انتقل إلى المحتوى

إحياء علوم الدين/كتاب العلم/الباب السادس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الباب السادس

في آفات العلم

وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء


قد ذكرنا ما ورد من فضائل العلم والعلماء، وقد ورد في العلماء السوء تشديدات عظيمة دلت على أنهم أشد الخلق عذاباً يوم القيامة. فمن المهمات العظيمة معرفة العلامات الفارقة بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة ونعني بعلماء الدنيا علماء السوء الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها قال "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه" وعنه أنه قال "لا يكون المرء عالماً حتى يكون بعلمه عاملاً" وقال "العلم علمان: علم على اللسان فذلك حجة الله تعالى على خلقه وعلم في القلب فذلك العلم النافع" وقال "يكون في آخر الزمان عباد جهال وعلماء فساق" وقال "لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولتماروا به السفهاء ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم فمن فعل ذلك فهو في النار" وقال "من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار" وقال "لأنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال. قيل: وما ذلك? فقال: من الأئمة المضلين" وقال "من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً" وقال عيسى عليه السلام: إلى متى تصفون الطريق للمدلجين وأنتم مقيمون مع المتحيرين، فهذا وغيره من الأخبار يدل على عظيم خطر العلم فإن العالم إما متعرض لهلاك الأبد أو لسعادة الأبد وإنه بالخوض في العلم قد حرم السلامة وإن لم يدرك السعادة. وأما الآثار فقد قال عمر رضي الله عنه: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم. قالوا: وكيف يكون منافقاً عليماً? قال: عليم اللسان جاهل القلب والعمل. وقال الحسن رحمه الله: لا تكن ممن يجمع علم العلماء وطرائف الحكماء ويجري في العمل مجرى السفهاء. وقال رجل لأبي هريرة رضي الله عنه: أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه فقال: كفى بترك العلم إضاعة له. وقيل لإبراهيم بن عيينة: أي الناس أطول ندماً? قال:أما في عاجل الدنيا فصانع المعروف إلى من لا يشكره وأما عند الموت فعالم مفوط. وقال الخليل بن أحمد: الرجال أربعة، رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه. وقال سفيان الثوري رحمه الله: يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. وقال ابن المبارك: لا يزال المرء عالماً ما طلب العلم فإذا ظن أنه قط علم فقد جهل. وقال الفضيل ابن عياض رحمه الله: إني لأرحم ثلاثة: عزيز قوم ذلك وغني قوم افتقر وعالماً تلعب به الدنيا. وقال الحسن: عقوبة العلماء موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة وأنشدوا:

عجبت لمبتاع الضلالة بالهـدى
ومن يشتري دنياه بالدين أعجب
واعجب من هذين من باع دينه
بدنيا سواه فهو من ذين أعجب

وقال "إن العالم ليعذب عذاباً يطيف به أهل النار استعظاماً لشدة عذابه" أراد به العالم الفاجر. وقال أسامة بن زيد: سمعت رسول الله يقول "يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيطيف به أهل النار فيقولون مالك فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه" وإنما يضاعف عذاب العالم في معصيته لأنه عصى عن علم ولذلك قال الله عز وجل "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" لأنهم جحدوا بعد العلم، وجعل اليهود شراً من النصارى مع أنهم ما جعلوا لله سبحانه ولداً ولا قالوا: إنه ثالث ثلاثة، إلا أنهم أنكروا بعد المعرفة إذ قال الله "يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" وقال تعالى "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين" وقال تعالى - في قصة بلعام بن باعوراء - "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين" حتى قال "فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" فكذلك العالم الفاجر فإن بلعام أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات فشبه بالكلب أي سواء أوتي الحكمة أو لم يؤت فهو يلهث إلى الشهوات. وقال عيسى عليه السلام: مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع ومثل علماء السوء مثل قناة الحش ظاهرها جص وباطنها نتن، ومثل القبور ظاهرها عامر وباطنها عظام الموتى: فهذه الأخبار والآثار تبين أن العالم الذي هو من أبناء الدنيا أخس حالاً وأشد عذاباً من الجاهل. وأن الفائزين المقربين هم علماء الآخرة ولهم علامات: فمنها أن لا يطلب الدنيا بعلمه فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها وعظم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة ملكها ويعلم أنهما متضادتان وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى وأنهما ككفتي الميزان مهما رجحت إحداهما خفت الأخرى وأنهما كالمشرق والمغرب مهما قربت من أحدهما بعدت عن الآخر وأنهما كقدحين أحدهما مملوء والآخر فارغ فبقدر ما تصب منه في الآخر حتى يمتلىء يفرغ الآخر. فإن من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل. فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك فكيف يكون من العلماء من لا عقل له? ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بينهما طمع في غيرم مطمع? فهو جاهل بشرائع الأننبياء كلهم بل هو كافر بالقرآن كله من أوله إلى آخر فكيف يعد من زمرة العلماء? ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته فكيف يعد من حزب العلماء من هذه درجته? وفي أخبار داود عليه السلام حكاية عن الله تعالى "إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي، يا داود لا تأسل عني عالماً قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي، يا داود إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً؛ يا داود من رد إلي هارباً كتبته جهبذاً ومن كتبته جهبذاً لم أعذبه أبداً" ولذلك قال الحسن رحمه الله: عقوبة العلماء موت القلب وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة. ولذلك قال يحيى بن معاذ: إنما يذهب بهاء العلم والحكمة إذا طلب بهما الدنيا. وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فهو لص، وقال عمر رضي الله عنه: إذا رأيتم العالم محباً للدنيا فاتهموه على دينكم فإن كل محب يخوض فيما أحب وقال مالك بن دينار رحمه الله: قرأت في بعض الكتب السالفة إن الله تعالى يقول إن أهون ما أصنع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة مناجاتي من قلبه. وكتب رجل إلى أخ له: إنك قد أوتيت علماً فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور عملهم، وكان يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله يقول لعلماء الدنيا: يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية وبيوتكم كسروية واثوابكم ظاهرية وأخفافكم جالوتية ومراكبكم قارونية وأوانيكم فرعونية ومآثمكم جاهلية ومذاهبكم شيطانية فأين الشريعة المحمدية? قال الشاعر:

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها
فكيف إذا الرعاة لهـا ذئاب?

وقال الآخر:

يا معشر القراء يا ملح البلد
ما يصلح الملح إذا الملح فسد?

وقيل لبعض العارفين: أترى أن من تكون المعاصي قرة عينه لا يعرف الله? قال لاشك أن من تكون الدنيا عنده آثر من الآخرة أنه لا يعرف الله تعالى. وهذا دون ذلك بكثير ولا تظنن أن ترك المال يكفي في اللحوق بعلماء الآخرة فإن الجاه أضر من المال. ولذلك قال بشر حدثنا باب من أبواب الدنيا فإذا سمعت الرجل يقول حدثنا فإنما يقول: أوسعوا لي. ودفن بشر بن الحرث بضعة عشر ما بين قمطرة وقوصرة من الكتب وكان يقول: أنا أشتهي أن أحدث، ولو ذهبت عني شهوة الحديث لحدثت، وقال هو وغيره: إذا اشتهيت أن تحدث فاسكت فإذا لم تشته فحدث. وهذا لأن التلذذ بجاه الإفادة ومنصب الإرشادة أعظم لذة من كل تنعم في الدنيا فمن أجاب شهوته فيه فهو من أبناء الدنيا. ولذلك قال الثوري: فتنة الحديث أشد من فتنة الأهل والمال والولد وكيف لا تخاف فتنه وقد قيل لسيد المرسلين "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً" وقال سهل رحمه الله: العلم كله دنيا والآخرة منه العمل به والعمل طله هباء إلا الإخلاص. وقال: الناس كلهم موتى إلا العلماء والعلماء سكارى إلا العاملين والعاملون كلهم مغرورون إلا المخلصين والمخلص على وجل حتى يدري ماذا يختم له به. وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا وإنما أراد به طلب الأسانيد العالية أو طلب الحديث أو تزوج أو سافر في طلب الآخرة، وقال عيسى عليه السلام: كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته وهو مقبل على طريق دنياه وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به لا ليعمل به? وقال صالح بن كيسان البصري: أدركت الشيوخ وهم يتعوذون بالله من الفاجر العالم بالسنة. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله "من طلب علماً مما يبتغي به وجه الله تعالى ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" وقد وصف الله علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد. فقال عز وجل في علماء الدنيا "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً" وقال تعالى في علماء الآخرة "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم"

وقال بعض السلف: العلماء يحشرون في زمرة الأنبياء والقضاة يحشرون في زمرة السلاطين. وفي معنى القضاة كل فقيه قصده طلب الدنيا بعلمه. وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي أنه قال "أوحى الله عز وجل إلى بعض الأنبياء: قل للذين يتفقهون لغير الدين ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة يلبسون للناس مسوك الكباش وقلوبهم كقلوب الذئاب ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر إياي يخادعون وبي يستهزئون لأفتحن لهم فتنة تذر الحليم حيران" وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله "علماء هذه الأمة رجلان: رجل آتاه الله علماً فبذله للناس ولم يأخذ عليه طمعاً ولم يشتر به ثمناً فذلك يصلي عليه طير السماء وحيتان الماء ودواب الأرض والكرام الكاتبون يقدم على الله عز وجل يوم القيامة سيداً شريفاً حتى يوافق المرسلين، ورجل آتاه الله علماً في الدنيا فضن به على عباد الله وأخذ عليه طمعاً واشترى به ثمناً فذلك يأتي يوم القيامة ملجماً بلجام من نار ينادي مناد على رءوس الخلائق هذا فلان بن فلان آتاه الله علماً في الدنيا فضن به على عباده وأخ به طمعاً واشترى به ثمناً فيعذب حتى يفرغ من حساب الناس" واشد من هذا ما روي "أن رجلاً كان يخدم موسى عليه السلام فجعل يقول حدثني موسى صفي الله حدثني موسى نجي الله حدثني موسى كليم الله حتى أثرى وكثر ماله ففقده موسى عليه السلام فجعل يسأل عنه ولا يحس له خبراً حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود فقال له موسى عليه السلام: أتعرف فلاناً? قال: نعم قال هو هذا الخنزير، فقال موسى: يا رب أسألك أن ترده إلى حاله حتى أسأله بم أصابه هذا? فأوحى الله عز وجل إليه: لو دعوتني بالذي دعاني به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه ولكن أخبرك لم صنعت هذا به? لأنه كان يطلب الدنيا بالدين" وأغلظ من هذا ما روى معاذ بن جبل رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً في رواية عن النبي قال "من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع" وفي الكلام تنميق وزيادة ولا يؤمن على صاحبه الخطأ وفي الصمت سلامة وعلم. ومن العلماء من يخزن علمه فلا يحب أن يوجد عند غيره فذلك في الدرك الأول من النار. ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان إن رد عليه شيء من علمه أو تهوون بشيء من حقه غضب فذلك في الدرك الثاني من النار. ومن العلماء من يجعل علمه وغرائب حديثه لأهل الشرف واليسار ولا يرى أهل الحاجة له أهلاً فذلك في الدرك الثالث من النار. ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي بالخطأ والله تعالى يبغض المتكلفين بذلك في الدرك الرابع من النار. ومن العلماء من يتكلم بكلام اليهود والنصارى ليغرز به علمه فذلك في الدرك الخامس من النار. ومن العلماء من يتخذ علمه مروءة ونبلاً وذكراً في الناس فذلك في الدرك السادس من النار. ومن العلماء من يستفزه الزهو والعجب فإن وعظ عنف وإن وعظ أنف فذلك في الدرك السابع من النار. فعليك يا أخي بالصمت فبه تغلب الشيطان. وإياك أن تضحك من غير عجب أو تمشي في غير أرب. وفي خبر آخر "إن العبد لينشر له من الثناء ما يملأ ما بين المشرق والمغرب وما يزن عند الله جناح بعوضة" وروى أن الحسن حمل إليه رجل من خراسان كيساً بعد انصرافه من مجلسه فيه خمسة آلاف درهم وعشرة أثواب من رقيق البز وقال. يا أبا سعيد هذه نفقة وهذه كسوة؛

