انتقل إلى المحتوى

إحياء علوم الدين/كتاب آداب السفر/الباب الثاني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب الثاني

فيما لابد للمسافر من تعلمه من رخص السفر

وأدلة القبلة والأوقات

أعلم أن المسافر يحتاج في أوّل سفره الى أن يتزوّد لدنياه ولآخرته.

أم زاد الدنيا:فالطعام والشراب وما يحتاج إليه من نفقة.فإن خرج متوكلاً من غير زاد فلا بأس به إذا كان سفره في قافلة أو بين قرى متصلة.وإن ركب البادية وحده أو مع قوم لا طعام معهم ولا شراب فإن كان ممن يصبر على الجوع - أسبوعاً أو عشراً مثلاً - أو يقدر على أن يكتفي بالحشيش فله ذلك.وإن لم يكن له قوّة الصبر على الجوع ولا القدرة على الإجتزاء بالحشيش فخروجه من غير زاد معصية فإنه ألقى نفسه بيده الى التهلكة ولهذا سر سيأتي في كتاب التوكل.

وليس معنى التوكل التباعد عن الأسباب بالكلية،ولو كان كذلك لبطل التوكل بطلب الدلو والحبل ونزع الماء من البئر،ولوجب أن يصبر يسخر اللّه له ملكاً أو شخصاً آخر حتى يصب الماء في فيه.فإن كان حفظ الدلو والحبل لا يقدح فيه.وستأتي حقيقة التوكل في موضعها فإنه يلتبس إلا على المحققين من علماء الدين.

وأما ذاد الآخرة فهو العلم الذي يحتاج إليه في طهارته وصومه وصلاته وعبادته فلا بد وأن يتزود منه،إذ السفر تارة يخفف عنه أموراً فيحتاج الى معرفة القدر الذي يخففه السفر كالقصر والجمع والفطر،وتارة يشدد عليه أموراً كان مستغنياً عنها في الحضر كالعلم بالقبلة وأوقات الصلوات،فإنه في البلد يكتفي بغيره من محاريب وأذان المؤذنين وفي السفر قد يحتاج الى أن يتعرّف بنفسه.فإذن ما يفتقر الى تعلمه ينقسم الى قسمين:

القسم الأول

العلم برخص السفر

والسفر يفيد في الطهارة رخصتين:مسح الخفين والتيمم،وفي صلاة الفرض رخصتين:القصر والجمع،وفي النفل رخصتين:أداؤه على الراحلة وأداؤه ماشياً،وفي الصوم رخصة واحدة وهي الفطر.فهذه سبع رخص.

الرخصة الأولى:المسح على الخفين،قال صفوان بن عسال أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كنا مسافرين أو سفر أن لاننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهنفكل من لبس الخف على طهارة مبيحة للصلاة ثم أحدث فله أن يمسح على خفه من وقت حدثه ثلاثة أيام ولياليهن إن كان مسافراً،أو يوماً وليلة إن كان مقيماً ولكن بخمسة شروط: الأول:أن يكون اللبس بعد كمال الطهارة فلو غسل الرجل اليمنى وأدخلها في الخف ثم غسل اليسرى فأدخلها في الخف لم يجز له المسح عند الشافعي رحمه اللّه حتى ينزع اليمنى ويعيد لبسه .

الثاني:أن يكون الخف قوياً يمكن المشي فيه،ويجوز المسح على الخف وإن لم يكن منعلاً إذ العادة جارية بالتردد فيه في المنازل لأن فيه قوة على الجملة،بخلاف جورب الصوفية فإنه لايجوز المسح عليه وكذا الجرموق الضعيف.

الثالث:أن لايكون في موضع فرض الغسل خرق،فإن تخرق بحيث انكشف محل الفرض لم يجز المسح عليه.وللشافعي قول قديم إنه يجوز مادام يستمسك على الرجل،وهو مذهب مالك رضي اللّه عنه.ولابأس به لمسيس الحاجة إليهوتعذر الخرز في السفر في كل وقت.والمداس المنسوج يجوز المسح عليه مهما كان ساتراً لاتبدو بشرة القدم من خلاله،وكذا المشقوق الذي يرد على محل الشق بشرج لأن الحاجة تمس الى جميع ذلك فلا يعتبر إلا أن يكون ساتراً الى مافوق الكعبين كيفما كان.فأما إذا ستر بعض ظهر القدم وستر الباقي باللفافة لم يجز المسح عليه.

الرابع:أن لاينزع الخف بعد المسح عليه،فإن نزع فالأولى له استئناف الوضوء،فإن اقتصر على غسل القدمين جاز.

