إحياء علوم الدين/كتاب الأوراد/الباب الأول
فضيلة الأوراد وبيان أن المواظبة عليها هي الطريق إلى الله تعالى
اعلم أن الناظرين بنور البصيرة علموا أنه لا نجاة إلا في لقاء الله تعالى وأنه لا سبيل إلى اللقاء إلا بأن يموت العبد محباً لله تعالى وعارفاً بالله سبحانه. وأن المحبة والأنس لا تحصل إلا من دوام ذكر المحبوب والمواظبة عليه. وأن المعرفة به لا تحصل إلا بدوام الفكر فيه وفي صفاته وأفعاله. وليس في الوجود سوى الله تعالى وأفعاله. ولن يتيسر دوام الذكر والفكر إلا بوداع الدنيا وشهواتها والاجتزاء منها بقدر البلغة والضرورة وكل ذلك لا يتم إلا باستغراق أوقات الليل والنهار في وظائف الأذكار والأفكار. والنفس لما جبلت عليه من السآمة والملال لا تصبر على فن واحد من الأسباب المعينة على الذكر والفكر بل إذا ردت إلى نمط واحد أظهرت الملال والاستثقال وأن الله تعالى لا يمل حتى تملوا. فمن ضرورة اللطف بها أن تروح بالتنقل من فن إلى فن ومن نوع إلى نوع بحسب كل وقت لتغرز بالانتقال لذتها وتعظم باللذة رغبتها وتدوم بدوام الرغبة مواظبتها. فلذلك تقسم الأوراد قسمة مختلفة فالذكر والفكر ينبغي أن يستغرقا جميع الأوقات أو أكثرها فإن النفس بطبعها مائلة إلى ملاذ الدنيا. فإن صرف العبد شطر أوقاته إلى تدبيرات الدنيا وشهواتها المباحة مثلاً والشطر الآخر إلى العبادات رجح جانب الميل إلى الدنيا لموافقتها الطبع إذ يكون الوقت متساوياً؛ فأنى يتقاومان والطبع لأحدهما مرجح إذ الظاهر والباطن يتساعدان على أمور الدنيا ويصفو في طلبها القلب ويتجرد. وأما الرد إلى العبادات فمتكلف ولا يسلم إخلاص القلب فيه وحضوره إلا في بعض الأوقات فمن أراد أن يدخل الجنة بغير حساب فليستغرق أوقاته في الطاعة. ومن أراد أن تترجح كفة حسناته وتثقل موازين خيراته فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته فإن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فأمره محظر ولكن الرجاء غير منقطع والعفو من كرم الله منتظر فعسى الله تعالى أن يغفر له بجوده وكرمه؛ فهذا ما انكشف للناظرين بنور البصيرة؛ فإن لم تكن من أهله فانظر إلى خطاب الله تعالى لرسوله واقتبسه بنور الإيمان فقد قال الله تعالى لأقرب عباده إليه وأرفعهم درجة لديه "إن لك في النهار سبحاً طويلاً واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً" وقال تعالى "واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً" وقال تعالى "وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود" وقال سبحانه "وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم" وقال تعالى "إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً" وقال تعالى "ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى" وقال عز وجل "وأقم الصلاة طرفي الليل وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات" ثم انظر كيف وصف الفائزين من عباده وبماذا وصفهم فقال تعالى "أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" وقال تعالى "تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً" وقال عز وجل "والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً" وقال عز وجل "كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون" وقال عز وجل "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون" وقال تعالى "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه" فهذا كله يبين لك أن الطريق إلى الله تعالى مراقبة الأوقات وعمارتها بالأوراد على سبيل الدوام. ولذلك قال ﷺ "أحب عباد الله إلى الله الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة لذكر الله تعالى" وقد قال تعالى "الشمس والقمر بحسبان" وقال تعالى "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً" وقال تعالى "والقمر قدرناه منازل" وقال تعالى "وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر" فلا تظنن أن المقصود من سير الشمس والقمر بحسبان منظوم مرتب ومن خلق الظل والنور والنجوم أن يستعان بها على أمور الدنيا بل لتعرف بها مقادير الأوقات فتشتغل فيها بالطاعات والتجارة للدار الآخرة يدلك عليه قوله تعالى "وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً" أي يخلف أحدهما الآخر ليتدارك في أحدهما ما فات في الآخر وبين أن ذلك للذكر والشكر لا غير. وقال تعالى "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب" وإنما الفعل المبتغى هو الثواب والمغفرة ونسأل الله حسن التوفيق لما يرضيه.
بيان أعداد الأوراد وترتيبها اعلم أن أوراد النهار سبعة: فما بين طلوع الصبح إلى طلوع قرص الشمس ورد، وما بين طلوع الشمس إلى الزوال وردان، وما بين الزوال إلى وقت العصر وردان، وما بين العصر إلى المغرب وردان. والليل ينقسم إلى أربعة أوراد: وردان من المغرب إلى وقت نوم الناس، ووردان من النصف الأخير من الليل إلى طلوع الفجر. فلنذكر فضيلة كل ورد ووظيفته وما يتعلق به.
فالورد الأول: ما بين طلوع الصبح إلى طلوع الشمس وهو وقت شريف ويدل على شرفه وفضله إقسام الله تعالى به إذ قال "والصبح إذا تنفس" وقدحه به إذ قال "فالق الإصباح" وقال تعالى "قل أعوذ برب الفلق" وإظهاره القدرة بقبض الظل فيه إذ قال تعالى "ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً" وهو وقت قبض ظل الليل ببسط نور الشمس وإرشاده الناس إلى التسبيح فيه بقوله تعالى "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون" وبقوله تعالى "فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" وقوله عز وجل "ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى" وقوله تعالى "واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً".
فأما ترتيبه: فليأخذ من وقت انتباهه من النوم فإذا انتبه فينبغي أن يبتدىء بذكر الله تعالى فيقول الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور إلى آخر الأدعية والآيات التي ذكرناها في دعاء الاستيقاظ من كتاب الدعوات وليلبس ثوبه وهو في الدعاء وينوي به ستر عورته امتثالاً لأمر الله تعالى واستعانة به على عبادته من غير قصد رياء ولا رعونة ثم يتوجه إلى بيت الماء إن كان به حاجة إلى بيت الماء ويدخل أولاً رجله اليسرى ويدعو بالأدعية التي ذكرناها فيه في كتاب الطهارة عند الدخول والخروج. ثم يستاك على السنة - كما سبق - ويتوضأ مراعياً لجميع السنن والأدعية التي ذكرناها في الطهارة فإنا إنما قدمنا آحاد العبادات لكي نذكر في هذا الكتاب وجه التركيب والترتيب فقط. فإذا فرغ من الوضوء صلى ركعتي الفجر أعني السنة في منزله كذلك كان يفعل رسول الله ﷺ ويقرأ بعد الركعتين سواء أداهما في البيت أو المسجد الدعاء الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما ويقول "اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي إلى آخر الدعاء..." ثم يخرج من البيت متوجهاً إلى المسجد ولا ينسى دعاء الخروج إلى المسجد ولا يسعى إلى الصلاة سعياً بل يمشي وعليه السكينة والوقار كما ورد به الخبر ولا يشبك بين أصابعه. ويدخل المسجد ويقدم رجله اليمنى ويدعو بالدعاء المأثور لدخول المسجد ثم يطلب من المسجد الصف الأول إن وجد متسعاً ولا يتخطى رقاب الناس ولا يزاحم - كما سبق ذكره في كتاب الجمعة - ثم يصلي ركعتي الفجر إن لم يكن صلاهما في البيت ويشتغل بالدعاء المذكور بعدهما. وإن كان قد صلى ركعتي الفجر صلى ركعتي التحية وجلس منتظراً للجماعة. والأحب التغليس بالجماعة فقد كان ﷺ يغلس بالصبح ولا ينبغي أن يدع الجماعة في الصلاة عامة وفي الصبح والعشاء خاصة فلهما زيادة فضل. فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال في صلاة الصبح "من توضأ ثم توجه إلى المسجد ليصلي فيه الصلاة كان له بكل خطوة حسنة ومحي عنه سيئة والحسنة بعشر أمثالها، فإذا صلى ثم انصراف عند طلوع الشمس كتب له بكل شعرة في جسده حسنة وانقلب بحجة مبرورة فإن جلس حتى يركع الضحى كتب له بكل ركعة ألفا ألف حسنة، ومن صلى العتمة فله مثل ذلك وانقلب بعمرة مبرورة" وكان من عادة السلف دخول المسجد قبل طلوع الفجر. قال رجل من التابعين "دخلت المسجد قبل طلوع الفجر فلقيت أبا هريرة قد سبقني فقال لي: يا ابن أخي لأي شيء خرجت من منزلك في هذه الساعة? فقلت: لصلاة الغداة فقال: أبشر فإنا كنا نعد خروجنا وقعودنا في المسجد في هذه الساعة بمنزلة غزوة في سبيل الله تعالى - أو قال - مع رسول الله ﷺ. وعن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ طرقه وفاطمة رضي الله عنهما وهما نائمان فقال: ألا تصليان قال علي: فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله تعالى فإذا شاء أن يبعثها بعثها فانصرف ﷺ فسمعته وهو منصرف يضرب فخذه ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً. ثم ينبغي أن يشتغل بعد ركعتي الفجر ودعائه بالاستغفار والتسبيح إلى أن تقام الصلاة فيقول: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه سبعين مرة وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر مائة مرة ثم يصلي الفريضة مراعياً جميع ما ذكرناه من الآداب الباطنة والظاهرة في الصلاة والقدوة. فإذا فرغ منها قعد في المسجد إلى طلوع الشمس في ذكر الله تعالى كما سنرتب فقد قال ﷺ "لأن أقعد في مجلسي أذكر الله تعالى فيه من صلاة الغداة إلى طلوع المس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب" وروي "أنه ﷺ كان إذا صلى الغداة قعد في مصلاه حتى تطلع الشمس - وفي بعضها - ويصلي ركعتين" أي بعد الطلوع وقد ورد في فضل ذلك ما لا يحصى. وروى الحسن "أن رسول الله ﷺ كان فيما يذكره من رحمة ربه يقول إنه قال: يا ابن آدم اذكرني بعد صلاة الفجر ساعة وبعد صلاة العصر ساعة أكفك ما بينهما" وإذا ظهر فضل ذلك فليقعد ولا يتكلم إلى طلوع الشمس بل ينبغي أن تكون صلاة العصر ساعة أكفك ما بينهما" وإذا ظهر فضل ذلك فليقعد ولا يتكلم إلى طلوع الشمس بل ينبغي أن تكون وظيفته إلى الطلوع أربعة أنواع أدعية وأذكار ويكررها في سبحة وقراءة قرآن وتفكر. أما الأدعية: فكلما يفرع من صلاته فليبدأ وليقل "اللهم صل عىل محمد وعلى آل محمد وسلم اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام حينا ربنا بالسلام وأدخلنا دار السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" ثم يفتتح الدعاء بما كان يفتتح به رسول الله ﷺ وهو قوله "سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله أهل النعمة والفضل والثناء الحسن لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرو" ثم يبدأ بالأدعية التي أوردناها في الباب الثالث والرابع من كتاب الأدعية فيدعو بجميعها إن قدر عليه أو يحفظ من جملتها ما يراه أو وفق بحاله وأرق لقلبه وأخف على لسانه.