فقال الحسن. عافاك الله تعالى، ضم إليك نفقتك وكسوتك فلا حاجة لنا بذلك إنه من جلس مثل مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله تعالى يوم القيامة ولا خلاق له. وعن جابر رضي الله عنه موقوفاً ومرفوعاً: قال: قال رسول الله "لا تجلسوا عند كل عالم إلا إلى عالم يدعوكم من خمس إلى خمس: من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الرغبة إلى الزهد، ومن الكبر إلى التواضع، ومن العداوة إلى النصيحة" وقال تعالى "فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن" الآية، فعرف أهل العلم بإيثار الآخرة على الدنيا. ومنها أن لا يخالف فعله قوله بل لا يأمر بالشيء ما لم يكن هو أول عامل به. قال الله تعالى "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" وقال تعالى "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" وقال تعالى "واتقوا الله واعلموا - واتقوا الله واسمعوا" وقال تعالى لعيسى عليه السلام "يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني" وقال رسول الله "مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: من أنتم? فقالوا: كنا نأمر بالخير ولا نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه" وقال "هلاك أمتي عالم فاجر وعابد جاهل، وشر الشرار شرار العلماء، وخير الخيار خيار العلماء" وقال الأوزاعي رحمه الله: شكت النواويس ما تجد من نتن جيف الكفار فأوحى الله إليها: بطون علماء السوء أنتن مما أنتم فيه. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: بلغني أن الفسقة من العلماء يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ويل لمن لا يعلم مرة وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات. وقال الشعبي: يطلع يوم القيامة قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم: ما أدخلكم النار وإنما أدخلنا الله الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم? فيقولون إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله وننهى عن الشر ونفعله. وقال حاتم الأصم رحمه الله ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علم الناس علماً فعملوا به ولم يعمل هو به ففازوا بسبب وهلك هو. وقال مالك ابن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا. وأنشدوا:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً
إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها
أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهداً
فالموبقات لعمري أنت جانيها
تعيب ديناً وناساً راغبين لها
وأنت أكثر منهم رغبة فيها

وقال آخر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم

وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: مررت بحجر بمكة مكتوب عليه اقلبني تعتبر فقلبته فإذا عليه مكتوب أنت بما تعلم لا تعمل فكيف تطلب علم ما لم تعلم? وقال ابن السماك رحمه الله: كم من مذكر بالله ناس لله! وكم من مخوف بالله جريء على الله: وكم من مقرب إلى الله بعيد من الله! وكم من داع إلى الله فار من الله! وكم من تال كتاب كتاب الله منسلخ عن آيات الله! وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: لقد أعربنا في كلامنا فلم نلحن ولحنا في أعمالنا فلم نعرب. وقال الأوزاعي: إذا جاء الإعراب ذهب الخشوع. وروى مكححول عن عبد الرحمن بن غنم أنه قال: حدثني عشرة من أصحاب رسول الله قالوا، كنا ندرس العلم في مسجد قباء إذ خرج علينا رسول الله فقال "تعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله حتى تعملوا" وقال عيسى عليه السلام: مثل الذي يتعلم العلم ولا يعمل به كمثل امرأة زنت في السر فحملتفظهر حملها فافتضحت فكذلك من لا يعمل بعلمه يفضحه الله تعالى يوم القيامة على رءوس الأشهاد. وقال معاذ رحمه الله: احذروا زلة العالم لأن قدره عند الخلق عظيم فيتبعونه على زلته. وقال عمر رضي الله عنه: إذا زل العالم زل بزلته عالم من الخلق، وقال عمر رضي الله عنه: ثلاث بهن ينهدم الزمان إحداهن زلة العالم. وقال ابن مسعود: سيأتي على الناس زمان تملح فيه عذوبة القلوب فلا ينتفع بالعلم يومئذ عالمه ولا متعلمه فتكون قلوب علمائهم مثل السباخ من ذوات الملح ينزل عليها قطر السماء فلا يوجد لها عذوبة، وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حب الدنيا وإيثارها على الآخرة فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابيع الحكمة ويطفىء مصابيح الهدى من قلوبهم فيخبرك عالمهم حين تلقاه أنه يخشى الله بلسانه والفجور ظاهر في عمله، فما أخصب الألسن يومئذ وما أجدب القلوب! فوا الله الذي لا إله إلا هو ما ذلك إلا لأن المعلمين علموا لغير الله تعالى والمتعلمين تعلموا لغير الله تعالى. وفي التوراة والإنجيل مكتوب: لا تطلبوا علم ما لم تعلموا حتى تعملوا بما علمتم. وقال حذيفة رضي الله عنه: إنكم في زمان من ترك فيه عشر ما يعلم هلك، وسيأتي زمان من عمل فيه بعشر ما يعلم نجا وذلك لكثرة البطالين. واعلم أن مثل العالم مثل القاضي وقد قال "القضاة ثلاثة: قاض قضى بالحق وهو يعلم فذلك في الجنة وقاض قضى بالجور وهو يعلم أو لا يعلم فهو في النار وقاض قضى بغير ما أمر الله به فهو في النار" وقال كعب رحمه الله: يكون في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، ويخوفون الناس ولا يخافون، وينهون عن غشيان الولاة ويأتونهم، ويؤثرون الدنيا على الآخرة يأكلون بألسنتهم، يقربون الأغنياء دون الفقراء، يتغايرون على العلم كما تتغاير النساء على الرجال؛ يغضب أحدهم على جليسه إذا جالس غيره، أولئك الجبارون أعداء الرحمن. وقال "إن الشيطان ربما يسوفكم بالعلم، فقيل: يا رسول الله وكيف ذلك? قال "يقول اطلب العلم ولا تعمل حتى تعلم فلا يزال للعلم قائلاً وللعمل مسوفاً حتى يموت وما عمل" وقال سرى السقطي اعتزل رجل للتعبد كان حريصاً على طلب علم الظاهر فسألته فقال: رأيت في النوم قائلاً يقول لي "إلى كم تضيع العلم ضيعك الله" فقلت: إني لأحفظه فقال "حفظ العلم العمل به" فتركت الطلب وأقبلت على العمل. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ليس العلم بكثرة الرواية إنما العلم الخشية" وقال الحسن: تعلموا ما شئتم أن تعلموا فوالله لا يأجركم الله حتى تعملوا فإن السفهاء همتهم الرواية والعلماء همتهم الرعاية: وقال مالك رحمه الله: إن طلب العلم لحسن وإن نشره لحسن إذا صحت فيه النية ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فلا تؤثرون عليه شيئاً. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أنزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملاً وسيأتي قوم يثقفونه مثل القناة ليسوا بخياركم والعالم الذي لا يعمل كالمريض الذي يصف الدواء وكالجائع الذي يصف لذائذ الأطعمة ولا يجدها. وفي مثله قوله تعالى "ولكم الويل مما تصفون" وفي الخبر "إنما أخاف على أمتي زلة عالم وجدال منافق في القرآن" ومنها أن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات مجتنباً للعلوم التي يقل نفعها ويكثر في الجدال والقيل والقال. فمثال من يعرض عن علم الأعمال ويشتغل بالجدال مثل رجل مريض به علل كثيرة وقد صادف طبيباً حاذقاً في وقت ضيق يخشى فواته فاشتغل بالسؤال عن خاصية العقاقير والأدوية وغرائب الطب وترك مهمه الذي هو مؤاخذ به، وذلك محض السفه.

وقد روي "أن رجلاً جاء رسول الله فقال: علمني من غرائب العلم، فقال له: ما صنعت في رأس العلم? فقال: وما رأس العلم? فقال ، هل عرفت الرب تعالى? قال: نعم، قال: فما صنعت في حقه? قال: ما شاء الله، فقال : هل عرفت الموت? قال نعم، قال: فما أعددت له? قال: ما شاء الله، قال : إذهب فأحكم ما هناك ثم تعال نعلمك من غرائب العلم" بل ينبغي أن يكون المتعلم من جنس ما روي عن حاتم الأصم - تلميذ شقيق البلخي رضي الله عنهما - أنه قال له: شقيق منذ كم صحبتني? قال حاتم: منذ ثلاث وثلاثين سنة، قال: فما تعلمت مني في هذه المدة? قال: ثمان مسائل، قال شقيق له: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل? قال: يا أستاذ لم أتعلم غيرها وإني لا أحب أن أكذب، فقال هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها، قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوباً فهو مع محبوبه إلى القبر فإذا وصل إلى القبر فارقه فجعلت الحسنات محبوبي فإذا دخلت القبر دخل محبوبي معي. فقال: أحسنت يا حاتم فما الثانية? فقال: نظرت في قول الله عز وجل "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" فعلمت أن قوله سبحانه وتعالى هو الحق فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى. الثالثة أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه ثم نظرت إلى قول الله عز وجل "ما عندكم ينفذ وما عند الله باق" فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجهته إلى الله ليبقى عنده محفوظاً. الرابعة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ثم نظرت إلى قول الله تعالى "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريماً. الخامسة: أني نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض ويلعن بعضهم بعضاً وأصل هذا كله الحسد ثم نظرت إلى قول الله عز وجل "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا" فتركت الجسد واجتنبت الخلق وعلمت أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى فتركت عداوة الخلق عني. السادسة: نظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض ويقاتل بعضهم بعضاً فرجعت إلى قول الله عز وجل "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً" فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حذري منه لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدو لي فتركت عداوة الخلق غيره. السابعة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يطلب هذه الكسرة فيذل فيها نفسه ويدخل فيما لا يحل له ثم نظرت إلى قوله تعالى "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها فاشتغلت بما لله تعالى علي وتركت ما لي عنده. الثامنة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلهم متوكلين على مخلوق - هذا على ضيعته وهذا على صحة بدنه - وكل مخلوق متوكل على مخلوق مثله فرجعت إلى قوله تعالى "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" فتوكلت على الله عز وجل فهو حسبي، قال شقيق: يا حاتم وفقك الله تعالى فإني نظرت في علوم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم فوجدت جميع أنواع الخير والديانة وهي تدور على هذه الثمان مسائل فمن استعملها فقد استعمل الكتب الأربعة فهذا الفن من العلم لا يهتم بإدراكه والتفطن له إلا علماء الآخرة فأما علماء الدنيا فيشتغلو بما يتسير به اكتساب المال والجاه ويهملون أمثال هذه العلوم التي بعث الله بها الأنبياء كلهم عليهم السلام وقال الضحاك بن مزاحم: أدركتهم وما يتعلم بعضهم من بعض إلا الورع وهم اليوم ما يتعلمون إلا الكلام. ومنها أن يكون غير مائل إلى الترفه في المطعم والمشرب والتنعم في الملبس والتجمل في الأثاث والمسكن بل يؤثر الاقتصاد في جميع ذلك ويتشبه فيه بالسلف رحمهم الله تعالى ويميل إلى الاكتفاء بالأقل في جميع ذلك وكلما زاد إلى طرف القلة ميله ازداد من الله قربه وارتفع في علماء الآخرة حزبه. ويشهد لذلك ما حكى عن أبي عبد الله الخواص - وكان من أصحاب حاتم الأصم - قال: دخلت مع حاتم إلى الري ومعنا ثلثمائة وعشرون رجلاً يريد الحج وعليهم الزرمانقات وليس معهم جراب ولا طعام فدخلنا على رجل من التجار متقشف يحب المساكين فأضافنا تلك الليلة فلما