الخامس:أن يمسح على الموضع المحاذي لمحل فرض الغسل لا على الساق،وأقله ما يسمى مسحاً على ظهر القدممن الخف.وإذا مسح بثلاث أصابع أجزأه،والأولى أن يخرج من شبهة الخلاف وأكمله أن يمسح أعلاه وأسفله دفعة واحدة من غير تكراركذلك فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.ووصفه:أن يبل اليدين ويضع رؤوس أصابع اليمنى من يده على رؤوس أصابع اليمنى من رجله ويمسحه بأن يجر أصابعه الى جهة نفسه،ويضع رؤوس أصابع يده اليسرى على عقبه من أسفل الخف ويمرها الى رأس القدم.ومهما مسح مقيماً ثم سافر اأو مسافراً ثم أقام غلب حكم الإقامة فليقتصر على يوم وليلة.وعدد الأيام الثلاثة محسوب من وقت حدثه بعد المسح على الخف،فلو لبس الخف في الحضر ومسح في الحضر ثم خرج وأحدث في السفر وقت الزوال مثلاً مسح ثلاثة أيام ولياليهنمن وقت الزوال الى الزوال من اليوم الرابع،فإذا زالت الشمس من اليوم الرابع لم يكن له أن يصلي إلا بعد غسل الرجلين فيغسل رجليه ويعيد لبس الخف،ويراعي وقت الحدث.ولو أحدث بعد لبس الخف في الحضر ثم خرج بعد الحدث فله أن يمسح ثلاثة أيام لأن العادة قد تقتضي اللبس قبل الخروج ثم لا يمكن الاحتراز من الحدث.فأما إذا مسح في الحضر ثم سافر اقتصر على مدة المقيمين.

ويستحب لكل من يريد لبس الخف في حضر أو سفر أن ينكس وينفض ما فيه حذراً من حية أو عقرب أو شوكة.فقد روي عن أبي أمامة أنه قال:دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخفيه فلبس أحدهما؛فجاء غراب فاحتمل الآخر ثم رمى به فخرجت منه حية؛فقال صلى اللّه عليه وسلم"من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يلبس خفيه حتى ينفضهما".

الرخصة الثانية:التيمم بالتراب بدلاً من الماء عند العذر؛إنما يتعذر الماء بأن يكون بعيداً عن المنزل لو مشى إليه لم يلحقه غوث القافلة إن صاح أو استغاث،وهو البعد الذي لا يعتاده أهل المنزل - في تردادهم لقضاء الحاجة - التردد إليه.وكذا إن نزل على الماء عدوّ أو سبع فيجوز التيمم وإن كان الماء قريباً.وكذا إن احتاج إليه لعطشه في يومه لفقد الماء بين يديه فله التيمم.وكذا إن احتاج إليه لعطش أحد رفقائه فلا يجوز له الوضوء،ويلزمه بذله إما بثمن أو بغير ثمن ولو كان يحتاج إليه لطبخ مرقة أو لحم أو لبل فتيت يجمعه به لم يجز له التيمم بل عليه أن يجتزي بالفتيت اليابس ويترك تناول المرقة.ومهما وهب له الماء وجب قبوله،وإن وهب له ثمنه لم يجب قبوله لما فيه من المنة.وإن بيع بثمن المثل لزمه الشراء وإن بيع بغبن لم يلزمه.فإذا لم يكن معه ماء وأراد أن يتيمم فأول ما يلزمه طلب الماء مهما جوّز الوصول إليه بالطلب،وذلك بالتردد حوالي المنزل وتفتيش الرحل وطلب البقايا من الأواني والمطاهر.فإن نسي الماء في رحله أو نسي بئراً بالقرب منه لزمه إعادة الصلاة لتقصيره في الطلب.وإن علم أنه سيجد الماء في آخر الوقت فالأولى أن يصلي بالتيمم في أول الوقت فإن العمر لا يوثق به.وأول الوقت رضوان اللّه.

تيمم ابن عمر رضي اللّه عنهما فقيل له:أتتيمم وجدران المدينة تنظر إليك?فقال:أو أبقى الى أن أدخلها?ومهما وجد الماء بعد الشروع في الصلاة لم تبطل صلاته ولم يلزمه الوضوء.وإذا وجده قبل الشروع في الصلاة لزمه الوضوء.

ومهما طلب فلم يجد فليقصد صعيداً طيباً عليه تراب يثور منه غبار،وليضرب عليه كفيه بعد ضم أصابعهما ضربة فيمسح بها وجهه،ويضرب ضربة أخرى - بعد نزع الخاتم - ويفرج الأصابع ويمسح بها يديه الى مرفقيه فإن لم يستوعب بضربة واحدة جميع يديه ضرب ضربة أخرى،وكيفية التلطف فيه ما ذكرناها في كتاب الطهارة فلا نعيده.

ثم اذا صلى به فريضة واحدة فله ان يتنفل ماشاء بذلك التيمم.وان اراد الجمع بين فريضتين فعليهان يعيد التيمم للصلاة ثانية،فلا يصلى فريضتين الا بتيممين.ولاينبغى ان يتيمم لصلاة قبل دخول وقتها؛فإن فعل وجب عليه اعادة التيمم.ولينوعند مسح الوجه:استباحة الصلاة.ولووجد من الماء مايكفيه لبعض طهارته فيستعمله ثم ليتيمم بعده تيمما تاما.