وأما الأذكار المكررة فهي كلمات ورد في تكرارها فضائل لم نطول بإيرادها وأقل ما ينبغي أن يكرر كل واحد منها ثلاثاً أو سبعاً وأكثره مائة أو سبعون وأوسطه عشر. فليكررها بقدر فراغه وسعة وقته وفضل الأكثر أكثر. والأوسط الأقصد أن يكررها عشر مرات فهو أجدر بأن يدوم عليه وخير الأمور أدومها وإن قل. وكل وظيفة لا يمكن المواظبةعلى كثيرها فقليلها مع المداومة أفضل وأشد تأثيراً في القلب مع كثيرها مع الفترة. ومثال القليل الدائم كقطرات ماء تتقاطر على الأرض على التوالي فتحدث فيها حفيرة ولو وقع ذلك على الحجر. ومثال الكثير المتفرق ماء يصب دفعة أو دفعات متفرقة متباعدة الأوقات فلا يبين لها أثر ظاهر وهذه الكلمات عشرة الأولى قوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير الثانية قوله: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الثالثة قوله: سبوح قدوس رب الملائكة والروح. الرابعة قوله: سبحان الله العظيم وبحمده الخامسة قوله: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله التوبة السادسة قوله: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد السابعة قوله: لا إله إلا الله الملك الحق المبين الثامنة قوله: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم التاسعة اللهم صل على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم العاشرة قوله: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون فهذه العشر كلمات إذا كرر كل واحدة عشر مرات حصل له مائة مرة "فهو أفضل من أن يكرر ذكراً واحداً مائة مرة" لأن لكل واحدة من هؤلاء الكلمات فضلاً على حياله وللقلب بكل واحد نوع تنبه وتلذذ وللنفس في الانتقال من كلمة إلى كلمة نوع استراحة وأمن من الملل. فأما القراءة فيستحب له قراءة جملة من الآيات وردت الأخبار بفضلها وهو أن يقرأ سورة الحمد وآية الكرسي وخاتمة البقرة من قوله آمن الرسول وشهد الله وقل اللهم مالك الملك الآيتين وقوله تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخرها وقوله تعالى لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق إلى آخرها وقوله سبحانه الحمد لله لم يتخذ ولداً الآية وخمس آيات من أول الحديد وثلاثاً من آخر سورة الحشر وإن قرأ المسبعات العشر التي أهداها الخضر عليه السلام إلى إبراهيم التيمي رحمه الله ووصاه أن يقولها غدوة وعشية فقد استكمل الفضل وجمع له ذلك فضيلة جملة الأدعية المذكورة. فقد روي عن كرز بن وبرة رحمه الله وكان من الأبدال قال "أتاني أخ لي من أهل الشام فأهدى لي هدية وقال: يا كرز اقبل مني هذه الهدية فإنها نعمت الهدية" فقلت: يا أخي ومن أهدى لك هذه الهدية? قال: أعطانيها إبراهيم التيمي، قلت أفلم تسأل إبراهيم من أعطاه إياها? قال: كنت جالساً في فناء الكعبة وأنا في التهليل والتسبيح والتحميد والتمجيد فجاءني رجل فسلم علي وجلس عن يميني فلم أر في زماني أحسن منه وجهاً ولا أحسن منه ثياباً ولا أشد بياضاً ولا أطيب ريحاً مه فقلت يا عبد الله من أنت ومن أين جئت? فقال: أنا الخضر، فقلت: في أي شيء جئتني? فقال: جئتك للسلام عليك وحباً لك في الله وعندي هدية أريد أن أهديها لك فقلت: ما هي? قال: أن تقول قبل طلوع الشمس وقبل انبساطها على الأرض وقبل الغروب سورة الحمد وقل أعوذ برب الناس وقل أعوذ برب الفلق وقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون وآية الكرسي كل واحدة سبع مرات وتقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر سبعاً وتصلي على النبي ﷺ سبعاً وتستغفر لنفسك ولوالديك وللمؤمنن والمؤمنات سبعاً وتقول: اللهم افعل بي وبهم عاجلاً وآجلاً في الدين والدنيا والآخرة ما أنت له أهل ولا تفعل بنا يا مولانا ما نحن له أهل إنك غفور حليم جواد كريم رءوف رحيم سبع مرات وانظر أن لا تدع ذلك غدوة وعشية فقلت: أحب أن تخبرني من أعطاك هذه العطية العظيمة? فقال: أعطانيها محمد ﷺ فقلت: أخبرني بثواب ذلك? فقال: إذا لقيت محمداً ﷺ فاسأله عن ثوابه فإنه يخبرك بذلك، فذكر إبراهيم التيمي: أنه رأى ذات يوم في منامه كأن الملائكة جاءته فاحتملته حتى أدخلوه الجنة فرأى مافيها ووصف أموراً عظيمة مما رآه في الجنة قال. فسألت الملائكة فقلت: لمن هذا? فقالوا: الذي يعمل مثل عملك وذكر أنه أكل من ثمرها وسقوه من شرابها قال: فأتاني النبي ﷺ ومعه سبعون نبياً وسبعون صفاً من الملائكة كل صف مثل ما بين المشرقو المغرب فسلم علي وأخذ بيدي فقلت: يا رسول الله الخضر أخبرني أنه سمع منك هذا الحديث فقال: صدق الخضر صدق الخضر وكل ما يحكيه فهو حق وهو عالم أهل الأرض وهو رئيس الأبدال وهو من جنود الله تعالى في الأرض فقلت يا رسول الله فمن فعل هذا أو عمله ولم ير مثل الذي رأيت في منامي هل يعطى شيئاً مما أعطيته? فقال والذي بعثني بالحق نبياً إنه ليعطى العامل بهذا وإن لم يرني ولم ير الجنة إنه ليغفر له جميع الكبائر التي عملها ويرفع الله تعالى عنه غضبه ومقته ويأمر صاحب الشمال أن لا يكتب عليه خطيئة من السيئات إلى سنة والذي بعثني بالحق نبياً ما يعمل بهذا إلا من خلقه الله سعيداً ولا يتركه إلا من خلقه الله شقياً" وكان إبراهيم التيمي يمكث أربعة أشهر لم يطعم ولم يشرب فلعله كان بعد هذه الرؤيا. فهذه وظيفة القراءة؛ فإن أضاف إليها شيئاً مما انتهى إليه ورده من القرآن أو اقتصر عليه فهو حسن فإن القرآن جامع لفضل الذكر والفكر والدعاء مهما كان بتدبر كما ذكرنا فضله وآدابه في باب التلاوة. وأما الأفكار: فليكن ذلك إحدى وظائفه - وسيأتي تفصيل ما يتفكر فيه وكيفيته في كتاب التفكر من ربع المنجيات - ولكن مجامعة ترجع إلى فنين؛ أحدهما: أن يتفكر فيما ينفعه من المعاملة بأن يحاسب نفسه فيما سبق من تقصيره ويرتب وظائفه في يومه الذي بين يديه ويدبر في دفع الصوارف والعوائق الشاغلة له عن الخير ويتذكر تقصيره وما يتطرق إليه الخلل من أعماله ليصلحه ويحضر في قلبه النيات الصالحة من أعماله في نفسه وفي