشبع مما جمع، ولم يدرك ما أمل، ولم يحسن الزاد لما يقدم عليه. وقيل لبعض العباد؛ قد نلت الغنى، فقال: إنما نال الغنى من عتق من رق الدنيا. وقال أبو سليمان: لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله بالآخرة. وقال مالك بن دينار: اصطلحنا على حب الدنيا فلا يأمر بعضنا بعضاً ولا ينهى بعضنا بعضاً، ولا يدعنا الله على هذا، فليت شعري أي عذاب الله ينزل علينا? وقال أبو حازم: يسير الدنيا يشغل عن كثير الآخرة، وقال الحسن: أهينوا الدنيا فو الله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها. وقال أيضاً: إذا أراد الله بعبد خيراً أعطاه من الدنيا عطية ثم يمسك، فإذا نفد أعاد عليه، وإذا هان عليه عبد بسط له الدنيا بسطاً. وكان بعضهم يقول في دعائه: يا ممسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنك أمسك الدنيا عني. وقال محمد بن المنكدر: أرأيت لو أن رجلاً صام الدهر لا يفطر، وقام الليل لا ينام، وتصدق بماله، وجاهد في سبيل الله، واجتنب محارم الله، غير أنه يؤتى به يوم القيامة فيقال: إن هذا عظم في عينه ما صغره الله، وصغر في عينه ما عظمه الله كيف ترى يكون حاله? فمن منا ليس هكذا الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب والخطايا? وقال أبو حازم: اشتدت مؤنة الدنيا والآخرة، فأما مؤنة الآخرة فإنك لا تجد عليها أعواناً، وأما مؤنة الدنيا فإنك لا تضرب بيدك إلى شيء منها إلا وجدت فاجراً قد سبقك إليه. وقال أبو هريرة: الدنيا موقوفة بين السماء والأرض كالشن البالي تنادي ربها منذ خلقها إلى يوم يفنيها. يا رب يا رب لم تبغضني? فيقول لها: اسكتي يا لا شيء. وقال عبد الله بن المبارك: حب الدنيا والذنوب في القلب قد احتوشته، فمتى يصل الخير إليه? وقال وهب بن منبه: من فرح قلبه بشيء من الدنيا فقط أخطأ الحكمة، ومن جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله، ومن غلب عليه هواه فهو الغالب. وقيل لبشر: مات فلان فقال: جمع الدنيا وذهب إلى الآخرة، ضيع نفسه قيل له: إنه كان يفعل ويفعل -وذكروا أبواباً من البر- فقال: وما ينفع هذا وهو يجمع الدنيا? وقال بعضهم: الدنيا تبغض إلينا نفسها ونحن نحبها فكيف لو تحببت إلينا? وقيل لحكيم: الدنيا لمن هي قال: لمن تركها? فقيل الآخرة لمن هي? قال: لمن طلبها وقال حكيم: الدنيا دار خراب وأخرب منها قلب من يعمرها، والجنة دار عمران وأعمر منها قلب من يطلبها. وقال الجنيد: كان الشافعي رحمه الله من المريدين الناطقين بلسان الحق في الدنيا، وعظ أخاً لهفي الله وخوفه بالله فقال: يا أخي إن الدنيا دحض مزلة ودار مذلة، عمرانها إلى الخراب صائر، وساكنها إلى القبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار، فافزع إلى الله وارض برزق الله لا تتسلف من دار بقائك إلى دار فنائك، فإن عيشتك فيء زائل وجدار مائل، أكثر من عملك وأقصر من أملك وقال إبراهيم بن أدهم لرجل: أدرهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة. فقال دينار في اليقظة فقال: كذبت، لأن الذي تحبه في الدنيا كأنك تحبه في المنام، والذي لا تحبه في الآخرة كأنك لا تحبه في اليقظة. وعن إسماعيل بن عياش قال: كان أصحابنا يسمون الدنيا خنزيرة فيقولون إليك عنا يا خنزيرة، فلو وجدوا لها أسماء أقبح من هذا لسموها به. وقال كعب: لتحببن إليكم الدنيا حتى تعبدوها وأهلها. وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: العقلاء ثلاثة، من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه. وقال أيضاً: الدنيا بلغ شؤمها أن تمنيك لما يلهيك عن طاعة الله، فكيف الوقوع فيها. وقال بكر بن عبد الله: من أراد أن يستغني عن الدنيا بالدنيا كان كمطفئ النار بالتبن. وقال بندار: إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون في الزهد فاعلم أنهم في سخرة الشيطان. وقال أيضاً: من

أقبل على الدنيا أحرقته نيرانها -يعني الحرص- حتى يصير رماداً؛ ومن أقبل على الآخرة صفته بنيرانها فصار سبيكة ذهب ينتفع به، ومن أقبل على الله عز وجل أحرقته نيران التوحيد فصار جوهراً لا حد لقيمته. وقال علي كرم الله وجهه: إنما الدنيا ستة أشياء، مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب ومنكوح ومشموم، فأشرف المطعومات العسل وهو مذقة ذباب، وأشرف المشروبات الماء ويستوي فيه البر والفاجر، وأشرف الملبوسات الحرير وهو نسج دودة، وأشرف المركوبات الفرس وعليه يقتل الرجال، وأشرف المنكوحات المرأة وهي مبال في مبال، وإن المرأة لتزين أحسن شيء منها ويراد أقبح شيء منها وأشرف المشمومات المسك وهو دم.

\//بيان المواعظ في ذم الدنيا وصفتها

قال بعضهم: يا أيها الناس اعملوا على مهل، وكونوا من الله على وجل، ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل، ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة خداعة، قد تزخرف لكم بغرورها وفتنتكم بأمانيها، وتزينت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية، العيون إليها ناظرة والقلوب عليها عاكفة والنفوس لها عاشقة، فكم من عاشق لها قتلت، ومطمئن إليها خذلت، فانظروا إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها، جديدها يبلى، وملكها يفنى، وعزيزها يذلن وكثيرها يقل، ودها يموت، وخيرها يفوت، فاستيقظوا رحمكم الله من غفلتكم، وانتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال فلان عليل أو مدنف ثقيل، فهل على الدواء من دليل، وهل إلى الطبيب من سبيل? فتدعي لك الأطباء ولا يرجى لك الشفاء ثم يقال فلان أوصى ولماله أحصى، ثم يقال قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه ولا يعرف جيرانه، وعرق عند ذلك جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك، وطمحت جفونك، وصدقت ظنونك، وتلجلج لسانك، وبكى إخوانك، وقيل لك هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان ومنعت من الكلام فلا تنطق، وختم على لسانك فلا ينطلق، ثم حل بك القضاء وانتزعت نفسك من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك إخوانك وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، فانقطع عواك واستراح حسادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهناً بأعمالك. وقال بعضهم لبعض الملوك: إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطى حاجته منها، لأنه يتوقع آفة تعدو على ماله فتجتاحه أو على جمعه فتفرقه، أو تأتي سلطانه فتهدمه من القواعد، أو تدب إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشيء هو ضنين به بين أحبابه، فالدنيا أحق بالذم، هي الآخذة ما تعطي، الراجعة فيها تهب، بينا هي تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره، وبينا تبكي له إذ أبكت عليه، وبنيا هي تبسط كفها بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد، فتعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره بالتراب غداً، سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي، تجد في الباقي من الذاهب خلفاً، وترضى بكل من كل بدلاً. وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، وإنما أنزل آدم عليه السلام من الجنة إلى عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها. والغني منها فقرها. لها في كل حين قتيل. تذل من أعزها. وتفقر من جمعها. هي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه. فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً. ويصبر على شدة الدواء مخافة طول الداء. فاحذر هذه الدار الغدارة الختالة الخداعة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وحلت بآماها وسوفت بخطابها. فأصبحت كالعروس المجلية. العيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة وهي لأزواجها كلهم قالية. فلا الباقي بالماضي معتبر ولا الآخر بالأول مزدجر. ولا العارف بالله عز وجل حين أخبره عنها مدكر. فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي الميعاد، فشغل فيها لبه حتى زلت به قدمه، فعظمت ندامته وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وتألمه وحسرات الفوت بغضته. وراغب فيها لم يدرك منها ما طلب ولم يروح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد، فاحذرها يا أمير المؤمنين وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها؛ فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، السار في أهلها غار، والنافع فيها غدار ضار، وقد وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالأحزان لا يرجع منها ما ولى وأدبر، ولا يدري ما هو آت فينتظر. أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر، وعيشها نكد، وابن آدم فيها على خطر، إن عقل ونظر فهو من النعماء على خطر ومن البلاء على الحذر، فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبراً ولم يضرب لها مثلاً لكانت الدنيا قد أيقظت النائم ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجر وفيها واعظ? فما لها عند الله جل ثناؤه قدر وما نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبيك بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها اذكره أن يخالف على الله أمره أو يحب ما أبغضه خالقه أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختباراً وبسطها لأعدائه اغترارا، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها؛ ونسي ما

صنع الله عز وجل بمحمد حين شد الحجر على بطنه ولقد جاءت الرواية عنه عن ربه عز وجل أنه قال لموسى عليه السلام؛ إذا رأيت الغنى مقبلاً فقل ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر فقل مرحباً بشعار الصالحين، وإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة عيسى بن مريم عليه السلام فإنه كان يقول: إدامي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، وصلائي في الشتاء في مشارق الشمس، وسراج القمر، ودابتي رجلاي، وطعامي وفاكهتي ما أنبتت الأرض، أبيت وليس لي شيء، وأصبح وليس لي شيء، وليس على الأرض أحد أغنى مني. وقال وهب بن منبه: لما بعث الله عز وجل موسى وهرون عليهما السلام إلى فرعون قال: لا يروعنكما لباسه الذي لبس من الدنيا، فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني، ولا يعجبنكما ما تمتع به منها فإنما هي زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين، فلو شئت أن أزينكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أن قدرته تعجز عما أوتيتما لفعلت، ولكني أرغب بكم عن ذلك فأزوي ذلك عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي إني لأوذهم عن نعيمها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة، وإن لأجنبهم ملاذها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن منازل الغرة، وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً، إنما يتزين لي أوليائي بالذل والخوف والخضوع والتقوى تنبت في قلوبهم وتظهر على أجسادهم، فهي ثيابهم التي يلبسون ودثارهم الذي يظهرون، وضميرهم الذي يستشعرون، ونجاتهم التي بها يفوزون، ورجاؤهم الذي إياه يأملون، ومجدهم الذي به يفخرون، وسيماهم التي بها يعرفون، فإذا لقيتم فاخفض لهم جناحك، وذلل لهم قلبك ولسانك، واعلم أنه من أخاف لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، ثم أنا الثائر له يوم القيامة.