الرخصة الثالثة:في الصلاة المفروضة،القصر:وله أن يقتصر في كل واحدة من الظهروالعصر والعشاء علىركعتين ولكن بشوط ثلاثة:"الاول" أن يوديهافي أوقاتها فلو صارت قضاء فلاظهر لزوم الاتمام "الثاني"أى ينوي القصر فلو نوى الإتمام لزمه الإتمام،ولو شك في أنه نوى القصر أو الإتمام لزمه الإتمام "الثالث" أي لا يقتدي بمقيم ولابمسافر متم،فإن فعل لزمه الإتمام بل إن شك في ان إمامه مقيم أو مسافر لزمه الإتمام، وان تيقن بعده أنه مسافر لان شعار المسافر لاتخفى فليكن متحققا عند النية،وان شك في أن إمامه هل نوى للقصر أم لابعد أن عرف أنه مسافر لم يضره ذلك،لان النيات لايطلع عليها.وهذا كله إذا كان في سفر طويل مباح.وحد السفر من جهة البداية والنهاية فيه إشكال فلا بد من معرفته.والسفرهو الانتقال من موضع الإقامة مع ربط القصد بمقصد معلوم،فالهائموراكب التعاسيف ليس له الترخيص وهو الذى لايقصد موضعا معينا،ولايصير مسافرا مالم يفارق عمران البلد ولايشترط أن يجاوز خراب البلد وبساتينها التى يخرج أهل البلدة إليها للتنزه. وأما القرية فالمسافر منها ينبغي أن يجاوز البساتين المحوطة دون التى ليست بمحوطة.ولو رجع المسافر إلى البلد لأخذ شىء نسيه لم يترخص إن كان ذلك وطنه ما لم يجاوز العمران،وإن لم يكن ذلك هو الوطن فله الترخص إذ صار مسافرا بالانزعاج والخروج منه .

وأما نهاية السفر فباخذ أمور ثلاثة:"الاول" الوصول إلى العمران من البلد الذى عم على الإقامة به."الثاني" العزم على الإقامة ثلاثة أيام فصاعدا إمافى بلد أوفى صحراء."الثالث" صورة الاقامة وأن لم يعزم كما إذا أقام على موضع واحد ثلاثة أيام سوى يوم الدخول لم يكن له الترخص بعده،وإن لم يعزم على الإقامة وكان له شغل وهو يتوقع كل يوم إنجازه ولكنه يتعوق عليه ويتاخر فله أن يترخص وإن طالت المدة - علىأفيس القولين - لأنه منزعج بلقبه ومسافر عن الوطن بصورته ولامبالاة بصورة الثبوت على موضع واحد مع انزعاج القلب،ولافرق بين أن يكون هذا الشغل قتالا أو غيره،ولابين أن تطول المدة أوتقصر،ولابين أن يتأخر الخروج لمطر لايعلم بقاؤه ثلاثة أيام أو لغيره؛إذ ترخص رسول الله فقصر فى بعض الغزوات ثمانية عشر يوما على موضع واحد?.وظاهر الأمر أنه لو تمادى القتال لتمادى ترخصه؛إذ لامعنى للتقدير بثمانية عشر يوما.والظاهر أن قصره كان لكونه مسافرا لالكون غازيا مقاتلا هذا معنى القصر.

وأما معنى التطويل فهو أن يكون مرحلتين:كل مرحلة ثمانية فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال،وكل ميل أربعة آلاف خطوة،وكل خطوة ثلاثة أقدام.

ومعنى المباح أن لايكون عاقا لوالديه هاربا منهما،ولاهاربا من مالكه،ولاتكون المرأة هاربة من زوجها،ولا أن يكون من عليه الدين هاربا من المستحق مع اليسار، ولايكون متوجها في قطع طريق،أو قتل إو قتل إنسان،أو طلب إدرار حرام من سلطان ظالم،أو سعى بالفساد بين المسلمين.

وبالجملة فلا يسافر الإنسان إلا فى غرض،والغرض هو المحرك.فإن كان تحصيل ذلك الغرض حراما ولولا ذلك الغرض لكان لاينبعث لسفره فسفره معصية ولايجوزفيه الترخص. واما الفسق في السفر بشرب الخمر وغيره فلا يمنع الرخصة.بل كل سفر ينهى الشرع عنه فلا يعين عليه بالرخصة و لو كان له باعثان أحدهما مباح والاخر محظور،وكان بحيث لم يكن الباعث له المحظور لكان المباح مستقبلا بتحريكه ولكان لامحالة يسافرلأجله فله الترخص.والمتصوقة الطوافون في البلاد من غير غرض صحيح سوى التفرج لمشاهدة البقاع المختلفة في ترخصهم خلاف،والمختار أن لهم الترخص .

الرخصة الرابعة،الجمع بين الظهر والعصر في وقتيهما وبين المغرب والعشاء في وقتيهما؛فذلك أيضا جائز في كل سفر طويل مباح،وفي جوازه في السفر القصير قولان.