معاملته للمسلمين. والفن الثاني: فيما ينفعه في علم المكاشفة وذلك بأن يتفكر مرة في نعم الله تعالى وتواتر آلاته الظاهرة والباطنة لتزيد معرفته بها ويكثر شكره عليها أو في عقوباته ونقماته لتزيد معرفته بقدرة الإله واستغنائه ويزيد خوفه منها. ولكل واحد من هذه الأمور شعب كثيرة يتسع التفكر فيها على بعض الخلق دون البعض وإنما نستقضي ذلك في كتاب التفكر. ومهما تيسير الفكر فهو أشرف العبادات إذ فيه معنى الذكر لله تعالى وزيادة أمرين، أحدهما: زيادة المعرفة إذ الفكر مفتاح المعرفة والكشف. والثاني: زيادة المحبة إذ لا يحب القلب إلا من اعتقد تعظيمه ولا تنكشف عظمة الله سبحانه وجلاله إلا بمعرفة صفاته ومعرفة قدرته وعجائب أفعاله. فيحصل من الفكر المعرفة ومن المعرفة التعظيم ومن التعظيم المحبة. والذكر أيضاً يورث الأنس وهو نوع من المحبة ولكن المحبة التي سببها المعرفة أقوى وأثبت وأعظم. ونسبة محبة العارف إلى أنس الذاكر من غير تمام الاستبصار كنسبة عشق من شاهد جمال شخص بالعين واطلع على حسن أخلاقه وأفعاله وفضائله وخصاله الحميدة بالتجربة إلى أنس من كرر على سمعه وصف شخص غائب عن عينه بالحسن في الخلق والخلق مطلقاً من غير تفصيل وجوه الحسن فيهما فليس محبته له كمحبة المشاهد وليس الخبر كالمعاينة. فالعباد المواظبون على ذكر الله بالقلب واللسان الذين يصدقون بما جاءت به الرسل بالإيمان التقليدي ليس معهم من محاسن صفات الله تعالى إلا أمور جميلة اعتقدوها بتصديق عن وصفها لهم. والعارفون هم الذين شاهدوا ذلك الجلال والجمال بعين البصيرة الباطنة التي هي أقوى من البصر الظاهر لأن أحداً لم يحط بكنه جلاله وجماله فإن ذلك غير مقدور لأحد من الخلق ولكن كل واحد شاهد بقدر ما رفع له من الحجاب ولا نهاية لجمال حضرة الربوبية ولا لحجبها. وإنما عدد حجبها التي استحقت أن تسمى نوراً وكاد يظن الواصل إليها أنه قد تم وصوله إلى الأصل سبعون حجاباً. قال ﷺ "إن لله سبعين حجاباً من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره" وتلك الحجب أيضاً مترتبة وتلك الأنوار متفاوتة في الرتب تفاوت الشمس والقمر والكواكب ويبدو في الأول أصغرها ثم ما يليه وعليه أول بعض الصوفية درجات ما كان يظهر لإبراهيم الخليل ﷺ في ترقيه وقال "فلما جن عليه الليل" أي أظلم عليه الأمر "رأى كوكباً" أي وصل إلى حجاب من حجب النور فعبر عنه بالكوكب وما أريد به هذه الأجسام المضيئة فإن آحاد العوام لا يخفى عليهم أن الربوبية لا تليق بالأجسام بل يدركون ذلك بأوائل نظرهم فما لا يضلل العوام لا يضلل الخليل عليه السلام. والحجب المسماة أنواراً ما أريد بها الضوء المحسوس بالبصر بل أريد بها ما أريد بقوله تعالى "الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح" الآية ولنتجاوز هذه المعاني فإنها خارجة عن علم المعاملة ولا يوصل إلى حقائقها إلا الكشف التابع للفكر الصافي وقل م ينفتح له بابه والمتيسر على جماهير الخلائق الفكر فيما يفيد في علم المعاملة وذلك أيضاً مما تغزر فائدته ويعظم نفعه. فهذه الوظائف الأربعة أعني: الدعاء والذكر والقراءة والفكر، ينبغي أن تكون وظيفة المريد بعد صلاة الصبح بل في كل ورد بعد الفراغ من وظيفة الصلاة فليس بعد الصلاة وظيفة سوى هذه الأربع" ويقوى على ذلك بأن يأخذ سلاحه ومجنته والصوم هو الجنة التي تضيق مجاري الشيطان المعادي الصارف له عن سبيل الرشاد. وليس بعد طلوع الصبح صلاة سوى ركعتي الفجر وفرض الصبح إلى طلوع الشمس كان رسول الله ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم يشتغلون في هذا الوقت بالأذكار وهو الأولى إلى أن يغلبه النوم قبل الفرض ولم يندفع إلا بالصلاة فلو صلى لذلك فلا بأس به.
الورد الثاني: ما بين طلوع الشمس إلى ضحوة النهار وأعني بالضحوة منتصف ما بين طلوع الشمس إلى الزوال وذلك بمضي ثلاث ساعات من النهار إذا فرض النهار اثنتي عشرة ساعة وهو الربع. وفي هذا الربع من النهار وظيفتان زائدتان؛ إحداهما: صلاة الضحى - وقد ذكرناها في كتاب الصلاة - وأن الأولى أن يصلي ركعتين عند الإشراق وذلك إذا انبسطت الشمس وارتفعت قدر نصف رمح ويصلي أربعاً أو ستاً أو ثمانياً إذا رمضت الفصال وضحيت الأقدام بحر الشمس. فوقت الركعتين هو الذي أراد الله تعالى بقوله "يسبحن بالعشي والإشراق" فإنه وقت إشراق الشمس وهو ظهور تمام نورها بارتفاعها عن موازات البخارات والغبارات التي على وجه الأرض فإنها تمنع إشراقها التام، ووقت الركعات الأربع هو الضحى الأعلى الذي أقسم الله تعالى به فقال "والضحى والليل إذا سجى" وخرج رسول الله ﷺ على أصحابه وهم يصلون عند الإشراق فنادى بأعلى صوته: ألا إن صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال" فلذلك نقول إذا كان يقتصر على مرة واحدة في الصلاة فهذا الوقت أفضل لصلاة الضحى وإن كان أصل الفضل يحصل بالصلاة بين طرفي وقت الكراهة وهو ما بين ارتفاع الشمس بطلوع نصف رمح بالتقريب إلى ما قبل الزوال في ساعة الاستواء. واسم الضحى ينطلق على الكل وكأن ركعتي الإشراق تقع في مبتدأ وقت الإذن في الصلاة وانقضاء الكراهة إذ قال ﷺ "إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها" فأقل ارتفاعها أن ترتفع عن بخارات الأرض وغبارها وهذا يراعى بالتقريب.
الوظيفة الثانية في هذا الوقت: الخيرات المتعلقة بالناس التي جرت بها العادات بكرة من عيادة مريض وتشييع جنازة ومعاونة على بر وتقوى وحضور مجلس علم وما يجري مجراه من قضاء حاجة لمسلم وغيرها. فإن لم يكن شيء من ذلك عاد إلى الوظائف الأربع - التي قدمناها من الأدعية والذكر والقراءة والفكر والصلوات - المتطوع بها إن شاء فإنها مكروهة بعد صلاة الصبح وليست مكروهة الآن. فتصير الصلاة قسماً خامساً من جملة وظائف هذا الوقت لمن أراده أما بعد فريضة الصبح فتكره كل صلاة لا سبب لها. وبعد الصبح الأحب أن يقتصر على ركعتي الفجر وتحية المسجد ولا يشتغل بالصلاة بل بالأذكار والقراءة والدعاء والفكر.