كان من الغد قال لحاتم: ألك حاجة فإني أريد أن أعود فقيهاً لنا هو عليل? قال حاتم عيادة المريض فيها فضل والنظر إلى الفقيه عبادة وأنا أيضاً أجيء معك. وكان العليل محمد بن مقاتل - قاضي الري - فلما جئنا إلى الباب فإذا قصر مشرف حسن فبقي حاتم متفكراً يقول: باب علام على هذه الحالة? ثم أذن لهم فدخلوا فإذا دار حسناء فوراه واسعة نزهة وإذا بزة وستور فبقي حاتم متفكراً ثم دخلوا إلى المجلس الذي هو فيه وإذا بفرش وطيئة وهو راقد عليها وعند رأسه غلام وبيده مذبة فقعد الزائر عند رأسه وسأل عن حاله وحاتم قائم فأومأ إليه ابن مقاتل أن اجلس فقال لا أجلس فقال لعل لك حاجة فقال: نعم، قال: وما هي? قال: مسئلة أسألك عنها قال: سل، قال: قم فاستو جالساً حتى أسألك. فاستوى جالساً قال حاتم: علمك هذا من أين أخذته? فقال: من الثقات حدثوني به، قال: عمن? قال: عن أصحاب رسول الله ، قال: وأصحاب رسول الله عمن? قال: عن رسول الله ، قال: ورسول الله عمن? قال: عن جبرائيل عليه السلام عن الله عز وجل. قال حاتم ففيما أداه جبرائيل عليه السلام عن الله عز وجل إلى رسول الله وأداه رسول الله إلى أصحابه وأصحابه إلى الثقات إليك هل سمعت فيه من كان في داره إشراف وكانت سعتها أكثر كان له عند الله عز وجل المنزلة أكبر: قال: لا. قال: فكيف سمعت? قال: سمعت أنه من زهد في الدنيا ورغب في الآخرة وأحب المساكين وقدم لآخرته كانت له عند الله المنزلة، قال له حاتم: فأنت بمن اقتديت أبالنبي وأضحابه رضي الله عنهم والصالحين رحمهم الله أم بفرعون ونمروذ أول من بنى بالجص والآجر? يا علماء السوء مثلكم يراه الجاهل المتكالب على الدنيا الراغب فيها فيقول: العالم على هذه الحالة: أفلا أكون أنا شراً منه? وخرج من عنده فازداد ابن مقاتل عرضاً وبلغ أهل الري ما جرى بينه وبين ابن مقاتل فقالوا له: إن الطنافسي بقزوين أكثر توسعاً منه. فسار حاتم متعمداً فدخل عليه فقال. رحمك الله أنا رجل أعجمي أحب أن تعلمني مبتدأ ديني ومفتاح صلاتي كيف أتوضأ للصلاة? قال: نعم وكرامة يا غلام هات إناء فيه ماء.

فأتى به فقعد الطنافسي فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: هكذا فتوضأ. فقال حاتم: مكانك حتى أتوضأ بين يديك فيكون أوكد لما أريد، فقام الطنافسي وقعد حاتم فتوضأ ثم غسل ذراعيه أربعاً أربعاً فقال الطنافسي: يا هذا أسرفت. قال له حاتم: فبماذا? قال غسلت ذراعيك أربعاً. فقال حاتم: يا سبحان الله العظيم أنا في كف من ماء أسرفت وأنت في جميع هذا كله لم تسرف? فعلم الطنافسي أنه قصد ذلك دون التعلم فدخل منزله فلم يخرج إلى الناس أربعين يوماً فلما دخل حاتم بغداد اجتمع إليه أهل بغداد فقالوا: يا أبا عبد الرحمن أنت رجل ولكن أعجمي وليس يكلمك أحد إلا قطعته، قال: معي ثلاث خصال أظهر بهن على خصمي أفرح إذا أصاب خصمي وأحزن إذا أخطأ وأحفظ نفسي أن لا أجهل عليه. فبلغ ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: سبحان الله ما أعقله قوموا بنا إليه. فلما دخلوا عليه قال له: يا أبا عبد الرحمن ما السلامة من الدنيا? قال: يا أبا عبد الله لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك أربع خصال: تغفر للقوم لاجهلهم وتمنع جهلك منهم وتبذل لهم شيئك وتكون من شيئهم آيساً، فإذا كنت هكذا سلمت، ثم سار إلى المدينة فاستقبله أهل المدينة فقال: يا قوم أية مدينة هذه? قالوا: مدينة رسول الله ، قال: فأين قصر رسول الله حتى أصلي فيه? قالوا: ما كان له قصر إنما كان له بيت لاطىء بالأرض، قال: فأين قصور أصحابه رضي الله عنهم? قالوا: ما كان لهم قصور إنما كان لهم بيوت لاطئة بالأرض؛ قال حاتم: يا قوم فهذه مدينة فرعون، فأخذوه وذهبوا به إلى السلطان وقالوا. هذا العجمي يقول هذه مدينة فرعون، قال الوالي: ولم ذلك? قال حاتم: لا تعجل علي أنا رجل أعجمي غريب دخلت البلد فقلت مدينة من هذه فقالوا مدينة رسول الله فقلت فأين قصر... وقص القصة، ثم قال: وقد قال الله تعالى "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" فأنتم بمن تأسيتم أبرسول الله أم بفرعون أول من بنى بالجص والآجر? فخلوا عنه وتركوه. فهذه حكاية حاتم الأصم رحمه الله تعالى. وسيأتي من سيرة السلف في البذاذة وترك التجمل ما يشهد لذلك في مواضعه. والتحقيق فيه أن التزين بالمباح ليس بحرام ولكن الخوض فيه يوجب الأنس به حتى يشق تركه، واستدامة الزينة لا تمكن إلا بمباشرة أسباب في الغالب يلزم من مراعاتها ارتكاب المعاصي من المداهنة ومراعاة الخلق ومراءاتهم وأمور أخر هي محظورة والحزم اجتناب ذلك لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها ألبتة ولو كانت السلامة مبذولة مع الخوض فيها لكان لا يبالغ في ترك الدنيا حتى نزع القميص المطرز بالعلم ونزع حاتم الذهب في أثناء الخطبة إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه. وقد حكي أن يحيى بن زيد النوفلي كتب إلى مالك ابن أنس رضي الله عنهما "بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على رسوله محمد في الأولين والآخرين، من يحيى ابن يزيد بن عبد الملك إلى مالك بن أنس، أما بعد فقد بلغني أنك تليس الدقاق وتأكل الرقاق وتجلس على الوطىء وتجعل على بابك حاجباً وقد جلست مجلس العلم وقد ضربت إليك المطى وارتحل إليك الناس واتخذوك إماماً ورضوا بقولك؛ فاتق الله تعالى يا مالك وعليك بالتواضع. كتبت إليك بالنصيحة مني كتاباً ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى والسلام" فكتب إليه مالك "بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. من مالك ابن أنس إلى يحيى بن يزيد سلام الله عليك، أما بعد: فقد وصل إلي كتابك فوقع مني موقع النصيحة والشفقة والأدب أمتعك الله بالتقوى وجزاك بالنصيحة خيراً وأسأل الله تعالى التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فأما ما ذكرت لي أني آكل الرقاق وألبس الدقاق وأحتجب وأجلس على الواطىء فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى فقد قال الله تعالى "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" وإني لأعلم أن ترك ذلك خير من الدخول فيه.

ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا والسلام" فانظر إلى إنصاف مالك إذ اعترف أن ترك ذلك خير من الدخول فيه وأفتى أنه مباح وقد صدق فيهما جميعاً ومثل مالك في منصبه إذا سمحت نفسه بالإنصاف والاعتراف في مثل هذه النصيحة فتقوى أيضاً نفسه على الوقوف على حدود المباح حتى لا يحمله ذلك على المراءاة والمداهنة والتجاوز إلى المكروهات وأما غيره فلا يقدر عليه فالتعريج على التنعم بالمباح خطر عظيم وهو بعيد من الخوف والخشية وخاصية علماء الله تعالى الخشية وخاصية الخشية التباعد من مظان الخطر. ومنها أن يكون مستقصياً على السلاطين فلا يدخل عليهم ألبتة ما دام يجد إلى الفرار عنهم سبيلاً بل ينبغي أن يحترز عن مخالطتهم وإن جاءوا إليه فإن الدنيا حلوة خضرة وزمامها بأيدي السلاطين. والمخالط لا يخلو عن تكلف في طيب مرضاتهم واستمالة قلوبهم مع أنهم ظلمة. ويجب على كل متدين الإنكار عليهم وتضييق صدرهم بإظهار ظلمهم وتقبيح فعلهم فالداخل عليهم إما أن يلتفت إلى تجملهم فيزدري نعمة الله عليه أو يسكت عن الإنكار عليهم فيكون مداهناً لهم أو يتكلف في كلامه كلاماً لمرضاتهم وتحسين حالهم وذلك هو البهت الصريح أو أن يطمع في أن ينال من دنياهم وذلك هو السحت وسيأتي في كتاب الحلال والحرام ما يجوز أن يؤخذ من أموال السلاطين وما لا يجوز من الإدرار والجوائز وغيرها. وعلى الجملة فمخالطتهم مفتاح للشرور وعلماء الآخرة طريقهم الاحتياط وقال "بدا جفا - يعني من سكن البادية جفا - ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن" وقال "سيكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون فمن أنكر فقد برىء ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع أبعده الله تعالى. قيل: أفلا نقاتلهم? قال : لا ما صلوا" وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. وقال حذيفة: إياكم ومواقف الفتن، قيل وما هي? قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول فيه ما ليس فيه.

وقال رسول الله "العلماء أمناء الرسل على عباد الله تعالى ما لم يخالطوا السلاطين فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم" روا أنس. وقيل للأعمش: ولقد أحييت العلم لكثرة من يأخذه عنك فقال: لا تعجلوا ثلث! يموتون قبل الإدراك وثلث يلزمون أبواب السلاطين فهم شر الخلق والثلث الباقي لا يفلح منه إلا القليل. ولذلك قال سعيد بن المسيب رحمه الله: إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحترزوا منه فإنه لص، وقال الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملاً. وقال رسول الله "شرار العلماء الذين يأتون الأمراء وخيار الأمراء الذين يأتون العلماء" وقال مكحول الدمشقي رحمه الله، من تعلم القرآن وتفقه في الدين ثم صحب السلطان تملقاً إليه وطمعاً فيما لديه خاض في بحر من نار جهنم بعدد خطاه. وقال سمنون: ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسئل عنه فيقال هو عند الأمير! قال: وكنت أسمع أنه يقال إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك؛ إذ ما دخلت قط على هذا السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج فأرى عليها الدرك وأنتم ترون ما ألقاه به من الغلظة والفظاظة وكثرة المخالفة لهواه ولوددت أن أنجو من الدخول عليه كفافاً مع أني لا أخذ منه شيئاً ولا أشرب له شربة ماء.