ثم إن قدم العصر إلى الظهر فلينوالجمع بين الظهر والعصر في وقتيهما قبل الفراغ من الظهر وليؤذن للظهر وليقيم،وعند الفراغ يقيم للعصر،ويجدد التيمم أؤ لا ان كان فرضه التيمم،ولايفرق بينهما بأكثر تيمم واقامة ،فان قدم العصر لم يجز ،وان نوى الجمع عند التحرم بصلاة العصر جاز عند المزنى،وله وجه فى القياس إذلا مستند لايجاب تقديم النية بل الشرع جوز الجمع وهذا جمع،وإنما الرخصة فى العصر فتكفى النية فيها،وأما الظهر فجاز على القانون.ثم إذا فرغ من الصلاتين فينبغي أن يجمع بين سنن الصلاتين؛أما العصر فلا سنة بعدها ولكن السنة التى بعد الظهر يصليها بعد الفراغ من العصر إما راكبا أومقيما،لأنه لو صلى راتبة الظهر قبل العصر لانقطعت الموالاة وهي واجبة - على وجه - ولو أراد أن يقيم الأربع المسنونة قبل الظهر والأربع المسنونة قبل العصر فليجمع بينهن قبل الفريضتين فيصلى سنة الظهر أولا ثم سنة العصر،ثم فريضة الظهر ثم فريضة العصر،ثم سنة الظهر الركعتان اللتان هما بعد الفرض:ولاينبغى أن يهمل النوافل فى السفر فما يفوته من ثوابها أكثر مما يناله من الربح؛لاسيماوقد خفف الشرع عليه وجوز له أداءها على الراحلة كى لايتعوق عن الرفقة بسببها.وإن أخر الظهر إلى العصر فيجري على هذا الترتيب ولايبالي بوقوع راتبة الظهر بعد العصر فى الوقت المكروه لأن ماله سبب لايكره فى هذا الوقت،وكذلك يفعل في المغرب والعشاء والوتر.وإذا قدم أوأخر فبعد الفراغ من الفرض يشتغل بجميع الرواتب ويختم الجميع بالوتر.وإن خطر له ذكر الظهر قبل خروج وقته فليغرم على أدائه مع العصر جميعا فهو نية الجمع؛لأنه إنما يخلو عن هذه النية إمابنية الترك أو بنية التأخر عن وقت العصر،وذلك حرام والعزم عليه حرام.وإن لم يتذكر الظهر حتى خرج وقته إما لنوم أو لشغل فله أن يؤدى الظهر مع العصر ولايكون عاصيا،لأن السفر كما يشغل عن فعل الصلاة فقد يشغل عن ذكرها.

ويحتمل أن يقال إن الظهر إنما تقع أداء إذا عزم على فعلها قبل خروج وقتها،ولكن الأظهر أن وقت الظهر والعصر صار مشتركا فى السفر بين الصلاتين،ولذلك يجب على الحائض قضاء الظهر إذا طهرت قبل الغروب.ولذلك ينقدح أن لاتشترط الموالاة ولا الترتيب بين الظهر والعصر عند تأخير الظهر،أما?إذا قدم العصر على الظهر لم يجز لأن مابعد الفراغ من الظهر هو الذى جعل وقتا للعصر،إذ يبعد أن يشتغل بالعصر من هوعازم على ترك الظهر أو على تأخيره.وعذر المطرمجوز للجمع كعذر السفر.وترك الجمعة أيضا من رخص السفر وهي متعلقة أيضا بفرائض الصلوات.ولو نوى الإقامة بعد أن صلى العصر فأدرك وقت العصر في الحضر فعليه أداء العصر،وما مضى إنما كان مجزئا بشرط أن يبقى العذر إلى خروج وقت العصر.

الرخصة الخامسة:التنفل راكبا،كان رسول الله يصلي على راحلته إينما توجهت به دابته وأوتررسول الله على راحلته.وليس على المتنفل الراكب في الركوع والسجود إلا الايماء.وينبغي أن يجعل سجوده أخفض من ركوعه،ولا يلزمه الانحناء إلى حد يتعرض به لخطر بسبب الدابة.فإن كان في مرقد فليتم الركوع والسجود فإنه قادر عليه.

وأما استقبال القبلة فلا يجب لا في إبتداء الصلاة ولا في دوامها.ولكن صوب الطريق بدل عن القبلة.فليكن في جميع صلاته إما مستقبلا للقبلة أو متوجها في صوب الطريق لنكون له جهة يثنت فيها،فلو حرف دابته عن الطريق قصدا بطلت صلاته،وإن طال ففيه خلاف إن جمحت به الدابة فانحرفت لم تبطل صلاته - لأن ذلك مما يكثر وقوعه - وليس عليه سجود سهو إذ الجماح غير منسوب إليه،بخلاف مالو حرف ناسيا فإنه يسجد للسهو بالايماء.

الرخصة السادسة :التنفل للماشى جائز في السفر ويوميء بالركوع والسجود،ولا يقعد للتشهد لأن ذللك يبطل فائدة الرخصة وحكمة حكم الراكب؛لكن ينبغي ان يتحرم بالصلاة مستقبلا للقبلة ؛لآن اللآنحراف في لحظة لا عسر عليه فيه بخلاف الراكب فان في تحريف الدابة وان كان العنان بيد نوع عسر؛وربما تكثر الصلاة فيطول عليه ذلك.ولاينبغي أن يمشى في نجاسة رطبة عمدا؛فإن فعل بطلت صلاته بخلاف ما لو وطئت دابة الراكب نجاسة .وليس عليه أن يشوش المشي على نفسه با لاحتزاز من النجاسات التي لا تخلو الطريق عنها غالبا.وكل هارب من عدو أوسيل أوسبع فله أن يصلي الفرضة راكبا أو ماشيا كما ذكرناه في التنفل.

الرخصة السابعة:الفطر،وهو في الصوم.فللمسافر أن يفطرإلا إذا أصبح مقيما ثم سافر فعليه إتمام ذلك اليوم.وإن أصبح مسافرا صائما ثم أقام فعليه الإتمام.وإن أقام مفطر فليس عليه الإمساك بقية النهار.وإن أصبح مسافرا على عزم الصوم لم يلزمه بل له أن يفطر إذا أراد، والصوم أفضل من الفطر.والقصر أفضل من الإتمام للخروج عن شبهة الخلاف،ولأنه ليس فى عهدة القضاء بخلاف المفطر فإنه في عهدة القضاء وربما يتعذر عليه ذلك بعائق فيبقى في ذمته،إلا إذا كان الصوم يضر به فالإفطار أفضل.