وخطب علي كرم الله وجهه يوماً خطبة فقال فيها: اعلموا أنكم ميتون ومبعوثون من بعد الموت وموقوفون على أعمالكم ومجزيون بها، فلا تغرنكم الحياة الدنيا فإنها بالبلاء محفوفة وبالفناء معروفة وبالغدر موصوفة، وكل ما فيها إلى زوال وهي بين أهلها دول وسجال، لا تدوم أحوالها ولا يسلم من شرها نزالها، بينا أهلها منها في رخاء وسرور إذا هم منها في بلاء وغرور. أحوال مختلفة وتارات منصرفة، العيش فها مذموم والرخاء فيها لا يدوم وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة. ترميهم بسهامها وتقصيهم بحمامها. وكل حتفه فيها مقدور وحظه فيها موفور. واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعماراً وأشد منكم بطشاً وأعمر دياراً وأبعد آثاراً. فأصبحت أصواتهم هامدة خامدة من بعد طول تقلبها وأجسادهم بالية وديارهم على عروشها خاوية وآثارهم عافية. واستبدلوا بالقصور المشيدة والسرر والنمارق الممهدة. الصخور والأحجار المسندة في القبور اللاطئة الملحدة. فمحلها مقترب وساكنها مغترب بين أهل عمارة موحشين وأهل محلة متشاغلين. لا يستأنسون بالعمران ولا يتواصلون تواصل الجيران والإخوان على ما بينهم من قرب المكان والجوار ودنو الدار. وكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكله البلا وأكلتهم الجنادل والثرى? وأصبحوا بعد الحياة أمواتاً وبعد نضارة العيش رفاتاً فجع بهم الأحباب وسكنوا تحت التراب ظعنوا فليس لهم إياب. هيهات هيهات "كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون" فكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه من البلاء والوحدة في دار المثوى وارتهنتم في ذلك المضجع وضمكم ذلك المستودع. فكيف بكم لو عاينتم الأمور وبعثرت القبور وحصل ما في الصدور وأوقفتم للتحصيل بين يدي الملك الجليل فطارت القلوب لإشفاقها من سالف الذنوب وهتكت عنكم الحجب والأستار وظهرت منكم العيوب والأسرار? هنالك تجزى كل نفس بما كسبت إن الله عز وجل يقول "ليجزى الذي أساءوا بما عملوا ويجزى الذي أحسنوا بالحسنى" وقال تعالى "ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه" الآية جعلنا الله وإياكم عاملين بكتابة متبعين لأوليائه حتى يحلنا وإياكم دار المقامة من فضله إنه حميد مجيد.

وقال بعض الحكماء: الأيام سهام والناس أغراض، والدهر يرميك كل يوم بسهامه ويخترمك بلياليه وأيامه حتى يستغرق جميع أجزائك، فكيف بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك وسرعة الليالي في بدنك? لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك واستثقلت ممر الساعة بك ولكن تدبير الله فوق تدبير الاعتبار، وبالسلو عن غوائل الدنيا وجد طعم لذاتها، وإنها لأمر من العلقم إذا عجنها الحكيم، وقد أعيت الواصف لعيوبها بظاهر أفعالها، وما تأتي به من العجائب أكثر مما يحيط به الواعظ، اللهم أرشدنا إلى الصواب وقال بعض الحكماء وقد استوصف الدنيا وقدر بقائها فقال. الدنيا وقتك الذي يرجع إليك فيه طرفك، لأن ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه، وما لم يأت فلا علم لك به، والدهر يوم مقبل تنعاه ليلته وتطويه ساعاته، وأحداثه تتوالى على الإنسان بالتغيير والنقصان، والدهر موكل بتشتيت الجماعات وانخرام الشمل وتنقل الدول، والأمل طويل والعمر قصير وإلى الله تصير الأمور.

وخطب عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه فقال: يا أيها الناس إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به فإنكم حمقى، وإن كنتم تكذبون به فإنكم هلكى، إنما خلقتم للأبد ولكنكم من دار إلى دار تنقلون، عباد الله إنكم في دار لكم فيها من طعامكم غصص، ومن شرابكم شرق، لا تصفو لكم نعمة تسرون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها، فاعملوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه. ثم غلبه البكاء ونزل.

قال علي كرم الله وجهه في خطبته: أوصيكم بتقوى الله والترك للدنيا التاركة لكم وإن كنتم لا تحبون تركها، المبلية أجسامكم وأنتم تريدون تجديدها، فإنما مثلكم ومثلها كمثل قوم في سفر سلكوا طريقاً وكأنهم قطعوه، وأفضوا إلى علم فكأنهم بلغوه، وكم عسى أن يجري المجرى حتى ينتهي إلى الغاية? وكم عسى أن يبقى من له يوم في الدنيا وطالب حثيث يطلبه حتى يفارقها? فلا تجزعوا لبؤسها وضرائها فإنه إلى انقطاع، ولا تفرحوا بمتاعها ونعمائها فإنه إلى زوال، عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه.

وقال محمد بن الحسين: لما علم أهل الفضل والعلم والمعرفة والأدب أن الله عز وجل قد أهان الدنيا، وأنه لم يرضها لأوليائه، وأنها عنده حقيرة قليلة، وأن رسول الله زهد فيها وحذر أصحابه من فتنتها، أكلوا منها قصداً وقدموا فضلاً، وأخذوا منها ما يكفي وتركوا ما يلهي، لبسوا من الثياب ما ستر العورة، وأكلوا من الطعام أدناه مما سد الجوعة، ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية؛ وإلى الآخرة أنها باقية، فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة، ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها بأعينهم فارتحلوا إليها بقلوبهم لما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم، تعبوا قليلاً وتنعموا طويلاً، كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم، أحب ما أحب لهم وكرهوا ما كره لهم.

بيان صفة الدنيا بالأمثلة

اعلم أن الدنيا سرعية الفناء قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيراً عنيفاً ومرتحلة ارتحالاً سريعاً، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها، وإنما يحس عند انقضائها، ومثالها الظل فإنه متحرك ساكن متحرك في الحقيقة ساكن الظاهر، لا تدرك حركته بالبصر الظاهر، بل البصيرة الباطنة، ولما ذكرت الدنيا عند الحسن البصري رحمه الله أنشد وقال: أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع

وكان الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يتمثل كثيراً ويقول: يا أهل لذات دنيا لا بقال لها إن اغتراراً بظل زائل حمق

وقيل إن هذا من قوله. ويقال: إن أعرابياً نزل بقوم فقدموا إليه طعاماً فأكل، ثم قام إلى ظل خيمة لهم فنام هناك فاقتلعوا الخيمة فأصابته الشمس فانتبه، فقام وهو يقول: ألا إنما الدنيا كظل ثـنـية ولا بد يوماً أن ظلك زائل

وكذلك قيل: وإن امرأ دنياه أكبر همـه لمستمسك منها بحبل غرور

مثال آخر للدنيا من حيث التغرير بخيالاتها ثم الإفلاس منها بعد إفلاتها. تشبه خيالات المنام وأضغاث الأحلام قال رسول الله "الدنيا حلم وأهلها عليها مجازون ومعاقبون وقال يونس بن عبيد. ما شبهت نفسي في الدنيا إلا كرجل نام فرأى في منامه ما يكره وما يحب فبينما هو كذلك إذ انتبه، فكذلك الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فإذا ليس بأيديهم شيء مما ركنوا إليه وفرحوا به. وقيل لبعض الحكماء. أي شيء أشبه بالدنيا? قال أحلام النائم.

مثل آخر للدنيا في عداوتها لأهلها وإهلاكها لبنيا. اعلم أن طبع الدنيا التلطف في الاستدراج أولاً والتوصل إلى الإهلاك آخراً، وهي كامرأة تتزين للخطاب حتى إذا نكحتهم ذبحتهم. وقد روي أن عيسى عليه السلام كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينةن فقال لها: كم تزوجت? قالت: لا أحصيهم، قال: فكلهم مات عنك أم كلهم طفلك? قالت: بل كلهم قتلت، فقال عيسى عليه السلام: بؤساً لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين! كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد ولا يكونون منك على حذر!.

مثال آخر للدنيا في مخالفة ظاهرها لباطنها: اعلم أن الدنيا مزينة الظواهر قبيحة السرائر وهي شبه عجوز متزينة تخدع الناس بظاهرها، فإذا وقفوا على باطنها وكشفوا القناع عن وجهها تمثل لهم قبائحها فندموا على اتباعها وخجلوا من ضعف عقولهم في الاغترار بظاهرها. وقال العلاء بن زياد: رأيت في المنام عجوزاً كبيرة متعصبة الجلد عليها من كل زينة الدنيا والناس عكوف عليها معجبون ينظرون إليها، فجئت ونظرت وتعجبت من نظرهم إليها وإقبالهم عليها فقلت لها: ويلك من أنت? قالت: أو ما تعرفني? قلت: لا أدري! من أنت? قالت: أنا الدنيا، قلت: أعوذ بالله من شرك! قالت: إن أحببت أن تعاذ من شري فابغض الدرهم. قال أبو بكر بن عياش: رأيت الدنيا في النوم عجوزاً مشوهة شمطاء تصفق بيديها وخلفها خلق يتبعونها ويصفقون ويرقصون، فلما كانت بحذائي أقبلت علي فقالت: لو ظفرت بك لصنعت بك مثل ما صنعت بهؤلاء. ثم بكى أبو بكر وقال: رأيت هذا قبل أن أقدم إلى بغداد. وقال الفضيل بن عياض: قال ابن عباس يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء، أنيابها بادية ومشوه خلقها، فتشرف على الخلائق فيقال لهم أتعرفون هذه? فيقولون: نعوذ بالله من معرفة هذه! فيقال: هذه الدنيا التي تناحرتم عليها، بها تقاطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم يقذف بها في جهنم فتنادي: أي رب أين أتباعي وأشياعي? فيقول الله عز وجل? ألحقوا بها أتباعها وأشياعها. وقال الفضيل: بلغني أن رجلاً عرج بروحه فإذا امرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة من الحلي والثياب، وإذا لا يمر بها أحد إلا جرحته، فإذا هي أدبرت كانت أحسن شيء رآه الناس، وإذا هي أقبلت كانت أقبح شيء رىه الناس، عجوز شمطاء زرقاء عمشاء، قال: فقلت: أعوذ بالله منك! قالت: لا والله. لا يعيذنك الله مني حتى تبغض الدرهم! قال: فقلت من أنت? قالت: أنا الدنيا.