الورد الثالث: من ضحوة النهار إلى الزوال ونعني بالضحوة المنتصف وما قبله بقليل، وإن كان بعد كل ثلاث ساعات أمر بصلاة فإذا انقضى ثلاث ساعات بعد الطلوع فعندها وقبل مضيها صلاة الضحى. فإذا مضت ثلاث ساعات أخرى فالظهر. فإذا مضت ثلاث ساعات أخرى فالعصر. فإذا مضت ثلاث أخرى فالمغرب. ومنزلة الضحى بين الزوال والطلوع كمنزلة العصر بين الزوال والغروب، إلا أن الضحى لم تفرض لأنه وقت انكباب الناس على أشغالهم فخفف عنهم. الوظيفة الرابعة: في هذا الوقت الأقسام الأربعة، وزيد أمران: أحدهما? الاشتغال بالكسب وتدبير المعيشة وحضور السوق. فإن كان تاجراً فينبغي أن يتجر بصدقو أمانة وإن كان صاحب صناعة فبنصح وشفقة ولا ينسى ذكر الله تعالى في جميع أشغاله ويقتصر من الكسب على قدر حاجته ليومه مهما قدر على أن يكتسب في كل يوم لقوته. فإذا حصل كفاية يومه فليرجع إلى بيت ربه وليتزود لآخرته فإن الحاجة إلى زاد الآخرة أشد والتمتع به أدوم فاشتغاله بكسبه أهم من طلب الزيادة على حاجة الوقت. فقد قيل: لا يوجد المؤمن إلا في ثلاث مواطن مسجد يعمره أو بيت يستره أو حاجة لابد له منها. وقل من يعرف القدر فيما لابد منه بل أكثر الناس يقدرون فيما عنه بد أنه لابد لهم منه وذلك لأن الشيطان يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء فيصغون إليه ويجمعون ما لا يأكلون خيفة الفقر والله يعدهم مغفرة منه وفضلاً فيعرضون عنه ولا يرغبون فيه. الأمر الثاني: القيلولة وهي سنة يستعان بها على قيام الليل كما أن التسحر سنة يستعان به على صيام النهار. فإن كان لا يقوم بالليل لكن لو لم ينم لم يشتغل بخير وربما خالط أهل الغفلة وتحدث معهم فالنوم أحب له إذا ان لا ينبعث نشاطه للرجوع إلى الأذكار والوظائف المذكورة إذ في النوم الصمت والسلامة، وقد قال بعضهم: يأتي على الناس زمان الصمت والنوم فيه أفضل أعمالهم. وكم من عابد أحسن أحواله النوم وذلك إذا كان يرائي بعبادته ولا يخلص فيها فكيف بالغافل الفاسق? قال سفيان الثوري رحمه الله: كان يعجبهم إذا تفرغوا أن يناموا طلباً للسلامة فإذا كان نومه على قصد طلب السلامة ونية قيام الليل كان نومه قربة. ولكن ينبغي أن يتنبه قبل الزوال بقدر الاستعداد للصلاة بالوضوء وحضور المسجد قبل دخول وقت الصلاة فإن ذلك من فضائل الأعمال وإن لم ينم ولم يشتغل بالكسب واشتغل بالصلاة والذكر فهو أفضل أعمال النهار لأنه وقت غفلة الناس عن الله عز وجل واشتغالهم بهموم الدنيا فالقلب المتفرغ لخدمة ربه عند إعراض العبيد عن بابه جدير بأن يزكيه الله تعالى ويصطفيه لقربه ومعرفته. وفضل ذلك كفضل إحياء الليل فإن الليل وقت الغفلة بالنوم وهذا وقت الغفلة باتباع الهوى والاشتغال بهموم الدنيا وأحد معنى قوله تعالى: "وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر" أي يخلف أحدهما الآخر في الفضل والثاني: أنه يخلفه فيتدارك فيه ما فات في أحدهما.
الورد الرابع: ما بين الزوال إلى الفراغ من صلاة الظهر وراتبته وهذا أقصر أوراد النهار وأفضلها: فإذا كان قد توضأ قبل الزوال وحضر المسجد فهمهما زالت الشمس وابتدأ المؤذن الأذان فليصبر إلى الفراغ من جواب أذانه ثم ليقم إلى إحياء ما بين الأذان والإقامة فهو وقت الإظهار الذي أراده الله تعالى بقوله "وحين تظهرون" وليصل في هذا الوقت أربع ركعات لا يفصل بينهن بتسليمة واحدة وهذه الصلاة وحدها من بين سائر صلوات النهار نقل بعض العلماء أنه يصليها بتسليمة واحدة ولكن طعن في تلك الرواية، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يصلي مثنى مثنى كسائر النوافل ويفصل بتسليمة وهو الذي صحت به الأخبار وليطول هذه الركعات إذ فيها تفتح أبواب السماء كما أوردنا الخبر فيه في باب صلاة التطوع وليقرأ فيها سورة البقرة أو سورة من المئين أو أربعاً من المثاني فهذه ساعات يستجاب فيها الدعاء. وأحب رسول الله ﷺ أن يرتفع له فيها عمل، ثم يصلي الظهر بجماعة بعد أربع ركعات طويلة - كما سبق - أو قصيرة لا ينبغي أن يدعها. ثم ليصل بعد الظهر ركعتين ثم أربعاً فقد كره ابن مسعود أن تتبع الفريضة بمثلها من غير فاصل. ويستحب أن يقرأ في هذه النافلة آية الكرسي وخر سورة البقرة والآيات التي أوردناها في الورد الأول ليكون ذلك جامعاً له بين الدعاء والذكر والقراءة والصلاة والتحميد والتسبيح مع شرف الوقت.
الورد الخامس: ما بعد ذلك إلى العصر ويستحب فيه العكوف في المسجد مشتغلاً بالذكر والصلاة أو فنون الخير ويكون في انتظار الصلاة معتكفاً. فمن فضائل الأعمال انتظار الصلاة بعد الصلاة وكان ذلك سنة السلف. كان الداخل يدخل المسجد بين الظهر والعصر فيسمع المصلين دوياً كدوي النحل من التلاوة. فإن كان بيته أسلم لدينه وأجمع لهمه فالبيت أفضل في حقه فإحياء هذا الورد وهو أيضاً وقت غفلة الناس كإحياء الورد الثالث في الفضل. وفي هذا الوقت يكره النوم لم نام قبل الزوال إذ يكره نومتان بالنهار. قال بعض العلماء: ثلاث يمقت الله عليها، الضحك بغير عجب والأكل من غير جوع والنوم بالنهار من غير سهر بالليل. والحد في النوم أن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة فالاعتدال في نومه ثمان ساعات في الليل والنهار جميعاً فإن نام هذا القدر بالليل فلا معنى للنوم بالنهار، وإن نقص منه مقداراً استوفاه بالنهار فحسب ابن آدم إن عاش ستين سنة أن ينقص من عمره عشرون سنة. ومهما نام ثمان ساعات وهو الثلث فقد نقص من عمره الثلث ولكن لما كان النوم غذاء الروح كما أن الطعام غذاء الأبدان وكما أن العلم والذكر غذاء القلب لم يمكن قطعه عنه وقدر الاعتدال هذا والنقصان منه ربما يفضي إلى اضطراب البدن إلا من يتعود السهر تدريجاً فقد يمرن نفسه عليه من غير اضطراب. وهذا الورد من أطول الأوراد وأمتعها للعباد وهو أحد الآصال التي ذكرها الله تعالى إذ قال "ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال" وإذا سجد لله عز وجل الجمادات فكيف يجوز أن يغفل العبد العاقل عن أنواع العبادات? الورد السادس: إذا دخل وقت العصر دخل وقت الورد السادس وهو الذي أقسم الله تعالى به فقال تعالى "والعصر" هذا أحد معنيي الآية وهو المراد بالآصال في أحد التفسيرين وهو العشي المذكور في قوله "وعشياً" وفي قوله "بالعشي والإشراق" وليس في هذا الورد صلاة إلا أربع ركعات بين الأذان والإقامة - كما سبق في الظهر - ثم يصلي الفرض ويشتغل بالأقسام الأربعة المذكورة في الورد الأول إلى أن ترتفع الشمس إلى رءوس الحيطان وتصفر. والأفضل فيه إذ منع عن الصلاة تلاوة القرآن بتدبر وتفهم إذ يجمع ذلك بين الذكر والدعاء والفكر فيندرج في هذا القسم أكثر مقاصد الأقسام الثلاثة.
الورد السابع: إذا اصفرت الشمس بأن تقرب من الأرض بحيث يغطي نورها العبارات والبخارات التي على وجه الأرض ويرى صفرة في ضوئها دخل وقت هذا الورد وهو مثل الورد الأول من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لأنه قبل الغروب كما أن ذلك قبل الطلوع وهو المراد بقوله تعالى "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون" وهذا هو الطرف الثاني المراد بقوله تعالى "فسبح وأطراف النهار" قال الحسن. كانوا أشد تعظيماً للعشي منهم لأول النهار. وقال بعض السلف: كانوا يجعلون أول النهار للدنيا وآخره للآخرة: فيستحب في هذا الوقت التسبيح والاستغفار خاصة وسائر ما ذكرناه في الورد الأول مثل أن يقول: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله التوبة وسبحان الله العظيم وبحمده، مأخوذ من قوله تعالى "واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار" والاستغفار على الأسماء التي في القرآن أحب كقوله "أستغفر الله إنه كان غفاراً - أستغفر الله إنه كان تواباً - رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين - فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين - فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين " ويستحب أن يقرأ قبل غروب الشمس: والشمس وضحاها والليل إذا يغشى والمعوذتين. ولتغرب الشمس عليه وهو في الاستغفار فإذا سمع الأذان قال، اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك - كما سبق - ثم يجيب المؤذن ويشتغل بصلاة المغرب. وبالغروب قد انتهت أوراد النهار فينبغي أن يلاحظ العبد أحواله ويحاسب نفسه فقد انقضى من طريقه مرحلة، فإن ساوى يومه أمسه فيكون مغبوناً وإن كان شراً منه فيكون ملعوناً فقد قال ﷺ "لا بورك لي في وم لا أزداد فيه خيراً" فإن رأى نفسه متوفراً على الخير جميع نهاره مترفهاً عن التجشم كانت بشارة فليشكر الله تعالى على توفيقه وتسديده إياه لطريقه وإن تكن الأخرى فالليل خلقة النهار فليعزم على تلافي ما سبق من تفريطه فإن الحسنات يذهبن السيئات. وليشكر الله تعالى على صحة جسمه وبقاء بقية من عمره طول ليله ليشتغل بتدارك تقصيره وليحضر في قلبه أن نهار العمر له آخر تغرب فيه شمس الحياة فلا يكون لها بعدها طلوع. وعند ذلك يغلق باب التدارك والاعتذار فليس العمر إلا أياماً معدودة تنقضي لا محالة جملتها بانقضاء آحادها.