فهذه سبع رخص تتعلق ثلاث منها بالسفر الطويل وهى القصر والفطر والمسح ثلاثة أيام.وتتعلق اثنتان منها بالسفر طويلا كان أو قصيرا وهما سقوط الجمعة وسقوط القضاء عند أداء الصلاة بالتيمم.وأما صلاة النافلة ماشيا وراكبا ففيه خلاف والأصح جوازه في القصير. والجمع بين الصلاتين فيه خلاف والأظهر اختصاصه بالطويل.وأما صلاة الفرض راكبا وماشيا للخوف فلا تتعلق بالسفر،وكذا أكل الميتة،وكذا أداء الصلاة في الحال بالتيمم عند فقد الماء،بل يشترك فيها الحضر والسفر مهما وجدت أسبابها.

فإن قلت فالعلم بهذه الرخص هل يجب على المسافر تعلمه قبل السفر أم يستحب له ذلك فإعلم أنه إن كان عازماً على ترك المسح والقصر والجمع والفطر وترك التنفل راكباً وماشياً لم يلزمه علم شروط الترخص في ذلك،لآن الترخص ليس بواجب عليه .وأما علم رخصبة التيمم فيلزمه لآن فقد الماء ليس إليه،إلا أن يسافر على شاطئ نهر يوثق ببقاء مائه،أو يكون معه في الطريق عالم يقدر على استفتائه عن الحاجة،فله أن يؤخر إلى وقت الحاجة.

إما إذا كان يظن عدم الماء ولم يكن معه فيلزمه التعلم لامحالة.

فإن قلت:التيمم يحتاج إليه الصلاة لم يدخل بعد وقتها فكيف يجب علم الطهارة بعد لم تجب وربما لا تجب?فأقول:من بينه وبين الكعبة مسافة لاتقطع إلا في سنة؛فيلزمه قبل أشهر الحج إبتداء السفر.ويلزمه تعلم المناسك لامحال إذا كان يظن أنه لايجد في الطريق من يتعلم منه؛ لأن الأصل الحياة واستمرارها.ومالايتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب.وكل مايتوقع وجوبه توقعا ظاهرا على الظن وله شرط لايتوصل إليه إلا بتقديم ذلك الشرط على وقت الوجوب فيجب تقديم تعلم الشرط لامحالة،كعلم المناسك قبل وقت الحج وقبل مباشرته.فلا يحل إذن للمسافر أن ينشئ السفر مالم يتعلم هذا القدر من علم التيمم.وإن كان عازما على سائر الرخص فعليه أن يتعلم أيضا القدر الذي ذكرناه من علم التيمم وسائر الرخص ؛فإنه إذا لم يعلم القدر الجائز لرخصة السفر لم يمكنه الاقتصار عليه.

فإن قلت:إنه إن لم يتعلم كيفية التنفل راكباً وماشياًماذا يضره وغايته إن صلى أن تكون صلاته فاسدة?وهي غير واجبة فكيف يكون علمها واجباً?فأقول:من الواجب أن لا يصلى النفل على نعت الفساد،فالتنفل مع الحدث والنجاسة وإلى غير القبلة ومن غير إتمام شروط الصلاة وأركانهاحرام،فعليه أن يتعلم مايحترز به عن النافلة الفاسدة حذراً عن الوقوع في المحظورات.فهذا بيان علم ما خفف عن المسافر في سفره.

القسم الثاني

ما يتجدد من الوظيفة بسبب السفر

وهو علم القبلة والأوقات: وذلك أيضا واجب في الحضر،ولكن في الحضر من يكفيه من محراب متفق عليه يغنيه عن طلب القبلة ومؤذن يراعي الوقت فيغنيه عن طلب علم الوقت.والمسافر قد تشتبه عليه القبلة وقد يلتبس عليه الوقت فلا بد له من العلم بأدلة القبلة والمواقيت.أما أدلة القبلة فهي ثلاثة أقسام:أرضية،كلإستدلال بالجبال والقرى والأنهار.وهوائية،كلإستدلال بالرياح شمالها وجنوبها وصباها ودبورها.وسماوية،وهي النجوم.

فأما الأرضية والهوائية فتختلف باختلاف البلاد،فرب طريق فيه جبل مرتفع يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو ورائه أو قدامه،فليعلم ذلك وليفهمه.وكذلك الرياح قد تدل في بعض البلاد فليفهمذلك.ولسنا نقدر على استقصاء ذلك إذلكل بلد وإقليم حكم آخر.

وأما السماوية فأدلتها تنقسم إلى نهارية وإلى ليلية.

أما النهارية:فالشمس،فلا بد أن يراعى قبل الخروج من البلد أن الشمس عند الزوال أينتقع منه، أهي بين الحاجبين ?او على العين اليمنى?او اليسرى?أو تميل إلى الجبين ميلاً اكثر من ذلك?فإن الشمس لاتعدو في البلاد الشمالية هذه المواقع.فإذا حفظ ذلك فمها عرف الزوال بدليله الذي سنذكره عرف القبلة به.وكذلك يراعى مواقع الشمسمنه وقت العصر.فإنه في هذين الوقتين يحتاج إلىالقبلة بالضرورة.وهذا أيضا لما كان يختلف بالبلاد فليس يمكن إستقصاؤه.

