انتقل إلى المحتوى

إحياء علوم الدين/كتاب آداب الكسب والمعاش/الباب الرابع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



الباب الرابع

في الإحسان في المعاملة


وقد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعاً، والعدل سبب النجاة فقط، وهو يجري من التجارة مجرى رأس المال. والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة، وهو يجري من التجارة مجرى الربح، ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله، فكذا في معاملات الآخرة، فلا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان، وقد قال الله: "وأحسن كما أحسن الله إليك" وقال عز وجل: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" وقال سبحانه: "إن رحمة الله قريب من المحسنين" ونعني بالإحسان: فعل ما ينتفع به المعامل وهو غير واجب عليه،ولكنه تفضل منه، فإن الواجب يدخل في باب العدل وترك الظلم وقد ذكرناه، وتنال رتبة الإحسان بواحد من ستة أمور:

الأول: في المغابنة، فينبغي أن لا يغبن صاحبه بما العادة،فأما أصل المغابنة فمأذون فيه؛ لأن البيع للربح، ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، ولكن يراعي فيه التقريب، فإن بذل المشتري زيادة على الربح المعتاد إما لشدة رغبته أو لشدة حاجته في الحال إليه، فينبغي أن يمتنع من قبوله، فذلك من الإحسان. ومهما لم يكن تلبيس لم يكن أخذ الزيادة ظلماً وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الغبن بما يزيد على الثلث يوجب الخيار، ولسنا نرى ذلك، ولكن من الإحسان أن يحط ذلك الغبن. يروى أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان، ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها، فاشتراها فمضى بها وهي على يديه، فاستقبله يونس فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت? فقال بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها، فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها، فقال له يونس: انصرف فإن النصح في الدين خر من الدنيا بما فيها، ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال: أما استحييت، أما اتقيت الله، تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين، فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها، قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك، وهذا إن كان فيه إخفاء سعر وتلبيس، فهو من باب الظلم وقد سبق، وفي الحديث: "غبن المسترسل حرام" وكان الزبير بن عدي يقول: أدركت ثمانية عشر من الصحابة ما منهم أحد يحسن يشتري لحماً بدرهم، فغبن مثل هؤلاء المسترسلين ظلم، إن كان من غير تلبيس فهو من ترك الإحسان، وقلما يتم هذا إلا بنوع تلبيس وإخفاء سعر الوقت.

وإنما الإحسان المحض ما نقل عن السري السقطي أنه اشترى كر لوز بستين ديناراً وكتب في روزنامجه ثلاثة دنانير ربحه، وكان رأى أن يربح على العشرة نصف دينار، فصار اللوز بتسعين، فأتاه الدلال وطلب اللوز فقال: خذه. قال: بكم? فقال: بثلاثة وستين، فقال الدلال وكان من الصالحين: فقد صار اللوز بتسعين، فقال السري:قد عقدت عقداً لا أحله، لست أبيعه إلا بثلاثة وستين، فقال الدلال: وأنا عقدت بيني وبين الله أن لا أغش مسلماً، لست آخذ منك إلا بتسعين،قال: فلا الدلال اشترى منه، ولا السري باعه، فهذا محض الإحسان من الجانبين، فإنه مع العلم بحقيقة الحال.

وروي عن محمد بن المنكدر أنه كان له شقق بعضها بخمسة وبعضها بعشرة، فباع غلامه في غيبته شقة من الخمسيات بعشرة، فلما عرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتى ووجده،فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة، فقال: يا هذا قد رضيت، فقال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك،وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك، فقال: أعطني خمسة، فرد عليه خمسة وانصرف الأعرابي يسأل ويقول: من هذا الشيخ? فقيل له: هذا محمد بن المنكدر، فقال: لا إله إلا الله، هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا. فهذا إحسان في أن لا يربح على العشرة إلا نصفاً أو واحداً على ما جرت به العادة في مثل ذلك المتاع في ذلك المكان،ومن قنع بربح قليل كثرت معاملاته واستفاد من تكررها ربحاً كثيراً، وبه تظهر البركة.

كان علي رضي الله عنه يدور في سوق الكوفة بالدرة ويقول: معاشر التجار، خذوا الحق تسلموا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره.