بيان أوراد الليل وهي خمسة الأول: إذا غربت الشمس صلى المغرب واشتغل بإحياء ما بين العشاءين فآخر هذا الورد عند غيبوبة الشفق أعني الحمرة التي بغيبوبتها يدخل وقت العتمة وقد أقسم الله تعالى به فقال "فلا أقسم بالشفق" والصلاة فيه هي ناشئة الليل لأنه أول نشو ساعاته وهو آن من الآناء المذكورة في قوله تعالى "ومن آناء الليل فسبح" وهي صلاة الأوابين. وهي المراد بقوله تعالى "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" روي ذلك عن الحسن وأسنده ابن أبي زياد إلى رسول الله ﷺ "أنه سئل عن هذه الآية فقال ﷺ: الصلاة بين العشاءين، ثم قال ﷺ: عليكم بالصلاة بين العشاءين فإنها تذهب بملاغات النهار وتهذب آخره" والملاغات جمع ملغاة من اللغو. وسئل أنس رحمه الله عمن ينام بين العشاءين فقال: لا تفعل فإنها الساعة المعنية بقوله تعالى "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" وسيأتي فضل إحياء ما بين العشاءين في الباب الثاني. وترتيب هذا الورد أن يصلي بعد المغرب ركعتين أولاً يقرأ فيهما قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ويصليهما عقيب المغرب من غير تخلل كلام ولا شغل ثم يصلي أربعاً يطيلها ثم يصلي إلى غيبوبة الشفق ما تيسر له. وإن كان المسجد قريباً من المنزل فلابأس أن يصليها في بيته إن لم يكن عزمه العكوف في المسجد وإن عزم عن العكوف في انتظار العتمة فهو الأفضل إذا كان آمناً من التصنع والرياء.
والورد الثاني: يدخل بدخول وقت العشاء الآخرة إلى حد نومة الناس وهو أول استحكام الظلام وقد أقسم الله تعالى به إذ قال "والليل وما وسق" أي وما جمع من ظلمته وقال "إلى غسق الليل" فهناك يغسق الليل وتستوسق ظلمته. وترتيب هذا الورد بمراعاة ثلاثة أمور الأول أن يصلي سوى فرض العشاء عشر ركعات: أربعاً قبل الفرض إحياء لما بين الأذانين وستاً بعد الفرض ركعتين ثم أربعاً ويقرأ فيها من القرآن الآيات المخصوصة كآخر البقرة وآية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر وغيرها. والثاني أن يصلي ثلاث عشرة ركعة آخرهن الوتر فإنه أكثر ما روي أن النبي ﷺ صلى بها من الليل والأكياس يأخذون أوقاتهم من أول الليل والأقوياء من آخره. والحزم التقديم فإنه ربما لا يستيقظ أو يثقل عليه القيام إلا إذا صار ذلك عادة له فآخر الليل أفضل. ثم ليقرأ في هذه الصلاة قدر ثلثمائة آية من السور المخصوصة التي كان النبي ﷺ يكثر قراءتها مثل يس وسجدة لقمان وسورة الدخان وتبارك الملك والزمر والواقعة فإن لم يصل فلا يدع قراءة هذه السور أو بعضها قبل النوم فقد روي في ثلاث أحاديث ما كان يقرؤه رسول الله ﷺ في كل ليلة أشهرها: السجدة وتبارك الملك والزمر والواقعة وفي رواية: الزمر وبني إسرائيل وفي أخرى: أنه كان يقرأ المسبحات في كل ليلة ويقول فيها آية أفضل من ألف آية وكان العلماء يجعلونها ستاً فيزيدون سبح اسم ربك الأعلى إذ في الخبر "أنه ﷺ كان يحب سبح اسم ربك الأعلى. وكان يقرأ في ثلاث ركعات الوتر ثلاث سور سبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون والإخلاص فإذا فرغ قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات" الثالث الوتر: وليوتر قبل النوم إن لم يكن عادته القيام قال أبو هريرة رضي الله عنه: أوصاني رسول الله ﷺ أن لا أنام إلا على وتر وإن كان معتاداً صلاة الليل فالتأخير أفضل. قال ﷺ "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة" وقالت عائشة رضي الله عنها "أوتر رسول الله ﷺ أول الليل وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر" وقال علي رضي الله عنه: الوتر على ثلاثة أنحاء إن شئت أوترت أول الليل ثم صليت ركعتين ركعتين يعني أنه يصير وتراً بما مضى وإن شئت أوترت بركعة فإذا استيقظت شفعت إليها أخرى ثم أوترت من آخر الليل وإن شئت أخرت الوتر ليكون آخر صلاتك، هذا ما روي عنه والطريق الأول والثالث لابأس به وأما نقض الوتر فقد صح فيه نهي فلا ينبغي أن ينقض وروي مطلقاً أنه ﷺ قال "لا وتران في ليلة" ولمن يتردد في استيقاظه تلطف استحسنه بعض العلماء وهو أن يصلي بعد الوتر ركعتين جالساً على فراشه عند النوم كان رسول الله ﷺ يزحف إلى فراشه ويصليهما ويقرأ فيهما إذا زلزت وألهاكم لما فيهما من التحذير والوعيد وفي رواية قل يا أيها الكافرون لما فيها من التبرئة وإفراد العبادة لله تعالى، فقيل إن استيقظ قامتا مقام ركعة واحدة وكان له أن يوتر بواحدة في آخر صلاة الليل وكأنه صار ما مضى شفعا بهما. وحسن استئناف الوتر واستحسن هذا أبو طالب المكي وقال فيه ثلاثة أعمال قصر الأمل وتحصيل الوتر والوتر آخر الليل، وهو كما ذكره لكن ربما يخطر أنهما لو شفعتا ما مضى لكان كذلك، وإن لم يستيقظ وأبطل وتره الأول فكونه شافعاً إن استيقظ غير مشفع إن نام فيه نظر إلا أن يصح من رسول الله ﷺ إيتاره قبلهما وإعادته الوتر فيفهم منه أن الركعتين شفع بصورتهما وتر بمعناهما فيحسب وتراً إن لم يستيقظ وشفعاً إن استيقظ. ثم يستحب بعد التسليم من الوتر أن يقول سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح جللت السموات والأرض بالعظمة والجبروت، وتعززت بالقدرة وقهرت العباد بالموت روي "أنه ﷺ ما مات حتى كان أكثر صلاته جالساً إلا المكتوبة وقد قال "للقاعد نصف أجر القائم وللنائم نصف أجر القاعد" وذلك يدل على صحة النافلة دائماً.