وأما القبلة وقت المغرب فإنها تدرك بموضع الغروب.وذلك بأن يحفظ أن الشمستغرب عن يمين المستقبل.أو هي مائلة إلى وجهه،أو قفاه.وبالشفق أيضا تعرف القبلة للعشاء الأخيرة.

وبمشرق الشمس تعرف القبلة لصلاة الصبح.فكأن الشمس تدل على القبلة في الصلوات الخمس،ولكن يختلف ذلك بالشتاء والصيف.فإن المشارق والمغارب كثيرة وإن كانت محصورة في جهتين،فلا بد من تعلم ذلك أيضا.ولكن قد يصلى المغرب والعشاء بعد غيبوبة الشفق فلا يمكنه أن يستدل على القبلة به.فعليه أن يراعي موضع القطب.وهو الكوكب الذي يقال له: الجدى:فإنه كوكب كالثابت لاتظهر حركته عن موضعه،وذلك إما أن يكون على قفا المستقبل، أو على منكبه الأيمن من ظهره،أو مكبه الأيسرفي البلاد الشمالية من مكة.وفي البلاد الجنوبية كاليمن وماوالاها فيقع فى مقابلة المستقبل؛فيتعلم ذلك،وماعرفه في بلده فليعول عليه في الطريق كله إلا إذا طال السفر،فإن المسافة إذا بعدت اختلف موقع الشمس وموقع القطب وموقع المشارق والمغارب،إلا أن ينتهي في أثناء سفره إلى بلادفينبغي يسأل أهل البصيرة.وإن انحرف عن حقيقة محاذاة القبلة ولكن لم يخرج عن جهتها لم يلزمه القضاء.

وقد أورد الفقهاء خلافا في أن المطلوب جهة الكعبة أو عينها،وأشكل معنى ذلك على قوم إذ قالوا:إن قلناإن المطلوب العين فمتى يتصور هذا مع بعد الديار?وإن قلنا:إن المطلوب الجهة فالواقف في المسجد إن استقبل جهة الكعبة وهو خارج ببدنه عن موازاة الكعبة لاخلاف في أنه لاتصح صلاته.وقد طولوا في تأويل معنى الخلاف في الجهة والعين.ولابد أولا من فهم معنى مقابلة العين ومقابلة الجهة.

فمعنى مقابلة العين:أن يقف موقفا لو خرج خط مستقيم من بين عينيه إلى جدار الكعبة لاتصل به وحصل من جانبي الخط زاويتان متساويتين "وهذه صورته والخط الخارج من موقف المصلى يقدر أنه خارج من بين عينيه" فهذه صورة مقابلة العين: وأما مقابلة الجهة.فيجوز فيها أن يتصل طرف الخط الخارجي من بين العينين إلىالكعبة من غير أن يتساوى الزاويتان عن جهتى الخط،بل يتساوى الزاويتان إلا إذا انتهى الخط إلى نقطة معينة هي واحدة.فلو مد هذا الخط على الاستقامة إلى سائر النقط من يمينها وشمالها كانت إحدى الزاويتين أضيق،فيخرج عن مقابلة العين ولكن لايخرج عن مقابلة الجهة - كالخط الذي كتبنا عليه مقابلة الجهة - فإنه لو قدر الكعبة على طرف ذلك الخط لكان الواقف مستقبلا لجهة الكعبة لالعينها.

وحد تلك الجهة ما يقع بين خطين يتوهمهما الواقف مستقبلا لجهة خارجين من العين،فيتلقى طرفاهما في داخل الرأس بين العينين على زاوية قائمة،فما يقع بين الخطين الخارجين من العينين فهو داخل في الجهة.وسعة مابين الخطين تتزايدبطول الخطين وبالبعد عن الكعبة "وهذه صورته": فإذا فهم معنى العين والجهة فأقول:الذى يصح عندنا في الفتوى أن المطلوب العين إن كانت الكعبة بما يمكن رؤيتها،وإن كان يحتاج إلى الاستدلال عليها لتعذر رؤيتها فيكفى استقنال الجهة فأما طلب العين عند المشاهدة فمجمع عليه.وأما الاكتفاء بالجهة عند تعذر المعاينة فيدل عليه الكتاب والسنة وفعل الصحابة رضي الله عنهم والقياس.

أما الكتاب:فقوله تعالى "وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره" أي نحوه.ومن قابل جهة الكعبة يقال قد ولى وجهه شطرها.

وأما السنة:فما روى عن رسول الله أنه قال لاهل المدينة "مابين المغرب والمشرق قبلة والمغرب يقع على يمين أهل المدينة والمشرق على يسارهم.فجعل رسول الله جميع مايقع بينما قبلة ومساحة الكعبة لاتفى بما بين المشرق والمغرب وإنما يفى بذلك جهتها.وروى هذا اللفظ أيضا عن عمر وابنه رضى الله عنهما.