قيل لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ما سبب يسارك? قال: ثلاث، ما رددت ربحاً قط، ولا طلب مني حيوان فأخرت بيعه، ولا بعت بنسيئة، ويقال: إنه باع ألف ناقة فما ربح إلا عقلها: باع كل عقال بدرهم فربح فيها ألفاً وربح من نفقته عليها ليومه ألفاً.

الثاني: في احتمال الغبن، والمشتري إن اشترى طعاماً من ضعيف أو شيئاً من فقير فلا بأس أن يحتمل الغبن ويتساهل، ويكون به محسناً وداخلاً في قوله عليه السلام: "رحم الله امرأً سهل البيع سهل الشراء" فأما إذا اشترى من غني تاجر يطلب الربح زيادة على حاجته، فاحتمال الغبن منه ليس محموداً، بل هو تضييع مال من غير أجر ولا حمد، فقد ورد في حديث من طريق أهل البيت: "المغبون في الشراء لا محمود ولا مأجور"، وكان إياس بن معاوية بن قرة قاضي البصرة وكان من عقلاء التابعين يقول: لست بخب والخب لا يغبنني ولا يغبن ابن سيرين ولكن يغبن الحسن ويغبن أبي ويعني معاوية بن قرة. والكمال في أن لا يغبن ولا يغبن، كما وصف بعضهم عمر رضي الله عنه فقال: كان أكرم من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع. وكان الحسن والحسين وغيرهما من خيار السلف يستقصون في الشراء ثم يهبون مع ذلك الجزيل من المال، فقيل لبعضهم: تستقصي في شرائك على اليسير ثم تهب الكثير ولا تبالي! فقال: إن الواهب يعطي فضله وإن المغبون يغبن عقله. وقال بعضهم: إنما أغبن عقلي وبصري فلا أمكن الغابن منه، وإذا وهبت أعطي لله ولا أستكثر منه شيئاً.

الثالث: في استيفاء الثمن وسائر الديون والإحسان فيه: مرة بالمسامحة وحط البعض، ومرة بالإمهال والتأخير، ومرة بالمساهلة في طلب جودة النقد، وكل ذلك مندوب إليه ومحثوث عليه: قال النبي : "رحم الله امرأً سهل البيع،سهل الشراء، سهل الاقتضاء" فليغتنم دعاء رسول الله . وقال : "اسمح يسمح لك" وقال : "من أنظر معسراً أو ترك له حاسبه الله حساباً يسيراً". وفي لفظ آخر: "أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله". وذكر رسول الله رجلاً كان مسرفاً على نفسه: حوسب فلم يوجد له حسنة، فقيل له: هل عملت خيراً قط? فقال: لا إلا أني كنت رجلاً أداين الناس فأقول لفتياني: سامحوا الموسر وانظروا المعسر. وفي لفظ آخر: وتجاوزوا عن المعسر، فقال الله تعالى: نحن أحق بذلك منه، فتجاوز الله عنه وغفر له" وقال : "من أقرض ديناراً إلى أجل فله بكل يوم صدقةً إلى أجله، فإذا حل الأجل فأنظره بعده فله بكل يوم مثل ذلك الدين صدقةً" وقد كان من السلف من لا يحب أن يقضي غريمه الدين لأجل هذا الخبر، حتى يكون كالمتصدق بجميعه في كل يوم، وقال : "رأيت على باب الجنة مكتوباً: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمان عشرة" فقيل في معناه: إن الصدقة تقع في يد المحتاج وغير المحتاج، ولا يحتمل ذل الاستقراض إلا محتاج. ونظر النبي إلى رجل يلازم رجلاً بدين، فأومأ إلى صاحب الدين بيده أن ضع الشطر ففعل، فقال للمديون: "قم فأعطه" وكل من باع شيئاً وترك ثمنه في الحال ولم يرهق إلى طلبه فهو في معنى المقرض.