ثم قال: وعلماء زماننا شر من علماء بني إسرائيل يخبرون السلطان بالرخص وبما يوافق هواه ولو أخبروه بالذي عليه وفيه نجاته لاستثقلهم وكره دخولهم عليه وكان ذلك نجاة لهم عند ربهم. وقال الحسن: كان فيمن كان قبلكم رجل له قدم في الإسلام وصحبة لرسول الله - قال عبد الله بن المبارك عنى به سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه - قال وكان لا يغشى السلاطين وينفر عنهم. فقال له بنوه: يأتي هؤلاء من ليس هو مثلك في الصحبة والقدم في الإسلام فلو أتيتهم، فقال: يا بني آتي جيفة قد أحاط بها قوم والله لئن استطعت لا أشاركهم فيها؛ قالوا يا أبانا إذن نهلك هزالاً قال، يا بني لأن أموت مؤمناً مهزولاً أحب إلي من أن أموت منافقاً سميناً قال الحسن: خصمهم والله إذ علم أن التراب يأكل اللحم والسمن دون الإيمان. وفي هذا إشارة إلى أن الداخل على السلطان لا يسلم من النفاق ألبتة وهو مضاد للإيمان. وقال أبو ذر لسلمة: يا سلمة لا تغش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب شيئاً من دنياهم إلا أصابوا من دينك أفضل منه. وهذه فتنة عظيمة للعلماء وذريعة صعبة للشيطان عليهم لاسيما من له لهجة مقبولة وكلام حلو، إذ لا يزال الشيطان يلقي إليه: أن في وعظك لهم ودخولك عليهم ما يزجرهم عن الظلم ويقيم شعائر الشرع إلى أن يخيل إليه أن الدخول عليهم من الدين، ثم إذا دخل لم يلبث أن يتلطف في الكلام ويداهن ويخوض في الثناء والإطراء وفيه هلاك الدين.

وكان يقال: العلماء إذا علموا عملوا فإذا عملوا شغلوا فإذا شغلوا فقدوا فإذا فقدوا طلبوا فإذا طلبوا هربوا: وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الحسن: أما بعد فأشر علي بأقوام أستعين بهم على أمر الله تعالى. فكتب إليه: أما أهل الدين فلا يريدونك وأما أهل الدنيا فلن تريدهم ولكن عليك بالأشراف فإنهم يصونون شرفهم أن يدنسوه بالخيانة. هذا في عمر بن عبد العزيز رحمه الله وكان أزهد أهل زمانه! فإذا كان شرط أهل الدين الهرب منه فكيف يستنسب طلب غيرهم ومخالطتهم? ولم يزل السلف العلماء مثل الحسن والثوري وابن المبارك والفضيل وإبراهيم بن أدهم ويوسف بن أسباط يتكلمون في علماء الدنيا من أهل مكة والشام وغيرهم إما لميلهم إلى الدنيا وإما لمخالطتهم السلاطين منها أن لا يكون مسارعاً إلى الفتيا بل يكون متوقفاً ومحترزاً ما وجد إلى الخلاص سبيلاً. فإن سئل عما يعلمه تحقيقاً بنص كتاب الله أو بنص حديث أو إجماع أو قياس جلي أفتى، وإن سئل عما يشك فيه قال: لا أدري! وإن سئل عما يظنه باجتهاد وتخمين احتاط ودفع عن نفسه وأحال على غيره إن كان في غيره غنية هذا هو الحزم لأن تقلد خطر الاجتهاد عظيم وفي الخبر "العلم ثلاثة: كتاب ناطق وسنة قائمة ولا أدري" قال الشعبي: "لا أدري" نصف العلم. ومن سكت حيث لا يدري لله تعالى فليس بأقل أجراً ممن نطق لأن الاعتراف بالجهل أشد على النفس فهكذا كانت عادة الصحابة والسلف رضي الله عنهم. كان ابن عمر إذا سئل عن الفتيا قال: اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلد أمور الناس فضمها في عنقه؛ وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون، وقال: جنة العالم "لا أدري" فإن أخطأها فقد أصيبت مقاتله. وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ليس شيء أشد على الشيطان من عالم يتكلم بعلم ويسكت بعلم، يقول: انظروا إلى هذا سكوته أشد علي من كلامه.

ووصف بعضهم الأبدال فقال: أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة؛ أي لا يتكلمون حتى يسألوا وإذا سئلوا ووجدوا من يكفيهم سكتوا فإن اضطروا أجابوا وكانوا يعدون الابتداء قبل السؤال من الشهوة الخفية للكلام. ومر علي وعبد الله رضي الله عنهما برجل يتكلم على الناس فقال: هذا يقول اعرفوني. وقال بعضهم: إنما العالم الذي إذا سئل عن المسئلة فكأنما يقلع ضرسه. وكان ابن عمر يقول: تريدون أن تجعلونا جسراً تعبرون علينا إلى جهنم. وقال أبو حفص النيسابوري: العالم هو الذي يخاف عند السؤال أن يقال له يوم القيامة من أين أجبت? وكان إبراهيم التيمي إذا سئل عن مسئلة يبكي ويقول: لم تجدوا غيري حتى احتجتم إلي. وكان أبو العالية الرياحي وإبراهيم بن أدهم والثوري يتكلمون على الاثنين والثلاثة والنفر اليسير فإذا كثروا انصرفوا. وقال "ما أدري أعزيز نبي أم لا? وما أدري أتبع ملعون أم لا? وما أدري ذو القرنين نبي أم لا?" ولما سئل رسول الله عن خير البقاع في الأرض وشرها قال "لا أدري" حتى نزل عليه جبريل عليه السلام فسأله فقال "لا أدري" إلى أن أعلمه الله عز وجل أن خير البقاع المساجد وشرها الأسواق" وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسئل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة ويسكت عن تسع. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يجيب عن تسع ويسكت عن واحدة. وكان في الفقهاء من يقول "لا أدري" أكثر مما يقول "أدري" منهم سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل والفضيل ابن عياض وبشر بن الحرث. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله ما منهم أحد يسئل عن حديث أو فتيا إلا ود أن أخاه كفاه ذلك. وفي لفظ آخر: كانت المسئلة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر ويردها الآخر إلى الآخر حتى تعود إلى الأول وروي أن أصحاب الصفة أهدى إلى واحد منهم رأس مشوي وهو في غاية الضر فأهداه إلى الآخر وأهداه الآخر إلى الآخر؛ هكذا دار بينهم حتى رجع إلى الأول. فانظر الآن كيف انعكس أمر العلماء فصار المهروب منه مطلوباً والمطلوب مهروباً عنه? ويشهد لحسن الاحتراز من تقلد الفتاوي ما روي مسنداً عن بعضهم. أنه قال: لا يفتي الناس إلا ثلاثة: أمير أو مأمور أو متكلف. وقال بعضهم: كان الصحابة يتدافعون أربعة أشياء؛ الإمامة والوصية والوديعة والفتيا. وقال بعضهم: كان أسرعهم إلى الفتيا أقلهم علماً وأشدهم دفعاً لها أورعهم. وكان شغل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في خمسة أشياء: قراءة القرآن وعمارة المساجد وذكر الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وذلك لما سمعوه من قوله "كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ثلاثة: أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى" وقال تعالى "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس" الآية. ورأى بعض العلماء بعض أصحاب الرأي من أهل الكوفة في المنام فقال: ما رأيت فيما كنت عليه من الفتيا والرأي? فكره وجهه وأعرض عنه وقال: ما وجدناه شيئاً وما حمدنا عاقبته. وقال ابن حصين: إن أحدهم ليفتي في مسئلة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر. فلم يزل السكوت دأب أهل العلم إلا عند الضرورة.

وفي الحديث "إذا رأيتم الرجل قد أوتي صمتاً وزهداً فاقتربوا منه فإنه يلقن الحكمة" وقيل العالم إما عالم عامة وهو المفتي وهم أصحاب السلاطين أو عالم خاصة وهو العالم بالتوحيد وأعمال القلوب، وهم أصحاب الزوايا المتفرقون المنفردون. وكان يقال: مثل أحمد بن حنبل مثل أجلة كل أحد يغترف مها، ومثل بشر بن الحرث مثل بئر عذبة مغطاة لا يقصدها إلا واحد بعد واحد. وكانوا يقولون: فلان عالم وفلان متكلم وفلان أكثر كلاماً وفلان أكثر عملاً، وقال أبو سليمان: المعرفة إلى السكوت أقرب منها إلى الكلام وقيل: إذا كثر العلم قل الكلام وإذا كثر الكلام قل العلم وكتب سلمان إلى أبي الدرداء رضي الله عنهما - وكان قد آخى بينهما رسول الله . يا أخي بلغني أنك قعدت طبيباً تداوي المرضى، فانظر فإن كنت طبيباً فتكلم فإن كلامك شفاء وإن كنت متطبباً فالله الله لا تقتل مسلماً. فكان أبو الدرداء يتوقف بعد ذلك إذا سئل وكان أنس رضي الله عنه إذا سئل يقول: سلوا مولانا الحسن. وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا سئل يقول: سلوا حارثة ابن زيد وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سلوا سعيد بن المسيب. وحكي أنه روى صحابي في حضرة الحسن عشرين حديثاً فسئل عن تفسيرها فقال: ما عندي إلا ما رويت، فأخذ الحسن في تفسيرها حديثااً حديثاً، فتعجبوا من حسن تفسيره وحفظه! فأخذ الصحابي كفاً من حصى ورماهم به وقال: تسألوني عن العلم وهذا الحبر بين أظهركم ومنها أن يكون أكثر اهتمامه بعلم الباطن ومراقبة القلب ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه وصدق الرجاء في انكشاف ذلك من المجاهدة والمراقبة فإن المجاهدة تفضي إلى المشاهدة، ودقائق علوم القلب تنفجر بها ينابيع الحكمة من القلب، وأما الكتب والتعليم فلا تفي بذلك بل الحكمة الخارجة عن الحصر والعد إنما تتفتح بالمجاهدة والمراقبة ومباشرة الأعمال الظاهرة والباطنة والجلوس مع الله عز وجل في الخلوة مع حضور القلب بصافي الفكرة والانقطاع إلى الله تعالى عما سواه فذلك مفتاح الإلهام ومنبع الكشف، فكم من متعلم طال تعلمه ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة، وكم من مقتصر على المهم في التعلم ومتوفر على العمل ومراقبة القلب فتح الله له من لطائف الحكمة ما تحار فيه عقول ذوي الألباب، ولذلك قال "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم" وفي بعض الكتب السالفة: يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به إلى الأرض ولا في تخوم الأرض من يصعد به ولا من وراء البحار من يعبر به، العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلقوا لي بأخلاق الصديقين أظهر العلم في قلوبكم حتى يغطيكم ويغمركم.

وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: خرج العلماء والعباد والزهاد من الدنيا وقلوبهم مقفلة ولم تفتح إلا قلوب الصديقين والشهداء. ثم تلا قوله تعالى "وعنده مافتح الغيب لا يعلمها إلا هو" الآية ولولا أن إدراك قلب من له قلب بالنور الباطن حاكم على علم الظاهر لما قال "استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك" وقال فيما يرويه عن ربه تعالى "لا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به... الحديث" فكم من معان دقيقة من أسرار القرآن تخطر على قلب المتجردين للذكر والفكر تخلو عنها كتب التفاسير ولا يطلع عليها أفاضل المفسرين وإذا انكشف ذلك للمربد المراقب وعرض على المفسرين استحسنوه وعلموا أن ذلك من تنبيهات القلوب الزكية وألطاف الله تعالى بالهمم العالية المتوجهة إليه. وكذلك في علوم المكاشفة وأسرار علوم المعاملة ودقائق خواطر القلوب فإن كل علم من هذه العلوم بجر لا يدرك عمقه وإنما يخوضه كل طالب بقدر ما رزق منه وبحسب ماوفق له من حسن العمل وفي وصف هؤلاء العلماء قال علي رضي الله عنه في حديث طويل. القلوب أوعية وخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل النجاة وهمج رعاع اتباع لكل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال. والعلم يزكو على الإنفاق والمال ينقصه الإنفاق، والعلم دين يدان به تكتسب به الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته؛ العلم حاكم والمال محكوم عليه، ومنفعة المال تزول بزواله مات، خزان الأموال وهم أحياء والعلماء أحياء باقون ما بقي الدهر، ثم تنفس الصعداء وقال: هاه إن ههنا علماً جماً لو وجدت له حملة "بل أجد طالباً غير مأمون يستعمل آلة الدين في طلب الدنيا ويستطيل بنعم الله على أوليائه ويستظهر بحجته على خلقه، أو منقاداً لأهل الحق لكن ينزرع الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا بصيرة له لا ذا ولا ذاك؛ أو منهوماً باللذات سلس القياد في طلب الشهوات، أو مغرى بجميع الأموال والادخار منقاداً لهواه أقرب شبهاً بهم الأنعام السائمة؛ اللهم هكذا يموت العلم إذا مات حاملوه ثم لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهر مكشوف وإما خائف مقهور لكيلا تبطل حجج الله تعالى وبيناته وكم وأين أولئك? هم الأقلون عدداً الأعظمون قدراً أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة يحفظ الله تعالى بهم حججه حتى يودعوها من وراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم: هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين فاستلانوا ما ساتوعر منه المترفو وأنسوا بما استوحش منه الغافلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك أولياء الله عز وجل من خلقه وأمناؤه وعماله في أرضه والدعاة إلى دينه ثم بكى وقال: واشوقاه إلى رؤيتهم فهذا الذي ذكره أخيراً هو وصف علماء الآخرة وهو العلم الذي يستفاد أكثره من العمل والمواظبة على المجاهدة.

ومنها أن يكون شديد العناية بتقوية اليقين فإن اليقين هو رأس مال الدين قال رسول الله "اليقين الإيمان كله" فلابد من تعلم علم اليقين أعني أوائله ثم ينفتح للقلب طريقه، ولذلك قال "تعلموا اليقين" ومعناه جالسوا الموقنين واستمعوا منهم علم اليقين وواظبوا على الاقتداء بهم ليقوى يقينكم كما قوي يقينهم وقليل من اليقين خير من كثير من العمل. واقل "ما من آدمي إلا وله ذنوب ولكن من كان غريزته العقل وسجيته اليقين لم تضره الذنوب لأنه كلما أذنب تاب واستغفر وندم فتكفر ذنوبه ويبقى له فضل يدخل به الجنة" ولذلك قال "إن من أقل ما أوتيتم: اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار" وفي وصية لقمان لابنه يا بني لا يستطاع العمل إلا باليقين ولا يعمل المرء إلا بقدر يقينه ولا يقصر عامل حتى ينقص يقينه، وقال يحيى بن معاذ إن للتوحيد نوراً وللشرك ناراً، وإن نور التوحيد أحرق لسيئات الموحدين من نار الشرك لحسنات المشركين، وأراد به اليقين، وقد أشار الله تعالى في القرآن إلى ذكر الموقنين في مواضع دل بها على أن اليقين هو الرابطة للخيرات والسعادات. فإن قلت: فما معنى اليقين وما معنى قوته وضعفه فلابد من فهمه أولاً ثم الاشتغال بطلبه وتعلمه فإن ما لا تفهم صورته لا يمكن طلبه? فاعلم أن اليقين لفظ مشترك يطلقه فريقان لمعنيين مختلفين أما النظار والمتكلمون فيعبرون به عن عدم الشك إذ ميل النفس إلى التصديق بالشيء له أربع مقامات، الأول: أن يعتدل التصديق والتكذيب ويعبر عنه بالشك، كما إذا سئلت عن شخص معين، أن الله تعالى يعاقبه أم لا? وهو مجهول الحال عندك فإن نفسك لا تميل إلى الحم فيه بإثبات ولا نفى بل يستوي عندك إمكان الأمرين فيسمى هذا شكاً. الثاني. أن تميل نفسك إلى أحد الأمرين مع الشعور بإمكان نقيضه ولكنه إمكان لا يمنع ترجيح الأول، كما إذا سئلت عن رجل تعرفه بالصلاح والتقوى أنه بعينه لو مات على هذه الحالة هل يعاقب? فإن نفسك تميل إلى أنه لا يعاقب أكثر من ميلها إلى العقاب وذلك لظهور علامات الصلاح. ومع هذا فأنت تجوز اختفاء أمر موجب للعقاب في باطنه وسريرته فهذا التجويز مساو لذلك الميل ولكنه غير دافع رجحانه فهذه الحالة تسمى ظناً. الثالث: أن تميل النفس إلى التصديق بشيء بحيث يغلب عليها ولا يخطر بالبال غيره ولو خطر بالبال تأبى النفس عن قبوله ولكن ليس ذلك من معرفة محققة إذ لو أحس صاحب هذا المقام التأمل والإصغاء إلى التشكيك والتجويز اتسعت نفسه للتجويز، وهذا يسمى اعتقاداً مقارباً لليقين وهو اعتقاد العوام في الشرعيات كلها إذ رسخ في نفوسهم بمجرد السماع حتى إن كل فرقة تثق بصحة مذهبها وإصابة إمامها ومتبوعها، ولو ذكر لأحدهم إمكان خطأ إمامه نفر عن قبوله. الرابع. المعرفة الحقيقية الحاصلة بطريق البرهان الذي لا يشك فيه ولا يتصور الشك فيه فإذا امتنع وجود الشك وإمكانه يسمى يقيناً عند هؤلاء، ومثاله أنه إذا قيل للعاقل هل في الوجود شيء هو قديم? فلا يمكنه التصديق به بالبديهة لأن القديم غير محسوس لا كالشمس والقمر فإنه يصدق بوجودهما بالحس واليس العلم بوجوده شيء قديم أزلي ضرورياً مثل العلم بأن الاثنين أكثر من الواحد ومثل العلم بأن حدوث حادث بلا سبب محال، فإن هذا أيضاً ضروري فحق غريزة العقل أن تتوقف عن التصديق بوجود القديم على الارتجال والبديهة، ثم من الناس من يسمع ذلك ويصدق بالسماع تصديقاً جزماً ويستمر عليه وذلك هو الاعتقاد وهو حال جميع العوام. ومن الناس من يصدق به بالبرهان وهو أن يقال له. إن لم يكن في الوجود قديم فالموجودات كلها حادثة فإن كانت كلها حادثة فهي حادثة بلا سبب أو فيها حادث بلا سبب وذلك محال، فالمؤدى إلى المحال محال، فيلزم في العقل التصديق بوجود شيء قديم بالضرورة لأن الأقسام ثلاثة. وهي أن تكون الموجودات كلها قديمة أو كلها حادثة أو بعضها قديمة وبعضها حادثة فإن كانت كلها قديمة فقد حصل المطلوب إذ ثبت على الجملة قديم، وإن كان الكل حادثاً فهو محال إذ يؤدي إلى حدوث بغير سبب فيثبت القسم الثالث أو الأول. وكل علم حصل على هذا الوجه يسمى يقيناً عند هؤلاء سواء حصل بنظر مثل ما ذكرناه أو حصل بحس أو بغريزة العقل كالعلم باستحالة حادث بلا سبب أو بتواتر، كالعلم بوجود مكة أو بتجربة كالعلم بأن السقمونيا المطبوخ مسهل أو بدليل كما ذكرنا فشرط إطلاق هذا الاسم عندهم عدم الشك فكل علم لاشك فيه يسمى يقيناً عند هؤلاء وعلى هذا لا يوصف اليقين بالضعف إذ لا تفاوت في نفي الشك. الاصطلاح الثاني اصطلاح الفقهاء والمتصوفة وأكثر العلماء وهو أن لا يلتفت فيه إلى اعبتار التجويز والشك بل إلى استيلائه وغلبته على العقل: حتى يقال. فلان ضعيف اليقين بالموت مع أنه لاشك فيه؛ ويقال: فلان قوي اليقين في إتيان الرزق مع أنه قد يجوز أنه لا يأتيه، فمهما مالت النفس إلى التصديق بشيء وغلب ذلك على القلب واستولى حتى صار هو المتحكم والمتصرف في النفس بالتجويز والمع سمي ذلك يقيناً ولا شك في أن الناس يشتركون في القطع الموت والانفكاك عن الشك فيه، ولكن فيهم من لا يلتفت إليه ولا إلى الاستعداد له وكأنه غير موقن به. ومنهم من استولى ذلك على قلبه حتى استغرق جميع همه بالاستعداد له ولم يغادر فيه متسعاً لغيره فيعبر عن مثل هذه الحالة بقوة اليقين، ولذلك قال بعضهم. ما رأيت يقيناً لاشك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت، وعلى هذا الاصطلاح يوصف اليقين بالضعف والقوة ونحن إنما أردنا بقولنا "من شاء علماء الآخرة صرف العناية إلى تقوية اليقين" بالمعنيين جميعاً وهو نفي الشك ثم تسليط اليقين على النفس حتى يكون هو الغالب المتحكم عليها المتصرف فيها. فإذا فهمت هذا علمت أن المراد من قولنا إن اليقين ينقسم ثلاثة أقسام" بالقوة والضعف والكثرة والقلة والخفاء والجلاء، في الاصطلاح الأول فلا ينكر أيضاً، أما فيما يتطرق إليه التجويز فلا ينكر - أعني الاصطلاح الثاني - وفيما انتفى الشك أيضاً عنه لا سبيل إلى إنكاره فإنك تدرك تفرقة بين تصديقك بوجود مكة ووجود فدك مثلاً وبين تصديقك بوجود موسى ووجود يوشع عليهما السلام مع أنك لا تشك في الآمرين جميعاً فمستندهما جميعاً التواتر، ولكن ترى أحدهما أجلى وأوضح في قلبك من الثاني لأن السبب في أحدهما أقوى وهو كثرة المخبرين، وكذلك يدرك الناظر هذا في النظريات المعروفة بالأدلة فإنه ليس وضوح مالاح له بدليل واحد كوضوح مالاح له بالأدلة الكثيرة مع تساويهما في نفي الشك، وهذا قد ينكره المتكلم الذي يأخذ العلم من الكتب والسماع ولا يراجع نفسه فيما يدركه من تفاوت الأحوال. وأما القلة والكثرة فذلك بكثرة متعلقات اليقين، كما يقال: فلان أكثر علماً من فلان، أي معلوماته أكثر. ولذلك قد يكون العالم قوى اليقين في جميع ما ورد الشرع به وقد يكون قوى اليقين في بعضه. فإن قلت: قد فهمت اليقين وقوته وضعفه وكثرته وقلته وجلاءه وخفاءه بمعنى نفي الشك أو بمعنى الاستيلاء على القلب فما معنى متعلقات اليقين ومجاريه وفيماذا يطلب اليقين فإني ما لم أعرف ما يطلب فيه اليقين لم أقدر على طلبه? فاعلم أن جميع ما ورد به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من أوله إلى آخره هو من مجاري اليقين فإن اليقين عبارة عن معرفة مخصوصة ومتعلقة المعلومات التي وردت بها الشرائع فلا مطمع في إحصائها ولكني أشير إلى بعضها وهي أمهاتها. فمن ذلك: التوحيد. وهو أن يرى الأشياء كلها من مسبب الأسباب ولا يلتفت إلى الوسائط بل يرى الوسائط مسخرة لا حكم لها فالمصدق بهذا موقن، فإن انتفى عن قلبه مع الإيمان إمكان الشك فهو مرقن بأحد المعنيين، فإن غلب على قلبه مع الإيمان غلبة أزالت عنه الغضب على الوسائط والرضا عنهم والشكر لهم ونزل الوسائط في قلبه منزلة القلم واليد في حق المنعم بالتوقيع فإنه لا يشكر القلم ولا اليد ولا يغضب عليهما بل يراهما آلتين مسخرتين وواسطتين فقد صار موقناً بالمعنى الثاني وهو الإشراف، وهو ثمرة اليقين الأول وروحه وفائدته. ومهما تحقق أن الشمس والنجوم والجمادات والنبات والحيوان وكل مخلوق فهي مسخرات بأمره حسب تسخير القلم في يد الكاتب وأن القدرة الأزلية هي المصدر للكل استولى على قلبه غلبة التوكل والرضا والتسليم وصار موقناً بريئاً من الغضب والحقد والحسد وسوء الخلق، فهذا أحدد أبواب اليقين. ومن ذلك: الثقة بضمان الله سبحانه بالرزق في قوله تعالى "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" واليقين بان ذلك يأتيه وأن ما قدر له سيساق إليه ومهما غلب ذلك على قلبه كان مجملاً في الطلب ولم يشتد حرصه وشرهه وتأسفه على ما فاته، وأثمر هذا اليقين أيضاً جملة من الطاعات والأخلاق الحميدة. ومن ذلك: أن يغلب على قلبه أن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وهو اليقين بالثواب والعقاب حتى يرى نسبة الطاعات إلى الثواب كنسبة الخبز إلى الشبع، ونسبة العاصي إلى العقاب كنسبة السموم والأفاعي إلى الهلاك فكما يحرص على التحصيل للخبز طلباً للشبع فيحفظ قليله وكثيره فكذلك يحرص على الطاعات كلها قليلها وكثيرها، وكما يجتنب قليل السموم وكثيرها فكذلك يجتنبالمعاصي قليلها وكثيرها وصغيرها وكبيرها؛ فاليقين بالمعنى الأول قد يوجد لعموم المؤمنين أما بالمعنى الثاني فيختص به المقربون، وثمرة هذا اليقين صدق المراقبة في الحركات والسكنات الخطرات والمبالغة في التقوى والتحرز عن كل السيئات وكلما كان اليقين أغلب كان الاحتراز أشد والتشمير أبلغ. ومن ذلك؛ اليقين بأن الله تعالى مطلع عليك في كل حال ومشاهد لهواجس ضميرك وخفايا خواطرك وفكرك فهذا متيقن عند كل مؤمن بالمعنى الأول وهو عدم الشك وأما بالمعنى الثاني وهو المقصود فهو عزيز يختص به الصديقون، وثمرته أن يكون الإنسان في خلوته متأدباً في جميع أحواله كالجالس بمشهد ملك معظم ينظر إليه فإنه لا يزال مطرقاً متأدباً في جميع أعماله متماسكاً محترزاً عن كل حركة تخالف هيئة الأدب ويكون في فكرته الباطنة كهو في أعماله الظاهرة إذ يتحقق أن الله تعالى مطلع على سريرته كما يطلع الخلق على ظاهره فتكون مبالغته في عمارة باطنه وتطهيره وتزيينه بعين الله تعالى الكائنة أشد من مبالغته في تزيين ظاهره لسائر الناس، وهذا المقام في اليقين يورث الحياء والخوف والانكسار والذل والاستكانة والخضوع وجملة من الأخلاق المحمودة، وهذه الأخلاق تورث أنواعاً من الطاعات رفيعة فاليقين في كل باب من هذه الأبواب مثل الشجرة وهذه الأخلاق في القلب مثل الأغصان المتفرعة منها وهذه الأعمال والطاعات الصادرة من الأخلاق كالثمار وكالأنوار المتفرعة من الأغصان فاليقين هو الأصل والأساس وله مجار وأبواب أكثر مما عددناه، وسيأتي ذلك في ربع المنجيات إن شاء الله تعالى. وهذا القدر كاف في معنى اللفظ الآن. ومنها أن يكون حزيناً منكسراً مطرقاً صامتاً يظهر أثر الخشية على هيئته وكسوته وسيرته وحركته وسكونه ونطقه وسكوته لا ينظر إليه ناظر إلا وكان نظره مذكراً الله تعالى وكان صورته دليلاً على عمله فالجواد عينه مرآته وعلماء الآخرة يعرفون بسيماهم في السكينة والذلة والتواضع، وقد قيل ما ألبس الله عبداً لبسة أحسن من خشوع في سكينة فهي لبسة الأنبياء وسيما الصالحين والصديقين والعلماء وأما التهافت في الكلام والتشدق والاستغراق في الضحك والحدة في الحركة والنطق فكل ذلك من آثار البطر والأمن والغفلة عن عظيم عقاب الله تعالى وشديد سخطه وهو دأب أبناء الدنيا الغافلين عن الله دون العلماء به، وهذا لأن العلماء ثلاثة كما قال سهل التستري رحمه الله: عالم بأمر الله تعالى لا بأيام الله وهم المفتون في الحلال والحرام وهذا العلم لا يورث الخشية، وعالم بالله تعالى لا بأمر الله ولا بأمر الله وهم عموم المؤمنين، وعالم بالله تعالى وبأمر الله تعالى وبأيام الله تعالى وهم الصديقون، والخشية والخشوع إنما تغلب عليهم، وأراد بأيام الله أنواع عقوباته الغامضة ونعمه الباطنة التي أفاضها على القرون السالفة واللاحقة فمن أحاط علمه بذلك عظم خوفه وظهر خشوعه.

وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحلم وتواضعوا لمن تتعلمون منه وليتواضع لكم من يتعلم منكم ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم. ويقال ما آتى الله عبداً علماً إلا آتاه معه حلماً وتواضعاً وحسن خلق ورفقاً فذلك هو العلم النافع. وفي الأثر: من آتاه الله علماً وزاهداً وتواضعاً وحسن خلق فهو إمام المتقين. وفي الخبر "إن من خيار أمتي قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة الله ويبكون سراً من خوف عذابه، أبدانهم في الأرض وقلوبهم في السماء، أرواحهم في الدنيا وعقولهم في الآخرة، يتمشون بالسكينة ويتقربون بالوسيلة" وقال الحسن: الحلم وزير العلم والرفق أبوه والتواضع سرباله. وقال بشر بن الحارث من طلب الرياسة بالعلم فتقرب إلى الله تعالى ببغضه فإنه ممقوت في السماء والأرض. ويروى في الإسرائيليات أن حكيماً صنف ثلثمائة وستين مصنفاً في الحكمة حتى وصف بالحكيم فأوحى الله تعالى إلى نبيهم. قل لفلان قد ملأت الأرض نفاقاً ولم تردني من ذلك بشيء وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً. فندم الرجل وترك ذلك وخالط العامة في الأسواق وواكل بني إسرائيل وتواضع في نفسه فأوحى الله تعالى إلى نبيهم: قل له الآن وفقت لرضاي. وحكى الأوزاعي رحمه الله عن بلال بن سعد: أنه كان يقول ينظر أحدكم إلى الشرطي فيستعيذ بالله منه وينظر إلى علما الدنيا المتصنعين للخلق المتشوفين إلى الرياسة فلا يمقتهم وهم أحق بالمقت من ذلك الشرطي. وروى أنه قيل "يا رسول الله أي الأعمال أفضل? قال اجتناب المحارم ولا يزال فوك رطباً من ذكر الله تعالى، قيل: فأي الأصحاب خير? قال صاحب إن ذكرت الله أعانك وإن نسيته ذكرك، قيل: فأي الأصحاب شر? قال : صاحب إن نسيت لم يذكرك وإن ذكرت لم يعنك، قيل: فأي الناس أعلم? قال: أشدهم لله خشية، قيل: فأخبرنا بخيارنا نجالسهم، قال : الذين إذا رؤوا ذكر الله، قيل: فأي الناس شر? قال: اللهم غفراً، قالوا: أخبرنا يا رسول الله قال: العلماء إذا فسدوا" وقال "إن أكثر الناس أماناً يوم القيامة أكثرهم فكراً في الدنيا وأكثر الناس ضحكاً في الآخرة أكثرهم بكاء في الدنيا وأشد الناس فرحاً في الآخرة أطولهم حزناً في الدنيا" وقال علي رضي الله عنه في خطبة له: ذمتي رهينة وأنا به زعيم إنه لا يهيج على التقوى زرع قوم ولا يظمأ على الهدى سنخ أصل، وإن أجهل الناس من لا يعرف قدره، وإن أبغض الخلق إلى الله تعالى رجل قمش علماً أغار به في أغباش الفتنة سماه أشباه له من الناس وأراذلهم عالماً ولم يعش في العلم يوماً سالماً، تكثر واستكثر فما قل منه وكفى خير مما كثر وألهى حتى إذا ارتوى من ماء آجن وأكثر من غير طائل جلس للناس معلماً لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المهمات هيأ لها من رأيه حشو الرأي فهو ومن قطع الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أخطأ أم أصاب? ركاب جهالات خباط عشوات لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم ولا بعض على العلم بضرس قاطع فيغنم، تبكي منه الدماء وتستحل بقضائه الفروج الحرام لا ملىء والله بإصدار ما ورد عليه ولا هو أهل لما فوض إليه أولئك الذين حلت عليهم المثلات وحقت عليهم النياحة والبكاء أيام حياة الدنيا. وقال علي رضي الله عنه: إذا سمعتم العلم فاكظموا عليه ولا تخلطوه بهزل فتمجه القلوب. وقال بعض السلف: العالم إذا ضحك ضحكة مج من العلم مجة. وقيل: إذا جمع المعلم ثلاثاً تمت النعمة بها على المتعلم: الصبر والتواضع وحسن الخلق. وإذا جمع المتعلم ثلاثاً تمت النعمة بها على المعلم: العقل والأدب وحسن الفهم. وعلى الجملة فالأخلاق التي ورد بها القرآن لا ينفك عنها علماء الآخرة لأنهم يتعلمون القرآن للعمل لا للرياسة. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة فيتعلم حلالها وحرامها وأوامرها وزواجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها، ولقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما آمره وما زاجره وما ينبغي أن يقف عنده ينثره الدقل. وفي خبر آخر بمثل معناه: كنا أصحاب رسول الله أوتينا الإيمان قبل القرآن وستأتي بعدكم قوم يؤتون القرآن قبل الإيمان يقيمون حروفه ويضيعون حدوده وحقوقه يقولون قرأنا فمن أقرأ منا وعلمنا فمن أعلم منا? فذلك حظهم. وفي لفظ أولئك شرار هذه الأمة. وقيل خمس من الأخلاق هي من علامات علماء الآخرة مفهومة من خمس آيات من كتاب الله عز وجل: الخشية والخشوع والتواضع وحسن الخلق وإيثار الآخرة على الدنيا وهو الزهد، فأما الخشية فمن قوله تعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وأما الخشوع فمن قوله تعالى "خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً" وأما التواضع فمن قوله تعالى "واخفض جناحك للمؤمنين" وأما حسن الخلق فمن قوله تعالى "فبما رحمة من الله لنت لهم" وأما الزهد فمن قوله تعالى "وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً" ولما تلا رسول الله قوله تعالى "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام" فقيل له ما هذا الشرح? فقال "إن النور إذا قذف في القلب انشرح له الصدر وانفسح" قيل: فهل لذلك من علامة? قال "نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله" ومنها أن يكون أكثر بحثه عن علم الأعمال وعما يفسدها ويشوش القلوب ويهيج الوسواس ويثير الشر فإن أصل الدين التوقي من الشر ولذلك قيل:

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه

ولأن الأعمال الفعلية قريبة وأقصاها بل أعلاها المواظبة على ذكر الله تعالى بالقلب واللسان وإنما الشأن في معرفة ما يفسدها ويشوشها وهذا مما تكثر شعبه ويطول تفريعه، وكل ذلك مما يغلب مسيس الحاجة إليه وتعم به البلوى في سلوك طريق الآخرة، وأما علماء الدنيا فإنهم يتبعون غرائب التفريعات في الحكومات والأقضية ويتعبون في وضع صور تنقضي الدهور ولا تقع أبداً، وإن وقعت فإنما تقع لغيرهم لا لهم، وإذا وقعت كان في القائمين بها كثرة، ويتركون ما يلازمهم ويتكرر عليهم آناء الليل وأطراف النهار في خواطرهم ووساوسهم وأعمالهم، وما أبعد عن السعادة من باع مهم نفسه اللازم يمهم غيره النادر إيثاراً للتقرب والقبول من الخلق على التقرب من الله سبحانه. وشرها في أن يسميه البطالون من أبناء الدنيا فاضلاً محققاً عالماً بالدقائق وجزاؤه من الله أن لا ينتفع في الدنيا بقبول الخلق بل يتكدر عليه صفوه بنوائب الزمان ثم يرد القيامة مفلساً متحسراً على ما يشاهده من ربح العاملين وفوز المقربين وذلك هو الخسران المبين، ولقد كان الحسن البصري رحمه الله أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأقربهم هدياً من الصحابة رضي الله عنهم اتفقت الكلمة في حقه على ذلك وكان أكثر كلامه في خواطر القلوب وفساد الأعمال ووساس النفوس والصفات الخفية الغامضة من شهوات النفس؛ وقد قيل له؛ يا أبا سعيد إنك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك فمن أين أخذته? قال: من حذيفة بن اليمان. وقيل لحذيفة: نراك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك من الصحابة فمن أين أخذته? قال: خصني به رسول الله ، كان الناس يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه وعلمت أن الخير لا يسبقني علمه وقال مرة: فعلمت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير. وفي لفظ آخر: كانوا يقولون يا رسول الله ما لمن عمل كذا وكذا? يسألونه عن فضائل الأعمال وكنت أقول يا رسول الله ما يفسد كذا وكذا? فلما رآني أسأله عن آفات الأعمال خصني بهذا العلم. وكان حذيفة رضي الله عنه أيضاً قد خص بعلم المنافقين وأفرد بمعرفة علم النفاق وأسبابه ودقائق الفتن، فكان عمر وعثمان وأكابر الصحابة رضي الله عنهم يسألونه عن الفتن العامة والخاصة، وكان يسأل عن المنافقين فيخبر بعدد من بقي منهم ولا يخبر بأسمائهم، وكان عمر رضي الله عنه يسأل عن نفسه هل يعلم فيه شيئاً من النفاق? فبرأه من ذلك، وكان عمر رضي الله عنه إذا دعى إلى جنازة ليصلي عليها نظر فإن حضر حذيفة صلى عليها وإلا ترك، وكان يسمى صاحب السر. فالعناية بمقامات القلب وأحواله دأب علماء الآخرة لأن القلب هو الساعي إلى قرب الله تعالى وقد صار هذا الفن غريباً مندرساً وإذا تعرض العالم لشيء منه استغرب واستبعد وقيل هذا تزويق المذكرين فأين التحقيق? ويرون أن التحقيق في دقائق المجادلات ولقد صدق من قال:

الطرق شتى وطرق الحق مفردة
والسالكون طريق الحق أفراد
لا يعرفون ولا تدري مقاصدهم
فهم على مهل يمشون قصاد
والناس في غفلة عما يراد بهم
فجلهم عن سبيل الحق رقاد

وعلى الجملة فلا يميل أكثر الخلق إلا إلى الأسهل والأوفق لطباعهم فإن الحق مر والوقوف عليه صعب وإدراكه شديد وطريقه مستوعر ولاسيما معرفة صفات القلب وتطهيره عن الأخلاق المذمومة فإن ذلك نزع للروح على الدوام، وصاحبه ينزل منزلة الشارب للدواء يصبر على مرارته رجاء الشفاء وينزل منزلة من جعل مدة العمر صومه فهو يقاسي الشدائد ليكون فطره عند الموت، ومتى تكثر الرغبة في هذا الطريق? ولذلك قيل: إنه كان في البصرة مائة وعشرين متكلماً في الوعظ والتذكير ولم يكن من يتكلم من علم اليقين وأحوال القلوب وصفات الباطن إلا ثلاثة منهم - سهل التستري والصبيحي وعبد الرحيم - وكان يجلس إلى أولئك الخلق الكثير الذي لا يحصى وإلى هؤلاء عدد يسير قلما يجاوز العشرة، لأن النفيس العزيز لا يصلح إلا لأهل الخصوص وما يبذل للعموم فأمره قريب. ومنها أن يكون اعتماده في علومه على بصيرته وإدراكه بصفاء قلبه لا على الصحف والكتب ولا على تقليد ما يسمعه من غيره وإنما المقلد صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فيما أمر به وقاله وإنما يقلد الصحابة رضي الله عنهم من حيث إن فعلهم يدل على سماعهم من رسول الله . ثم إذا قلد صاحب الشرع في تلقي أقواله وأفعاله بالقبول فينبغي أن يكون حريصاً على فهم أسراره فإن المقلد إنما يفعل الفعل لأن صاحب الشرع فعله، وفعله لابد وأن يكون لسر فيه فينبغي أن يكون شديد البحث عن أسرار الأعمال والأقوال فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال كان وعاء للعلم ولا يكون عالماً. ولذلك كان يقال: فلان من أوعية العلم؛ فلا يسمى عالماً إذا كان من شأنه الحفظ من غير اطلاع على الحكم والأسرار. ومن كشف عن قلبه الغطاء واستنار بنور الهداية صار في نفسه متبوعاً مقلداً فلا ينبغي أن يقلد غيره. ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من أحد إلا يؤخذ من علمه ويترك إلا رسول الله وقد كان تعلم من زيد بن ثابت الفقه وقرأ على أبي بن كعب ثم خالفهما في الفقه والقراءة جميعاً.

وقال بعض السلف: ما جاءنا عن رسول الله قبلناه على الرأس والعين وما جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم فنأخذ منه ونترك وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال: وإنما فضل الصحابة لمشاهدتهم قرائن أحوال رسول الله واعتلاق قلوبهم أموراً أدركت بالقرائن فسددهم ذلك إلى الصواب من حيث لا يدخل في الرواية والعبارة إذ فاض عليهم من نور النبوة ما يحرسهم في الأكثر عن الخطأ. وإذا كان الاعتماد على المسموع من الغير تقليداً غير مرضي فالاعتماد على الكتب والتصانيف أبعد. بل الكتب والتصانيف محدثة لم يكن شيء منها في زمن الصحابة وصدر التابعين وإنما حدثت بعد سنة مائة وعشرين من الهجرة وبعد وفاة جميع الصحابة وجملة التابعين رضي الله عنهم وبعد وفاة سعيد بن المسيب والحسن وخيار التابعين؛ بل كان الأولون يكرهون كتب الأحاديث وتصنيف الكتب لئلا يشتغل الناس بها عن الحفظ وعن القرآن وعن التدبر والتذكر وقالوا: احفظوا كما كنا نحفظ. ولذلك كره أبو بكر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم تصحيف القرآن في مصحف وقالوا: كيف نفعل شيئاً ما فعله رسول الله ? وخافوا اتكال الناس على المصاحف وقالوا: نترك القرآن يتلقاه بعضهم من بعض بالتلقين والإقراء ليكون هذا شغلهم وهمهم، حتى أشار عمر رضي الله عنه وبقية الصحابة بكتب القرآن خوفاً من تخاذل الناس وتكاسلهم وحذراً من أن يقع نزاع فلا يوجد أصل يرجع إليه في كلمة أو قراءة من المتشابهات فانشرح صدر أبي بكر رضي الله عنه لذلك فجمع القرآن في مصحف واحد.