وأما فعل الصحابة رضي الله عنهم:فما روى أن مسجد قباء كانو فى صلاة الصبح بالمدينة مستقبلين لبيت المقدس مستدبرين الكعبة - لأن المدينة بينهما - فقيل لهم:الآن قد حولت القبلة إلى الكعبة.فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة ولم ينكر عليهم. وسمي مسجد "ذا القبلتين" ومقابلة العين من المدينة إلى مكة لاتعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها؛ فكيف أدركوا ذلك على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل?ويدل أيضا من فعلهم أنهم بنوا المساجد حوالي مكة وفي سائر بلاد الإسلام ولم يحضروا قط مهندسا عند تسوية المحاريب، ومقابلة العين لاتدرك إلا بدقيق النظر الهندسي.

وأما القياس:فهو أن الحاجة تمس إلى الاستقبال وبناء المساجد في جميع أقطار الارض،ولايمكن مقابلة العين إلابعلوم هندسية لم يرد الشرع بالنظر فيها بل ربما يزجر عن التعمق في علمها فكيف ينبنى أمر الشرع عليها?فيجب الاكتفاء بالجهة للضرورة.

وأما دليل صحة الصورة التى صورناها:وهو حصر جهات العالم في أربعجهات فقوله عليه السلام فى آداب قضاء الحاجة،لاتستقبلوا بها والمغرب على يمينه فنهىعن جهتين ورخص فى جهتين.ومجموع ذلك أربع جهات.ولم يخطر ببال أحد أن جهات العالم يمكن أن تفرض في ست أو سبع أو عشر.وكيفما كان فما حكم الباقي?بل الجهات تثبت في الاعتقادات بناء على خلقه الإنسان،وليس له إلا أربع جهات:قدام وخلف ويمين وشمال فكانت الجهات بالإضافة الى الإنسان في ظاهر النظر أربعاً.والشرع لايبني إلا على مثل هذه الإعتقادات فظهر أن المطلوب الجهة،وذلك يسهل أمر الإجتهاد فيها وتعلم به أداة القبلة.فأما مقابلة العين فإنا تعرف بمعرفة مقدار عرض مكة عن خط الإستواء،ومقدار درجات طولها وهو بعدها عن أول عمارة في المشرق.ثم يعرف ذلك أيضاً في موقف المصلي،ثم يقابل أحدهما بالآخر.ويحتاج فيه الى آلات وأسباب طويلة،والشرع غير مبني عليها قطعاً.فإذن القدر الذي لابد من تعلمه من ألة القبلة:موقع المشرق والمغرب في الزوال،وموقع الشمس وقت العصر.فبهذا يسقط الوجوب.

فإن قلت:فلو خرج المسافر من غير تعلم ذلك هل يعصى?فأقول:إن كان طريقه على قرى متصلة فيها محاريب،أو كان معه في الطريق بصير بأدلة القبلة موثوق بعدالته وبصيرته ويقدر على تقليده فلا يعصى.وإن لم يكن معه شئ من ذلك عصى.لأنه سيستعرض لوجوب الاستقبال ولم يكن قد حصل علمه فصار ذلك كعلم التيمم وغيره.فإن تعلم هذه الأدلة عليه الأمربغيم مظلم.أو ترك التعلم ولم يجد في الطريق من يقلده،فعليه أن يصلي في الوقت حسب حاله،ثم عليه القضاء سواء أصاب أم أخطأ.والأعمى ليس له إلا التقليد فليقلد من يوثق بدينه وبصيرته إن كان مقلده مجتهداً في القبلة،وإن كانت القبلة ظاهرة فله اعتماد قول كل عدل بخيره بذلك في حضر أو سفر وليس للأعمى ولا للجاهل أن يسافر في قافلة ليس فيها من يعرف أدلة القبلة - حيث يحتاج الى الإستدلال - كما ليس للعامي أن يقيم ببلدة ليس فيها فقيه عالم بتفصيل الشرع،بل يلزمه الهجرة الى حيث يحد من يعلمه دينه،وكذا إن لم يكن في البلد إلا فقيه فاسق فعليه الهجرة أيضاً إذ لايجوز له اعتماد فتوى الفاسق،بل العدالة شرط لجواز قبول الفتوى - كما في الرواية - وإن كان معروفاً بالفقه مستور الحال في العدالة والفسق فله القبول مهما لم يجد من له عدالة ظاهرة لأن المسافر في البلاد لايقدر أن يبحث عن عدالة المفتين.فإن رآه لابساً للحرير أو ما يغلب عليه الإبرسيم أو راكباً لفرس عليه مركب ذهب فقد ظهر فسقه وامتنع عليه قبول قوله،فليطلب غيره.وكذلك إذا رآه يأكل على مائدة سلطان أغلب ماله حرام أو يأخذ منه إدراراً أو صلة من غير أن يعلم أن الذي يأخذ من وجه حلال،فكل ذلك فسق يقدح في العدالة ويمنع من قبول الفتوى والرواية والشهادة .

وأما معرفة أوقات الصلوات الخمس فلا بد منها.فوقت الظهر يدخل بالزوال،فإن كل شخص لا بد أن يقع له في ابتداء النهار ظل مستطيل في جانب المغرب،ثم لايزال ينقص وقت الزوال،ثم يأخذه في الزيادة في جهة المشرق ولا يزال يزيد الى الغروب.فليقم المسافر في موضع أو لينصب عوداً مستقيماً،وليعلم على رأس الظل،ثم لينظر بعد ساعة فإن رآه في النقصان فلم يدخل بعد وقت الظهر.