مثال آخر للدنيا وعبور الإنسان بها: اعلم أن الأحوال ثلاثة: حالة للم تكن فيها شيئاً وهي ما قبل وجودك إلى الأزل، وحالة لا تكون فيها مشاهداً للدنيا وهي ما بعد موتك إلى الأبد، وحالة متوسطة بين الأبد والأزل وهي أيام حياتك في الدنيا؛ فانظر إلى مقدار طولها وانسبه إلى طرفي الأزل والأبد حتى تعلم أنه أقل من منزل قصير في سفر بعيد. ولذلك قال "ما لي وللدنيا! وإنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف فرفعت شجرة فقال تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضر وضيق أو في سعة ورفاهية، بل لا يبني لبنة على لبنة. توفي رسول الله وما وضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ورأى بعض الصحابة يبني بيتاً من جص فقال "أرى الأمر أعجل من هذا وأنكر ذلك وإلى هذا أشار عيسى عليه السلام حيث قال:الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وهو مثال واضح فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، والمهد هو الميل الأول على رأس القنطرة، واللحد هو الميل الآخر، وبينهما مسافة محدودة، فمن الناس من قطع نصف القنطرة، ومنهم من قطع ثلثها، ومنهم من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها. وكيفما كان فلا بد له من العبور، والبناء على القنطرة وتزيينها بأصناف الزينة وأنت عابر عليها غاية الجهل والخذلان.

مثال آخر للدنيا في لين موردها وخشونة مصدرها: اعلم أن أوائل الدنيا تبدو عينة لينة يظن الخائض فهيا أن حلاوة خفضها كحلاوة الخوض فيها وهيهات! فإن الخوض في الدنيا سهل والخروج منها مع السلامة شديد، وقد كتب علي رضي الله عنه إلى سلمان الفارسي بمثالها فقال: مثل الدنيا مثل الحية لين مسها ويقتل سمها، فأعرض عما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها بما أيقنت من فراقها، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه عنه مكروه والسلام.

مثال آخر للدنيا في تعذر الخلاص من تبعتها بعد الخوض فيها: قال رسول الله "إنما مثل صاحب الدنيا كالماشي في الماء هل يستطيع الذي يمشي في الماء أن لا تبتل قدماه وهذا يعرفك جهالة قوم ظنوا أنهم يخوضون في نعيم الدنيا بأبدانهم وقلوبهم منها مطهرة، وعلائقها عن بواطنهم منقطعة، وذلك مكيدة من الشيطان بل لو أخرجوا مما هم فيه لكانوا من أعظم المتفجعين بفراقها، فكما أن المشي على الماء يقتضي بللاً لا محالة يلتصق بالقدم فكذلك ملابسة الدنيا تقتضي علاقة وظلمة في القلب، بل علاقة الدنيا مع القلب تمنع حلاوة العبادة. قال عيسى عليه السلام: بحق أقول لكم، كما ينظر المريض إلى الطعام فلا يلتذ به من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب الدنيا، وبحق أقول لكم، إن الدابة إذا لم تركب وتمتهن تصعب ويتغير خلقها كذلك القلوب إذا لم ترقق بذكر الموت ونصب العبادة تقسو وتغلظ، وبحق أقول لكم، إن الزق ما لم ينخرق أو يقحل يوشك أن يكون وعاء للعسل كذلك القلوب ما لم تخرقها الشهوات أو يدنسها الطمع أو يقسيها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة. وقال النبي "إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة وإنما مثل عمل أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله .

مثال آخر لما بقي من الدنيا وقتلته بالإضافة لما سبق: قال رسول الله "مثل هذه الدنيا مثل ثوب شق من أوله إلى آخره فبقي متعلقاً بخيط في آخره فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع .

مثال آخر لتأدية علائق الدنيا بعضها إلى بعض حتى الهلاك: قال عيسى عليه السالم: مثل طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما شرب ازداد عطشاً حتى يقتله.

مثال آخر لمخالفة آخر الدنيا أولها ولنضارة أوائلها وخبث عواقبها، اعلم أن شهوات الدنيا في القلب لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة، وسيجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يده للأطعمة اللذيذة إذا بلغت في المعدة غايتها، وكما أن الطعام كلما كان ألذ طعماً وأكثر دسماً وأظهر حلاوة كان رجيعه أقذر وأشد نتناً، فكذلك كل شهوة في القلب هي أشهى وألذ وأقوى، فنتنها وكراهتها والتأذي بها عند الموت أشد بل هي في الدنيا مشاهدة، فإن من نبهث داره وأخذ ماله وولده، فتكون مصيبته وألمه وتفجعه في كل ما فقد بقدر لذته به وحبه له وحرصه عليه، فكل ما كان عند الوجود أشهى عنده وألذ فهو عند الفقد أدهى وأمر، ولا معنى للموت إلا فقد ما في الدنيا. وقد روي أن النبي قال للضحاك بن سفيان الكلابي "الست تؤتى بطعامك وقد ملح وقزح ثم تشرب عليه اللبن والماء? قال: بلى؛ قال "فإلام يصير" قال: إلى ما قد علمت يا رسول الله، قال: "فإن الله عز وجل ضرب مثل الدنيا بما يصير إليه طعام ابن آدم وقال أبي بن كعب: قال رسول الله "إن الدنيا ضربت مثلاً لابن آدم فانظر إلى ما يخرج من ابن آدم وإن قزحه وملحه إلام يصير وقال "إن الله ضرب الدنيا لمطعم ابن آدم وضرب مطعم بن آدم للدنيا مثلاً وإن قزحه وملحه وقال الحسن: قد رأيتهم يطيبونه بالأفاويه والطيب ثم يرمون به حيث رأيتم وقد قال الله عز وجل "فلينظر الإنسان إلى طعامه" قال ابن عباس إلى رجيعه وقال رجل لابن عمر إني أريد أن أسألك وأستحي قال فلا تستحي واسأل قال إذا قضى أحدنا حاجته فقام ينظر إلى ذلك منه قال نعم إن الملك يقول له انظر إلى ما بخلت به انظر إلى ماذا صار. وكان بشر بن كعب يقول انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم.

مثال آخر في نسبة الدنيا إلى الآخرة: قال رسول الله "ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر أحدكم بم يرجع إليه .

مثال آخر للدنيا وأهلها في اشتغالهم بنعيم الدنيا وغفلتهم عن الآخرة وخسرانهم العظيم بسببها: علم أن أهل الدنيا مثلهم في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج إلى قضاء الحاجة وحذرهم المقام وخوفهم مرور السفينة واستعجالها، فتفرقوا في نواحي الجزيرة فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خالياً فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأفقها لمراده، وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أنوارها وأزهارها العجيبة وغياضها الملتفة ونغمات طيورها الطيبة وألحانها الموزونة الغريبة وصار يلحظ من بريتها أحجارها وجواهرها ومعادنها المختلفة الألوان والأشكال الحسنة المنظر العجيبة النقوش السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجدها وعجائب صورها، ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إلهيا فلم يصادف إلا مكاناً ضيقاً حرجاً فاستقر فيه: وبعضهم أكب على تلك الأصداف والأحجار وأعجبه حسنها ولم تسمح نفسه بإهمالها فاستصحب منها جملة، فلم يجد في السفينة إلا مكاناً ضيقاً وزاده ما حمله من الحجارة ضيقاً وصار ثقيلاً عليه ووبالاً، فندم على أخذه ولم يقدر على رميه ولم يجد مكاناً لوضعه، فحمله في السفينة على عنقه وهو متأسف على أخذه وليس ينفعه التأسف. وبعضه تولج الغياض ونسي المركب وبعد في متفرجه ومتنزهه منه حتى لم يبلغه نداء الملاح لاشتغاله بأكل تلك الثمار واستشمام تلك الأنوار والتفرج بين تلك الأشجار، وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع وغير خال من السقطات والنكبات، ولا منفعك عن شوك ينشب بثيابه وغضن يجرح بدنه وشوكة تدخل في رجله وصوت هائل يفزع منه وعوسج يخرق ثيابه ويهتك عورته ويمنعه عن الانصراف لو أراده، فلما بلغه نداء أهل السفينة انصرف مثقلاً بما معه ولم يجد في المركب موضعاً فبقي في الشط حتى مات جوعاً. وبعضهم لم يبلغه النداء وسارت السفينة فمنهم من افترسته السباع، ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك، ومنهم من مات في الأوحال، ومنهم من نهشته الحيات، فتفرقوا كالجيف المنتنة.

وأما من وصل إلى المركب بثقل ما أخذه من الأزهار والأحجار، فقد استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من فوتها وقد ضيقت عليه مكانه، فلم يلبث أن ذبلت تلك الأزهار وكمدت تلك الألوان والأحجار فظهر نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها. فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هرباً منها، وقد أثر فيه ما أكل منها فلم ينته إلى الوطن إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بتلك الروائح فبلغ سقيماً مدبراً. ومن رجع قريباً ما فاته إلا سعة المحل فتأدى بضيق المكان مدة، ولكن لما وصل إلى الوطن استراح، ومن رجع أولاً وجد المكان الأوسع ووصل إلى الوطن سالماً. فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ونسيانهم موردهم ومصدرهم وغفلتهم عن عاقبة أمورهم. وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن تغره أحجار الأرض وهي الذهب والفضة وهشيم النبت وهي زينة الدنيا، وشيء من ذلك لا يصبحه عند الموت بل يصير كلاً ووبالاً عليه وهو في الحال شاغل له بالحزن والخوف عليه. وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله عز وجل.