الورد الثالث: النوم ولابأس أن يعد ذلك في الأوراد فإنه إذا روعيت آدابه احتسب عبادة فقد قيل: إن للعبد إذا نام على طهارة وذكر الله تعالى يكتب مصلياً حتى يستيقظ ويدخل في شعاره ملك فإن تحرك في نومه فذكر الله تعالى دعا له الملك واستغفر له الله" وفي الخبر "إذا نام على طهارة رفع روحه إلى العرش" هذا في العوام فكيف بالخواص والعلماء وأرباب القلوب الصافية? فإنهم يكاشفون بالأسرار في النوم ولذلك قال ﷺ "نوم العالم عبادة ونفسه تسبيح" وقال معاذ لأبي موسى: كيف تصنع في قيام الليل? فقال أقوم الليل أجمع لا أنام منه شيئاً وأتفوق القرآن فيه تفوقاً قال معاذ: لكني أنا أنام ثم أقوم واحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي. فذكرا ذلك لرسول الله ﷺ فقال: معاذ أفقه منك وآداب النوم عشرة الأول الطهارة والسواك: قال ﷺ "إذا نام العبد على طهارة عرج بروحه إلى العرش فكانت رؤياه صادقة وإن لم ينم على طهارة قصرت روحه عن البلوغ فتلك المنامات أضغاث أحلام لا تصدق" وهذا أريد به طهارة الظاهر والباطن جميعاً، وطهارة الباطن هي المؤثرة في انكشاف حجب الغيب الثاني أن يعد عنه رأسه سواكه وطهوره وينوي القيام للعبادة عند التيقظ وكلما يتنبه يستاك؛ كذلك كان يفعله بعض السلف. وروي عن رسول الله ﷺ "أنه كان يستاك في كل ليلة مراراً عند كل نومة وعند التنبه منها وإن لم يتسير له الطهارة يستحب له مسح الأعضاء بالماء فإن لم يجد فليقعد وليستقبل القبلة وليشتغل بالذكر والدعاء والتفكر في آلاء الله تعالى وقدرته فذلك يقوم مقام قيام الليل. وقال ﷺ "من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من الله تعالى" الثالث أن لا يبيت من له وصية إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه فإنه لا يأمن القبض في النوم فإن من مات من غير وصية لم يؤذن له في الكلام بالبرزخ إلى يوم القيامة، يتزاوره الأموات ويتحدثون وهو لا يتكلم فيقول بعضهم لبعض هذا المسكين مات من غير وصية، وذلك مستحب خوف موت الفجأة وموت الفجأة تخفيف إلا لمن ليس مستعداً للموت بكونه مثقل الظهر بالمظالم الرابع أن ينام تائباً من كل ذنب سليم القلب لجميع السملمين لا يحدث نفسه بظلم أحد، ولا يعزم على معصية إن استيقظ، قال صلى الله عليه وآله وسلم "من أوى إلى فراشه لا ينوي ظلم أحد ولا يحدق على أحد غفر له ما اجترم" الخامس أن لا يتنعم بتمهيد الفرش الناعمة بل يترك ذلك أو يقتصد فيه. كان بعض السلف يكره التمهيد للنوم ويرى ذلك تكلفاً. وكان أهل الصفة لا يجعلون بينهم وبين التراب حاجزاً ويقولون منها خلقنا وإليها نرد وكانوا يرون ذلك أرق لقلوبهم وأجدر بتواضع نفوسهم فمن لم تسمح بذلك نفسه فليقتصد السادس أن لا ينام ما لم يغلبه النوم ولا يتكلف استجلابه إلا إذا قصد به الاستعانة على القيام في آخر الليل فقد كان نومهم غلبة وأكلهم فاقة وكلامهم ضرورة ولذلك وصفوا بأنهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وإن غلبة النوم عن الصلاة والذكر وصار لا يدري ما يقول فلينم حتى يعقل ما يقول. وكان ابن عباس رضي الله عنه يكره النوم قاعداً وفي الخبر "لا تكابدوا الليل" وقيل لرسول الله ﷺ "إن فلانة تصلي بالليل فإذا غلبها النوم تعلقت بحبل فنهى عن ذلك وقال: ليصل أحدكم من الليل ما تيسر له فإذا غلبه النوم فليرقد" وقال ﷺ "تكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا" وقال ﷺ "خير هذا الدين أيسره" وقيل له ﷺ "إن فلاناً يصلي ف لا ينام ويصوم فلا يفطر فقال لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر هذه سنتي فمن رغب عنها فليس مني" وقال ﷺ "لا تشادوا هذا الدين فإنه متين فمن يشاده يغلبه فلا تبغض إلى نفسك عبادة الله" السابع أن ينام مستقبل القبلة. والاستقبال على ضربين أحدهما. استقبال المحتضر - وهو المستلقي على قفاه - فاستقباله أن يكون وجهه وأخمصاه إلى القبلة. والثاني: استقبال اللحد وهو أن ينام على جنب بأن يكون وجهه إليها مع قبالة بدنه إذا نام على شقه الأيمن الثامن الدعاء عند النوم فيقول باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إلى آخر الدعوات المأثورة التي أوردناها في كتاب الدعوات ويستحب أن يقرأ الآيات المخصوصة مثل آية الكرسي وآخر البقرة وغيرهما وقوله تعاالى "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو" إلى قوله "لقوم يعقلون" يقال إن من قرأها عند النوم حفظ الله عليه القرآن فلم ينسه ويقرأ من سورة الأعراف هذه الآية "إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام" إلى قوله "قريب من المحسنين" وآخر بني آسرائيل "قل ادعوا اله" الآيتين فإنه يدخل في شعاره ملك يوكل بحفظه فيستغفر له ويقرأ المعوذتين وينفث بهن في يديه ويمسح بهما وجهه وسائر جسده، كذلك روي من فعل رسول الله ﷺ وليقرأ عشراً من أول الكهف وعشراً من آخرها وهذه الآي للاستيقاظ لقيام الليل. وكان علي كرم الله وجهه يقول: ما أرى أن رجلاً مستكملاً عقله ينام قبل أن يقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة وليقل خمساً وعشرين مرة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ليكون مجموع هذه الكلمات الأربع مائة مرة التاسع أن يتذكر عند النوم أن النوم نوع وفاة والتيقظ نوع بعث قال الله تعالى "الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها" وقال "وهو الذي يتوفاكم بالليل" فسماه توفياً وكما أن المستيقظ تنكشف له مشاهدات لا تناسب أحواله في النوم فكذلك المبعوث يرى ما لم يخطر قط بباله ولا شاهده حسه. ومثل النوم بين الحياة والموت مثل البرزخ بين الدنيا والآخرة. وقال لقمان لابنه: يا بني إن كنت تشك في الموت فلا تنم فكما أنك تنام كذلك تموت، وإن كنت تشك في البعث فلا تنتبه فكما أنك تنتبه فكما أنك تنتبه بعد نومك فكذك تبعث بعد موتك. وقال كعب الأحبار: إذا نمت فاضطجع على شقك الأيمن واستقبل القبلة بوجهك فإنها وفاة. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ آخر ما يقول حين ينام وهو واضع خده على يده اليمنى وهو يرى أنه ميت في ليلته تلك اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء ومليكه" الدعاء إلى آخره كما ذكرناه في كتاب الدعوات. فحق على العبد أن يفتش عن ثلاثة عند نومه: أنه على ماذا ينام وما الغالب عليه حب الله تعالى وحب لقائه أو حب الدنيا? وليتحقق أنه يتوفى على ما هو الغالب عليه ويحشر على ما يتوفى عليه فإن المرء مع من أحب ومع ما أحب العاشر الدعاء عند التنبه فليقل في تيقظاته وتقلباته مهما كان يقوله رسول الله ﷺ "لا إله إلا الله الواحد القهار رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار" وليجتهد أن يكون آخر ما يجري على قلبه عند النوم ذكر الله تعالى وأول ما يريد على قلبه عند التيقظ ذكر الله تعالى فهو علامة الحب. ولا يلازم القلب وإنما استحبت هذه الأذكار لتستجر القلب إلى ذكر الله تعالى، فإذا استيقظ ليقوم قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور. إلى آخر ما أوردناه من أدعية التيقظ.
الورد الرابع: يدخل بمضي النصف الأول من الليل إلى أن يبقى من الليل سدسه وعد ذلك يقوم العبد المتهجد. فاسم التهجد يختص بما بعد الهجود والهجوع وهو النوم وهذا وسط الليل ويشبه الورد الذي بعد الزوال وهو وسط النهار وبه أقسم الله تعالى فقال "والليل إذا سجى" أذ إذا سكن وسكونه هدوه في هذا الوقت فلا تبقى عين إلا نائمة سوى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. وقيل إذا سجى إذا امتد وطال وقيل إذا أظلم. وسئل رسول الله ﷺ "أي الليل أسمع? فقال جوف الليل" وقال داود ﷺ: إلهي إني أحب أن أتعبد لك فأي وقت أفضل? فأوحى الله تعالى إليه يا داود لا تقم أول الليل ولا آخره، فإن من قام أوله نام آخره، ومن قام آخره لم يقم أوله، ولكن قم وسط الليل حتى تخلو بي وأخلو بك، وارفع إلي حوائجك وسئل رسول الله ﷺ "أي الليل أفضل? فقال: نصف الليل الغابر" يعني الباقي وفي آخر الليل وردت الأخبار باهتزاز العرش وانتشار الرياح من جنات عدن ومن نزول الجبار تعالى إلى سماء الدنيا وغير ذلك من الأخبار. وترتيب هذا الورد أنه بعد الفراغ من الأدعية التي للاستيقاظ ويتوضأ وضوءاً - كما سبق - بسننه وآدابه وأدعيته. ثم يتوجه إلى مصلاه ويقوم مستقبلا القبلة، ويقول "الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً" ثم يسبح عشراً وليحمد الله عشراً ويهلل عشراً وليقل "الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة والجلال والقدرة" وليقل هذه الكلمات فإنها مأثورة عن رسول الله ﷺ في قيامه للتهجد "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ولك الحمد أنت بهاء السموات والأرض ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ومن عليهن أنت الحق ومنك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنشور حق والنبيون حق ومحمد ﷺ حق. اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وأسرفت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم اهدني لأحسن الأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت أسألك مسألة البائس المسكين وأدعوك دعاء المفتقر الذليل فلا تجعلني بدعائك رب شقياً وكن بي رءوفاً رحيماً يا خير المسئولين وأكرم المعطين وقالت عائشة رضي الله عنها "كان ﷺ إذا قام من الليل الفتتح صلاته قال: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" ثم يفتتح الصلاة ويصلي ركعتين خفيفتين. ثم يصلي مثنى مثنى ما تيسر له ويختم بالوتر إن لم يكن قد صلى الوتر. ويستحب أن يفصل بين الصلاتين عند تسليمه بمائة تسبيحة ليستريح ويزيد نشاطه للصلاة وقد صح في صلاة رسول الله ﷺ بالليل أنه صلى أولاً ركعتين خفيفتين ثم ركعتين طويلتين ثم ركعتين دون اللتين قبلهما ثم لم يزل يقصر بالتدريج إلى ثلاث عشرة ركعة وسئلت عائشة رضي الله عنها "أكان رسول الله ﷺ يجهر في قيام الليل أم يسر? فقالت: ربما جهر وربما أسر وقال ﷺ "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة" وقال "صلاة المغرب أوترت صلاة النهار فأوتروا صلاة الليل" وأكثر ما صح عن رسول الله ﷺ في قيام الليل ثلاث عشرة ركعة ويقرأ في هذه الركعات من ورده من القرآن أو من السور المخصوصة ما خف عليه وهو في حكم هذا الورد قريب من السدس الأخير من الليل.