وكان أحمد بن حنبل ينكر على مالك في تصنيفه الموطأ ويقول: ابتدع ما لم تفعله الصحابة رضي الله عنهم وقيل: أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في الآثار وحروف التفاسير عن مجاهد وعطاء وأصحاب ابن عباس رضي الله عنهم بمكة. ثم كتاب معمر بن راشد الصنعاني باليمن جمع فيه سنناً مأثورة نبوية، ثم كتاب الموطأ بالمدينة لمالك بن أنس، ثم جامع سفيان الثوري. ثم في القر، الرابع حدثت مصنفات الكلام وكثر الخوض في الجدال والغوص في إبطال المقالات، ثم مال الناس إليه وإلى القصص والوعظ بها فأخذ علم اليقين في الاندراس من ذلك الزمان فصار بعد ذلك يستغرب علم القلوب والتفتيش عن صفات النفس ومكايد الشيطان وأعرض عن ذلك إلا الأقلون، فصار يسمى المجادل المتكلم عالماً والقاص المزخرف كلامه بالعبارات المسجعة عالماً، وهذا لأن العوام هم المستمعون إليهم فكان لا يتميز لهم حقيقة العلم من غيره، ولم تكن سيرة الصحابة رضي الله عنهم وعلومهم ظاهرة عندهم حتى كانوا يعرفون بها مباينة هؤلاء لهم فاستمر عليهم اسم العلماء وتوارث اللقب خلف عن سلف وأصبح علم الآخرة مطوياً، وغاب عنهم الفرق بين العلم والكلام إلا عن الخواص منهم كانوا إذا قيل لهم؛ فلان أعلم أم فلان? يقولون: فلان أكثر علماً وفلان أكثر كلاماً. فكان الخواص يدركون الفرق بين العلم وبين القدرة على الكلام. هكذا ضعف الدين في قرون سالفة فكيف الظن بزمانك هذا? وقد انتهى الأمر إلى أن مظهر الإنكار يستهدف لنسبته إلى الجنون فالأولى أن يشتغل الإنسان بنفسه ويسكت. ومنها أن يكون شديد التوقي من محدثات الأمور وإن اتفق عليها الجمهور فلا يغرنه إطباق الخلق على ما أحدث بعد الصحابة رضي الله عنهم وليكن حريصاً على التفتيش عن أحوال الصحابة وسيرتهم وأعمالهم وما كان فيه أكثر همهم أكان في التدريس والتصنيف والمناظرة والقضاء والولاية وتولى الأوقاف والوصايا وأكل مال الأيتام ومخالطة السلاطين ومجاملتهم في العشرة? أم كان في الخوف والحزن والتفكر المجاهدة ومراقبة الظاهر والباطن واجتناب دقيق الإثم وجليله والحرص على إدراك خفايا شهوات النفوس ومكايد الشيطان إلى غير ذلك من علوم الباطن? واعلم تحقيقاً أن أعلم أهل الزمان وأقربهم إلى الحق أشبههم بالصحابة وأعرفهم بطريق السلف فمنهم أخذ الدين. ولذلك قال علي رضي الله عنه "خيرنا أتبعنا لهذا الدين" لما قيل له: خالفت فلاناً. فلا ينبغي أن يكترث بمخالفة أهل العصر في موافقة أهل عصر رسول الله فإن الناس رأوا رأياً فيما هم فيه لميل طباعهم إليه ولم تسمح نفوسهم بالاعتراف بأن ذلك سبب الحرمان من الجنة فادعوا أنه لا سبيل إلى الجنة سواه. ولذلك قال الحسن: محدثان أحدثا في الإسلام: رجل ذو رأي سيء زعم أن الجنة لمن رأى مثل رأيه، ومترف يعبد الدنيا لهم يغضب ولها يرضى وإياها يطلب فارفضوهما إلى النار. وإن رجلاً أصبح في هذه الدنيا بين مترف يدعوه إلى دنياه وصاحب هوى يدعوه إلى هواه وقد عصمه الله تعالى منهما يحن إلى السلف الصالح يسأل عن أفعالهم ويقتفي آثارهم متعرض لأجر عظيم فكذلك كونوا. وقد روي عن ابن مسعود موقوفاً ومسنداً أنه قال: "إنما هما اثنتان الكلام والهدى، فأحسن الكلام كلام الله تعالى، وأحسن الهدى هدى رسول الله تعالى صلى الله عليه وآله وسلم، ألا وإياكم ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها، وإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة، ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم، ألا كل ما هو آت قريب، ألا إن البعيد ما ليس بآت" وفي خطبة رسول الله "طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وأنفق من مال اكتسبه من غير معصية وخالط أهل الفقه والحكم وجانب أهل الزلل والمعصية، طوبى لمن ذل في نفسه وحسنت خليقته وصلحت سريرته وعزل عن الناس شره، طوبى لم عمل بعلمه وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله ووسعته السنة ولم يعدها إلى بدعة" وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: حسن الهدى في آخر الزمان خير من كثير من العمل، وقال: أنتم في زمان خيركم فيه المسارع في الأمور وسيأتي بعدكم زمان يكون خيرهم فيه المتثبت المتوقف لكثرة الشبهات. وقد صدق فيمن لم يتوقف في هذا الزمان ووافق الجماهير فيما هم عليه وخاض فيما خاضوا فيه هلك كما هلوا. وقال حذيفة رضي الله عنه: أعجب من هذا أن معروفكم اليوم منكر زمان قد مضى وأن منكركم اليوم معروف زمان قد أتى وإنكم لا تزالون بخير ما عرفتم الحق وكان العالم فيكم غير مستخف به. ولقد كان يعد فرش البواري في المسجد بدعة، وقيل إنه من محدثات الحجاج. فقد كان الأولون قلما يجعلون بينهم وبين التراب حاجزاً. وكذلك الاشتغال بدقائق الجدل والماظرة من أجل علوم أهل الزمان ويزعمون أنه من أعظم القربات، وقد كان من المنكرات. ومن ذلك التلحين في القرآن والأذان. ومن ذلك التعسف في النظافة والوسوسة في الطهارة وتقدير الأسباب البعيدة في نجاسة الثياب مع التساهل في حل الأطعمة وتحريمها إلى نظائر ذلك. ولقد صدق ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: أنتم اليوم في زمان الهوى فيه تابع للعلم وسيأتي عليكم زمان يكون العلم فيه تابعاً للهوى. وقد كان أحمد بن حنبل يقول: تركوا العلم وأقبلوا على الغرائب ما أقل العلم فيهم والله المستعان. وقال مالك بن أنس رحمه الله: لم تكن الناس فيما مضى يسألون عن هذه الأمور كما يسأل الناس اليوم ولم يكن العلماء يقولون حرام ولا حلال ولكن أدركتهم يقولون مستحب ومكروه ومعناه أنهم كانوا ينظرون في دقائق الكراهة والاستحباب فأما الحرام فكان فحشه ظاهراً وكان هشام بن عروة يقول: لاتسألوهم اليوم عما أحدثوه بأنفسهم فإنهم قد أعدوا له جواباً ولكن سلوهم عن السنة فإنهم لا يعرفونها. وكان أبو سليمان الداراني رحمه الله يقول: لا ينبغي لمن ألهم شيئاً من الخير أن يعمل به حتى يسمع به في الأثر فيحمد الله تعالى إذا وافق ما في نفسه، وإنما قال هذا لأن ما قد أبدع من الآراء قد قرع الأسماع وعلق بالقلوب وربما يشوش صفاء القلب فيتخيل بسببه الباطل حقاً فيحتاط فيه بالاستظهار بشهادة الآثار. ولهذا لما أحدث مروان المنبر في صلاة العيد عند المصلى قام إليه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فقال: يا مروان ما هذه البدعة? فقال: إنها ليست ببدعة إنها خير مما تعلم إن الناس قد كثروا فأردت أن يبلغهم الصوت، فقال أبو سعيد: والله لا تأتون بخير مما أعلم أبداً ووالله لا صليت وراءك اليوم! وإنما أنكر ذلك عليه "لأن رسول الله كان يتوكأ في خطبة العيد والاستسقاء على قوس أو عصا لا على المنبر" وفي الحديث المشهور "من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد" وفي خبر آخر "من غش أمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، قيل: يا رسول الله وما غش أمتك? قال: أن يبتدع بدعة يحمل الناس عليها" وقال رسول الله "إن لله عز وجل ملكاً ينادي كل يوم من خالف سنة رسول الله لم تنله شفاعته" ومثال الجاني على الدين بإبداع ما يخالف السنة بالنسبة إلى من يذنب ذنباً مثال من عصى الملك في قلب دولته بالنسبة إلى من خالف أمره في خدمة معينة، وذلك قد يغفر له فأما في قلب الدولة فلا. وقال بعض العلماء: ما تكلم فيه السلف فالسكوت عنه جفاء وما سكت عنه السلف فالكلام فيه تكلف. وقال غيره: الحق ثقيل من جاوزه ظلم ومن قصر عنه عجز ومن وقف معه اكتفى. وقال "عليكم بالنمط الأوسط الذي يرجع إليه العالي ويرتفع إليه التالي" وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها قال الله تعالى "وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً" وقال تعالى "أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً" فكل ما أحدث بعد الصحابة رضي الله عنهم مما جاوز قدر الضرورة والحاجة فهو من اللعب واللهو. وحكي عن إبليس لعنه الله أنه بث جنوده في وقت الصحابة رضي الله عنهم فرجعوا إليه محسورين فقال: ما شأنكم? قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء ما نصيب منهم شيئاً وقد أتعبونا! فقال: إنكم لا تقدرون عليهم قد صحبوا نبيهم وشهدوا تنزيل ربهم ولكن سيأتي بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم. فلما جاء التابعون بث جنوده فرجعوا إليه منكسين فقالوا: ما رأينا أعجب من هؤلاء نصيب منهم الشيء بعد الشيء من الذنوب فإذا كان آخر النهار أخذوا في الاستغفار فيبدل الله سيئاتهم حسنات! فقال: إنكم لن تنالوا من هؤلاء شيئاً لصحة توحيدهم واتباعهم لسنة نبيهم ولكن سيأتي بعد هؤلاء قوم تقر أعينكم بهم تلعبون بهم لعباً وتقودونهم بأزمة أهوائهم كيف شئتم إن استغفروا لم يغفر لهم ولا يتوبون فيبدل الله سيئاتهم حسنات، قال: فجاء قوم بعد القرن الأول فبث فيهم الأهواء وزين لهم البدع فاستحلوها واتخذوها ديناً لا يستغفرون الله منها ولا يتوبون عنها فسلط عليهم الأعداء وقادوهم أين شاءوا. فإن قلت: من أين عرف قائل هذا ما قاله إبليس ولم يشاهد إبليس ولا حدثه بذلك? فاعلم أن أرباب القلوب يكاشفون بأسرار الملكوت تارة على سبيل الإلهام بأن يخطر لهم على سبيل الورود عليهم من حيث لا يعلمون وتارة على سبيل الرؤيا الصادققة وتارة في اليقظة على سبيل كشف المعاني بمشاهدة الأمثلة - كما يكون في المنام - وهذا أعلى الدرجات وهي من درجات النبوة العالية كما أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. فإياك أن يكون حظك من هذا العلم إنكار ما جاوز حد قصورك ففيه هلك المتحذلقون من العلماء الزاعمون أنهم أحاطوا بعلوم العقول، فالجهل خير من عقل يدعو إلى إنكار مثل هذه الأمور لأولياء الله تعالى، ومن أنكر ذلك للأولياء لزمه إنكار الأنبياء وكان خارجاً عن الدين بالكلية. قال بعض العارفين: إنما انقطع الأبدال في أطراف الأرض واستتروا عن أعين الجمهور لأنهم لا يطيقون النظر إلى علماء الوقت لأنهم عندهم جهال بالله تعالى وهم عند أنفسهم وعند الجاهلين علماء. قال سهل التستري رضي الله عنه: إن من أعظم المعاصي الجهل بالجهل والنظر إلى العامة واستماع كلام أهل الغفلة. وكل عالم خاض في الدنيا فلا ينبغي أن يصغى إلى قوله بل ينبغي أن يتهم في كل ما يقول لأن كل إنسان يخوض فيما أحب ويدفع ما لا يوافق محبوبه، ولذلك قال الله عز وجل "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً" والعوام العصاة أسعد حالاً من الجهال بطريق الدين المعتقدين أنهم من العلماء؛ لأن العامي العاصي معترف بتقصيره فيستغفر ويتوب وهذا الجاهل الظان أنه عالم وأن ما هو مشتغل به من العلوم التي هي وسائله إلى الدنيا عن سلوك طريق الدين فلا يتوب ولا يستغفر؛ بل لا يزال مستمراً عليه إلى الموت. وإذ غلب هذا على أكثر الناس إلا من عصمه الله تعالى وانقطع الطمع من إصلاحهم فالأسلم لذي الدين المحتاط العزلة والانفراد عنهم - كما سيأتي في كتاب العزلة بيانه إن شاء الله تعالى - ولذلك كتب يوسف بن أسباط إلى حذيفة المرعشي: ما ظنك بمن بقي لا يجد أحداً يذكر الله تعالى معه إلا كان آثماً أو كانت مذاكرته معصية وذلك أنه لا يجد أهله? ولقد صدق فإن مخالطة الناس لا تنفك عن غيبة أو سماع غيبة أو سكوت على منكر وأن أحسن أحواله أن يفيد علماً أو يستفيده ولو تأمل هذا المسكين وعلم أن إفادته لا تخلو عن شوائب الرياء وطلب الجمع والرياسة علم أن المستفيد إنما يريد أن يجعل ذلك آلة إلى طلب الدنيا ووسيلة إلى الشر فيكون هو معيناً له على ذلك وردءاً وظهيراً ومهيئاً لأسبابه كالذي يبيع السيف من قطاع الطريق. فالعلم كالسيف وصلاحه للخير كصلاح السيف للغزو، ولذلك لا يرخص له في البيع ممن يعلم بقرائن أحواله أنه يريد به الاستعانة على قطع الطريق. فهذه اثنتا عشرة علامة من علامات علماء الآخرة تجمع كل واحدة منها جملة من أخلاق علماء السلف؛ فكن أحد رجلين إما متصفاً بهذه الصفات أو معترفاً بالتقصير مع الإقرار به وإياك أن تكون الثالث فتلبس على نفسك بأن تبدل آلة الدنيا بالدين وتشبه سيرة البطالين بسيرة العلماء الراسخين وتلتحق بجهلك وإنكارك بزمرة الهالكين الآيسين. نعوذ بالله من خدع الشيطان، فبها هلك الجمهور. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن لا تغره الحياة الدنيا ولا يغره بالله الغرور.