مثال آخر لاغتزار الخلق بالدنيا وضعيف إيمانهم: قال الحسن رحمه الله بلغني أن رسول الله قال لأصحابه "إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حتى إذا لم يدروا، ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي? أنفدوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة ولا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة تقطر رأسه، فقالوا: هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء: فقالوا: يا هذا! فقال علام أنتم? فقالوا: على ما ترى، فقال: أرأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر ما تعملون? قالوا: لا نعصيك شيئاً، قال: عهودكم مواثيقكم بالله، فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئاً قال: فأوردهم ماء رواء ورياضاً خضراً فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال: يا هؤلاء! قالوا: يا هذا! قال: الرحيل! قالوا: إلى أين? قال: إلى ماء ليس كمائكم وإلى رياض ليست كرياضكم، فقال أكثرهم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أنا لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا? وقالت طائفة -وهم أقلهم- ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله أن لا تعصوه شيئاً وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم في آخره? فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فبدرهم عدو فأصبحوا بين أسير وقتيل .

ومثال آخر لتنعم الناس بالدنيا ثم تفجعهم على فراقها: اعلم أن مثل الناس فيما أعطوا من الدنيا مثل رجل هيأ داراً وزينها وهو يدعو إلى داره على الترتيب قوماً، واحداً بعد واحد، فدخل واحد داره فقدم إليه طبق ذهب عليه بخور ورياحين ليشمه ويتركه لمن يلحقه، لا ليتملكه ويأخذه، فجهل رسمه وظن أنه قد وهب ذلك فتعلق به قلبه لما ظن أنه له، فلما استرجع منه ضجر وتفجع، ومن كان عالماً برسمه انتفع به وشكره ورده بطيب قلب وانشراح صدر، وكذلك من عرف سنة الله في الدنيا علم أنها دار ضيافة سبلت على المجتازين لا على المقيمين ليتزودوا منها وينتفعوا بما فيها كما ينتفع المسافرون بالعواري، ولا يصرفون إليها كل قلوبهم حتى تعظم مصيبتهم عند فراها. فهذه أمثلة الدنيا وآفاتها وغوائلها نسأل الله تعالى اللطيف الخبير حسن العون بكرمه وحلمه.

بيان حقيقة الدنيا وماهيتها في حق العبد

اعلم أن معرفة ذم الدنيا لا تكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي? وما الذي ينبغي أن يجتنب منها وما الذي لا يجتنب? فلا بد وأن نبين الدنيا المذمومة المأمور باجتنابها لكونها عدوة قاطعة لطريق الله ما هي? فنقول دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك، فالقريب الداني منها يسمى دنيا وهو كل ما قبل الموت، والمتراخي المتأخر يسمى آخرة وهو ما بعد الموت، فكل ما لك فيه حظ ونصيب وغرض وشهوة ولذة عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا في حقك إلا أن جميع ما لك إليه ميل وفيه نصيب وحظ فليس بمذموم بل هو ثلاثة أقسام. القسم الأول: ما يصحبك في الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد الموت وهو شيئان: العلم والعمل فقط؛ وأعني بالعلم: العلم بالله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وملكوت أرضه وسمائه والعلم بشريعة نبيه وأعني بالعمل العبادة الخالصة لوجه الله تعالى، وقد يأنس العالم بالعلم حتى يصير ذلك ألذ الأشياء عنده فيهجر النوم والمطعم والمنكح في لذته لأنه أشهى عنده من جميع ذلك فقد صار حظاً عاجلاً في الدنيا. ولكنا إذا ذكرنا الدنيا المذمومة لم نعد هذا من الدنيا أصلاً بل قلنا إنه من الآخرة، وكذلك العابد قد يأنس بعبادته فيستلذها بحيث لو منع عنها لكان ذلك أعظم العقوبات عليه، حتى قال بعضهم: ما أخاف من الموت إلا من حيث يحول بيني وبين قيام الليل، وكان آخر يقول: اللهم ارزقني قوة الصلاة والركوع والسجود في القبر. فهذا قد صارت الصلاة عنده من حظوظه العاجلة وكل حظ عاجل فاسم الدنيا ينطلق عليه من حيث الاشتقاق من الدنو، ولكنا لسنا نعني بالدنيا المذمومة ذلك، وقد قال "حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وقرة عيني في الصلاة فجعل الصلاة من جملة ملاذ الدنيا. وكذلك كل ما يدخل في الحس والمشاهدة فهو من عالم الشهادة وهو من الدنيا، والتلذذ بتحريك الجوارح بالركوع والسجود إنما يكون في الدنيا فلذلك أضافها إلى الدنيا إلا أنا لسنا في هذا الكتاب نتعرض إلا للدنيا المذمومة، فنقول هذه ليست من الدنيا.

القسم الثاني: وهو المقابل له على الطرف الأقصى كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلاً، كالتلذذ بالمعاصي كلها والتنعم بالمباحاة الزائدة على قدر الحاجات، والضرورات الداخلة في جملة الرفاهية والرعونات، كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث والغلمان والجواري والخيول والمواشي والقصور والدور ورفيع الثياب ولذائذ الأطعمة، فحظ العبد من هذا كله هي الدنيا المذمومة وفيما يعد فضولاً أو في محل الحاجة نظر طويل، إذ روي عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل أبا الدرداء على حمص فاتخذ كنيفاً أنفق عليه درهمين، فكتب إليه عمر: من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عويمر، قد كان لك في بناء فارس والروم ما تكتفي به عن عمران الدنيا حين أراد الله خرابها، فإذا أتاك كتابي هذا فقد سيرتك إلى دمشق أنت وأهلك. فلم يزل بها حتى مات. فهذا رآه فضولاً من الدنيا فتأمل فيه.

القسم الثالث: وهو متوسط بين الطرفين كل حظ في العاجل معين على أعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام والقميص الواحد الخشن "وكل ما لا بد منه ليتأتى للإنسان البقاء والصحة التي بها يتوصل إلى العلم والعمل. وهذا ليس من الدنيا كالقسم الأول، لأنه معين على القسم الأول ووسيلة إليه. فمهما تناوله العبد على قصد الاستعانة به على العلم والعمل لم يكن به متناولاً للدنيا ولم يصر به من أبناء الدنيا، وإن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة على التقوى التحق بالقسم الثاني وصار من جملة الدنيا. ولا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلث صفات: صفاء القلب؛ أعني طهارته عن الأدناس، وأنسه بذكر الله تعالى، وحبه لله عز وجل. وصفاء القلب وطهارته لا يحصلان إلا بالكف عن شهوات الدنيا والأنس لا يحصل إلا بكثرة ذكر الله تعالى والمواظبة عليه والحب لا يحصل إلا بالمعرفة. ولا تحصل معرفة الله إلا بدوام الفكر وهذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت.

أما طهارة القلب عن شهوات الدنيا فهي من المنجيات إذ تكون جنة بين العبد وبين عذاب الله كما ورد في الأخبار "إن أعمال العبد تناضل عنه فإذا جاء العذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنه وإذا جاء من جهة يديه جاءت الصدقة تدفع عنه الحديث.

وأما الأنس والحب فهما من المسعدات وهما موصلان العبد إلى لذة اللقاء والمشاهدة، وهذه السعادة تعجل عقيب الموت إلى أن يدخل أوان الرؤية في الجنة، فيصير القبر روضة من رياض الجنة، وكيف لا يكون القبر عليه روضة من رياض الجنة ولم يكن له إلا محبوب واحد? وكانت العوائق تعوقه عن دوام الأنس بدوام ذكره ومطالعة جماله، فارتفعت العوائق وأفلت من السجن وخلى بينه وبين محبوبه فقدم عليه مسروراً سليماً من الموانع آمناً من العوائق? وكيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذباً ولم يكن له محبوب إلا الدنيا وقد غصب منه وحيل بينه وبينه وسدت عليه طرق الحيلة في الرجع إليه? ولذلك قيل: ما حال من كان له واحد غيب عنه ذلك الواحـد

وليس الموت عدماً إنما هو فراق لمحاب الدنيا وقدوم على الله تعالى. فإذا سالك طريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث وهي الذكر والفكر والعمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا ويبغض إليه ملاذها ويقطعه عنها، وكل ذلك لا يمكن إلا بصحة البدن، وصحة البدن لا تناول إلا بقوت وملبس ومسكن، ويحتاج كل واحد إلى أسباب. فالقدر الذي لا بد منه من هذه الثلاثة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا وكانت الدنيا في حقه مرزعة للآخرة، وإن أخذ ذلك لحظ النفس وعلى قصد التنعم صار من أبناء الدنيا والراغبين في حظوظها، إلا أن الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم إلى ما يعرض صاحبه لعذاب الآخرة ويسمى ذلك حراماً، وإلى ما يحول بينه وبين الدرجات العلا ويعرضه لطول الحساب ويسمى ذلك حلالاً. والبصير يعلم أن طول الموقف في عرصات القيامة لأجل المحاسبة أيضاً عذاب فمن نوقش الحساب عذب إذ قال رسول الله "حلالها حساب وحرامها عذاب وقد قال أيضاً "حلالها عذاب" إلا أنه عذاب أخف من عذاب الحرام، بل لو لم يكن الحساب لكان ما يفوت من الدرجات العلا في الجنة وما يدر على القلب من التحسر على تفوتها لحظوظ حقيرة خسيسة لا بقاء لها هو أيضاً عذاب، وقس به حالك في الدنيا إذا نظرت إلى أقرانك وقد سبقوك بسعادات دنيوية كيف يتقطع قلبك عليها حسرات مع علمك بأنها سعادات منصرمة لا بقاء لها? منغصة بكدورات لا صفاء لها فما حالك في فوات سعادة لا يحيط الوصف بعظمتها وتنقطع الدهور دون غايتها? فكل من تنعم في الدنيا ولو بسماع صوت من طائر أو بالنظر إلى خضرة أو شربة ماء بارد فإنه ينقص من حظه في الآخرة أضعافه، وهو المعنى بقوله لعمر رضي الله عنه "هذا من النعيم الذي تسئل عنه أشار به إلى الماء البارد. والتعرض لجواب السؤال فيه ذل وخوف وخر ومشقة وانتظار، وكل ذلك من نقصان الحظ، ولذلك قال عمر رضي الله: اعزلوا عني حسابها، حين كان به عطش فعرض عليه ماء بارد بعسل فأداره في كفه ثم امتنع عن شربه فالدنيا قليلها وكثيرها حرامها وحلالها ملعونة إلا ما أعان على تقوى الله، فإن ذلك القدر ليس من الدنيا، وكل من كانت معرفته أقوى وأتقن كان حذره من نعيم الدنيا أشد، حتى إن عيسى عليه السلام وضع رأسه على حجر لما نام ثم رماه، إذ تمثل له إبليس وقال: رغبت في الدنيا! وحتى إن سليمان عليه السلام في ملكه كان يطعم الناس لذائذ الأطعمة وهو يأكل خبز الشعير، فجعل الملك على نفسه بهذا الطريق امتهاناً وشدة، فإن الصبر عن لذائذ الأطعمة مع القدرة عليها ووجودها أشد ولهذا روي أن الله تعالى زوى الدنيا عن نبينا فكان يطوي أياماً وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع ولهذا سلط الله البلاء والمحن على الأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل، كل ذلك نظراً لهم وامتناناً عليهم ليتوفر من الآخرة حظهم كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذة الفواكه، ويلزم ألم الفصد والحجامة شفقة عليه وحباً له لا بخلاً عليه. وقد عرفت بهذا أن كل ما ليس لله فهو من الدنيا وما هو لله فذلك ليس من الدنيا.