الورد الخامس: السدس الأخير من الليل وهو وقت السحر فإن الله تعالى قال "وبالأسحار هم يستغفرون" قيل يصلون لما فيها من الاستغفار وهو مقارب للفجر الذي هو وقت انصراف ملائكة الليل وإقبال ملائكة النهار وقد أمر بهذا الورد سلمان أخاه أبا الدرداء رضي الله عنهما ليلة زاره في حديث طويل قال في آخره "فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم فقال له سلمان: نم فنام ثم ذهب ليقوم فقال له: نم فنام فلما كان عند الصبح قال له سلمان: قم الآن، فقاما فصليا فقال: إن لنفسك عليك حقاً وإن لضيفك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه، وذلك أن امرأة أبي الدرداء أخبرت سلمان أنه لا ينام الليل قال: فأتيا النبي ﷺ فذكرا ذلك له فقال: صدق سلمان. وهذا هو الورد الخامس وفيه يستحب السحور وذلك عند خوف طلوع الفجر والوظيفة في هذين الوردين الصلاة. فإذا طلع الفجر انقضت أوراد الليل ودخلت أوراد النهار فيقوم ويصلي ركعتي الفجر وهو المراد بقوله تعالى "ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم" ثم يقرأ "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة" إلى آخرها. ثم يقول وأنا أشهد بما شهد الله به لنفسه وشهدت به ملائكته وأولو العلم من خلقه وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله تعالى وديعة وأسأله حفظها حتى يتوفاني عليها. اللم احطط عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً واحفظها علي وتوفني عليها حتى ألقاك بها غير مبدل تبديلاً. فهذا ترتيب الأوراد للعباد وقد كانوا يستحبون أن يجمعوا مع ذلك في كل يوم بين أربعة أمور صوم وصدقة وإن قلت وعيادة مريض وشهود جنازة ففي الخبر "من جمع بين هذه الأربع في يوم غفر له" وفي رواية "دخل الجنة" فإن أنفق بعضها وعجز عن الآخر كان له أجر الجميع بحسب نيته وكانوا يكرهون أن ينقضي اليوم ولم يتصدقوا فيه بصدقة ولو بتمرة أو بصلة أو كسرة خبز لقوله ﷺ "الرجل في صدقته حتى يقضى بين الناس" ولقوله ﷺ "اتقوا النار ولو بشق تمرة" ودفعت عائشة رضي الله عنها إلى سائل عنبة واحدة فأخذها فنظر من كان عندها بعضهم إلى بعض فقالت: ما لكم إن فيها لمثاقيل ذر كثير? وكانوا لا يستحبون رد السائل إذ كان من أخلاق رسول الله ﷺ ذلك ما سأله أحد شيئاً فقال: لا، ولكنه إن لم يقدر عليه سكت وفي الخبر "يصبح ابن آدم وعلى كل سلامى من جسده صدقة يعني المفصل وفي جسده ثلثمائة وستون مفصلاً فأمرك بالمعروف صدقة ونهيك عن المنكر صدقة وحملك عن الضعيف صدقة وهدايتك إلى الطريق صدقة وإماطتك الأذى صدقة حتى ذكر التسبيح والتهليل. ثم قال وركعتا الضحى تأتي على ذلك كله أو تجمعن لك ذلك كله".
بيان اختلاف الأوراد باختلاف الأحوال
اعلم أن المريد لحرث الآخرة السالك لطريقها لا يخلو عن ستة أحوال فإنه: إما عابد وإما عالم وإما متعلم وإما وال وإما محترف وإما موحد مستغرق بالواحد الصمد عن غيره الأول العابد: وهو المتجرد للعبادة الذي لا شغل له غيرها أصلاً ولو ترك العبادة لجلس بطالاً فترتيب أوراده ما ذكرناه، نعم لا يبعد أن تختلف وظائفه بأن يستغرق أكثر أوقاته إما في الصلاة أو القراءة أو التسبيحات فقد كان في الصحابة رضي الله عنهم من ورده في اليوم اثنا عشر ألف تسبيحة. وكان فيهم من ورده ثلاثون ألفاً. وكان فيهم من ورده ثلثمائة ركعة إلى ستمائة وإلى ألف ركعة. وأقل ما نقل في أورادهم من الصلاة مائة ركعة في اليوم والليلة. وكان بعضهم أكثر ورده القرآن وكان يختم الواحد منهم في اليوم مرة وروى مرتين عن بعضهم: وكان بعضهم يقضي اليوم أو الليل في التفكر في آية واحدة يرددها. وكان كرز بن وبرة مقيماً بمكة فكان يطوف في كل يوم سبعين أسبوعاً وفي كل ليلة سبعين أسبوعاً وكان مع ذلك يختم القرآن في اليوم والليلة مرتين. فحسب ذلك فكان عشرة فراسخ ويكون مع كل أسبوع ركعتان فهو مائتان وثمانون ركعة ةختمتان وعشرة فراسخ. فإن قلت: فما الأولى أن يصرف إليه أكثر الأوقات من هذه الأوراد فاعلم أن قراءة القرآن في الصلاة قائماً مع التدبر يجمع الجميع ولكن ربما تعسر المواظبة عليه فالأفضل يختلف باختلاف حال الشخص ومقصود الأوراد تزكية القلب وتطهيره وتحليته بذكر الله تعالى وإيناسه به فلينظر المريد إلى قلبه فما يراه أشد تأثيراً فيه فليواظب عليه. فإذا أحس بملالة منه فلينتقل إلى غيره ولذلك نرى الأصوب لأكثر الخلق توزيع هذه الخيرات المختلفة على الأوقات - كما سبق - والانتقال فيها من نوع إلى نوع لأن الملال هو الغالب على الطبع وأحوال الشخص الواحد في ذلك أيضاً تختلف. ولكن إذا فهم فقه الأوراد وسرها فليتبع المعنى فإن سمع تسبيحة مثلاً وأحس لها بوقع قلبه فليواظب على تكرارها مادام يجد لها وقعاً. وقد روي عن إبراهيم بن أدهم عن بعض الأبدال أنه قام ذات ليلة يصلي على شاطىء البحر فسمع صوتاً عالياً بالتسبيح ولم ير أحداً فقال من أنت أسمع صوتك ولا أرى شخصك? فقال: أنا ملك من الملائكة موكل بهذا البحر أسبح الله تعالى بهذا التسبيح منذ خلقت قلت: فما اسمك? قال: مهلهيائيل قلت: فما ثواب من قاله? قال: من قاله مائة مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له. والتسبيح هو قوله "سبحان الله العي الديان سبحان الله الشديد الأركان سبحان من يذهب بالليل ويأتي بالنهار سبحان من لا يشغله شأن عن شأن سبحان الله الحنان المنان سبحان الله المسبح في كل مكان" فهذا وأمثاله إذا سمعه المريد ووجد له في قلبه وقعاً فيلازمه. وأياً ما وجد القلب عنده وفتح له فيه خير فليواظب عليه الثاني العالم الذي ينفع الناس بعلمه في فتوى أو تدريس أو تصنيف فترتيبه الأوراد يخالف ترتيب العابد؛ فإنه يحتاج إلى المطالعة للكتب وإلى التصنيف والإفادة، ويحتاج إلى مدة لها لا محالة فإن أمكنه استغراق الأوقات فيه فهو أفضل ما يشتغل به بعد المكتوبات ورواتبها. ويدل على ذلك جميع ما ذكرناه في فضيلة التعليم والتعلم في كتاب العلم. وكيف لا يكون كذلك وفي العلم المواظبة على ذكر الله تعالى? وتأمل ما قال الله تعالى وقال رسوله. وفيه منفعة الخلق وهدايتهم إلى طريق الآخرة ورب مسألة واحدة يتعلمها المتعلم فيصلح بها عبادة عمره ولو لم يتعلمها لكان سعيه ضائعاً. وإنما نعني بالعلم المقدم على العبادة العلم الذي يرغب الناس في الآخرة ويزهدهم في الدنيا أو العلم الذي يعينهم على سلوك طريق الآخرة إذا تعلموه على قصد الاستعانة به على السلوك" دون العلوم التي تزيد بها الرغبة في المال والجاه وقبول الخلق والأولى بالعالم أن يقسم أوقاته أيضاً فإن استغراق الأوقات في ترتيب العلم لا يحتمله الطبع. فينبغي أن يخصص ما بعد الصبح إلى طلوع الشمس بالأذكار والأوراد كما ذكرناه في الورد الأول. وبعد الطلوع إلى ضحوة النهار في الإفادة والتعليم إن كان عنده من يستفيد علماً لأجل الآخرة، وإن لم يكن فيصرفه إلى الفكر ويتفكر فيما يشكل عليه من علوم الدين فإن صفاء القلب بعد الفراغ من الذكر وقبل الاشتغال بهموم الدنيا يعين على التفطن للمشكلات. ومن ضحوة النهار إلى العصر للتصنيف والمطالعة لا يتركها إلا في وقت أكل وطهارة ومكتوبة وقيلولة خفيفة إن طال النهار. ومن العصر إلى الاصفرار يشتغل بسماع ما يقرأ بين يديه من تفسير أو حديث أو علم نافع. ومن الاصفرار إلى الغروب يشتغل بالذكر والاستغفار والتسبيح فيكون ورده الأول قبل طلوع الشمس في عمل اللسان. وورده الثاني في عمل القلب بالفكر إلى الضحوة. وورده الثالث إلى العصر في عمل العين واليد بالمطالعة والكتابة. وورده الرابع بعد العصر في عمل السمع ليروح فيه العين واليد فإن المطالعة والكتابة بعد العصر ربما أضر بالعين. وعند الاصفرار يعود إلى ذكر اللسان فلا يخلو جزء من النهار عن عمل له بالجوارح مع حضور القلب في الجميع. وأما الليل فأحسن قسم فيه قسمة الشافعي رضي الله عنه إذ كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء: ثلثاً للمطالعة وترتيب العلم وهو الأول وثلثاً للصلاة وهو الوسط وثلثاً للنوم وهو الأخير. وهذا يتيسر في ليالي الشتاء، والصيف ربما لا يحتمل ذلك إلا إذا كان أكثر النوم بالنهار فهذا ما نستحبه من ترتيب أوراد العالم الثالث المتعلم: والاشتغال بالتعلم أفضل من الاشتغال بالأذكار والنوافل فحكمه حكم العالم في ترتيب الأوراد ولكن يشتغل بالاستفادة حيث يشتغل العالم بالإفادة وبالتعليق والنسخ حيث يشتغل العالم بالتصنيف ويرتب أوقاته كما ذكرنا. وكل ما ذكرناه في فضيلة التعلم والعلم من كتاب العلم يدل على أن ذلك أفضل. بل إن لم يكن متعلماً على معنى أنه يعلق ويحصل ليصير عالماً. بل كان من العوام فحضوره مجالس الذكر والوعظ والعلم أفضل من اشتغاله بالأوراد التي ذكرناها بعد الصبح وبعد الطلوع وفي سائر الأوقات. ففي حديث أبي ذر رضي الله عنه "أن حضور مجلس ذكر أفضل من صلاة ألف ركعة وشهود ألف جنازة وعيادة ألف مريض" وقال رضي الله عنه "إذا رأيتم رياض الجنة فارتعوا فيها فقيل يا رسول الله وما رياض الجنة? قال حلق الذكر" وقال كعب الأحبار رضي الله عنه: لو أن ثواب مجالس العلماء بدا للناس لاقتتلوا عليه حتى يترك كل ذي إمارة إمارته وكل ذي سوق سوقه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثل جبال تهامة، فإذا سمع العالم خاف واسترجع عن ذنوبه وانصرف إلى منزله وليس عليه ذنب، فلا تفارقوا مجالس العلماء فإن الله عز وجل لم يخلق على وجه الأرض تربة أكرم من مجالس العلماء. وقال رجل للحسن رحمه الله أشكو إليك قساوة قلبي فقال: أدنه من مجالس الذكر.