وطريقه في معرفة ذلك أن ينظر في البلد - وقت آذان المؤذن المعتمد - ظل قامته،فإن كان مثلا ثلاثة أقدام بقدمه فمهما صار كذلك في السفر وأخذ في الزيادة صلى.فإن زاد عليه ستة أقدام ونصفا بقدمه دخل وقت العصر،إذ ظل كل شخص بقدمه ستة أقدام ونصف بالتقريب.ثم ظل الزوال يزيد كل يوم إن كان سفره من أوّل الصيف.وإن كان من أول الشتاء فينقص كل يوم.وأحسن ما يعرف به ظل الزوال الميزان فليستصحبه المسافر.وليتعلم اختلاف الظل به في كل وقت.وإن عرف موقع الشمس من مستقبل القبلة وقت الزوال وكان في السفر في موضع ظهرت القبلة بدليل آخر،فيمكنه أن يعرف الوقت بالشمس بأن تصير بين عينيه مثلاً إن كانت كذلك في البلد.

وأما وقت المغرب فيدخل في الغروب،ولكن تحجب الجبال المغرب عنه،فينبغي أن يظهر الى جانب المشرق فمهما ظهر سواد في الأفق مرتفع من الأرض قدر رمح فقد دخل وقت الغروب.

وأما العشاء فيعرف بغيبوبة الشفق - وهو الحمرة - فإن كانت محجوبة عنه بجبال فيعرفه بظهور الكواكب الصغار وكثرتها،فإن ذلك يكون بعد غيبوبة الحمرة.

وأما الصبح فيبدو في الأول مستطيلاً كذنب السرحان فلا يحكم به الى أن ينقضي زمان.ثم يظهر بياض معترض لا يعسر إدراكه بالعين لظهوره،فهذا أول الوقت.قال صلى اللّه عليه وسلم"ليس الصبح هكذا - وجمع بين كفيه - وإنما الصبح هكذا - ووضع أحدى سبابتيه على الأخرى وفتحهما -"وأشار به الى أته معترض.وقد يستدل عليه بالمنازل وذلك تقريب لا تحقيق فيه.بل الإعتماد على مشاهدة انتشار البياض عرضاً لأن قوماً ظنوا أن الصبح يطلع قبل الشمس بأربع منازل،وهذا خطأ لأن ذلك هو الفجر الكاذب.والذي ذكره المحققون أنه يتقدم على الشمس بمنزلتين وهذا تقريب،ولكن لا اعتماد عليه فإن بعض المنازل تطلع معترضة منحرفة فيقصر زمان طلوعها،وبعضها منتصبة فيطول زمان طلوعها،ويختلف ذلك في البلد اختلافاً يطول ذكره.نعم تصلح المنازل لأن يعلم بها قرب وقت الصبح وبعده،فأما حقيقة أول الصبح فلا يمكن ضبطه بمنزلتين أصلاً.وعلى الجملة فإذا بقيت أربع منازل الى طلوع قرن الشمس بمقدار منزلة يتقين أنه الصبح الكاذب،وإذا بقي قريب من منزلتين يتحقق طلوع الصبح الصادق،ويبقى بين الصبحين قدر ثلثي منزلة بالتقريب يشك فيه أنه من وقت الصبح الصادق أو الكاذب،وهو مبدأ ظهور البياض وانتشاره قبل اتساع عرضه.فمن وقت الشك ينبغي أن يترك الصائم السحور،ويقدم القائم الوتر ولا يصلي صلاة الصبح حتى تنقضي مدة الشك،فإذا تحقق صلى.ولو أراد مريد أن يقدّر على التحقيق وقتاً معيناً يشرب فيه وتسحرا ويقوم عقيبه ويصلي الصبح متصلاً به لم يقدر على ذلك ،فليس معرفة ذلك في قوة البشر أصلاً،بل لابد من مهلة للتوقف والشك.ولا اعتماد إلا على العيان،ولا اعتماد في العيان إلا على أن يصير الضوء منتشراً في العرض حتى تبدو مبادي الصفرة.وقد غلط في هذا جمع من الناس كثير يصلون قبل الوقت.ويدل عليه ما روى ابو عيسى الترمذي في جامعه باسناده عن طلق بن علي:أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال"كلوا واشربوا ولا يهيبنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر"وهذا صريح في رعاية الحمرة.قال أبو عيسى - وفي الباب عند عدي بن حاتم وأبي ذرّ وسمرة بن جندب - وهو حديث حسن غريب والعمل على هذا عند أهل العلم.وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما:كلوا واشربوا ما دام الضوء ساطعاً.قال صاحب الغريبين:أي مستطيلا.فإذاً لا ينبغي أن يعوّل إلا ظهور الصفرة وكأنها مبادي الحمرة.وإنما يحتاج المسافر الى معرفة الأوقات لأنه قد يبادر بالصلاة قبل الرحيل حتى لا يشق عليه النزول،أو قبل النوم حتى يستريح.فإن وطن نفسه على تأخير الصلاة الى أن يتيقن فتسمح نفسه بفوات فضيلة أول الوقت ويتجشم كلفة النزول وكلفة تأخير النوم الى التيقن استغنى عن تعلم علم الأوقات.فإن المشكل أوائل الأوقات لا أوساطها.