فإن قلت: فما الذي هو لله? فأقول: الأشياء ثلاثة أقسام: منها ما لا يتصور أن يكون لله وهو الذي يعبر عنه بالمعاصي والمحظورات وأنواع التنعمات في المباحات، وهي الدنيا المحضة المذمومة، فهي الدنيا صورة ومعنى ومنها ما صورته لله ويمكن أن يجعل لغير الله وهو ثلاثة: الفكر والذكر والكف عن الشهوات فإن هذه الثلاثة إذا جرت سراً ولم يكن عليها باعث سوى أمر الله واليوم الآخر فهي لله وليست من الدنيا، وإن كان الغرض من الفكر طلب العلم للتشرف به وطلب القبول بين الخلق بإظهار المعرفة أو كان الغرض من ترك الشهوة حفظ المال أو الحمية لصحة البدن والاشتهار بالزهد، فقد صار هذا من الدنيا بالمعنى وإن كان يظن بصورته أنه لله تعالى. ومنها ما صورته لحظ النفس ويمكن أن يكون معناه لله، وذلك كالأكل والنكاح وكل ما يرتبط به بقاؤه وبقاء ولده، فإن كان القصد حفظ النفس فهو من الدنيا وإن كان القصد الاستعانة به على التقوى فهو لله بمعناه وإن كانت صورته صورة الدنيا. قال "من طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً لقي الله وهو عليه غضبان ومن طلبها استعفافاً عن المسألة وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجهة كالقمر ليلة البدر فانظر كيف اختلف ذلك بالقصد، فإذاً الدنيا حظ نفسك العاجل الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة ويعبر عنه بالهوى، وإليه الإشارة بقوله تعالى "ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" ومجامع الهوى خمسة أمور: وهي ما جمعه الله تعالى في قوله "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد" والأعيان التي تحصل منها هذه الخمسةسبعة: يجمعها قوله تعالى "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا" فقد عرفت أن كل ما هو لله فليس من الدنيا، وقدر ضرورة القوت وما لا بد منه من مسكن وملبس هو لله إن قصد به وجه الله، والاستكثار منه تنعم وهو لغير الله. وبين التنعم والضرورة درجة يعبر عنها بالحاجة. ولها طرفان وواسطة: طرف يقرب من حد الضرورة فلا يضر فإن الاقتصار على حد الضرورة غير ممكن، وطرف يزاحم جانب التنعم ويقرب منه وينبغي أن يحذر منه، وبينهما وسائط متشابهة ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

والحزم في الحذر والتقوى والتقرب من حد الضرورة ما أمكن اقتداء بالأنبياء والأولياء عليهم السلام؛ إذ كانوا يردون أنفسهم إلى حد الضرورة حتى إن أويسا القرنى كان يظن أهله أنه مجنون لشدة تضييقه على نفسه، فبنوا له بيتاً على باب دارهم فكان يأتي عليهم السنة والسنتان والثلاث لا يرون له وجهاً، وكان يخرج أول الآذان ويأتي إلى منزله بعد العشاء الآخرة، وكان طعامه أن يلتقط النوى، وكلما أصاب حشفة خبأها لإفطاره وإن لم يصب ما يقوته من الحشف باع النوى واشترى بثمنه ما يقوته، وكان لباسه مما يلتقط من المزابل من قطع الأكسية فيغسلها في الفرات ويلفق بعضها إلى بعض ثم يلبسها، فكان ذلك لباسه وكان ربما مر الصبيان فيرمونه ويظنون أنه مجنون، فيقول لهم يا أخوتاه إن كنتم ولا بد أن ترموني فارموني بأحجار صغار فإني أخاف أن تدموا عقبي، فيحضر وقت الصلاة ولا أصيب الماء، فهكذا كانت سيرته. ولقد عظم رسول الله أمره فقال "إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن إشارة إليه رحمه الله ولما ولي الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: أيها الناس من كان منكم من العراق فليقم، قال: فقاموا. فقال: اجلسوا إلا من كان من أهل الكوفة، فجلسوا، فقال: اجلسوا إلا من كان من مراد، فجلسوا فقال: اجلسوا إلا من كان من قرن، فجلسوا كلهم إلا رجلاً واحداً فقال له عمر: أقرني أنت? فقال: نعم فقال: أتعرف أويس بن عامر القرني? فوصفه له، فقال: ونعم وما ذاك تسأله عنه يا أمير المؤمنين! والله ما فينا أحمق منه ولا أجن منه ولا أوحش منه ولا أدنى منه، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه ثم قال: ما قلت ما قلت إلا لأني سمعت رسول الله يقول "يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر فقال هرم بن حيان: لما سمعت هذا القول من عمر بن الخطاب قدمت الكوفة فلم يكن لي هم غلا أن أطلب أويساً القرني وأسأل عنه، حتى سقطت عليه جالساً على شاطئ الفرات نصف النهار يتوضأ ويغسل ثوبه، قال: فعرفته بالنعت الذي نعت لي، فإذا رجل لحيم شديد الأدمة محلوق الرأس كث اللحية متغير جداً كريه الوجه متهيب المنظر قال: فسلمت عليه فرد علي والسلام ونظر إلي، فقلت: حياك الله من رجل ومددت يدي لأصافحه فأبى أن يصافحني، فقلت: رحمك الله يا أويس وغفر لك كيف أنت رحمك الله? ثم خنقتني العبرة من حبي إياه ورقتي عليه إذ رأيت من حاله ما رأيت حتى بكيت وبكى، فقال: وأنت فحياك الله يا هرم بن حيان كيف أنت يا أخي ومن دلك علي? قلت الله فقال: لا إله إلا الله سبحان الله "إن كان وعد ربنا لمفعولا" قال: فعجبت حين عرفني ولا والله ما رأيته قبل ذلك ولا رآني! فقلت: من أين عرفت اسمي واسم أبي وما رأيتك قبل اليوم? "قال نبأني العليم الخبير" وعرفت روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك، إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأجساد وإن المؤمنين ليعرف بعضهم بعضاً ويتحابون بروح الله وإن لم يلتقوا، يتعارفون ويتكلمون وإن نأت بهم الدار وتفرقت بهم المنازل، قال: قلت حدثني رحمك الله عن رسول الله بحديث أسمعه منك قال إني لم أدرك رسول الله ولم تكن لي معه صحبة بأبي وأمي ورسول الله، ولكن رأيت رجالاً قد صحبوه وبلغني من حديثه كما بلغك ولست أحب أن أفتح على نفسي هذا الباب أن أكون محدثاً أو مفتياً أو قاضياً في نفسي شغل عن الناس يا هرم بن حيان! فقلت: يا أخي اقرأ علي آية من القرآن أسمعها منك وادع لي بدعوات وأوصني بوصية أحفظها عنك فإني أحبك في الله حباً شديداً، قال: فقام وأخذ بيدي على شاطئ الفرات ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم بكى. ثم قال: قال ربي والحق قول ربي وأصدق الحديث حديثه وأصدق الكلام كلامه، ثم قرأ "وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهم إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون" حتى انتهى إلى قوله "إنه هو العزيز الرحيم" فشهق شهقة ظننت أنه قد غشي عليه ثم قال: يا ابن حيان مات أبوك حيان ويوشك أن تموت فإما إلى جنة وإما إلى نار، ومات أبوك آدم وماتت أمك حواء ومات نوح ومات إبراهيم خليل الرحمن ومات موسى نجى الرحمن ومات داود خليفة الرحمن ومات محمد وعليهم وهو رسول رب العالمين، ومات أبو بكر خليفة المسلمين ومات عمر بن الخطاب أخي وصفيي، ثم قال:

يا عمراه يا عمراه، قال: فقلت رحمك الله إن عمر لم يمت، قال: فقد نعاه إلي ربي ونعى إلى نفسي! ثم قال: أنت وأنت في الموتى كأنه قد كان، ثم صلى على النبي ، ثم دعا بدعوات خفيات، ثم قال: هذه وصيتي إياك يا هرم بن حيان كتاب الله ونهج الصالحين المؤمنين فقد نعيت إلى نفسي ونفسك، عليك بذكر الموت لا يفارق قلبك طرفة عين ما بقيت، وأنذر قومك إذا رجعت إليهم وانصح للأمة جميعاً، وإياك أن تفارق الجماعة قيد شبر فتفارق دينك وأنت لا تعلم فتدخل النار يوم القيامة، ادع لي ولنفسك، ثم قال: اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك وزارني من أجلك فعرفني وجهه في الجنة وأدخله علي في دارك دار السلام واحفظه ما دام في الدنيا حيثما كان وضم عليه ضيعته وأرضه من الدنيا باليسير وما أعطيته من الدنيا فيسره له تيسيراً واجعله لما أعطيته من نعمائك من الشاكرين وأجزه عني خير الجزاء ثم قال: أستودعك الله يا هرم بن حيان والسلام عليك ورحمة الله وبركاته لا أراك بعد اليوم رحمك الله تطلبني فإني أكره الشهرة والوحدة أحب إلي إني كثير الهم شديد الغم مع هؤلاء الناس ما دمت حياً فلا تسأل عني ولا تطلبني، واعلم أنك مني على بال وإن لم أرك ولم ترني فاذكرني وادع لي فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله، انطلق أنت ههنا حتى أنطلق أنا ههنا. فحرصت أن أمشي معه ساعة فأبى علي وفارقته فبكى وأبكاني وجعلت أنظر في قفاه حتى دخل بعض السكك، ثم سألت عنه ذلك فما وجدت أحداً يخبرني عنه بشيء رحمه الله وغفر له.