وروي أن الحسن البصري باع بلغة له بأربعمائة درهم، فلما استوجب المال قال له المشتري: اسمح يا أبا سعيد. قال: قد أسقطت عنك مائة، قال له: فأحسن يا أبا سعيد، فقال: قد وهبت لك مائة أخرى، فقبض من حقه مائتي درهم. فقيل له: يا أبا سعيد، هذا نصف الثمن، فقال: هكذا يكون الإحسان وإلا فلا.

وفي الخبر: "خذ حقك في كفاف وعفاف واف أو غير واف، يحاسبك الله حساباً يسيرا"

الرابع: في توفية الدين. ومن الإحسان فيه حسن القضا، وذلك بأن يمشي إلى صاحب الحق ولا يكلفه أن يمشي إليه يتقاضاه، فقد قال : "من أدان ديناً وهو ينوي قضاءه وكل الله به ملائكة يحفظونه ويدعون له حتى يقضيه" وكان جماعة من السلف يستقرضون من غير حاجة لهذا الخبر، ومهما كلمه صاحب الحق بكلام خشن فليحتمله وليقابله باللطف، اقتداء برسول الله : إذ جاءه صاحب الدين عند حلول الأجل ولم يكن قد اتفق قضاؤه، فجعل الرجل يشدد الكلام على رسول الله ، فهم به أصحابه فقال: "دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً" ومهما دار الكلام بين المستقرض والمقرض، فالإحسان أن يكون الميل الأكثر للمتوسطين إلى من عليه الدين، فإن المقرض يقرض عن غنى والمستقرض يستقرض عن حاجة، وكذلك ينبغي أن تكون الإعانة للمشتري أكثر؛ فإن البائع راغب عن السلعة يبغي ترويجها، والمشتري محتاج إليها هذا هو الأحسن، إلا أن يتعدى من عليه الدين حده، فعند ذلك نصرته في منعه عن تعديه وإعانة صاحبه، إذ قال : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" ، فقيل: كيف ننصره ظالماً? فقال:" منعك إياه من الظلم نصرة له" الخامس: أن يقيل من يستقيله، فإنه لا يستقيل إلا متندم مستضر بالبيع، ولا ينبغي أن يرضي لنفسه أن يكون سبب استضرار أخيه، قال : " من أقال نادماً صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة" أو كما قال.

السادس: أن يقصد في معاملته جماعة من الفقراء بالنسيئة وهو في الحال عازم على أن لا يطالبهم إن لم تظهر لهم مسيرة، فقد كان في صالحي السلف من له دفتران للحساب: أحدهما ترجمته مجهولة، فيه أسماء من لا يعرفه من الضعفاء والفقراء، وذلك أن الفقير كان يرى الطعام أو الفاكهة فيشتهيه فيقول: أحتاج إلى خمسة أرطال مثلاً من هذا وليس معي ثمنه، فكان يقول: خذه واقض ثمنه عند المسيرة ولم يكن يعد هذا من الخيار، بل عد من الخيار من لم يكن يثبت اسمه في الدفتر أصلاً ولا يجعله ديناً، لكن يقول: خذ ما تريد، فإن يسر لك فاقض، وإلا فأنت في حل منه وسعة، فهذه طرق تجارات السلف وقد اندرست، والقائم به محي لهذه السنة، وبالجملة؛ التجارة محك الرجال، وبها يمتحن دين الرجل وورعه، ولذلك قيل:

لا يغرنك من المرء قميص رقعه
أو إزار فوق كعب الساق منه رفعه
أو جبين لاح فيه أثر قد قلعه
ولدى الدرهم فانظر غيه أو ورعه

ولذلك قيل: إذا أثنى على الرجل جيرانه في الحضر وأصحابه في السفر ومعاملوه في الأسواق فلا تشكوا في صلاحه.

وشهد عند عمر رضي الله عنه شاهد فقال: ائتني بمن يعرفك، فأتاه برجل فأثنى عليه خيراً، فقال عمر: أنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه? قال: لا؛ فقال: كنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق? فقال: لا، قال: فعاملته بالدينار والدرهم الذي يستبين به ورع الرجل? قال: لا، قال: أظنك رأيته قائما في المسجد يهمهم بالقرآن يخفض رأسه طوراً ويرفعه أخرى! قال نعم، فقال: اذهب فلست تعرفه. وقال للرجل: اذهب فائتني بمن يعرفك.