ورأى عمار الزاهدي مسكينة الطفاوية في المنام وكانت من المواظبات على حلق الذكر فقال: مرحباً يا مسكينة فقالت: هيهات هيهات ذهبت المسكينة وجاء الغنى! فقال: هيه! فقالت: ما تسأل عمن أبيح لها الجنة بحذافيرها? قال: وبم ذلك? قالت: بمجالسة أهل الذكر. وعلى الجملة فما ينجل عن القلب من عقد حب الدنيا بقول واعظ حسن الكلام زكي السيرة أشرف وأنفع من ركعات كثيرة مع اشتمال القلب على حب الدنيا الرابع المحترف الذي يحتاج إلى الكسب لعياله فليس له أن يضيع العيال ويستغرق الأوقات في العبادات بل ورده في وقت الصناعة حضور السوق والاشتغال بالكسب ولكن ينبغي أن لا ينسى ذكر الله تعالى في صناعته بل يواظب على التسبيحات الأذكار وقراءة القرآن فإن ذلك يمكن أن يجمع إلى العمل. وإنما لا يتيسر مع العمل الصلاة إلا أن يكون ناظوراً فإنه لا يعجز عن إقامة أوراد الصلاة معه. ثم مهما فرغ من كفايته ينبغي أن يعود إلى ترتيب الأوراد. وإن داود على الكسب وتصدق بما فضل عن حاجته فهو أفضل من سائر الأوراد التي ذكرناها لأن العبادات المتعدية فائدتها أنفع من اللازمة والصدقة والكسب على هذه النية عبادة له في نفسه تقربه إلى الله تعالى ثم يحصل به فائدة للغير وتتجذب إليه بركات دعوات المسلمين ويتضاعف به الأجر الخامس الوالي: مثل الإمام والقاضي والمتولي في أمور المسلمين فقيامه بحاجات المسلمين وأغراضهم على وفق الشرع وقصد الإخلاص أفضل من الأوراد المذكورة فحقه أن يشتغل بحقوق الناس نهاراً ويقتصر على المكتوبة ويقيم الأوراد المذكورة بالليل، كما كان عمر رضي الله عنه يفعله إذ قال: مالي وللنوم فلو نمت بالنهار ضيعت المسلمين ولو نمت بالليل ضيعت نفسي. وقد فهمت بما ذكرناه أنه يقدم على العبادات البدنية أمران أحدهما: العلم، والآخر: الرفق بالمسلمين، لأن كل واحد من العلم وفعل المعروف عمل في نفسه وعبادة تفضل سائر العبادات يتعدى فائدته وانتشار جدواه فكانا مقدمين عليه السادس الموحد المستغرق بالواحد الصمد الذي أصبح وهمومه هم واحد فلا يحب إلا الله تعالى ولا يخاف إلا منه ولا يتوقع الرزق من غيره ولا ينظر في شيء إلا ويرى الله تعالى فيه. فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة لم يفتقر إلى تنويع الأوراد واختلافها بل كان ورده بعد المكتوبات واحد وهو حضور القلب مع الله تعالى في كل حال، فلا يخطر بقلوبهم أمر ولا يقرع سمعهم قارع ولا يلوح لأبصارهم لائح إلا كان لهم فيه عبرة وفكر ومزيد، فلا محرك لهم ولا مسكن إلا الله عز وجل كما قال تعالى "لعلكم تذكرون ففروا إلى الله" وتحقق فيها قوله تعالى "وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته" وإليه الإشارة بقوله "إني ذاهب إلى ربي سيهدين" وهذه منتهى درجات الصديقين ولا وصول إليها إلا بعد ترتيب الأوراد والمواظبة عليها دهراً طويلاً فلا ينبغي أن يغتر المريد بما سمعه من ذلك فيدعيه لنفسه ويفتر عن وظائف عبادته فذلك علامته أن لا يهجس في قلبه وسواس ولا يخطر في قلبه معصية ولا تزعجه هواجم الأهوال ولا تستفزه عظائم الأشغال. وأنى ترزق هذه الرتبة لكل أحد. فيتعين على الكافة ترتيب الأوراد كما ذكرناه وجميع ما ذكرناه طرق إلى الله تعالى قال تعالى "قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً" فكلهم مهتدون وبعضهم أهدى من بعض. وفي الخبر "الإيمان ثلاث وثلاثون وثلثمائة طريقة من لقي الله تعالى على طريق منها دخل الجنة" وقال بعض العلماء: الإيمان ثلثمائة وثلاثة عشر خلقاً بعدد الرسل فكل مؤمن على خلق منها فهو سالك الطريق إلى الله. فإذن الناس وإن اختلفت طرقهم في العبادة فكلهم على الصواب "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب" وإنما يتفاوتون في درجات القرب لا في أصله، وأقربهم إلى الله تعالى أعرفهم به، وأعرفهم به لابد وأن يكون أعبدهم له؛ فمن عرفه لم يعبد غيره. والأصل في الأوراد في حق كل صنف من الناس المداومة فإن المراد منه تغيير الصفات الباطنة. وآحاد الأعمال يقل آثارها بل لا يحس بآثارها وإنما يترتب الأثر على المجموع فإذا لم يعقب العمل الواحد أثراً محسوساً ولم يردف بثان وثالث على القرب انمحى الأثر الأول وكان كالفقيه يريد أن يكون فقيه النفس فإنه لا يصير فقيه النفس إلا بتكرار كثير؛ فلو بالغ ليلة في التكرار وترك شهراً أو أسبوعاً ثم عاد وبالغ ليلة لم يؤثر هذا فيه. ولو وزع ذلك القدر على الليالي المتواصلة لأثر فيه. ولهذا السر قال رسول الله ﷺ "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل". وسئلت عائشة رضي الله عنها عن عمل رسول الله ﷺ? فقالت: "كان عمله ديمة وكان إذا عمل عملاً أثبته" ولذلك قال ﷺ "من عوده الله عبادة فتركها ملالة مقته الله" وهذا كان السبب في صلاة بعد العصر تداركاً لما فاته من ركعتين شغله عنهما الوفد ثم لم يزل بعد ذلك يصليهما بعد العصر ولكن في منزله لا في المسجد كيلا يقتدى به روته عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما. فإن قلت: فهل لغيره أن يقتدي به في ذلك مع أن الوقت وقت كراهية? فاعلم أن المعاني الثلاثة التي ذكرناها في الكراهية من الاحتراز عن التشبه بعبدة الشمس أو السجود وقت ظهور قرن الشيطان أو الاستراحة عن العبادة حذراً من الملال لا يتحقق في حقه فلا يقاس عليه في ذلك غيره. ويشهد لذلك فعله في المنزل حتى لا يقتدى به ﷺ.