فهكذا كانت سيرة أبناء الأخوة المعرضين عن الدنيا.

وقد عرفت مما سبق في بيان الدنيا ومن سيرة الأنبياء والأولياء أن حد الدنيا كل ما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء إلا ما كان لله عز وجل من ذلك وضد الدنيا الآخرة وهو كل ما أريد به الله تعالى مما يؤخذ بقدر الضرورة من الدنيا لأجل قوة طاعة الله وذلك ليس من الدنيا. ويتبين هذا بمثال وهو أن الحاج إذ حلف أنه في طريق الحج لا يشتغل بغير الحج بل يتجرد له، ثم اشتغل بحفظ الزاد وعلف الجمل وخرز الراوية وكل ما لا بد للحج منه لم يحنث في يمينه ولم يكن مشغولاً بغير الحج فكذلك البدن مركب النفس تقطع به مسافة العمر، فتعهد البدن بما تبقى به قوته على سلوك الطريق بالعلم والعمل هو من الآخرة لا من الدنيا. نعم إذا قصد تلذذ البدن وتنعمه بشيء من هذه الأسباب كان منحرفاً عن الآخرة ويخشى على قلبه القسوة قال الطنافسي: كنت على باب بني شيبة في المسجد الحرام سبعة أيام طاوياً فسمعت في الليلة الثامنة منادياً وأنا بين اليقظة والنوم ألا من أخذ من الدنيا أكثر مما يحتاج إليه أعمى الله عين قلبه. فهذا بيان حقيقة الدنيا في حقك. فاعلم ذلك ترشد إن شاء الله تعالى.

بيان حقيقة الدنيا في نفسها وأشغالها

التي استغرقت همم الخلق حتى أنستهم أنفسهم وخالقهم ومصدرهم وموردهم

اعلم أن الدنيا عبارة عن أعيان موجود وللإنسان فيها حظ وله في إصلاحها شغل. فهذه ثلاثة أمور قد يظن أن الدنيا عبارة عن آحادها وليس كذلك، أما الأعيان الموجودة التي الدنيا عبارة عنها فهي الأرض وما عليها قال الله تعالى "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً" فالأرض فراش للآدميين ومهاد ومسكن ومستقر، وما عليها لهم ملبس ومطعم ومشرب ومنكح.

ويجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام: المعادن والنبات والحيوان. أما النبات: فيطلبه الآدمي للاقتيات والتداوي وأما المعادين: فيطلبها للآلات والأواني، كالنحاس والرصاص، وللنقد كالذهب والفضة، ولغير ذلك من المقاصد وأما الحيوان فينقسم إلى الإنسان والبهائم، أما البهائم: فيطلب منها لحومها للمآكل وظهورها للمركب والزينة. وأما الإنسان: فقد يطلب الأدمى: أن يملك أبدان الناس ليستخدمهم ويستسخرهم كالغلمان؛ أو ليتمتع بهم كالجواري والنسوان؛ ويطلب قلوب الناس ليملكها بأن يغرس فيها التعظيم والإكرام وهو الذي يعبر عنه بالجاه؛ إذ معنى الجاه ملك قلوب الآدميين. فهذه هي الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا وقد جمعها الله تعالى في قوله "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين" وهذا من الإنس "والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة" وهذا من الجواهر والمعادن؛ وفيه تنبيه على غيرها من اللآلئ واليواقيت وغيرها "والخيل المسومة والأنعام" وهي البهائم والحيوانات "والحرث" وهو النبات والزرع.

فهذه هي أعيان الدنيا، إلا أن لها مع العبد علاقتين: علاقة مع القلب وهو حبه وحظه منها وانصراف همه إليها، حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا. ويدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المعلقة بالدنيا كالكبر والغل والحسد والرياء والسمعة وسوء الظن والمداهنة وحب الثناء وحب التكاثر والتفاخر، وهذه هي الدنيا الباطنة. وأما الظاهرة فهي الأعيان التي ذكرناها.

العلاقة الثانية مع البدن؛ وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان لتصلح لحظوظه وحظوظ غيره، وهي جملة الصناعات والحرف التي الخلق مشغولون بها، والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين: علاقة القلب بالحب، وعلاقة البدن بالشغل. ولو عرف نفسهوعرف ربه وعرف حكمة الدنيا وسرها علم أن هذه الأعيان التي سميناها دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى الله تعالى، وأعنى بالدابة البدن، فإنه لا يبقى إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن كما لا يبقى الجمل في طريق الحج إلا يعلف وماء وجلال.

ومثال العبد في الدنيا في نسيانه نفسه ومقصده: مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق ولا يزال يعلف الناقة ويتعهدها وينظفها ويكسوها ألوان الثياب، ويحمل إليها أنواع الحشيش ويبر لها الماء بالثلج، حتى تفوته القافلة وهو غافل عن الحج وعن مرور القافلة وعن بقائه في البادية فريسة للسباع هو وناقته. والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي، فيتعهده وقلبه إلى الكعبة والحج. وإنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة. فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشغل بتعهد البدن إلا بالضرورة كما لا يدخل بيت الماء إلا لضرورة، ولا فرق بين إدخال الطعام في البطن وبين إخراجه من البطن في أن كل واحد منهما ضرورة البدن، ومن همته ما يدخل بطنه فقيمته ما يخرج منها. وأكثر ما شغل عن الله تعالى هو البطن، فإن الفوت ضروري وأمر المسكن والملبس أهون، ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليه لم تستغرقهم أشغال الدنيا وإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا وحكمتها وحظوظهم منها ولكنهم جهلوا وغفلوا وتتابعت أشغال الدنيا عليهم واتصل بعضهم ببعض وتداعت إلى غير نهاية محدودة، فتاهوا في كثرة الأشغال ونسوا مقاصدها.

ونحن نذكر تفاصيل أشغال الدنيا، وكيفية حدوث الحاجة إليها، وكيفية غلط الناس في مقاصدها حتى تضح لك أشغال الدنيا، كيف صرفت الخلق عن الله تعالى وكيف أنستهم عاقبة أمورهم? فنقول: الأشغال الدنيوية هي الحرف والصناعات والأعمال التي ترى الخلق منكبين عليها. وسبب كثرة الأشغال هو أن الإنسان مضطر إلى ثلاث: القوت، والمسكن، والملبس. فالقوت: للغذاء والبقاء. والملبس: لدفع الحر والبرد. والمسكن: لدفع الحر والبرد ولدفع أسباب الهلاك عن الأهل والمال. ولم يخلق الله القوت والمسكن والملبس مصلحاً بحيث يستغني عن صنعة الإنسان فيه.

نعم خلق ذلك للبهائم، فإن النبات يغذي الحيوان من غير طبخ. والحر والبرد لا يؤثر في بدنه فيستغني عن البناء ويقنع بالصحراء، ولباسها شعورها وجلودها، فتستغني عن اللباس.

والإنسان ليس كذلك فحدثت الحاجة لذلك إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات، وأوائل الأشغال الدنيوية، وهي الفلاحة، والرعاية، والاقتناص، والحياكة، والبناء. أما البناء فللمسكن. والحياكة وما يكتنفاه من أمر الغزل والخياطة فللملبس. والفلاحة للمطعم. والرعاية للمواشي والخيل أيضاً للمطعم والمركب. والاقتناص نعني به تحصيل ما خلقه الله من صيد أو معدن أو حشيش أو حطب، فالفلاح يحصل النباتات والراعي يحفظ الحيوانات ويستنتجها. والمقتنص يحصل ما نبت ونتج بنفسه من غير صنع آدمي، وكذلك يأخذ من معادن الأرض ما خلق فيها من غير صنعة آدمي، ونعني بالاقتناص ذلك ويدخل تحته صناعات وأشغال عدة، ثم هذه الصناعات تفتقر إلى أدوات وآلات كالحياكة والفلاحة والبناء والاقتناص، والآلات إنما تؤخذ إما من النبات وهو الأخشاب، أو من المعادن كالحديد والرصاص وغيرهما، أو من جلود الحيوانات. فحدثت الحاجة إلى ثلاث أنواع أخر من الصناعات: النجارة والحدادة والخز. وهؤلاء هم عمال الآلات، ونعني بالنجارة كل عامل في الخشب كيفما كان. وبالحداد؛ كل عامل في الحديد وجواهر المعادن حتى النحاس والإبرى وغيرهما. وغرضنا ذكر الأجناس فأما آحاد الحرف فكثيرة. وأما الخراز؛ فنعني به كل عامل في جلود الحيوانات وأجزائها. فهذه أمهات الصناعات.

ثم عن الإنسان خلق بحيث لا يعيش وحده بل يضطر إلى الاجتماع مع غيره من أبناء جنسه وذلك لسببين؛ أحدهما: حاجته إلى النسل لبقاء جنس الإنسان، ولا يكون ذلك إلا باجتماع الذكر والأنثى وعشرتهما. والثاني: التعاون على تهيئة أسباب المطعم والملبس ولتربية الولد، فإن الاجتماع يفضي إلى الولد لا محالة، والواحد لا يشتغل بحفظ الولد وتهيئة أسباب القوت. ثم ليس يكفيه الاجتماع مع الأهل والولد في المنزل بل لا يمكنه أن يعيش كذلك ما لم تجتمع طائفة كثيرة ليتكفل كل واحد بصناعة. فإن الشخص الواحد كيف يتولى الفلاحة وحده وهو يحتاج إلى آلاتها، وتحتاج الآلة إلى حداد ونجار، ويحتاج الطعام إلى طحان وخباز? وكذلك كيف ينفرد بتحصيل الملبس وهو يفتقر إلى حراسة القطن وآلات الحياكة والخياطة وآلات كثيرة? فلذلك امتنع عيش الإنسان وحده وحدثت الحاجة إلى الاجتماع. ثم لو اجتمعوا في صحراء مكشوفة لتأذوا بالحر والبرد والمطر واللصوص فافتقروا إلى أبنية محكمة ومنازل ينفرد كل أهل بيت به وبما معه الآلات والأثاث والمنازل تدفع الحر والبرد والمطر وتدفع أذى الجيران من اللصوصية وغيرها، لكن المنازل قد تقصدها جماعة من اللصوص خارج المنازل، فافتقر أهل المنازل إلى التناصر والتعاون والتحصن بسور يحيط بجميع المنازل، فحدثت البلاد لهذه الضرورة.

ثم مهما اجتمع الناس في المنازل والبلاد وتعاملوا تولدت بينهم خصومات، إذ تحدث رياسة وولاية للزوج على الزوجة، وولاية للأبوين على الولد لأنه ضعيف يحتاج إلى قوام به. ومهما حصلت الولاية على عاقل أفضى إلى الخصومة بخلاف الولاية على البهائم، إذ ليس لها قوة المخاصمة وإن ظلمت. فأما المرأة فتخاصم الزوج، والولد يخاصم الأبوين. هذا في المنزل.

وأما أهل البلد أيضاً فيتعاملون في الحاجات ويتنازعون فيها، ولو تركوا كذلك لتقاتلوا وهلكوا، وكذلك الرعاة وأرباب الفلاحة يتواردون على المراعي والأراضي والمياه وهي لا تفي بأغراضهم فيتنازعون لا محالة. ثم قد يعجز بعضهم عن الفلاحة والصناعة بعمى أو مرض أو هرم وتعرض عوارض مختلفة ولو ترك ضائعاً لهلك، ولو وكل تفقده إلى الجميع لتخاذلوا ولو خص واحد من غير سبب يخصه لكان لا يذعن له.

فحدث بالضرورة من هذه العوارض الحاصلة بالاجتماع صناعات أخرى. فمنها صناعة المساحة التي بها تعرف مقادير الأرض لتمكن القسمة بينهم بالعدل. ومنها صناعة الجندية لحراسة البلد بالسيف ودفع اللصوص عنهم. ومنها صناعة الحكم والتوصل لفصل الخصومة، ومنها الحاجة إلى الفقه وهو معرفة القانون الذي ينبغي أن يضبط به الخلق، ويلزموا الوقوف على حدوده حتى لا يكثر النزاع وهو معرفة حدود الله تعالى في المعاملات وشروطها. فهذه أمور سياسية لا بد منها ولا يشتغل بها إلا مخصوصون بصفات مخصوصة من العلم والتمييز والهداية، وإذا اشتغلوا بها لم يتفرغوا لصناعة أخرى ويحتاجون إلى المعاش، ويحتاج أهل البلد إليهم إذ لو اشتغل أهل البلد بالحرب مع الأعداء مثلاً تعطلت الصناعات، ولو اشتغل أهل الحرب والسلاح بالصناعات لطلب القوت تعطلت البلاد عن الحراس واستضر الناس، فمست الحاجة إلى أن يصرف إلى معايشهم وأرزاقهم الأموال الضائعة التي لا مالك لها إن كانت، أو تصرف الغنائم إليهم إن كانت العداوة مع الكفار، فإن كانوا أهل ديانة وورع قنعوا بالقليل من أموال المصالح وإن أرادوا التوسع فتمس الحاجة لا محالة إلى أن يمدهم أهل البلد بأموالهم ليمدوهم بالحراسة، فتحدث الحاجة إلى الخراج. ثم يتولد بسبب الحاجة إلى الخراج الحاجة لصناعات أخر؛ إذ يحتاج إلى من يوظف الخراج بالعدل على الفلاحين وأرباب الأموال وهم العمال. وإلى من يستوفي منهم بالرفق وهم الجباة والمتخرجون، وإلى من يجمع عنده ليحفظه إلى وقت التفرقة وهم الخزان، وإلى من يفرق عليهم بالعدل وهو الفارض للعساكر. وهذه الأعمال لو تولاها عدد لا تجمعهم رابطة انخرم النظام فتحدث منه الحاجة إلى ملك يدبرهم وأمير مطاع يعين لكل عمل شخصاً، ويختار لكل واحد ما يليق به ويراعي النصفة في أخذ الخراج وإعطائه، واستعمال الجند في الحرب وتوزيع أسلحتهم وتعين جهات الحرب ونصب الأمير والقائد على كل طائفة منهم إلى غير ذلك من صناعات الملك، فيحدث من ذلك بعد الجند الذين هم أهل السلاح، وبعد الملك الذي يراقبهم بالعين الكالئة ويدبرهم الحاجة إلى الكتاب والخزان والحساب والجباة والعمال. ثم هؤلاء أيضاً يحتاجون إلى معيشة ولا يمكنهم الاشتغال بالحرف فتحدث الحاجة إلى مال الأصل وهو المسمى فرع الخراج. وعند هذا يكون الناس في الصناعات ثلاثة طوائف؛ الفلاحون والرعاة والمحترفون، والثانية: الجندية الحماة بالسيوف. والثالثة: المترددون بين الطائفتين في الأخذ والعطاء وهم العمال والجباة وأمثالهم. فانظر كيف ابتدأ الأمر من حاجة القوت والملبس والمسكن وإلى ماذا انتهى. وهكذا أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وينفتح بسبب أبواب أخر. وهكذا تتناهى إلى غير حد محصور كأنها هاوية لا نهاية لعمقها، من وقع في مهواة منها سقط منها إلى أخرى، وهكذا على التوالي. فهذه هي الحرف والصناعات إلا أنها لا تتم إلا بالأموال والآلات. والمال عبارة عن أعيان الأرض وما عليها مما ينتفع به، وأعلاها الأغذية، ثم الأمكنة التي يأوي الإنسان إليها وهي الدور، ثم الأمكنة التي يسعى فيها للتعيش كالحوانيت والأسواق والمزارع، ثم الكسوة ثم أثاث البيت وآلاته، ثم آلات الآلات، وقد يكون في الآلات ما هو حيوان كالكلب آلة الصيد، والبقر آلة الحراثة، والفرس آلة الركوب في الحرب. ثم يحدث من ذلك حاجة البيع فإن الفلاح ربما يسكن قرية ليس فيها آلة الفلاحة، والحداد والنجار يسكنان قرية لا يمكن فيها الزراعة. فبالضرورة يحتاج الفلاح إليهما ويحتاجان إلى الفلاح، فيحتاج أحدهما أن يبذل ما عنده لآخر حتى يأخذ منه غرضه وذلك بطريق المعاوضة، إلا أن النجار مثلاً إذا طلب من الفلاح الغذاء بآلته ربما لا يحتاج الفلاح في ذلك الوقت إلى آلته فلا يبيعه، والفلاح إذا طلب الآلة من النجار بالطعام ربما كان عنده طعام في ذلك الوقت فلا يحتاج إليه فتتعوق الأغراض، فاضطروا إلى حانوت يجمع آلة كل صناعة ليترصد بها صاحبها أرباب الحاجات؛ وإلى أبيات يجمع إليها ما يحمل الفلاحون فيشتريه منهم صاحب الأبيات ليترصد به أرباب الحاجات، فظهرت لذلك الأسواق والمخازن فيحمل الفلاح الحبوب فإذا لم يصادف محتاجاً باعها بثمن رخيص من الباعة فيخزنونها في انتظار أرباب الحاجات طمعاًفي ربح، وكذلك في جميع الأمتعة والأموال. ثم يحدث لا محالة بين

البلاد والقرى تردد فيتردد الناس يشترون من القرى الأطعمة ومن البلاد الآلات، وينقلون ذلك ويتعيشون به لتنتظم أمور الناس في البلاد بسببهم؛ إذ كل بلد ربما لا توجد في كل آلة، وكل قرية لا يوجد فيها كل طعام، فالبعض يحتاج إلى البعض فيحوج إلى النقل، فيحدث التجار المتكفلون بالنقل وباعثهم عليه حرص جمع المال لا محالة، فيتعبون طول الليل والنهار في الأسفار لغرض غيرهم، ونصيبهم منها جمع المال الذي يأكله لا محالة غيرهم؛ إما قاطع طريق وإما سلطان ظالم، ولكن جعل الله تعالى في غفلتهم وجهلهم نظاماً للبلاد ومصلحة للعباد. بل جميع أمور الدنيا انتظمت بالغفلة وخسة الهمة. ولو عقل الناس وارتفعت هممهم لزهدوا في الدنيا، ولو فعلوا ذلك لبطلت المعايش، ولو بطلت لهلكوا ولهلك الزهاد أيضاً.

ثم هذه الأموال التي تنقل لا يقدر الإنسان على حملها فتحتاج إلى دواب تحملها، وصاحب المال قد لا تكون له دابة فتحدث معاملة بينه وبين مالك الدابة تسمى الإجارة، ويصير الكراء نوعاً من الاكتساب أيضاً، ثم يحدث بسبب البياعات الحاجة إلى النقدين فإن من يريد أن يشتري طعاماً بثوب فمن أين يدري المقدار الذي يساويه من الطعام كم هو? والمعاملة تجري في أجناس مختلفة كما يباع ثوب بطعام وحيوان بثوب وهذه أمور لا تتناسب، فلا بد من حاكم عدل يتوسط بين المتبايعين يعدل أحدهما بالآخر فيطلب ذلك العدل من أعيان الأموال، ثم يحتاج إلى مال يطول بقاؤه لأن الحاجة إليه تدوم. وأبقى الأموال المعادن فاتخذت النقود من الذهب والفضة والنحاس، ثم مست الحاجة إلى الضرب والنقش والتقدير فمست الحاجة إلى دار الضرب والصيارفة. وهكذا تتداعى الأشغال والأعمال بعضها إلى بعض حتى انتهت إلى ما تراه. فهذه أشغال الخلق وهي معاشهم. وشيء من هذه الحرف لا يمكن مباشرته إلا بنوع تعلم وتعب في الابتداء.

وفي الناس من يغفل عن ذلك في الصبا فلا يشتغل به أو يمنعه مانع فيبقى عاجزاً عن الاكتساب لعجزه عن الحرف فيحتاج إلى أن يأكل مما يسعى فيه غيره، فيحدث منه حرفتان خسيستان: اللصوصية والكداية؛ إذ يجمعهما أنهما يأكلان من سعي غيرهما ثم الناس يحترزون من اللصوص والمكدين ويحفظون عنهم أموالهم فافتقروا إلى صرف عقولهم في استنباط الحيل والتدابير.

أما اللصوص: فمنهم من يطلب أعواناً ويكون في يديه شوكة وقوة فيجتمعون ويتكاثرون ويقطعون الطريق كالأعراب والأكراد. وأما الضعفاء منهم فيفزعون إلى الحيل إما بالنقب أو التسلق عند انتهاز فرصة الغفلة، وإما بأن يكون طراراً أو سلالاً، إلى غير ذلك من أنواع التلصص الحادثة بحسب ما تنتجه الأفكار المصروفة إلى استنباطها.

وأما المكدي فإنه إذا طلب ما سعى فيه غيره وقيل له اتعب واعمل كما عمل غيرك فما لك والبطالة فلا يعطى شيئاً، فافتقروا إلى حيلة في استخراج الأموال وتمهيد العذر لأنفسهم في البطالة، فاحتالوا للتعلل بالعجز إما بالحقيقة كجماعة يعمون أولادهم وأنفسهم بالحيلة ليعذروا بالعمى فيعطون، وإما بالتعامي والتفالج والتجانن والتمارض، وإظهار ذلك بأنواع من الحيل مع بيان أن تلك محنة أصابت من غير استحقاق، ليكون ذلك سبب الرحمة، وجماعة يلتمسون أقوالاً وأفعالاً يتعجب الناس منها حتى تنبسط قلوبهم عند مشاهدتها، فيسخوا برفع اليد عن قليل من المال في حال التعجب، ثم قد يندم بعد زوال التعجب ولا ينفع الندم. وذلك قد يكون بالتمسخر والمحاكاة والشعبذة والأفعال المضحكة، وقد يكون بالأشعار الغريبة والكلام المنثور المسجع مع حسن الصوت. والشعر الموزون أشد تأثيراً في النفس ولا سيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذاهب كأشعار مناقب الصحابة وفضائل أهل البيت، أو الذي يحرك داعية العشق من أهل المجانة كصنعة الطبالين في الأسواق، وصنعة ما يشبه العوض وليس بعوض كبيع التعويذات، والحشيش الذي يخيل بائعه أنها أدوية فيخدع بذلك الصبيان والجهال، وكأصحاب القرعة والفأل من المنجمين. ويدخل في هذا الجنس الوعاظ والمكدون على رؤوس المنابر إذ لم يكن وراءهم طائل علمي وكان غرضهم استمالة قلوب العوام وأخذ أموالهم بأنواع الكدية، وأنواعها تزيد على ألف نوع وألفين. وكل ذلك استنبط بدفيق الفكرة لأجل المعيشة. فهذه هي أشغال الخلق وأعمالهم التي أكبوا عليها، وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت والكسوة ولكنهم نسوا في أثناء ذلك أنفسهم ومقصودهم ومنقلبهم ومآبهم فتاهوا وضلوا، وسبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أن كدرتها زحمة الاشتغالات بالدنيا خيالات فاسدة، فانقسمت مذاهبهم واختلفت آراؤهم على عدة أوجه: فطائفة علبهم الجهل والغفلة فلم تتفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة امورهم فقالوا: المقصود أن نعيش أياماً في الدنيا فنجتهد حتى نكسب القوت ثم نأكل حتى نقوى على الكسب، ثم نكسب حتى نأكل، فيأكلون ليكسبوا ثم يكسبون ليأكلوا، وهذا مهذب الفلاحين والمحترفين ومن ليس له تنعم في الدنيا ولا قدم في الدين؛ فإنه يتعب نهاراً ليأكل ليلاً ويأكل ليلاً ليتعب نهاراً، وذلك كسير السواني فهو سفر لا ينقطع إلا بالموت.

وطائفة أخرى زعموا أنهم تفطنوا الأمر وهو أنه ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل ولا يتنعم في الدنيا؛ بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا وهي شهوة البطن والفرج، فهؤلاء نسوا أنفسهم وصرفوا هممهم إلى اتباع النسوان وجمع لذائذ الأطعمة يأكلون كما تأكل الأنعام ويظنون أنهم إذا نالوا ذلك فقد أدركوا غاية السعادة فشغلهم ذلك عن الله تعالى وعن اليوم الآخر.

وطائفة ظنوا أن السعادة في كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز، فأسهروا ليلهم وأتعبوا نهارهم في الجمع، فهم يتعبون في الأسفار طوال الليل والنهار ويترددون في الأعمال الشاقة ويكتسبون، ويجمعون ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحاً وبخلاً عليها أن تنقص، وهذه لذتهم وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت؛ فيبقى تحت الأرض أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات؛ فيكون الجامع تعبه ووباله وللآكل لذته. ثم الذين يجمعون ينظرون إلى أملا ذلك ولا يعتبرون.

وطائفة ظنوا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء والمدح بالتجمل والمروءة؛ فهؤلاء يتعبون في كسب المعاش ويضيقون على أنفسهم في المطعم والمشرب ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة، ويزخرفون أبواب الدور وما يقع عليها أبصار الناس حتى يقال إنه غني وإنه ذو ثروة ويظنون أن ذلك هو السعادة، فهمتهم في نهارهم وليلهم في تعهد موقع نظر الناس.

وطائفة أخرى ظنوا أن السعادة في الجاه والكرامة بين الناس وانقياد الخلق بالتواضع والتوقير، فصرفوا همهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة لطلب الولايات وتقلد الأعمال السلطانية لينفذ أمرهم بها على طائفة من الناس، ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة، وأن ذلك غاية المطلب. وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس، فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله وعن عبادته وعن التفكر في آخرتهم ومعادهم.

ووراء هؤلاء طوائف يطول حصرها تزيد على نيف وسبعين فرقة، كلهم قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وإنما جرهم إلى جميع ذلك حاجة المطعم والملبس والمسكن ونسوا ما تراد له هذه الأمور الثلاثة والقدر الذي يكفي منها. وانجرت بهم أوائل أسبابها إلى أواخرها، وتداعى بهم ذلك إلى مهاو لم يمكنهم الرقي منها، فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب والأشغال وعف غاية المقصود منها فلا يخوض في شغل وحرفة وعمل إلا وهو عالم بمقصوده وعالم بحظه ونصيبه منه، وأن غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت والكسوة حتى لا يهلك، وذلك إن سلك فيه سبيل التقليل اندفعت الأشغال عنه وفرغ القلب وغلب عليه ذكر الآخرة وانصرفت الهمة إلى الاستعداد له، وإن تعدى به قدر الضرورة كثرت الأشغال وتداعى البعض إلى البعض وتسلسل إلى غير نهاية، فتتشعب به الهموم ومن تشعبت به الهموم في أودية الدنيا فلا يبالي الله في أي واد أهلكه منها. فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا. وتنبه لذلك طائفة فأعرضوا عن الدنيا فحسدهم الشيطان ولم يتركهم، وأضلهم في الإعراض أيضاً حتى انقسموا إلى طوائف: فظنت طائفة أن الدنيا دار بلاء ومحنة والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها سواء تعبد في الدنيا أو لم يتعبد، فرأوا أن الصواب في أن يقتلوا أنفسهم للخلاص من محنة الدنيا، وإليه ذهب طوائف من العباد من أهل الهند فهم يتهجمون على النار ويقتلون أنفسهم بالإحراق، ويظنون أن ذلك خلاص لهم من محن الدنيا.

وظنت طائفة أخرى أن القتل لا يخلص بل لا بد أولاً من إماتة الصفات البشرية وقطعها عن النفس بالكلية، وأن السعادة في قطع الشهوة والغضب، ثم أقبلوا على المجاهدة وشددوا على أنفسهم، حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة وبعضهم فسد عقله وجن. وبعضهم مرض وانسد عليه الطريق في العبادة. وبعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية فظن أن ما كلفه الشرع محال وأن الشرع تلبيس لا أصل له فوقع في الإلحاد. وظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله وأن الله تعالى مستغن عن عباده لا ينقصه عصيان عاص ولا تزيده عبادة متعبد، فعادوا إلى الشهوات وسلكوا مسلك الإباحة وطووا بساط الشرع والأحكام، وزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد.

وظن طائفة أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة فقد وصل وبعد الوصول يستغني عن الوسيلة والحيلة، فتركوا السعي والعبادة وزعموا أنه ارتفع محلهم في معرفة الله سبحانه عن أن يمتهنوا بالتكاليف، وإنما التكليف على عوام الخلق.

ووراء هذا مذاهب باطلة وضلالات هائلة يطول إحصاؤها إلى ما يبلغ نيفاً وسبعين فرقة، وإنما الناجي منها فرقة واحدة؛ وهي السالكة ما كان عليه رسول الله وأصحابه، وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية ولا يقمع الشهوات بالكلية. أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد. وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل. ولا يتبع كل شهوة ولا يترك كل شهوة، بل يتبع العدل ولا يترك كل شيء من الدنيا، ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده، فيأخذ من القوت ما يقوي به البدن على العبادة ومن المسكن ما يحفظ عن اللصوص والحر والبرد، ومن الكسوة كذلك، حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بكنه همته واشتغل بالذكر والفكر طول العمر، وبقي ملازماً لسياسة الشهوات ومراقباً لها حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى، ولا يعلم تفصيل ذلك إلا بالاقتداء بالفرقة الناجية وهم الصحابة فإنه عليه السلام لما قال "الناجي منها واحدة" قالوا: يا رسول الله ومن هم? قال "أهل السنة والجماعة" فقيل: ومن أهل السنة والجماعة? قال "ما أنا عليه وأصحابي وقد كانوا على النهج القصد وعلى السبيل الواضح الذي فصلناه من قبل، فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا بل للدين، وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية، وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط، بل كان أمرهم بين ذلك قواماً، وذلك هو العدل والوسط بين الطرفيين وهو أحب الأمور إلى الله تعالى -كما سبق ذكره في مواضع- والله أعلم.

تم كتاب ذم الدنيا والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.